المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب هيئة الجمعة - كفاية النبيه في شرح التنبيه - جـ ٤

[ابن الرفعة]

الفصل: ‌باب هيئة الجمعة

‌باب هيئة الجمعة

هيئة الجمعة: عبارة عن الحال التي توقع عليها.

قال: السنة لمن أراد الجمعة: أن يغتسل لها؛ لما روى مسلم عن أبي هريرة قال: بينا عمر بن الخطاب يخطب الناس يوم الجمعة، إذ دخل عثمان بن عفان، فعرَّض به عمر، فقال: ما بال رجالٍ يتأخرون بعد النداء؟ فقال عثمان: يا أمير المؤمنين، ما زدت حين سمعت النداء أن توضأت، ثم أقبلت، فقال عمر: والوضوء أيضاً؟ ألم تسمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل؟! ".

والمراد: إذا أراد صلاة الجمعة، وهذه القصة تدل على أن الأمر بها أمر ندب؛ إذ لو كان الغسل واجباً، لرجع عثمان، وفعله، ولما تركه عمر لم يفعله، وعليه حمل [الشافعي]- أيضاً- قوله صلى الله عليه وسلم:"الغسل يوم الجمعة واجبٌ على كلِّ محتلمٍ"، كما أخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدري، فقال: أراد بهذا الوجوب

ص: 364

وجوب الاختيار، وأيده بقوله- عليه السلام:"من توضَّأ فأحسن الوضوء، ثمَّ أتى الجمعة، فاستمع وأنصت، غفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة، وزيادة ثلاثة أيَّامٍ، ومن مسَّ الحصى فقد لغا". رواه أبو داود عن أبي هريرة، وأخرجه مسلم.

وروى النسائي عن سمرة بن جندب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من توضَّأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل، فالغسل أفضل"، ورواه البزار من حديث أبي سعيد بمثله.

ص: 365

ولأنه غسل لأمرٍ مستقبل؛ فلم يكن واجباً، كالغسل للعيدين والإحرام.

وقد اختلف في معنى قوله- عليه السلام: "فبها ونعمت":

فقيل: معناه: فبالفريضة [أخذ، ونعم الخَلَّة الفريضة.

وقيل: فبالسنة أخذ.

وقيل: فبالرخصة أخذ].

ونعمت: بالتاء وصلاً ووقفاً؛ لأنها التاء الداخلة على الفعل.

قال: عند الرواح، أي: عند الذهاب إليها؛ لأن مقصود الغسل قطع الروائح الكريهة التي تحدث عند الزحمة بسبب ما عليه من صوف، أو على جسده من وسخ، قالت عائشة: كان الناس يتناوبون الجمعة من منازلهم ومن العوالي، فيأتون في الغبار، وقد يصيبهم الغبار، فيخرج منهم الريح، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنسان منهم، وهو عندي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لو أنَّكم تطهرتم ليومكم هذا" أخرجه مسلم.

قال: فإن اغتسل لها بعد الفجر، أجزأه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أناط الغسل بيوم الجمعة، وهو يدخل بطلوع الفجر.

ولا فرق في ذلك بين من يلزمه الحضور ومن لا يلزمه إذا أراد الحضور.

[وقيل: إنما يسن لمن لزمه الحضور] دون من لم يلزمه.

تنبيه: ما المراد بقوله: "أجزأه"؟

يحتمل أن: يكون أراد: أجزأه في تحصيل السنة.

ويحتمل: أنه أراد: أجزأه في دفع المكروه.

والاحتمالان ينبنيان على أن ترك [الغسل للجمعة] هل يكره أم لا؟ وفيه وجهان حكاهما ابن التلمساني، وقال: أصحهما: أنه مكروه. وهو ما أورده القاضي الحسين، وحكاه الإمام عن الصيدلاني، قال: وهو عندي جارٍ في كل

ص: 366

مسنون صح الأمر به مقصوداً.

وقد أفهم قول الشيخ أمرين:

أحدهما: أن الاغتسال في يوم الجمعة لا يسنُّ لمن لم يحضرها، وهو كذلك على المذهب؛ لفقد العلة التي لأجلها استحب.

ومنهم من قال: إنه يستحب لمن لم يحضرها أيضاً، كما في العيد أيضاً.

والخلاف مبني- كما قال في "البيان"- على أنّ الغسل للصلاة أو لليوم؟ وفيه خلاف:

فإن قلنا بالأول لا يستحب إلا لمن حضر.

وإن قلنا بالثاني- وهو الذي يشهد له خبر عائشة السابق- استحبَّ لكل أحد كما في العيد.

ومن الأصحاب من قال: من لم يحضر وهو من أهلها، لكنه حبسه العذر عن الحضور- يستحب له الغسل، حكاه في "الحلية" و"الذخائر".

والصحيح الأول؛ لما ذكرناه، وقد روى عبد الواحد بن ميمون عن عروة عن عائشة أنه- عليه السلام قال "الغسل يوم الجمعة على من شهد الجمعة"، أخرجه العقيلي.

الثاني: أنه لا يجزئ قبل الفجر، وهو المذهب؛ لأن الشرع علقه باليوم؛ فلا يجزئ في الليل. ومنهم من قال: يجزئ كما في العيد، على قولٍ.

قال الإمام: وهو خطأ لاشك فيه، والفرق بينهما مذكور ثمَّ.

فرع: إذا تعذر استعمال الماء، هل يتيمم؟ وذلك متصوَّر في صورتين:

ص: 367

إحداهما: أن يتوضأ القوم ثم يعدمون الماء.

والثانية: أن يكون جريحاً في جميع جسده غير أعضاء وضوئه.

قلنا: أما الأولى، فقد حكى ابن التلمساني فيها وجهين، قال:

وأصحهما: لا؛ لانتفاء الحكمة فيه.

ومقابله هو الذي أورده القاضي الحسين.

وأما الثانية فقد حكى الإمام عن الصيدلاني أنه قال: يتيمم؛ لأنه جعل بدلاً في غيرها؛ فكذا فيها.

وقال في "الوسيط": إنه بعيد؛ لأن الغرض نفي الروائح الكريهة، والتنظُّف؛ ولذلك كان تأخيره إلى الرواح أحب إلينا. ولأجل هذا المعنى أبدى الإمام احتمالاً فيه، وحكاه في "الوجيز" وجهاً، ثم قال الإمام: والظاهر ما ذكره الصيدلاني.

[و] قال غيره: لأن المقصود بالوضوء أيضاً النظافة، وهو يقوم مقامه.

قال: وأن يتنظف بسواك؛ لقوله- عليه السلام: "السِّواك مطهرةٌ للفم مرضاةٌ للرَّبِّ" رواه الإمام أحمد في مسنده.

وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "غسل [يوم] الجمعة على كلِّ محتلمٍ، وسواكٌ، ويمسُّ من الطيِّب ما قدر عليه".

وفي رواية: "ولو من طيب المرأة".

قال: وأخذ ظفرٍ وشعر؛ لما روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقلم

ص: 368

أظفاره، ويقص شاربه يوم الجمعة [قبل] أن يخرج إلى الصلاة. ذكره البزار، ولنا فيه أسوة حسنة.

وأخذ الظفر يكون إذا طال، وقد قيل فيه شيء محله باب السواك، وكذا حلق الشعر.

قال: وقطع رائحة، [أي]: كريهة: كالصنان؛ لئلا يؤذي الناس به؛ فيتعاطى ما يزيله من مرتكٍ ونحوه.

قال: ويتطيب؛ لخبر أبي سعيد السابق، وفيما سنذكره من خبر سلمان الفارسي دليل عليه أيضاً، وهذا مختصٌّ بالرجال.

أما العجوز إذا حضرت، فلا يستحب لها ذلك، بل يكره، وكذا لبس الشهرة من الثياب.

قال: ويلبس أحسن ثيابه؛ لما روي عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما على أحدكم أن يكون له ثوبان سوى ثوبي مهنته لجمعةٍ أو غيرها"؛ ذكره أبو

ص: 369

عمر في "التمهيد" في باب "مالك عن يحيى"، وخرجه أبو داود والنسائي من حديث ابن سلام.

قال أبو داود في طريق: إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك على المنبر.

وبهذه السنة يكمل في هيئة الجمعة سبع خلال؛ ذكرها الشافعي أيضاً.

قال: وأفضلها: البياض؛ لقوله- عليه السلام: "البسوا من ثيابكم البياض؛ فإنَّها من خير ثيابكم، وكفنوا فيه موتاكم"، أخرجه الترمذي عن ابن عباس، وقال: هذا حديث حسن صحيح.

ص: 370

وقد قال بعضهم: تقدير كلام الشيخ: وأفضل ألوانها البياض، ولو قال: البيض، لكان [أخصر] وأحسن. وهذا القائل غفل عن أن مراد الشيخ اقتفاء لفظ الخبر.

وعلى [كل] حال فإن جاوزه، قال الشافعي: فعصب اليمن والقطري: وعصب اليمن: البرود المخططة، يصبغ غزلها، ثم ينسج.

والقطري: ثيابٌ حمرٌ: لها أعلام، فيها بعض خشونة، منسوبة إلى قطر، وهو موضع نحو عمان والبحرين.

ولبس المصبوغ بعد النسيج، أطلق البندنيجي وغيره القول بكراهته.

وقال القاضي الحسين: إن كان صبغه ليمنع الوسخ، فجائز لبسه، وإن صبغ للزينة فلا يجوز للرجال لبسه؛ لأنه لباس النساء.

قال: ويزيد الإمام على سائر الناس في الزينة، أي: فيما يتزين به؛ لأنه يقتدي به، وينبغي أن يعتَّم، وأن يرتدي؛ لأنه- عليه السلام كان يفعل ذلك.

قال القاضي الحسين: وقد روي: "صلاةٌ بعمامةٍ أفضل من سبعين صلاة بغير عمامةٍ".

قال: ويبكّر لها، أي: الرائد للجمعة؛ لقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 61]، وقال- عليه السلام:"باكروا؛ فإنَّ في البكور بركة".

ص: 371

وروى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "على كلِّ بابٍ من أبواب المسجد ملكٌ يكتب الأوَّل فالأوَّل".

وروى أبو داود عن أوس بن أوس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من غسل يوم الجمعة واغتسل، ثمَّ بكَّر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام، فاستمع ولم يلغ- كان له بكلِّ خطوةٍ عمل سنةٍ أجر صيامها وقيامها"، وقوله:"غسل واغتسل" يروي بغين معجمة، وسين مخففة، ويروي الأول- أيضاً- بغين معجمة وتشديد السين، ويروي- أيضاً- بعين غير معجمة وتشديد السين.

فعلى الأوّل: معناه: من غسل أعضاء الوضوء، واغتسل في جميع بدنه.

وقيل: غسل: كرر الغسل، كما يقال: فتحت الأبواب بمعنى التكثير والتكرار؛ قاله القاضي الحسين.

وعلى الثاني والثالث يكون معناه: من جامع؛ فأوجب الغسل على غيره قبل خروجه.

والمعنى فيه: أنه لا يأمن أن يقع طرفه على ما يحرك شهوته فينشغل قلبه؛ وهذا في الرواية الثالثة أظهر.

وقوله: بكَّر وابتكر": قال الأزهري: ويروي بالتشديد والتخفيف؛ لأنه يقال: بكر، وبكَّر: مشدد، ومخفف.

قال الماوردي: ومعنى الخبر: من بكر في الزمان، وابتكر في المكان.

وقيل: بكر: أتى الصلاة لأول وقتها، وابتكر، أي: أدرك أول الخطبة، وهو باكورتها، ومنه: باكورة الثمرة.

ص: 372

وقيل: بكر إلى صلاة الصبح، وابتكر إلى صلاة الجمعة؛ قاله الإمام.

وقيل: بكر في الحضور، وابتكر إلى الصلاة والذكر عند حضوره؛ قاله أبو الطيب.

وقيل: بكر وابتكر، بمعنى واحد؛ قاله القاضي الحسين.

قال: بعد طلوع الشمس؛ لما روى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثمَّ راح في السَّاعة الأولى، فكأنَّما قرَّب بدنةً، ومن راح في السَّاعة الثَّانية، فكأنَّما قرَّب بقرةً، ومن راح في السَّاعة الثَّالثة، فكأنَّما قرَّب كبشاً، ومن راح في السَّاعة الرَّابعة، فكأنَّما قرَّب دجاجةً، ومن راح في السَّاعة الخامسة، فكأنَّما قرَّب بيضةً، فإذا خرج الإمام، حضرت الملائكة يستمعون الذِّكر".

والساعات: أولها من طلوع الشمس عند أهل الحساب؛ فلذلك استحببنا التبكير منه، وهذا أحد الوجهين في المسألة؛ كما حكاه القاضي أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ.

قال في "الحاوي": وهو الأصح؛ ليكون ما قبل ذلك من طلوع الفجر زمان غسل وتأهب.

ص: 373

قلت: وقول الشافعي: "ويجزئه غسله لها إذا كان بعد الفجر"، يؤذن به.

ثم قوله- عليه السلام في الخبر: "غسل الجنابة"، أي: غسلاً مثل غسل الجنابة؛ كقوله تعالى: {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل: 88][أي: مرّاً كمرّ السحاب].

وقيل: معناه: جامع، واغتسل، ويؤيده ما تأكد.

والوجه الثاني في المسألة: أن التبكير يكون من طلوع الفجر، وهو الذي صححه الشيخ في "المهذب"، وكذا الرافعي والروياني في "شرح التلخيص"، وقال: إنه ظاهر كلام الشافعي؛ لأنه أول النهار في عرف الشرع، وبه يتعلق جواز الغسل.

وحكى القاضي الحسين وغيره من المراوزة معه وجهاً آخر، عزاه في "العدة" إلى القفال: أنه ليس المراد بالساعات ساعات الليل والنهار؛ لأن ساعات النهار في الشتاء تنقص وتزيد في ساعات الليل حتى تتراجع إلى تسع ساعات وشيء، وفي الصيف ساعات النهار تزيد، فلو قلنا بذلك، لأدى إلى أن يكون وقت الجمعة في الشتاء عند العصر؛ لأنه- عليه السلام عدّ خمس ساعات، ثم جعل السادسة وقتاً للجمعة، ولكن المراد: أن يبين فضل السابق على المتأخر، وفضل الثاني على الثالث، على ضرب المثل، ويكون معنى الحديث: أن من كان أسبق إتياناً فهو أعظم أجراً، وإن كان بينهما لحظة، وليس أن الدرجات خمس لا غير، غير أنه إذا جاء خمسة نفر مرتبين فللخامس أجر من قرّب بيضة، والسادس من بعده أقل من ذلك أو مثله.

وعلى هذه الطريقة جرى المتولي فلم يحك غيرها، لكن يختص التبكير إليها بما بعد الزوال، أو بما قبله؟ فيه وجهان حكاهما القاضي وغيره:

ص: 374

وجه الأول: أن الشرع أناط الحكم بالرواح، [والرواح إنما يكون] بعد الزوال، يقال: غدوت إلى فلان: إذا كان قبل الزوال، ورحت إليه: إذا كان بعد الزوال، ويشهد له- كما قال المتولي- قوله- عليه السلام:"المهجّر إلى الجمعة كالمهدي بدنةً، ثمَّ كالمهدي بقرةً، ثمَّ كالمهدي شاةً، ثم كالمهدي شاةً، ثمَّ كالمهدي بطَّةً، ثمَّ كالمهدي دجاجةً، ثمَّ كالمهدي بيضةً". أخرجه النسائي عن رواية أبي هريرة، وأخرجه مسلم معناه.

ووجه الثاني: ما تقدم من الأخبار.

والرواح إن ثبت [أنه] إنما يستعمل حقيقة فيما بعد الزوال، فنقول: أطلقه على ما قبل الزوال مجازاً؛ لأن القصد منه أمر بفعل بعد الزوال، على أن الأزهري قال:[يقال]: راح إلى المسجد، أي: مضى، وقد توهم كثير من الناس أن الرواح لا يكون إلا في آخر النهار، وليس ذلك بشيء؛ لأن الرواح والغدو عند العرب مستعملان في السير أي وقتٍ كان من ليل أو نهار، يقال: راح في أول النهار وآخره، [و] تروح، وغدا: بمعنى. وهذا كلام الأزهري، وهو إمام [في] عصره.

وقد سلك الرافعي في حكاية ذلك طريقاً آخر، فحكى الوجهين اللذين حكيناهما عن العراقيين، ثم قال: ونقل صاحب "التهذيب" والروياني وجهاً ثالثاً: أن الاعتبار من وقت الزوال، ثم قال: وليس المراد من الساعات على اختلاف الوجوه الأربع والعشرين التي قسم اليوم والليلة عليها، وإنما المراد ترتيب الدرجات، وفضل السابق على الذي يليه، وإن القفال احتج عليه بوجهين:

أحدهما: لو كان المراد الساعات المذكورة، لاستوى الجائيان في الفضل في ساعة واحدة مع تعاقبهما في المجيء.

والثاني: أنه لو كان كذلك لاختلف الأمر باليوم الشاتي والصائف، ولفاتت

ص: 375

الجمعة في اليوم الشاتي لمن جاء في الساعة الخامسة.

قلت: وجزمه بأن المراد ما ذكره على الأوجه، فيه نظر؛ لأن الإمام قال: اختلف أئمتنا في معنى الساعات المذكورة في الحديث: فذهب بعضهم إلى حمل الساعات [على الساعات] التي قسم عليها الليل والنهار، وحمل الساعة الأولى على الساعة الأولى من النهار، وهكذا إلى استيعاب جميع ساعات النهار، قال: وهو غلط؛ فإن الماضين ما كانوا يبكرون إلى الجامع في الساعة الأولى. ثم الساعة الخامسة في النهار الصائف تقع قبل الزوال، وفي اليوم الشاتي تقع قريبة من العصر؛ فلم يرد بالساعات ما يذكره أصحاب التقاويم، وإنما أراد ترتيب منازل السابقين واللاحقين.

نعم، [كلام] القاضي الحسين يقتضي أن الخلاف ليس في المراد بالساعات التي قسم الليل والنهار عليها شتاء وصيفاً على ما يعتقده أهل الحساب؛ فيكون نهار الشتاء منها تسع ساعات وشيئاً، ونهار الصيف منها أربع عشرة ساعة [وشيئاً]؛ فإنا لو اعتبرنا ذلك لزم ما تقدم.

وحكى الخلاف في [أن] الاعتبار في حيازة الفضيلة التي قدرها الشرع بجعل النهار اثنتي عشرة ساعة صيفاً كان أو شتاء، والمقدر يحصل في إدراك خمس ساعات منها طالت في الصيف أو قصرت في الشتاء؟ أو الاعتبار في ذلك بالساعات الزمانية، وإن تعاقبت لحظات؟

[ثم] ما ذكره القفال في إبطال القول باعتبار الساعات الفلكية إذا جعل النهار اثنتي عشرة ساعة من أنه يلزم تساوي المجيئين في الفضل في ساعة واحدة- فيه نظر من حيث إن من قرب بقرة [سمينة، وآخر بقرة دونها- تساويا

ص: 376

في أصل الفضل في التقرب ببقرة]، وإن كان الفضل بينهما من جهة أخرى، وكذا الصلاة المفروضة إذا أتى بها شخص بسننها، وآخر اقتصر على فعل الفرض فقط، فإنهما تساويا في إسقاط الفرض، وإن تفاوت أجرهما، كذلك ها هنا لا يبعد أن يسوي الشرع بينهما في أصل الفضل إذا حضرا في ساعة واحدة، ويزاد فضل الحاضر فيها أولاً؛ لتقدمه. والله أعلم.

وقد أفهم قول الشيخ: "ويبكر لها"، أن ذلك يشمل الإمام والمأموم، ولا شك فيه في المأموم.

فأما الإمام فقد قال في "الحاوي": إنه يختار للإمام أن يأتي الجمعة في الوقت الذي تقام فيه الصلاة، ولا يبكر؛ اتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، واقتداء بالخلفاء الراشدين.

قال: ويدخل المسجد من أقرب أبوابه إلى المنبر، فإذا دخل توجه نحو منبره من غير ركوع ولا تنفل، وهو ما اختاره في "الروضة".

لكن في "تعليق" البندنيجي: انه يستحب للإمام إذا دخل المسجد، أن يصلي ركعتين تحية المسجد، ثم يصعد المنبر.

وقد حكاه في "الروضة" عن "العدة" و"البيان"، وقال: إنه شاذ غريب مردود؛ فإنه خلاف ظاهر المنقول عن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده.

قال: ويمشي إليها، أي: على سجية مشيه، وعليه السكينة والوقار؛ لقوله- عليه السلام:"إذا نودي بالصَّلاة [فلا تأتوها] وأنتم تسعون [و] لكن ائتوها وأنتم تمشون وعليكم السَّكينة والوقار، فما أدركتم فصلُّوا، وما فاتكم فاقضوا؛ فإنَّ أحدكم في صلاةٍ ما دام يعمد إلى الصَّلاة"، وفي رواية مالك:"وما فاتكم فأتموا".

والسكينة: السكون والطمأنينة. والوقار- بفتح الواو-: الحلم والرزانة، ويقال: إنه رتبة وسطى بين التكبر والتذلل.

ص: 377

وقوله تعالى: {فَاسْعَوْا} [الجمعة: 9] قد بينا أنه من باب {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَاّ مَا سَعَى} [النجم: 39].

وقال أبو إسحاق المروزي: إن خاف فوت التكبيرة الأولى، أسرع، بحيث لا يخاف عثرة ولا سقطة.

قال الشافعي: وإذا مشى على سجية مشيه، كرهت أن يشبك بين أصابعه؛ لأنه في حكم المصلي في الثواب.

قال: ولا يركب؛ لحديث أوس السابق، ولأن فيه تضييقاً على الناس، وفيه ترفع وكبر، وقد روي أنه- عليه السلام لم يركب في عيد ولا جنازة، ولم ينقل مثل ذلك في الجمعة؛ لأنه كان يقيمها في المسجد بجوار بيته.

نعم، لو كان له عذر من مرض ونحوه لم يكره له الركوب، قال الأصحاب: ويسيِّر دابته على هينته.

ويستحب له إذا دخل المسجد أن يبدأ برجله اليمنى في الدخول، ويقول:"باسم الله، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك".

ص: 378

...............................................................................................

ص: 379

وقال المزني: [يقول]: اللهم اجعلني من أوجه من توجه إليك، وأقرب من تقرب إليك، وأنجح من سألك وطلب إليك.

قال: ويدنو من الإمام؛ لحديث أوس، وقد روى سمرة بن جندب: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "احضروا الذِّكر وادنوا من الإمام؛ فإنَّ الرجل لا يزال يتباعد حتَّى يؤخَّر في الجنَّة وإن دخلها" أخرجه أبو داود.

ص: 380

فروع:

لا يجوز لأحد أن يقيم غيره من مجلسه ويجلس في مكانه؛ لأن السابق إلى المكان أحق به.

نعم، يقام من جلس في موضع الإمام، أو في الطريق بحيث يمنع الناس عن الاجتياز، أو بين الصفين مستدبر القبلة والمكان ضيق، دون ما إذا كان متسعاً؛ كما قاله في "التتمة" وغيرها.

ولو قام الشخص من مكانه وأجلس غيره فيه، لم يكره لذلك الغير الجلوس فيه، وأما الأول: فإن تحول إلى مكان يسمع الخطبة منه على ما كان عليه لم يكره، وإن تباعد عن ذلك كره له؛ قاله البندنيجي وغيره.

ويجوز من غير كراهة أن يبعث غلامه أو غيره ليجلس في مكان حتى إذا حضر قام عنه، وجلس فيه.

ولو بعث شيئاً يفرش له حتى إذا جاء جلس عليه، [وصلَّى- قال في "الأم": لم يكن لغيره أن يجلس عليه].

قال أبو حامد: لكن له أن ينحيه، ويجلس في ذلك المكان.

ولو سبق الرجل إلى مكان، ثم قام لحاجة، ثم عاد إليه- كان أحق به.

ويستحب لمن جلس فيه عند قيامه أن يتنحى عنه؛ قاله ابن الصباغ عن النص.

ص: 381

قال: ويشتغل بذكر الله- تعالى- والتلاوة؛ لقوله- عليه السلام: "إنَّ الملائكة تصلِّي على أحدكم ما دام في مجلسٍ، تقول: اللَّهمّ اغفر له، اللَّهمَّ ارحمه، ما لم يحدث، وإنَّ أحدكم في صلاةٍ ما دامت الصَّلاة تحبسه" أخرجه مسلم.

ولو اشتغل بالصلاة فحسن.

قال: ويستحب أن يقرأ سورة "الكهف"[يوم الجمعة]؛ لقوله- عليه السلام: "من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة فهو معصومٌ إلى ثمانية أيَّامٍ من كلِّ فتنةٍ، وإن خرج الدَّجَّال عصم منه".

وفي حديث: "من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة غفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة". وأراد: الجمعة الماضية، وقيل: المستقبلة.

والمعنى في قراءتها فيه: أن فيها [ذكر] هول يوم القيامة، والجمعة مشبَّهة بالقيامة؛ لما فيها من اجتماع الخلق، ولأن القيامة تقوم فيه.

وقد نقل عن الشافعي أنه استحب في "الأم" قراءتها في ليلة الجمعة أيضاً؛ لقوله- عليه السلام "من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة ويمها، وفي الفتنة".

قال بعضهم: والمناسبة في كونها واقية من الفتن، ما اشتملت عليه من حفظ أصحاب الكهف، وهو كالبتي منقور في الجبل.

ص: 382

ونقل في "الروضة" عن الشافعي: أنه استحب فيها ما استحبه في ليلة العيد؛ لأنه يقال: إن الدعاء فيها مستجاب.

قال: وأن يكثر من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في يومها وليلتها؛ لقوله- عليه السلام: "أقربكم مني في الجنَّة أكثركم صلاةً علي في اللَّيلة الغرَّاء واليوم الأزهر".

قال الشافعي: يعني- والله أعلم- ليلة الجمعة ويومها.

ونقل عنه أنه قال: وأحب كثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم على كل حال وأنا في [يوم الجمعة] وليلتها أشد استحباباً.

ص: 383

قال: و [أن] يكثر في يومها من الدعاء؛ رجاء أن يصادف ساعة الإجابة.

هذا من الشيخ مغنٍ عن التعليل.

وساعة الإجابة، قيل: إنها من حين تقام الصلاة إلى الانصراف منها؛ لقول عمرو بن عوف المزني: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "في يوم الجمعة ساعةٌ من النَّهار لا يسأل العبد الله- عز وجل شيئاً إلا أعطاه له". قيل: أي ساعة هي؟ قال: "حيث تقام الصَّلاة إلى الانصراف منها"، رواه مسلم.

وهذا القول صححه في "الروضة"؛ لأجل هذا الخبر.

وقيل: إنها من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.

ص: 384

وقيل: ما بين الزوال إلى أن يدخل الإمام الصلاة.

وقيل: بعد العصر إلى غروب الشمس.

وقيل: إنها آخر ساعة منه، ويشهد لذلك رواية أبي داود عن جابر بن عبد الله قال:"يوم الجمعة ثنتا عشرة- يريد ساعة- لا يوجد مسلمٌ يسأل الله- عز وجل شيئاً إلا آتاه [إيَّاه]، فالتمسوها آخر ساعةٍ بعد العصر".

وذكر ابن عبد البر عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ السَّاعة التي يتحرَّى فيها الدُّعاء يوم الجمعة هي آخر ساعةٍ [يوم] الجمعة".

فإن قيل: قد جاء في الحديث "لا يصادفها عبدٌ مسلمٌ وهو يصلِّي يسأل الله شيئاً غلا أعطاه"، والصلاة بعد العصر ممنوعة.

قيل: قد فسر عبد الله بن سلام الصلاة بانتظارها، وروى ابن ماجة ذلك مرفوعاً، وأنه فسر الصلاة فيها بالانتظار، وقال:[إن] العبد إذا صلى، ثم

ص: 385

جلس لا يحبسه إلا الصلاة، فهو في صلاة.

فإن قيل: جاء في بعض ألفاظ الخبر: "وهو قائمٌ يصلِّي".

قيل: المراد بهذا القيام: الملازمة في الطلب من باب: {إِلَاّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً} [آل عمران: 75].

وقال كعب: لو قسم الإنسان جمعة في جمع أتى على تلك الساعة.

وقال ابن عمر: "إن طلب حاجةٍ في يومٍ يسيرٌ" وأشار بذلك إلى أنه ينبغي أن تطلب في جميع اليوم.

قال: وإن حضر والإمام يخطب، لم يتخط رقاب الناس؛ لما روى أبو داود عن عبد الله بن بسر قال: جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"اجلس فقد آذيت". وأخرجه النسائي.

وقال- عليه السلام: "من تخطَّى رقاب النَّاس يوم الجمعة اتّخذ جسراً إلى جهنَّم" أخرجه الترمذي.

ولا فرق في ذلك بين من ألف موضعاً [في الصلاة]، ولا يصل إليه إلا بالتخطي أو لا، كما قال البندنيجي وغيره.

ص: 386

وقال في "التتمة": إن كان له موضع يألفه وهو معظم في نفوس الناس، لا يكره له التخطي، وهو المحكي عن القفال؛ لأن عثمان- رضي الله عنه تخطى رقاب الناس، وجاء إلى موضعه وعمر يخطب، ولم ينكر عليه.

ثم محل الكراهة إذا لم يكن ثم فرجة، أو كانت وكان له طريق إليها يمكن سلوكه من غير تخطٍّ؛ فإن لم يمكن ذلك إلا بالتخطي، فقد قال الشافعي: إنه لا يكره للإمام ذلك في هذه الحالة، وكذا غيره إذا دخل وبين يديه فرجة لا يصل إليها إلا بأن يتخطى صفّاً أو صفين؛ لأنهم قصروا.

وخص الماوردي ذلك بما إذا لم يجد الداخل موضعاً يصلي فيه.

وإن كان بين يديه خلق كثير؛ فإن رجا أنهم إذا قاموا إلى الصلاة يتصفَّفون، جلس حتى يقوموا، وإن لم يرج ذلك جاز أن يتخطاهم؛ ليصل إلى الفرجة؛ لأنهم فرطوا؛ نص عليه في "الأم".

وقال في "الإحياء": مهما كان الصف الأول خالياً، لم يكره له التخطي.

واعلم أنّ المنع من تخطي رقاب الناس لا يختص بمن دخل والإمام يخطب، بل هو جار في حق من دخل قبل الخطبة أيضاً.

نعم، الغالب أن الذي يحتاج إلى التخطي الداخل وهو يخطب، وإذا كان كذلك فلا مفهوم له.

قال: ولا يزيد على تحية المسجد بركعتين يتجوّز فيهما، أي: يسرع؛ لما روى جابر بن عبد الله قال: جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال له:"يا سليك، قم فاركع ركعتين، وتجوَّز فيهما" ثم قال: "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوَّز فيهما" رواه مسلم.

ص: 387

ويجوز له أن يصلي ركعتين سنة الجمعة، إن قلنا: إن لها سنة، إن لم يكن قد صلاها، وتدخل تحية المسجد فيهما؛ كما قال الأصحاب في العيد: إذا دخل الشخص المسجد والإمام يخطب فيه للعيد، [فإن له] أن يصلي ركعتي العيد، ويدخل فيهما تحية المسجد، لكنهم قالوا ثم: هل الأولى له ذلك أو الأولى أن يصلي ركعتي التحية، ويأتي بصلاة العيد بعد فراغ الإمام؟ فيه وجهان عن أبي إسحاق وابن أبي هريرة، ولا يبعد مجيئهما. هذا إذا قلنا: إن السنة قبل الصلاة لا تفوت بفعل الصلاة، أما إذا قلنا تفوت، فيتعين فعلها عن سنة الجمعة، والله أعلم.

وقد قال القاضي الحسين: إنه يأتي بالتحية قبل أن يجلس، وأما سنة الوقت فإن قلنا: إنها قبل الصلاة ركعتان، فإنه إن نوى السنة جاز، ودخلت فيها [تحية المسجد]، وإن لم ينو السنة إن قلنا: إن سنة الوقت أربع ركعات، قال: فيمكن أن يقال: إنه يشتغل بالسنة؛ لأن تحية المسجد دون السنة الراتبة، ثم لما جاز ترك استماع الخطبة؛ لأجل تحية المسجد، فلأن يجوز لأجل السنة أولى.

ولأن تحية المسجد تدخل في السنة إذا نواها بلا خلاف، [والسنة لا تدخل في تحية المسجد بلا خلاف].

وقوله عليه السلام لسليك: "اركع ركعتين" يحتمل أنه أراد السنة.

وقوله الشافعي: "خروج الإمام يقطع الركوع"، أراد به: إذا كان قد صلى السنة، وأراد أن يتنفل.

قال: وفيه وجه آخر: أنه لا يصلي السنة.

والفرق: أن تحية المسجد تفوت بالتأخير، بخلاف السنة؛ وهذا ما أشار إليه الشيخ، ثم هو مخصوص بما إذا علم أنه يدرك الإمام قبل دخوله في الصلاة، فإن كان [يعلم أنه] إذا صلى التحية لم يدرك ذلك؛ بأن يكون دخوله آخر الخطبة، فيكره له صلاة التحية، ولو فعل استحب للإمام أن يزيد في كلام الخطبة بقدر ما يكملها، فإن لم يفعل الإمام ذلك، قال في "الأم": كرهته له.

قال: وكذا لو ترك الداخل التحية حيث أمرناه بها كرهنا ذلك، فإن صلاها وقد

ص: 388

أقيمت الصلاة، كرهت ذلك له؛ حكاه البندنيجي.

وقد أفهم كلام الشيخ: أنه إذا حضر قبل أن يخطب الإمام أن له الزيادة على تحية المسجد، ولاشك فيه فيما إذا كان ذلك قبل جلوس الإمام على المنبر، وأما بعد جلوسه على المنبر، وقبل شروعه في الخطبة، فظاهر نصه في "المختصر": أنه لا يجوز؛ لأنه قال: "فإذا زالت الشمس، وخرج الإمام، وجلس على المنبر، وأذن المؤذن- فقد انقطع الركوع" يعني: الصلاة.

ولفظه في "الأم": "خروج الإمام يقطع الصلاة، وكلامه يقطع الكلام".

وقد قال القاضي الحسين: إنه يجوز له أن يصلي سنة صلاة الجمعة؛ لأن هذه الصلاة لها سبب، والأذان والخطبة لا تمنع عنها؛ كتحية المسجد تجوز في حال الأذان والخطبة، وقول الشافعي يحمل على النفل.

ثم ظاهر كلام الشافعي الذي نقله المزني: أن التنفل إنما ينقطع إذا فرغ المؤذن.

قال البندنيجي: وإليه أومأ في القديم. وليس على ظاهره، بل معناه: إذا ابتدأ المؤذن، انقطع التنفل.

قال: ويستمع الخطبة إن [كان] يسمعها؛ لقوله- تعالى-: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} [الأعراف: 204] قال أكثر المفسرين: إنها نزلت في الخطبة؛ لاشتمالها على القرآن.

واستدل له عبد الله بن المبارك بأن الخطباء بأجمعهم يقرءون هذه الآية في الخطبة؛ فدل على أنها نزلت فيها.

ولقوله- عليه السلام: "من توضَّأ فأحسن الوضوء وأتى الجمعة، فاستمع وأنصت- غفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة الأخرى وثلاثة أيَّامٍ".

ولأن القصد بالخطبة: الاتعاظ، فإذا لم تسمع لم يحصل مقصودها.

قال: ويذكر الله- تعالى- إن كان لا يسمعها؛ إذ لا فائدة في سكوته؛ فاشتغاله بالذكر أولى، [وهذه طريقة البندنيجي].

ص: 389

ولفظ القاضي أبي الطيب: "يستحب لمن لا يسمع الخطبة أن ينصت؛ لقول عثمان- رضي الله عنه: إذا خطب الإمام فأنصتوا؛ فإن للمنصت الذي لا يسمع الخطبة مثل ما للسامع"، فإن اشتغل بقراءة القرآن، وبالتسبيح، وغيره من الأذكار، قال الشافعي: لم يكره [له] ذلك.

وبذلك يحصل في استحباب الاشتغال بالقراءة والذكر وجهان.

قال: ولا يتكلم- أي: الحاضر- سواء كان يسمعها أو لا يسمعها؛ كما صرح به البندنيجي، وابن الصباغ؛ لما روى [البخاري] عن سلمان الفارسي قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يغتسل رجلٌ يوم الجمعة، ويتطهَّر ما استطاع من الطُّهر، ويدّهن أو يمسُّ من طيب بيته، ثمَّ يخرج، فلا يفرِّق بين اثنين، ثمَّ يصلِّي ما كتب له أن يصلِّي، ثم ينصت إذا تكلَّم الإمام- إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى"، وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا قلت لصاحبك: أنصت، يوم الجمعة [والإمام يخطب] فقد لغوت" أخرجه البخاري ومسلم، ولفظ البخاري: "فقد

ص: 390

لغيت"، وهي لغة أبي هريرة.

قال: فإن تكلم، أي: الذي يسمع الخطبة والذي لا يسمعها؛ لبعد أو صمم- كما صرح به الماوردي، وغيره- لم يأثم في أصح القولين.

هذان القولان يعبر عنهما كثير من الأصحاب بأنه: يجب الإنصات إلى سماع الخطبة أم لا؟

أحدهما: لا؛ لأنه- عليه السلام كان يخطب، فدخل داخل، فقال: متى الساعة يا رسول الله؟ فأشار إليه الناس: أن اسكت، فكرر ذلك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم عند الثالثة:"ما أعددت لها؟ " فقال: ما أَعْدَدْتُ لها شيئاً غير أني أحب الله ورسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"المرء مع من أحبَّ".

وجه الدلالة منه: أنه لم ينكر عليه، ولو كان يجب عليه الإنصات، ويأثم بتركه بالكلام، لأنكر النبي صلى الله عليه وسلم لذلك.

وكذا لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على الذي سأله الاستسقاء وهو يخطب.

قال الماوردي: ولأنه لو كان الإنصات لها واجباً، لكان إبلاغها برفع الصوت بها واجباً؛ فلما لم يجب على الإمام إبلاغها، لم يجب على المأمومين الإنصات لها.

[و] لأنها عبادة لا يفسدها الكلام؛ فوجب ألا يحرم فيها؛ كالطواف والصيام؛ وهذا ما نص عليه في "الأم"، واشتهر في الطرق أنه الجديد.

ومقابله: أن الإنصات واجب، ويأثم المتكلم؛ نص عليه في القديم و"الإملاء"؛ لخبر أبي هريرة السابق؛ فإن اللاغي آثم؛ قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ

ص: 391

مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 3].

وقد روى جابر أن ابن مسعود جلس إلى أبي بن كعب والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فكلمه، فلم يجبه، وظن أنه غير مؤاخذ به، فلما فرغوا قال: ما حملك على ذلك؟ فقال: إنك تكلمت والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب؛ فلا جمعة لك. فأتى ابن مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، فقال "صدق أبي"، أو قال:"أطع أبيّاً".

والمراد: لا جمعة لك كاملة؛ إذ لم ينقل أنه- عليه السلام أمر ابن مسعود بإعادة الصلاة.

وقد حكى الرافعي عن العراقيين: أنهم حكوا عن رواية أبي إسحاق طريقة قطعة بهذا القول، وأنه أول كلامه في الجديد.

وإذا قلنا به، فكما يحرم الكلام تحرم الصلاة أيضاً؛ صرح به القاضي أبو الطيب والمتولي.

وبنى الصيدلاني والقاضي الحسين الخلاف في المسألة على أن الخطبتين بدل عن الركعتين أم لا؟ كما جعلا هذا الأصل أصلاً لاشتراط الطهارة في الصلاة.

قال الإمام: "ويبعد عندي اشترط الطهارة في سامعي الخطبة"؛ وهذا منه يدل على أن الخلاف في اشتراط الطهارة في السامعين، ولم أره إلا في "الإمام".

وحكى المراوزة وجهاً في عدم وجوب الإنصات على من لم يسمع الخطبة؛ فلا يأثم بالكلام؛ لأنهم حكوا القولين فيمن يسمع، وقالوا فيمن لا يسمع: هل يجب عليه إذا قلنا: يجب على السامع؟ فيه وجهان، وهي طريقة حكاها القاضي الحسين مع الطريقة الأولى.

ص: 392

وقال الفوراني: إنها مبنية على الخلاف في المأموم إذا لم يسمع قراءة الإمام في الصلاة هل يقرأ السورة أم لا؟

وقد اقتضى كلام الشيخ أموراً:

أحدها: أن محل القولين في الكلام حالة كون الإمام يخطب، ومقتضاه: أنه لو تكلم قبل الشروع في الخطبة أو بين الخطبتين حالة جلوسه أو بعد فراغهما وقبل الصلاة: أنه لا يحرم قولاً واحداً، وبه صرّح في "المهذب" و"الوسيط"، وكذا في "المرشد"، وقال بذلك في الكلام حالة الدعاء للأمراء.

والمذكور في "الشامل" و"تعليق" البندنيجي، إجراء القولين في الكلام وهو في الجلسة بين الخطبتين، والأولى تركه بكل حال.

الثاني: أن القولين يجريان في حق كل من حضر الجمعة؛ لأنه أطلقهما، وكذا أطلقهما غيره من أهل الفريقين.

وقال الإمام: أنا أقول: من أنكر وجوب الاستماع إلى الخطبة، فليس معه من حقيقة هذه المسألة شيء؛ فيجب القطع على مذهب الشافعي بأنه يجب الاستماع إلى الخطبة، وكيف يستجاز خلاف ذلك على طريقة الشافعي في مسألة الإتباع، وقد بنى إيجاب الخطبة والقعدة بينهما على ذلك؟! وفهم أن الغرض من الخطبة: تجديد العهد في كل جمعة بوعظ الناس، وكيف يتحقق مع هذا تجويز ترك الإصغاء إلى الخطبة، ولو كان كذلك لما كان في إيجاب حضور أربعين من أهل الكمال معنى وفائدةٌ، ولوجب أن يشرع أن يحضروا ويناموا والإمام رافع عقيرته، وإذا كان كذلك فيجب أن يحضر أربعون من أهل الكمال [، ويجب أن يصغوا، ويجب على الخاطب أن يسمعهم أركان الخطبة، وحينئذ يتعين أن نقول: إن حضر أربعون من أهل الكمال] الخطبة لا غير، وقعد آخرون- سقط الفرض في الاستماع عن الكافة.

ص: 393

وإن حضر الخطبة عدد كثير، وكان كل منهم بحيث يسمع، فهو محل القولين في جواز التكلم.

ووجه الوجوب: أنا لو جوزنا لكل واحد أن يتكلم؛ تعويلاً على أنه يبقى أربعون غيره، لجرَّ ذلك جواز الكلام للكل؛ ولأجل ذلك قال الغزالي: ففي وجوب الإنصات وترك الكلام على من عدا الأربعين قولان. فأفهم [أن] الخلاف فيمن جاوز الأربعين، وأنه يجب الإنصات وترك الكلام على أربعين قولاً واحداً.

وقال الرافعي: إنه بعيد في نفسه، ومخالف لما نقله الأصحاب:

أما بعده في نفسه: فلأن الكلام في السامعين للخطبة؛ ألا تراه يقول بعد ذلك: في وجوبه على من لا يسمع الخطبة وجهان؟! وإذا حضر جمع زائد على الأربعين، وهم بصفة الكمال؛ فلا يقال بأن الجمعة تنعقد بأربعين منهم على التعيين حتى يفرض تحريم الكلام عليهم قطعاً، والتردد في حق الآخرين؛ بل الوجه: الحكم بانعقاد الجمعة بهم وبأربعين منهم لا على التعيين.

وأما مخالفته لنقل الأصحاب؛ فلأنك لا تجد إلا إطلاق القولين في السامعين، ووجهين في غيرهم.

قلت: ولاشك في أن ظاهر كلام الغزالي وإن اقتضى أن الأربعين الذين يجب عليهم الإنصات معينون، فمراده: أربعون لا على التعيين، وحقيقته ترجع إلى الواحد من الحاضرين؛ إن غلب على ظنه استماع أربعين فأكثر الخطبة، جاء في جواز الكلام له القولان.

ومع هذا ينتفي الاعتراض من هذه الجهة.

وقد قال الإمام بعد تقرير ما ذكرناه عنه: إن هذا يضاهي ما لو تحمّل جماعةٌ شهادةً وكان الحق يثبت بشاهدين، فإذا طالب ذو الحق واحداً منهم بإقامة الشهادة، ففي جواز امتناعه عن إقامة الشهادة- تعويلاً على أن الغرض يحصل بغيره- خلاف، ولكن الأظهر في الشهادة تعين المدعو، والمنصوص عليه في

ص: 394

الجديد هنا: أن الإنصات لا يجب، وميل أئمة المذهب إلى الجديد في محل الخلاف، ولعل السبب الفارق فيه أن المدعو من الشهود قد تعلق به طلب ذي الحق على التعيين، وآحاد من يحضر المقصورة لا يتخصص بمطالبة.

ثم قال: وعندي أن هذا يضاهي ما لو قال ذو الحق للشهود- وهم مائة-: لا تغيبوا؛ فحاجتي ماسّة إلى إقامة الشهادة، فلو غاب جمع منهم، وكان الحق يستقل بمن بقي- فيظهر أن الذين غابوا لا يحرجون.

ثم الصحيح- كيف فرض محل القولين عند الفريقين-: عدم وجوب الإنصات، وجواز الكلام؛ كما ذكره الشيخ، وقاسه المراوزة على الخطيب إذا تكلم في أثناء الخطبة، فإنه لا يأثم؛ لقوله- عليه السلام لسليك الغطفاني:"قم فصلِّ ركعتين"، ولأنه كلَّم قَتَلَةَ ابن أبي الحقيق حين مقدمهم وهو على المنبر، وهذه طريقة حكاها الإمام، وأن شيخه قال بطرد القولين في تحريم الكلام على الخطيب أيضاً؛ لأن الشافعي في الجديد لما أباح الكلام للحاضر، احتج بتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته، ولو لم يكن ذلك في محل النزاع لما احتج به، وهذه الطريقة لائقة بطريقة الصيدلاني والقاضي الحسين أيضاً؛ فإنهما بنيا القولين في المأمومين على أن الخطبتين بدل عن الركعتين أم لا؟ فإن قلنا: نعم، حرم، وإلا فلا.

وهذا البناء بالخطيب أشبه، وقد أشار إليه القاضي الحسين في موضع من كتابه، وألحق به القيام في الخطبة والنية، وصرّح بحكاية القولين فيها من العراقيين: البندنيجي والقاضي أبو الطيب، [وقال الماوردي: إنه نص في القديم على تحريم الكلام على الخطيب].

ص: 395

قال الإمام: وهذا غلط عظيم مشعرٌ بالذهول عن حقيقة المسألة؛ فإن الإمام إذا تكلم فليس متمادياً في عمل الخطبة حتى يقال: فات بكلامه سماع ركن؛ فكان كما لو سكت لحظة.

ثم على القول بطرد قول المنع فيه، فذاك فيما لا يتعلق ببيان الشرع والأحكام، أما ذلك فلا يحرم بحال؛ كذا قاله الشيخ أبو محمد؛ موجهاً له بأن الخطيب يجوز له أن يضمن خطبته بيان حكم، وتعليم الناس أمراً شرعيّاً، سيما إذا كان متعلقاً بما هو لائق بالحال، وعليه [حمل] كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتلة ابن أبي الحقيق؛ لأنه يتعلق بأمرهم بالجهاد، وهو من أهم قواعد الشرع. وأما كلامه لسليك الغطفاني، فذاك ظاهر في التشريع.

الثالث: أن القولين جاريان في حال استقرار المأموم جالساً، وفي حال مروره [و] قبل أن يأخذ لنفسه موضعاً.

وقد حكى صاحب "التقريب" والصيدلاني عن نص الشافعي في الحالة الأخيرة الجواز؛ ولأجله جعلا محل القولين حالة الاستقرار، ووجها النص بأنه لما جاز أن يصلي ركعتي التحية، ويقرأ وهو مناقض للإنصات، دل على عدم وجوبه، وقصة عثمان مع عمر- رضي الله عنه تدل على ذلك أيضاً؛ [لأنه كالمه] قبل استقرار جلوسه.

التفريع:

إن قلنا بالقديم- وهو تحريم الكلام- فإذا دخل شخص، وسلم على الحاضرين، لا يجوز لهم رد السلام بالنطق؛ لأنه أوقعه في غيره محله، وفرض السكوت سابق. وإن رد بالإشارة فحسن.

وقال الرافعي: إنه يستحب إجابته بالإشارة كما في الصلاة.

ولفظ القاضي الحسين يقرب منه، فإنه قال:"يرد السلام بالإشارة".

ولو عطس شخص فهل يشمَّت؟ فيه وجهان في "تعليق" البندنيجي وغيره:

ص: 396

أحدهما: لا؛ كرد السلام، وهو ما نص عليه.

والثاني: نعم، وهو من تخريج أبي إسحاق.

والفرق أنه غير مختار في سببه.

قال القاضي الحسين: وهذا لا يصح؛ لأنه تشميت العاطس سنة، والإنصات فرض؛ فلا يترك الفرض بالسنة.

ثم قال الإمام: إذا قلنا بالجواز، فهل يستحب؟ فيه وجهان.

وعن "البيان": أن بعض الأصحاب قال: إنه يرد السلام، ولا يشمت العطس؛ لأن تشميت العاطس سنة، ورد السلام واجب فلا يترك بالسنة، وقد يترك بواجب آخر.

وإن قلنا بالجديد، فله تشميت العاطس وجهاً واحداً.

وفي استحباب السلام وجهان في "النهاية":

أحدهما: نعم؛ لأنه فرض كفاية، وبه جزم البندنيجي وأبو الطيب.

والثاني: لا؛ لأنه [لا] يستحب للداخل، فهو مفرِّط بالإتيان به؛ فلا يستحق جواباً.

قال الإمام: ولا يجب وجهاً واحداً؛ لتقصيره.

وحكى القاضي الحسين والبغوي في وجوبه وجهين.

وعلى القولين معاً: إذا رأى رجلاً يقع في بئرٍ، أو رأى عقرباً تدب إليه، أو جداراً يريد أن ينقض عليه- فلا يحرم كلامه له فيها على ذلك قولاً واحداً، ويقاس عليه ما في معناه.

قال القاضي أبو الطيب: ولو قال الخطيب: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ} [الأحزاب: 56] فضج الناس بالصلاة عليه كره؛ لأنه يقطع عن الخطبة، وعن السماع إليها.

وقال في "الروضة": يجوز للمستمع أن يصلي عليه رافعاً [بها] صوته.

وقال الروياني في "التلخيص": إنه لا نص للشافعي فيها، وإن أصحابنا قالوا:

ص: 397

يجب أن تكون بمنزلة تشميت العاطس؛ لأن كل واحدة منهما سنة.

قال: وإن أدرك- أي: المسبوق- الإمام راكعاً في الثانية- أي: وهي محسوبة للإمام- أتم الجمعة، أي: بأن يضيف إليها أخرى بعد سلام الإمام؛ لما روى الدارقطني عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أدرك الركوع من الآخرة يوم الجمعة، فليضف إليها أخرى، ومن لم يدرك الرُّكوع من الآخرة، فليصلِّ الظُّهر أربعاً".

فإن قلت: هذا الخبر في رجاله ضعيفان [كما] قال عبد الحق.

قلت: قد قال: إن الصحيح حديث ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أدرك من الجمعة ركعةً، فليصلِّ إليها أخرى" ذكره الدارقطني أيضاً، وهذا قد أدرك ركعة.

والمراد بإدراك الركعة: أن يحرم المأموم ويركع والإمام راكع؛ فيجتمعان في جزء منه- كما قاله ابن الصباغ- ويتابع الإمام في بقية الركعة إلى أن يتم.

وعبارة غيره: "أن يلتقيا على صفة الإجزاء في الركوع".

أما إذا لم تكن الثانية محسوبة للإمام؛ بأن كان محدثاً، فهل يكون مدركاً للجمعة بها أم لا؟ الذي حكاه القاضي أبو الطيب في شرح "الفروع": أنه لا يكون مدركاً قولاً واحداً، ولا للركعة.

قال: وهكذا الحكم فيما لو أدركه مسبوق في غير الجمعة في الركوع وهو محدث، لا يكون مدركاً لتلك الرجعة.

والمراوزة حكوا في كل من المسألتين خلافاً، لكنهم جعلوا الخلاف في الأولى مبنيّاً على الخلاف في الثانية، مع ملاحظة أصل آخر، وهو أن المصلي للجمعة خلف المحدث هل يعيد؟

فإن قلنا: يعيد، فها هنا لا يكون مدركاً للجمعة.

وإن قلنا: لا يعيد:

فإن قلنا: إذا كان محدثاً في غير الجمعة، لا يكون المقتدي به في الركوع

ص: 398

مدركاً للركعة، فكذا هنا.

وإلّا كان مدركاً للجمعة.

والصحيح: [أنه] لا يكون مدركاً للركعة؛ لأن الحكم بإدراك الركعة بالركوع خلاف الحقيقة، وإنما يصار إليه إذا كان الركوع محسوباً من صلاة الإمام؛ ليتحمل عنه، والمحدث لا يصلح للتحمل عن الغير، وقد ذكرنا ذلك في باب صلاة الجماعة.

قال: وإن أدركه بعد الركوع- أي: فيها- أتم الظهر؛ لخبر أبي هريرة إن صح، وإن لم يصح فلمفهوم خبر ابن عمر؛ فإنه يقتضي أنه لا يقتصر على ركعة أخرى.

ولا فرق في ذلك بين أن يحرم والإمام راكع، فيرفع قبل هويِّ المسبوق للركوع أو بعده؛ كما نص عليه في "الأم".

ولو وقع الشك في أنه أدركه راكعاً أو رافعاً منه لزمه الظهر؛ لأن الأصل عدم الإدراك؛ نص عليه في "الأم"، ولم يخرج على تقابل [الأصلين]؛ احتياطاً للعبادة.

وهكذا الحكم فيما لو تحقق إدراك الركوع مع الإمام ووقع الشك في أنه: هل أدرك معه تمام الركعة أم لا؟ مثل: أن يصلي بعد مفارقته ركعة أخرى، ويذكر أنه فاته من إحدى الركعتين سجدة، ولم يعرف عينها- يتم الظهر؛ لأن الأصل عدم إتمامها مع الإمام؛ نص عليه في "المختصر".

ومن طريق الأولى: إذا علم أنه تركها من الأولى أن الحكم كذلك.

نعم، لو عرف الحال قبل مفارقة الإمام، وسجد، ورفع منه [والإمام] بعد في التشهد- أتمها جمعة في أصح القولين في "الشامل"؛ لأنه أدرك ركعة ملفقة، وفي الإدراك بها خلاف.

ص: 399

وبعضهم جزم بأنه يدرك؛ لأنه لا يرى هذا تلفيقاً، وستعرفه.

والوجه عندي بناء ذلك على ما سيأتي في الزحام عن السجود في الأولى إذا لم يزل حتى جلس الإمام للتشهد، وسنذكره إن شاء الله تعالى.

تنبيه: ظاهر كلام الشيخ: أنه يتم الظهر إذا أدركه بعد الركوع، وإن كان قد نوى الجمعة، ولاشك أن له فيما إذا لم يدرك الركوع حالين قبل التحرم:

إحداهما: أن يظن إدراك الجمعة، فهو يحرم بالجمعة لا محالة، وإن أحرم بالظهر، فالظاهر أنه يجيء في صحة نيته ما تقدم في أول الباب قبله.

والثانية: أن يتحقق الفوات بأن كان الإمام قد رفع، ففي هذه الحالة هل ينوي الظهر أو الجمعة؟ فيه وجهان عن [رواية] صاحب "البيان" وغيره:

أحدهما: أن ينوي الظهر؛ لأنه الذي عليه.

والثاني- وهو الأظهر، وبه جزم الروياني، وظاهر كلام الجمهور يقتضيه-: أنه ينوي الجمعة موافقة للإمام.

وإذا عرفت ذلك فنقول: إن كان المأموم قد نوى الظهر، وصححنا نيته، فلا إشكال.

وكذا إن لم نصححها.

وإن نوى الجمعة، فالذي قاله القاضي الحسين في "الفتاوى" إن نوى بعد تحقق الفوات: أن يصلي الجمعة ركعتين، فإذا سلم الإمام قام وصلاهما نافلة، ثم يصلي الظهر أربعاً.

وإن نوى صلاة الجمعة [مطلقاً، ففيه وجهان:

أحدهما: يقتصر على ركعتين، ثم يصلي الظهر أربعاً].

والثاني: يكملهما ظهراً؛ بناءً على ما لو خرج وقت الجمعة وهم في الجمعة، فإن المذهب المنصوص: أنه يتم أربعاً.

وفيه قول آخر: أنه يقتصر على ركعتين ثم يصلي الظهر.

قلت: ويجيء في المسألة وجه آخر: أنها تبطل كما قيل بمثله فيما إذا خرج

ص: 400

الوقت وهم في الصلاة.

وأصله: أن من تحرّم بصلاة قبل وقتها هل تبطل أو تنقلب نفلاً؟ وفيه خلاف مشهور.

والجامع: اختلال شرط [من شرائط] المنوي.

ويجيء فيما إذا قلنا: إنه يتمها ظهراً، أنه هل يحتاج إلى تجديد النية أم تكفي الأولى؟ ما تقدم- أيضاً- عند خروج الوقت، وهم في الصلاة، ولاشك في جريان جميع ما ذكرناه فيما إذا تحرَّم بالجمعة، واعتقاده أنه يدركها، والقول بعدم البطلان أظهر فيها، والله أعلم.

واعلم أنه قد اندرج تحت قول الشيخ: "وإن أدركه بعد الركوع، أتم الظهر" ما إذا قام الإمام في الجمعة إلى ثالثة ساهياً، فأدركه المسبوق فيها، وأتى معه بالقراءة، أو لم يأت بها بل أدركه في الركوع، وظن المسبوق أن الإمام في الأولى أو الثانية، وهو ما أورده القاضي أبو الطيب وغيره من العراقيين.

وبعضهم ينسب ذلك إلى قول ابن الحداد، ولم يحك غيره، وعليه جرى ابن الصباغ.

وقال المراوزة فيما إذا أدرك معه القراءة [فيها، وركع معه]، وتابعه حتى سلم: هل يكون مدركاً للجمعة بذلك أم لا؟ يبنى على أن من اقتدى بمن قام إلى ثالثة في الصبح أو خامسة في الظهر ساهياً، وادرك معه القراءة- فهل يعتدُّ له بتلك الركعة أم لا؟

فإن قلنا: لا يعتد له بها- كما هو وجه حكاه الشيخ أبو علي؛ قياساً على ما لو بان [كافراً- فها هنا أولى.

وإن قلنا: يعتد له بذلك- وهو المذهب؛ قياساً على ما لو بان] محدثاً- فها هنا هل يكون مدركاً للجمعة؟ فيه وجهان مشهوران مبنيان- كما قال الإمام-

ص: 401

على القولين في الإمام لو بان محدثاً: هل تصح الجمعة لمن خلفه أو لا؟ وفيه قولان:

فإن قلنا: تصح كما يصح غيرها خلف المحدث، أدرك المسبوق الجمعة بإدراك الركعة الثالثة التي قام إليها الإمام ساهياً.

[وإن قلنا: لا تصح الجمعة خلف المحدث، لا يكون مدركاً للركعة التي قام إليها ساهياً] في الجمعة، مدركاً للجمعة.

وقالوا فيما إذا أدركه في ركوع الثالثة، وقد قام لها الإمام ساهياً: إن قلنا فيما إذا أدرك القراءة معه فيها لا يكون مدركاً للجمعة، فها هنا أولى، وإلا فوجهان يبنيان على ما سبق فيمن أدرك القائم في صلاة الصبح إلى ثالثة ساهياً في الركوع: هل يدرك الركعة أم لا؟

فإن قلنا: لا يدركها- كما هو الصحيح- لم يدرك الجمعة هنا، وإلا أدركها.

وهذا كله إذا اعتقد المسبوق أن الثالثة التي أدرك الإمام فيها أو في ركوعها أوَّلة الإمام أو ثانية، فأما لو عرف قبل تحرمه بالصلاة أنها ثالثة، فقد قال القاضي الحسين: صح اقتداؤه، وإن تابعه بطلت صلاته. وإن من الأصحاب من قال: لا تنعقد صلاته خلفه، وهو المذهب؛ لأن الركعة الثالثة لا تكون محسوبة للإمام؛ وهذا ما حكاه الرافعي، وكذا الإمام قبله، وادعى الاتفاق عليه.

وحيث قلنا بانعقاد صلاته، وأنه لا يكون مدركاً للجمعة، أتم الظهر أربعاً؛ فيأتي في الصورة الأولى بثلاث ركعات [بعد سلام الإمام] على المذهب، وهو ما حكاه القاضي الحسين، وقال: إنه لا يقرأ التشهد مع الإمام، بخلاف المأموم المسبوق؛ فإنه إذا قعد الإمام للتشهد فإنه يقرأ مع التشهد؛ لأن ذلك موضع تشهده.

وفي الصورة الثانية يأتي بأربع ركعات على المذهب.

فرع: لو قام الإمام إلى ثالثة ساهياً، وكان مسبوقٌ قد أدركه في الثانية، وقرأ معه، وظن أنها أولة الإمام، فإذا قضى الإمام الصلاة، سلم المسبوق معه،

ص: 402

وتمت جمعته؛ لأنه حصل له ركعة مع الإمام على حكم المتابعة، وهي أولته، وركعة معه على حكم الانفراد، وهي الثانية.

ولو كان الإمام- والصورة هذه- قد نسي سجدة، ولم يعرف موضعها، فقد تمت جمعته، وأما المأموم، فهل يتابعه في السلام؟

قال البغوي: إن كانت السجدة من الثانية؛ فلابد من ركعة أخرى بعد سلام الإمام، وكذا لو شك أنها من الأولى أو الثانية.

وإن تحقق أنها من الأولى، فقد قال القفال- كما حكاه الصيدلاني، ولم يحك غيره، وهو المذكور في "شرح الفروع" للقاضي أبي الطيب لا غير-: إنه يتابع الإمام في السلام، ويكون كالمسبوق يصلي مع الإمام ركعة [وركعة] منفرداً، غير أن هاهنا الركعة الأولى في حكم الانفراد، حتى لو كان أدرك الركوع من الركعة الثانية لا تحسب له هذه الركعة، والثانية محسوبة له من الجمعة، فإذا سلم الإمام قام وصلى ركعة أخرى.

ومن أصحابنا من قال: يلزمه ذلك وإن كان قد أدرك الإمام في أوّل الثانية؛ لأن الثانية غير محسوبة للإمام؛ فلم يجز أن تقع للمأموم عن الجمعة؛ لأنه منفرد بها، فإدراك ركعةمن الجمعة بعدها لا تصير جائزة من الجمعة؛ لأن انفراد المأموم بركعة إنما يصح إذا كان قد أدرك مع الإمام ركعة من الجمعة؛ فتكون الثانية تبعاً للأولى، فهو كما لو صلى ركعة منفردة، ثم وصل صلاته بجمعة الإمام، [وصلى معه ركعة، لا تتم جمعة، وإن جوزنا وصل صلاته بصلاة الإمام.

وقال الإمام:] إن القفال [استشعر] هذا سؤالاً، وأورده على نفسه، وانفصل عنه بأن [من] نيته الانفراد في غير هذه الصورة تارك للقدوة في ابتداء الصلاة، والقدوة شرط الجمعة، ووقت نيتها التحرُّم وتكبيرة العقد، وفي المسألة التي نحن فيها نوى القدوة في وقتها؛ فحصلت، وتحقق الإدراك في ركعة.

وفي "الذخائر": أن القاضي حسيناً حكى ما ذكرناه عن القفال- أيضاً- وقال:

ص: 403

إن هذا بالعكس مما وضعت عليه الجمعة؛ [فإنا بنينا] الجمعة في حقه على ركعة محسوبة من الظهر، وإنما يبنى الظهر في هذه الصلاة على الجمعة.

وإن الشيخ أبا بكر قال: وفيه نظر؛ فإن المأموم هنا إنما نوى صلاة الجمعة، فمن أين يحصل ما ذكره؟! فهذا سهو.

قال: وإن زحم [عن السجود]، أي: المقتدي في الركعة الأولى أو الثانية، وأمكنه أن يسجد على ظهر إنسان- فعل؛ لقول عمر- رضي الله عنه:"إذا اشتد الزحام، فليسجد أحدكم على ظهر أخيه"، ولا يعرف له مخالف.

ولأنه إذا سجد على ظهر أخيه، فليس فيه إلا أنه سجد على موضع ناشز بين يديه، وهذا لا يمنع صحة الصلاة؛ كما إذا سجد على ما ارتفع من الأرض، أو سجد المريض على مخدة؛ لعلة منعته من السجود على الأرض.

والحكم فيما لو قدر على أن يسجد على رجل غيره، أو رأسه، أو عضو من أعضائه، كالحكم فيما إذا قدر أن يسجد على ظهره من طريق الأولى؛ لأن الكل دون الظهر في الارتفاع، ومقصود السجود الانخفاض؛ ولهذا اشترطنا ألا يكون أعالي الساجد أعلى من أسافله.

وهل يشترط أن تكون أسافله أعلى من أعاليه حتى لا يجزئه استواؤهما؟ فيه وجهان:

اقتصر بعضهم على حكاية الاشتراط.

وصور الأصحاب الاستفال ها هنا: بأن يكون الساجد على موضع شاخص والمسجود على ظهره في وهدةٍ من الأرض.

وعن صاحب "العدة" أنه قال: لا يضر ارتفاع الظهر ها هنا، والخروج عن هيئة

ص: 404

الساجدين؛ لمكان العذر.

ويحكى عن صاحب "الإفصاح" أيضاً.

وما ذكره الشيخ هو الجديد، وعليه نص في "الأم"، ولفظه فيها:"إن تمكن أن يسجد على ظهر إنسان، لزمه".

وفي "تعليق" القاضي أبي الطيب وغيره: أنه يحكي عن القديم [ثم] قول آخر: أنه بالخيار: إن شاء سجد على ما [قدر عليه] مما ذكرناه، وإن شاء ترك السجود إلى أن يزول الزحام، ثم يسجد، كما هو مذهب الحسن البصري؛ لأنه إذا سجد مع الإمام على ظهر إنسان أحرز فضيلة السجود في الجماعة، وإذا سجد على الأرض وحده، أحرز فضيلة السجود على الأرض؛ فتقابلت في حقه فضيلتان؛ فخير بينهما.

قال البندنيجي: وهذا أخذ من قوله في القديم: "إن سجد على ظهر إنسان أجزأه". وسها في ذلك؛ فإن قصد الشافعي بما ذكر في القديم بيان مذهبه، والرد على مالكٍ؛ فإنه لا يجزئه لو سجد على ظهر غيره، لا أن قصده أنه مخير فيه؛ فالمذهب أن عليه ذلك قولاً واحداً، وما ذكر من علة التخيير يبطل بالمريض؛ فإنه لا يخير بين فعلها في الوقت على حسب الإمكان، وبين تأخيرها ليأتي بها على فضيلة الكمال في الأفعال؛ بل الفرض: أن يأتي بها في الحال على حسب الإمكان وإن تقابل في حقه الفضيلتان، كذا ها هنا.

وقد رأيت في بعض الشروح: أن صاحب "الإفصاح" أومأ إلى أنه يصبر ولا يسجد على الظهر.

واعلم أن الشيخ محيي الدين النواوي قال: إن قول الشيخ: زحم- بغير واو- هكذا ضبطناه عن نسخة المصنف، ويقع في أكثر النسخ بالواو، والأول أصوب؛ لأنه أعم؛ فإن الزحم يكون بمزاحمة وبغيرها، يقال: زحمه يزحمه زحماً، وقد زحم.

قال: [و] قوله: "وأمكنه أن يسجد على ظهر إنسان" الأولى حذف لفظ

ص: 405

"إنسان"؛ لأنه أعم.

قلت: لكن الشيخ اتبع فيه الشافعي؛ فإنه قاله هكذا، وهو الغالب.

قال: فإن لم يمكنه، انتظر حتى يزول الزحام؛ لأن ذلك نهاية قدرته واستطاعته، وقد قال- عليه السلام:"إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم".

وحكى الشيخ أبو محمد وراءه وجهين:

أحدهما: أنه يومئ بالسجود كالمريض.

والثاني: أنه يتخير بين الانتظار والإيماء.

قال الإمام: وهذه الوجوه كالوجوه في العاري يقعد ويومئ في وجه، ويقوم ويتم الأركان في آخر، ويتخير بينهما في الثالث. ولست أرى لما ذكره وجهاً، ولم يتعرض له أحد من أصحابنا؛ فإن الاقتصار على الإيماء خارج عن القانون، لا أصل له، وتشبيهه بالمريض ساقط؛ فإن هذا مما يندر ولا يدوم، وتمكن المصلي من السجود قائماً والاستئخار عن الإمام بأركان، أقرب من الاقتصار على الإيماء في ركن لا يتطرق إليه التحمل؛ فإذاً الوجه: القطع بما ذكره الشيخ وهو الانتظار، وقد رأيت الطرق متفقة على أن التخلف بعذر الزحمة لا يقطع حكم القدوة على الإطلاق.

قال الإمام: ولو صار إليه صائر من جهة أن الإتباع على شرط الوفاء بالقدوة عند الاختيار متعذر، وإذا تعذر تحقيق الاقتداء فعلاً، وأحوج الازدحام إلى التخلف بأركان- لم يكن بعيداً عن القياس، ولكن لم يصر إلى هذا أحد من الأصحاب، والمذهب نقل، وأنا لا أعتمد قط احتمالاً إلا إذا وجدت رمزاً أو تشبثاً لبعض النقلة.

نعم، قال الشيخ أبو بكر الصيدلاني: إن الزحام والحالة هذه عذر يجوز الانفراد، وقد حكاه القاضي الحسين عن النص حيث قال الشافعي: إن أمكنه أن يسجد على ظهر رجل فعل، فإن لم يفعل خرج من صلاة الإمام، وأتم لنفسه الصلاة.

ص: 406

قال: يعني: فليخرج نفسه، وينوي الخروج من إمامته، فإذا فعل، جاز، ولكن هل يتم ظهره أم لا؟ فيه قولان؛ إذ هو ظهر قبل فوات الجمعة.

وقد اقتصر في "التهذيب"- لأجل ذلك- على حكاية جواز الخروج بعذر الزحمة.

وحكاه [في]"الحاوي" وجهاً مع وجه آخر: أنه ليس بعذر يجوز الانفراد، ثم قال الإمام: وما ذكره الشيخ أبو بكر حسن في غير الجمعة، أما في الجمعة فيظهر عندي منعه من الانفراد؛ لأن إقامة الجمعة واجبة، والخروج عنها قصداً مع توقع إدراكها لا وجه له، فإن جوزنا له الخروج، فخرج، وأراد أن يتمها ظهراً، فهل يصح؟ فيه قولان؛ لأنه ظهر قبل فوات الجمعة، وفيه خلاف سبق.

قال: ثم يسجد، أي: عقيب زوال الزحام؛ لأن التأخير كان لعذر الزحمة وقد زال.

قال الأصحاب: ولا يضره سبق الإمام له بالسجدتين؛ لأنه كان معذوراً في التخلف، ومثل ذلك يجوز للعذر؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم عسفان صلاة الخوف بجميع [الجيش] وركع بهم، وسجد بطائفة، وحرست طائفة، فلما رفع النبي صلى الله عليه وسلم والناس من السجود، سجدت الطائفة الحارسة، ولم يضرهم سبقه حيث كانوا معذورين في ذلك؛ كذا هاهنا.

وما ذكرناه مفروض فيما إذا كان الزحام في الثانية أو كان في الأولى، وزال قبل الركوع في الثانية، أما إذا زال عند ركوع الإمام في الثانية، فسيأتي حكمه.

قال الأصحاب: ويستحب للإمام إذا كان الزحام في الأولى، وزال قبل الركوع في الثانية: أن يطيل القيام؛ ليدركه المزحوم، ويقرأ معه الفاتحة.

قال: فإن أدرك الإمام، أي: بعد فعل ما عليه من السجود قبل السلام، أي: وقد كان الزحام في الثانية، أو في الأولى، وزال قبل الركوع في الثانية كما ذكرناه- أتم الجمعة؛ لأنه أدرك مع الإمام ركعة بعضها حسّاً- وهو ما عدا السجود- وبعضها حكماً وهو باقيها؛ فاندرج تحت قوله صلى الله عليه وسلم: "من أدرك ركعةً من الجمعة،

ص: 407

فليصلِّ إليها أخرى".

ولأنّه أدرك مع الإمام ركعة يحتسب له بها؛ فوجب أن يكون بها مدركاً للجمعة، كما لو أدركها كلها حسيّاً، وهذا هو الصحيح بالاتفاق.

وفي بعض الصور جزم به بعضهم، وليس الجزم خال عن نزاع، وسنبينه، إن شاء الله تعالى كما ستعرفه.

أما إذا زال الزحام حال ركوع الإمام في الثانية فسيأتي حكمه.

ثم قوله: "أتمّ الجمعة" ظاهر في أنه يفعل ذلك قبل سلام الإمام، سواء وافق في ذلك ترتيب صلاة الإمام أو خالفه.

والأصحاب قالوا: إن كان الزحام في الأولى، فله في إدراكه الإمام أربعة أحوال:

الحالة الأولى: أن يدركه قائماً في الثانية، وتمكن من قراءة الفاتحة قبل ركوعه، وجب عليه ذلك، ثم يتابعه إلى السلام إذا تمكن من المتابعة، وقد حصلت له الجمعة قولاً واحداً؛ وهذا مما لا خفاء فيه.

قال البندنيجي: وهكذا الحكم في كل من فاته السجود مع الإمام؛ لعذر من مرض أو سهو، وقد ركع معه، ثم قدر على السجود قبل أن يركع إمامه في الثانية- فإنه يسجد، ويلحق به.

نعم، لو زوحم المزحوم في الأولى في الركعة الثانية أيضاً، وتمكن من السجود قبل السلام- سجد، فإذا أدرك الإمام قبل أن يسلم سلم معه، وحصلت له الجمعة عند الشيخ أبي حامد أيضاً قولاً واحداً.

وقال القاضي أبو الطيب: هل يدرك بذلك الجمعة أم لا؟ فيه الخلاف الذي سنذكره في الركعة الملفقة هل يدرك بها الجمعة أم لا؟ كذا حكاه ابن الصباغ عنه، وقال: إنه ضعيف؛ لأنه أدرك جميع الصلاة بعضها فعلاً وبعضها حكماً؛ فثبت له حكم الجماعة.

والذي رأيته في "تعليقه": حكاية الخلاف فيما إذا زحم عن الأولى، ثم زال، وسجد، وأدرك الإمام قائماً، ثم زحم عن السجود في الثانية فأتى به بعد سلام

ص: 408

الإمام؛ لعجزه عنه قبل السلام، قال: لأنه حصل له ركعة ملفقة؛ فإنه فعل بعضها متابعاً للإمام، وبعضها في حكم متابعته.

وعلى كل حال فهذه الطريقة تقتضي أن من زوحم عن السجود في الأولى، وأتى به والإمام قائم في الثانية يكون الحاصل له ركعة ملفقة؛ فيأتي فيها الخلاف الذي سنذكره، وحينئذ فيكون ضابط التلفيق: التخلف عن الإمام بالسجود تخلفاً لو فعله بلا عذر لأبطل الصلاة، لكن الإمام جزم القول بأن هذه الركعة لا يجري عليها حكم التلفيق، وجعلها في حكم المأتي بجميعها في قدوة حسية، وتبعه في ذلك الرافعي، [ولم يحك] سواه.

الحالة الثانية: أن يدرك الإمام قائماً في الثانية، ولا يتمكن من قراءة [كل الفاتحة قبل ركوع الإمام، بل تمكن من قراءة بعضها، أو لا يتمكن من] قراءة شيء منها، أو يدركه وقد ركع- ففي هذه الصور: هل يجعل كالمسبوق حتى يقال: في وجوب إتمام قراءة الفاتحة عليه في الصور الأولى الخلاف في المسبوق، ولا يجب عليه القراءة في الصورة الثانية والثالثة قولاً واحداً؛ بل يركع مع الإمام؟ أو يقال: ليس هذا كالمسبوق؛ لأنه أدرك مع الإمام محل القراءة، وهو القيام بجملته، لكنه اشتغل عنها؛ فيجب عليه أن يأتي بالقراءة في الصور الثلاث؟ هذا مما اختلف فيه الأصحاب من أهل الطريقين على وجهين، والأصح منهما في الصورتين الأوليين: الثاني، وبه جزم الفوراني فيهما.

وفي الصورة الثالثة، الصحيح عند الجمهور، ومنهم ابن الصباغ والماوردي، الأول، وقال القفال- وتبعه القاضي الحسين والبغوي-: إن الصحيح فيها الثاني أيضاً.

وإذا قلنا بالأول، ففي الصورة الأولى: هل يجب عليه أن يتم القراءة؟ فيه خلاف، فإن أوجبنا إتمامها، وأتمها، وأدرك الإمام في الركوع، أو لم نوجب الإتمام- فإنه يركع مع الإمام، وكذا في الصورة الثانية والثالثة، ويعتد [له]

ص: 409

بتلك الركعة، وهل يتم بها جمعته؟ يظهر أن يأتي ما تقدم من أنه إن أتم معه الركعة حصلت له الجمعة.

وإن زوحم عن السجود في الثانية، ففيه الطريقان: طريقة الشيخ أبي حامد، و [طريقة] القاضي أبي الطيب المتقدمتان، والله أعلم.

وإذا قلنا بالثاني، قال ابن الصباغ: يقرأ ما لم يخف فوت الركوع، فإن خاف فوته، فهل يتم القراءة أو يركع؟ فيه خلاف مبني على القولين فيما إذا لم يزل الزحام حتى ركع الإمام في الثانية.

وقال القاضي الحسين: إنه يقرأ، ويمشي على ترتيب صلاة نفسه، وإن سبقه الإمام بثلاثة أركان، [وإن] زاد عليها فوجهان:

أحدهما: أن الحكم كذلك، وهو ما أورده الإمام الغزالي.

والثاني: يخرج نفسه من متابعته، فإن تابعه بطلت صلاته.

وحكى في نظير المسألة من بعد وجهاً ثالثاً: أنه يتابع الإمام من حيث بلغ الإمام، ثم يقضي ما فاته بعد سلام الإمام.

وفي "الكافي" قبيل [باب] موقف الإمام [والمأموم]، حكاية ثلاثة أوجه [في المسألة]: الأولان، ووجه ثالث: أنه يتخير: إن شاء أخرج نفسه عن متابعته، وأتم لنفسه، وإن شاء ثبت على متابعته، وماذا يصنع؟ وجهان:

أحدهما: يجري على أثره أبداً.

والثاني: يتابع الإمام في الركن الذي هو فيه، ثم بعد سلام الإمام يقضي ما فاته.

وفي "التتمة": أنه يمشي على ترتيب صلاة نفسه ما لم يسبقه الإمام بثلاثة أركان، فإن سبقه بثلاثة أركان، ففيه الأوجه الثلاثة التي حكيناها عن القاضي.

قال القاضي: والاعتدال من الركوع والجلسة بين السجدتين هل يعد ركناً؟ فيه وجهان.

ص: 410

وهو في حال مشيه على ترتيب صلاة نفسه إلى حيث يدرك الإمام على حكم الجماعة، وإن لم يقتد بالإمام فيها حسّاً؛ فإن حكم القدوة منسحب عليه، فلو سها لم يسجد، قاله الإمام.

الحالة الثالثة: أن يدركه رافعاً من ركوع الثانية أو ساجداً، فهل يقضي ما عليه من القراءة وغيرها أو يتبعه في السجود؟ فيه وجهان: إن جعلناه كالمسبوق تابعه، وإلا أتى بما عليه على ترتيب صلاته.

وحكى الإمام طريقة أخرى: أنه في هذه الصورة [ليس له] إلا متابعة الإمام، ولم يورد البندنيجي غيرها؛ ولأجلها قال بعضهم: إن قلنا فيما إذا أدركه في الركوع: إنه يتبعه، فها هنا أولى، وإلا فوجهان.

والصحيح ها هنا- كما قال القاضي أبو الطيب والبغوي- الإتباع، والفرق: أن هذه الركعة لم يدرك منها شيئاً يحتسب له به؛ فيكون بمنزلة المسبوق إذا أدرك الإمام رافعاً أو ساجداً، وليس كذلك إذا أدركه راكعاً؛ فإنه أدرك الركوع وما قبله فيلزمه أن يفعل ما بعده من السجود، وعلى هذا هل يدرك بالركعة التي أتى بها الجمعة أم لا؟

قال البندنيجي: فيه الخلاف المذكور في الركعة الملفقة، وكلام الإمام يقتضي الإدراك بها وجهاً واحداً، وقال: إنه إذا سلم الإمام قام، وأتى بركعة، وهل يثبت له في هذه الركعة حكم القدوة بالإمام حتى لو سها لا يسجد للسهو؟ فيه خلاف حكاه شيخي، وإثبات القدوة ضعيف لا أصل له، وكيف يقدر ذلك بمن ليس في الصلاة؟!

الحالة الرابعة: أن يدركه في التشهد، فهل يتابعه، أو يمشي على ترتيب صلاته؟ فيه طريقان كما في الحالة قبلها.

قال الإمام: وإذا جوزنا له التخلف، وأمرناه بالجريان على ترتيب صلاة نفسه، فالوجه أن يقتصر على الفرائض، فعساه أن يدرك الإمام، ويحتمل أن يجوز له

ص: 411

الإتيان بالسنن مع الاقتصار على الوسط فيها.

فرع: حيث قلنا: لا يدرك الجمعة بالركعة التي [أدرك] بعضها مع الإمام حسّاً، وبعضها حكماً- كما تقدم- فهل يتمها ظهراً أو تبطل؟ فيه طريقان عند العراقيين:

[أحدهما]: القطع بأنه يتمها ظهراً.

والثاني: أنها هل تبطل أو يتمها ظهراً؟ فيه قولان؛ بناءً على القولين في إيقاع الظهر قبل فوات الجمعة.

وقال المراوزة: هل تبطل، أو تنقلب نفلاً، أو يتمها ظهراً مع تجديد النية، أو بدونها؟ فيه خلاف مرَّ نظيره فيما إذا خرج وقت الظهر والإمام في الجمعة، وله التفاتٌ على أن الجمعة ظهر مقصور أو صلاة مستقلة بنفسها؟ وعلى أن الظهر هل يصح قبل فوات الجمعة أو لا؟ وعلى أنّ المتحرم بالصلاة قبل وقتها هل تبطل أو تنقلب نفلاً؟ فاعرف ذلك.

قال الأصحاب: وإن كان الزحام في الثانية، وقد أدرك المزحوم مع الإمام الأولى من غير زحام، سجد، وسلم مع الإمام، وحصلت له الجمعة.

وإن لم يدرك المزحوم معه الأولى، وهي إحدى صور مسألة الكتاب كما ذكرنا؛ لقول الشيخ من بعد:"وإن لم يدرك السلام، أتم الظهر"؛ إذ لو كان قد أدرك مع الإمام الأولى لأتم الجمعة بلا خلاف، كما ذكرناه، فقد قال القاضي الحسين: إن الزحام إذا زال فيها سجد المزحوم، فإذا أدرك الإمام لم يسلم بعد، تابعه حتى يسلم، فيقوم، ويأتي بركعة أخرى، وقد تمت جمعته.

قلت: ويشبه أن يكون في إدراكه بهذه الركعة الجمعة الطريقان اللذان تقدما فيما إذا كان الزحام في الأولى، ووقع السجود والإمام قائم في الثانية؛ إذ جلوس الإمام للتشهد ها هنا كقيامه للثانية ثم، فتأمل ذلك.

ويشبه أن يكون في متابعته الإمام حتى يسلم، أو اشتغاله بقضاء ما عليه قبل

ص: 412

سلام الإمام الطريقان في الحالة الرابعة من أحوال الإدراك، وقد حصل الزحام في الأولى؛ فاعرف ذلك.

وإذا تأملت ما ذكرناه، عرفت أن جزم الشيخ القول بأنه إذا أدرك الإمام قبل السلام، أتم الجمعة- لا يخلو عن نزاع، والله أعلم.

قال: وإن لم يدرك السلام، أي: بل سلم الإمام قبل فراغه مما عليه من السجود، وقد زوحم عن السجود في الأولى أو في الثانية، ولم يدرك مع الإمام الأولى- أتم الظهر؛ لأنه لم يدرك مع الإمام ركعة؛ فاندرج تحت مفهوم قوله- عليه السلام:"من أدرك من الجمعة ركعةً فليصلِّ إليها أخرى".

ولا فرق بين أن يقع رفعه من السجود وقد أتى الإمام بالتسليمتين أو بإحداهما.

وللإمام احتمال في الإدراك فيما إذا رفع المزحوم رأسه من السجدة الثانية، وسلم الإمام قبل أن يعتدل المزحوم.

وفي "تعليق" القاضي الحسين و"التهذيب" حكاية وجه: أنه يتمها جمعة وإن وقع سجود المزحوم بعد سلام الإمام؛ لأن هذا السجود بني على ركوعٍ أتى به مع الإمام، والمشهور الأوّل.

ثم ما ذكره الشيخ من أنه يتمها ظهراً هو إحدى الطريقتين المذكورتين في كتب العراقيين.

والطريقة الثانية: أنه هل يتمها ظهراً أو تبطل؟ قولان؛ بناءً على ما لو تحرم بالظهر قبل فوات الجمعة لعذر، والمزحوم ها هنا معذور.

وطريقة المراوزة: أنها هل تبطل، أو تنقلب نفلاً، أو يتمها ظهراً بالنية السابقة أو بنية جديدة؟ فيه خلاف سبق.

قال: وإن لم يزل الزحام، أي: الواقع في الركعة الأولى حتى ركع الإمام في الثانية، ففيه قولان، [أي] منصوصان في "الإملاء":

ص: 413

أحدهما: يقضي ما عليه؛ لقوله- عليه السلام: ["وإذا سجد فاسجدوا".

فوجب على المأموم أن يسجد؛ لظاهر الخبر، ولقوله- عليه السلام:] "وما فاتكم فأتمُّوا"، أو:"فاقضوا".

ولأنه شارك الإمام في جزء من الركوع؛ فوجب أن يسجد بعده؛ قياساً على ما إذا زالت الزحمة والإمام قائم في القراءة، وهذا ما ادّعى في "الحاوي" أنه الجديد، وصححه البندنيجي، وقال:[إن] ابن سريج وبن خيران وغيرهما قالوا: إنه اختيار المزني.

والثاني: أنه يتبع الإمام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا ركع فاركعوا" والإمام راكع، وهو مقتد به؛ فوجب أن يركع معه، ولا يعارضه قوله- عليه السلام "وإذا سجد فاسجدوا"؛ لأنه أمره بالسجود عقيب سجود الإمام، وقد فات.

وإنما قلنا ذلك؛ لأنه أتى بالفاء المقتضية للترتيب والتعقيب، وقد أيد ذلك بقوله:"وإذا رفع فارفعوا".

وأما قوله: "وما فاتكم فأتمُّوا"، أو:"فاقضوا"- فجوابه: أنه أمر بالمتابعة وبقضاء ما فات، فلو قلنا: يشتغل بقضاء ما فات، ولا يتابع، عطلنا أوّل الخبر، وإذا قلنا بأنه يتابع الإمام، فقد عملنا بأوّله وآخره؛ فإنا نأمره في الحال بالمتابعة، ونأمره بقضاء ما فاته إذا سلم، وهذا ما نص عليه [في]"الأم" أيضاً، وادعى البغوي أنه الجديد، وقال أبو إسحاق: إنه اختيار المزني.

وسبب الاختلاف في ذلك: أنه صدر كلامه بحكاية ما نص عليه في "الأم"، ثم حكى القولين المنصوصين في "الإمام":

أحدهما: فرضه القضاء دون المتابعة.

والثاني: فرضه المتابعة دون القضاء.

ثم قال: والأوّل أولى؛ لأن السجود لا يعتد به قبل الركوع، ولأنه لو سها خلف إمامه، فلم يفطن حتى ركع إمامه في الثانية، تبعه في ركوعه، فالذين قالوا:

ص: 414

إنه اختار أنه يقضي ما عليه، قالوا: أراد بالأول: الأول من القولين اللذين حكاهما عن "الإملاء"، وأبو إسحاق قال: أراد بالأول ما صدر به كلامه، وهو ما حكاه عن "الأم"؛ لأنّ تعليله يرشد إليه، ولأجل ذلك اختاره القفال أيضاً، وقال الفوراني والبغوي: إنه الأصح.

وقد فرض الماوردي القولين أيضاً فيما إذا زال الزحام قبل ركوع الإمام في الثانية، لكن المزحوم علم أنه إن تشاغل بفعل السجود، فاته الركوع مع الإمام.

والقولان جاريان- كما حكاه القاضي أبو حامد- فيما لو أحرم مع الإمام، ثم سها عن السجود في الركعة الأولى، ولم يذكره إلا والإمام في ركوع الثانية.

وقال بعض الأصحاب: إنه في هذه الصورة يتابع الإمام قولاً واحداً؛ لتفريطه، بخلاف المزحوم؛ فإنه لم يوجد من جهته تفريط، بل هو مضطر إلى [ما] فعله، وهذه الطريقة هي المفهومة من كلام المزني الذي سبق، ولم يورد في "الحاوي" غيرها.

التفريع:

إن قلنا بالأول، فأتى بما عليه فقد خرج عن العهدة الأمر، ولكن ركعته التي كملت: هل يدرك بها الجمعة أم لا؟ حكى في "الوسيط" فيها وجهين؛ [لأنها تمت في قدوة حكمية، والقدوة الحكمية قد حكى في إدراك الجمعة بها وجهين] وفسرها بشيء ستعرفه.

وقال الرافعي: إن الوجهين مشهوران في كلام الأصحاب في هذا الموضع.

ثم على كل حال إذا رفع فله في إدراك الإمام ثلاث أحوال:

الحالة الأولى: أن يدركه راكعاً؛ لأنه طوَّله، وأسرع هو في السجود، فقد قال القاضي أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ: إنه يركع معه.

وقال القاضي الحسين والرافعي: هل يقرأ الفاتحة، ثم يجري على أثره، أو يركع معه؟ فيه وجهان:

ص: 415

قلت: وهو قياس ما تقدم.

قال القاضي: فإن قلنا: يقرأ، ثم يتبع أثره، فذاك إذا لم يزد في المخالفة على ثلاثة أركان، فإن زاد، ففيه ثلاثة أوجه:

أحدها: أنه يفعل ذلك أيضاً.

والثاني: أنه يخرج نفسه من الجماعة، فإن لم يخرج وتابعه، بطلت صلاته.

والثالث: أنه يتابع الإمام من حيث بلغ، ثم يقضي ما فاته بعد سلام الإمام.

الحالة الثانية: أن يدركه رافعاً من الركوع، أو ساجداً، أو متشهداً؛ لسرعة الإمام، وإبطائه في السجود، فهل يمشي على ترتيب صلاته أو يتابع الإمام؟ فيه وجهان تقدم مثلهما، وأقواهما هنا بالاتفاق- وبه جزم في "الوجيز" وغيره-: الإتيان بما عليه؛ إذ التفريع على أنه مشتغل بفعل ما عليه.

ثم إن قلنا: يتابعه، قال البندنيجي: فالذي حصل له مع الإمام ركعة بعضها كان متابعاً له فيها فعلاً، وبعضها كان متابعاً له فيها حكماً، ولا خلاف بين أصحابنا: أنها كالملفقة؛ فيكون في إدراك الجمعة بها وجهان، وقد حكاهما القاضي أبو الطيب أيضاً.

[و] قال الشيخ أبو محمد- فيما حكاه الرافعي عنه-: إنّ المزحوم لو رفع رأسه من السجود، فوجد الإمام ساجداً، وقلنا: يجب عليه متابعته، فسجد معه- فالمحسوب له عما عليه من السجود: السجود الأوّل، أو السجود الثاني الذي تبع فيه الإمام؟ فيه وجهان يأتي مثلهما فيما إذا قلنا: إنه لا يقضي ما عليه، بل يركع مع الإمام، قال الرافعي: وأقربهما للصواب احتساب الأول.

الحالة الثالثة: أن يدرك الإمام بعد السلام، فهو كما لو زال الزحام قبل الركوع، ولم يدرك الإمام إلا بعد السلام، وقد تقدم.

وإن خالف المزحوم، فلم يأت بما عليه، بل تابع الإمام:

فإن اعتقد: أن فرضه الاشتغال بما عليه، فقد بطلت صلاته.

ثم إن كان الإمام راكعاً بعد، كبّر معه بنية الجمعة وأدركها، فإذا سلم الإمام،

ص: 416

أتم الجمعة قولاً واحداً.

وإن كان رافعاً من الركوع أو ساجداً، فقد فاتته الجمعة؛ فيحرم معه، وفرضه الظهر، وماذا ينوي؟ فيه الخلاف السابق.

ويبني إذا سلم الإمام قولاً واحداً عند العراقيين؛ لأنه إنما أحرم بالظهر بعد فوات الجمعة؛ قاله البندنيجي وغيره.

وعلى طريقة المراوزة يجيء في البطلان، وانقلابها نفلاً، وإتمامها ظهراً بنية مجددة أو بالنية الأولى- الخلاف إذا كان قد نوى الجمعة، وقلنا: إنها صلاة مستقلة بنفسها.

وإن اعتقد أن فرضه متابعة الإمام، فتابعه وليس بمجتهد- لم تبطل صلاته، ولا يعتد بركوعه معه، ويتبعه في السجود، فإذا سجد معه تمت ركعته الأولى.

وفي "تعليق" القاضي الحسين حكاية وجه: أنه لا يعتد به عما عليه؛ لأنه إنما أتى به على عزم المتابعة، وقد حكاه الرافعي عن رواية الشيخ أبي محمد في "السلسلة"، ووجهه بأنه إنما سجد؛ لكونها من الثانية في زعمه؛ فوجب ألا تحسب له [عن الأولى]؛ كما [لو] سجد للتلاوة أو للسهو، وكان عليه سجدة من صلب الصلاة وقد نسيها.

فعلى هذا: إذا سلم الإمام، سجد سجدتين، وأتمها ظهراً على الصحيح.

قال القاضي: وإذا رفع رأسه من السجود، وجلس للتشهد، فهل يجلس معه، أو ينوي مفارقته ويقوم ليكمل الظهر؟ [فيه] وجهان، والمشهور: الأول.

وما ذكره أبو محمد يبطل بمن ترك سجدة من الأولى ناسياً، وأتى بالثانية، ثم تذكر؛ فإنه يجبر الأولى بالثانية، وإن كان قد سجد في الثانية على أنه للثانية. وخالف سجود التلاوة والسهو؛ لأنه أتى بهما على نية السنة؛ فلا يسقطان فرضاً.

وعلى هذا: فالركعة ملفَّقة، وفي إدراك الجمعة بها خلاف:

الذي قاله أبو إسحاق- وهو الصحيح بالاتفاق-: إنه يدرك بها الجمعة؛ لما

ص: 417

تقدم في توجيه كلام الشيخ.

والثاني- قاله ابن أبي هريرة-: إنه لا يدرك بها الجمعة، وإن تمت له الركعة على حكم القدوة؛ لأنه لم يحصل له مع الإمام ركعة متوالية الأركان.

والجمعة على نظامها ركن الجمعة.

وإن قلنا بالثاني، فركع مع الإمام، فقد حصل له ركوعان متواليان، وأيهما يحسب له؟ الذي نص عليه في كتاب الجمعة: أنه الثاني، وأن الأوّل يلغى.

وقال في صلاة الخوف: لو صلى، ونسي من الركعة الأولى السجود، ثم ركع في الثانية، [وذكر أنه نسي السجود- فإن ركوعه في الثانية] كلا ركوع، ويسجد، ويحتسب به من الأولى، وهذا يدل على أن الركوع الأول هو المحتسب به.

قال البندنيجي: فحصل في المسألة قولان. وقد حكاهما الشيخ في "المهذب"، وكذا ابن الصباغ، وقال مع البندنيجي: إن أصحابنا يطلقون في المسألة وجهين، والصحيح: أنها على قولين.

فإن قلنا: إن الركوع الثاني هو المعتد به، وتابع الإمام إلى أن سلم الإمام- فقد أدرك الجمعة قولاً واحداً؛ فيأتي بركعة بعد سلام الإمام.

وإن قلنا: [إن] المعتد به الركوع الأوّل، فهل يكون مدركاً للجمعة أم لا؟ فيه خلاف أبي إسحاق وابن أبي هريرة بلا إشكال.

فإن قلنا بمذهب ابن أبي هريرة، جاء الخلاف السابق في أنه هل يتم الصلاة ظهراً، أو لابد من نية الظهر، أو تنقلب نفلاً، أو تبطل؛ بناءً على [أن] من نوى فرضاً، ولم يحصل له ما نواه لتخلف شرطٍ عن الفرضية، فهل له النفل؟ على قولين.

قال الإمام: هكذا رتبه الأئمة، والقول بالبطلان على هذا [النسق مختل] عندي؛ إذ يرجع حاصل الأمر: أنا نأمره بشيء، ونقدر موافقته، ثم نخرج من تفريعنا عليه بطلان عمله رأساً، وهذا محال لا يعتقد في مساق كلام؛ فالوجه أن

ص: 418

يكون الأمر بالركوع مع الإمام مفرعاً على القول بعدم البطلان، وإلا فالأمر [بما] قصاراه الفساد محال.

وسئل الغزالي [عن] ذلك، فقال بالبطلان عند فوت الجمعة: لا نأمره في مسائل الزحام بالفعل الذي أمرناه به إذا كان آخره يفضي إلى البطلان؛ فإنه تفريع يدفع آخره أوله، والله أعلم.

وإن خالف المزحوم، وأتى بما عليه: فإن اعتقد أن فرضه المتابعة، فإن لم ينو المفارقة، فقد بطلت صلاته، ثم عن كان الإمام بعد راكعاً، وجب عليه أن يحرم معه، ويدرك الجمعة بهذه الركعة، فإذا سلم الإمام أضاف إليها أخرى، وإن كان الإمام قد رفع من الركوع، قال أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما: أحرم معه، وتبعه، ولا يكون مدركاً للجمعة، ويقوم بعد سلام الإمام، ويتمها ظهراً، ولا يستأنف تكبيرة الإحرام؛ لأنه بمنزلة المسبوق الذي أدرك الإمام بعد فوات الركوع في الثانية.

قلت: بل هو هو، ويظهر أن يكون في كيفية نيته الوجهان السابقان.

وإذا نوى الجمعة: هل تصح، أو لا؟ على ما سبق.

وإن نوى مفارقة الإمام، ففي بطلان صلاته قولاً المفارقة بغير عذر؛ كذا قاله الجمهور.

وقال الماوردي: إن لم يكن له عذر غير الزحام، فهل يكون الزحام عذراً، أم لا؟ فيه وجهان:

فإن قلنا: إنه عذر، فالحكم كما لو فارق بعذرٍ لا تبطل صلاته، ويتمها ظهراً، وتجزئه قولاً واحداً.

وإن قلنا: ليس بعذر، ففي البطلان القولان:

فإن قلنا: تبطل، فالحكم كما إذا لم ينو المفارقة.

وإن قلنا: لا تبطل، فقد قال العراقيون: إن الجمعة فاتته، قولاً واحداً، وهل يستأنف الظهر، أم لا؟ فيه الطريقان، وطريقة المراوزة لا تخفى.

وإن أتى بما عليه، لاعتقاده أنّه فرضه، وهو غير مجتهد في ذلك، ولا

ص: 419

مقلد- فلا يعتد بسجوده قبل سجود الإمام؛ لأن فرضه المتابعة، ولا تبطل صلاته؛ لجهله.

ثم إن أدرك الإمام راكعاً كما هو، تبعه في الركوع، ويكون الحكم كما لو تبعه ابتداء فيه، وقد سبق حكمه.

وإن أدركه ساجداً؛ فليسجد معه، ولا يشتغل بقراءة ولا ركوع؛ فإذا فعل ذلك بقصد متابعة الإمام فسجوده محتسب به للركعة الأولى، وبه يحصل له ركعة ملفقة، وفي إدراك [الجمعة] بها الخلاف السابق:

فإن قلنا: [لا] يدرك بها الجمعة، [جاء ما تقدم من احتسابها من الظهر وعدمه.

وإن قلنا: يدرك بها الجمعة، فقد أدرك الجمعة] ها هنا وجهاً واحداً؛ صرح به العراقيون والإمام ومن تبعه.

وألحق القاضي الحسين بهذه الصورة: ما إذا وقع سجود المزحوم بعد سجدتي الإمام في الثانية، وهكذا الحكم فيما إذا أدركه رافعاً من الركوع، وسجد معه من غير اشتغال بقراءة وركوع؛ صرح به القاضي الحسين والإمام.

نعم: لو اشتغل المزحوم بعد رفعه من السجود والإمام رافع من الركوع برعاية ترتيب صلاة نفسه؛ بأن قام وقرأ الفاتحة، وركع، وسجد، ووافى سجوده سجود الإمام- فسجوده معه في هذه الحالة سجود مقتفٍ لا سجود مقتدٍ على التحقيق، وبه تتم ركعته الأولى؛ كما قال الأصحاب.

قلت: ويتجه أن يأتي في الاعتداد به عن الأولى الوجه المحكي في "السلسلة".

ثم [على] المشهور: فالركعة ملفقة بلا خلاف، وفي إدراك الجمعة بها عند الجمهور الخلاف المشهور.

وقال الإمام: إن قلنا: إن الركعة الملفقة لا يدرك بها الجمعة، فلا تفريع. وإن

ص: 420

قلنا: يدرك بها الجمعة، فها هنا المزحوم مقتد حكماً، وليس متابعاً عياناً، وقد اختلف أئمتنا في ذلك.

قال: وكشف سر ذلك: أنه إن [سجد] المزحوم في قيام الإمام قبل ركوعه- كما تقدم- فقد جرى سجوده وهو متخلف عن الإمام تخلفاً لو اختاره بطلت قدوته، ولكن ذلك القدر معفو عنه؛ لعذر الزحام وفاقاً.

وإن لم يسجد حتى ركع الإمام في الثانية، [ثم أمرناه بالركوع، فسجد- فلا يعتد به، فلو سجد في الركعة الثانية] مقتفياً لا مقتد حسّاً، فهذا اعتقدوه تخلفاً مفرطاً؛ فترددوا فيه.

وخرج من هذا: أن ما يقع قبل الركوع ملحق بالاقتداء الحسي، وإن جرى في تخلف لا يحتمل في حاله الاختيار، وما يقع بعد فوات الركوع اقتفاء فهو في حكم اقتداء حكمي لا عيانِّي، ثم في إدراك الجمعة بمثله الخلاف الذي ذكرناه.

وسئل الغزالي [عن] ذلك، فقال: إذا رفع المزحوم رأسه من السجود وقد فات ركوع الإمام في الثانية- فإن راعى ترتيب صلاة نفسه، فإذا سجد في الركعة الثانية، حصلت له ركعة ملفقة؛ لوقوع السجدة بعد الركوع الثاني، فإن قلنا: يدرك بالملفقة، فقد حصل السجود في قدوة حكمية، فهل تصلح الحكمية لإدراك الجمعة؟ فيه وجهان. ومن منع حصول الركوع الثاني نهاية انسحاب حكم القدوة، فإذا سجد قبله، كان كالمقتدي حسّاً، وإن كان بعده، كان كالمقتدي حكماً.

وقد حكى الرافعي كلامه ثم قال: والتردد في إدراك الجمعة كما قال؛ فلا شك أنه مخصوص بما إذا وقعت السجدتان اللتان كملت بهما ركعته قبل سلام الإمام.

على أن في أصل الاحتساب بهما- والحالة هذه- إشكالاً؛ لأنَّا على القول

ص: 421

الذي عليه التفريع نأمره بالمتابعة بكل حال، فكما لا يحتسب له بالسجود والإمام راكع؛ لأن فرضه المتابعة، وجب ألا يحتسب له والإمام في ركن بعد الركوع، والمفهوم من كلام الأكثرين المتابعة، وإذا سلم الإمام سجد سجدتين لتمام الركعة [الأولى]؛ ولا يكون مدركاً للجمعة.

نعم، صرح الصيدلاني باحتساب السجدتين له، وبنقل الوجهين في إدراك الجمعة بها؛ كما ذكره الغزالي.

قلت: وفيما ذكره الرافعي نظر؛ لأنه إن ظن أن المحل الذي قال الغزالي فيه ما قال؛ إذا كان سجود المزحوم في الركعة الثانية التي أتى بها المزحوم على ترتيب صلاة نفسه بعد رفعه من السجود الذي اعتقد أنه يجزئه عما غلب [عليه] من سجود الأولى قبل سجود الإمام في الثانية-[فليس كذلك؛ بل مراده: ما إذا وقع سجوده مع سجود الإمام في الثانية]، لكن المزحوم قصد بها ترتيب صلاة نفسه، كما نبهت عليه؛ أخذاً من كلام الإمام.

وإن كان قد ظن أن محله ما إذا وقع سجود المزحوم في الثانية مع سجود الإمام، [فلا إشكال، وحينئذ فيكون ما نقله عن الصيدلاني موافقاً لما ذكره غيره من الأصحاب، كما قدمته.

وإن كان قد ظن أن محله: إذا وقع سجود المزحوم في الثانية بعد سجود الإمام في الثانية]، فقد حكينا عن القاضي الحسين أنه قال باحتسابهما أيضاً؛ فهو موافق للصيدلاني، وحينئذ يرجع حاصل القول الذي عليه نفرِّع: أنه يجب على المزحوم متابعة الإمام فيما هو فيه إذا لم يفته السجود معه، فإن فات فلا تجب عليه متابعته، بل يمضي على ترتيب صلاة نفسه، ولا إشكال إذن، لكن غيرهم يقول بوجوب الإتباع على هذا القول مطلقاً؛ [و] لذلك قالوا- كما حكاه القاضي أبو الطيب وابن الصباغ والبندنيجي- إذا رفع المزحوم رأسه من السجود، وقد قلنا: إن الواجب عليه متابعة الإمام في الركوع، فوجد الإمام في

ص: 422

التشهد-: إنه يتبعه، وإذا سلم الإمام، جاء الخلاف في أنه يتمها ظهراً، أو يستأنف. ولا يتمها جمعة بلا خلاف، والله أعلم.

وقد بقي من تفاريع مسائل الزحام فروع:

[الأول]: إذا لم يزل الزحام حتى سجد الإمام في الثانية، فإنه يسجد معه وجهاً واحداً؛ قاله القاضي أبو الطيب والماوردي والبغوي، [لكن القاضي والماوردي] قالا: إنه يحصل له إذا سجد معه ركعة ملفقة: من ركوع من الأولى، وسجود من الثانية؛ فيكون فيها الوجهان.

وقال البغوي: إن قلنا: إنه يجب عليه متابعة الإمام، كانت الركعة ملفقة. وإن قلنا: يمشي على ترتيب صلاة نفسه، حصلت له ركعة من الجمعة. كذا رأيته فيما وقفت عليه منه.

لكن في "الرافعي": أنه قال: إن قلنا: إن الواجب عليه [رعاية ترتيب صلاة نفسه، حصلت له ركعة ملفقة.

وإن قلنا: الواجب عليه] متابعة الإمام، فالحاصل له ركعة [غير] ملفقة. وهذا كأنه أقرب إلى الصواب.

لكن إن صورت المسألة بأنه لما ركع الإمام في الثانية تمكن من الركوع فركع معه، وفرعنا على أن الركوع الثاني هو المعتد به، كما تقدم.

ص: 423

أما إذا قلنا: المعتد به الركوع الأول، أو لم يتمكن المزحوم من الركوع مع الإمام- فلا وجه إلا كونها ملفقة.

وقد رأيت في كلام الإمام تفريعاً على القول بأن المسبوق إذا فرغ من السجود وقد زوحم في الركعة الأولى، فأدرك الإمام رافعاً من ركوع الثانية: أنه يتبعه- أن المزحوم [إذا] لم يتمكن من تدارك السجود، ولا من متابعة الإمام في الركعة الثانية حتى رفع الإمام رأسه من الركوع، ثم تمكن من السجود- فلا يصير مدركاً للجمعة، وإن سجد عن الركعة الأولى فإن التخلف جاوز الحد.

[الفرع الثاني]: إذا لم يزل الزحام حتى تشهد الإمام، قال في "التتمة": سجد، ثم إن أدرك الإمام، فقد أدرك الجمعة، وإلا فلا.

وعليه ينطبق قول الشيخ من قبل.

قلت: ولاشك في أن هذه الركعة ملفقة، وقد كملت في قدوة حكمية إن كان الزحام قد وقع في الركعة الأولى، ولم يتمكن المزحوم من الركوع مع الإمام في الثانية.

أما إذا كان الزحام في الثانية، ولم يدرك مع الإمام الأولى، فلا تلفيق، والأمر كما قال، إلا على ما اقتضته طريقة القاضي أبي الطيب، كما تقدم.

ولو كان الزحام في الأولى، وتمكن من الركوع مع الإمام في الثانية فقط:

فإن قلنا: يمشي على ترتيب صلاة نفسه، فهي- أيضاً- ملفقة كملت في قدوة حكمية.

وإن قلنا: يتبع الإمام، وتبعه:

فإن قلنا: إنّ الركوع الأوّل هو المعتد به، فكذلك.

وإن قلنا: المعتد به الثاني، فلا تلفيق إلا على ما اقتضته طريقة القاضي أبي الطيب.

[الفرع الثالث]: إذا كان الزحام حصل في الركوع في الأولى، ولم يزل حتى ركع الإمام في الثانية، تابعه على الركوع قولاً واحداً، فإذا فرغ الإمام، فقد حصل للمأموم ركعة.

قال الشيخ أبو حامد وغيره: فيضيف إليها أخرى وقد صحت له الجمعة.

ص: 424

وقال القاضي أبو الطيب: إنما يكون كذلك على قولنا فيما إذا لم يزل الزحام في السجود حتى ركوع الإمام: إنه يركع معه، ويكون المعتد به الركوع الثاني. أما إذا قلنا: المعتد به الركوع الأوّل، فيجيء في هذه المسألة وجهان؛ لأن الركعة ملفقة.

وقال المعلق للتعليق المنسوب إليه: [ما] قاله القاضي فيه نظر؛ لأن التلفيق جمع بين فعلين، لو أسقط أحدهما، لم يكن مدركاً للجمعة بالآخر؛ فأما في مسألتنا فإنه ضم القيام والقراءة من الركعة الأولى إلى الركوع وما بعده من الركعة الثانية، ولو أدرك الركوع من الركعة الثانية وما بعده في هذه الحالة، لكان مدركاً ركعة كاملة؛ فلم يكن لإضافة القيام والقراءة من الركعة الأخرى إليه تأثير؛ لأن الركعة تصح مع إسقاطه.

ولنوع من ذلك قال ابن الصباغ: إنّ قول الأصحاب أشبه. وأنت إذا تأملت ما قاله المعترض، استحسنته، ووجدت الأمر كما قال، والله أعلم.

خاتمة: الزحام كما يفرض في الجمعة يفرض في سائر الصلوات، وإنما يذكر في الجمعة خاصة؛ لأنّ الزحمة فيها أكثر؛ ولأنه يجتمع فيها وجوه من الإشكال لا تجري في غيرها، مثل: التردد في أن الركعة الملفقة هل يدرك بها الجمعة، وكذا التردد في القدوة الحكمية على رأي المراوزة الذي لا يعرفه العراقيون، والتردد في النية على أنّ الجمعة ظهر مقصور أم لا؟ ولأن الجمعة شرط فيها الجماعة، ولا سبيل إلى المفارقة ما دام يتوقع إدراك الجمعة على رأي- كما تقدم- بخلاف سائل الصلوات؛ فإنه عند تعذر السجود بالزحمة في الركعة الأولى يخرج نفسه من الصلاة، ولا ينتظر الزوال، لكنه لو أقام، و [لم] يزل الزحام حتى ركع الإمام في الثانية- قال الرافعي: اطرد فيه القولان.

وحكى ابن كج طريقين:

أحدهما: أنه يركع معه بلا خلاف.

والثاني: أنه يراعي ترتيب [صلاته نفسه] بلا خلاف.

***

ص: 425