الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب صلاة المسافر
هذا الباب مسوق لبيان ما اختص به المسافر من التخفيف في إقامة أكثر الصلوات؛ لأجل ما يلحقه من تعب السفر، وهو نوعان:
[تخفيف] في نفس الصلاة وهو القصر.
وتخفيف في رعاية وقتها، وهو الجمع.
والمطر في الحضر، في هذا النوع ملحق بالسفر.
ثم المهم من النوعين: القصر؛ ولذلك قدمه.
والأصل فيه - قبل الإجماع - من الكتاب: قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] فأباحه الله- تعالى- فى السفر بشرط الخوف من الكفار، وبينت السنة جوازه عند الأمن؛ روى أبو داود، والترمذي، عن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: أرأيت إقصار الناس الصلاة اليوم، وإنما قال الله تعالى في السفر:{إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ} [النساء: 101] وقد ذهب ذلك اليوم؟! فقال: عجبت مما عجبت منه؛ فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم؛ فاقبلوا صدقته" أخرجه مسلم.
وقد ادعى بعضهم أن قول الله تعالى {إِنْ خِفْتُمْ} جرى على الغالب عن أسفارهم؛ فلا مفهوم له، وفيه نظر؛ لأن قول عمر ويعلى يأباه.
نعم، هو متأول الظاهر؛ [لظاهرخبر] يعلى، وقد جاء مثله في قوله تعالى:{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَاّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229].
ومن السنة: ما روي أنه عليه السلام كان يقصر [الصلاة] غازياً، وحاجاً، ومعتمراً، وفي مرجعه إلى المدينة [من ذلك].
وقد روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال: صليت مع النبي ركعتين، ومع أبي بكر ركعتين، [ومع عمر ركعتين، ثم تفرقت بكم الطرق، ووددت لو أن لي من الأربع ركعتين متقبلتين].
وروى الترمذي عن ابن عمر قال: سافرت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، وعثمان فكانوا يصلون الظهر والعصر ركعتين [ركعتين]، لا يصلون قبلهما
ولا بعدهما.
قال: إذا سافر في غير معصية سفراً يبلغ مسيرة ثمانية وأربعين ميلاً بالهاشمى، فله أن يصلي الظهر والعصر والعشاء ركعتين [ركعتين]؛ للآية، مع ما ذكرناه من الأخبار؛ فإن الآية، وخبر يعلى [بن أمية] يقتضي جواز قصر الصلاة عند الضرب فى الأرض، وهذا السفر، خائفاً كان المسافر أو آمناً، واجباً كان أو مندوباً أو مباحاً، وأيد ذلك فعله عليه السلام[فإن غدوه في أسفاره] كان طاعة، وعوده إلى المدينة مباحاً، وقد قصر في الجمبع، ومن معه أيضاً قصروا في ذلك، وهو حجة على من ادعى أن القمر لا يسوغ في السفر [المباح].
والمسافة التي ذكرناها يصدق عليها اسم السفر فشملها الحكم، وخير ابن مسعود، وابن عمر يدل على أن القصر ركعتان في الرباعية؛ فثبت ما ذكرناه.
والسفر: قطع المسافة، وجمعه: أسفار، سمي بذلك؛ لأنه يسفر عن أخلاق الرجال، أي: يكشفها.
وقيل: إنه مشتق من "الإسفار"، وهو الخروج.
وفي "الوسيط": أن حد السفر الانتقال مع ربط [القصد بمقصد] معلوم؛ فالهائم وراكب التعاسيف [لا يترخص وإن مشى ألف فرسخ.
وما ذكره إذا أراد أنه حد لمطلق الفر فليس الأمر كذلك؛ لأن الهائم، وراكب التعاسيف يسمى: مسافراً، وإن لم يربط قصده بمقصد. وإن أراد حد السفر الذي يجوز [فيه] القصر، وهو الأقرب- فصحيح، وحيتئذٍ فعلى كلامه مناقشة من وجهين:
أحدهما: أنه جعل] راكب التعامسيف قسيم الهائم، وقد قال [العجلي]: إنه هو. ولعل الأقرب ما ذكره هنا؛ فإن الهائم: الضائع، [وراكب التعاسيف لا] قصد له معلوم، مع أنه لم يضع، بل يمضي على وجهه.
والثاني: أن [قيد كون] لص السفر طويلاً يغني عنه؛ لما ستعرفه، وقد ذكره.
واحترز الشيخ بقوله: "فى غير معصية" عن سفر المعصية؛ فإنه لا يقصر فيه؛ خلافاً للمزني؛ فإن القصر رخصة شرعت إعانة للمسافر على مقاصده، والعاصي لا يعان؛ لقوله تعالى {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] فعلم بذلك أن سفر المعصية غير مراد فى الآية، [وإن شمله عمومها].
والسفر [فى المعصية]: هو السفر لقطع الطريق، والعبد يأبق من سيده، والمراة سافر بغير إذن زوجها، والغريم يهرب ممن له عليه حق وهو قادر على آبائه، ونحو ذلك.
وعن الصيدلاني أنه ألحق بذلك السفر لغير غرض؛ لأن ركض الدابة لغير غرض حرام؛ لإتعابها، فإتعاب نفسه أولى، وقوله تعالى:{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً} [الأنفال: 47] يدل عليه.
فإن قيل: لا نسلم أن القصر رخصة، بل هو عزيمة، ويدل عليه ما رواه مسلم، عن ابن عباس قال: فرض الله عز وجل[الصلاة] على لسان نبيكم في الحضر أربعاً، وفي السفر ركعتين ركعتين.
وروى البخاري ومسلم عن عائشة أنها قالت: رأفرضت الصلاة ركعتين ركعتين في الحضر والسفر، فأقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر" والأربع في الحضر عزيمة؛ فوجب أن تكون الركعتان فى السفر كذلك، [وإن كان كذلك فلا] يختلف الحكم بين أن يكون السفر طاعة أو معصية.
قلنا: سنبين أنه ليس بعزيمة.
وقد شمل قول الشيخ: "في غير معصية":
الأسفار الواجبة: كالسفر للحج، والعمرة، والجهاد، ودفع البغاة، والهجرة، ونحو ذلك.
والأسفار المندوبة: كالسفر لحج التطوع، ولطلب العلم، [ولزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، أو للصلاة في مسجده، أو في المسجد الأقصى] ولزيارة الوالدين، أو أحدهما.
والأسفار المباحة: كالسفر للتجارة، والنزهة، [ونحو ذلك]، كما حكاه العراقيون، والبغوي، وهذا هو المشهور.
وعن صاحب "التلخيص" أنه قال: [إنما] يقصر المسافر في سفر الطاعة.
وقال الإمام: وهذا يدل على أنه لا تثبت رخص السفر [في] السفر المباح.
وقد اتفق الأصحاب على أن كون السفر طاعة ليس بشرط، بل الشرط ألا يكون معصية؛ فإذا كان ما ذكره زللاً في اللفظ من جهة أن اللسان يبتدر إلى مقابلة المعصية بالطاعة ازدواجاً فهو سهل، وإن كان ذلك عن قصد، فهو خطأ بالاتفاق. وعن الشيخ أبي محمد: من الأغراض الفاسدة طوف الصوفية لرؤية البلاد فقط.
وكلام الشيخ يفهم أنه لا فرق في جواز القصر في السفر [الذي] ليس بمعصية بين أن يوجد [فيه] معصية، أو لا؛ إذ المستثنى سفر المعصية، لا السفر الذي تقع فيه المعصية، وهو كذلك؛ لأن المعصية لم تكن في السبب المرخص.
نعم: لو نوى في أثناء السفر الذي يقصر في مثله قلبه إلى سفر هو معصية، مثل: أن خرج قاصداً التجارة، فعن له إتمامه لقطع الطريق ونحوه، فهل يمتنع عليه إذ ذاك القصر، أو يستدام نظراً إلى ابتداء قصده؟ قال الماوردي: لا نص للشافعي رضي الله عنه[فيها، ولأصحابنا] فيها وجهان، حكاهما البندنيجي والفوراني والبغوي وغيرهم:
أحدهما - وهو قول الداركي وغيره-: لا يجوز له القصر؛ [كالمنشئ السفر لذلك]، وهذا ما ادعى البندنيجي أنه الأصح؛ وتبعه الروياني في "تلخيصه" في ذلك.
والثاني: أنه يجوز [له] القصر؛ لأن الذي جلب له هذه الرخصة إحداث السفر، بإحداثه لم يكن معصية؛ وهذا قول عامة الأصحاب، والأصح في "الإبانة".
وادعى الإمام رضي الله عنه أن الأول من تخريج ابن سريج؛ لأنه لو ترخص، لكان متبلغاً إلى معاصيه بالرخصة. قال: وهذا من اختياراته، وهو ظاهر القياس، وإن كان الأول ظاهر النص.
ولو انعكس الحال؛ فكان [ابتداء سفره] بقصد المعصية، ثم تاب [فى أثنائه؛ مثل: أن خرج في قطع الطريق، ونحوه، ثم تاب] واستمر على قصد قطع المسافة التي قصدها أولاً - فعن الشيخ أبي محمد أن ذلك بمنزلة [طرآن] قصد المعصية على سفر الطاعة، أي: في النظر إلى ابتداء القصد، أو إلى ما طرأ عليه، وحينئذ قال الإمام: فالذي يقتضيه قياس النص أن الحكم للقصد الأول.
وأما ابن سريج فإنه يتبع [موجب] قصده الطارئ.
قال في "الوسيط": وهذا أوضح، وبه قطع بعض المصنفين والبغوي، والرويانى في "تلخيصه".
وعلى هذا: إن كان في مقصده بعد توبته مسافة القصر جاز له القصر، وإلا فلا.
وهذا هو الموافق لما حكيناه [عن] القاضي الحسين والبغوي، فيما إذا سافر من لزمه فرض الجمعة بعد الزوال؛ لأنه لا يترخص ما لم تفته الجمعة، ثم من حينئذ يكون ايتداء سفره.
وقال الإمام: لا سبيل إلى القطع [به]؛ لأن طرآن الطاعة على المعصية كطرآن المعصية على الطاعة.
ويقرب من الخلاف [فى المسألة الخلاف] في مسألتين:
إحداهما: أن من خرج رابطاً قصده بمسافة القصر، ثم نوى بعد خروجه أنه مهما لقي فلاناً في طريقه، انصرف، وإن لم يلقه تمادى إلى مقصده الأول- فهذه النية لو كانت موجودة في ابتداء السفر، لم يقصر؛ كما ستعرفه، لكنها في هذه الحالة هل تؤثر في قطع السفر؟
قال الإمام: ظاهر المذهب: لا. وهو ما أورده القاضي الحسين لا غير.
نعم: إذا لقي فلاناً، خرج عن كونه مسافراً، وحكمه إذ ذاك حكم المقيم.
ومن أصحابنا من قال: [إن] ما طرأ من نيته يمنعه من الترخص [كما][لو وجد] ذلك في الابتداء، وهو ما حكاه مجلي عن العراقيين.
والثانية: إذا خرج من بلده رابطاً قصده بمسافة القصر، ثم بعد خروجه بدا له أن يقيم ببلدة في وسط الطريق أربعة أيام فأكثر، ولبس بينها وبين مخرجه [أولاً مسافة القصر - فهذه النية الطارئة قبل وصوله إلى البلدة التي نوى المقام بها هل تمنعه من الترخص كما لو قصد ذلك ابتداء، أو لا؟
الذي نص عليه الشافعي: الثاني وهو ما حكاه القاضي الحسين لا غير، نعم إذا وصل إلى تلك البلدة]، وقصد الإقامة، بطل الآن السفر.
وعن بعض أصحابنا وجه آخر: أنه يمتنع عليه الترخص بمجرد نية الإقامة في تلك البلدة، وقبل وصوله إليها، وهذا ما ادعى في "التتمة" أنه المذهب.
و [احترز الشيخ] بقوله: "سفراً يبلغ [مسيرة] ثمانية وأربعين ميلاً بالهاشمي" عن أمرين:
أحدهما: السفر الذي [لا] يبلغ مسيرة ذلك؛ فإنه لا يقصر عندنا فيه، آمناً كان أو خائفاً، وإن كان عموم ما ذكرناه من الآية والخبر يقتضي أنه يقصر [فيه]، ووجهه: ما روي عن ابن عباس أنه قال: "يأهل مكة، لا تقصروا في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان"، وفي رواية:"من عسفان إلى مكة"، قال الخطابي: وهذا هو أصح الروايتين عن ابن عباس، ومثل ذلك لا يكون إلا عن توقيف.
وقد قيل: إن ابن عباس رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو ما ذكره القاضي الحسين، وكذا أبو الطيب، ولفظه: روى أبو بكر بن محمد بن إسحاق بن خزيمة في كتابه الذي سماه بـ"مختصر المختصر"، والدارقطني في "سننه" بإسنادهما، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"يأهل مكة، لا تقصروا الصلاة في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان".
وقد ذكر الماوردي الموقوف والمرفوع، ثم قال: إن مذهبنا أن الخبر إذا ورد موقوفاً
ومسنداً- حمل الموقوف على أنه مذهب الراوي، والمسند على أنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم.
فإذا [ثبت ذلك] كان [ذلك] مخصصاً لما دل عليه عموم الآية، وأنه لا يجوز القصر في أقل من أربعة برد.
والبريد على المشهور: أربعة فراسخ، والفرسخ: ثلاثة أميال بالهاشمي، ومجموع ذلك ثمانية وأربعون ميلاً بالهاشمي؛ كما ذكره الشيخ.
والميل- بكسر الميم-: اسم لمسافة معلومة، قال الأزهري: الميل- عند العرب-: ما اتسع من الأرض؛ حتى لا يكاد بصر الرجل يلحق آخره.
والميل الهاشمي: منسوب إلى هاشم بن عبد مناف بن قصي، جد النبي صلى الله عليه وسلم فإنه الذي قدر أميال البادية، وبردها، وهو بالخطا أربعة آلاف خطوة، كل خطوة ثلاثة أقدام؛ فذلك [اثنا عشر ألف] قدم، وهو بالأذرع ستة آلاف ذراع، [كل ذراع] أربعة وعشرون أصبعاً معترضات، والأصبع: ست شعيرات معتدلات [معترضات]، وإذا قدرت جميع المسافة بالسير، كانت مسيرة ليليتين فقط [لا] يوم بينهما، [سير الثقل ودبيب الأقدام في العادة، أو مسيرة يومين لا ليلة بينهما]، أو مسيرة يوم وليلة على الولاء؛ لأن الغالب أن يقطع في كل ليلة ويوم ثمانية فراسخ.
والمعنى في جواز القصر في هذه المسألة: أنه يلحق المسافر فيها مشقة
الشد والترحال والحط؛ كما [يلحقه فيما] جاوزها، ولا يلحقه ذلك فيما دونها، [فلم يلق به شرعية الترخيص، هذا مذهبنا المشهور.
ولفظ الشافعي الذي حكاه البويطي في ضبط المسافة كلفظ الشيخ، وقد حكى عن نصه في "الأم" و"الإملاء": أن مسافة القصر ستة وأربعون ميلاً بالهاشمي، وهو الذي ذكره في المختصر.
وقال [في القديم]: يقصر إذا جاوز أربعين ميلاً.
وقال في موضع آخر: أربعة برد.
وقال في موضع آخر: مسيرة ليلتين قاصدتين حمل الأثقال، ودبيب الأقدام.
وقال في موضع آخر: مسيرة يوم وليلة].
واتفق الأصحاب كافة على أن المسألة على قول واحد، وأقواله وإن اختلفت [ألفاظها] فمعانيها متفقة، لكن ما هو ذلك [القول] الذي حكاه الجمهور؟ [إنه ما] ذكره الشيخ، وهو في "الأم" و"الإملاء" أسقط الميل الأول والأخير، وفي القديم أبهم المسافة التي فوق الأربعين، ولكن فسرها في غيره؛ فرجع إليه؛ كذا قاله البندنيجي وغيره.
وقال الماوردي في تأويله: إنه أراد أميال بني أمية، وهي تبلغ ثمانية وأربعين ميلاً بالهاشمي؛ كما قال الرافعي.
وقوله: "إنها مسيرة [ليلتين"] أراد بذلك: إذا سار في الليل، دون النهار؛ لأن الغالب أنه يقطع في كل ليلة ثمانية فراسخ.
وقوله: "يوم وليلة" أراد: إذا [اتصل سير الليل] باليوم.
وقال القاضي الحسين في "تعليقه": إن ذلك القول المتفق عليه: أنها ستة وأربعون ميلاً بالهاشمي؛ [لقول ابن عباس: أقصر إلى عسفان وإلى جدة وإلى الطائف، وأقرب ذلك، إلى مكة –كما قال الشافعي- ستة وأربعون ميلاً، بالهاشمي].
قال: وكل ثلاثة [أميال] منها فرسخ، ومجموعها: خمسة عشر فرسخاً، وثلث فرسخ، إلا أن الأصحاب قدروه بستة عشر فرسخاً؛ للاحتياط.
وحيث قال: "ثمانية وأربعون ميلاً"، عد الميل الذي يرتحل منه، والميل الذي يرتحل إليه.
وحيث قال: "إذا جاوز الأربعين قصر" هو مطلق، وما ذكرناه مقيد؛ فحمل المطلق على المقيد.
وحيث قال: "أربعة برد"، أراد به: برد الحجاز، [وذلك] يكون بالبغال لكل بريد منها أربعة فراسخ.
وحيث قال: "مسيرة ليلتين قاصدتين، أو يوم وليلة"، أراد ما ذكرناه.
وبذلك يحصل في قدر المدة قولان يمكن أخذهما أيضاً مما قاله بعضهم: إن ما ذكره الشيخ من المسافة تحديد، أو تقريب؟
والأصح أنه تحديد، وبه جزم المتولي، وكذا ابن الصباغ في باب موقف الإمام والمأموم.
ومقابله ينسب إلى أبي إسحاق المروزي؛ فإنه قال- كما حكاه البندنيجي-: إنما اختلف قول الشافعي؛ لأنه على التقريب.
قال غيره: وعلى هذا لا يضر نقص الميل والميلين، وقد حكى الطبري في "عدته" [قولاً] عن رواية الشيخ أبي يعلى: أنه يجوز القصر في السفر القصير في الخوف، وحكاه المحاملي أيضاً.
والمذهب: الأول؛ لخبر ابن عباس.
قال الأصحاب: [وهو مخصص لما] اقتضاه عموم الآية، وناسخ لما ورد في "صحيح" مسلم، عن يحيى بن يزيد الهنائيّ قال: سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة؛ فقال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال، أو ثلاثة فراسخ- الشك من شعبة- صلى ركعتين"، ولما روى من هذا النوع؛ لأن
قول ابن عباس وقوله عليه السلام، إن كان قد صح إسناده:[لا تقصروا"]، دليل على أنهم كانوا يقصرون في أقل من ذلك.
ثم ترك الأئمة العمل بذلك دليل نسخها.
ثم هي وقائع عين يتطرق إليها احتمال أنه كان قد قصد فوق ما ظنه الراوي، ولم يكمل [ما وقع] عليه القصد، وذلك ليس بشرط [في إباحة رخص] السفر، وبه صرح المتولي وغيره.
وأيضاً فيحتمل أن يكون مراد [الراوي: [أنه عليه السلام] ابتدأ بالقصر عند هذا القدر من سفره بحضور الصلاة في] ذلك الوقت، وقد قال أنس:"صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعاً، و [العصر] بذي الحليفة ركعتين"، أخرجه أبو داود، والترمذي.
ثم المفهوم من لفظ "السفر": الذي يبلغ مسيرة ما ذكرناه للمضي ذهاباً وإياباً؛ فلو كان كل من الذهاب والإياب لا يبلغ ذلك، ومجموعهما يبلغه لم يبح القصر.
وفيه وجه: أنه يبيحه، وليس بشيء.
الثاني: إذا لم يعلم مدى سفره، هل يبلغ ذلك، أم لا؟ فإنه لا قصر؛ لعدم تحقق الشرط، وذلك يفرض في صور:
إحداها: [الهائم، لا يقصر؛ حكاه ابن الصباغ وغيره.
وعن صاحب "البيان" رواية وجهين فيه؛ بناء على ما] لو سلك الطريق الأبعد لغير غرض.
قال الرافعي: ولعل هذا بعد أن يسير مسافة القصر، وقال: إنه لو استقبل برية، واضطر إلى قطعها، أو ربط قصده بقصد معلوم، بعد ما هام على وجهه أياماً- فهو منشئ للسر من حينئذ.
قلت: ولا يبعد أن يأتي فيه وجه؛ أخذاً مما مما ذكرناه في سفر المعصية إذا تاب فيه؛ نظراً إلى ابتداء السفر، ويمكن الفرق.
الثانية: الخارج في طلب عبد له قد أبق، أو غيرم له [قد] هرب، ولم يعرف موضعه، وعزمه أنه متى وجده، رجع - فإنه لا يقصر وإن طال، إلا أن يكون في ابتداء سفره قد علم أنه لا يلقاه قبل مرحلتين؛ فله القصر.
وقد اقتضى كلام الرافعي فيما إذا لم يعلم ذلك قبل ابتداء السفر، وطال أنه يترخص حينئذٍ على وجه؛ لأنه جعله كالهائم، وقد تقدم في الهائم وجهان عند طول السفر، وله أيضاً، نظير يأتي.
وعلى كل حال إذا وجد مطلوبه، وعزم على الرجوع إلى بلده، وبينه وبينها مسافة القصر يترخص إذا ارتحل عن ذلك الموضع.
الثالثة: العبد إذا سافر مع سيده، والزوجة مع زوجها، والجندي مع الأمير، ولا يدري أين مقصده- ليس له القصر، [وإن تعدى مسافة] القصر؛ لما ذكرناه.
قال الأصحاب: ولا أثر لقصد العبد والمرأة مسافة القصر؛ لأنهما مقهوران، وقصد الجندي معتبر؛ لأنه ليس تحت يد الأمير وقهره.
الرابعة: الأسير في يد العدو إذا ساقوه معهم لا يقصر؛ لما ذكرناه، ولكن قال الأصحاب: إنه إذا سافر ستة عشر فرسخاً، قصر؛ لأنه علم طول المسافة، وهو ما حكاه في "التتمة"[عن النص]، ثم قال:[و] قياس ما ذكرناه في الآبق أنه لا
يترخص؛ لأن القصد في الابتداء ما وجد. فتكون المسألة على قولين.
ونظيره ما لو باع مال أبيه على تقدير أنه حي، وكذلك في الحج، [لو كان عنده أن مرضه مما يرجى زواله، فاستنابه في الحج]، ثم بان أنه كان ميئوساً من الزوال: هل يصح حجه، أو لا؟
نعم: لو علم أولاً: أنهم يحملونه إلى بلد بعيد؛ فإن نوى الهرب إذا قدر، أو الرجوع متى أطلقوه- لم يقصر، وإن قصد البلد أو بلداً غيره على مسافة القصر، [قصر].
قال في "التتمة": والعبد والزوجة إذا خرجا مع السيد أو الزوج، وعلما مقصده، وكان على مسافة القصر- كالأسير في القصر وعدمه.
الخامسة: إذا كان من السيارة يتبع مواقع القطر فيحله، وإذا شام [برقا]، انتجعه- لم يقصر، وإن طال مسيره؛ لما ذكرناه.
ومعنى "شام": أي [أبصر]، والانتجاع: طلب الكلأ.
[ثم] في هذا القيد تنبيه على أن سفر البحر إذا بلغ مسيره في البر ذلك- جاز القصر فيه، وإن قطع تلك المسافة في ساعة، وعليه نص في "الأم"؛ كما قاله أبو الطيب.
ولا فرق في المسافر فيه في جواز القصر له إذا بلغ سيره ذلك بين أن يكون ملاحاً أهله وماله معه في السفينة دائماً، أو لا.
وفي "زوائد" العمراني أن صاحب "الفروع" حكى في جواز القصر للملاح إذا كان أهله وماله معه وجهين.
و [احترز الشيخ] بقوله: "الظهر والعصر والعشاء" عن المغرب والصبح؛ فإنه [لا قصر] فيهما بإجماع أهل العلم؛ كما قاله ابن المنذر.
[وروي] عن عائشة- رضي الله عنها أنها قالت: "فرض الله [الصلاة] على [لسان] نبيكم صلى الله عليه وسلم بمكة ركعتين ركعتين إلا [صلاة] المغرب، [فلما هاجر إلى المدينة واتخذها دار هجرة زاد إلى كل ركعتين ركعتين إلا صلاة] الغداة؛ لطول القراءة فيها، وإلا صلاة الجمعة؛ للخطبة، وإلا صلاة المغرب؛ فإنها وتر النهار، افترضها الله على عباده؛ فلما سافر صلى الصلاة التي كان افترضها عليه".
ولأن الصبح لو قصرت لم تكن شفعاً، والمغرب لا يمكن قصرها إلى شطرها، ولا أن تكمل الثانية؛ فلا تكون وتراً، ولا الاقتصار على ركعة منها [فيسقط] أكثر من شطرها؛ فتخرج عن باقي الصلوات.
[وقد أفهم قوله: "فله أن يصلي الظهر والعصر والعشاء ركعتين ركعتين": أنه لا يجب القصر]، وهو عندنا كذلك بلا خلاف؛ لقوله تعالى:{فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاةِ} [النساء: 101]؛ [فدل] على جواز تركه؛ لأنه لا يستعمل رفع الجناح إلا في المباح دون الواجب؛ كذا قاله الرافعي؛ واستشهد بقوله تعالى: [{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198]، وقوله:{لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ} [البقرة: 236]، وقوله:{وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة: 235]، وقوله:] {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَاكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً} [النور: 61]، وقوله:{فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] من ذلك أيضاً؛ لأن الآية نزلت على سبب، وهو أن الجاهلية كان لها على الصفا صنم يقال له: إساف، وعلى المروة صنم يقال له: نائلة،
قيل: إنهما كانا آدميين؛ فسخط عليهما، ويعزى ذلك إلى قول ابن عباس: كانت الجاهلية يطوفون حول الصفا والمروة؛ تقرباً إلى الصنم؛ فظن المسلمون أن السعي بين الصفا والمروة غير جائز؛ فنزلت الآية.
والفرق: أن الجاهلية كانوا يفعلون ذلك؛ تقرباً للصنم، ونحن نفعله تقرباً إلى الله تعالى.
وكان السعي الذي ورد في الآية مباحاً وغير واجب؛ لأن السعي الواجب بينهما، والآية واردة [في السعي] بهما.
ولأن الآية، وإن تضمنت السعي بينهما؛ فهو [حين نزلت] لم يكن واجباً؛ لأنها نزلت [في أول الإسلام قبل وجوب] الحج والعمرة، ألا ترى إلى قول عروة:"إني أرى أن لا جناح عليّ إذا لم [أطف بهما"]، وقول عائشة- رضي الله عنها له:"بئس من قلت؛ إنما كان ذلك في أول الإسلام، ثم سنه النبي صلى الله عليه وسلم".
وقيل: إنها نزلت حين كان العرب يعتقدون أن العمرة في أشهر الحج [من أفجر الفجور، وثبت جواز العمرة في أشهر الحج].
وأيضاً: فالسنة دلت على جواز الإتمام؛ روى أبو داود عن عائشة أنها قالت: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة رمضان؛ فأفطر وصمت، وقصر وأتممت؛ فقلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي! أفطرت وصمت، وقصرت وأتممت؟ فقال:"أحسنت".
وروى الدارقطني عنها- رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصر الصلاة وتتم ويفطر وتصوم. قال: وهذا إسناد صحيح.
ورأيت في كلام بعضهم: أن البخاري ومسلماً رويا عنها أنها كانت تتم الصلاة.
فإن قيل: خبر ابن عباس السابق، وعائشة يدل على أن القصر عزيمة، لا يجوز تركه، وكذلك [قال به] أبو حنيفة وغيره، وهو قول جمع من الصحابة.
قلنا: ما ذكرناه من فعله- عليه السلام وقوله لعائشة يرد على ذلك.
[و] لأن القصر لو كان عزيمة، لما وجب الإتمام إذا اقتدى المسافر بالمقيم؛ كما لا يلزمه إذا صلى الصبح خلف من يصلي الظهر، أن يكمل الصلاة أربعاً، كذا قاله الشافعي في "الأم"، وعليه يحمل ما ذكره في "المختصر".
وقول عائشة السابق يحتمل أن يكون مرادها به أن الذي يخاطب به المسافر إذا أراد القصر الركعتان؛ فإنه لو اقتصر عليهما، كانتا فرضه.
قال: إذا فارق بنيان البلد؛ لأن بوصوله إلى بنيان البلد يقع انتهاء سفره إجماعاً منا ومن الخصم؛ فوجب أن يقع ابتداؤه من طريق الأولى؛ لأنه يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء.
ثم المراد ببنيان البلد الذي يشترط مفارقته: السور إن كان البلد مسوراً، وإن لم يكن مسوراً فما يمكن سكنه منه من الجهة التي يريد المسافر مجاوزتها، أما ما لا يمكن سكنه – لسقوطه جدرانه – فلا يشترط مجاوزته؛ صرح به البندنيجي وابن الصباغ وغيرهما من العراقيين.
وقد أبدى الغزالي تردداً في اشتراط مفارقة الخراب الذي بقيت [آثار العمارة فيه].
والمذكور منه في "تعليق" القاضي الحسين أنه لابد من مجاوزته، وهو ما حكاه الإمام عن شيخه، وقال: الذي أشعر به فحوى كلام الصيدلاني وكلام [بعض] المصنفين مقابله، وهو: أن مجاوزة العمران كاف، والخراب لا حكم له.
قال: وظاهر النص دال على ذلك؛ لأنه قال: فلا يقصر حتى يفارق المنزل. [و] اسم [المنازل] يختص بالعامر الذي يمكن أن يسكن.
وهذا يظهر تعليله بأن المسافر هو النازل من مكان الإقامة، والخراب ليس
مكان إقامة، ولكن شرط ذلك ألا يكون وراء الخراب عمارة معدودة من البلد، وإن كانت، فلا شك أن الخراب من البلد، ولابد من مجاوزته منتهى العمارة.
وقد وافق الشيخ أبو محمد على أن الخراب إذا اتخذه الناس مزارع لا يشترط مجاوزته، وكذا لو سوروا على العامر سوراً، وجعلوا الخراب وراءه، وكان يقول: لو حوطوا على العامر، وحوطوا سوراً آخر على الخراب؛ فلابد من مجاوزة السورين.
ولو اندرس الخراب بالكلية، ولم يبق له أثر؛ فلا يشترط مجاوزته اتفاقاً.
ولو اتخذ من الخراب بساتين، وكانت منازل ودوراً، فإن كان ملاكها لا يسكنونها، ولا يخرجون إليها إلا متنزهين، أو لنقل الثمار – فلا تعتبر مفارقتها أيضاً.
وإن كان ملاكها يسكنونها فهي من البلدة، وكذا إن كان ملاكها يأوون إليها في بعض الفصول، وهي محل نزهة من البلد؛ فلابد من مجاوزتها.
وقد أفهم كلام الشيخ أموراً:
أحدها: أن النهر العظيم في وسط البلدة لا يكفي قطعه إلى الجانب الآخر: كنهر بغداد، وهو ما ذكره أبو الطيب، وغيره؛ فإنه لا يعد فصلاً؛ فإنه لمنافع الجانبين.
وفيه وجه [آخر]: أنه يُعد فصلاً، [و] سنذكره في باب: صلاة الجمعة.
الثاني: أنه لا يشترط مفارقة الخندق المحيط بالبلد.
وفي "الجبيلي" أنه لابد من مجاوزته، وعليه يدل كلام غيره أنه إذا كان بباب البلد قنطرة، فلابد من مجاوزتها.
الثالث: أنه لا يشترط مجاوزة البساتين خارج البلد، وقد صرح به ابن الصباغ، وإن كانت متصلة ببنيان البلد في طرفها؛ لأنها ليست مبنية للسكن.
نعم: لو كان في البساتين قصور، أو دور يسكنها ملاكها في جميع السنة، أو في بعض فصولها- فلابد من مجاوزتها؛ صرح به الرافعي وغيره، وهذا إذا لم يكن البلد مسوراً.
فإن كانت البساتين خارج السور، فلا يشترط مجاوزتها، وصرح به أبو الطيب وغيره؛ موجهين ذلك بأن حيطان البلد جعلت لحراسة ثمارها دون السكنى.
وقضية هذه العلة: أنه لو كان بها منازل تصلح للسكنى: أنه يشترط مفارقتها؛ كما ذكرناه في البلد الذي ليس بمسور، ولم أر أحداً من الأصحاب قال به، وهكذا نصه؛ فإنه إذا كان بجوار السور من خارج دور يمكن الإقامة فيها يشترط أن يجاوزها، وهذا صرح به المتولي؛ حيث قال: من سافر من بلد عليها سور؛ فلابد أن يخرج من السور، وإن كان على بابها نهر فيعبر النهر.
وإن كان حولها رياض ومنازل متفرقة، فحتى يفارقها، ونسب الرافعي ذلك لبعض تعاليق المَرْوَرُّوذيين.
قلت: ويجري هذا في الصورة قبلها من طريق الأولى، والذي [دل] عليه كلام الغزالي، وكثير من الأئمة- كما قال الرافعي-: أنه لا يشترط مفارقة ذلك.
ثم اعلم أنا حيث لم نشترط مجاوزة البساتين الخارجة عن البلد، فالمزارع بذلك أولى.
وفي "التتمة" حكاية وجه عن القاضي: أنه يشترط مجاوزة البساتين والمزارع التي حول البلد المضافة إليها؛ لأن العادة أن يتردد [أهل البلد إلى هذه] البقاع على زيهم وهيئتهم؛ فيعتبر الحصول في موضع يقصد بغير الزي والهيئة عند قصد الخروج إليه؛ حتى يجعل مخالفاً للمقيمين.
الرابع: أنه لا يشترط مفارقة المقابر المتصلة بالبلد، وهو الذي يقتضيه إطلاق الجمهور.
وقال الرافعي: إنه رأى في بعض التعاليق المروروذية: اشتراط مجاوزتها.
فرع: القرية- فيما ذكرناه عند العراقيين - كالبلد الذي لا سور له؛ صرح به المحاملي وغيره.
وفي "الوسيط": أنه لابد من مفارقة بساتين القرية ومزارعها المحوطة، وما ذكره في البساتين هو الذي ذكره القاضي الحسين والإمام، إذا كانت بقرب العمران؛ لأنها معدودة من القرى، بخلاف بساتين البلد.
[قال القاضي]: وكذا يشترط فيها مفارقة المقابر، وبه جزم في "التهذيب".
وما ذكره الغزالي في المزارع لم ينقله الإمام، بل ادعى أنه لا يشترط مفارقة المزارع اتفاقاً، ولم أقف في كلام غيره على ما يخالفه.
نعم: قال: لو كانت بساتينها غير محوطة [على هيئة] المزارع أو مزارعها محوطة؛ فلا يشترط - عندي- مجاوزتها، وقد يتردد الناظر في ذلك، والوجه -عندي -: القطع بما ذكرته.
ولو كانت قريتان متجاورتين، فلا يشترط مجاوزتهما؛ إن كان بينهما فرجة، [ولو اتصل] بناؤهما؛ فلابد من مجاوزتهما؛ كذا جزم به أبو الطيب، وغيره، وهو في الثانية المنصوص؛ لأنهما في الصورة كالبلد الواحد.
وقال أبو العباس: إذا قرب ما بينهما كانتا في حكم المتصلتي البناء؛ لأن أهل كل قرية يترددون إلى الأخرى من غير تغيير زي، فكانتا كالقرية الواحدة.
قال الإمام: فعلى هذا: فلعل الوجه في القرب أن يكون مثل ما يقع بين محلتين متواليتين في بلدة.
وأبعد من قول ابن سريج قول من قال من أصحابنا: إنه يجوز القصر عند مجاوزته بناء قريته، وإن اتصلت أبنيتهما؛ كما ستعرفه في باب صلاة الجمعة.
وادعى في "الوسيط" هنا أنه القياس [من أجل] قول الإمام: إن للاحتمال فيه مجالاً [بيناً].
والفرق بين ما نحن فيه والمحال في البلدة أن المحال تعزى إلى بلدة، وخطتها شاملة لها، وها هنا القرية منفصلة عن القرية باسمها وحدودها؛ والدليل عليه: أنا لو فرضنا قرى كثيرة متصلة تمتد خطتها مراحل؛ فيلزم على قياسهم ألا يستيبح الخارج من أقصاها الترخص ما لم يخرج عن جميعها، وهذا بعيد جدّاً، والمذهب الأول.
ولو جمع القرى المتفاصلة سور، فلا يشترط في القصر [في الواحدة منها] مجاوزة السور، وكذا لو قدر في بلدتين متقابلتين؛ صرح به الرافعي.
فرع: إذا لبث في ظاهر البلد في موضع لو كان فيه سائراً لقصر، ينتظر الرفقة؛ فهل له أن يقصر؟ نظر:
إن نوى أنهم [إن] لم يجتمعوا قبل أربعة أيام سافر، فله القصر مدة مقامه، وإن قصد الإقامة حتى يجتمعوا، ولم ينو ذلك، لم يقصر حتى يجتمعوا؛ قاله في "المهذب"، وغيره، ويحكى عن نصه في "البويطي".
قال: أو خيام قومه، أي: الذين يرحلون برحلته، أو يرحل برحلتهم؛ إن كان من أهل الخيام؛ لأن الخيام في حق أهلها كالدور في البلد.
وعن ابن سريج حكاية وجه: أنه يكفيه مفارقة خيمته خاصة.
والمذهب الأول.
وقد اقتضى كلام الشيخ أنه لا فرق في اشتراط مفارقة خيام قومه بين أن تكون مجتمعة أو متفرقة، وبه صرح في "الحاوي" إذا كان كل قوم [يتميزون بمحلة،] وحكاه الروياني في "تلخيصه" عن النص، وقل فيما إذا كانت الخيام غير متميزة، ولم تتميز البطون: فإن اتصلت؛ فلا بد من مفارقة جميعها؛ نص عليه في "الأم"، وإن تفرقت قصر، إذا فارق ما يقارب خيمته، وهذا ما أورده في "المهذب".
والمراد بالتفرق: أن يكون بحيث لا يستعير بعضهم من بعض في العادة؛
صرح به في "الوسيط".
وقد اعتبر المراوزة مع مجاوزة الخيام مفارقة موضع مرتفقهم، مثل: مطرح الرماد، وملقى السماد، ومتحدثهم – وهو المسمى بالنادي- ومعاطن الإبل، ومجتمع البهائم، وملعب الصبيان، وإن نزلوا على ماء، أو محتطب، فلابد من مجاوزته، إلا أن يتسع بحيث لا يختص بالنازلين، وهذا إذا كانت الخيام في مستو من الأرض، فلو كانت في واد، فقد قال في "الأم":"إن كان السفر في طوله؛ فلا يشترط الخروج من الوادي، وإن كان السفر في عرضه؛ فلابد من جدعه"، أي: قطعه.
قال الماوردي والقاضي أبو الطيب في تعليقه: وقد اختلف الأصحاب في تأويل قوله: "في العرض":
فمنهم من قال: أراد إذا كانت الخيام قد استوعبت جميع عرض الوادي، وأنه لا يصير خارجاً عن المحلة حتى يقطعه، ويصير في الجانب الآخر، أما إذا لم تستوعبه، فيكفيه مجاوزة الخيام؛ وهذا ما حكاه البندنيجي، والإمام والروياني في "تلخيصه".
ومنهم من قال: [إنما قال] هذا لأن عرض الوادي كالحائط للمحلة؛ لأنه يمنع الاستطراق إليهم، وقد ثبت أنه لا يجوز للقروي أن يقصر حتى يجاوز حائط البلد، كذلك لا يجوز للبدوي حتى يجاوز عرض الوادي؛ لأنه بمنزلة الحائط، وهذا [ما عزاه الماوردي إلى البصريين من أصحابنا، وكلام ابن الصباغ في حكاية ذلك] عن القاضي أبي الطيب يشعر بأن القاضي صار إلى ذلك من عند نفسه، وعليه جرى الرافعي.
وإن كان القوم على ربوة؛ فلا بد من الهبوط منها، ولو كان الشخص لا خيمة له، بل يأوي إلى بقعة من البر، فلابد من مجاوزة ذلك [الموضع]؛ نص عليه.
ولو كان سفره في البحر [و] الساحل متصل بالبلد، قال في "التهذيب": فلا
يقصر حتى يركب السفينة، وتجري، ولو كانت السفينة كبيرة لا تتصل بالساحل، وينقل المتاع بالزوارق؛ فله أن يقصر في الزورق.
وقد ظهر [لك] مما ذكرناه أن الشيخ احترز بقوله: "إذا فارق بنيان البلد، أو خيام قومه" عن أمرين:
أحدهما: ما إذا نوى السفر، ولم يفارق ذلك.
والثاني: ما إذا فارق منزله، ولم يفارق ذلك.
وقد قال بجواز القصر في كل من الحالين بعض العلماء، وممن نسب إليه الجواز في الحالة الأولى الإمام مالك؛ كما حكاه الروياني في "تلخيصه"، والماوردي نسبه إلى عطاء، والأسود، والحارث بن [أبي] ربيعة، وقال: إنهم قالوا: لما صار مقيماً بمجرد النية، [من غير فعل، [وجب أن] يصير مسافراً بمجرد النية].
وفي "الحاوي": أنه لا فرق بينهما؛ فإن الإقامة [إنما تحصل إذا اقترنت بفعل، وهو المكث في المكان، حتى لو نوى الإقامة] وهو ماش، أو سائر، أو راكب في سفينة- كانت نيته لغواً، وجاز له القصر حتى ينوي الإقامة مع اليث، وهو ما حكاه البندنيجي أيضاً، والبغوي وشيخه.
وغيرهم فرقوا بأن الأصل في الإنسان الإقامة؛ ولذلك عاد إليها بمجرد النية، والسفر عارض لا يثبت حكمه إلا بوجود فعل السفر، ونظيره مال القنية لا يصير للتجارة بالنية حتى ينضم إليها التصرف، وينقطع حكم التجارة بمجرد نية القنية؛ لأنها الأصل.
تنبيه: الخيام- بكسر الخاء- جمع "خيم" بفتح الخاء، وإسكان الياء؛ ككلب وكلاب، وواحد "الخيم": خيمة؛ كتمر وتمرة؛ حكاه الواحدي.
وقال أهل اللغة: لا تكون الخيمة من ثياب، وصوف، ووبر، وشعر، ولا تكون إلا من أربعة أعواد، ثم تسقف بالثُّمام، وإنما يسمى المتخذ من صوف، ووبر، وشعر: خباء، وهذا مراده المصنف، ولكنه مجاز.
قال: والأفضل ألا يقصر إلا في سفر يبلغ مسيرة ثلاثة أيام؛ لأن أبا حنيفة، والحسن بن صالح [و] الثوري، وعبد الله بن مسعود [وسويد] بن غفلة قالوا: لا يجوز القصر في أقل من ذلك؛ لقوله عليه السلام: "يمسح المسافر على خفة ثلاثة أيام" ولا يمكن [للمسافر أن يمسح] ذلك إلا إن كان سفره ثلاثة أيام.
وقوله عليه السلام: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر ثلاثة أيام إلا ومعها ذو محرم لها".
ولأن الثلاثة أقل الكثير، وأكثر القليل، ولا يجوز له القصر في قليل السفر؛ فوجب أن يكون أقل الكثير، وهو ثلاثة حدّاً له؛ فاستحب الشافعي ألا يقصر المرء في أقل من هذه المدة؛ للخروج من خلافهم، ولفظه المحكي في "المختصر":"فأما أنا فأحب ألا [أقصر في] أقل من ثلاثة أيام؛ احتياطاً على نفسي".
قال القاضي أبو الطيب: وهذا كقوله: "إذا مرض الإمام، فإنه يصلي قاعداً، والناس قياماً خلفه، والأفضل له أن يستخلف من يصلي بهم حتى يخرج من الخلاف"، [وكقوله:"إذا حلف، فالأفضل ألا يكفر بالمال إلا بعد الحنث [حتى يخرج] من الخلاف"،] ومثله قوله في الزكاة، بعد أن بين مذهبه في أن
الواجب في المعدن يختص بالذهب [و] الفضة، ولا يزيد على ربع العشر، وفي الركاز [يخمس الذهب والفضة]-:"ولو كنت أنا الواجد، لخمست القليل والكثير، والذهب والفضة وغيرهما، ولو فخارة".
وإنما لم يشترط الشافعي مجاوزة الثلاث؛ لما تقدم من الأدلة.
قال القاضي الحسين: ولأن ما اعتبرناه لا يتفاوت في البر والبحر، كان الطريق سهلاً أو حزناً، وكان أولى مما اعتبروه؛ لأن ذلك يختلف بالصعود والهبوط والخشونة؛ فلا يمكنه أن يسير معها [الشخص] أكثر من عشرة فراسخ، ومع السهولة يسير أكثر من ذلك، وكذا في سفر البحر.
والخبر الأول يمكن العمل به وإن كانت المسافة ما ذكرناه؛ بأن يقطعها الشخص في ثلاثة أيام، على أن المراد به: بيان مدة المسح لا بيان مدة السفر، ألا ترى إلى قوله فيه:"ويمسح المقيم يوماً وليلة"، وأقل الإقامة عندنا أربعة أيام، وعندهم خمسة عشر يوماً [وليلة؟!].
والخبر الثاني [قد] روي بألفاظ مختلفة: روي: "ثلاثة أيام"، وروي "يوماً وليلة"، [وروى:"ليلتين"،] وروي:"بريداً"، وإذا اختلفت ألفاظهم وجب التوقف [في العمل به] إلى أن نتبين الصحيح منها.
و [لأنه] إنما نص على الثلاث؛ لأن الغالب الخوف فيها.
وأما قولهم: إن الثلاثة أقل الكثير
…
إلى آخره، فلا يصح؛ لأن الثلاثة تعتبر في الشرع بحكم ما دونها، [لا بحكم ما فوقها كشرط الخيار، وحد المقام، واستتابة المرتد؛ فاقتضى أن يعتبرها في السفر [بحكم ما] دونها]، ونحن كذلك نقول.
وقد اقتضى كلام جمع من الأئمة: أن أبا حنيفة يعتبر المسافة بالأيام، كماتقدم.
والماوردي وغيره حكوا عنه أنه اعتبرها بأربعة وعشرين فرسخاً،
وحينئذٍ فيكون مراده بالأيام الثلاثة- على رأي الأولين- معظم النهار دون الليل؛ كما قلنا: إن الشافعي أطلق الليلتين، وأراد أن يكون بينهما نهار، لكن ما ذكر من الأدلة يقتضي اعتبار الثلاث ليلاً ونهاراً والله أعلمز
فرع: لو قصر المسافر فيما دون ذلك، كان مكروهاً، صرح به الماوردي في كتاب "الرضاع" في أثناء مسألة: هي وطء المخلوقة من ماء الزاني.
قال: فإذا بلغ سفره ذلك، كان القصر أفضل من الإتمام، لقوله- عليه السلام:"خير عباد الله الذين إذا سافروا قصروا".
ولأنه – عليه السلام – كان يداوم على القصر، ولا يداوم إلا على الأفضل.
ولأن القصر متفق عليه، والإتمام مختلف فيه؛ فإن القائلين بأن القصر عزيمة لا يجوّزون الإتمام، ويقولون: إذا أتم ما يقصر فسد، وفعل ما يسقط الفرض بالاتفاق أولى.
وهذا ما نص عليه في كتاب "الإمامة"، كما قال أبو الطيب، ولفظه في "المختصر": وأكره ترك القصر رغبة عن السنة. واعترض ابن داود عليه؛ فقال: الرغبة عن السنة كفر. وأجيب بجوابين:
أحدهما: أن لفظ الشافعي في "الأم": والقصر سنة، [و] أكره تركه. وإنما المزني [غير العبارة].
والثاني: على [تقدير صحة] ما قاله المزني: أنه أراد به من تركه في حال الأمن؛ عدولاً عن العمل بخبر الواحد، والأخذ بظاهر القرآن في اشتراط الخوف، وأراد به من تركه رغبة عن الرخصة الثابتة بالسنة، وأخذاً بما ثبت عنده بالتواتر والإجماع؛ فإن من اعتقد ذلك [لا] يكفر.
وقد حكي عن الشافعي قول آخر، نقله المزني في "جامعة الكبير" واختاره، [وكذا كثير من الأصحاب اختاروه] أيضاً، [كما قاله] الماوردي: أن الإتمام [أفضل؛ لأن القصر رخصة من رخص السفر، فإذا تركها وعدل إلى الأصل كان أفضل، أصله المسح على الخفين، وفطر رمضان إذا كان لا يجهده الصوم؛ ولأن الإتمام] أكثر عملاً، وما كان أكثر عملاً كان أكثر أجراً.
قال ابن الصباغ: وهذا القول أخذ من قوله في باب الإمامة: ويؤجر المسافرون على الجماعة، وإتمامهم الصلاة، وأراد: إذا قدموا مقيماً صلى بهم. وهذا منه يدل على أن الإتمام أفضل. وقد حكيت ذلك عن غيره في باب صفة الأئمة.
وقد حصل في المسألة قولان، والصحيح- عند الجمهور- الأول، وعن الصيدلاني القطع به.
والمسح على الخف موافق لما صرنا إليه في القصر؛ فإن غسل الرجل متفق على إجزائه، والمسح [في المعنى] مختلف فيه؛ فكان غسل الرجل أولى.
والفرق بين القصر والفطر في رمضان: أن في الفطر تغريراً بالعبادة؛ فإنه لا يدري
أيعيش حتى يقضيه [بنفسه]، أو لا، وليس كذلك القصر؛ فإنه به تبرأ الذمة؛ ولأن [في] القصر حيازة فضيلة الرخصة، [وفضيلة فعله العبادة في وقتها، والمفطر في رمضان، وإن حصل فضيلة الرخصة]، لكنه فوت فضيلة الوقت.
وقد أتى بعضهم بفرق شامل بين ما نحن فيه، وبين المسح والفطر، وهو أن الماسح والمفطر لم يأت [أحد منهما] في محل الرخصة بشيء من الأصل، بخلاف المقصر؛ فإنه أتى بشيء منه.
فإن قيل: قد ذهب أهل الظاهر إلى عدم صحة الصوم في السفر، [وقياس ما ذكرتم: أن يكون الفطر أفضل.
قلنا: قد قال الصيدلاني بأنه قول للشافعي؛ ولأجله جعل في الفطر قولين، وإن جزم في الصلاة بأن القصر أفضل].
وقياس المأخذ الذي ذكرناه: استواء الفطر والقصر، وقد حكاه صاحب "الفروع" وجهاً للأصحاب؛ كما قاله في "الزوائد".
والصحيح: الطريقة الأولى؛ فإن المحققين من علماء الشريعة لا يقيمون لمذهب أهل الظاهر وزناً، كذا قاله الإمام، وفيه نظر؛ فإن القاضي الحسين نقل عن الشافعي أنه قال في الكتابة: وإني لا أمتنع عن كتابة عبد جمع القوة والأمانة، وإنا استحبه للخروج من الخلاف؛ فإن داود يوجب كتابة من جمع القوة على الكسب والأمانة من العبيد. وداود من أهل الظاهر، وقد أقام الشافعي لخلافه وزناً، واستحب كتابة من ذكره؛ لأجل خلافه.
نعم: الجواب الذي لا شك فيه ما أشار إليه القاضي: أن الشافعي إنما يستحب الخروج من الخلاف، إذا لم يكن [بسببه فاعلاً] محظوراً، أو مكروهاً عنده؛ لنص ورد في ذلك بعينه؛ ألا ترى أن مذهبه استحباب القصر في سفر الأمن وإن خالف فيه داود؛ لأنه – عليه السلام قصر وهو آمن. ولم يستحب قضاء صلاة الفرض خلف من يصليه أداء في جماعة؛ للخروج من الخلاف؛ لأنه ما عارضه شيء مما ذكرناه.
ثم قضية ما تقرر استحباب الإتمام للملاح الذي أهله وماله معه؛ فإن أحمد خالف في جواز القصر له، وإن وافق على جوازه للجمّال، وهو حجتنا عليه، وقد نص على استحباب الإتمام له الشافعي في "الأم" كما حكاه ابن الصباغ وغيره، وكذا قضية استحباب الإتمام لمن عادته السفر دائماً، وبه صرح صاحب "الفروع"، كما حكاه العمراني في "زوائده" وحينئذٍ تستثنى هاتان الصورتان من كلام الشيخ.
وقد يعرض ها هنا سؤال، فيقال: لم راعى الشافعي الخروج من خلاف أحمد وغيره في هاتين المسألتين، ولم يراع خلاف أبي حنيفة ومن معه فيهما؛ ولم يحضرني عن ذلك جواب، والله أعلم.
قال: وإن كان للبلد الذي يقصده طريقان، يقصر في أحدهما، ولا يقصر في الآخر، فسلك الأبعد لغير غرض-[أي: غير القصر]- لم يقصر في أحد القولين؛ لأنه طول الطريق على نفسه من غير غرض؛ فصار كما لو سلك الطريق القصير، وكان يذهب يميناً وشمالاً، ويطول على نفسه حتى بلغت المسافة مرحلتين؛ فإنه لا يترخص وفاقاً، وهذا ما نص عليه في "الأم"، واختاره أبو إسحاق.
قال: ويقصر في [القول] الآخر؛ لأنه سفر مباح تقصر الصلاة في مثله؛ فجاز له القصر، [كما لو] لم يكن له طريق سواه، وقصده الترخص غرض صحيح؛ فإن الله – تعالى- يحب أن تؤتي رخصه كما [يحب أن] تؤتي عزائمه، ويخالف المشي في المسافة طولاً وعرضاً؛ لأنه لا يصل به إلى محل قصده؛ وهذا ما نص عليه في "الإملاء"، واختاره المزني، وقد صححه الماوردي وتبعه في "المرشد".
لكن الجمهور على ترجيح الأول. وقول المنتصرين للثاني: إنه سفر مباح- ممنوع، بل هو محظور؛ لقوله – عليه السلام:"إن الله يبغض المشائين في الأرض من غير أرب"؛ كذا قاله القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما.
واستدل الصيدلاني على حظره بأن من كان يركض فرسه من غير غرض، ورياضة، ورعاية أدب معلوم- عاص بإيذاء دابته، وإذا كان كذلك، فلأن يكون عاصياً بإيذاء نفسه من غير غرض أولى.
وحكى الإمام والقاضي الحسين طريقة ثانية، حاملة للنصين على حالين؛ فحيث قال: يقصر، أراد [إذا كان له غرض ظاهر في سلوك أبعد الطريقين، وحيث قال: لا يقصر، أراد:] إذا لم يكن له غرض ظاهر.
ولا خلاف في أنه إذا سلك الأقرب: أنه لا يقصر، وفيما إذا سلك الأبعد؛
لغرض ظاهر مثل كونه أسهل، أو آمن، أو ليزور في ممره صديقاً، أو يحصل شيئاً، أو نحو ذلك- أنه له القصر.
نعم: لو كان الأطول نزهاً؛ فسلكه لأجل ذلك، فهل يعد من الأغراض حتى يقطع القول بجواز القصر له، أم لا؟ فيه تردد للشيخ أبي محمد، وأقامه في "الوسيط" وجهين. قال الإمام: ولعل الظاهر عدّه من الأغراض.
[قلت: وهو الموافق لما حكيناه من قبل عن العراقيين أن السفر لأجل النزهة فقط من الأسفار التي تبيح القصر، والله أعلم].
قال: وإن أحرم في البلد، أي: وما في معناها- ثم سافر، أو أحرم في السفر، ثم أقام، أو شك في ذلك؛ أي: شك [في] أنه أحرم في البلد، أو في السفر، أو شك: هل أقام في أثنائها أم لا؟ أو لم ينو القصر، أو ائتم بمقيم في جزء من صلاته، أو بمن لا يعرف أنه مسافر، أو مقيم- لزمه أن يتم.
هذا الفصل ينظم مسائل متفقة في الحكم، مختلف أكثرها في التعليل؛ فلنفرد كلاً منها؛ لتظهر بالتصوير، ثم نقيم عليها الدليل:
فالأولى: إذا أحرم في البلد، ثم سافر:
صورتها: أن يكون [في وسط] البلد الذي يقصد إنشاء السفر منه بحر، فيحرم بالصلاة في المركب قبل مفارقتها البلد، ثم يفارقها وهو بعد في الصلاة؛ كذا صوره ابن الصباغ وغيره.
وفي معناها: ما إذا كان بظاهر البلد الذي يقصد إنشاء السفر منه [بحر]؛ فأحرم بالصلاة في المركب قبل تسييرها، ثم سارت وهو بعد في الصلاة.
فإن قلت: هل نوى في الحالين القصر أو نوى الإتمام؟ فإن كان قد نوى الإتمام، أو أطلق [النية]، فالإتمام يلزمه؛ لأجل النية، لا لأجل أنه جمع فيها بين الحضر والسفر. وإن كان قد نوى القصر، فهو متلاعب؛ فلا يصح، وأيما كان امتنع التصوير.
قلت: يجوز أن تكون مصورة بما إذا نوى الإتمام، أو أطلق، ولا يمتنع أن يكون وقوعها في السفر والحضر مانعاً من إتمامها، وإن كانت نيته الإتمام، والنية المطلقة تلزمه الإتمام، وإن تمحضت الصلاة في السفر؛ لأن الشيء قد يمتنع لمعنى واحد، ويمتنع لمعنيين لو انفرد كل [واحد] منهما لرتب الحكم عليه.
وأيضاً: فإن المخالف في لزوم الإتمام [في هذه الحالة، غير المخالف فيما إذا تمحضت الصلاة في السفر، وقد نوى الإتمام وأطلق؛ فإن المزني يوافق على لزوم الإتمام فيما] إذا أحرم بها في البلد ثم سافر، ويخالف فيما إذا وقعت النية منه مطلقة في السفر - كما ستعرفه -[وكذا] فيما إذا نوى الإتمام في السفر، كما حكاه عنه الرافعى فقط.
وابن الصباغ وغيره اقتصروا على حكاية مخالفته في الأولى دون الثانية، وقالوا: إن المخالف في الثانية المزني.
وصرح القاضي أبو الطيب بأن مذهب المزني في الثانية لزوم الإتمام.
وإذا كان الأمر كذلك احتجنا إلى ذكر المسألتين - أعني: مسألة ما إذا أحرم في البلد، ثم سافر، وما إذا لم ينو القصر - لنقيم الدليل على كل واحدة منهما.
ويجوز أن تكون مصورة بما إذا نوى القصر ظاناً جوازه بمجرد نية القصر، أو مفارقة منزله دون مفارقة البلد، ومسير السفينة؛ فإن نية القصر في هذه الحالة غير مفسدة؛ للجهل.
ونظيره ما حكاه الإمام فيما إذا نوى القصر على اعتقاد أنه مسافر، ثم تبين أنه كان قد انتهى إلى الإقامة؛ فإن صلاته [صحيحة]، ويلزمه الإتمام، قال: ولست أعرف خلافاً في ذلك.
فإن قلت: هل يمكن أن تصور بما إذا نوى القصر، مع علمه بأنه لا يجوز
القصر في هذه الحالة؟
قلت: لا؛ لأن صاحب "العدة" قال: إن المسافر إذا جهل القصر، وقصر - لم تصح صلاته؛ لأنه متلاعب بالصلاة؛ فلم تصح، وهذا في الحاضر بطريق الأولى.
والرافعي حكى أن المقيم إذا نوى القصر لا تنعقد صلاته، وهذا قبل مجاوزة البلد مقيم عندنا، نعم: للإمام فيه احتمال؛ فإنه قال: إذا نوي، وهو عالم بأن السفينة في حد الإقامة فهو كمقيم ينوي القصر، ولو نوى -وهو مقيم- القصر احتمل أن يقال: يبطل أصل قصد الترخص، ويثبت أصل الإتمام؛ لما قررناه أن نية القصر تقتضي من طريق التضمن الإتمام. واحتمل أن يقال: نية القصر من المقيم تبطل صلاته؛ فإنه غير معذور في نيته بوجه، والذي جاء به نية فاسدة، وفساد النية بتضمن فساد الصلاة.
وهذه المسألة شييهة عندي بما لو نوى المتوضئ يوصوئه استباحة صلاة الظهر دون غيرها؛ ففي فساد نيته خلاف، ووجه الشبه: أن رفع الحدث إذا وقع التعرض له، فإنه لا يتبعض، فإذا قصد تبعيضه، فمن أئمتنا من أفسد النية، وقال: كأنه لم ينو أصلاً، ومنهم من حذف التخصيص من النية، والذي يجمع بين المسألتين: أنه لو نوى صلاة الظهر لم يحتج إلى ربط القصد بأربع ركعات، بل هي مرتبطة بها شرعاً؛ وكذلك من نوى الاستباحة بوضوئه، لو لم يعلق قصده بتعميم الإباحة صح وضوءه وجهاً واحداً، ولو نوى استباحة الظهر، ولم ينو غيره - صح وضوءه وعم بلا خلاف.
وما ذكره الإمام حسن، ولم يذكره الرافعي، بل اقتصر على حكاية الإبطال، وفرق بينه وبين إذا اقتدى المسافر بمن علمه مقيماً، أو ظنه، حيث قالوا: لا تبطل، وتلغى نية القصر-: بأن المقيم ليس من أهل القصر، والمسافر من أهله؛ فلا يضر فيه القصر؛ كما لو شرع في الصلاة بنية القصر، ثم نوى الإتمام، أو صار مقيماً.
وإذا تحرر تصوير المسألة، قلنا: إنما لزمه الإتمام؛ لأنها عبادة يختلف حكمها بالسفر والحضر، وقد اجتمعا فيها؛ فوجب أن يقدم حكم الحضر.
أصله: إذا أنشأ صوم رمضان في الحضر، ثم سافر بعد الفجر.
ولأنه إذا اجتمع في الصلاة الواحدة ما يوجب الأخذ بالأكثر، وما يوجب الأخذ بالأهل وجب الأخذ بالأقل؛ كما لو شك هل صلى ثلاثاً أو أربعاً.
واعلم: أنه يمكن أن يؤخذ من قول الشيخ: وإن أحرم في البلد، ثم سافر - لزوم الإتمام فيما إذا أحرم بالصلاة بنية الإتمام ثم فسدت صلاته، فأتى بها في السفر، وبه صرح الأصحاب لالتزامه السابق.
والمسألة الثانية: إذا أحرم في السفر، ثم أقام.
وهى مصورة بما إذا أحرم بها في سفينة، ثم وصلت إلى وطنه الذي عزم على الإقامة فيه وهو فيها، أو نوى الإقامة وقد وصلت السفينة إلى موضع يصلح للإقامة، وهو بعد في الصلاة.
ووجه لزوم الإتمام فيها: القياس على ما إذا قدم وهو صائم، لا يسوغ له الفطر.
فإن قيل: ألا قلتم: إن وجود الإقامة في أثناء الصلاة لا يوجب إتمامها؛ حيث صح القول فيها مقصورة؛ كما قلتم في المتيمم إذا رأى الماء في أثنائها؟
قال ابن الصباغ: قلنا: الفرق بينهما من وجهين:
أحدهما: أن المتيمم وجب عليه الدخول في الصلاة عند عدم الماء، والقصر رخصة لم تجب؛ فإذا زال سببها انقطعت.
والثاني: أن المتيمم لو وجب عليه استعمال الماء في أثنائها لبطل ما فعله في الماضي، وهاهنا يبني، وهذا ما ذكره الماوردي.
وقد ألحق الأصحاب بهذه المسألة ما إذا أحرم بالصلاة بنية القصر بعد مفارقة البلد؛ ثم رعف؛ فرجع إلى البنيان لغسل الدم فغسله، ثم مضى فيها، تفريعا على قولنا: إن سبق الحدث لا يبطل الصلاة، وعلى ذلك حملوا ما أطلقه الشافعي
في "الإملاء" من لزوم الإتمام، وقالوا: إذا قلنا بقوله الجديد: إن سبق الحدث يبطل الصلاة؛ فإن استأنفها في البلد أتم، وإن أوقعها في السفر بعد خروجه، فله القصر؛ كذا حكاه العراقيون.
ويجيء فيه على طريق المراوزة شيء آخر يحتاج إلى ذكر مسألة مقصودة في نفسها، وهي: إذا خرج المسافر ووصل إلى موضع يجوز له فيه القصر؛ فعاد إلى الموضع الذي خرج منه؛ لأخذ شيء نسيه، فهل له أن يقصر في رجوعه، وفي البلد الذي خرج منه أو لا يقصر حتى يفارق بنيان البلد، كما تقدم؟
قالوا: ينظر: فإن كان ذلك البلد وطنه، فلا يقصر ذاهباً إليه، ولا فيه.
وإن كان غريباً لم ينو الإقامة فيه أربعة أيام غير يوم الدخول ويوم الخروج، فله القصر [ذاهباً إليه وفيه.
وإن كان قد أقام به أكثر من ذلك، فهل له القصر] في ذهابه إليه وفيه أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا، وهو ما ذكره في "التهذيب".
والثاني: نعم، وهو الأصح في "النهاية"، ولم يحك الروياني في "تلخيصه"، والمتولي وأبو الطيب غيره؛ لأن البلد لم تكن وطنه، ولكن أقام بها، ثم أقلع عنها؛ فصارت البلد في حقه كسائر المنازل.
وحكى الرافعي عن صاحب "العدة" رواية وجه: أن له أن يقصر في طريقه [ذاهباً وجائياً] ما لم يدخل البلد، [فإذا دخل لا يقصر.
والعراقيون أطلقوا القول بأنه لا يقصر إذا عاد إلى البلد]، [وهذا يحتمل أن يريدوا: في الطريق والبلد، ويحتمل أن] يكون مرادهم: في البلد فقط، وهو الأظهر. ويدل على ذلك: أن الروياني في "تلخيصه" قال: إن الشافعي نص في "الإملاء" على أنه إذا خرج مسافراً، ثم ذكر شيئاً نسيه في منزله، فعاد إلى بلده؛ لأجل ذلك الشيء- لم يكن له أن يقصر؛ لأنه صار مقيماً بعوده. وإنه نص في "البويطي" على أنه إذا رجع واحد ممن له القصر إلى منزلة في حاجة، فحضرته
الصلاة ذاهباً وجائياً- قصر، وهذا ما أورده البندنيجي في "تعليقه".
قال الروياني: وليست المسألة على قولين: فالذي قال: لا يقصر، أراد: إذا حصل في جوف البلد، والذي قال: يقصر، أراد: إذا كان في الطريق، وليس في شيء من البلد.
فإذا عرفت ذلك، قلنا في مسألة الرعاف: إن كان البلد وطنه، فالحكم كما ذكره العراقيون، وإن كان غريباً فيه لم ينو الإقامة، فلا يلزمه الإتمام، سواء أوقع الصلاة في البلد أو في الطريق.
وإن كان قد نوى الإقامة فيه أربعة أيام، فإن قلنا: إنه لا يقصر فيه، كان كما لو كان وطنه وإن قلنا: يقصر فيه، كان كما لو كان غريباً فيه. هذا قياس [مذهبهم]؛ فتأمله، والله أعلم.
أما إذا وصل في أثناء الصلاة [إلى مقصده ووطنه الذي عزم على الخروج منه قبل استكمال أربعة أيام- فعن القفال في انقطاع سفره حكاية قولين، ستعرف مثلهما فيما بعد.
قال الرافعي: والمشهور أنه يصير مقيماً بنفس الدخول بلا خلاف، ولذلك قطعوا فيما إذا رجع إلى وطنه [لأخذ شيء نسيه: أنه لا يقصر.
قلت: والوجه: التفصيل:
فإن كان بين وطنه] وبين مقصده دون مسافة القصر فما قاله الرافعي من الاستشهاد صحيح.
وإن كان بينهما مسافة القصر، فالفرق بين ما ذكره القفال وبين ما التزمه ظاهر؛ لأنه بعوده إلى وطنه رافض لقصده الأول، وليس ما قصده مما تقصر إليه الصلاة، ولا كذلك في مسألة القفال.
ثم إذا قلنا بالمشهور؛ فلو كان وصوله] إلى مقصده ووطنه غيره؛ فقضية كلام الماوردي: أن الحكم كما لو وصل إلى وطنه؛ لأنه جزم القول بأنه إذا وصل إلى مقصده انقطع ترخصه، نوى الإقامة [فيه أو لا.
وغيره قال: إن كان قد نوى الإقامة] في المقصد أربعة أيام غير يوم الدخول ويوم الخروج – أتم فيه.
وقياسه: أنه إذا أراد وصل إليه في أثناء الصلاة يتم.
وإن كان قد نوى [إقامة] دون ذلك فله القصر فيه.
وقياس هذا: أنه إذا وصل إليه في أثناء الصلاة لا يلزمه الإتمام، والله أعلم.
ولو نوى المقام في موضع لا يصلح للإقامة، فسيأتي الكلام فيه إن شاء الله.
والمسألة الثالثة: إذا شك في ذلك.
وهي تشمل حالين، وصورتهما تقدمت، وإنما لزمه الإتمام فيهما؛ لأنه شك هل يجوز له الاقتصار على ركعتين، أو يلزمه الأربع؛ والأصل لزوم الأربع.
والمسألة الرابعة: إذا لم ينو القصر- أي: بل أطلق النية-[يلزمه الإتمام؛ لأنه الأصل، فإذا أطلق النية] انصرفت إليه.
وقال المزني: لا يلزمه؛ لأن المعهود المعروف في حق المسافر الصلاة المقصورة، فإذا أطلق النية انصرفت إلى المعهود؛ كذا حكاه عنه أبو الطيب.
وفي "الحاوي" أنه [قال:] لا يفتقر إلى نية القصر مع الإحرام، بل يكفيه أن يسلم ناوياً القصر، وإن سلم غير ناوٍ له كان كمن سلم ساهياً. ووجه بأن القصر رخصة، والرخص في الأصول لا تفتقر إلى النية مع أول العبادة، ألا ترى أنه لو نوى الطهارة عند غسل الوجه كان له المسح على الخفين، وإن لم تتقدم النية؟!
قال الماوردي: وهذا غلط؛ لأنا متفقون على وجوب النية، وإنما الخلاف في محلها، وكل صلاة افتقرت إلى نية كان محل تلك النية فيها الإحرام كنية الصلاة.
ولأنها مقصورة من أربع إلى ركعتين؛ فوجب أن يكون الشرط في أثنائها موجوداً في ابتدائها؛ كالجمعة.
وقد أفهم ما ذكرناه من لزوم الإتمام عند الإطلاق لزومه عند نية الإتمام من طريق الأولى، وقد نقل عن المزني المخالفة فيه أيضاً، والمشهور موافقته عليه،
ونسبة ذلك إلى المغربي، وهو مقيس على ما إذا نوى القصر، ثم الإتمام، وعلى ما لو نوى المسافر الصوم، ثم عن له أن يفطر.
وأصحابنا فرقوا بين نية القصر، ونية الإتمام بأنه إذا نوى القصر، ثم الإتمام-[انتقل من الأدنى إلى الأعلى، ولا كذلك إذا نوى الإتمام ثم القصر؛ فإنه] انتقل من الأعلى إلى الأدنى، وصار هذا كمن عليه كفارة، وهو من أهل الصوم، فأراد الانتقال إلى العتق- يجوز، ولو كان من أهل العتق، فأراد التكفير بالصوم: لا يجوز.
وكذا من وجب له القصاص، فعفا عن الدية إلى القصاص يجوز له أن يعفو عن القصاص إلى الدية، ولو عفا عن القصاص إلى الدية لم يجز له أن يرجع إلى القصاص.
وفرقوا بين القصر والفطر بأن: الفطر مضمون بالقضاء؛ فلم ينحتم عليه الصوم بدخوله فيه، والقصر لا يضمن بالقضاء؛ فانحتم عليه الإتمام بدخوله فيه.
ثم اعلم أن كلام الشيخ لو أجري على ظاهره لانتظم حالة نية الإطلاق، وحالة نية الإتمام، وحالة ثالثة، وهي: إذا نوى الظهر أو العصر أو العشاء ركعتين، ولم يخطر له الترخص بالقصر، وقد قال الإمام: إنه لا نقل فيها، ويظهر أن يقال: إن صدر ذلك ممن يعلم القصر، ولم يتعرض للترخص ولا كيفيته، فهو محمول على الصحة، وهو الترخص بعينه، ولو صدر ذلك من حديث عهد بالإسلام الذي لم تبلغه رخصة القصر، وظن أنها كصلاة الصبح- ففي نيته شيء؛ فإن صلاة الظهر أصلها أربع، وإنما يقع الاقتصار على ركعتين ترخصا، وهذا ما قصد الترخص.
وفي "الرافعي": أنه إذا كان يجهل القصر وقصره، لم يجزئه؛ لأنه عابث في اعتقاده غير مصلّ، وأن ذلك يحكى عن نصه في "الأم".
ولو صدر الاقتصار على نية الركعتين ممنن علم بالرخصة، لكنه لم يجدد ذكره، وإنما اعتمد نفي الترخص، وجزم النية في ركعتين- قال: الإمام: فهذا فيه احتمال.
والذي أراه: أن المقيم لو نوى الظهر ركعتين، ولم ينو الترخص – ينبغي أن
تبطل صلاته، وإنما الاحتمال السابق فيما إذا نوى الترخص بالقصر.
فرع: إذا شك هل نوى القصر، أو لا؟ [ثم بان [أنه لم] ينو القصر]- لزمه الإتمام، وإن لم يمض ركن في حال شكه، وهذا بخلاف ما إذا شك هل نوى أو لا؟ ثم ظهر أنه كان قد نوى قبل أن يمضي ركن من صلاته- فإن صلاته صحيحة.
والفرق: أنه حالة شكه في القصر، لزمه الإتمام في تلك الحالة، وإن خفت، وإذا لزمه الإتمام في بعض الصلاة، لزمه في جميعها؛ فإنه قد اعتد بتلك اللحظة من حساب الإتمام؛ فلا يتبعض الأمر، وإذا كان الشك في أصل النية، فلا يعتد بتلك اللحظة، وهي غير مفسدة للصلاة؛ لأنه إذا تذكر، فالباقي من الركن كاف، وذلك الشك محطوط غير معتدّ به؛ كذا قاله الإمام، وأرشق منه قول القاضي الحسين: إن الشك في الصورتين غير محسوب عما شك فيه، [إلا أن في مسألة القصر، إذا لم يكن محسوباً عما شك فيه فيكون ملتزماً للإتمام؛ فيلزمه، وفي النية زمان الشك غير محسوب عما شك فيه،] إلا أن ذلك المقدار لو تعمده في صلاته، لم يبطلها؛ فجعلناه كأنه عمل عمداً ليس من الصلاة.
قال الرافعي: ولو تردد: هل ينوي الإتمام أو يتم على نية القصر، لزمه الإتمام- أيضاً، نعم: لو قام إلى ثالثة ناسياً، وأتم الصلاة، ثم تذكر في التشهد أنه نوى القصر، قال الشافعي في "الأم": يسجد سجدتي السهو، ولو أراد أن يتمها، قال الغزالي: لزمه أن يقوم، ويأتي بركعتين، ولو كان التذكر في حال قيامه، وأراد الإتمام، قال في "التهذيب": لزمه أن يقعد، ثم يقوم، ويأتي بركعتين.
وقيل: له أن يمضي قائماً.
ولو أراد الاقتصار على ما مضى، جلس، وتشهد، وسجد سجدتي السهو.
قال القاضي أبو الطيب وغيره: ولا نظير لهذه المسألة؛ لأن سجود السهو يكون في الموضع الذي إذا عمد للزيادة، بطلت صلاته؛ فإذا أتى بها ناسياً،
سجد للسهو، وهذا الإتمام إذا أتى به عامداً لا تبطل [صلاته]، ثم قال: إذا أتى به ناسياً، يسجد للسهو.
قلت: بل هذه المسألة ماشية على القاعدة المذكورة؛ فإنه لو تعمد الإتمام من غير نية، بطلت صلاته؛ كما صرح به القاضي الحسين، والفوراني، والإمام، والرافعي، وإنما الذي لا يبطل الإتمام بعد نيته، والله أعلم.
والمسألة الخامسة: إذا ائتم بمقيم في جزء من صلاته، يلزمه الإتمام؛ لقول ابن عباس: إن صلينا معكم صلينا أربعاً، وإن صلينا في بيوتنا صلينا ركعتين؛ ذلك سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم. أخرجه الإمام أحمد في مسنده، وفي الصحيحين عن ابن عمر نحوه، وروي أن ابن عباس سئل: ما بال المسافر يصلي ركعتين إذا انفرد، وأربعاً إذا ائتم بمقيم؟ فقال: تلك السنة. والمفهوم: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم هذا اللفظ من الشيخ يشمل صوتاً ثلاثاً: أن يحرم خلف مقيم، أو خلف مافر ثم ينوي إمامه الإقامة، أو يحدث؛ فيستحلف مقيماً، ويتبعه المأموم، وفي الكل يلزمه الإتمام؛ للخبر، ويقتضي أموراً:
أحدها: أنه لا فرق في ذلك بين أن يكون ما أحرم به ظهراً خلف من يصلي الظهر، أو خلف من يصلي الصبح، وهو المشهور في الطرق.
وفي "تعليق" القاضي الحسين حكاية وجهين فيما إذا صلى الظهر، أو العصر، أو العشاء ركعتين خلف من يصلي الصح قضاء: هل يقصر، أو يلزمه الإتمام؟ وقد حكاهما الرافعى أيضاً.
الثاني: أنه لا فرق بين أن يأتم به فيما هو مقصور في حقه أو لا، كما إذا
ائتم بمقيم يصلي الجمعة، ونوى هو الظهر قصراً، وقلنا: إن الجمعة ظهر مقصور، [وهو الذي حكاه العراقيون.
وقال الفوراني والمتولي: إذا قلنا: إن الجمعة ظهر مقصور]، لا يلزم المقتدي به الإتمام، وإن قلنا: إنها صلاة مستقلة بنفسها، [فيلزمه أن يتم.
وقال القاضي الحسين وغيره: إن قلنا: إنها ظهر مقصور، لا يلزمه الإتمام، وإن قلنا: إنها صلاة مستقلة بنفسها،] فهل يلزمه الإتمام؟ فيه الوجهان فيما إذا أحرم بالظهر خلف من يصلي الصبح، والحكم فيما لو كان [الإمام في الجمعة مسافراً، وصححنا إمامته، كالحكم فيما لو كان] مقيماً؛ لأن الجمعة فرض الحضر.
نعم: قال الشيخ أبو حامد في هذه الصورة: إذا قلنا: إن الجمعة ظهر مقصور، لم يلزمه الإتمام. قال ابن الصباغ: وليس بشيء، والمنصوص عليه في "الإملاء": أنه يلزمه، حكاه الماوردي.
الثالث: أنه لا فرق في ذلك بين أن تتم صلاة الإمام والمأموم على الصحة، أو تفسد، والأمر كذلك؛ للخبر، ولأنها صلاة تعينت عليه تامة، فإذا أفسدها، لزمه قضاؤها تامة، كما إذا أحرم بها في الحضر، ثم أفسدها؛ فإنه يقضيها تامة، ولأن العبادة إذا وجبت بالدخول فيها، لا يسقط قضاؤها بإفسادها إذا أمكن قضاؤها، كالحج إذا تبرع به ثم أفسده.
الرابع: أنه لا فرق في ذلك بين أن يكون الإمام متطهراً أو محدثاً؛ لأن القدوة بالمحدث في غير الجمعة صحيحة، وبه صرح الإمام والقاضي الحسين؛ لأن خوضه في الصلاة صحيح، وقد خاض خوضاً موجبه الإتمام؛ فلا نظر إلى فساد صلاة الإمام، وهكذا الحكم فيما لو اقتدى بمن ظنه مسافراً، فبان مقيماً محدثاً، فإن ظهر للمأموم كونه مقيماً قبل ظهور حدثه، لزمه الإتمام وجهاً واحداً، وإن بان له الأمران معاً، أو بان له كونه محدثاً أولاً- ففي لزوم الإتمام وجهان:
يحكي أحدهما عن صاحب "التلخيص"، ولم يورد جماعة سواه: أنه لا يلزمه. قال الإمام: وتابعه عليه المحققون.
ومقابله: رواه الشيخ أبو علي في "الشرح" عن محمد.
قال الإمام: وكثير ما يحكي عن محمد، ولست أدري من يعني؟ ولست أعد ذلك من المذهب.
وفي "التتمة" بناء الوجهين على أن صلاة المؤتم بالمحدث تقع جماعة أو لا؟ فإن قلنا: تقع جماعة، لزمه الإتمام، وإلا فلا.
وقال في "الوسيط": إنهما ينبنيان على أن المسبوق: هل يصير مدركاً بالركوع إذا بان كون إمامه محدثاً؟ وفيه خلاف، ذكرته في باب هيئة الجمعة.
وقد شاحح بعضهم الشيخ في العبارة، فقال: لو [قال: أو] ائتم بمتمّ في جزء من صلاته- لكان أولى؛ لأنها تشمل المقيم والمسافر إذا أتم.
قلت: وليست بأولى؛ لوجهين:
أحدهما: أن هذه العبارة [لا] تقتضي لزوم الإتمام لكل من اقتدى بمقيم؛ فإن من ائتم في صلاة الظهر قصراً بمقيم يصلي الجمعة، يلزمه الإتمام.
قال القاضي أبو الطيب: ولا يقال: إنه اقتدى بمتم؛ لأن صلاة الجمعة أقل عدداً من الظهر.
وعبارة الشيخ تقتضي إدخاله؛ فقد صارت كل من العبارتين تدخل شيئاً لم تدخله الأخرى.
والثاني: أن عبارة الشيخ تقتضي أنه إذا اقتدى بمقيم محدث، يلزمه الإتمام، وهذه العبارة لا تقتضي ذلك؛ لأن من صلاته فاسدة لحدثه لا يقال: إنه متم؛ ولذلك كان له أن يصلي ما عليه- إذا كان مسافراً- قصراً، وإن كان قد نوى في الفاسدة الإتمام، ولو قيل: إنه يصدق عليه أنه اقتدى بمتم لزم منه أن يقال إذا اقتدى بمن ظنه مسافراً، فبان مقيماً محدثاً: إنه يلزمه الإتمام، لأنه مقتد بمتم، والصحيح: أنه لا يلزمه الإتمام، ولا يقال: إن الشيخ لو قال: أو ائتم بمصلِّ صلاة حاضر، لكان أولى؛ لأن هذه العبارة تدخل من صلى الظهر خلف من يصلي الجمعة؛ لأنا نقول: إن هذه العبارة إن سلمت من الوجه الأول الذي رددنا به ما تقدم لم تسلم من الوجه الثاني، والله أعلم.
والمسألة السادسة: إذا ائتم بمن لا يعرف أنه مسافر، أو مقيم- يلزمه أن يتم؛ لما ذكرناه في المسألة الثالثة، ولا فرق في ذلك بين أن يظهر له بعد ذلك أنه مقيم أو مسافر.
وحكى الإمام عن شيخه رواية قول عن الشافعي: أنه إذا بان له أنه مسافر قاصر، كان له أن يقصر، كما لو تردد في أن إمامه المسافر نوى القصر أو لا؟ ثم بان أنه قاصر؛ فإنه يقصر وفاقاً، وقد حكى ذلك بعد ذلك وجهاً عن رواية صاحب "التقريب"، ثم قالك ولست أعده من المذهب، والفرق بين التردد في نية الإمام وبين التردد في حاله: هل هو مسافر أو مقيم؟ أن النية لا يطلع عليها، مع أن الظاهر من حال المسافر نية القصر؛ لأن العاقل لا يظن به أنه يختار العمل الطويل مع قلة الأجر، على العمل القصير مع كثرة الأجر، ولا كذلك السفر والإقامة؛ فإن الإطلاع عليهما ممكن، والأصل: الإقامة ولزوم الإتمام، نعم: لو غلب على ظنه أن الشخص مسافر، جاز له نية القصر عند الاقتداء به، صرح به في "الحاوي".
وقد أفهم قول الشيخ: أنه لا يلزمه الإتمام عند الاقتداء بمن عرفه مسافراً، وهو مما لا خلاف فيه، نعم، اختلف الأصحاب في كيفية نيته:[فمنهم من قال: ينوي القصر،] ومنهم من قال: ينوي القصر إن قصر إمامه، والإتمام إن أتم؛ لأن هذا مقتضى نيته فلا يضره عقدها كذلك، وهذا ما حكاه القاضي الحسين، وهو الأصح في الرافعي، والقائل به يجوّز الجزم بالقصر؛ ولذلك قال في "الحاوي": إن كلا الأمرين جائز، والقائل بالأول لا يجوز الثاني، ثم له بعد الاقتداء بالمسافر ثلاث أحوال:
إحداها: أن يراه يتم الصلاة.
والثانية: أن يراه قصرها.
وفي هاتين الحالتين حكمه حكمه.
والثالثة: أن يحدث، وينصرف، فإن أخبره أنه أتم أو قصر، وصدقه- عمل بمقتضى قوله، وإن لم يصدقه، فسيأتي حكمه.
ولو رآه توضأ، وعاد، فصلى ركعتين أو أربعاً- كان حكمه حكم ما لو علمه قصر أو أتم، قاله البندنيجي.
[وإن لم يخبره بشيء، ولم يعد، وأشكل عليه أمره، فعند ابن سريج: يقصر، وعند أبي إسحاق: يتم].
وادعى الماوردي أن الثاني هو مذهب الشافعي ومنصوصه، وأن به قال عامة أصحابنا، واقتصر القاضي الحسين على إيراده، وقد وافق ابن سريج على المحدث لو كان هو المأموم، فانصرف ولم يعلم حال إمامه- أنه يلزمه الإتمام؛ لأنه كان يمكنه الإطلاع على حال الإمام في القصر والإتمام، فإذا لم يفعل عد مقصراً؛ فلزمه أن يتم، بخلاف ما إذا أحدث الإمام وانصرف؛ لأنه لم يبق من فعله ما يدرك به نيته، قاله البندنيجي والماوردي.
ولو كان المسافر الذي اقتدى بالمسافر مسبوقاً أدرك من صلاة الإمام ركعة، فإن ذكر الإمام [له] أنه كان مقيماً: فإن تحقق صدقه، فعليه أن يتم، وإن استراب في قوله، وكان يجوز كذبه، فهل يلزمه الإتمام؟ فعلى وجهين حكاهما الإمام عن العراقيين، ثم قال: والظاهر- عندي- أنه يلزمه الإتمام، ولو كان الإمام عدلاً موثوقاً به عند المقتدي، لكنه لا يقطع بصدقه، فالذي أراه في هذه الصورة القطع بوجوب اعتماد قوله، ولا يشترط في ذلك اليقين؛ فإن العدل الواحد إذا أخبر عن مشاهدة بطلوع الشمس أو غروبها، أو طلوع كوكب- فعلى السامع أن يعتمد قوله، وصورة الوجهين فيه: إذا لم يكن الإمام موثوقاً به، أو [إن] كان لا يدري حقيقة حاله، بأن كان مستوراً.
فرعان:
أحدهما: إذا اقتدى مسافرون [بمسافر]، ثم قام إلى ثالثة ساهياً، فإن تبعوه في السهو، فلا كلام، وإن ظنوا أنه أتم، لزمهم الإتمام، وكذا لو ترددوا في ذلك ثم بان لهم سهوه، وهذا بخلاف ما إذا ترددوا: هل نوى القصر أو الإتمام؛ فإنه إذا بان أنه نوى القصر، لا يلزمهم الإتمام. والفرق: أن النية لا يطلع عليها، وحال
المسافر ظاهره القصر، بخلاف ما إذا قام إلى ثالثة؛ فإنه [تأكد ظن] الإتمام بالقيام، ولو عرفوا أنه قد سها حال سهوه، لم يلزمهم الإتمام، وسجدوا للسهو، وسلموا، أو صبروا حتى يسلم، فيسلموا معه، وقد استشكل المزني معرفتهم سهوه، وصوره القاضي الحسين ومن بعده، بأن يكون الإمام حنفيّاً متعصباً في مذهبه، يعلمون من حاله أنه لا يتم في السفر، مع ما تقرر من أصله أنه إذا أتم لم تصح صلاته.
الثاني: إذا اقتدى مقيمون ومسافرون بمسافر، فرعف الإمام، وقدم مقيماً- قال الشافعي:"كان على جميعهم وعلى الراعف أن يصلوا أربعاً؛ لأنه لم يكمل واحد منهم الصلاة حتى كان فيها في صلاة مقيم" هذا آخر كلامه.
وما ذكره في المأمومين محله إذا لم ينو المفارقة عند حدثه، كما تقدم، [و] في "الرافعي": أنه يأتي فيهم وجه أنهم لا يلزمهم الإتمام، [إلا إذا نووا الاقتداء بالمستخلف؛ لأنه سيأتي وجه: أنه يجب على القوم أن ينووا الاقتداء بالخليفة، فإذا لم ينووا لا يلزمهم الإتمام؛ لأنهم ما نووا الإتمام] ولا اقتدوا بمقيم.
قلت: وهذا التخريج ظاهر على القول الصحيح في أن الإمام الراعف لا يلزمه الإتمام إذا لم يعد، أما إذا قلنا: يلزمه وإن لم يعد؛ بناءً على أنه باستخلافه صارت صلاته صلاة مقيم- فلا؛ لأنا حينئذ نتبين أن اقتداءهم وقع بمن لزمه الإتمام، فلعل القائل بوجوب نية الإتمام هو هذا القائل، فيرتفع الخلاف في المأمومين، كما أطلقه الأصحاب.
وأما الراعف- فقد قال المزني: إن ما ذكره الشافعي فيه غلط؛ لأن الراعف يبتدئ ولم يأتم بمقيم، وليس عليه إلا ركعتان. واختلف الأصحاب في ذلك:
فقال أبو إسحاق وغيره- وهو أصح الأجوبة-: مراد الشافعي إذا عاد الإمام، وائتم به: إما بناءً على القول القديم، وإما استئنافاً على الجديد؛ ألا ترى إلى قوله:"لأنه لم يكمل واحد منهم الصلاة، حتى كان فيها في صلاة مقيم"؟!
وقال ابن سريج بإجراء لفظ الشافعي على ظاهره، موجهاً له بأن الشافعي بناه على قوله في القديم: إن الراعف لا تبطل صلاته، فإذا استخلف مقيماً في صلاة هو فيها، لزمه أن يتم؛ لأنه مؤتم بمتمّ. وأما على قوله الجديد، فلا يلزمه الإتمام.
قال البندنيجي: وهذا فاسد؛ لأنه على القديم في حكم صلاة نفسه، فأما أن يكون فيها في جماعة، فلان قال الإمام: وهذا الوجه مع ضعفه غير مستقيم في نظم الأقوال قديما ًوجديداً فإن الاستخلاف في القديم باطل، وصلاة الراعف في الجديد باطلة؛ فلا يتسق هذا التفريع إذن. وهذا قد سبقه به القاضي الحسين.
وعن ابن سريج أنه قال: ومن أصحابنا من قال: يلزم الراعف الإتمام، وإن لم يرجع إلى الصلاة؛ لأن خليفته القائم مقامه يلزمه الإتمام فهو أولى.
وأبو الطيب نسب هذا القول إلى ابن سريج نفسه، وقال: إنه ليس بشيء؛ لأن خليفته مقيم فأتم، وهو مسافر فلم يتم.
قلت: والصحيح أن قائله غيره؛ لأن ابن سريج لما ذكره قال: هذه شبهة، وليست بدلالة. وحكى البندنيجي وابن الصباغ وغيرهما أن أبا غانم مُلْقِي أبي العباس بن سريج حمل النص على ما إذا أحس الإمام بالرعاف، فاستخلف، ووقف خلف خليفته، ثم رعف فانصرف- فإنه ها هنا يلزمه أن يتم؛ لأنه صار خلف مقيم.
قال البندنيجي، وكذا المحاملي: وهذا فاسد؛ لأن الرجل لا يصح أن يستخلف في الصلاة، ويكون فيها مأموماً قبل الانصراف.
قال الرافعي: وقد سئل الشيخ أبو محمد عنه، فجعل الاحتباس عذراً، وقال: متى حضر إما هو أفضل منه، أو حاله أكمل- جاز استخلافه.
ولا خلاف في أنه لو استخلف مسافراً نوى القصر، لا يلزمه ولا من خلفه من المسافرين الإتمام، وكذا لو لم يستخلف وأتم المسافرون لأنفسهم، ولو استخلف المسافرون مقيماً، فهل يكون الحكم كما لو استخلفه الإمام؟ فيه وجهان في "الحاوي":
أحدهما: نعم.
والثاني: لا. فعلى هذا: للإمام أن يقصر؛ لأنه لم يستخلف المقيم، وعلى
هذا: لو استخلف المقيمون مقيماً، والمسافرون مسافراً نوى القصر- جاز للمسافرين القصر، وكذلك لو افترقوا ثلاث فرق [أو أكثر]، وقدمت كل فرقة منهم إماماً جاز وإن كان إمامهم قبل الحدث واحداً، نص عليه.
قال: وإن نوى المسافر إقامة أربعة أيام غير يوم الدخول ويوم الخروج- أتم، أي: من حين نيته. هذا الفصل مسوق لبيان أمرين:
أحدهما: دل عليه منطوقه، وهو لزوم الإتمام عند نية المقام أربعة أيام غير يوم الدخول ويوم الخروج.
والثاني: دل عليه المفهوم، وهو جواز القصر عند نية المقام أقل من ذلك.
والدليل على الأمرين قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً} [النساء: 101]، فأباح القصر بشرط الضرب في الأرض، فالعازم على المقام مدة، غير ضارب في الأرض؛ فاقتضى مفهوم الشرط أنه لا يستبيح القصر.
أو نقول: الأصل قبل ورود هذه الآية لزوم الإتمام، والآية جوزت القصر عند الضرب في الأرض، وناوي الإقامة غير ضارب في الأرض؛ فلا يجوز له القصر عملاً بالأصل، لكن السنة بينت أن إقامة ما دون الأربع غير يوم الدخول ويوم الخروج لا تمنع القصر، فاستثنيت مما ذكرناه، وبقي فيما عدا ذلك على ما اقتضاه الدليل، وإنما قلنا: إن السنة بينت أن نية مقام ما دون الأربع غير يوم الدخول ويوم الخروج لا تؤثر في منع القصر؛ لما روى جابر بن عبد الله قال: "أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج خالصاً حتى أتى مكة صبيحة رابعة مضت من ذي الحجة، فأقام اليوم الرابع والخامس والسادس والسابع يقصر الصلاة، فلما كان اليوم الثامن صلى بالأبطح صلاة الصبح، ثم رفع إلى منى"، وهذا عين ما ذكرناه، ومنه يظهر لك أن دخوله- عليه السلام كان يوم الأحد، وخروجه إلى منى كان يوم الخميس؛ لأن ذلك كان في حجة الوداع، وكانت
الوقفة فيها يوم الجمعة، وبذلك صرح الرافعي.
وقد أطلق بعضهم أنه إذا نوى إقامة ثلاثة أيام، غير يوم الدخول ويوم الخروج- له أن يقصر، وصور ذلك بما إذا قدم يوم الأحد وخرج يوم الخميس، وعلى ذلك جرى البندنيجي، ولاشك أن العبارة الأولى أولى؛ لأن هذا التمثيل يقتضي أن المنوي إقامة ثلاثة أيام وأربع ليال، غير يوم الدخول ويوم الخروج، وذلك أكثر من ثلاثة أيام، وأقل من أربعة أيام غير يوم الدخول والخروج، فكانت العبارة الأولى- لأجل ذلك- أولى، لكن لهم أن يقولوا: الليلة الزائدة هي ليلة يوم الخروج، وهو غير محسوب؛ فكذا ليلته، كما أن الثلاثة الأيام محسوبة بلياليها، ولولا أن ليلة القدوم فاتت، لأمكن أن نقول بعدم حسابها- أيضاً- تبعاً له.
وقد تمسك القائلون بالعبارة الثانية في الاستدلال على لزوم الإتمام عند نية المقام أربعة أيام غير يوم الدخول والخروج، وعلى جواز القصر عند نية المقام ثلاثة أيام- بأن الأربعة مدة الإقامة، والثلاثة مدة المسافر، يدل عليه قوله- عليه السلام:"يمكث المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثاً" متفق عليه.
وكان هذا في عمرة القضاء، وإذا ذاك كان لا يحل للمهاجر المقام بمكة، ومن أقام بها بطل ثواب هجرته، فلما بين لهم جواز الإقامة ثلاثاً، دل على أنها ليست إقامة محققة، وإنما هي من حكم السفر، وأن ما زاد عليها مدة الإقامة، وكذا لما أجلى عمر أهل الذمة عن الحجاز، جعل لمن قدم منهم تاجراً مقام ثلاثة أيام"؛ فدلت السنة والأثر على أن ما زاد على الثلاث في حد الإقامة، والزيادة على الأيام من نوعها إنما تتحقق بالرابع بكماله لأن يوم الدخول ويوم الخروج
غير محسوبين؛ لأن في احتسابهما تكليف ما لا يطاق؛ فإن أكثر الناس لا يعرفون الساعات، ولا يقدرون على تلفيقها، فلو كلفوا بذلك لخرجت الرخصة عن وضعها؛ فحسبت الأيام الكوامل، وهذا كما جوزنا في رمضان النية قبل الفجر؛ [لأن في تكليف الناس أن ينووا مع طلوع الفجر] أعظم المشقة، ولأن العادة أن المسافر لا يدوم على السير في جميع نهاره؛ فلذلك لم يعد يوم دخوله يوم إقامة، وعد يوم خروجه يوم سفر.
قالوا: ولأنا أجمعنا على أن المدة القليلة لا تقطع حكم السفر، والمدة الكثيرة تقطعه، فبنا حاجة إلى فاصل بين المدة القليلة والمدة الكثيرة، وليس ذلك إلا الثلاثة الأيام؛ لأنها آخر حد القلة، وأول حد الكثرة، ومنه قوله تعالى:{وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَاخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ* فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} [هود: 64، 65] ولأن من أقام أربعة أيام لا يجوز له الجمع بين الصلاتين بوفاق الخصم- وهو أبو حنيفة- فنقول: من لا يجوز له الجمع، لا يجوز له القصر؛ كما لو نوى إقامة عشرين يوماً.
فإن قيل: قد روي عن أنس بن مالك قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة، فكان يصلي ركعتين ركعتين، حتى رجعنا إلى المدينة، فقلنا: هل أقمتم بها شيئاً؟ قال: [أقمنا] عشراً" أخرجه البخاري ومسلم. وهذا يدل على أنه بنية إقامة أربعة أيام لا يصير مقيماً.
قلنا: لاشك في أن هذه القصة كانت في حجة الوداع، وهي محمولة على أنه أقام العشرة متفرقة: في مكة ثلاثة، ومنى يوماً وليلة، وبعرفة يوماً، وبمزدلفة يوماً، وبمنى باقيها، وقد ادعى الإمام أن جابراً ذكر ذلك، ويؤيده "أنه- عليه السلام دخل مكة صبيحة رابعة من ذي الحجة- كما تقدم- وبات في المحصب ليلة
الأربعاء، وفي تلك الليلة اعتمرت عائشة- رضي الله عنها ثم طاف- عليه السلام طواف الوداع سحراً قبل صلاة الصبح يوم الأربعاء، وخرج صبيحته، وهو الرابع عشر".
وما ذكره الشيخ من عدم اعتبار يوم الدخول والخروج في المدة هو ما ذكره العراقيون، والأصح عند المراوزة- كما حكاه في "الكافي" وغيره- وحكى القاضي الحسين وجهاً آخر: أنهما يحسبان من المدة، كما يحسب في مدة المسح يوم الحدث، ويوم نزع الخف.
قال: ومن قال به، أجاب عن الحديث بأنه يحتمل أن يكون- عليه السلام دخل مكة بعد الزوال، وخرج قبله على عادة الحجيج، فعلى هذا إذا كان دخوله يوم الجمعة عند الزوال، ونوى أن يقيم السبت والأحد والاثنين، ويخرج قبل الزوال من يوم الثلاثاء- جاز له القصر، قال في "التتمة": ولا يختلف المذهب فيه. وإن نوى أن يخرج يوم الثلاثاء بعد الزوال، لزمه الإتمام من حين قدومه؛ لأنه [قد] نوى مقام أربعة أيام.
[و] كذا ما ذكره من أنه إذا نوى مقام أربعة أيام، غير يوم الدخول ويوم الخروج يلزمه الإتمام- هو الذي عليه الجمهور.
وذهب المزني إلى أن له [أن يقصر ما لم] ينو مقام خمسة عشر يوماً، غير يوم الدخول والخروج، كما صار إليه أبو حنيفة.
واختار ابن المنذر من أصحابنا ما صار إليه أحمد، وهو أنه إذا نوى مقام مدة يفعل فيها أكثر من عشرين صلاة أتم، وقال ابن الصباغ: إنه قريب من مذهب الشافعي.
واعلم: أن بعض الشارحين قد اعترض على الشيخ، فقال: كلامه يفهم أنه يشترط إقامة أربعة أيام في لزوم الإتمام، وليس كذلك، بل [لو] نوى الإقامة ثلاثة أيام ولحظة، صار مقيماً. وهذه عبارة الإمام؛ فإنه قال: "إذا انتهى المسافر إلى بلدة أو قرية، دون مقصده، ولم يكن له بها حاجة يرتقب نجازها: فإن أقام ثلاثة أيام بلياليها فهو مسافر، وإن انبرم عزمه على مقام أربعة أيام أو على مقام
ثلاثة أيام ولحظة، ولم يكن له حاجة يرتقبها، فهو مقيم، وانقطعت عنه الرخص المشروطة بالسفر وفاقاً"، وهذا فيه نظر؛ لأنه حكى عن شيخه، وعن الصيدلاني أنه لا يحسب من الثلاث التي لا نجعله بنية مقامها مقيماً يوم الدخول والخروج، ولم يحك سواه، وحينئذ فإن كان مراده أن ليلة يوم الخروج [غير محسوبة عليه؛ تبعاً ليوم الخروج، استحال أن يوجد مقام ثلاثة أيام وشيء، وهو دون أربعة أيام غير يوم الدخول ويوم الخروج، وإن لم يرد جعل ليلة يوم الخروج] تابعة له، كان مقتضى قوله أن من دخل يوم الأحد، وعزم على الخروج يوم الخميس- يلزمه الإتمام؛ لأن مدة مقامه قد زادت على ثلاثة أيام بليلة بعد إخراج يوم الدخول ويوم الخروج، وذلك عين المدة التي أقامها النبي صلى الله عليه وسلم بمكة وهو يقصر فيها.
فإن قلت: لعله أراد باللحظة من بياض النهار، لا من الليل؛ ولذلك أبهمها في موضع آخر، فقال:"إذا نوى مقام ثلاثة أيام وزيادة لزمه الإتمام".
قلت: هذا مع جزمه بأنه لا يحسب عليه يوم الدخول ويوم الخروج- غير متصور.
نعم: ذاك يتصور إذا قلنا بحسابهما عليه؛ كما تقدم حكايته وجهاً، وهو لم يذكره، والذي وقفت عليه من كلام القاضي الحسين وغيره، تفريعاً على أن يوم الدخول ويوم الخروج لا يحسبان من المدة: ما ذكرناه عن العراقيين من قبل، وهو ما جرى عليه الأكثرون؛ كما قاله الرافعي.
ثم قال الإمام: إنه لو كان الدخول ليلاً، فهو المستثنى فقط، ولا نقولك يسقط عنه في الحساب يومه من الغد، بل هو من الأيام الثلاثة، ومقامه في هذه الحالة- على ما حكيناه عن الجمهور- أقل من مقامه فيما إذا دخل نهاراً؛ إذ مدة مقامه فيها ثلاثة أيام وثلاث ليال، ومبتدأ يوم الخروج وأواخر ليلة القدوم، ولا يجيء في هذه الحالة اختلاف نقل الإمام وغيره، ولو وقع دخوله قبل الغروب، بحيث لم يتكامل فراغه من الحطّ والشيل إلا [في الليل]، فالذي يقتضيه كلام الجمهور: أنه كما لو قدم في النهار، وانقضى جميع شغله فيه، وقال الإمام: الذي
أراه أن بقية النهار مع بقية الليل كله غير محسوب عليه؛ نظراً للشغل، ووقوعه في الليل.
قلت: وهذا قاله بناءً على ما اقتضاه كلامه السابق: أنه إذا دخل يوم الأحد، ونوى الخروج يوم الخميس: أنه يلزمه الإتمام؛ لأجل زيادة ليلة يوم الخروج؛ فإنه إذا لم يحسب الليلة التي تم قضاء شغله من الحط فيها [لم تحصل الزيادة على ثلاثة أيام وثلاث ليال؛ فيجوز له القصر فيها].
ثم إذا جرينا على ذلك، لاح في المسألة بحث له التفات على أن العاكف بمنى إذا تشاغل بالترحال والشد حتى غربت الشمس في اليوم الثاني من أيام التشريق، هل يلزمه أن يقيم أو لا؟ فليطلب منه.
تنبيه: سكوت الشيخ عن بيان المكان الذي تؤثر نية المقام فيه في القصر وعدمه، يؤذن بأمرين:
أحدهما: أنه لا فرق عنده فيه بين أن يكون ذلك الموضع محل قصده أو غيره؛ كما إذا نوى ذلك في طريقه إلى محل قصده، ولاشك في ذلك إذا كان المكان في طريقه إلى محل قصده، وأما إذا كان المكان هو محل قصده ابتداء، فالذي جزم به الماوردي: أنه لا يتوقف لزوم الإتمام على نية المقام أربعة أيام، بل بمجرد وصوله إليه يلزمه الإتمام، وإن نوى مقام ثلاثة أيام فما دونها، وادعى أنه لا خلاف بين الفقهاء في ذلك.
وهذه طريقة أبي حامد، كما حكاها الطبري في "عدته" عنه، وعليه يدل قول البندنيجي: إن من خرج من بلده مسافراً، وبين يديه بلد قبل البلد الذي يقصده، فنوى أن يقيم في الأول أربعاً، ثم يسير إلى الثاني، أو لم ينو أربعاً، لكنه قال: أسافر إلى الأول، ثم منه إلى الثاني- فإن كان بينه وبين الأول مسافة القصر، قصر، وإذا انتهى إليه، انقطع قصره. وهذا يدل على أن الوصول إلى المقصد وإن لم يكن وطناً قاطع للترخص، والذي حكاه الإمام عن الصيدلاني، وصاحب "العدة" عن القفال: أنه إذا كان عزمه على المقام به مقام المسافرين، ثم يعود إلى موضع خروجه، أو إلى موضع هو منه على مسافة القصر: أن له أن
يقصر في المقصد، وعليه يدل نص الشافعي في مواضع:
الأول: ما حكاه الإمام إذا خرج المكي إلى "جدة" ليعود منها، ويخرج من "مكة" إلى سفر بعيد- فلا شك أنه يقصر ذاهباً إلى "جدة" وراجعاً منها؛ لأنها على مسافة مرحلتين من "مكة"، ثم يقصر بـ "جدة" أيضاً إذا كان مقامه بها مقام المسافرين.
قال الإمام: وأما "مكة" في عودة من "جدة" هل يقصر فيها، أم لا؟ على قولين، وهذان القولان هما القولان اللذان أشرت إليهما من قبل.
الثاني: ما نص عليه في كتاب استقبال القبلة، كما حكاه أبو الطيب فيما إذا خرج مسافراً إلى بلد بينه وبينه ستة عشر فرسخاً، ونوى أنه إذا وصل إليه أقام فيه يوماً واحداً، فإن لقي فلاناً- يعني رجلاً بعينه- أقام أربعة أيام، وإن لم يلقه رجع، فله القصر من حين يخرج [من بلده] إلى أن يصل إلى البلد الذي نواه، فإذا وصل إليه: فإن لم يلق فلاناً فإنه يقصر إلى أن يرجع، وإن لقيه فإنه يتم من حين يلقاه؛ لأنه نوى الإقامة إن رآه، وقد رآه؛ فقد صار مقيماً، والبندنيجي والماوردي صوراً هذه المسألة بما إذا خرج إلى بلد، فدخل إلى بلد في طريقه، وقال: إن لقيت فلاناً أقمت أربعاً.
الثالث: ما حكاه البندنيجي فيما إذا كان من مكة على مسافة القصر، فخرج حاجّاً- كان له القصر حتىي دخلها، فإذا دخل "مكة" نظرت: فإن نوى مقام أربعة أيام، أتم، فإذا خرج إلى عرفة يريد قضاء نسكه [نظرت: فإن نوى مقام أربعة إذا رجع أتم بعرفة ومنى، وإن نوى قضاء نسكه] والانصراف، ولم ينو مقاماً، أو نوى مقام أقل من أربعة- قصر بعرفة ومنى.
قلت: فهذه المسائل الثلاث تدل على أن الوصول إلى المقصد إذا لم ينو المقام [به] أربعة أيام، غير يوم الدخول والخروج- لا يقطع الترخص.
وإذا جمعت بين النقلين، جاء في المسألة خلاف، وقد حكاه في "التهذيب" قولين، وادعى أن المذهب منهما: أن له القصر في مقصده، كما في الانصراف، وادعى الرافعي: أنه أصح، وأن غير البغوي ذكره.
وفي "التتمة" الجزم بمقابله.
نعم: حكى الخلاف فيما إذا لم ينو المقام بها ولا الرجوع، فهل يكون نفس الحصول فيها قاطعاً للترخص أم لا؟ واستشكل الإمام جواز قصره في البلد، من حيث إن سفره ينقطع على منتهى المقصد، وهو في إيابه في حكم من يبتدئ [سفراً]، وليس الإياب متصلاً بالذهاب في الحساب؛ فإنه لو كان مجموع مسافة ذهابه وإيابه مرحلتين، لا يقصر عندنا، وقضيته: ألا يقصر في مقصده أصلاً وإن طال السفر.
قال: والذي ذكرته أبدى إشكالاً، وليس عندي فيه نقل أعتمده، إلا ما ذكره الشيخ أبو بكر.
الثاني: أنه لا فرق فيه بين أن يكون صالحاً للإقامة أو لا، كما إذا نوى المقام بمفازة لا ماء فيها ولا كلأ، وهو مجزوم به في الحالة الأولى، والصحيح في الثانية، ووراءه وجه آخر: أنها لا تقطع حكم السفر، ومنهم من يثبت الخلاف في المسألة قولين.
قال الفوراني: وهو مبني على ما إذا نوى الإقامة في الحرب، عند مواجهة العدو، هل يجب عليه الإتمام أم لا؟ وفيه قولان يأتيان.
وقال القاضي الحسين والبغوي: إنه مبني على قولين، حكاهما الإمام- أيضاً- فيما إذا دخل بلداً مجتازاً، وله به أهل وولد: هل يجعل مقيماً فيه أم لا؟
أحدهما: لا يصير مقيماً؛ لعدم نية الإقامة، وهذا ما حكاه القاضي أبو الطيب، والبندنيجي وابن الصباغ فيما إذا كان له فيه زوجة ومال وقماش، وقال الإمام: لعله أقيس. فعلى هذا: يصير مقيماً بنية الإقامة في المفازة.
والثاني من القولين: أنه يصير مقيماً [لصلاح المكان لإقامة مثله فيه؛ فإن الغالب أنه يقيم ببلد أهله وولده؛ فعلى هذا لا يصير مقيماً] بالمفازة إذا نوى المقام بها؛ لأن المكان غير صالح لإقامة مثله، وهذا ما صححه الغزالي.
والوجهان جاريان فيما لو نوى المقام في سفر البحر، كما حكاه في "الزوائد" والقاضي الحسين في باب استقبال القبلة.
قال: وإن أقام في بلد لقضاء حاجة، أي: ولا يعلم أنها تمتد إلى أربعة أيام، وقد تمتد، ولم ينو الإقامة- قصر إلى ثمانية عشر يوماً في أحد القولين، ويقصر أبداً في القول الآخر.
اعلم: أن الحاجة تارة تكون لأجل القتال، مثل: أن يكون مقيماً على حرب، أو مستعدّاً للحرب، أو خائفاً من الحرب، وتارة تكون لأجل غيره، مثل: بيع شيء، أو شرائه، أو استخراج مال، أو اجتماع بشخص، ونحو ذلك، ولا خلاف بين الأصحاب في إجراء القولين في القسم الأول.
قال الماوردي: وعليهما نص في "الإملاء"، وعزاهما البندنيجي إلى نصه في "الأم":
أحدهما: يقصر إلى ثمانية عشر يوماً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقام في حرب هوازن ثمانية عشر يوماً يقصر الصلاة ينتظر انجلاء الحرب ولنا فيه أسوة حسنة. وقد ادعى الإمام أن هذا كان بعد الفتح بـ "مكة"؛ لتدبير المسير إلى "هوازن"، ووافقه الروياني عليه، وعلى هذا: إذا جاوز الثمانية عشر، أتم؛ لما ذكرناه من التقرير عند نية إقامة أربعة أيام، وقد روي عن ابن عباس أنه- عليه السلام أقام بهوازن ثمانية عشر يوماً يقصر الصلاة؛ فمن أقام ذلك قصر، ومن زاد عليه أتم.
وروي أنه قال: "نقصر الصلاة ما بيننا، وبين تسعة عشر يوماً، فإذا جاوزنا ذلك أتممنا".
فإن قيل: قد روى جابر بن عبد الله: "أنه- عليه السلام أقام بـ "تبوك" عشرين يوماً يقصر الصلاة"، رواه أحمد في "مسنده". وروى عمران بن حصين:
"أنه- عليه السلام أقام سبعة عشر يوماً يقصر الصلاة"، وروى البخاري:"أنه- عليه السلام أقام في بعض أسفاره تسعة عشر يصلي ركعتين"، و [قضية ما ذكرتم] من التقرير أن يجوز له القصر في ذلك.
قلنا: قد قال [به] بعض المراوزة، وأثبت في هذه المسألة على هذا القول أقوالاً:
أحدها: أنه يقصر عشرين يوماً.
والثاني: تسعة عشر.
والثالث: ثمانية عشر.
والرابع: سبعة عشر.
لكن الصحيح في "الإبانة" ولم يحك العراقيون غيره: أنها ثمانية عشر، وقد ادعى في "التهذيب" أنها رواية عمران بن حصين، وأن الشافعي اختارها؛ لأنها [لم تختلف]، والرواية عن ابن عباس [قد] اختلفت، وحديث جابر محمول على أنه [أدخل] في العدد يوم الدخول ويوم الخروج، ونحن لا ندخلهما فيه.
والقول الثاني: يقصر أبداً؛ لأنا عرفنا أنه- عليه السلام كان يقصر منتظراً للفتح، فاتفق المقام في هذه المدة، والظاهر: أنه لو تمادى الفتح، لكان يتمادى على سجيته.
قال الإمام: وهذا يقرب من القطعيات في مأخذ الكلام على الوقائع،
[وبمثله] أثبتنا استرسال الأقيسة، ووجوه النظر في الوقائع من غير نهاية؛ فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قاسوا في [
…
] روي أن ابن عمر أقام بأذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة، ويقول: أخرج اليوم وأخرج غداً. وأقام أنس بن مالك بنيسابور سنة أو سنتين يقصر الصلاة، وأقام علقمة بـ "خوارزم" سنتين يقصر الصلاة، وكذلك عبد الرحمن بن سمرة أقام بـ "كابل" سنتين يقصر الصلاة؛ فدل ذلك من فعلهم مع عدم الإنكار على أنه إجماع، ولأنه عازم على الرحيل، غير ناو المقام؛ فجاز له القصر كما في الثمانية عشر.
والصحيح الأول، قال القاضي أبو الطيب: وهو مختار الشافعي، وعليه أكثر الأصحاب، كما قاله ابن الصباغ.
والجواب عن فعل الصحابة: أنا نحمله على أنهم كانوا ينتقلون من بلد إلى بلد، كما روى أنس "أنه- عليه السلام أقام بـ "مكة" عشرة أيام [يقصر] الصلاة" و [معلوم] أنه فرقها، كما ذكرنا، على أنه معارض بقول ابن عباس.
وعن القياس: أن الثمانية عشر مخصوص بها التخفيف؛ فلا يجوز أن يقاس عليها غيرها، كما لا يجوز أن يقاس على الأيام الثلاثة في المسح غيرها من المدة.
وأما القسم الثاني، وهي: الحاجة التي لا تعلق لها بالقتال، فللأصحاب فيها طريقان، حكاهما العراقيون:
أحدهما: إجراء القولين فيها، وعلى هذه الطريقة ينطبق ما حكاه الشيخ هنا،
وقد حكى القول الأول منهما في هذا القسم البندنيجي عن نصه في "الإملاء" وأشار إليه في "الأم" أيضاً في كتاب استقبال القبلة، بقوله:"فإن زاد على أربع، أحببت أن يتم، فإن قصر أعاد" يعني: استحباباً؛ لأنه جعل الإتمام مستحباً. والقول الثاني فيه أخذ من قوله في "الأم" بعد ذلك: ولو قيل: الحرب وغير الحرب سواء في هذا، كان مذهباً.
والطريقة الثانية- قالها أبو إسحاق المروزي وغيره-: أن في المسألة قولاً ثالثاً: أنه يقصر أربعة أيام، فإذا زاد عليها، أتم.
قال في "المهذب": لأن الإقامة لا يلحقها الفسخ، والنية يلحقها الفسخ، ولو نوى مقام أربعة أيام- لم يقصر، فلألا يقصر إذا أقام أولى، والفرق بينه وبين من حاجته قتال من وجهين:
أحدهما: أن الحرب تؤثر في الصلاة تخفيفات ورخصاً، ستأتي مشروحة في باب: صلاة الخوف، كصلاة ذات الرقاع، وصلاة عسفان، وصلاة شدة الخوف، ولا كذلك غيرها من الحاجات.
والثاني: أن القتال ينتهي إلى مبلغ لا يجوز الانكفاف عنه فيسقط فيه [أثر] قصد الإقامة؛ فإن الشرع جازم أمره بالإقامة، وسائر الحاجات قد لا تكون كذلك.
وهذا القول ادعى القاضي الحسين أنه نص عليه في "الإملاء"؛ لأنه نص عليه في حاجة القتال، ثم قال:"والحرب وغيره سواء، ولو قال به قائل كان مذهباً"، وادعى الماوردي: أنه من تخريج المزني، وقال غيره: إن أبا إسحاق أخذه من قول المزني في "المختصر" حكاية عن الشافعي: فإن زاد على أربع أتم، وإن قصر أعاد.
قال البندنيجي- تبعاً لشيخه الشيخ أبي حامد-: وليس بشيء، والمزني ترك قول الشافعي:"أحببت"، وهو الدال على أن الإعادة على وجه الاستحباب كما تقدم.
وادعى ابن الصباغ أن ما نقله المزني صحيح؛ لأنه وجد في كتاب استقبال القبلة من "الأم" بعد هذا الموضع بأسطر: "وإن كان محارباً أو خائفاً، مقيماً في
موضع سفره- قصر ثمانية عشر يوماً، فإذا جاوزها أتم [وإذا كان غير خائف قصر أربعاً، فإذا جاوزها أتم"]، وهذا مثل ما نقله المزني، قال: ويحتمل أن يكون قوله: أحببت، خطأ القلم؛ لأنه في الموضع الذي يستحب فيه القصر لا يؤمر بالإعادة إذا أتم، ولأنه إذا لم يجب الإتمام، ينبغي أن يكون حكمه حكم المسافر، والمسافر لا يستحب له عنده الإتمام في هذا الباب.
وهذا من ابن الصباغ يقتضي ترجيح طريقة أبي إسحاق الحاكية لثلاثة أقوال في الحاجة إذا لم تكن قتالاً.
وقد حكى عن القاضي أبي حامد المروروذي أنه قال في "جامعة": إنها أظهر. وحكى الإمام- عوضاً عن القول الثالث منها- أنه يقصر ثلاثة أيام، وبعد الثلاثة يتم، وكذا حكاه الفوراني أيضاً، وصحح القول بأن فيها ثلاثة أقوال:
هذا أحدها.
والثاني: يقصر ثمانية عشر يوماً.
والثالث: يقصر أبداً.
وعبارته في "المهذب" في حكاية القول الثاني، الذي هو أول في الكتاب: أنه سبعة عشر يوماً، وعبارة الماوردي في حكايته: أنه يقصر سبعة عشر يوماً، أو ثمانية عشر يوماً، [وهذا التردد منه ليس للتخيير؛ بل لبيان أن للشافعي في هذا القول قولين في أنه هل يقصر سبعة عشر يوماً،] أو ثمانية عشر يوماً؛ لاختلاف الرواية، وأخذ الشافعي بهما؛ لتقاربهما، وقد تقدم نسبة ذلك لبعض الأصحاب من المراوزة في حاجة القتال.
قال الماوردي: والأقوال تجري فيما إذا كان سائراً في البحر، فمنعه الريح من السير، وأقام ينتظر سكونه أياماً، وأنه لا يختلف الحكم على الأول بين ألا يستقيم الريح إلى أربعة أيام، أو يستقيم له الريح، فتسير السفينة عن مكانها، ثم رجعت الريح، فردته إلى موضعه الأول؛ [فإنه يقصر] تمام الأربع، ويأتي فيما بعدها الأقوال.
وقد حكى القاضي الحسين أن من الأصحاب من أرجى القول بوجوب الإتمام بعد الأربع [في حاجة القتال أيضاً، لأجل قول الشافعي: "الحرب وغيره
سواء"، فجعل في الجميع الأقوال، وأن من الأصحاب من خص الأقوال بالمحارب، وقطع في غيره بوجوب الإتمام بعد الأربع،] وأن منهم من قال: الأقوال في المحارب، وفي غيره قولان:
أحدهما: يتم بعد الأربع.
والثاني: يتم بعد الثمانية عشر.
وإذا جمعت بين المسألتين، وما قيل فيهما في الطريقين، وركبت بعض الوجوه مع بعض، واختصرت- قلت: في ذلك ثمانية عشر قولاً ووجهاً:
أحدها: يقصر ثلاثة أيام، وبعدها يتم.
والثاني: يقصر أربعة أيام، وبعدها يتم.
والثالث: يقصر سبعة عشر يوماً، وبعدها يتم.
والرابع: يقصر ثمانية عشر يوماً، وبعدها يتم.
والخامس: يقصر تسعة عشر يوماً، وبعدها يتم.
والسادس: يقصر عشرين يوماً، وبعدها يتم.
والسابع: يقصر أبداً.
والثامن: من حاجته غير قتال يقصر ثلاثة أيام، ومن حاجته قتال يقصر سبعة عشر يوماً].
والتاسع: من حاجته غير قتال يقصر ثلاثة أيام، ومن حاجته قتال يقصر ثمانية عشر يوماً.
والعاشر: من حاجته غير قتال يقصر ثلاثة أيام، ومن حاجته قتال يقصر تسعة عشر يوماً.
والحادي عشر: من حاجته غير قتال يقصر ثلاثة أيام، ومن حاجته قتال يقصر عشرين يوماً.
[والثاني عشر: من حاجته غير قتال يقصر ثلاثة أيام، ومن حاجته قتال يقصر أبداً].
والثالث عشر، والرابع عشر: والخامس عشر، والسادس عشر، [والسابع
عشر]: من حاجته غير قتال يقصر أربعة أيام، ومن حاجته قتال يقصر سبعة عشر يوماً، أو ثمانية عشر يوماً، أو تسعة عشر يوماً، أو عشرين يوماً، أو أبداً.
والثامن عشر: يقصر من حاجته غير قتال ثمانية عشر يوماً، ومن حاجته قتال يقصر أبداً، والله أعلم.
أما إذا كان الحاجة يعلم أنها لا تنقضي إلا بعد أربعة أيام: كالمتفقّه، ومن له تجارة كبيرة- فإنه لا يقصر إذا جاوزها، ومن طريق الأولى إذا نوى مقام أربعة أيام، وهذا في الحاجة التي لا تتعلق بالقتال، وكلام الشيخ يفهم أن حاجة القتال كغيرها، وقد صرح الأصحاب بأنه إذا نوى- والحاجة بسبب القتال- مقام أربعة أيام أو أكثر، فهل تصح نيته، ويجب عليه الإتمام، ولا تصح نيته، ويكون حكمه كما لو لم ينو؟ فيه قولان في القديم، وهما محكيان في "الحاوي" و"تعليق" أبي الطيب وغيرهما، والمنصوص منهما في الجديد "والأم"، والأصح- عند القاضي- الأول؛ لقوله- عليه السلام:"وإنما لكلّ امرئ ما نوى"، ووجه مقابله: أنه ربما هرب بغير اختياره؛ فلا يصح عزمه على الإقامة. ولأن أعذار الحرب تخالف ما سواها، وهذا ما اختاره المزني.
وقد حكى الإمام القولين هكذا فيما لو نوى المحارب إقامة ثمانية عشر يوماً؛ تفريعاً على قولنا: إنه لو أقام ثمانية عشر يوماً فيه، كان له أن يقصر، وحكاهما أيضاً في التاجر، إذا قلنا: إنه كالمحارب في جواز القصر ثمانية عشر يوماً. ووجّه القصر بأن هذه المدة في حق هؤلاء كثلاثة أيام في حق مسافر لا شغل له، ثم
لو نوى المسافر ثلاثة أيام كان له القصر فيها؛ فكذا هؤلاء.
وحكى القولين- أيضاً- فيما لو علم المحتاج أن شغله لا يتنجز إلا في ثمانية عشر يوماً، وقد فرعنا على أنه يقصر فيها إذا كان على تردد من نجاز حاجته فيها. قال: وقياس ذلك على ما ذكرناه بيّن، وإذا قلنا: يقصر ثمانية عشر يوماً، ففيما زاد عليها الخلاف السابق؛ قاله الرافعي، والذي أورده العراقيون والجمهور: الأول.
ولو أقام غير محارب، ولا مشغول بغيره، ولا نية له في إقامة ولا رحيل- فهذا يقصر تماماً أربع، ثم عليه أن يتم فيما زاد قولاً واحداً، وقياس قول الإمام السالف: أنه يقصر ثلاثة أيام، وبعدها يتم.
ثم لا يخفى أن ما ذكره الماوردي مصور بما إذا لم يكن البلد الذي أقام فيه مقصده، أما إذا كان مقصده، فقد حكينا عنه أنه بوصوله إليه تنقطع عنه رخص السفر، ويشبه أن يكون العبد إذا أقام مع سيده في بلد في طريقه هذه المدة، وكذا الزوجة إذا أقامت إذا أقامت مع زوجها فيه هذه المدة، وقد جوزنا لهما القصر- ألا يقصرا بعد الأربع؛ لأن مقامهما خال عن قصد، ولا يضرهما قصد السيد والزوج الإقامة أكثر من ذلك؛ كما لا يفيدهما معرفتهما مسافة السفر في جواز القصر إذا لم يعرفاها، قاله القاضي الحسين. ولو نوى العبد أو الزوجة الإقامة أربعة أيام، ففي لزوم الإتمام له وجهان في "التهذيب" و"الزوائد" و"تلخيص الروياني"، وجه المنع: أنه لا يستقل بنفسه؛ فنيته كالعدم، وألحق البغوي والروياني بهما الجيش إذا نوى المقام دون الأمير، وفيه نظر؛ لما تقدم من الفرق بينهما عند الكلام في ربط السفر بمقصد معلوم.
قال: وإن فاتته صلاة في الحضر، فقضاها في السفر، أتم؛ لأنه تعين عليه فعلها أربعاً فلم يجز له النقصان عنها، كما لو [لم يسافر]، وقد ادعى ابن المنذر والإمام أحمد الإجماع على ذلك، وقال المزني: له القصر؛ لأن الاعتبار في العبادات بوقت الأداء دون وقت الوجوب.
أصله: إذا وجبت عليه الصلاة، وقدر على أدائها قائماً، فأخرها حتى عجز عن
القيام- قضاها قاعداً، وكذا عكسه، وقد حكاه الماوردي عن بعض الأصحاب، وغلطه فيه، ولم أره لغيره، بل جزموا بالمنع، وفرقوا بين ذلك وبين المرض بأن المرض ليس إليه، وكذا إزالته، وهو معرض أن تخترمه المنية في كل ساعة، فلو كلفناه التأخير حتى يزول المرض، ويقدر على القيام ربما مات؛ فتبقى ذمته مرتهنة بالصلاة، بخلاف ما نحن فيه؛ فإن إتمام الصلاة في مقدوره، والسفر إليه، وبعضهم فرق بأن القصر رخصة، وليس كذلك الصلاة قاعداً، ومن ثم قلنا: لو افتتح الصلاة قائماً، ثم عجز عن القيام- جلس، ولو افتتح الصلاة في الحضر، ثم سافر- أتم.
فإن قيل: لو أفطر في رمضان في الحضر، ثم سافر، وشرع في القضاء- كان له الفطر فيه؛ كما كان له في الأداء الفطر إذا وقع في السفر، فهلا كان ها هنا مثله؟!
قلنا: إن كان فطره في الحضر بغير عذر، فلأصحابنا فيه وجهان:
أصحهما- كما قاله البندنيجي وغيره-: أنه ليس له الفطر، وعلى هذا فلا فرق بينهما.
والثاني: له الفطر؛ كما لو كان الفطر في الحضر بعذر.
وعلى هذا: فالفرق ما سبق: أن القصر غير مضمون بالقضاء، بخلاف الصوم، ثم الفوات الموجب لفعل الصلاة تماماً في السفر، يحصل بخروج كل الوقت وهو مقيم، ثم يسافر، وهل يحصل بخروج أكثره بحيث لم يبق منه ما يسع كل الصلاة؟ فيه خلاف ينبني على أن من فعل بعض الصلاة في الوقت، وباقيها خارج الوقت هل توصف كلها بالأداء أو بالقضاء، أو ما وقع منها في الوقت أداء، وما وقع خارجه قضاء؟ فيه خلاف مر، والصحيح- كما قاله البندنيجي هنا، وغيره-: الأول، فإن قلنا به لم يتحقق الفوات، وجاز له القصر إذا سافر وقد بقي من الوقت ما يسع ركعة، وعليه نص الشافعي، كما قال القاضي الحسين، وإن قلنا بما عدا الأول، فقد تحقق الفوات، ولزمه الإتمام، ومحل ذلك- بالاتفاق- إذا كان المدرك في الوقت ركعة تامة، أما إذا كان دونها فقد ادعى المتولي أنه لا خلاف في أن الكل قضاء، وقضيته: أن يلزمه الإتمام قولاً واحداً،
وهو ما جزم به الروياني في "تلخيصه" تبعاً للفوراني والمتولي، لكن القاضي أبو الطيب حكى [عن] الداركي أنه قال: الخلاف المذكور فيما إذا [بقي] من الوقت ركعة، جار فيما لو أدرك في الوقت تكبيرة الإحرام فقط. وهذا يقتضي المنازعة فيما ذكره المتولي من اختصاص الخلاف بما إذا كان المدرك في الوقت ركعة، وعليه تنطبق عبارة البندنيجي؛ حيث قال: المذهب أنه إذا أدرك من الصلاة في الوقت شيئاً، وفعل باقيها خارج الوقت يكون الكل أداء.
وقال الإمام: إنه إذا أدرك في الوقت تكبيرة، ترتب على ما إذا أدرك في الوقت ركعة، وها هنا أولى بالإتمام؛ لأن الركعة يدرك بها المسبوق الجمعة، دون التكبيرة؛ فكذا يكون بها مدركاً للقصر دون التكبيرة.
ثم هذا كله تفريع على أنه إذا سافر، وقد بقي من الوقت ما يسع أربع ركعات: أنه لا يلزمه الإتمام، كما حكاه في "الإبانة" عن النص، وهو اختيار أبي إسحاق، أما إذا قلنا: يلزمه في هذه الصورة الإتمام، كما حكاه أبو الطيب، عن رواية الداركي، عن أبي الطيب بن سلمة؛ لأنه سافر وقد تعينت عليه الصلاة، فكان كفعلها ففيما إذا سافر وقد بقي من الوقت ما يسع ركعة أو دونها أولى.
ثم الخلاف في هذه الصورة مفرع على النص في أنه إذا مضى عليه- وهو مقيم- من وقت الصلاة ما يسعها، ثم سافر: أن له القصر.
قال الماوردي: وهو الذي ذكره الشافعي في عامة كتبه، وعليه عامة أصحابنا. وقال المزني: قياس الشافعي فيما إذا أدركت المرأة من الوقت [قدر] ما تؤدي فيه الفرض، ثم حاضت أو جنت: أنه يجب عليها القضاء- أنه يلزم من سافر وقد مضى عليه من الوقت قدر ما يؤدي فيه الفرض أنه يلزمه الإتمام؛ لأن الحيض والجنون يسقط فرض الصلاة رأساً؛ كما أن السفر يسقط ركعتين، فإذا كنا لا نسقط عنها الأربع كذلك لا تسقط الركعتان.
فمن الأصحاب- وهم القياسون، كما قال الإمام- من صوب المزني في التخريج؛ لضيق الفرق، وجعل في المسألتين قولين بالنقل والتخريج. قال الإمام: ومأخذهما أن من أخر صلاة الظهر عن أول الوقت إلى وسطه، ثم مات، فهل يلقى الله عاصياً أم لا؟ وفيه خلاف، والأصح: لا، بخلاف من أخر الحج؛ فإن
الصحيح أنه يعصى؛ فإنه لو لم يعص لما انتهى الحج إلى حقيقة الوجود، فإن خاصة الوجوب ما يعصي بتركه، والصلاة المؤقتة إفضاء الأمر فيها إلى المعصية، بأن يبقى المكلف حتى ينقضي الوقت عليه، وهو غير معذور.
وقد حكى في "التتمة" القولين منصوصين، وعزى الثاني إلى نصه في القديم، والجمهور على ما نص عليه في الجديد، وفرقوا بين ما نحن فيه وبين ما إذا حاضت المرأة أو جنت بأنا لو لم نوجب على الحائض والمجنونة القضاء لخرج أول الوقت عن أن يكون وقتاً لوجوب الصلاة، والصلاة- عندنا- تجب بأول الوقت، وليس كذلك إذا قلنا: لا يجب على المسافر الإتمام؛ فإنه لا يؤدي إلى أن نكون قد أخرجنا أول الوقت عن أن يكون الوجوب متعلقاً به؛ لأنا قد أوجبنا به الصلاة المقصورة.
وفرق بعضهم بأن ما تدركه الحائض والمجنونة بالإضافة إلى الإمكان كأنه كل الوقت؛ إذ لا تقدر على الفعل بعد الحيض والجنون، بخلاف المسافر.
ويرجع حاصل ما ذكرناه إلى ثلاثة أوجه، وقد حكاهما القاضي أبو الطيب:
أحدها: لا يلزم الحائض والمجنونة الصلاة، ولا [يلزم] المسافر الإتمام.
[والثاني: يلزمهم ذلك، وهي طريقة ابن سريج.
والثالث: يلزم الحائض والمجنونة الصلاة، ولا يلزم المسافر الإتمام،] وهي الطريقة الصحيحة.
قال الأصحاب: وإذا قلنا بأنه إذا سافر وقد بقي من الوقت ما يسع [أربع ركعات: أنه لا يلزمه الإتمام، وإذا سافر وقد بقي من الوقت] ما يسع ركعة أنه يلزمه الإتمام- فلو سافر، وقد بقي من الوقت ما يسع ركعتين، والسفر مما تقصر فيه الصلاة: فهل له القصر؛ لأنه قد بقي من الوقت قدر صلاة مقصورة، أو يلزمه الإتمام؛ لأنه كان يجب عليه أن يحرم بها في السفر؟ فيه خلاف، المنسوب منه إلى أبي علي بن أبي هريرة الأول، والصحيح في "تلخيص الروياني" الثاني.
ولا خلاف في أنه إذا سافر قبل أن يمضي من الوقت ما يمكن إيقاع جملة [الصلاة] فيه، [ثم سافر]: أنه لا يلزمه الإتمام. قال الماوردي: إلا على قياس
مذهب أبي يحيى البلخي. أي: في أن الحيض إذا طرأ على المرأة وقد مضى من الوقت ما لا يسع كل الصلاة [أن الصلاة] تلزمها؛ فإن قياسه- إذا ألحقنا المسافر بالحائض، كما قاله المزني- أنه يلزمه الإتمام، وقد أبدى الإمام ذلك احتمالاً، و [قوّاه بأن] المسافر يمكنه أن يتم، والحائض لا يمكنها أن تتم على الركعة.
قال: وإن فاتته في السفر، فقضاها في السفر أو في الحضر- ففيه قولان:
أصحهما: أنه يتم؛ لأنها صلاة ذات ركوع وسجود؛ فكان من شرطها الوقت كالجمعة، وقد وافق الشيخ في تصحيحه القاضي الحسين، والمتولي، والبغوي.
ومقابله: أن له القصر؛ لأنها صلاة تقضى وتؤدى؛ فوجب أن يكون قضاؤها مثل أدائها؛ كالصبح والمغرب، ولا يرد عليه الجمعة؛ لأنها لا تقضي، ولأن الفرض يسقط في الوقت بركعتين؛ فكذلك بعد فوات الوقت كالصبح؛ وهذا ما حكاه البندنيجي عن نصه في القديم "والأم"، وغيره قال: إنه نص عليه في القديم، وأما في "الإملاء" فإنه منصوص عليه فيما إذا كان القضاء في السفر، وقد حكاه القاضي أبو الطيب في هذه الحالة عن الجديد، وهو الأصح في "المهذب" فيها، تبعاً لـ "الحاوي"، وتبعهما الروياني في "تلخيصه"، ووجهه بالمشقة.
قال القاضي الحسين: والقولان فيما إذا كان الفوات في السفر وأراد القضاء في الحضر، شبيهان بقولنا: إن الاعتبار في الكفارات بحالة الوجوب أو حالة الأداء؟
وقد رتب المراوزة الخلاف فيما إذا وقع القضاء في السفر على ما إذا وقع في الحضر، فقالوا: إن قلنا: يقصر إذا قضاها في الحضر، فإذا قضاها في السفر أولى، وإلا فوجهان، وهذا إذا كان السفر الذي قضاها فيه هو السفر الذي فاتته فيه، فلو كان غيره، فوجهان مرتبان على ما إذا كان هو هو، وأولى بالإتمام.
وإن رتب على ما إذا وقع القضاء في الحضر، كان أولى بالقصر، وفي كلام القاضي
الحسين إشارة إلى الفرق بين أن يتذكر في الحضر المتخلل، أو لا، والله أعلم.
ولا خلاف في أنه إذا فاتته في الحضر، فقضاها في حضر آخر- أنه يتم، سواء لم يتخلل بينهما سفر، أو تخلل؛ نظراً لحالة الوجوب والأداء، وهي أغلظ الحالين، وكذا لو أدركه الوقت وهو في السفر، فأقام وقد بقي من وقت الصلاة شيء، ولم يفعلها حتى فات جميع الوقت- فإنه يقضيها تماماً قولاً واحداً، كما قال البندنيجي، وهو في "التتمة" مخصوص بما إذا كان قد بقي من الوقت قدر أربع ركعات أو ركعة، أما إذا أدرك دون ركعة، فإن قلنا: إنه يصير مدركاً للصلاة وجوباً بدون ركعة، فهاهنا يصير مدركاً [حكم المقيمين؛ فيلزمه الإتمام. وإن قلنا: لا يصير مدركاً] للصلاة بذلك، فيصير كما لو فاتته الصلاة في السفر، وأراد قضاءها في الحضر.
قال: ويجوز الجمع بين الظهر والعصر في وقت إحداهما، وبين المغرب والعشاء في وقت إحداهما في السفر الطويل، أي: إذا كان يسوغ القصر فيه؛ لما روى أبو داود، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة:"أن معاذ بن جبل أخبرهم أنهم خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، فأخر الصلاة يوماً، ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعاً، [ثم دخل، ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعاً"] أخرجه مسلم.
قال: وفي السفر القصير- أي: وهو ما لا تقصر فيه الصلاة- قولان:
وجه الجواز: أن أهل "مكة" يجمعون بين الظهر والعصر بـ "عرفة" وبين المغرب والعشاء بـ "مزدلفة"، ولم ينكره عليهم منكر، وسفرهم قصير، ولأنه لما كان الجمع بالحضر بالعذر، فجوازه في السفر اقتضى ألا يفرق فيه بين طويل السفر وقصيره؛ كما في التيمم وأكل الميتة، ولأنه يجوز فيه ترك استقبال القبلة في الصلاة على الراحلة؛ فجاز فيه الجمع كالسفر الطويل، وهذا ما ادعى الماوردي أنه مخرج من القديم، وكلام القاضي الحسين الذي سنذكره يدل عليه.
قال الماوردي: وقد امتنع كثير من أصحابنا من تخريجه.
ووجه المنع: أنه إخراج عبادة عن وقتها؛ فلا يجوز إلا في السفر الطويل كالفطر في رمضان، ولأنه- عليه السلام لم ينقل عنه أنه جمع إلا في سفر طويل، وهذا ما نص عليه في "الأم"، وهو الصحيح، وأهل مكة يجمعون بعذر النسك.
وفي "تعليق" القاضي الحسين: أن القولين ينبنيان على أن الجمع بـ "عرفة": هل يجوز لأهل منى؟ وفيه قولان: الجديد: لا، والقديم: نعم. وعلى هذا: لأي معنى جاز؟ فيه مأخذان:
أحدهما: لأجل النسك؛ فعلى هذا: لا يجوز الجمع في السفر القصير.
والثاني: لأجل السفر؛ فعلى هذا: يجوز في السفر القصير.
قال الرافعي: وظاهر المذهب- عند الأئمة-: أن الجمع بعلة السفر في الآفاقي.
وقد أفهم قول الشيخ: "ويجوز الجمع
…
" إلى آخره، أمرين:
أحدهما: أنه لا يجوز الجمع بين الصبح وغيرها، وبين المغرب والعصر؛ وذلك لأنه لم ينقل أنه- عليه السلام جمع بين ذلك، وخالف جمع الظهر مع العصر، والمغرب مع العشاء؛ لأن الظهر والعصر صلاتا نهار، وقت إحداهما
متصل بوقت الأخرى، [والمغرب والعشاء صلاتا ليل، ووقت إحداهما متصل بالأخرى]، على قول، وعلى آخر: ما بينهما من الفصل قصير.
وقال القاضي الحسين: لأن الظهر والعصر يتفقان في وقت الضرورة؛ فكذلك في وقت العذر، وكذلك المغرب والعشاء.
الثاني: أن فعل كل صلاة [في وقتها] أفضل من الجمع، وهو كذلك عند الأصحاب، إلا في حق الحاج؛ فإن إيثار الفراغ عشية "عرفة" أهم وأولى من كل شيء؛ كذا قاله الإمام [ثمَّ].
قال: والمستحب لمن هو في المنزل في وقت الأولى أن يقدم الثانية إلى الأولى، ولمن هو سائر أن يؤخر الأولى إلى الثانية؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم.
أشار الشيخ- والله أعلم- بذلك إلى ما رواه الشافعي بسنده، عن كريب وعكرمة، عن ابن عباس أنه قال:"ألا أخبركم عن صلاة رسول الله- صلى الله عليه وسلم؟ فيروي أنهم قالوا: بلى. وروي أنه قال: إذا زالت الشمس وهو [في] منزله، جمع بين الظهر والعصر في الزوال، وإذا سافر قبل الزوال، أخر الظهر حتى يجمع بينها وبني العصر في وقت العصر، وكذلك المغرب مع العشاء"، وقد روى أبو داود عن أنس بن مالك قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن ترتفع الشمس، أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما، فإذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر، ثم ركب"، وفي رواية أخرى قال:
"ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشفق" وأخرجه البخاري ومسلم، وليس في حديث البخاري:"ويؤخر المغرب .. " إلى آخره.
وروى أبو داود عن أيوب، عن نافع أن "ابن عمر استُصْرِخَ على صفية وهي بـ "مكة"، فسار حتى غربت الشمس، وبدت النجوم، فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا عجل به أمر في سفر، جمع بين هاتين الصلاتين، فسار حتى غاب الشفق، فنزل فجمع بينهما"، وأخرجه الترمذي من حديث عبد الله ابن عمر، [عن نافع، وقال: "حسن صحيح"، وأخرجه النسائي من حديث سالم عن عبد الله بن عمر] عن أبيه بمعناه أتم منه، وأخرج المسند بمعناه مسلم من حديث مالك، عن نافع.
قال: وإن أراد الجمع في وقت الأولى لم يجز إلا بثلاثة شروط:
أحدها: أن يقدم الأولى منهما؛ لأن وقت الثانية لم يدخل، وإنما جوز فعلها تبعاً للأولى، والتابع لا يتقدم على المتبوع، وبهذا الشرط يبين لك أربع مسائل، يرجع حاصلها إلى واحدة:
الأولى: إذا صلى [العصر قبل الظهر]، لا تصح.
الثانية: إذا صلى الظهر ثم سبقه الحدث، فتوضأ وصلى العصر، وتبين أنه محدث في الظهر- لا تصح العصر.
الثالثة: إذا صلى الظهر، ثم العصر، ثم تبين أنه صلى الظهر قبل الزوال، لا تصح العصر.
الرابعة: إذا صلى الظهر، ثم العصر، وتذكر أنه ترك سجدة من الظهر- لا تصح العصر. ولهذه الصورة تتمة ستأتي، إن شاء الله تعالى.
قال: وأن ينوي الجمع عند الإحرام بالأولى في أحد القولين، ويجوز في القول الثاني قبل الفراغ من الأولى.
هذا الفصل مسوق لبيان أمرين هما الشرط الثاني:
أحدهما: أن نية الجمع لابد منها؛ لأن فعل الصلاة في غير وقتها يجوز أن يكون على وجه الجمع، ويجوز أن يكون على وجه السهو والجهل بالوقت؛ فلابد من النية [للتمييز، ولأنه: لما لما يجز تأخير الأولى إلى الثانية إلا بالنية] مع إمكان فعلها في الحال، وفي وقت الثانية- كان إيجاب النية في تقديم الصلاة عن وقتها مع تعذرها في الحال أولى، وتحريره قياساً: أنها صلاتان مجموعتان في وقت إحداهما؛ فوجب ألا يصح إلا بنية الجمع، أصله: إذا جمع بينهما في وقت الثانية.
وقد حكى ابن الصباغ وغيره عن المزني: أنه جوز أن يأتي بالثانية عقيب الأولى من غير نية الجمع؛ لأن الجمع قد حصل بفعله، وقد حكاه الإمام، عن رواية الصيدلاني، عن بعض الأصحاب، ونسبه مجلي إلى رواية صاحب "التقريب" عن بعض الأصحاب، وبنى عليه أن نية التمتع هل تشترط [في التمتع] بالعمرة إلى الحج؟ قال الإمام: ووجه الشبه بيّن [و] هذا، وإن كان متجهاً في القياس فهو بعيد عن مذهب الشافعي.
الثاني: وقت النية، [وفيه]- كما قال الشيخ- قولان، ادعى الماوردي أنهما منصوصان:
أحدهما: أنه وقت الإحرام بالأولى؛ لأن الرخص المتعلقة بالصلاة في السفر
رخصتان: جمع، وقصر، فلما لم تجز نية القصر إلا مع الإحرام لم تجز نية الجمع إلا مع الإحرام، وتحريره قياساً: أنه رخصة متعلقة بالسفر مفتقرة إلى النية؛ فكان محلها [مع] الإحرام كالقصر، وهذا القول ادعى الجمهور أنه مخرج من نصه على مثله في الجمع في المطر.
والثاني: أنه يجوز قبل الفراغ من الأولى؛ لأن الجمع هو الضم والمتابعة، ووقت الضم حال السلام، فملا جاز أن ينوي الجمع في غير وقت الضم، وهو حال الإحرام، جاز أن يجزئه إذا نوى في وقت الضم، وحين الفراغ، وما قاربه أولى، وخالفت هذه النية نية القصر؛ لأنها تراد لتنعقد ركعتين؛ فلذلك اشترطت في أولها، وهذا القول هو المنصوص في المسألة كما ادعاه الجمهور، وهو الجديد كما قال أبو الطيب، واختيار أبي إسحاق، وقال المزني: إنه أشبه بأصل الشافعي، ولا جرم [كان] هو الأصح في "المهذب" و"الرافعي"، وقد خرج [منه] إلى مسألة الجمع بعذر المطر قول آخر، وبه يحصل في كل من المسألتين قولان بالنقل والتخريج.
وقد امتنع بعض الأصحاب من التخريج في الصورتين، فأقر النصين، وفرق بأن المطر لا يشترط دوامه في جميع الصلاة الأولى، ويشترط دوام السفر في جميع الأولى؛ فلا يمتنع أن تكون صلاة الظهر وقتاً للنية من حيث اشترط سبب الجمع فيها، ولا يكون الأمر كذلك في عذر المطر؛ بل يتعين لنية الجمع وقت التحريم بالأولى؛ فإنه يشترط المطر عنده.
قال الإمام: والصحيح طريقة القولين.
وقد خرج المزني قولاً ثالثاً: أنه يجوز [إيقاع نية] الجمع بعد الفراغ من الظهر وقبل التحرم بالعصر؛ لأن اتصال صلاة الظهر بالعصر لا يزيد على اتصال سجود السهو، أي: وهو يجوز بعد السلام إذا لم يطل الفصل.
قال الإمام: وقد قبل الأئمة منه هذا التخريج على هذه الطريقة؛ فإن الجمع
يتعلق بالصلاتين فلا يبعد وقوعه بينهما.
قال الروياني في "تلخيصه": وقد قيل: إن الشافعي نص على هذا في كتاب استقبال القبلة.
قال الإمام: وإذا قلنا به، فلو أوقع النية مع التحريم بالثانية، فالظاهر من كلام المفرّعين عليه منع ذلك، وليس يبعد عن القياس تجويز ذلك؛ إذ لا فرق بين ربط الأولى بالثانية، وبين ربط الثانية بالأولى، نعم: لو نوى بعد التحرم بالثانية الجمع، فلا أثر لذلك، وصلاة العصر غير منعقدة، وفي كلام الصيدلاني إشارة إلى ذلك، [ومن] منع تخريج المزني- وهم العراقيون- قالوا: ما بعد السلام من الأولى ليس بوقت للضم، لِتَقَضِّي الأولى بالفراغ منها؛ فلا يكون جامعاً بينهما.
والفرق بين ما نحن فيه وسجود السهو: أنه أتى فيه بالنية مع الإحرام؛ لأنه نوى الصلاة مع الإحرام، وموجب الصلاة الإتيان بفروضها وسننها، وسجود السهو بدل عن المسنون؛ فلم يفتقر إلى نية مجردة، وليس كذلك الجمع بين الصلاتين.
وقد أفهم كلام الشيخ أنا على القول الثاني نعتبر أن تكون النية قبل السلام؛ فإنها لو كانت معه، لكانت مع الفراغ، [وهو ما حكاه الإمام عن شيخه، وإن الذي اختاره الشيخ أبو بكر: أنه يجوز إيقاعها] مع التحلل عن الأولى. وهو ما يقتضيه كلام الماوردي وغيره.
قال: وألا يفرق بينهما؛ لأنها إنما تفعل تبعاً، ولو فرق بينهما لم تكن تبعاً، ولأن الجمع يكون بالمقارنة أو بالمتابعة، والمقارنة متعذرة؛ فتعينت المتابعة.
ثم المرجع في التفرقة وعدمها إلى العرف عند العراقيين: فما يعد تفرقة يبطل الجمع، وما لا فلا، وإن كانت حقيقة الاتصال وقوع الإحرام بالثانية عقيب [سلام] الأولى، وبعضهم لم يضبط ذلك بحدّ. بل قال: لو أتى بكلمة أو كلمتين، أو الإقامة دون الأذان- لم يضر؛ لأنه يسير في العادة، وقد شهد للتفريق بالإقامة فعله- عليه السلام فإنه صح أنه كان "يأمر بلالاً بالإقامة
بين صلاتي الجمع"، ولأنها من مصالح الصلاة، والتيمم بينهما مع طلب الماء مغتفر على المذهب في "التهذيب"، وعليه عامة الأصحاب، ولم يحك البندنيجي غيره، والوضوء بالاغتفار أولى؛ لأن زمنه يقصر عن زمن طلب الماء والتيمم، وهو مما لا خلاف فيه.
وعن أبي إسحاق: أن الفصل بالتيمم يبطل الجمع.
وقال الماوردي: إن طال زمن الطلب للماء بطل الجمع، وإن قرب لم يبطل.
وفي "الروضة" في كتاب الحيض: أن المتحيرة لا يجوز لها الجمع بعذر السفر، ولا المطر على الصحيح، ومقابله: أنه يجوز كغيرها.
وقد ألحق الإصطخري بذلك التنفل بينهما، فجوزه.
قال الأصحاب: وهو خلاف النص؛ لأنه قال: "ولا يسبح بينهما، ولا عقيب الثانية"، وأراد: لا يصلي؛ لأنه إن صلى بينهما طال الفصل، وإن تطوع بعد الثانية فقد تطوع بعد العصر، وهذا لا يجوز. حكاه البندنيجي.
وفي "التتمة": أن الإصطخري قال: لا تشترط الموالاة في الجمع بينهما في وقت الأولى؛ فيجوز وإن طال الفصل ما لم يخرج وقت الأولى منهما.
قال الرافعي: ويروي مثله عن أبي علي الثقفي.
وقال الموفق بن طاهر: سمعت أبا عاصم العبادي يحكي عن "الأم": أنه إن صلى في بيته، ونوى الجمع، وجاء إلى المسجد، وصلى العشاء فيه- جاز، والمشهور خلافه، ويدل عليه قول الشافعي: لو سها بعد الفراغ من الأولى سهواً طويلاً، أو أغمي عليه، ثم أفاق- لم يجز له الجمع.
وفي "تعليق القاضي الحسين": أنه يشترط ألا يزيد زمان التفريق بين صلاتي الجمع على الزمان الذي يتخلل بين الإيجاب والقبول، والإقامة وعقد الصلاة، والزمان الذي [يتخلل بين الخطبتين، والزمان الذي] يبني فيه على الصلاة إذا ذكر ركناً نسيه.
وقد ذكر بعضهم مع ما صرح به الشيخ من الشروط الثلاثة شرطاً آخر، وهو دوام السفر إلى الفراغ من الثانية، فلو قدم وطنه، أو نوى الإقامة قبل الشروع في العصر لم يجز له أن يتلبس بها، ولو نواها بعد الشروع فيها، لم تقع عن الفرض.
قلت: وهذا يؤخذ من قول الشيخ: "ويجوز الجمع بين الظهر والعصر في وقت إحداهما، وبين المغرب والعشاء في وقت إحداهما في السفر .. "، وهو يعني أيضاً ما نبه عليه القاضي الحسين [من أنه لابد أن تقع الأولى منهما في وقتها.
وقد حكى الإمام والقاضي الحسين] وغيرهما من المراوزة وجهاً فيما إذا طرأت الإقامة في أثناء الثانية: أنها لا تؤثر في بطلانها، وهو ما حكاه البندنيجي عند الكلام في الجمع بعذر المطر، وصاحب هذا الوجه لا يشترط دوام السفر إلى دخول وقت الثانية من طريق الأولى.
وأما القائلون بالأول، فقالوا: هل يشترط دوام السفر إلى دخول وقت الثانية، أم لا؟ فيه وجهان:
أظهرهما في "الرافعي": لا، قياساً على ما لو نوى القصر، وفرغ من الصلاة، ثم أقام والوقت باق.
والثاني: نعم؛ قياساً على ما لو عجل الزكاة، ثم خرج عن أهلية الوجوب، أو استغنى الفقير قبل الحول؛ فإن ما أداه لا يقع موقع الزكاة.
وعلى هذا: فهل يشترط أني مضي من وقت الثانية مقدار الصلاتين وهو مسافر، أو لا؟ قال القاضي الحسين: فيه خلاف.
وفي "التهذيب" و"الكافي": أنه إن مضى بعد دخول [وقت] الثانية ما يسعها، ثم طرأت الإقامة- لا يضر وجهاً واحداً، وإن كان قبل ذلك ففيه الخلاف.
وأغرب الإمام، فقال: إذا قلنا لو طرأت الإقامة في أثناء الصلاة: إنها تؤثر، فهل تؤثر إذا طرأت بعد الفراغ من الثانية: إما في وقت الأولى، أو في وقت الثانية؟ فيه وجهان. ولم يقيد ذلك بما إذا كان لم يمض من وقت الثانية ما يسعها أو لا.
ثم حيث قلنا بأن صلاة العصر لا تحسب له عما عليه، فهل تبطل أو تنقلب نفلاً؟ فيه خلاف سبق نظيره، وبه صرح الروياني ها هنا، والله أعلم.
فرع: إذا صلى الظهر ثم العصر، ثم تذكر أنه ترك سجدة من الظهر- بطل الظهر والعصر، كما تقدم، ولو تذكر أنها من العصر بطل الجمع، وأعاد العصر
في وقتها، ولو جهل أنها من الظهر أو العصر، أعاد كل صلاة في وقتها؛ أخذاً بالاحتياط؛ قاله القاضي الحسين.
وفي "زوائد العمراني": أنه يجيء فيه قول آخر: أن له أن يجمع إليها العصر؛ قياساً على ما حكاه الربيع في الجمعتين إذا أقيمتا في بلد واحد، ولم تعرف السابقة منهما: أن لهم أن يصلوا الجمعة.
وقال الرافعي: إنه حكاه في "البيان" عن الأصحاب.
ثم هذا فيما إذا طال الفصل، فلو قرب أعاد الصلاتين جَمْعاً، قاله الرافعي.
قال: وإن أراد الجمع في وقت الثانية كفاه- أي: في نفي الإثم، وجواز قصر الأولى، إن كان السفر طويلاً- نية الجمع [قبل خروج وقت الأولى بقدر ما يصلي فرض الوقت؛] لأن تأخير الصلاة عن وقتها تارة يكون معصية: وهو أن يؤخرها عامداً لغير الجمع، وتارة يكون مباحاً: وهو أن يؤخرها للجمع، وصورة التأخيرين سواء؛ فلابد من نية تميز بينهما.
وقد أفهم قول الشيخ: "كفاه نية الجمع قبل خروج وقت الأولى، بقدر ما يصلي فرض الوقت
…
" أموراً:
أحدها: أن ذلك شرط، وهو كذلك؛ بل قال في "الحاوي": إنه لا يختلف مذهب الشافعي في اشتراط ذلك، وسائر أصحابه.
وفي "شرح" ابن التلمساني أن الإمام قال: إنا إذا قلنا: لا يجب الترتيب والموالاة، لا تجب نية الجمع، وكأن نفس السفر مسوغ للتأخير.
وحكاه الفوراني وجهاً، والذي رأيته في "النهاية": أنا إذا لم نشترط الترتيب
والموالاة، فلا تشترط وجهاً واحداً.
وقال الرافعي: إنه محمول على نية الجمع عند الإحرام بالأولى في وقت الثانية، ويؤيد هذا التأويل أنه حكى عن شيخه والصيدلاني في آخر الباب: أنه لو لم ينو، عصى بالتأخير.
[ثم] قال: وفيه شيء؛ فإنا إذا لم نشترط نية الجمع عند إقامة الصلاة، فلا يبعد أن يقال: نفس الشرع يسوغ التأخير، ويصير الوقت مشتركاً.
الثاني: أنه لا يكفيه نية الجمع إذا بقي من الوقت ما لا يسع كل فرض الوقت، وهو [وجه حكاه الأصحاب؛ بناءً على أنه إذا أوقع ركعة في الوقت] وباقيها خارج الوقت- تكون قضاء، أو قضاء وأداء، والمذهب- كما تقدم- أنها تكون بجملتها أداء، وعلى هذا يكفيه إذا بقي من الوقت قدر ما يؤدي فيه ركعة، [وبه صرح الروياني في "تلخيصه"، وعلى رأي الداركي: يكفيه إذا بقي من الوقت قدر ما يؤدي فيه تكبيرة أيضاً،] وجواب هذا أنا نقول: تقدير كلام الشيخ بقدر ما يؤدي فيه فرض الوقت، أي: أداء، وحينئذ لا يخرج وجه من ذلك عن كلام الشيخ.
الثالث: أنه لا يشترط معه شيء آخر، وقد قال بعضهم: إنه لابد من شرط آخر، وهو بقاء السفر إلى وقت الجمع، وبه صرح ابن الصباغ، وجوابه: أن قول الشيخ من قبل: ويجوز الجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء في وقت إحداهما في السفر الطويل- ينبه عليه، ويغني عنه، وسنذكر عن المراوزة وجهاً آخر في اشتراط الترتيب والموالاة.
وقد أشار الشيخ إلى نفيه؛ حيث قال: والأفضل أن يقدم الأولى [منهما]، وألا يفرق بينهما؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كذا كان يفعل، وإنما لم يجب؛ لأنه لو أخر الأولى إلى الثانية بغير عذر- لما وجب، بل جاز له تقديم [العصر على الظهر] كما تقدم في باب المواقيت، وجاز له التفريق؛ فمع العذر أولى.
قال الإمام: وقد غلط بعض أصحابنا، فقال تفريعاً على هذا: إن صلاة الظهر تكون مقضية، وفائدة الرخصة رفع الإثم، وتجويز قصر الظهر. وهذا زلل، وقلة بصيرة بالمذهب؛ فإن أصحاب الضرورات إذا زالت ضروراتهم، وقد بقي إلى الغروب قدر خمس ركعات، فنجعلهم مدركين لصلاة الظهر؛ حملاً على الوقت المشترك، ولو كان الظهر مقضياً في وقت العصر في حق المعذورين، لما تحقق الاشتراك في الوقت قطعاً؛ فيلزم ألا يكونوا مدركين لصلاة الظهر، ولأنها [لو] كانت مقضية بالتأخير، لوجب أن يتوسع في وقت قضائها في العمر حتى يقال: يقضيها المرء متى شاء. ولا خلاف في أنه لا يجوز للمسافر أن يخرج صلاة الظهر عن وقت العصر.
وهذا كله تفريع على عدم وجوب الترتيب والموالاة، المذكور في طريقة أهل العراق، والأصح عند المراوزة- وحكوا معه وجهاً آخر-: أن الترتيب يجب؛ لأن فعلها يكون أداء كما في التقديم، وقد اختاره في "البسيط".
وقال في "التتمة" هاهنا، والقاضي الحسين قبيل كتاب الجنائز: إن وجوب الموالاة مفرع على وجوب الترتيب.
[وقال الإمام: إن الصيدلاني لم يتعرض لذكر الخلاف في الترتيب، والذي فهمته من مساق كلامه قصر الخلاف على الترتيب]؛ فإنه ظاهر، وأما اشتراط الموالاة، فلا معنى له عندي؛ فإنا إذا قلنا: تقدم العصر والفراغ منها يلحق الظهر بالفائتة، فهذا له وجه، وأما أن نقول: إذا أقام الظهر تعين فعل صلاة الظهر [بعدها] وصلاة العصر] مؤداة في وقتها- فليس لذلك وجه، بل إذا قدم العصر،
فيجوز أن نقول: شرط إجزاء صلاة العصر مقدمةً أن توصل بالظهر، فإن لم توصل لم تصح؛ لأنها مقدمة، فشرط إجزائها وهي مقدمة: الموالاة، هذا بين، فأما إيجاب تعجيل العصر على أثر الفراغ من الظهر في وقت العصر، فيبعد جدّاً، فتأمل ذلك؛ فإنه حسن بالغ.
فروع:
أحدها: إذا قلنا بوجوب الموالاة، فيجب عليه أن ينوي عند الشروع في الصلاة الأولى الجمع، كما في الأولى؛ قاله في "الفتاوي"، وكذا الإمام، وإن قلنا: لا تجب، فلا يشترط [وإن] أوجبنا الترتيب؛ قاله الإمام.
الثاني: إذا قلنا بوجوب الترتيب، فإذا قدم العصر على الظهر؛ فلا يجوز له أن يصلي الظهر قصراً، إذا قلنا: إن الفائتة في السفر لا تقضي قصراً، وعصى الله تعالى، وهل يجوز له أن يصلي العصر قصراً؟
قال القاضي الحسين قبيل صلاة الجنائز: المذهب نعم؛ لأنه يصليها في وقتها وهو مسافر، وقيل: لا؛ لأنه إنما جوز له قصر كلتيهما للجمع، [وهو قد] ترك الجمع- علة قصر إحدى الصلاتين- فلذلك بطل عليه قصر الصلاة الثانية.
الثالث: إذا راعينا الترتيب والموالاة، فصلى الظهر قبل العصر، وتحقق أنه ترك سجدة من الظهر- فسد عصره، وعليه إعادة الظهر تامة، ويجيء فيه القول الآخر، وهذا بخلاف ما إذا قلنا بعدم وجوب الترتيب والموالاة؛ فإنه يعيدها قصراً، بلا خلاف، ولو تحقق أنه تركها من العصر بنى إن كان الفصل يسيراً، وعليه أن يعيد العصر إن كان الفصل طويلاً، والظهر إن كان قد أتمها فلا شيء عليه، وإن كان قد قصرها فعليه إعادتها تماماً على وجوب الموالاة؛ لأنه بطل حكم الجمع، وفات الظهر، وإن شك هل هي [من] الأولى، أو [من] الثانية- أعاد كلتيهما، ولا يجوز الجمع بينهما؛ بناءً على أن التفريق لا يجوز، ويجب أن يتم الظهر.
وقد سلك الماوردي طريقاً آخر، فقال: إن صلى الظهر، ثم العصر عقيبه- فقد
حصل له الجمع، وكان مؤدياً لكلتا الصلاتين، وإن صلى الظهر، ثم تنفل، أو صبر زماناً طويلاً، ثم صلى العصر- لم يكن جامعاً بينهما، وكان قاضياً للظهر، مؤدياً للعصر، ولا يكون بذلك عاصياً؛ لأنه قد صلى العصر في وقتها، والظهر كان له تأخيرها. وإن قدم العصر، ثم صلى الظهر بعدها، فلا يكون جامعاً بينهما في الحكم، وتجزئه الصلاتان معاً، ثم إن كان قد صلى الظهر عقيب العصر من غير تطاول، لم يكن عاصياً، وكان بمنزلة من نسي صلاة الظهر، ثم ذكرها وقد دخل وقت العصر. وإن تطاول الزمان، بأن صلى العصر، ثم صبر زماناً طويلاً، ثم صلى الظهر- فهذا عاص بتأخير الظهر بعد العصر؛ لأن له تأخيرها إلى وقت العصر بنية الجمع، ويجوز له تقديم العصر عليها إذا ترك الجمع، ولا يجوز له تأخيرها [بعد صلاة العصر، فإن أخرها كان عاصياً. وكذلك الحكم في المغرب مع العشاء].
قال: ويجوز للمقيم الجمع في المطر في وقت الأولى منهما، إن كان يصلي في موضع يصيبه المطر، وتبتل ثيابه؛ لما روى أبو داود، عن ابن عباس قال:"صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً من غير خوف ولا سفر". قال مالك: أرى ذلك كان في مطر. وأخرجه مسلم وليس فيه كلام مالك، وقد ذكر بعض الشارحين أن الشافعي ومالكاً قالا:"نرى ذلك بعذر المطر .. ".
والمشهور في "التتمة" وغيرها: أن الشافعي قال: "قال مالك: لا أرى ذلك إلا بعذر المطر"، وأن الشافعي استأنس بقول مالك، كما استأنس بقول ابن جريج في تحديد القلتين.
فإن قيل: قد روى مسلم، عن ابن عباس قال:"جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر بالمدينة من غير خوف، ولا مطر، فقيل لابن عباس: ما أراد إلى ذلك؟ قال: أراد ألا يحرج أمته"، وهذا ينفي تأويل مالك.
قلنا: ذلك لا يضرنا؛ لأنه يقتضي الجمع من غير مطر، فمع المطر أولى. على أنا نؤوّله، فنقول: مراده: ولا مطر يصيبه، بأن كان تحت سقف، وقد روى نافع، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم "جمع بين الظهر والعصر في المطر"، وروى الأثرم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال:"إن من السنة إذا كان يوم مطر أن يجمع بين المغرب والعشاء"، وهذا ينصرف إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد أفهم كلام الشيخ أموراً:
أحدها: أنه لا فرق في الجمع بسبب المطر بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، وهو المشهور، وعن صاحب "التقريب" رواية قول غريب في اختصاص ذلك بالمغرب والعشاء، [وهو المشهور] لمذهب مالك.
قال الإمام: وقد حكاه العراقيون وأسقطوه، ولم يعدوه من المذهب، وأولوه، وقد ادعى بعضهم أن له اتجاهاً من جهة الظلمة، وهو شبهة مالك.
وأصحابنا نقضوا عليه بالليلة المقمرة؛ فإنه يجوز الجمع فيها مع انتفاء الظلمة.
الثاني: أنه لو كان يصلي في موضع لا يصيبه المطر، بأن كان في بيته، أو تحت سقف [في المسجد] وهو يمشي إليه في كنّ، أو كان متصلاً ببيته- أنه لا يجوز له الجمع، وهذا ما حكاه الماوردي، والبندنيجي، والقاضي أبو الطيب عن نصه في "الأم"، وقال الروياني: إنه الأقرب، وهو الظاهر في "النهاية" والأصح في "التهذيب" و"الرافعي"، وقد عزاه في "المهذب" إلى القديم، وقال: إنه نص في "الإملاء" على الجواز؛ لأنه- عليه السلام كان يجمع في المسجد، [وبيوت بعض أزواجه في المسجد] وباقيها بقربه. وقد اختاره في "المرشد"، وصححه ابن يونس.
والخلاف يجري فيما لو حضروا المسجد وكان مكشوفاً، بحيث يصيبهم فيه المطر، وأرادوا أن يصلوا فرادى؛ حكاه الإمام عن الشيخ أبي بكر.
الثالث: أن المطر لو كنا لا يبل الثياب، لا يجوز الجمع بسببه، وبه صرح في "المهذب"؛ لأنه لا يتأذى به.
الرابع: أنه لا يجوز الجمع بعذر البرد والثلج؛ لأنه لما خص الجواز بعذر المطر، أفهم أنه لا يجوز بما سواه من ذلك، وقد قال الماوردي: إن البرد أقل ما يكون بدون مطر، فإن كان وحده قال البندنيجي وأبو الطيب: فلا يفيد الجمع.
وأما الثلج: ففي "المهذب" و"التهذيب" و"الحاوي": أنه إن بل الثياب؛ لذوبانه بسبب حر الهواء، جوّز الجمع، وإلا فلا، وألحق في "الشامل" حالة نزوله قطعاً كباراً بحالة ذوبانه، فجوز الجمع به، وقد أطلق في "الوسيط" حكاية وجهين في جواز الجمع بعذر الثلج، وهما في "النهاية" محكيان عن رواية الشيخ أبي محمد، من حيث إنه لا يبل الثوب، وهذا يؤذن بأن محلهما إذا كان لا يبل الثوب، وبه صرح في "التتمة"، وأبداهما القاضي الحسين في "تعليقه" احتمالين لنفسه فيما إذا كان يبل الثوب، ووجه المنع: بأن السنة وردت في المطر، وهو خصوص من القياس؛ فلا يقاس عليه غيره.
قال: ويكون المطر- أي: وما في معناه- موجوداً عند افتتاح الأولى، وعند الفراغ منها وافتتاح الثانية؛ لأن المطر هو المبيح له، والعذر المبيح يعتبر وجوده في الصلاتين كالسفر.
قال الروياني في "تلخيصه": وقيل: إذا انقطع المطر عند سلامه من الأولى، ثم عاد على قرب عند إحرامه بالثانية- لا يؤثر في بطلان الجمع. وهو الأشبه. وفي "النهاية":[أنه] الذي مال إليه المعظم، إلا الشيخ أبا زيد. وأعجب من قول
الإمام ذلك مع أن القاضي الحسين والعراقيين قالوا به أيضاً، وتبعهم البغوي، وغيره؛ كما قال الرافعي.
ولابد مع وجود المطر في الأحوال الثلاثة من الشرائط الثلاث التي تقدمت في الجمع في وقت الأولى في السفر؛ لأن المطر هاهنا سبب كالسبب ثم، وبه صرح الأصحاب.
وقد أفهم كلام الشيخ أمرين:
أحدهما: أن المطر لو لم يكن موجوداً عند افتتاح الأولى، لا يجوز الجمع، وبه صرح في "المهذب" والبندنيجي والقاضي الحسين وغيرهم؛ لأن سبب الرخصة حدث بعد الدخول، فلم تتعلق به؛ كما لو دخل في الصلاة، ثم سافر: لا يجوز له الجمع، وقد حكاه ابن الصباغ عن نصه في استقبال القبلة، ثم قال: وهذا إنما قاله؛ لأنه يحتاج أن يوجد العذر المبيح في جميع الصلاتين كالسفر، ثم قال:"قال أصحابنا: وسواء قلنا: يحتاج إلى نية الجمع، أو لا يحتاج"، وهذا عين ما أورده القاضي أبو الطيب في "تعليقه"، ثم قال ابن الصباغ: وهذا- عندي- ينبغي أن يكون فمرعاً على قوله: إنه يحتاج إلى نية الجمع في ابتداء الصلاة، أما إذا قلنا: يكفيه نية الجمع قبل السلام، فيجوز له الجمع إذا كان [المطر] موجوداً قبل الفراغ من الأولى، [وقد حكاه ابن الصباغ عن نصه في استقبال القبلة]، وهذا ما حكاه الماوردي والمتولي قال بعضهم: والفرق بين هذا وبين ما إذا افتتح الصلاة في الحضر، وسافر، فإنه لا يجمع قولاً واحداً؛ لأن المبيح هو السفر، والسفر هو الضرب في الأرض، ولا يوجد إلا بعد انقضاء الصلاة، ومجرد العزم على السفر لا يكون سفراً، فإذا نوى الجمع، والحالة هذه، فقد نواه بدون المبيح، والعذر في المطر هو ما يلحقه من المشقة بالعود إلى الثانية، وهو موجود حالة نية الجمع.
قلت: وهذا فرق في غير محل الجمع؛ لأن محله إذا افتتح الصلاة ولا مبيح، ثم وجد المبيح في أثنائها، [وذلك يتصور في سفر البحر، بأن يحرم في سفينة في وسط البلد، ثم تسير وهو في أثنائها،] وتخرج من البلد؛ فإنه لا يباح له الجمع، وإن وجد سبب الرخصة وقت اعتبار النية.
الثاني: أنه لا يشترط وجود المطر في غير الأحوال الثلاثة التي ذكرها، وهو الذي أورده العراقيون، وصاحب "الكافي" و"التتمة"، وحكى الفوراني وجهاً آخر: أن انقطاع المطر في أثناء الصلاة الثانية يبطل الجمع، كما حكيناه فيما إذا طرأت الإقامة في أثنائها، وعلى هذا: لو انقطع بعد الفراغ من الثانية، كان كما لو طرأت الإقامة بعد فراغها، وقد سبق.
قال الإمام: وهذا لا وجه له؛ لأنا إذا لم نعتبر دوام المطر في أثناء الظهر، فكيف نعتبره في أثناء العصر وما بعده؟! والفرق بين الجمع بعذر المطر والسفر: أن دوام السفر إليه، وانقطاع المطر ليس إليه.
فرع- قاله في "التهذيب" عن القاضي- أنه لو قال لشخص بعد سلامه من الأولى: انظر هل انقطع [المطر] أو لا؟ بطل الجمع؛ لأنه شك في سبب الجمع.
واعلم: أنه يعترض على ما ذكره الشيخ والأصحاب ها هنا سؤال؛ من حيث إن شرط الجمع أن تقع الصلاتان في وقت إحداهما، وهذا مما لا خلاف فيه، وقد اختلف قول الشافعي في أن وقت المغرب يدوم على غيبوبة الشفق الأحمر، وهو بمقدار ما يتوضأ، ويستر العورة، ويؤذن، ويصلي خمس ركعات، وقضية هذا أن يكون للشافعي قول: أنه لا يجوز الجمع بين المغرب والعشاء في وقت المغرب في الحضر بعذر المطر؛ لأن العشاء لا تقع بجملتها في وقت المغرب، بل ركعتان منها، لكن الأصحاب مطبقون على جوازه على [كل] قول؛ عملاً بظاهر الخبر المتقدم، وتكلف بعضهم لذلك جواباًن فقال: هذا يقوي القول بأن وقتها ممتد إلى غيبوبة الشفق، أو يكون تفريعاً على أنه إذا أوقع بعض الصلاة في الوقت، كان جميعها أداء.
قلت: ويظهر أن يقال في جوابه: إن الصلاة الثانية إذا جمعت مع الأولى في وقت الأولى، كانت كالجزء منها، ويدل عليه أنه لو فصل بينهما بأكثر مما يفصل به بين أركان الصلاة عند الجهل أو النسيان- لم يصح الجمع، ولو بان بطلان الأولى بان بطلان الثانية إذا كانت كالجزء منها، وقد تقدم أنا على القول
بأنه لا وقت لها إلا وقت واحد، يجوز له أن يستديمها إلى غيبوبة الشفق؛ فلا جرم جاز الجمع بينهما، وإن كانت وقت الأولى يخرج في أثناء الصلاة الثانية، والله أعلم.
قال: وفي جواز الجمع- أي: بعذر المطر- في وقت الثانية قولان:
وجه الجواز: أنه عذر يجوّز التقديم؛ فجوز التأخير كالسفر، وهذا ما اقتصر الشيخ على إيراده في كتاب الصلاة، وادعى البندنيجي أنه القديم، وقال في "المهذب": إنه نص عليه في "الإملاء".
[وقال القاضي أبو الطيب وابن الصباغ: إنه نص عليه في القديم و"الإملاء"].
وإذا قلنا به، قال الطبري في "عدته": اعتبرنا وجود المطر في وقت الأولى، وهو ما حكاه مجلي عن "تهذيب" نصر المقدسي، فلو انقطع قبل وقت العصر، لا يجوز الجمع.
قال في "التهذيب": ويصلي الظهر في آخر وقته، كالمسافر إذا أخر نية الجمع، ثم أقام قبل دخول وقت العصر، ولو انقطع المطر بعد دخول وقت الثانية، جاز له الجمع؛ ذكره الطبري وصاحب "الفروع".
وقال الرافعي: إن قضية ما ذكره البغوي: أنه لو انقطع المطر في وقت الثانية
قبل فعلها- أنه يمتنع الجمع أيضاً، وصارت الأولى قضاء كما [لو] صار مقيماً.
وقال العراقيون: يصليها مع الثانية، سواء كان المطر باقياً أو لا.
ووجه المنع: أن المطر قد ينقطع، فيؤدي إلى الجمع من غير وجود عذر.
قال بعضهم: وعلى هذا لو كان راكباً في البحر، وجوز أن تشتد الريح، فتوصله إلى مقصده قبل وقت الثانية- لم يجز له التأخير، وهذا القول نص عليه في "الأم".
وهذه الطريقة طريقة المراوزة أيضاً إلا الفوراني؛ فإنه قال في "الإبانة": يجوز أن يؤخر الأولى إلى الثانية في المطر، وهل يجوز أن يقدم الثانية إلى الأولى؟ فيه وجهان.
وقد أفهم كلام الشيخ هاهنا منع الجمع للمقيم بغير عذر المطر، سواء كان ثم عذر من خوف أو مرض أو وحل، ونحو ذلك أم لا، وبه صرح في كتاب الصلاة في جمع التأخير، حث قال: ولا يعذر أحد من أهل فرض الصلاة في تأخيرها عن الوقت إلى آخره، وهو المذهب فيه، وفي التقديم أيضاً، وبه جزم القاضي الحسين في باب صلاة الخوف، وكذا الإمام، وادعى الإجماع على أنه لا يجوز بعذر المرض، والمتولي حكى عن القاضي: أنه اختار جوازه بعذر الخوف والمرض، وأيده في المرض بأنه يجوّز الفطر كما يجوّزه السفر؛ فالجمع أولى.
وحكى الرافعي أن الخطابي جوز الجمع بعذر المرض والوحل، وأن الروياني في "الحلية" استحسنه.
وحكى في "الروضة" أن الخطابي حكى عن القفال الكبير الشاشي، عن أبي إسحاق المروزي جواز الجمع في الحضر؛ للحاجة، من غير اشتراط الخوف والمطر والمرض، وبه قال ابن المنذر من أصحابنا، وابن الصباغ حكى عن ابن المنذر: أنه أجاز الجمع في الحضر من غير مرض؛ لأجل خبر ابن عباس السابق، وروي عنه- أيضاً-[أنه] قال:"صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ثمانية وسبعاً الظهر والعصر، والمغرب والعشاء" أخرجه البخاري ومسلم. والحمل على
المطر قد جاء في رواية أخرى ما يدفعه، كما تقدم.
وأجاب أصحابنا عن ذلك: بأنه يحتمل أن يكون قوله: "ولا مطر"، راجعاً إلى أن المطر انقطع في الصلاة الثانية، أو لم يكن واقعاً عليهن بأن كان قد صلى في المسجد، والسقف يحول بينه وبينه، ويحتمل: أن يكون أراد بالجمع: التأخير، بأن صلى الأولى في آخر وقتها، والثانية في أول وقتها، وهذا التأويل إنما يستقيم على أن وقت المغرب يمتد إلى غيبوبة الشفق، وحديث جبريل- عليه السلام وإن كان دالاً على ذلك أيضاً، لكن بعد العهد به، وتجدد قوم لم يبلغهم، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين لمن عرف ذلك أن حكمه باق، ولمن لم يعرفه أن هذا هو الحكم.
قال الأصحاب: فإن قيل: جوزتم ترك الجمعة والجماعة بالوحل، ولم تجوزوا الجمع بسببه.
قلنا: الفرق: أن تارك الجمعة يفعل الظهر بدلاً منها، وتارك الجماعة يصلي منفرداً في بيته، وأما الذي يجمع لأجل الوحل، فإنه يترك وقت الصلاة إلى غير بدل.
فروع نختم بها الباب:
الفرع الأول: قال في "البيان": إذا أراد جمع صلاة العصر إلى صلاة الجمعة في المطر، لا أعلم فيها نصّاً، والذي يقتضيه القياس: أنه يجوز بشرط وجود المطر عند الإحرام بالجمعة، وعند السلام منها، وعند الإحرام بالعصر، ولا يشترط وجوده في الخطبتين، وإن أراد أن يؤخر الجمعة إلى العصر على القول القديم جاز، ولا يشترط وجود المطر في وقت العصر على ما مضى، ويخطب وقت [العصر] ويصلي الجمعة؛ لأن كل وقت جاز فعل الظهر فيه، جاز فعل صلاة الجمعة فيه، كآخر وقت الظهر. وهذا القول ضعيف، وكذا ما يتفرع عليه.
وقد حكى الرافعي جواز جمع العصر إلى الجمعة، وقال: إن قول صاحب
"البيان": إنه لا يشترط وجود المطر في الخطبة، قد ينازع فيه إذا قلنا: إن الخطبتين بدل من الركعتين.
قلت: وقد يظهر أن يقال: إنا وإن قلنا بجواز الجمع في وقت العصر، لا نجوّز تأخير الجمعة له؛ لأن لنا قولاً، أو وجهاً: أن الصلاة الأولى إذا فعلت في وقت الثانية بسبب السفر، تكون قضاء، وفائدة الجمع رفع المأثم، فإذا قلنا بهذا، لا يجوز تأخيرها؛ لأن الجمعة لا تفعل قضاء وقد يكون هذا قول من قال بجواز الجمع بعذر المطر في وقت الثانية؛ فيرتفع الخلاف. والله أعلم.
الفرع الثاني: إذا نوع الجمع، ثم نوى تركه في أثناء الأولى، ثم نوى الجمع ثانياً- قال في "الروضة"- حكاية عن الداركي: إن فيه قولين.
الفرع الثالث: إذا جمع الصبي بين الظهر والعصر في وقت الظهر، ثم بلغ، ووقت العصر باق- لا إعادة عليه؛ قاله العمراني في "زوائده".
الفرع الرابع: إذا نوى الكافر أو الصبي السفر إلى مسافة القصر، ثم أسلم الكافر، وبلغ الصبي في أثناء الطريق- فلهما القصر في بقيته؛ قاله في "الروضة"، ووجهه ظاهر، والله أعلم.
***