المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب الصلاة على الميت - كفاية النبيه في شرح التنبيه - جـ ٥

[ابن الرفعة]

الفصل: ‌باب الصلاة على الميت

‌باب الصلاة على الميت

أراد بالميت: الميت المسلم، أما الكافر فلا تحل الصلاة عليه؛ لقوله تعالى:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 113]، وقال تعالى:{وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً} الآية [التوبة: 84].

قال: وهي فرض على الكفاية، أي: حيث تشرع؛ لقوله- عليه السلام: "فرض على أمتي غسل موتاها والصلاة عليها ودفنها"، وقال- عليه السلام:"صلوا على من قال لا إله إلا الله" فأمر بذلك وظاهره الوجوب، وليس فرض عين بالاتفاق؛ فتعين أن يكون فرض كفاية وهو إجماع.

ويستحب الإكثار في عدد المصلين؛ لقوله- عليه السلام: "ما من رجل يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه" أخرجه مسلم.

وبماذا تحصل الكفاية حتى يسقط بفعلها الفرض عن الباقين؟ فيه قولان في "المهذب" و"الشامل" وغيرهما، ووجهان في "الوسيط" مع آخرين:

أحدهما: ثلاثة؛ لقوله- عليه السلام "صلُّوا" وهذا خطاب للجمع، وأقله ثلاثة، وقد ادعى البندنيجي أنه ظاهر المذهب؛ لأنه قال: ولو أحدث الإمام، وانصرف

ص: 59

-أتمها المأمومون فرادى، فإن كانوا كلهم غير متوضئين أعادوا الصلاة، فإن كان منهم ثلاثة متوضئين أجزأت الصلاة، وصححه أبو الفرج الزاز، ولم يحك الماوردي غيره.

والثاني من القولين: أنها تحصل بواحد؛ لأنها صلاة لا يشترط فيها الجماعة فلا يشترط فيها الجمع كغيرها من الصلوات.

قال ابن الصباغ: وعليه نص في "الجامع الكبير" فإنه قال: إذا صلى عليها واحد- أجزأ، واختاره في "المرشد"، وقال جماعة: إنه الظاهر.

والثالث: أنها تحصل باثنين؛ بناءً على أن أقل الجمع اثنان، كذا قاله البغوي تبعاً للقاضي الحسين، ولم يحكه الفوراني وحكى ما سواه.

وقال الرافعي: إنه لم يبلغ الإمام نقلاً، لكنه قال: هو محتمل جداً؛ لأن الجماعة تحصل بذلك، وهو كقولنا في مسألة الانفضاض على رأي: يكتفي ببقاء واحد مع الإمام.

والرابع: أنها لا تسقط بأقل من أربعة، وهو ما صدر به في "الوسيط" كلامه، وألحقه الشيخ أبو علي بالحمل، وهو لا يجوز أن ينقص عن أربعة كما قال الإمام، وهو هفوة منه؛ فإن الحمل بين العمودين قد يحصل بثلاثة، وميل الشافعي إلى أن الحمل بين العمودين أفضل.

ولو زاد المصلون على ذلك فصلاة الجميع تقع فرضاً كما صار إليه الأئمة؛ لأن بعضهم ليس بأولى من البعض، وإذا عسر التمييز فالوجه القضاء بالفريضة في حق الكافة.

قال الإمام: ويحتمل أن يقال: هو بمثابة ما لو أوصل المتوضئ الماء إلى جميع رأسه دفعة واحدة، وقد تردد الأئمة في أن الكل يوصف بالفريضة أم الفرض مقدار الاسم على الإبهام من الرأس؟ فليخرج الأمر في الجمع على ذلك.

وقد يتخيل فرق بأن مرتبة الفريضة تزيد على مرتبة السنة وكل [من دخل] في الجمع الكبير لا ينبغي أن يحرم رتبة الفريضة، وقد قام بما ندب إليه، ولا يتحقق مثل

ص: 60

ذلك في مسح الرأس، وأيضاً فالتطوع بالزيادة على مقدار الفرض في مسح الرأس مشروع، والتطوع بصلاة الجنازة ممنوع.

وقد أقام مجلي ما أبداه الإمام احتمالاً وجهاً في المسألة فقال: هل تكون [صلاة] الزائد على ما يسقط الفرض فرضاً أو نفلاً؟ فيه وجهان؛ بناء على أن الخلاف في مسح الرأس، وأولى بأن يكون الكل فرضاً؛ فإنه لا يشعر التطوع بمثلها [بخلاف الزائد على الواجب في المسح؛ لأن مسح بعضه يجزئ والمراد بأنه لا يشرع بتطوع بمثلها] أن من صلى مرة لا يشرع له أن يصلي مرة ثانية كما بينه في "الوسيط"، وإلا فالطائفة المفتتحة لصلاة ثانية بعد فراغ الأولى مشروعة كما تعرفه، وتكون في حقهم كما لو كانوا في الجماعة الأولى، على أن في المشروعية لمن صلى وجهاً سنذكره.

ثم هذا في الرجال، أما النساء فلا يسقط بصلاتهن فرض الكفاية عن الموجودين من الرجال على الأصح، وبه قطع البغوي والفوراني وكثيرون.

قال في "الروضة": والظاهر أن الخنثى في هذا الفصل كالمرأة، وهل تسقط بصلاة الصبيان المميزين عند وجود الرجال؟ فيه وجهان، أصحهما: السقوط. ولو انفرد النساء أو الصبيان سقط الفرض اتفاقاً.

قال: والسنة أن تفعل في جماعة، أي: إذا أقامها الذكور؛ لأنه- عليه السلام هكذا كان يصلي، وعليه استمر الناس، وقال- عليه السلام:"ما من مسلم يموت فيصلي عليه ثلاثة صفوف إلا وجبت له الجنة" أخرجه أبو داود، وقال الترمذي: إنه حسن.

ص: 61

قال أبو داود: وكان مالك إذا استقل أهل الجنازة جزأهم ثلاثة صفوف؛ للحديث.

فإن صلوا فرادى جاز وسقط الفرض؛ لأن الصحابة صلوا على النبي صلى الله عليه وسلم أفراداً، أخرجه مسلم.

[و] قيل: وإنما فعلوا ذلك؛ تعظيماً لشأنه، وحكى أبو الطيب أن الشافعي- رحمه الله قال: إنما فعلوا ذلك؛ للتنافس في الصلاة عليه حتى تعقد الخلافة لأحد.

أما إذا أقامها النساء فقط فالجمهور على أن السنة أن يصلين فرادى، فإن صلين جماعة جاز، ووقفت الإمامة وسطهن.

وفي "العدة" أنه يستحب لهن الجماعة في جنازة المرأة.

ويجوز فعلها في جميع الأوقات، ولا تكره في الليل؛ لما روى أبو داود عن جابر ابن عبد الله قال: رأى ناس ناراً في المقبرة، فأتوها، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبر، وإذا هو يقول:"ناولوني صاحبكم"، وإذا هو الرجل الذي كان يرفع صوته بالذكر.

ص: 62

قال الشيخ زكي الدين عبد العظيم: وهذه النار ليست على ما كان عليه الجاهلية يفعلون في جنائزهم وإنما قصد بهذه لتضيء لهم حتى يتمكنوا من مباشرة ما يحتاجون إليه من أمر الدفن.

وقد دفنت مسكينة ليلاً، فقال عليه السلام:"هلَاّ آذنتموني" فقالوا: خشينا أن نوقظك.

ولم ينكر ذلك، وكذا يجوز فعلها في جميع الأماكن الظاهرة حتى المسجد؛ لرواية مسلم عن عائشة أنها قالت: لما توفي سعد بن أبي وقاص أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يمروا بجنازته في المسجد فيصلين عليه، ففعلوا، فوقف به على حجرهن يصلين عليه، فبلغهن أن الناس عابوا ذلك، وقالوا: ما كانت الجنائز يدخل بها المسجد، فبلغ ذلك عائشة، فقالت:"ما أسرع الناس إلى أن يعيبوا ما لا علم لهم به! عابوا علينا أن يمر بجنازة في المسجد؟! وما صلى رسول صلى الله عليه وسلم على سهيل بن بيضاء إلا في جوف المسجد"، وروى أبو داود عنها قالت: "والله، لقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على

ص: 63

ابني بيضاء في المسجد: "سهيل وأخيه"، وأخرجه مسلم، وقد روي أن عمر صلى على صهيب في المسجد، وكان بحضرة المهاجرين والأنصار.

فإن قيل: يجوز أن يكون من صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خارج المسجد وكان- عليه السلام في المسجد؛ فلا حجة فيه.

قيل: ذلك ممتنع؛ لوجهين:

أحدهما: أنه لو كان كذلك لما حسن قول عائشة.

والثاني: أن الباب لم يكن عند القبلة، والقبلة لابد لها من حائط؛ فدل على أن ذلك لا يتصور، وأن الجنازة أدخلت المسجد.

نعم، إن ظهرت أمارات التلويث من انتفاخ وشبهه، لم يدخل المسجد.

فرع: هل يستحب الإنذار بالميت وإشاعة موته في الناس بالنداء والإعلام؛ ليجتمعوا للصلاة عليه أم يكره؟ الذي حكاه البندنيجي والشيخ وغيرهما: الكراهة، [و] قال في "الروضة": إنه لا بأس به، وحكى الماوردي فيه ثلاثة أوجه عن الأصحاب، ثالثها: يستحب ذلك للغريب، ولا يستحب لغيره، وبه قال ابن عمر، رضي الله عنه.

وهل يستحب عند حضور الجنازة أن ينادى لها: الصلاة جامعة؟ حكى الرافعي عند الكلام في الأذان فيه وجهين، وقال في "الروضة": ثم الأصح أنه لا يستحب وبه قطع كثيرون، وهو المنصوص في "الأم".

ص: 64

قلت: وكلام الشيخ يرشد إليه حيث قال: "إذا اجتمع جنائز قدم إلى الإمام أفضلهم، وينوي ويكبر"، فلو كان مستحباً لذكره كما فعل في الكسوف والاستسقاء.

قال: وأولى الناس بذلك- أي: غير الأئمة، كما سيأتي-: أبوه، ثم جده، أي: أبو أبيه؛ لأن المقصود قرب الدعاء من الإجابة، وذلك منوط بمن زاد حنوه وعظمت شفقته، والأب وأبوه وإن علا أوفر شفقةً وأكثر حنوًّا فقدِّما على غيرهما، والأب أكثر في ذلك من ابنه؛ فلذلك قدم عليه.

قال: ثم ابنه؛ لأنه بعد الآباء في الشفقة فكان بعدهما في التقديم، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الميت رجلاً أو امرأة، صرح به القاضي أبو الطيب وغيره، وإن كنا لا نثبت لابن المرأة ولاية عليها في النكاح.

وقال الإمام: كان شيخي يرتب الأولياء في الإمامة ترتيبهم في ولاية النكاح، وفي ألفاظ الشافعي ذكر الولاة، والأولياء بعد الوفاة هم الأولياء في الحياة، والابن لاحظ له في الولاية أصلاً، وهذا الأصل لو ثبت اقتضى تقديم الإخوة وأولياء النكاح على الابن، وهو محل التردد، والظاهر عندي تقديم الابن.

قال: ثم ابن ابنه، أي: وإن سفل؛ لمشاركته الابن في البعضية والتعصيب المقتضي للشفقة والحنوِّ.

قال: على ترتيب العصبات، أشار بذلك إلى أن هذا التقديم مناطه العصوبة فمن قدم بها في الميراث فهو المقدم بعد الأب وأبيه هاهنا، كما صرح به الأصحاب حتى قالوا- كما حكاه القاضي أبو الطيب-: إن المعتق حيث يكون الإرث له يكون له ولاية التقدم في الصلاة عليه، وقال الإمام: لعله الظاهر.

وعند فقد العصبات المقدم من يدلي بقرابة الأم على الأجانب، وهذا مما لا خلاف فيه.

نعم، عبارات بعض الأصحاب تقتضي خلافاً فيمن هو المقدم منهم على غيره منهم، فالذي قاله البغوي: أن المقدم منهم [أبو] الأم ثم الأخ للأم ثم الخال ثم العم للأم. فقدم أبا الأم على الأخ من الأم مع أنه وارث، وعبارة الغزالي تقتضي أن الأخ من الأم مقدم على أبي الأم؛ لأنه قال: ثم إن لم يكن وارث قدم ذوو الأرحام.

ص: 65

فإن أردت الجمع بين الكلامين، فالوجه- كما قال الرافعي-: أن يحمل قول الغزالي: "وإن لم يكن وارث"، أي: من العصبات، وعبارة القاضي الحسين: أن المقدم الأخ من الأم، ثم الخال ثم العم للأم، وسكت عن أبي الأم.

وقد أفهم قول الشيخ: "على ترتيب العصباـ" أن من يدلي من العصبات بالأبوين مقدم على من يدلي بالأب فقط: لأن هكذا ترتيبهم في الميراث، وهو ما نص عليه الشافعي في عامة كتبه، وحكى القاضي أبو حامد في "جامعه" والشيخ أبو علي في "الإفصاح" أن للشافعي قولاً آخر: أنهما سواء.

واختلف الأصحاب لأجل ذلك في المسألة على طريقين:

إحداهما: إثبات قولين فيها كما في ولاية النكاح؛ لأن الأم لا مدخل لها فيهما.

والثانية: القطع بتقديم الشقيق؛ فإن الأم لها مدخل في الصلاة على الميت في الجملة وإن لم يكن كمدخل الرجل؛ لأنها تصلي مأمومة ومنفردة.

قلت: وإمامةً عند فقد الرجل كما تقدم وإن كان خلاف الأولى، فقدم بها؛ كالميراث لما كان لها مدخل فيه قدم بها وإن لم يكن لها تعصيب، ويخالف ولاية النكاح وتحمل العقل؛ لأنه لا مدخل لها فيه بحال، وجعل الماوردي الفرق أن لها مدخلاً في الولاية على الميت في غسله؛ فقوي الأخ بها، ولا مدخل لها في النكاح؛ فلم يزدد الأخ بها قوة هناك، وهذا الطريق أصح باتفاق الأصحاب، والطريقان جاريتان- كما قال أبو الطيب- في ابني عم أحدهما أخ لأم.

قال: فإن استوى اثنان في الدرجة، أي: وكل [واحد] منهما يحسن الصلاة- قدم أسنهما، أي: إذا حمدت طريقته كما نص عليه؛ لأن دعاءه أرجى للإجابة؛ قال- عليه السلام: "إن الله تعالى يستحيي أن يردَّ دعوة ذي الشَّيبة في الإسلام".

قال في "الشامل": ومن أصحابنا من قال: إنه يقدَّم أفقههما ثم أقرؤهما كما في

ص: 66

الصلاة، وهو ما حكاه في "الوسيط" عن المراوزة وأن العراقيين قالوه تخريجاً.

قال في "الشامل": وظاهر المذهب: الأول، والفرق: أن سائر الصلوات تتعلق بحق الله- تعالى- خاصة فقدم من هو أعلم بشرائطها، والمقصود هنا الدعاء للميت، والأسن أقرب إلى الإجابة فكان أولى.

وفي "النهاية" أنه اشتهر خلاف أئمتنا فيما إذا اجتمع أخوان أحدهما أفقه والآخر أسن فمن الأولى بالإمامة والأسن يحسن ما يقع به الاستقلال.

ثم من قدم الأسن لم يعتبر السنية وبلوغ سن المشايخ، وذكر العراقيون أن نص الشافعي يدل على تقديم الأسن على الأفقه في صلاة الجنازة، ونصه في سائر الصلوات يدل على تقديم الأفقه، فمن أصحابنا من جعل في المسألة قولين في جميع الصلوات نقلاً وتخريجاً.

وهذا الذي ذكروه في جميع الصلوات لم يذكره المراوزة؛ بل قطعوا بتقديم الأفقه في غير صلاة الجنازة، وذكروا في صلاة الجنازة الخلاف، أما إن كان أحدهما لا يحسن الصلاة فالذي يحسنها أولى، ولو كانا يحسنانها لكن طريقة أحدهما غير محمودة فالأفقه والأفضل مقدم عليه.

قال: فإن استويا في ذلك- أي: وتشاحَّا – أقرع بينهما؛ لعدم المرجح.

وهذا كله مع الحرية، أما العبد المناسب، فلا ولاية له في الصلاة على الميت؛ لأن الرق يمنع من ثبوت الولايات، قاله الماوردي وغيره، وقضية سلب الولاية عنه أن يقدم الحر الأجنبي عليه كما يقدم الحر البعيد على الرقيق الذي هو أقرب منه في نص الشافعي الذي لم يحك العراقيون غيره، لكن في "النهاية" و"الإبانة" الجزم بأن القريب الرقيق مقدم على الحر الأجنبي، وحكاية وجهين في أن الأخ [من الأب] إذا كان عبداً ومعه عم حر أيهما أولى، والقاضي الحسين حكاهما فيما إذا اجتمع جد مملوك وأخ لأم حر أيهما أولى، ويجريان أيضاً في أخوين أحدهما حر غير فقيه، والآخر عبد

ص: 67

فقيه، كما حكاه الشيخ أبو محمد، وقال في "الوسيط": لعل التسوية أولى؛ لتعادل الخصال، والأصح في "الروضة" تقديم الحر، ولو كان الميت في فلاةٍ ومعه رجل حر وآخر مملوك وصبي مميزة ونسوة، فالحر أولى من الكل، والعبد بعده، ثم الصبي المميز.

قال: وإن اجتمع المناسب والوالي- أي: سواء كان الإمام الأعظم أو إمام المسجد- قدم المناسب في أصح القولين؛ لعموم قوله تعالى: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] ولأنها ولاية يعتبر فيها ترتيب العصبات؛ فوجب أن يكون القريب أولى بها من الوالي كالنكاح، وهذا هو الجديد، وبه جزم الفوراني، ومقابله: أن الإمام الأعظم مقدم، ثم إمام المسجد؛ لقوله- عليه السلام:"لا يؤمَّنَّ رجلُ رجلا في سلطانه إلا بإذنه"، وفي بعض الألفاظ:"لا يؤمُّ أميرُ في إمارته"، وهو عام في صلاة الجنازة وفي غيرها، وروي أن الحسين ابن علي قدم سعيد بن العاص، وكان أمير المدينة حتى صلى على أخيه الحسن بن علي، وقال:"لولا السنة لما قدمتك"، وهذا يدل على أن السنة تقديم الوالي، وبالقياس على

ص: 68

الصلوات المكتوبة، وهذا هو القديم.

والقائلون بالجديد قالوا: الخبر محمول على الصلوات المفروضة، وتقديم الحسين وقوله:"لولا السنة لما قدمتك" يحتمل أن يكون أراد به إطفاء الفتنة [التي تثور إن] منعه، ومن السنة إطفاء الفتنة، ويحتمل أن يكون قد تأخر في المجيء فجاء، وقد فرغ الحسين من الصلاة، فقال: تقدم؛ فلولا أن السنة لمن لم يصل أن يصلي لمنعتك من الصلاة عليه لتأخرك؛ وإذا احتمل ما ذكرناه لم يكن فيه حجة.

وتخالف صلاة الجنازة سائر الصلوات؛ لأن الغرض بها الدعاء للميت والحنو عليه [فيه]، والولي أولى بذلك.

فرع: لو أوصى الميت بأن يصلي عليه من ليس بمقدم في الصلاة عليه مع وجود المقدم، فهل تنفذ وصيته؟ حكى صاحب "الفروع" فيها وجهين.

وقال الإمام: إن شيخه خرجها على وجهين كالوجهين فيما إذا أوصى في أمر أطفاله إلى أجنبي وأبوه الذي يلي أمرهم شرعاً حيُّ، ولا بعد في انقداح خاطرين فأكثر في مسالة واحدة، وإن كان أحدهما أعظم قدراً [من الآخر] وأسبق، ومختار الإمام محمد بن يحيى نفوذها، والذي أورده الجمهور أنها لا تنفذ؛ لما فيها من إبطال حق الغير من التقدم.

قال: وإن اجتمع جنائز قدم إلى الإمام أفضلهم. هذا الفضل ينظم ثلاث صور:

إحدها: إذا اجتمع جنائز رجل وصبي وخنثى وامرأة، وقد حضرت في وقت واحد- قدم الرجل، [فيوضعون أمام الإمام صفاً بعد صف هكذا:

والذي يلي الإمام: الرجل] ثم الصبي، ثم الخنثى، ثم المرأة؛ فتكون مما يلي القبلة، والأصل في ذلك: ما روى أبو داود عن عمار مولى الحارث أنه شهد جنازة أم كلثوم وابنها، فجعل الغلام مما يلي الإمام، فأ، كرت ذلك، وفي القوم ابن عباس وأبو سعيد الخدري وأبو قتادة وابو هريرة، فقالوا: هذه السنة. وأخرجه النسائي، وأم كلثوم هذه بنت علي بن أبي طالب زوج عمر بن

ص: 69

الخطاب، وابنها المذكور هو زيد الأكبر بن عمر بن الخطاب، وكان مات هو وأمه في وقت واحد، لم يدر أيهما مات أولاً؛ فلم يورث أحدهما من الآخر، وكان ذلك والإمام يوئمذ سعيد بن العاص وهو الأمير، ففعل في الصلاة ما ذكرناه، وقد روى نافع أن ابن عمر صلى على تسع جنائز، فجعل الرجال مما يليه، والنساء صفوفاً وراء الرجال، ولم ينكر عليه أحد، ولأن هكذا يفعل في موقفهم في الصلاة في حال الحياة؛ فكذا بعد الموت، وهذا [والذي يليه] ما نص عليه الشافعي كما قال أبو الطيب، ولم يحك الأصحاب- والصورة هذه- خلافه، وقالوا: إنما قدم الخنثى على المرأة؛ لاحتمال أن يكون رجلاً وقد ظن المزني أان الشافعي لم يذكر الخنثى، فقال: والخنثى في معناه.

فإن قيل: ما يلي القبلة أشرف- فلم لم يجعل الرجل يليها كما يوضع في اللحد عند اجتماعه والمرأة في قبر واحد للضرورة؟

قيل: الممكن فيه بعد الاتباع: أن القرب من الإمام مطلوب، وهو عند الصلاة على الجنازة موجود؛ فقرب إليه، وفي القبر: الإمام مفقود؛ فقرب إلى القبلة لحيازة الشرف الذي لم يعارضه غيره.

أما إذا كان حضورهم على التدريج، فإن كان على النحو الذي سبق بأن حضر الرجل، ثم الصبي، ثم الخنثى، ثم المرأة، فالحكم كما تقدم، وإن حضرت المرأة أولاً ثم الرجل، ثم الصبي، ثم الخنثى، فالحكم كذلك، وإن حضر الصبي أولاً ثم الرجل بعده فقد حكى صاحب "التقريب" وجهاً أن الحكم كذلك، والذي أورده العراقيون والقاضي الحسين، وذهب إليه معظم الأئمة- كما قال الإمام-: أن المقدم الصبي، وحينئذ فإن رضي ولي الرجل بتأخيره عن الصبي فذاك، وإن اختار تأخيره ليصلي عليه منفرداً جاز.

[الصورة] الثانية: إذا حضر جنائز من نوع واحد: رجال، أو صبيان، أو

ص: 70

نساء- فقد قال الشافعي: قدمت أفضلهم، حكاه ابن الصباغ، وسكت عن تفصيل فيه، قال الماوردي والقاضي الحسين في "تعليقه": إن ذلك فيما إذا كان حضورهم في وقت واحد، ويلي الفاضل في القرب من يليه في الفضل حتى يكون آخرهم أقلهم فضلاً، فإن كان على الترتيب فالمقدم السابق.

وفي كيفية وضع الموتى بين يدي الإمام في هذه الحالة وجهان أو قولان، حكاهما المراوزة:

أصحهما عند الغزالي والقاضي الحسين: أنه على الهيئة السالفة [في الصورة السابقة]، وقال الإمام: إنه الذي قطع به معظم الأئمة.

والثاني: أنها توضع صفاً واحداً رأس أحدهم إلى رجلي الآخر [هكذا:]، ويكون ذلك على يمين الإمام، ويقف الإمام عند الجنازة الأخيرة منهم، ويكون قربهم من الإمام على قدر فضلهم.

ولا يجري هذا الوجه في الصورة السابقة؛ فإن الرجل والمرأة لا يقفان صفاً واحداً في الجماعات؛ فكذلك لا يوضعان صفاً واحداً.

ويتعين هذا الوجه فيما إذا كان الجميع خناثي، لاحتمال أن يكون المؤخر رجلاً، قاله القاضي الحسين.

ثم هذه الصورة والتي قبلها فيما إذا أرادوا العجلة والاكتفاء بصلاة واحدة، تعم الجميع، وقد يتعين ذلك لضيق الوقت وغيره، وإلا فالأفضل أن تفرد كل جنازة بصلاة، صرح به القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما، ووجه جواز الاقتصار على صلاة واحدة بأن معظم الغرض من هذه الصلاة الدعاء للميت، والجمع بين عدد الموتى في الدعاء ممكن، وفي هذه الحالة إن تراضى أولياء الموتى بتقديم واحد للصلاة على الجميع فذلك، وإن تنازعوا فالمقدم من حضر ميته أولاً، رجلاً كان الميت أو صبياً [أو امرأة] لأن هذا الحق للولي، فصغر الميت وأنوثته لا يقدح في حقه. فإن استووا في الحضور فالمحكم: القرعة، وقد قال الشافعي في القديم و"الأم" معاً:[و] إن شاء ولاة ما سواها- أي: ما سوى الجنازة التي قدم وليها- أن يجتزءوا بتلك الصلاة فعلوا، وإن شاء كل واحد أن يعيد

ص: 71

الصلاة على ميته فعل.

قال البندنيجي: وهذا هو الدليل على تكرار صلاة الجنازة. يعني: من كلام الشافعي.

[الصورة] الثالثة: إذا أراد أولياء كل ميت إفراده بالصلاة عليه، والإمام في جميع الصلوات واحد- فيقدم إلى الإمام أفضلهم.

قال الماوردي: إلا أن يخاف من غيره الفساد فيبدأ بالصلاة عليه، وهذا إذا حضروا معاً ولم يتشاحوا، فإن تشاحوا في التقدم قال الماوردي: أقرع بينهم، وبدأ بمن خرجت له القرعة، وإن كان غير أفضلهم.

قلت: ويشكل الفرق بين هذه الصورة وبينما إذا أرادوا الاقتصار على صلاة واحدة، وقد حضروا معاً- فإنه يقدم إلى الإمام بالفضل، والفضل المعتبر هاهنا: الورع والخصال التي ترغب في الصلاة عليه، ويغلب على الظن كونها تقرب من رحمة الله- تعالى- ولا تقدم بالحرية، بخلاف استحقاق الإمامة؛ فإنه يقدم فيها الحر على العبد كما تقدم.

قال في "النهاية": لأن الإمامة تصرف، والحر مقدم في التصرفات على العبد، وإذا مات الحر والعبد استويا في انقطاع تصرفهما؛ فكان أقرب معتبر ما ذكرناه.

قلت: ولو وجه بأن الموت يزيل الرق كما تقدم. وحينئذ فلا مرجح- لم يبعد.

قال: ويقف الإمام عند رأس الرجل، وعند عجيزة المرأة؛ لما روي أن أنساً- رضي الله عنه صلى على رجل، فقام عند رأسه، فكبر أربع تكبيرات لم يطل

ص: 72

ولم يسرع، ثم أتي بامرأة فقام عند عجيزتها، وصلى عليها نحو صلاته على الرجل، فقال العلاء بن زياد: يا أبا حمزة، هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على الجنازة كصلاتك: يكبر عليها أربعاً، ويقوم عند رأس الرجل وعجيزة المرأة؟ قال: نعم، أخرجه أبو داود، وروى البخاري عن سمرة بن جندب قال: صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة ماتت في نفاسها، فقام وسطها. وهذه طريقة الشيخ أبي حامد التي لم يحك البندنيجي والقاضي الحسين غيرها، وهي في "الحاوي" منسوبة إلى البغداديين من أصحابنا، وحكي أن البصريين من أصحابنا

ص: 73

قالوا: يقف عند صدر الرجل، وعند عجيزة المرأة، ولم يورد الفوراني والغزالي والبغوي غيرها، وكذا أبو الطيب ونسبها إلى قول أبي علي في "الإفصاح"، والإمام نسبها إلى قول الصيدلاني، واستدل كذلك بأن أنساً كان يفعل ذلك، وأنه روجع في فعله، فقال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقف عند صدر الرجلوعجيزة المرأة". وقد ادعى في "التتمة" أن المذهب ما ذكره الشيخ، وهذا يؤذن بأن للشافعي نصاً فيها، وقد قال الماوردي والصيدلاني- كما حكاه الإمام: إنه لا نص للشافعي فيها، وبالجملة فهذا الخلاف في الأولى، وإلا فلو وقف وهي أمامه كيف شاء أجزأ. نعم، لو تقدم الإمام على الجنازة الحاضرة وجعلها خلف ظهره، فالذي حكاه القاضي أبو الطيب عند الكلام في الصلاة على الغائب: أنه لا يجوز، [و] حكى الإمام عن الأصحاب تخريجه على القولين في تقدم المأموم على الإمام؛ تنزيلاً للجنازة منزلة الإمام، وقال: لا يبعد أن يقال: يجوز التقدم على الجنازة، بل أولى؛ لأنها ليست إماماً متبوعاً حتى يتعين تقدمه، وإنما الجنازة والمصلون على الميت على صورة مجرم يحضر باب الملك ومعه شفعاء، ولولا الاتباع والجريان على سنن الأولين، وإلا ما كان يتجه قول تقديم الجنازة وجوباً. قال الرافعي: وهذا الذي ذكره إشارة إلى ترتيب الخلاف، وإلا فقد اتفقوا على أن الأصح: المنع، وما أيد به في "الوسيط" الجواز من جواز الصلاة على الغائب، وإن كان قد يكون وراءه، فقد تعرض لدفعه في "الوجيز" [اتباعاً للفوراني]؛ بأن سبب ذلك: الحاجة.

قال: وينوي؛ لقوله- عليه السلام "وإنما لامرئ ما نوى"، ووقت هذه النية ما سبق في سائر الصلوات، وكذا في اشتراط [الإضافة إلى الله – تعالى-] والتعرض للفرضية الخلاف في سائر الصلوات.

ص: 74

قال الرافعي: وهل يحتاج إلى التعرض لكونها فرض كفاية أم يكفي فيه مطلق الفرض؟ حكى الروياني [فيه] وجهين، أصحهما: الثاني. ثم إن كان الميت واحداً نوى الصلاة عليه، وإن حضر موتى نوى الصلاة عليهم، ولا حاجة إلى تعيين الميت ومعرفته، بل لو نوى الصلاة على من يصلي عليه الإمام جاز، قاله الرافعي تبعاً للبغوي: ولو حضر بعد أن يحرم الإمام بالصلاة على الجنائز الحضور، فأتي بجنازة أخرى- وهو في ابتداء الصلاة- لم تكن صلاته شاملة [له]؛ لأن الصلاة لم تنعقد عليه، وإنما انعقدت على الحضور، قاله القاضي الحسين وغيره.

ولو عين الميت وأخطأ لم تصح صلاته، قاله الرافعي وغيره.

قال في "الروضة": وهذا إذا لم يشر إلى معين، فإن أشار صح على الأصح.

ويجب على المقتدي نية الاقتداء كما في سائر الصلوات، قال القاضي الحسين: ولا يضر أن يكون من صلى عليه الإمام غير من صلى عليه المأموم، مثل أن نوى الإمام الصلاة على حاضر والمأموم نوى الصلاة على غائب؛ لأن عندنا اختلاف نية الإمام والمأموم لا يمنع صحة الصلاة.

قال: ويكبر أربع تكبيرات، أي: لا يزيد عليها ولا ينقص؛ لأن ذلك آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن ابن عباس وابن أبي أوفى قالا: "إن آخر ما كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجنائز أربع على جنازة سهيل بن بيضاء". وكذلك فعل أبو بكر حين صلى عليه صلى الله عليه وسلم، وعمر حين صلى على أبي بكر، وصهيب حين صلى على عمر، رضي الله عنهم،

ص: 75

وذكر إبراهيم النخعي أن الإجماع انعقد عليه في زمن عمر بعد أن كان ابن عباس وغيره يقولون: إنه يكبر ثلاثاً، وابن اليمان وغيره [يقول]: يكبر خمساً، وابن مسعود يقول: يكبر ما شاء ويتمسك كل منهم بخبر مروي.

فلو كبر شخص على ميت خمساً، فهل تبطل صلاته أم لا؟ أطلق الفوراني والإمام والبغوي حكاية وجهين فيه:

أحدهما: نعم؛ كما لو زاد ركعة؛ فإن كل تكبيرة بمنزلة ركعة.

والثاني: لا، وهو الأصح في "التهذيب"، و"الرافعي" وقال: إنه الذي عليه الأكثرون، ووجهه الفوراني بأنه زاد ذكراً في الصلاة، وزيادة الذكر لا تبطل، والرافعي وجهه بأن الزيادة قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم[فعلها]، إلا أن الأربع استقر الأمر عليها.

وهذا الوجه في قد يظن أنه قول ابن سريج؛ فإن الماوردي وغيره حكوا عنه أنه قال: إن الاختلاف المذكور من الاختلاف المباح، وإن بعضه ليس أولى من بعض. وليس كذلك؛ لأن الخمس أو الأربع عند ابن سريج سواء، وعند هذا القائل الأربع أولى؛ فهو غيره.

والذي حكاه القاضي الحسين وتبعه المتولي: أنه ينظر: فإن كان جاهلاً لم تبطل

ص: 76

صلاته، وليس عليه سجدتا السهو؛ لأن السجود ما شرع في أصل هذه الصلاة فكذلك في جبرها، وإن كان عالماً بطلت صلاته، وإذا جمعت بين مطلق النقلين جاءك في المسألة ثلاثة أوجه، ثالثها: الفرق بين [العالم والجاهل]، والرافعي خص الوجهين بحالة العلم، وقطع بالصحة في حالة الجهل، وفيه نظر؛ لأنا قد قررنا أن عدد التكبيرات كعدد ركعات الصلاة، ومن جهل كم عدد ركعات الصلاة وتحرم بها لم تصح صلاته؛ فكذا ينبغي أن يكون هاهنا، وقد طرد الجيلي الوجهين فيما إذا كبر

ص: 77

سبعاً أو تسعاً، وقال: إن الأصح الصحة أيضاً، وعلى المشهور- وهو خلاف ما قاله ابن سريج- لو اقتدى شافعي بمن يكبر خمساً فهل يتابعه أو لا؟

حكى الإمام عن رواية الشيخ أبي علي فيه طريقين:

إحداهما: أن في المتابعة قولين كالقولين فيمن اقتدى في صلاة العيد بشخص يرى أن التكبيرات في الركعة الأولى سبع، وهو يرى أنها خمس أو بالعكس، هل يتابعه في معتقده أو يفعل معتقد نفسه؟

والثانية: القطع بأنه لا يتابعه، وهي التي أوردها الماوردي، قال الإمام: وهذا يلتفت على أن التكبيرة الخامسة هل تبطل الصلاة أم لا؟ فإن رأيناها مبطلة لم يتابع المقتدي الإمام فيها، وعلى هذا قال الماوردي والشيخ أبو علي: إذا أتى الإمام بالأربع فهل يسلم المأموم أو ينتظر سلامه حتى يسلم معه؟ فيه وجهان، أظهرهما في "الرافعي": الثاني، وهو الذي أورده ابن الصباغ، وفرق بينه وبين ما إذا اقتدى بإمام [قام] إلى خامسة حيث يسلم ولا ينتظره: بأن المأموم يلزمه اتباع الإمام في الأفعال، فلو لم يسلم عقيب قيامه لتابعه، ولو تابعه لبطلت صلاته، ولا يلزمه متابعته في الأذكار، فكذلك قلنا: ينتظره؛ لفقد ذلك المحذور، وقال الإمام: إن ذلك يلتفت على ما ذكرناه [من] أن الخامسة هل تبطل الصلاة؟ وإن صلاة الإمام إذا كانت على صفة يعتقد المقتدي بطلانها في عقده لو صدرت منه، فكيف يكون سبيل الاقتداء والحالة هذه؟ تخرج على خلاف تقدم في مسائل الأواني، وفي اقتداء الشافعي بالحنفي مع انطواء صلاة الحنفي على ما رآه الشافعي مبطلاً للصلاة، فإن منعنا ذلك فليبادر المقتدي إذا كبر الإمام أربعاً ويسلم قبل أن يكبر الإمام التكبيرة الخامسة.

قلت: وتلخيص ذلك: أنا إذا قلنا: إن الخامسة لا تبطل، انتظره، وإن قلنا: إنها تبطل وإن اقتداء الشافعي بالحنفي يصح، فكذلك، وإلا فارقه قبل أن يكبر الخامسة.

ص: 78

وهذا نظير ما تقدم في صلاة الخوف عند تفرقة الإمام المصلين أربع فرق، وقلنا: إن صلاة الإمام باطلة، وتصح صلاة الطائفة الأولى والثانية دون الثالثة والرابعة؛ بناءً على أن بطلان صلاة الإمام تكون عند المخالفة، والغزالي جعل صحة الاقتداء على قولنا ببطلان الصلاة بالخامسة كالاقتداء بالحنفي، وقضيته: عدم الصحة في الابتداء.

قلت: ويتأيد بأن من نوى فعل منافٍ في أثناء الصلاة هل تبطل في الحال أو عند فعله؟ فمن قال: تبطل في الابتداء، يوافق الغزالي في دعواه، والله أعلم.

قال: يرفع [فيها اليدين]، أي: إلى حذو المنكبين كما في تكبيرة الإحرام في غيرها من الصلوات.

ووجهه: ما روي عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه مع كل تكبيرة.

وروى الشافعي بإسناده عن ابن عمر [و] عن أنس: أنهما كانا يفعلان ذلك.

ولأنها تكبيرات واقعة في حال الاستقرار فيسن فيها الرفع كالأولى.

وقد وافق الخصم- وهو أبو حنيفة ومالك- على الرفع فيها.

ويستحب أن يجمع يديه بينها ويضعهما تحت صدره كما في سائر الصلوات.

قال: ويقرأ في الأولى [فاتحة الكتاب]؛ لما روى البخاري عن طلحة بن عبيد الله بن عوف قال: صليت خلف ابن عباس على جنازة، فقرأ فاتحة الكتاب، فقال:"لتعلموا أنها سنة"، وأراد أنها سنة في الأولى، يدل عليه رواية النسائي عن أبي أمامة: أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يقرأ في التكبيرة

ص: 79

الأولى بأم القرآن مخافتةً".

والمراد بهذه السنة: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي طريقته، يدل عليه رواية الشافعي بسنده عن جابر بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر على الميت أربعاً، وقرأ بعد التكبيرة الأولى بأم القرآن.

وهل يستحب الجهر فيها إذا فعلت ليلاً كما يستحب الإسرار فيها إذا فعلت نهاراً؟ فيه وجهان في الطريقين:

أحدهما: نعم؛ لأنه صح عن ابن عباس أنه قرأ السورة بعد الفاتحة وجهر. أخرجه النسائي، وقد ادعى القاضي الحسين أنه الأظهر، وقال الشيخ أبو حامد: إنه الذي يجيء على المذهب، ونسبه في "المهذب" وغيره إلى قول أبي القاسم الداركي، [والإمام إلى الصيدلاني والروياني عن أبي حامد].

والثاني: لا؛ لأنه روي عن ابن عباس أنه قال: إني لم أجهر بها؛ لأن الجهر سنة، ولكني أحببت أن يعلموا أن لها قراءة. أخرجه أبو بكر النيسابوري في "الزيادات". ولأنها صلاة لا يشرع فيها السورة؛ فلا يسن فيها الجهر كالركعتين الأخريين من العشاء.

قال القاضي أبو الطيب: والأول غلط؛ لأن هذه الصلاة ليس لها اختصاص بالنهار دون الليل، وإنما وقعتها حين تحضر ويوجد سببها، وليس لها وقت راتب؛ فهي مخالفة لسائر الصلوات في الشريعة.

وقد أفهم عطف الشيخ القراءة على التكبيرات أن دعاء الاستفتاح والتعوذ غير مشروعين في هذه الصلاة، وهو ما حكاه البندنيجي، وقال الإمام: إنه ظاهر

ص: 80

المذهب؛ لأنها صلاة مبناها على الإيجاز، وهو الذي يليق بها؛ لمكان الميت وما ندبنا فيه إلى أسباب البدار والإسراع، وحكى الغزالي وغيره معه وجهين آخرين:

أحدهما: أنهما مشروعان فيها كغيرها من الصلوات، وكما يشرع فيها التأمين.

قال أبو الطيب: وهذا هو الصحيح عندي. بعد أن حكى عن الأصحاب الأول.

قلت: وما اختاره القاضي هو ما نص عليه في "الأم"، كما حكاه القاضي في صفة الصلاة في الاستفتاح، وإذا ثبت ذلك في الاستفتاح فالتعوذ من طريق الأولى؛ لأنه أقوى منه.

ولهذا كان الوجه الثاني وهو الذي صححه في "الوسيط" وغيره، ولم يحك في "الإبانة" سواه-: مشروعية التعوذ دون دعاء الاستفتاح، والمذكور في "الحاوي": الجزم بمشروعية التعوذ، وحكاية وجهين في الاستفتاح، وهي طريقة محكية في "التهذيب"، وقال في "التتمة": هل يشرع دعاء الاستفتاح؟ فيه وجهان: فإن قلنا: يشرع، فالتعوذ أولى، وإلا فوجهان؛ بناء على أن التعوذ هل يسن في الركعة الثانية أم لا؟

ولا يخرج مجموع ما ذكرناه عن ثلاثة أوجه كما ذكرها الغزالي.

ولا يشرع فيها قراءة السورة على النص، ولم يحك ابن الصباغ والبندنيجي والقاضي الحسين غيره، وادعى الإمام أن العلماء لم يختلفوا في ذلك، وفي "المهذب" وغيره حكاية وجه آخر أنه يقرأ بعد الفاتحة بسورة قصيرة.

قال القاضي أبو الطيب: وهو اختيار ابن المنذر؛ لأنه صح عن ابن عباس أنه قرأ فاتحة الكتاب وسورة وجهر فيهما بالقراءة، ثم قال:"إنما فعلت ذلك؛ لتعلموا أنها سنة".

قال: وفي الثانية يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لما روي عن أبي أمامة أنه قال: السنة

ص: 81

في الصلاة على [الجنائز: أن يكبر]، ثم يقرأ بأم القرآن، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يخلص الدعاء للميت، ولا يقرأ إلا في التكبيرة الأولى، ثم يسلم.

ذكره محمد بن نصر المروزي في كتاب "رفع الأيدي"، وخرجه عبد الرزاق أيضاً، وأبو أمامة أدرك النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد ذكر المزني أنه بعد الثانية يحمد الله- تعالى- ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويدعو للمؤمنين والمؤمنات. فذكر مع الصلاة الحمد [لله] والدعاء، ولم يختلف الأصحاب- كما قال الماوردي- في أن الدعاء للمؤمنين والمؤمنات فيها مستحب، والحمد اختلفوا في استحبابه:

فمنهم من قال: لا، والمزني غلط؛ ولذلك لم يذكر ذلك في "جامعه"، وهذا ما أورده البندنيجي، وقال الرافعي: إنه قضية كلام الأكثرين.

ومنهم من قال: هو مستحب، والمزني لم ينقل ذلك في كتاب، وإنما رواه سماعاً من لفظه، وهذا ما أورده المتولي والبغوي، وكذا القاضي الحسين، وقال: إن المزني صادق في روايته.

وفي "النهاية": أن أئمتنا اتفقوا على ما ذكره من حمد الله- تعالى- قبل الصلاة، وهو غير سديد، ولم ير للشافعي منصوصاً في [شيء من] كتبه.

وأما الدعاء فقد تردد فيه أئمتنا، فمن رآه مستنده أن الصلاة وراء التشهد الأخير تستعقب الدعاء للمؤمنين والمؤمنات، فهذه الصلاة كتلك الصلاة، لكن إذا لم يصح في ذلك ثبت من جهة السنة، فإثبات هذا في صلاة مبناها على نهاية التخفيف بعيد، ثم إن كانت الصلاة تستعقب في التشهد دعاءً فهي مسبوقة أيضاً بأذكار وتحميدات؛ فينبغي أن يصوب المزني في ذكر التحميد قبل الصلاة.

قال: وفي الثالثة يدعو للميت؛ لخبر أبي أمامة، وهذا هو المقصود الأعظم منها، والحمد والصلاة مقدمات ذلك، على القاعدة المطردة في أدب الدعاء.

قال: فيقول: اللهم هذا عبدك وابن عبديك، خرج من روح الدنيا وسعتها ومحبوبها وأحبائه فيها إلى ظلمة القبر وما هو لاقيه، كان يشهد أن لا إله إلا

ص: 82

أنت [وحدك لا شريك لك]، وأن محمداً عبدك ورسولك، وأنت أعلم به، اللهم [إنه] نزل بك وأنت خير منزول به، وأصبح فقيراً إلى رحمتك وأنت غني عن عذابه، وقد جئناك راغبين إليك شفعاء له، اللهم إن كان محسناً فزد في إحسانه، وإن كانت مسيئاً فتجاوز عنه ولقه برحمتك [و] رضاك، وقه فتنة القبر وعذابه، وافسح له في قبره، وجاف الأرض عن جنبيه، ولقه برحمتك الأمن من عذابك حتى تبعثه إلى جنتك [برحمتك] يا أرحم الراحمين. وهذا ما ذكره المزني عن الشافعي، وفي بعض النسخ من المختصر:"عبدك وابن عبدك"، وما ذكره أقرب إلى نصه في "الأم"، فإنه قال فيه:"عبدك وابن عبدك وابن أمتك"، وفي بعض نسخ "المختصر":"وجاف الأرض عن جنبه"، وليس ما ذكره الشافعي من هذا الدعاء منقولاً هكذا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة، ولكنه أخذ معاني ما رواه عوف بن مالك وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومعاني ما روي عن عمر وابن عمر وعلي وابن عباس وعبادة بن الصامت وأبي هريرة في الدعاء على الجنازة، فلخصها بعبارة تجمع كلها، والذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أنه قال: وقد صلى على جنازة: "اللهم اغفر له وارحمه، واعف عنه وعافه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بماءٍ وثلجٍ وبردٍ، ونقه من الخطايا كما ينقَّى الثوب الأبيض من الدنس، أبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وقه من فتنة القبر وعذاب النار". وقال عوف بن مالك: فتمنيت أن [لو كنت] أنا الميت؛ لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك الميت" أخرجه مسلم.

ص: 83

وقال وقد صلى على امرأة: "اللهمَّ أنت ربُّها، وأنت خلقتها، وأنت هديتها للإسلام، وأنت قبضت روحها، وأنت أعلم بسرها وعلانيتها، جئنا شفعاء فاغفر لها". أخرجه أبو داود والنسائي.

وقال، وقد صلى على رجل من المسلمين:"اللَّهمَّ إنَّ فلان بن فلانٍ في ذمَّتك وحبل جوارك، فقه من فتنة القبر وعذاب النَّار، وأنت أهل الوفاء والحمد، اللَّهمَّ فاغفر له وارحمه؛ فإنَّك أنت الغفور الرَّحيم". أخرجه أبو داود وابن ماجه.

وروى أبو داود عن أبي هريرة قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة فقال: "اللَّهمَّ اغفر لحيِّنا وميِّتنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، وشاهدنا وغائبنا،

ص: 84

اللَّهمَّ من أحييته منَّا فأحيه على الإيمان، ومن توفَّيته منَّا فتوفَّه على الإسلام، اللهمَّ لا تحرمنا أجره، ولا تضلَّنا بعده".

وقد ذكر أبو العباس بن القاص أنه يدعو به، قال القاضي أبو الطيب وغيره: وهو الذي عليه أكثر أهل خراسان. قال في "المرشد": وهو السنة.

ثم ما ذكره الشيخ مخصوص بالرجل، فإن كان الميت امرأة قال: اللهم إن هذه أمتك وبنت عبديك. ويأتي بجميع الدعاء بلفظ التأنيث، وإن كان طفلاً قال الماوردي: دعا لأبويه فقال: اللهم اجعله لهما فرطاً وسلفاً وذخراً وعظة واعتباراً، وثقل به موازينهما، وأفرغ الصبر على قلوبهما ولا تفتنهما بعده. وقال في "الشامل" حكاية عن النص في موضع آخر: إن الاستغفار له: اللهم اجعله فرطاً وذخراً وأجراً، وفي "التتمة" أنه يدعو بما ذكرناه عن رواية أبي هريرة والذي قال أبو العباس بن القاص: إنه يدعو به مطلقاً، ويقول في موضع الاستغفار: اللهم اجعله فرطاً وذخراً وشفيعاً لأبويه.

ص: 85

وجمع الرافعي بين ما قاله المتولي والماوردي ورواية أبي داود: والطفل يصلي عليه، ويدعو لوالديه بالرحمة والمغفرة.

وقد اقتضى كلام الغزالي في "الوسيط" أن محل التردد في الدعاء للمؤمنين والمؤمنات إذا كبر الثالثة ودعا للميت؛ حيث قال: وفي استحباب الدعاء للمؤمنين والمؤمنات عند الدعاء للميت تردد؛ لأنه مبني على التخفيف، والأصح الاستحباب، وهو ما جزم به في "الوجيز"، وليس له ذكر في كلام الأصحاب هكذا، بل ذكروا أنه يخلص في الثالثة الدعاء للميت، وأقرب ما يمكن حمله [عليه] عند إرادة الجمع بين كلامه وكلام غيره أن يقال: مراده: حكاية ما ذكره الجمهور من الدعاء وما ذكره ابن القاص؛ إذ به يحصل تردد في الدعاء للمؤمنين والمؤمنات؛ فإن دعاء ابن القاص شامل للدعاء للميت وللمؤمنين والمؤمنات. ومن قال: يخلص الدعاء للميت، ينافي استحباب ذلك، كذا أشار إليه الرافعي مع احتمال جواب آخر لم أر له وجهاً فلم أر ذكره.

تنبيه: قوله: "خرج من روح الدنيا "هو بفتح الراء، وهو نسيم الريح، والسعة: الاتساع، وقوله:"كان يشهد" أي: إنما دعوناك له؛ لأنه كان يشهد، وقوله:"وافسح له" هو بفتح السين، أي: وسع، وقوله:"وجاف الأرض عن جنبه أو جثته": ارفعها عنه أو عنها.

وقوله: "لا تحرمنا أجره" هو بفتح التاء وضمها، يقال: حرمه وأحرمه، والأول أفصح.

قال: ويقول في الرابعة: "اللَّهمَّ لا تحرمنا أجره، ولا تفتنَّا بعدهن واغفر لنا وله برحمتك يا أرحم الراحمين" رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في آخر ما دعا به، وهذا ما نقله البويطي عن الشافعي فيما حكاه البندنيجي والقاضي الحسين،

ص: 86

وقال الماوردي والصيدلاني: إن البويطي حكى عن الشافعي أنه يقول في الرابعة: "اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا"، والبغوي حكاه عن البويطي نفسه، وحينئذ فلا يكون للشافعي في المسألة إلا نص واحد، وهو المذكور في القديم و"المختصر": أنه يكبر الرابعة ويسلم، وعليه ينطبق قول الغزالي من غير تأويل، ولم يتعرض الشافعي لذكر بين التكبيرة الرابعة والسلام، والذين نسبوا ذلك إلى النص- وهم القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ، والبندنيجي- قالوا: وليست المسألة على قولين ولا على اختلاف حالين، ولكنه ذكره في موضع وأغفل ذكره في موضع آخر؛ فهو مخير فيه.

وقضية ذلك: أن الأمرين عنده على السواء، وقد حكاه الرافعي وجهاً عن "الكافي"، وأن هكذا كان يفعله محمد بن يحيى فيما حكاه والدي- رحمه الله بعد أن قال- أعني: الرافعي-: إن الظاهر استحباب ما ذكره البويطي، وحكى ابن أبي هريرة أن المتقدمين كانوا يقولون في الرابعة:"ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار"، وليس ذلك المحكي عن الشافعي، فإن فعل كان حسناً.

قال: ثم يسلم تسليمتين، أي: إحداهما عن يمينه والأخرى عن شماله كما في غيرها من الصلوات؛ لأنه روي عن [ابن] أبي أوفى أنه كبر أربعاً، ثم سلم عن يمينه وشماله، وعزاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولأنها صلاة ذات تحريم وتحليل؛ فشرع فيها تسليمتان، وخالف سجود التلاوة إن سمي صلاة؛ لأنها لا تحريم لها ولا تحليل، وهذا ما نص عليه في "الكبير" و"الأم" كما حكاه البندنيجي وغيره، ونص في "الإملاء" كما قال الفوراني، وهو جديد- على تسليمة واحدة: يبدأ بيمينه ويختمها بيساره، ونقل المزني أنه يسلم عن يمينه وعن يساره، فيحتمل أن

ص: 87

يكون ما قاله في "الكبير"، ويحتمل أن يكون ما قاله في "الإملاء"، فمن الأصحاب من جعل المسألة على قولين في الجديد، ومنهم من قال [على] قول واحد: يسلم تسليمة واحدة؛ لأن مبناها على التخفيف، وهذه التي صححها القاضي الحسين.

قال المتولي: وعليها يقول عن يمينه: "السلام"، وعن شماله:"عليكم"، وهذا يقتضي أنه لا يقول:"ورحمة الله وبركاته" على هذا القول، وحكى الإمام عن رواية الشيخ أبي علي تردداً فيه.

وقال القاضي الحسين: الظاهر أنه يأتي به، وحكى الإمام وجهاً آخر أنه يسلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه من غير التفات، وأن الصيدلاني قال: الكلام في تعدد التسليم واتحاده في هذه الصورة كالكلام في سائر الصلوات في تخريج القولين، أو تنزيل الأمر على اختلاف الأحوال.

وهذه الطريقة تقتضي- حيث أثبت فيها الخلاف- أن القديم: الاقتصار على تسليمة واحدة، والجديد: أنه يأتي بتسليمتين؛ ولهذا قال الماوردي لما حكى أنه يسلم تسليمتين، وقياس قوله [في] القديم: إن كان الجمع يسيراً- أن يسلم واحدة عن يمينه وتلقاء وجهه، وحينئذ تكون هذه الطريقة مخالفةً للأولى؛ لأن الخلاف ثمَّ قولان عند من أثبتهما في الجديد، وما ذكره الصيدلاني هو الذي يقتضيه كلام أبي الطيب وابن الصباغ حيث أحالا الكلام على كتاب الصلاة، وبذلك صرح البندنيجي هاهنا، وقال: إن المذهب ما ذكره الشيخ.

قال: والواجب من ذلك: النية؛ للخبر المشهور.

والتكبيرات، أي: الأربع؛ لما استقر عليه الإجماع مع قوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي".

وقراءة الفاتحة؛ لقوله- عليه السلام "كل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج" وقوله: "لا صلاة لمن لم يقرأ بها"، والمحل الذي يجب قراءتها

ص: 88

فيه: التكبيرة الأولى، كما صرح به البندنيجي والقاضي الحسين، والمتولي، والإمام، والغزالي، وعليه يدل الخبر.

وقال الرافعي: إن الروياني وغيره حكوا عن نصه أنه لو أخر قراءتها إلى تكبيرة الثانية جاز.

والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لقوله- عليه السلام: "لا صلاة لمن لم يصل علي فيها"، ولأن الصلاة على الميت دعاء يرجى إجابته، وقد روي- أنه عليه السلام قال:"كل دعاء فهو محجوب عن الله حتى يصلَّى على محمدٍ وعلى آل محمَّدٍ".

قال الصيدلاني: وأقلها: "اللَّهمَّ صلِّ على محمَّدٍ" وهو الذي أورده القاضي الحسين، ولم يتعرضا للآل.

قال الإمام: وقد مضى في سائر الصلوات اختلاف فيها، والظاهر [هنا] أنها ليست ركناً؛ لاختصاص هذه الصلاة بالاختصار.

والمحل الذي تجب فيه: الثانية، كما قاله البندنيجي وعبارته: وإذا فرغ من الفاتحة كبَّر الثانية، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ركن فيها. وقد وافقه القاضي الحسين والمتولي على ذلك، وقياس ما حكيناه عن النص إذا أخر

ص: 89

القراءة إلى الثانية: أن تتعين الصلاة [في] الثالثة إن كان الترتيب بين القراءة والصلاة والدعاء شرطاً، كما هو ظاهر الخبر.

وأدنى الدعاء للميت؛ لقوله- عليه السلام: "إذا صلَّيتم على الميت فأخلصوا له الدعاء" أخرجه أبو داود وابن ماجه، لكن في إسناده محمد بن إسحاق، ولأن القصد هو الدعاء للميت، فلو لم يفعل؛ وجب أن [تبطل لترك] المقصود، ولا يتعين لذلك دعاء كما نص عليه. نعم، هل يتعين أن يربط الدعاء بالميت الحاضر أو يكفي إرساله، مثل أن يدعو للمؤمنين والمؤمنات؟ قال الإمام: ظاهر كلام الشافعي التعيين، وكان شيخي يقول: يكفي الإرسال.

قلت: ومذهب صاحب "التلخيص"[و] ابن القاص يجوز أن يقال: إنه يوافقه، ويجوز أن يقال: لا؛ لأنه يتعرض فيه للحاضر بقوله: "وشاهدنا".

والمحل الذي يجب فيه: الثالثة، كما قال القاضي الحسين وغيره، وعبارة الإمام:

ص: 90

والدعاء عقيب التكبيرة الثالثة لابد منه. وقياس ما حكاه الرافعي أن النص لا يخفى مما تقدم.

والتسليمة الأولى؛ لأن بها يتحلل، قال الإمام: وقد ذكر الشيخ أبو علي أن أقله أن يقول: "السلام عليكم"، وردد جوابه فيما لو قال:"عليك"، هل يكفي أم لا؟ قال الرافعي: والظاهر المنع.

أما ما يجب غير ما ذكره الشيخ مما هو شرط وغيره، فأشياء:

منها: القيام فيها عند القدرة؛ فلا تجوز على الراحلة على الأصح كما تقدم في بابالتيمم، وبه جزم البندنيجي وأبو الطيب هاهنا.

ومنها: الطهارة من الحدث الأكبر والأصغر ومن الخبث في البدن والثوب والمحل، ولا يكفي التيمم عند فقد العذر مع وجود الماء وإن خشي فواتها، خلافاً لأبي حنيفة.

ومنها: ستر العورة، وكذا استقبال القبلة في السفر والحضر.

ومنها: وقوع ذلك بعد الغسل كما ذكره القاضي الحسين وغيره، حتى لو مات في بئر أو معدن انهدم عليه، وتعذر إخراجه وغسله- لم يصلَّ عليه، ذكره في "التتمة"، ويجوز قبل التكفين لكن مع الكراهة، وهذا هو المشهور، وقد حكى الجيلي قولاً قديماً أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لا تجب فيها كما تقدم مثله في الصلاة. وقال صاحب "التقريب": إن البويطي نقل كلاماً للشافعي، وقال في أثنائه: وقد قيل: إن الصلاة دعاء للميت.

قال صاحب "التقريب": يحتمل أن يكون هذا حكايةً لمذهب الغير، وإن حملناه على مذهب الشافعي فمقتضى هذا النص سقوط فريضة القراءة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وجواز استغراق الصلاة بالدعاء للميت.

قال الإمام: ولم يتعرض لإسقاط التكبيرات بين العقد والحل؛ اقتصاراً على الدعاء واللفظ الصالح.

ص: 91

قلت: قد قال الجيلي: إن في "اللباب" و"شرح" المزني أن التكبيرة الأولى واجبة، والزيادة على الواحدة سنة، وهذا يعضد ما قاله الإمام، والكل غير معدود من المذهب، والوجه القطع بحمل ما قاله الشافعي على حكاية مذهب الغير.

قال: ومن سبقه الإمام ببعض التكبيرات دخل [معه] في الصلاة، أي: سواء وافى دخوله في الصلاة تكبيرة الإمام أو لا، وأتى بما أدرك؛ لقوله- عليه السلام "فما أدركتم فصلُّوا"، ولا يمكنه أن يصلي ما أدركه معه إلا بتقديم التكبيرة، ولأنه أدرك جزءاً مع الإمام بتقدم التكبير؛ فجاز أن يأتي بها كما يأتي بالتكبير قياساً على سائر الصلوات، ثم ما أدركه يكون أول صلاته فيمشي على ما تقتضيه صلاة نفسه، فإن أدركه بين التكبيرة الأولى والثانية أو بين الثانية والثالثة أو بين الثالثة والرابعة- قرأ الفاتحة إن تمكن من قراءتها قبل شروع الإمام في تكبيرة أخرى، ولو شرع الإمام في تكبيرة أخرى قبل استكمال المأموم الفاتحة فهل يقطعها ويتبعه أو يكملها؟ فيه وجهان؛ كما لو قرأ المأموم بعض الفاتحة ثم ركع الإمام، قال ابن الصباغ: والأصح الأول، وبه جزم القاضي الحسين والماوردي فيما إذا كان قد أدركه بين الأولى والثانية.

قال الرافعي: وصاحب الكتاب- يعني الغزالي- أجاب بالوجه الثاني حيث قال ثمَّ: إن لم يتمكن من التكبيرة الثانية [مع الإمام- لعدم إتمام الفاتحة- صبر إلى التكبيرة حتى يتمها، ويؤخر تكبيرته الثانية] إلى أن يكبر الإمام الثالثة.

وقال الإمام: إن في تشبيه ما نحن فيه بما تقدم فيه نظر عندي؛ فإن المسبوق في سائر الصلوات لو أدرك الإمام راكعاً صار مدركاً للركعة بإدراك ركوعها، ومن أدرك الإمام في صلاة الجنازة مع التكبيرة الثانية لم نجعله مدركاً للصلاة من أولها، وليست مبادرة الركوع بمثابة مبادرة التكبيرة الثانية فليفهم الناظر ذلك، ولكن إن كان يعذر في ترك بعض القراءة حتى لا يسبقه الإمام فقد يتجه ذلك على بعد.

وهذا ميل إلى ما جزم به الغزالي، ولا شك في جريان الوجه الثالث المذكور في الصلاة هاهنا، [وبه] صرح الفوراني.

ص: 92

ثم إذا قلنا بالأول فهل يقرأ بعد التكبيرة الثانية؛ لأن القيام محل القراءة بخلاف الركوع، أم يقال: لما أدرك قراءة الإمام صار محل قراءته منحصراً فيما قبل الثانية؟ فيه احتمالان في "الشامل"، والثاني منهما لم يحك الماوردي غيره حيث قال: يكبر الثانية معه وقد تحمل الإمام عنه ما بقي من القراءة. وقال الرافعي: لعل هذا أظهر.

ولو شرع الإمام في التكبيرة الثانية بعد ما استكمل المأموم التكبيرة الأولى، ولم يتمكن من قراءة شيء من الفاتحة- كبر مع الإمام الثانية، وسقطت عنه القراءة، كما إذا ركع الإمام عقيب تكبير المأموم في سائر الصلوات، قاله البغوي والمتوليو الرافعي.

قال: وإذا سلم الإمام كبر ما بقي؛ لقوله- عليه السلام: "وما فاتكم فأتمُّوا" وخالفت هذه التكبيرات تكبيرات العيد حيث لا يأتي المأموم بما فاته منها؛ لأن هذه تجري مجرى الأفعال في الصلاة، ولا يجوز الإخلال بها. وتكبيرات العيد مسنونات، فإذا فات محلُّها سقطت.

قال: متوالياً، ثم يسلم؛ خشية أن ترفع الجنازة قبل فراغه فلا يصادف الدعاء محله، وهذا التعليل موافق لما تقدم من أن ربط الدعاء بالميت الحاضر لابد منه، وهذا القول نص عليه في "مختصر" البويطي حيث قال: إذا سلم الإمام يأتي المأموم بالتكبيرات نسقاً، وقال في "المختصر": وإن أدركه وقد فرغ من تكبيرتين فإنه يكبر ويقرأ والإمام يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كبر الإمام الثالثة ودعا للميت كبر المأموم وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم كبر الإمام الرابعة وسلم، وكبر المأموم ودعا للميت، ثم يكبر ويسلم.

فحصل في المسألة قولان، أصحهما في "التهذيب" وغيره، وهو المذهب في "التتمة": الثاني وإن رفعت الجنازة؛ للحاجة، كما جوزنا الصلاة على الغائب لمكان الحاجة، لكن المستحب عندنا- كما قال القاضي الحسين والبغوي- ألا يرفع الميت حتى يفرغ من الصلاة، وفي "الجيلي" أن في "البحر": أن الجنازة إذا رفعت بطلت صلاته على أحد الوجهين؛ بناء على جواز الصلاة على الجنازة للمعتكف في حال مروره في الطريق، والقاضي الحسين والبغوي والرافعي جزموا بعدم البطلان وإن تحولت الجنازة عن قبالة القبلة، والقولان- كما قال

ص: 93

في "الروضة"- في الوجوب وعدمه، صرح به صاحب "البيان"، وهو ظاهر.

فرع: لو تخلف المقتدي، فلم يكبر مع الإمام الثانية أو الثالثة حتى كبر الإمام التكبيرة المستقبلة من غير عذر- بطلت صلاته؛ لأن القدوة في هذه الصلاة لا تظهر إلا في التكبيرات، وهذا التخلف متفاحش شبيه بالتخلف بركعة في سائر الصلوات، كذا حكاه الإمام عن شيخه، وقال: إن الأمر على ما ذكره، وهو مقطوع به عندي.

قال: ومن فاتته جميع الصلاة صلى على القبر؛ لما روى أبو داود عن أبي هريرة أن امرأة سوداء أو رجلاً كان يقمُّ المسجد، فقده النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل عنه، فقيل: مات، فقال:"ألا آذنتموني به؟ قال: دلوني على قبره. فدلوه فصلى عليه"، وأخرجه البخاري ومسلم، وروى مسلم عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على قبر بعد ما دفن، فكبر عليه أربعاً، ولأن الولي يجوز له أن يصلي عليه في القبر إذا لم يكن قد صلى عليه بوفاق الخصم، فنقول له: كل من جاز له أن يصلي الصلاة الأولى جاز أن يصلي الصلاة الثانية، أصل ذلك: الولي.

قال: أبداً؛ لأن القصد من الصلاة الدعاء، وهو مطلوب في كل وقت، وهذا أضعف الوجوه في "الإبانة" وغيرها، وقال الماوردي: إنه ليس بصحيح.

وإذا قلنا به فهل تجوز الصلاة على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لا؟ فيه وجهان مشهوران، المذكور منهما في "تعليق" القاضي أبي الطيب: الجواز، وفي تعليق البندنيجي: المنع، وهو الأصح في "الحاوي" وغيره برواية مسلم عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مرض موته:"لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، والمعنى فيه خوف الافتتان.

ثم حيث نقول بالجواز فهل تجوز جماعة وفرادى؟ سكت الجمهور عن

ص: 94

ذلك، وقال الإمام: إن الشيخ أبا علي قال: إنا إذا جوزنا الصلاة عليه فلا يجوز أن يصلي عليه جماعة، بل يصلي عليه أفراداً، ونسب الرافعي ذلك إلى أبي الوليد النيسابوري.

قال الإمام: وهذا القائل يحمل المنع من اتخاذ القبر مسجداً على إقامة الجماعة، وينزل القبر في ذلك منزلة [المساجد المهيأة] للجماعات.

وقيل: يصلي عليه من كان من أهل الصلاة عليه عند الموت، أي: ولا يصلي عليه غيره؛ اعتباراً بأهلية الخطاب بالصلاة عند السبب، وهذا ما ذهب إليه الشيخ أبو زيد، وقال الفوراني والرافعي والبندنيجي: إنه الأصح، لكن ما المراد بالأهلية: هل أهلية الوجوب أو أهلية الصحة؟ فيه خلاف بين الأئمة حكاه الإمام وغيره:

فالذي ذهب إليه القاضي أبو الطيب والحسين والمصنف: الأول؛ حيث قالوا تفريعاً عليه: إن من كان غير بالغ حين الموت أو ولد بعد موته لا يجوز أن يصلي عليه، ووجهه القاضي حسين بأنه يكون متبرعاً، ولا يتطوع بصلاة الجنازة، بخلاف من كان من أهل الفرض عند الموت؛ لأن الخطاب بها متوجه على الجميع، فإذا أوقعت وقعت فرضاً، وهذا التوجيه يقتضي ألا تصح صلاة الصبي المميز على الجنازة بعد أن صلى عليها من سقط الفرض به، بل مع من يسقط الفرض به، ولا قائل به، وقد اختار هذا الوجه الصيدلاني أيضاً.

والذي حكاه البندنيجي والفوراني: الثاني، لأن عبارة البندنيجي في حكاية هذا الوجه: أنه يصلي عليه من كانت تصح صلاته عليه عند الموت وهو البالغ أو المراهق. وعبارة الفوراني كعبارة الشيخ، وعقبها بقوله: حتى لو كان صبياً عند موته كان له الصلاة عليه.

وقضية الوجهين: أن من كان مفقوداً أو غير مميز أو مجنوناً عند الموت لا يصلي عليه، وبه صرح الأصحاب، وكذا قضيتهما ألا تصلي عليه الحائض عند موته إذا طهرت بعد دفنه؛ لأن الحيض ينافي صحة الصلاة ووجوبها.

قال الإمام: ولكن هي على الجملة ممن يخاطب، فالذي أراه: أنها تصلي إذا

ص: 95

طهرت من ذلك.

وكذا قضيتهما: أن تصح ممن كان كافراً عند الومت ثم أسلم بعد دفنه، إذا قلنا: إن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، أما إذا قلنا: لا، فعلى الوجه الأول: لا يصلي، وعلى الثاني: يصلي؛ لأنه كان متمكناً من الصلاة بأن يسلم ويصلي كالمحدث، وقد أعرض الإمام عما ذكرناه وقال: الذي أراه أنه يصلي؛ لما ذكرناه من الإمكان.

وقيل: إلى شهر، أي: ولا يجوز بعده؛ لأنه- عليه السلام قدم المدينة وقد مات البراء بن معرور وأوصى له، فقبل وصيته، وصلى على قبره بعد شهر.

[قال ابن الصباغ وغيره: ولم ينقل أكثر من ذلك.

وقد روي عن عبد الله بن عمر أنه قدم المدينة وقد مات أخوه عاصم بن عمر فقال: دلوني على قبر أخي. وصلى على قبره بعد شهر] وصلت عائشة على قبر أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر بعد شهر، ولا يعرف لهما مخالف.

وعن القفال أنه قال: لعل صاحب هذا الوجه أخذه من صلاته- عليه السلام على النجاشي؛ فإنه كان بين موضع النبي صلى الله عليه وسلم وبين موضع وفاة النجاشي مسيرة شهر.

قلت: وما قيل من أنه لم ينقل أكثر من ذلك، فيه نظر فإن مسلماً والبخاري رويا عن عقبة بن عامر قال:"صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد بعد ثماني سنين كالمودِّع للأحياء والأموات"، فإن حمل على الصلاة الشرعية أشكل ما

ص: 96

قيل: إنه لم ينقل أكثر من ذلك، وإن حمل على الصلاة اللغوية وهو الدعاء لم يشكل، لكن الأول هو الظاهر؛ لأن أبا داود روى عن عقبة بن عامر:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوماً، فصلى على أهل أحد صلاته على الميت"، وقول القفال قد قال القاضي الحسين والإمام: إنه لا يصح؛ لأنه- عليه السلام صلى على النجاشي في اليوم الذي مات فيه النجاشي، وكان جبريل أخبره به.

وقيل: ما لم يبل جسده؛ لأنه إذا لم يبل بقي ما يصلى عليه، وإذا بلى لم يبق ما يصلى عليه، وعلى هذا يختلف ذلك باختلاف البلاد والأجسام.

ولو شككنا في بلاه رجعنا إلى أهل الخبرة بتلك الأرض، فإن لم يعلموا أو لم يوجدوا- قال الإمام: يحتمل أن يقال: إن الصلاة مقيدة بالبقاء، ولم يتحقق؛ فلا يصلى، ويحتمل أن يقال: إن الأصل البقاء؛ فيصلى، وهذا الثاني أوفق لرواية الصيدلاني والقاضي الحسين وآخرين كما قال الرافعي؛ فإنهم قالوا في حكاية هذا الوجه: إنه يصلى عليه ما لم يعلم بلاه، وقد ادعى الماوردي أن هذا الوجه أصح مذاهب أصحابنا، وقال الإمام: إنه الذي عليه التعويل، والأوجه الأربعة محكية في تعليق أبي الطيب وغيره من كتب العراقيين.

وعلى [هذه] الثلاثة الأخيرة منها، قالوا: لا يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ووجهه إذا قلنا بأولها وثانيها ظاهر، وإذا قلنا بثالثها فوجهه-كما قال أبو الطيب والبندنيجي-: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك في قبره؛ فإنه قال "أنا لا أترك في القبر"، وعبارة ابن الصباغ تقرب من ذلك، وقد قيل: إن في هذا المأخذ نظراً؛ فإنه قد ورد أنه- عليه السلام قال: "أنا أول من تنشق عنه الأرض" فالاعتماد في

ص: 97

المنع على النهي أو لا.

وحكي سليم وجهاً خامساً في المسألة أنه يصلي عليه من كان موجوداً عند الموت، وعليه ينطبق قول الماوردي: وقيل: بل يصلي عليه من عاصره.

وحكى المراوزة وجهاً يكون سادساً عن رواية الشيخ أبي علي في "الشرح"[أنها تجوز] إلى ثلاثة أيام؛ لأنها مدة قريبة.

قال الإمام: وهو غريب غير معتد به.

تنبيه: قول الشيخ: "ومن فاته جميع الصلاة صلى على القبر"، يفهم أن الميت لا يؤخر بعد تمام صلاة من يسقط الفرض بهم ليصلي عليه من لم يصل، ولياً كان له أو غير ولي، ولا شك في أن الأولى ذلك، لكن هل يجوز أن يؤخر لأجل ذلك؟ فإن كان الذي يريد الصلاة غير ولي له لم يجز، وكذا إن كان ولياً وخشي على الميت الفساد، وإن لم يخش عليه جاز، وتكون الصلاة إذا فعلت فرضاً على الصحيح كما تقدم، ولا يجوز لمن صلى عليه مرة أن يعيد الصلاة عليه مرة أخرى على أحد الوجهين في "الشامل" وتعليق أبي الطيب، وهو المذكور في "الحاوي" لا غير، وجزم البندنيجي بمقابله؛ لقول الشافعي الذي حكيناه من قبل: وإذا اجتمعت جنائز فصلى عليها ولي واحد، وشاء أحد من الأولياء أن يعيد الصلاة على ميته- فعل.

وقد حكى الرافعي تبعاً للبغوي الوجهين في استحباب ذلك، وأن الأظهر عدم الاستحباب، ولكن فيما إذا كانت الصلاة الأولى منفردة والثانية في جماعة، وجزم القول فيما إذا كانت الثانية منفردة أيضاً أنه لا يستحب، وأطلق القاضي الحسين القول بعدم الاستحباب، وهو ما ادعى الإمام اتفاق الأئمة عليه، وعلى هذا لو فعلها لم تكن باطلة، وأبدى الإمام في البطلان احتمالاً لنفسه، وفي الجيلي حكاية وجهين في البطلان والذي أورده القاضي الحسين: الأول، وقال: إن الثانية تكون

ص: 98

فرضاً لا نفلاً، وإذا قلنا: تستحب، قال الجيلي: فهل ينوي بها الفرض؟ فيه وجهان مذكوران في شرح المزني.

قال: وإن كان الميت غائباً عن البلد صلى عليه بالنية، أي: فينوي الصلاة على فلان إن عرفه، أو على من صلى عليه الإمام كما تقدم.

قال: كما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على النجاشي. هذا من الشيخ مغن عن التوجيه، والخبر المذكور رواه أبو هريرة:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى [إلى الناس] النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلَّى، فصفَّ بهم وكبر أربع تكبيرات"، أخرجه البخاري ومسلم.

قال أهل السير: وكان نعيُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم له في رجب سنة تسع من الهجرة.

والنجاشي- بفتح النون والجيم والشين المعجمة وتشديد الياء-: اسم لكل من ملك الحبشة، كما أن اسم كل من ملك مصر: فرعون، واسم ملك الليمن: تبع، واسم ملك الروم: قيصر، واسم ملك الفرس: كسرى. واسم الذي صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصحمة، وقيل: صحمة، ومعناه بالعربية: عطية، ذكره ابن قتيبة.

فإن قيل: إنما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على النجاشي؛ لأن الأرض زويت له فكان يرى النجاشي.

قيل: ذلك ممتنع؛ لوجهين:

ص: 99

أحدهما: أنه لو كان ذلك لنقل، ولكان أولى بالنقل من الصلاة؛ لأن ذلك معجزة على نبوته.

والثاني: أن رؤيته للأرض إما أن تكون لكون الله خلق له إدراكاً يدركها به، أو لتداخل أجزاء الأرض بعضها في بعض، وتكون أرض الحبشة قد جعلت بباب المدينة، والثاني ممتنع؛ إذ لو كان كذلك لكان جميع الصحابة قد رأوها، ولم ينقل، والأول لا يجيء على مذهب الخصم؛ لأن عنده أن البعد من الميت يمنع من صحة الصلاة عليه وإن كان يراه، وأيضاً فكان مقتضاه أن تصح صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وحده دون سائر الصحابة، ولا وجه لقولهم: إن الحبشة لم يكن بها من يصلي على النجاشي؛ فلذلك صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ومثل ذلك يجوز عندنا؛ لأن عندهم [أن من مات بالبادية]، أو بغيرها من المواضع التي يعلم أنه ليس بها من يصلي عليه لا يصلى عليه، وكما تجوز الصلاة على الغائب [الواحد] تجوز على جمع منهم في وقت واحد وإن لم يعرف عددهم ولا أشخاصهم ولا أسماؤهم، مثل أن ينوي الصلاة على الأموات الذين ماتوا في يومه وغسلوا في البلد الفلاني، قاله في "البحر".

قال في "الروضة": وقوله صحيح، لكن لا يختص ببلد، والله أعلم.

ولا فرق عندنا في جواز الصلاة على الغائب بين أن يكون في جهة القبلة من المصلي أو لا والمصلي يستقبل القبلة، ولا بين أن يكون في موضع قد صلي عليه فيه أو لا، وعن "بحر المذهب" فيما سمعته: أن الصلاة على الغائب لا تفعل إلا حيث لم يكن صلى عليه أحد، وكذا كانت قصة النجاشي، وكذا لا

ص: 100

فرق بين أن تكون المسافة بين المصلي وبينه- وهو خارج عن البلد- بعيدة أو قريبة.

واحترز الشيخ بقوله: "غائباً عن البلد"، عما إذا كان في البلد غائباً عن المصلى؛ فإنه لا يجوز أن يصلي عليه بالنية كما جزم به أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما؛ لأنه [لا ضرورة] في ذلك، بخلاف ما إذا كان غائباً عنها، وشبهوا ذلك بالقبلة: لا يجوز لمن هو بمكة أن يصلي إليها بالاجتهاد بل بالمعاينة، بخلاف الغائب عنها، والفرق ما ذكرناه.

وحكى المراوزة في جواز الصلاة عليه في هذه الحالة وجهين، قال القاضي الحسين: وهما كالقولين في جواز تقدم المأموم على الإمام، وشبههما الإمام بالخلاف في نفوذ القضاء على من في البلد مع إمكان إحضاره.

قال: والأمر عندي في تجويز الصلاة أقرب؛ لأن الغرض من الصلاة الابتهال إلى الله- تعالى- في التجاوز عن الموتى، وهذا لا يختلف بالغيبة والشهود، وأما القضاء فإنه يتعلق بأمور معتبرة في الإقرار والإنكار؛ فاشتراط الحضور الممكن أولى وأقرب.

قال: وإن وجد بعض الميت غسل وكفن وصلي عليه؛ لما روي أن طائراً ألقى يداً بمكة من وقعة الجمل، فعرفت بالخاتم، فكانت يد عبد الرحمن بن عتاب بن أسيدٍ، فصلى عليه الناس وفيهم الصحابة، وروي أن أبا عبيدة بن الجراح صلى على رءوس القتلى بالشام، وعن عمر أنه صلى على عظام بالشام، وليس لهم مخالف؛ فكان إجماعاً، لكن هل ينوي [بالصلاة:] الصلاة على جملة الميت، أو على ما وجد منه؟ فيه وجهان في "الحاوي"، والذي أورده الغزالي وغيره: الأول، والذي يفهمه كلام القاضي أبي الطيب: الثاني، بل هو

ص: 101

كالمصرح به؛ لأنه أجاب عن قول الخصم: لو وجبت الصلاة على الجزء الموجود لأدى إلى وجوب تكرار الصلاة- بأن ذلك غير صحيح؛ لأن التكرار هو الصلاة على جزء واحد مرتين، ونحن لا نوجب الصلاة على الميت إلا مرة واحدة، والجزء الثاني غير الجزء الأول، فهو بمثابة أن يجد جزءاً من الميت فنأمره بتكفينه ودفنه، ثم يجد جزءاً آخر فنأمره بذلك أيضاً.

فإن قالوا: ليس الصلاة كالتكفين؛ لأن الجزء الأول لم يستوعب جميع الكفن بل جزءاً منه، وأنتم تأمرون بإكمال الصلاة على الجزء الأول.

فالجواب: أن تبعيض الكفن يصح ولا يستحيل؛ فلذلك بعضناه على الأجزاء. وأما الصلاة فلا يصح تبعيضها؛ فلذلك أمرناه بإكمالها على الجزء.

ثم محل الوجهين إذا لم يعلم أنه صلي على جملة الميت، فإن علم أنه صلي على جملته قال الماوردي: فيخص الصلاة بالعضو وجهاً واحداً. وفيه نظر؛ من حيث إنه يجوز أن يصلي على كل الميت مرة أخرى، نعم، إن كان هذا في حق من [قد] صلى على الجملة فهو صحيح؛ لأن من صلى عليها لا يصلي عليها مرة أخرى على الأصح، ولعل هذا المراد، مع أنه لا يخلو من نظر.

وهذا كله إذا تحقق أن ذلك البعض من مسلم، وكذا الحكم فيما لو وجد في دار الإسلام وقد جهل حاله، قاله ابن الصباغ وغيره، وظاهر كلام الشيخ أنه لا فرق في البعض المذكور بين أن يكون أكثر الجثة أو أقلها، وهو كذلك؛ لما ذكرناه، وكذا قضيته أنه لا فرق بين أن يكون شعراً أو ظفراً أو غيرهما.

وقد حكى ابن الصباغ وغيره في الشعر والظفر وجهين، ادعى البندنيجي أن المذهب منهما: المنع، بعد أن قال: إنه لا نص فيها لصاحبنا، وقال الرافعي: الأقرب إلى إطلاق الأكثرين أنهما كغيرهما كما أفهمه كلام الشيخ. نعم، قال في "العدة": إن لم يوجد إلا شعرة واحدة فلا يصلى عليها في ظاهر المذهب؛ إذ لا حرمة لها.

وإذ قلنا بالغسل والصلاة فلا بد من مواراته بخرقة. ولو كان البعض الموجود قد انفصل من حي وهو باقٍ، نظر: فإن كان من أجزاء الجثة، مثل: أن سقطت يده أو رجله ونحو ذلك، فهل يكون كالبعض من الميت؟

أطلق الماوردي فيه حكاية وجهين، بناهما بعضهم على أن الصلاة في

ص: 102

المسألة قبلها تكون على جملة الميت أو على ذلك البعض؟ وقضية هذا البناء: أن يجري الخلاف في اليد المقطوعة في السرقة ونحوها أو قصاصاً، وقد قال المتولي وغيره: إنه لا خلاف في أنها لا تغسل ولا يصلى عليها، ولكن تلف في خرقة وتدفن.

ولو كان ذلك البعض شعراً أو ظفراً لم يغسل ولم يصلَّى عليه، ولكن يستحب دفنه، قاله المتولي وغيره ممن حكوا الخلاف في الشعر والظفر المنفصل من الميت.

ثم إذا قلنا بأن المنفصل من الحي لا يصلى عليه، ولو كان من ميت لصلي عليه، فوقع الشك في ذلك البعض: هل انفصل عن حي أو ميت؟ فمقتضى كلام الشيخ: أنه لا يصلى عليه؛ لأنه أناط الصلاة بانفصاله من ميت، ولم يتحقق، وهو ما ذكره الغزالي والمتولي وغيرهما متى احتمل أن يكون صاحبه حياً. وقال مجلي: فيه احتمالان؛ لتعارض الأصل والغالب، وفي الإطلاق نظر.

وقد أفهم كلام الشيخ أن تكفين البعض الموجود من الميت لابد منه، وهو ما حكيناه عن القاضي، لكن في "الحاوي" أن ذلك فيما إذا كان المنفصل من العورة، أما إذا كان من غيرها فلا.

قال: ومن مات من المسلمين؛ أي: كبيراً أو صغيراً، ذكراً أو أنثى، حراً أو عبداً، في حرب الكفار بسبب من أسباب قتالهم، أي: مثل أن يقتله مشرك، [أو يحمل عليه فيتردَّى في] بئر، أو يقع من جبل، أو يسقط عن فرسه، أو يرفسه فرس غيره، أو يقع فيه سيفه، أو يرجع عليه سهمه، أو يصيبه سهم غيره، مسلماً كان ذلك الغير أو كافراً [ونحو ذلك]، قبل انقضاء الحرب- لم يغسل ولم يصلَّ عليه؛ لقوله – تعالى-:{وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءُ} [آل عمران: 169]، والحي لا يغسل ولا يصلى عليه.

وقد روى البخاري عن جابر بن عبد الله قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في قبر واحد، [ثم يقول]: "أيُّهم [أكثر] أخذاً

ص: 103

للقرآن؟ "، فإذا أشير إلى أحدهما قدمه في اللحد، وقال: "[أنا شهيد] على هؤلاء يوم القيامة". وأمر بهم فدفنوا في ثيابهم، ولم يغسلوا ولم يصلَّ عليهم"، وهذا نص في المدَّعى، وذلك على وجه الوجوب، فلو أراد الوارث أن يغسله ويصلي عليه حرم عليه ذلك، واختار المزني أنه لا يغسل ويصلى عليه كمذهب أبي حنيفة، ونقل البغوي والإمام وجهاً أن الصلاة عليه تجوز ولا تجب.

قال الإمام: وهذا القائل يعتقد جواز ترك الصلاة رخصة؛ لمكان الاشتغال بالحرب وتوابعه إذا انجلى، فلو فرض متكلف وصلى؛ جاز، وهذا القائل لا يجوز الغسل، وإن كانت الصلاة على غير الشهيد لا تجوز بغير غسل أو بدله؛ لأن الشهيد كالمغسول بصوب رحمة الله، تعالى.

قال الإمام: وقد [يتطرق للناظر] في ذلك شيء، وهو أن الشهيد إذا كان عليه دم الشهادة فلا يجوز إزالته ويتعين إبقاؤه؛ لقوله- عليه السلام: "زملوهم في كلومهم ودمائهم؛ فإنهم يبعثون يوم القيامة وأوداجهم تشخب

ص: 104

دماً: اللون لون الدم، والريح ريح المسك"، وإن لم يكن عليه دم أصلاً فلا شك أنه لا يجب غسله، ولكن في جوازه تردد في هذه الصورة من طريق الاحتمال، والذي ذهب إليه المحققون: الأول؛ إذ لو جاز ذلك لوجب فعله.

ولا فرق فيه بين أن يكون الميت جنباً أو لا عند أكثر الأصحاب، وهو مقتضى إطلاق كلام الشيخ وظاهر الخبر. وقال ابن سريج وابن أبي هريرة: يغسل؛ لأجل الجنابة؛ لأن حنظلة بن الراهب قتل يوم أحد، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم الملائكة تغسله؛ فبعث إلى أهله، فسأل عن شأنه فقالوا: لا علم لنا به غير أنه كان واقع أهله، ثم خرج إلى الحرب جنباً. فلما غسلته الملائكة علم أنه بأمر الله؛ فدل على أنه مأمور به، ولأنه لزم غسل جميع بدنه في حال حياته؛ فوجب ألا يسقط بالقتل في الشهادة؛ كما إذا كان على جميع بدنه نجاسة ثم قتل شهيداً.

ص: 105

وظاهر المذهب- كما قال أبو الطيب- الأول، وادعى الإمام أن مقابله بعيد غير معتد به؛ لأنها طهارة عن حدث فسقطت بالموت كالطهارة الصغرى، ولأن الميت إنما يغسل ليصلى عليه، فإن كان هذا القتيل الجنب لا يصلى عليه فلا معنى لغسله، وحديث حنظلة دليل لنا؛ لأن [ما يتعبد] به الآدمي لا يسقط بفعل غيره، دليله: الغريق؛ فإنه يعاد غسله.

وأما إزالة النجاسة من بدنه، قال الماوردي: فإن كانت من جهة الشهادة لم يجب إزالتها، وإن كانت من غيرها كالبول والخمر وجبت إزالتها، والفرق بينها وبين الجنابة: أنه لماوجب إزالة قليل النجاسة وجب إزالة كثيرها، ولما لم يجب إزالة الحدث الأصغر لم يجب إزالة الأكبر، وهذا منه تصريح بإيجاب إزالة النجاسة وإن زال بسببها أثر الشهادة، وهو وجه حكاه القاضي أبو الطيب وغيره مع آخر: أنه لا يجوز؛ لما في ذلك من إزالة أثر الشهادة.

وحكى الإمام وغيره معهما وجهاً ثالثاً: أنه إن كان في غسلها إزالة دم الشهادة لم يغسلها، وإلا وجب، قال: وهذا أعدل الوجوه، والمسألة محتملة.

والمرأة إذا قتلت في الشهادة حائضاً هل تغسل؟ قال في "الروضة": إن قلنا: الجنب لا يغسل، فهي أولى، وإلا فوجهان حكاهما صاحب "البحر"؛ بناءً على أن غسل الحائض يتعلق برؤية الدم أم بانقطاعه أم بهما؟ إن قلنا: برؤية الدم، فكالجنب، والذي أورده القاضي أبو الطيب: أنها لا تغسل، ورد على من قال: إنه متعلق بانقطاعه بأن الانقطاع: ألا يخرج منها شيء وهذا لا يجوز أن يكون سبباً لوجوب الغسل، وإنما هو سبب لصحة الطهارة دون وجوبها.

قال: بل تنزع [عنه] ثياب الحرب، أي: كالزردية ونحوها.

قال الشافعي: وكذا ما [ليس بعامة] ثياب الناس كالجلود والفراء والجباب المحشوة والخف.

ص: 106

ويدفن فيما بقي من ثيابه؛ لرواية أبي داود عن ابن عباس قال: "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود، وأن يدفنوا بثيابهم ودمائهم"، وأخرجه ابن ماجه، وروى أيضاً عن جابر- وهو ابن عبد الله- قال:"رمي رجل بسهم في صدره- أو في حلقه- فمات، فأدرج في ثيابه كما هو، قال: ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ".

وهذا إذا رضي به الوارث، وهو الأولى كما قاله البندنيجي وغيره، ومحل الاكتفاء به: إذا كان قدر الواجب من الكفن، فإن كان أقل منه كمل على حسب ما تقدم، صرح به الإمام وغيره.

ولو أراد الوارث إبقاء ذلك لنفسه وتكفينه في غيره- جاز سواء كان عليه أثر الشهادة أو لا؛ لأن صفية أرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بثوبين ليكفن فيهما حمزة، فكفنه في أحدهما، وكفن في الثوب الآخر رجلاً آخر من حلفائه.

قال القاضي أبو الطيب: ولأنا لو قلنا: يجب أن يكفن فيما عليه لعيَّنَّا الثوب الذي يكفن فيه، وتعيين الكفن لا يجوز، وأثر الشهادة فإنما يجب إبقاؤه في البدن لا في الثوب.

أما إذا مات في الحرب لا بسبب من أسباب قتالهم بل حتف أنفه؛ فهو كما لو مات في غير الحرب عند العراقيين والبغوي، وحكى الغزالي في إلحاقه بالشهيد قولين، [والإمام رواهما عن شيخه وجهين]- أصحهما: ما ذكره

ص: 107

العراقيون، وإذا قلنا به فلو وقع الشك في أنه مات بسبب القتال أو حتف أنفه بأن وجد بين الصفين قتلى ولا أثر عليه- كان ملحقاً بمن قتل بسبب القتال اتفاقاً؛ لأنه الظاهر، ولو مات بسبب من أسباب قتالهم لكن بعد انقضاء الحرب فالذي أطلقه العراقيون- كأبي الطيب، والبندنيجي، وابن الصباغ-: أنه يغسل ويصلى عليه، سواء أكل بعد انفصاله عن الحرب أو لم يأكل، أوصى أو لم يوص، قطع بموته أو لم يقطع به.

وقال الماوردي: إن الحكم كذلك فيما إذا مات بعد طول الزمان من انقضاء الحرب، أما إذا مات بعد تقضي الحرب بزمان قريب- لم يغسل ولم يصل عليه. وقال المراوزة: إن كان حين انقضاء الحرب قد انتهى إلى حركة المذبوح لم يغسل ولم يصل عليه، وإن كان [حين انقضاء الحرب مرجو الحياة غسل وصلي عليه، ولو كان مستقر الحياة] حين انقضاء الحرب لكن قطع بأنه يموت بذلك السبب ففي تغسيله والصلاة عليه قولان، وهل هما جاريان مع قصر الزمان وطوله أو هما فيما إذا قرب، فإن طال- بأن بقي أياماً- وجبا قولاً واحداً، وفيه وجهان في "النهاية".

قال: وإن مات في حرب أهل البغي من أهل العدل- غسل وصلي عليه في أصح القولين، أي: في "المختصر" في كتاب قتال أهل البغي؛ لأن أسماء بنت أبي أبكر غسلت ابنها عبد الله بن الزبير، ولم ينكر عليها أحد. ولأنه مقتول في حرب المسلمين فغسل وصلي عليه كالقتيل من أهل البغي.

ومقابله: أنه كالمقتول في حرب الكفار، ولأن علياً لم يغسل أحداً ممن قتل معه، ولا صلى عليه، وأوصى عمار بألا يغسل، وهذا ما صححه صاحب "العدة" وغيره، لكن الجمهور على ترجيح الأول.

وهذه المسألة التي احترز [الشيخ] عنها في الفصل قبله بقوله: "في حرب

ص: 108

الكفار"، وقد حكى ابن الصباغ أن الأصحاب بنوا على القولين فيها وجهين فيمن قتله قطاع الطريق من أهل القافلة، والإمام حكى وجهين في أنه هل يلحق بمن قتله البغاة؛ فيكون فيه القولان، أو يجب غسله والصلاة عليه قولاً واحداً؟ والفرق: أن قتال أهل البغي بتأويل في الدين، بخلاف القطَّاع. وحكى الغزالي القولين فيمن قتله حربي في دار الإسلام غيلةً، والإمام حكاهما وجهين عن رواية الشيخ أبي علي، وحكى مثلهما الماوردي فيمن أسره الكفار وقتلوه بأيديهم صبراً.

وقد أفهم كلام الشيخ أن من عدا من ذكره من قتيل الكفار وأهل البغي- يغسل ويصلى عليه قولاً واحداً؛ لأنه ذكر أن غسل الميت والصلاة عليه فرض [على الكفاية] كما دل عليه الخبر، واستثنى من حيث المعنى من ذلك من قتله الكفار وأهل البغي على قول؛ لما قام عليه من الدليل؛ فبقي من عداهم على الأصل، ويندرج فيهم فريقان:

أحدهما: من لم يحكم الشرع له بالشهادة، منهم ولد الزنى، وكذا قاتل نفسه، والمقتول قصاصاً، ومن قتله أهل العدل؛ لأنهم لم يخرجوا عن الإسلام بما فعلوه، ومن هذا الفريق من قتل ظلماً من مسلم أو ذمي؛ لأن عمر قتل وغنسل وصلي عليه من غير نكير، وكذا المرجوم في الزنى؛ لأنه- عليه السلام لما رجم المرأة صلى عليها فقال له عمر: تصلي عليها وقد زنت؟ فقال- عليه السلام: "لقد تابت توبةً لو قسِّمت على سبعين من أفجر من بالمدينة لوسعتهم" أخرجه النسائي ومسلم.

لكن مفهوم الخبر أن من [لم يتب] لا يصلى عليه، وقد ذكرناه في باب حد الزنى،

ص: 109

ولم أر من أصحابنا من قال به، والمقتول بترك الصلاة تكلم الشيخ فيه في كتاب الصلاة.

والمقتول من قطاع الطريق إذا وجب صلبه فقد قال بعض الأصحاب: إنه لا يغسل ولا يصلى عليه؛ استهانة به وتحقيراً لشأنه، وبعضهم بناه على كيفية قتله كما ستعرفه في باب حد قاطع الطريق. وظاهر المذهب- كما قال القاضي الحسين- أنه يغسل ويصلى عليه، لكن إذا قلنا: يصلب أبداً- فعل به ذلك قبل الصلب، وإن قلنا: يصلب ثلاثاً ثم ينزل- فعل به ذلك بعد إنزاله بعد الثلاث، والكلام في ذلك مستقصًى في باب حد قاطع الطريق، فليطلب منه.

الثاني من الفريقين: من شهد له الشرع بالشهادة وهم كما قال- عليه السلام خمس: "المطعون، والمبطون، والغريق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله" هذا حديث متفق عليه، وفي رواية النسائي:"الشهداء سبع" سوى القتيل في سبيل الله، وعد الأربعة السالفة، وصاحب ذات الجنب، وصاحب الحرق، والمرأة تموت بجمع، أي: تموت وولدها لم ينفصل عنها، وقيل: تموت باجتماع الأوجاع، حكاه القاضي الحسين. وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ومن

ص: 110

مات فجأةً فهو شهيدُ، والغريب شهيدُ، ومن عشق فعفَّ فكتم فمات فهو شهيدُ".

ولا خلاف في أنهم لا يلحقون بمن قتل من المسلمين في معركة الكفار، ولا بمن قتله البغاة في ترك الغسل والصلاة؛ لما ذكرناه.

ووصفهم بالشهادة محمول على أن ثوابهم ثواب الشهداء، وإلا فقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة نفساء، وقام وسطها. متفق عليه. والفرق من حيث المعنى: أن المقتول في سبيل الله في غسله مشقة؛ لما به من الجراح والدماء، ولعله لا يجدي في قطع الدماء والفضلات، أو لأن تلك الآثار مستطابة شرعاً، قال- عليه السلام:"والذي نفسي بيده لا يكلم أحد في سبيل الله- والله أعلم بمن يكلم في سبيله- إلا جاء يوم القيامة واللون لون الدم والريح ريح المسك" رواه البخاري.

والصلاة تتبع الغسل غالباً، وهذا المعنى لا يوجد في غيرهم.

قال العلماء: وسمي الشهيد شهيداً؛ لأن الله ورسوله وملائكته يشهدون له بالجنة؛ فيكون شهيداً بمعنى مشهود له، مبالغة في اسم المفعول، وقيل: لأن أرواحهم تشهد دار السلام؛ فتكون مبالغة في اسم الفاعل.

قال: ويغسل السقط الذي نفخ فيه الروح ولم يستهل، ويكفن؛ لحرمة الآدمي، ولا يصلى عليه؛ لمفهوم قوله- عليه السلام:"إذا استهلَّ السقط صلي عليه" رواه ابن عباس، ورواية جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "السقط إذا استهلَّ صلِّي

ص: 111

عليه، ولأنه لم يثبت له حكم الأحياء في الإرث؛ فكذا في الصلاة، وخالفت الصلاة الغسل؛ لأن الغسل آكد؛ ولهذا يغسل الكافر ولا يصلى عليه، وهذا ما نص عليه في "الأم"، ووراءه طريقان:

إحداهما: أنه لا يصلى عليه قولاً واحداً، وهل يغسل؟ فيه قولان.

أحدهما- نص عليه في البويطي-: أنه لا يغسل.

والثاني- نقله المزني-: أنه يغسل.

وهذان الطريقان حكاهما الفوراني لا غير.

والطريقة الثانية: أن في غسله والصلاة عليه قولين:\

ص: 112

أحدهما- وهو ما حكاه البندنيجي عن نصه في "البويطي"-: أنه لا يغسل ولا يصلى عليه، أما كونه لا يصلى عليه؛ فلما تقدم، وأما كونه لا يغسل؛ فلأن كل من لا يصلى عليه من المسلمين لا يغسل كالشهداء.

والثاني- وهو ما حكاه الأصحاب عن القديم-: أنه يغسل ويصلى عليه؛ لعموم قوله- عليه السلام: "والسقط يصلَّى عليه، ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة" أخرجه أبو داود، والترمذي وقال: حسن صحيح.

وقال البندنيجي: قد قرأت القديم كله، فما رأيت هذا القول فيه، ولكن فيه وفي "الأم" معاً: أنه يغسل ويكفن، ولم يذكر الصلاة. ويؤيد قوله أن الماوردي قال: إن ابن أبي هريرة حكى هذا القول تخريجاً عن الشافعي من القديم.

وعند الاختصار حاصل المسألة ثلاثة أقوال، أصحها: ثالثها، وهو ما ذكره الشيخ: يغسل ولا يصلى عليه، والفرق ما تقدم. وقد حكى الأقوال هكذا صاحب "التقريب" والشيخ أبو علي، لكن الشيخ أبا علي حكاها في الحالة التي يبدو عليه التخليق، ولا يظهر بعد الانفصال شيء من علامات الحياة، وصاحب "التقريب" حكاها فيما إذا بلغ مبلغاً يقدر نفخ الروح فيه ولم يظهر علم بعد الانفصال، وهو راجع إلى ما قاله العراقيون من المدة كما ستعرفه.

قال الإمام: ويجوز أن يقال: الاختلاف بين الشيخ وصاحب "التقريب" في

ص: 113

محض العبارة، فإنه إذا بدا التخليق قد دخل أوان توقُّع جريان الروح، وإن لم يبد بعد تخليقُ لم يدخل أوان توقُّع ذلك، وقد يظن ظانُّ أن أوائل التخليق قد تجري وبينه وبين جريان الروح زمان بعيد، فإن ظننا ذلك [افترق الطريقان] في التفصيل، وفيما ذكره صاحب "التقريب" فقه يليق بالباب.

وبالجملة فالكل متفقون على أنه لابد من تكفينه، لكن إن قلنا: يصلى عليه، كان كفنه كغيره من الأموات، وإلا كان لفافة يسيرة، فدفنه واجب بكل حال.

والسقط- بكسر السين وضمها وفتحها، ثلاث لغات مشهورات، والكسر أكثر-: من ولد قبل تمام مدته، قاله أبو حاتم.

ويقال منه: أسقطت، وسقط جنينها، ولا يقال: وقع، وقيل: السقط: ما ولد ميتاً، والذي نفخ فيه الروح: من سقط بعد أربعة أشهر؛ لقوله- عليه السلام: "إنَّ أحدكم ليمكث في بطن أمِّه أربعين يوماً نطفةً، وأربعين يوماً علقةً، وأربعين يوماً مضغةً، ثمَّ يؤمر الملك فيكتب رزقه وأجله وأثره، وشقيُّ أو سعيدُ، ثمَّ ينفخ فيه الرُّوح".

وكأن الأصحاب أخذوا تعقُّب نفخ الروح الأربعين الثالثة من سياق الحديث؛ فإنه يقتضي أن العلقة تتعقب النطفة بعد الأربعين، والمضغة تتعقب العلقة بعد الأربعين، وإلا فلفظة "ثم" لا تقتضي التعقيب، ثم قضية استدلالهم بهذا الخبر أن يعتبروا الأشهر بالعدد لا بالأهلة، وإن الشرع إنما اعتبر الأيام، وما ذكره صاحب "التقريب" أحسن مما ذكره الشيخ وغيره؛ لأن بعد انقضاء الأشهر الأربعة يدخل وقت نفخ الروح، وقد يتخلف عنه لأمر أراده الله تعالى، والله أعلم.

والاستهلال: رفع الصوت.

ثم اعلم أن كلام الشيخ يقتضي أن من شرب اللبن أو نظر أو تحرَّك عضو من أعضائه حركة كثيرة تدل على الحياة، وغير ذلك مما يدل عليها ولم يستهل- أن هذا حكمه، وليس كذلك؛ بل حكمه حكم من استهل صارخاً

ص: 114

فيغسل ويصلى عليه بلا خلاف؛ لقول المغيرة بن شعبة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الطفل يصلَّى عليه"، ومن صلِّى عليه غسِّل، وقد ادعى ابن المنذر إجماع أهل العلم على ذلك، وفيه نظر؛ لأنه نقل عن سعيد بن جبير أنه قال: لا يصلى على الصبي [الذي لم يبلغ. وحكى القاضي أبو الطيب عن بعض الناس أنه قال: إن كان الصبي] قد صلى، صلِّي عليه بعد موته، وإلا فلا يصلى عليه، واستدل على ذلك بأنه- عليه السلام لم يصل على ولده إبراهيم حين مات، وكان له ثمانية عشر شهراً كما أخرجه أبو داود عن عائشة، وبأن الصلاة لطلب المغفرة، والصغير لا ذنب عليه.

وإذا كان الخلاف فيمن هذا حاله ففيما نحن فيه أولى، وقد أجاب الأصحاب عن الخبر بأن الرواية الصحيحة رواية ابن أبي أوفى أنه- عليه السلام صلى على ابنه إبراهيم، ثم إن صحت الأخرى فطريق الجمع: حمل الأمر على أنه- عليه السلام لم يصلِّ عليه؛ لاشتغاله بصلاة الكسوف، وإنما أمر بالصلاة عليه.

وكونه لا ذنب عليه لا يمنع الصلاة؛ بدليل أن الصحابة صلوا على النبي صلى الله عليه وسلم، وتجب على المجنون وإن كان لا ذنب عليه.

نعم، لو اختلج السقط أو تحرك يسيراً فقد قال الإمام: لا نص فيه.

ولكن من الأصحاب من ألحقه بالمستهلّ، وعلى ذلك جرى المتولي والعراقيون كما حكاه ابن الصباغ، ومنهم من ألحقه بمن نفخ فيه الروح ولم يستهل حتى تجري فيه الأقوال الثلاثة، وقال الفوراني: إنه يغسل قولاً واحداً، وفي الصلاة عليه قولان، والله أعلم، وهذه هي الطريقة التي ذكرها القفال في الكرة الثانية كما قال القاضي الحسين، والله أعلم.

قال: وإن لم ينفخ فيه الروح أي: بأن وضع لأقل من أربعة أشهر، كما صرح به العراقيون والقاضي الحسين- كفن ودفن؛ وفاءً بحرمة الآدمي، وعبارة الشافعي

ص: 115

في كفنه والخرقة التي تواريه: لفافة تكفنه. وما ذكره الشيخ هو الذي أورده القاضي أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ والماوردي، وهو يفهم أمرين:

أحدهما: أنه لا يغسل ولا يصلى عليه، وبه صرح ابن الصباغ وغيره ممن ذكرنا.

وعن "البيان" حكاية قولين في غسله، وهما في "التتمة"؛ لأنه قال: كل سقط قلنا: لا يصلى عليه، ففي غسله قولان، وفي "الرافعي" حكاية الطريقين:

أصحهما: لا؛ كما لا يصلى [عليه] فإن كل واحد منهما حكم من عرض له الموت، وعروض الموت يستدعي سبق الحياة.

والثاني: فيه قولان، والفرق بين الغسل والصلاة قد سبق، وفي "تعليق" القاضي الحسين قبيل كتاب الزكاة طريقة ثالثة: أنه يغسل ولا يصلى عليه قولاً واحداً.

الأمر الثاني: أن التكفين والدفن واجب، وهو ظاهر إذا قلنا بوجوب غسله؛ لأن الغسل دون التكفين والدفن؛ ولهذا وجبا في المسألة قبلها بلا خلاف، وإن اختلف في الغسل والصلاة.

وقضية كلام الإمام: أن التكفين والدفن لا يجب في هذه الحالة وإنما هو مستحب؛ بناء على أن أوائل التخليق أوان نفخ الروح؛ فإنه قال: قد ذكرنا في الكتب أن المرأة إذا ألقت لحم ولد ولم يبد فيه التخطيط فهل يتعلق به أمية الولد [ولزوم الغرة وانقضاء العدة؟ فيه طرق ونصوص: فإن قلنا: يثبت بهذا حكم أمية الولد]، فكيف يكون حكمه فيما نحن فيه؟ فأما صاحب "التقريب" فيقطع بأن هذه الأحكام- أي: وهي الغسل والتكفين والصلاة والدفن؛ إذ لا تتوقع الحياة قطعاً- هي المعتبرة عنده. وأما الشيخ أبو علي فيلزمه أن يخرج ذلك على الطرق في إثبات أحكام الأولاد له. قال: وهذا إلزام، والذي قاله رعاية التخليق كما مضى، فأما من [لا يبدو] فيه التخليق وهو المضغة- كما قال آنفاً- فلا يثبت لها حكم استيلاد ووجوب عدة ولا غسل ولا تكفين ولا صلاة، ولا يجب الدفن، والأولى: أن يوارى.

ص: 116

ثم قال الإمام: ويبعد عندي في كل طريق أن تثبت أمية الولد، ولا يوجب دفنه وكفنه في خرقة.

وبعضهم فرق بين ما نحن فيه وأمية الولد: بأن أمية الولد تثبت بالإحبال، وقد تحقق، وما نحن فيه [أحكام] تابعة للموت ولم تثبت له حياة.

أما إذا كان أوائل التخليق يتخلف عنه نفخ الروح بزمان بعيد- كما يقتضيه ظاهر الخبر لولا السياق- فيحتاج أن نفصل، ونقول: من لم ينفخ فيه الروح إن لم تبد فيه أوائل التخليق فالحكم كما سبق، وإن بدت كان في غسله والصلاة عليه الأقوال الثلاثة التي حكاها الشيخ أبو علي، ويكون التكفين والدفن واجباً قولاً واحداً، فتأمل ذلك، والله أعلم.

قال: وإن اختلط من يلصى عليه بمن لا يصلى عليه، أي: كما إذا اختلط موتى المسلمين غير الشهداء بموتى الكفار [أو بالشهداء] الذين لا يصلى عليهم كما قال البندنيجي- صلى على كل واحد منهم، أي: منفرداً، وينوي أنه الذي يصلى عليه، أي: ينوي أنه يصلي عليه إن كان مسلماً؛ لأن الصلاة على المسلمين واجبة، وعلى الكفار حرام، وتحصيل الواجب يمكن تخصيصه بالنية فتعين، وعبارة الشيخ هي المعزية في "الذخائر" للشيخ أبي حامد، ولم يورد الماوردي غيرها، وبها صدر القاضي الحسين كلامه، وقال: إنه يقول: اللهم اغفر له إن كان مسلماً. ثم قال: وإن صلى عليهم، أي جميعاً، ونوى به المسلمين منهم- جاز؛ لأن النية تميزهم. وهذا الذي قاله أخيراً هو الذي أورده البندنيجي، وابن الصباغ، والشيخ في "المهذب" وغيرهم، وعبارة القاضي أبي الطيب تحتمل الأمرين.

ولا فرق في ذلك بين أن يكون من لا تجوز الصلاة عليه أقل ممن تجوز الصلاة عليه أو أكثر، خلافاً لأبي حنيفة في الأكثر.

وقال الشافعي رداً عليه: إذا جاز أن نستثني واحداً مشركاً من مائة مسلم جاز أن نستثني أكثر المائة؛ لأن المقصود في الحالين الصلاة على المسلم دون المشرك.

ص: 117

وهذا حكم الصلاة، وأما الكفن والغسل فقد قال الإمام: الذي أراه أنه يغسل جميعهم حتى يتأدى الغسل في المسلم منهم، وكذلك يكفنون من عند آخرهم.

فرع: لو وجد ميت أو بعضه، ولم يعلم أنه مسلم أو كافر؛ فالحكم فيه كالحكم في اللقيط: إن وجد في دار الإسلام عومل معاملة المسلمين، وإن وجد في دار الشرك ولا مسلم فيها فكالكفار، وإن كان فيها مسلم فعلى الخلاف في الحكم بالإسلام، والله أعلم.

ص: 118