الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب التعزية والبكاء على الميت
التعزية: مصدر: عزَّى، يعزِّي، تعزية، وهي التصبير على المصيبة بذكر ما وعد الله من الثواب على الصبر فيها، والتحذير من إفراط الجزع المذهب للأجر، والمكسب للوزر، والأمر بالرجوع إلى الله تعالى في الأمر كله.
قال علي بن أبي طالب- كرم الله وجهه-: إذا صبرت جرت عليك المقادير وأنت مأجور، وإذا جزعت جرت عليك المقادير وأنت مأزور.
وعزيته: أمرته بالصبر، والعزاء، بالمد: اسم أقيم مقام "التعزية".
قال الأزهري: وأصلها: التصبير لمن أصيب بمن يعز عليه.
قال القاضي الحسين: و"التأسية" بمعنى "التعزية"، و"التسلية" مثله. وغيره قال: التعزية: التسلية.
قال: وتستحب التعزية، أي: لأقرباء الميت؛ لما روى أبو داود عن أنس- وهو ابن مالك- قال: أتى نبي الله صلى الله عليه وسلم على امرأة تبكي على صبي لها.
فقال لها: "اتقي الله واصبري" فقالت: وما تبالي أنت بمصيبتي؟ فقيل لها: هذا النبي صلى الله عليه وسلم فأتته، فلم تجد على بابه بوابين، فقالت: يا رسول الله، لم أعرفك، فقال:"إنما الصبر عند الصدمة [الأولى] " أو: "عند أوَّل صدمةٍ" وأخرجه البخاري ومسلم، ولفظ البخاري:"إنما الصبر عند الصدمة الأولى".
فقوله- عليه السلام: "اتقي الله واصبري" أراد به ألا تجتمع عليها مصيبتان: مصيبة الهلاك، ومصيبة فقد الأجر الذي يبطله الجزع؛ فأمرها بالصبر الذي لابد للجازع من الرجوع إليه بعد فقد أجره.
وقوله: "إنما الصبر عند الصدمة الأولى" يعني: الصبر الذي يشق ويعظم تحمله ومجاهدة النفس عليه، ويؤجر عليه الأجر الجزيل عند وقوع المصيبة وهجومها، وأما بعد الصدمة الأولى وبرد المصيبة، فكل أحد يصبر حينئذ ويقل جزعه.
وروى البخاري عن أسامة بن زيد قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلت إليه إحدى بناته تدعوه وتخبره أن صبياً لها- أو ابناً لها- في الموت؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ارجع إليها فأخبرها أن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى؛ فلتصبر ولتحتسب"، فعاد الرسول فقال: إنها قد أقسمت لتأتينها، فقام- عليه السلام وقام معه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل، وانطلقت معهم، فرفع إليه الصبي ونفسه تقعقع كأنها [في] شنة؛ ففاضت عيناه، فقال له سعد: ما هذا يا رسول الله؟ قال: "هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء"، والقعقة: ها هنا صوت نفسه وحشرجة صدره، ومنه قعقعة الجلود والسلاح، وهي أصواتها، ألا ترى إلى قوله "كأنها [في] شنة" فشبه صوت نفسه وقلقلة صدره بصوت ما ألقي في القربة اليابسة وحرك فيها، وقيل: معناها: أنه كل ما صار إلى حال لم يلبث أن يصير إلى أخرى تقرب من الموت، ولا يثبت على حال واحدة، يقال: تقعقع الشيء، إذا اضطرب وتحرك.
وقال- عليه السلام: "من عزَّى مصاباً فله مثل أجره".
قال: قبل الدفن؛ لأن ذلك وقت شدة الحزن، وهي الصدمة الأولى التي يحتاج الصبر عندها، وهذا مما لا خلاف فيه.
قال: وبعده [إلى ثلاثة] أيام، أي: من حين الموت كما صرح به الماوردي؛ لأن الحزن يبقى فيها فيحتاج إلى التصبير، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الثلاث نهاية التحزن فقال:"لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً" رواه البخاري.
وأشار القاضي أبو الطيب وابن الصباغ إلى أنها عقيب الدفن أولى من قبله؛ لأنه وقت كثرة الجزع؛ فإنه وقت مفارقة شخصه، والانقلاب عنه، وصرح به
الماوردي: فقال بعد ذكره استحباب التعزية ثلاثة أيام: إن من تبع الجنازة وأراد الانصراف قبل الدفن عزى وانصرف، ومن صبر حتى يدفن عزى بعد الفراغ من دفنه، إلا أن يرى من أهله جزعاً شديداً وقلة صبر؛ فيقدم تعزيتهم ليثبتوا، وما ذكره- غير الاستثناء- هو المنصوص؛ فإن الإمام قال: إن الشافعي ذكر أن من شهد الجنازة ينبغي أن يؤخر التعزية إلى ما بعد الدفن؛ لأنهم لا يتفرغون إلى الإصغاء إليها وهم مدفوعون إلى تجهيز الميت.
وقد صرح الشيخ بانتهاء الاستحباب بانتهاء الثلاث؛ لأن الجزع يقل بعدها، وفي التعزية تذكار به، ولكن هل فعلها وتركها سيان، أو الترك أولى؟ لم يتعرض له الشيخ، وفيه وجهان:
أحدهما- قاله صاحب "التلخيص" وبعض الأصحاب، كما قال الإمام-: أنه لا بأس بها وإن طال الزمان؛ إذ لم يثبت فيها توقيف، وهذا ما اختاره في "المرشد" حيث قال: لو عزَّى بعد الثلاث جاز.
وأظهرهما- وهو الذي أورده في "الوسيط"-: أنها غير مأثورة؛ لما ذكرناه، وهو ما ذكره القاضي الحسين وقال: إنه قيل: التعزية بعد الثلاث عادة النوكى.
يعني الحمقى.
ووراء ما ذكرناه أمران:
أحدهما: أن ابن الصباغ والقاضي أبا الطيب قالا: وقت التعزية من حين يموت إلى أن يدفن، وعقيب الدفن. وهذا يقتضي أنها لا تمتد إلى الثلاث.
والثاني- قاله البندنيجي-: أن وقتها من حين الموت إلى بعد الدفن، فإن دفن وقعت التعزية ثم انقطعت؛ فتكره التعزية بعد هذا.
ويستحب تعميم الأقارب بالتعزية: الصغير منهم والكبير، والذكر والأنثى، إلا أن تكون شابة فلا، إلا أن يكون المعزي ذا رحم محرم لها، نص عليه، ويتأكد في حق الأكبر منهم فضلاً وديناً، وأقلهم صبراً، أما الكبير الفضل فلما يرجى من إجابة رده ودعائه، وأما القليل الصبر فليسلو فيكثر ثوابه.
ويستحب للمعزى أن يصبر ولا يجزع، قال- عليه السلام:"من جلَّت مصيبته- وفي رواية: من عظمت مصيبته- فليذكر مصابه بي؛ فإنها أعظم المصائب".
قال القاضي الحسين: والواجب على المؤمن أن يكون جزعه وقلقه وحزنه على فراق النبي صلى الله عليه وسلم من الدنيا أكثر من وفاة أبويه، كما يجب عليه أن يكون عنده أحب من نفسه وأهله وماله.
قال: ويكره الجلوس لها، أي: للتعزية؛ لأن ذلك محدث، والمحدث بدعة؛ فكره، والإعانة عليه بالحضور مكروه أيضاً، بل ينبعث كل واحد منهم في شغله، فيعزى في طريقه، وفي سوقه، وفي مصلَاّه.
قال القاضي الحسين: وقد قيل: أول من جلس للتعزية بمرو عبد الله بن المبارك لما ماتت أخته كيكونة، فدخل عليه مجوسي من جيرانه وقال: حق على العاقل أن يفعل في أول يومه ما يفعل الجاهل بعد الثلاث؛ فأمر عبد الله بن المبارك أن يطوى الفراش، وترك التعزية.
قال: ويقول في تعزية المسلم بالمسلم- أي بالميت المسلم-: أعظم الله
أجرك، وأحسن عزاءك، وغفر لميتك؛ لأن ذلك لائق بالحال، وهذا ما ذكره البندنيجي والماوردي، وابن الصباغ حكاه عن بعض الأصحاب، وكذا القاضي أبو الطيب وقالا: إن الشافعي قال: وأحب أن يقول مثل ما عزي به أهل بيته صلى الله عليه وسلم. ثم يترحم على الميت ويدعو له ولمن خلف، والذي عزِّي به أهل بيته- عليه السلام هو ما روي عن عائشة أنها قالت: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعنا هاتفاً في البيت، نسمع صوته ولا نرى شخصه، يقول: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته، إن في الله عزاءً من كل مصيبة، وخلفاً من كل هالك، ودركاً من كل فائت، فبالله فثقوا، وإياه فارجوا؛ فإن المصاب من حرم الثواب.
قال ابن الصباغ وأبو الطيب: ويقال: إن قائله الخضر، عليه السلام.
وعبارة ابن يونس مصرحة بأن قائل ذلك الشافعي، وأنه يستحب أن يقول بعد ذلك ما ذكره الشيخ، وهو قضية كلامه في "المهذب" وغيره.
قال: إن ما ذكره الشيخ يشمل هذا وما أضافه الشافعي إليه من حيث المعنى، مع الإيجاز في اللفظ؛ فكان أولى.
قال ابن يونس ومن تبعه: وقد زاد بعضهم: وخلفه عليك، أي: كان الله خليفة عليك. ولم أره في تعزية المسلم بالمسلم، بل في غيره كما سنذكره.
وقد حكى القاضي الحسين تعزية أهل البيت على نسقٍ آخر فقال: لما توفِّي
رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس أصحابه في المسجد للتعزية، فدخل عليهم شيخ وقال: سلام عليكم يا أهل البيت [ورحمة الله]، فردوا عليه السلام، فتلا قوله تعالى:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} الآية [آل عمران: 185] ثم قال: إن في الله عزاء من كل مصيبة .. وذكر ما تقدم إلى أن قال: فبالله فثقوا، وإياه فارجوا، وعليه فتوكلوا؛ فإن المصاب من حرم الثواب. وخرج، فقال عليُّ- كرم الله وجهه-: اطلبوه، فطلبوه فلم يجدوه، فقال علي: جاءكم أخوكم الخضر يعزيكم بنبيكم، صلى الله عليه وسلم.
قال: وفي تعزية المسلم بالكافر: أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك؛ لما تقدم. زاد الماوردي: وأخلف عليك. ولا يقول: وغفر لميتك؛ لأن الاستغفار للكافر حرام. ولفظ الشافعي في هذا في "الجامع الكبير": ولا بأس أن يعزي المسلم إذا مات أبوه النصراني فيقول: أعظم الله أجرك، وأخلف عليك، أي: كان الله خليفة عليك؛ لأن الأب لا يخلف بدله. وجمع الماوردي والبندنيجي بين اللفظين فقالا: يقول له: أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك، وأخلف عليك. وفي إثبات اللفظ في قول الشافعي: أخلف عليك نظر؛ فإن النووي قال: قال أهل اللغة: يقال لمن ذهب له مال أو ولد أو قريب أو شيء يتوقع حصول مثله: أخلف الله عليك، أي: رد عليك مثله، فإن ذهب ما لا يتوقع مثله: بأن ذهب والد أو عم أو خال أو أخ لمن لا جد له ولا والد- قيل: خلف الله عليك- بغير ألف- أي: كان الله خليفة عنه عليك.
وقال الغزالي: يقول له: جبر الله مصيبتك، وألهمك الصبر.
والكل جائز؛ إذ لا توقيف.
قال: وفي تعزية الكافر بالمسلم: أحسن الله عزاءك، وغفر لميتك؛ لما تقدم. ولا يقول: أعظم الله أجرك؛ إذ لا أجر له، وفي "الحاوي" يقول له: أخلف الله عليك، ولا نقص عددك، وغفر لميتك.
قال: وفي تعزية الكافر- أي: الذمي أو المعاهد دون الحربي كما قال في الجيلي- بالكافر: أخلف الله عليك، ولا نقص عددك؛ لأن ذلك ينفع المسلمين في الدارين: أما في الدنيا فبتكثير الجزية، وأما في الآخرة فبالفداء من النار، وقد قال البندنيجي وغيره: إنه ينوي بقوله: "ولا نقص عددك": تكثير
الجزية، ولا يذكر الميت بخير؛ لأنه ليس من أهله، ولا بشر؛ لأنه يؤذي الحي.
وقوله: "ولا نقص عددك" هو بفتح الدال وضمها، والله أعلم.
قال: ويجوز البكاء على الميت؛ لأنه- عليه السلام زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، كما تقدم في رواية مسلم وغيره. وروى النسائي عن أبي هريرة قال: مات ميت من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتمع النساء يبكين عليه؛ فقام عمر ينهاهن ويطردهن؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعهنَّ يا عمر؛ فإن العين دامعة، والفؤاد مصاب، والعهد قريبُ".
والبكاء: يمدُّ ويقصر، ويقال: بكيت الرجل، وبكَّيته، وبكيت عليه.
قال: من غير ندب، أي: وهو أن تعد شمائل الميت وأياديه، تقول: واكريماه، واشجاعاه، واكهفاه، واجبلاه، واسيداه؛ لأن ذلك محرم.
ولا نياحة، أي: وهي رفع الصوت بذلك عليه؛ لأن ذلك محرم، قالت أم عطية:"إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا عن النياحة". أخرجه البخاري ومسلم. وأخرج مسلم في حديث أبي مالك الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم: "النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربالُ من قطرانٍ ودرعُ من جربٍ".
وروى أبو داود عن امرأة أبي موسى- وهي أم عبد الله- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس منَّا من سلق، ومن حلق، ومن خرق" وأخرجه النسائي، وروي هذا الحديث عنها عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرجه النسائي أيضاً.
وسلق- بفتح السين المهملة، وبعدها لام مفتوحة وقاف-: رفع الصوت. وقال ابن جريج: هو أن تخرش المرأة وجهها، وعن ابن المبارك نحوه.
وحلق: هو حلق الشعر، وخرق: هو تخريق الثياب وشقها عند المصيبة.
والأحاديث الواردة في ذلك كثيرة، ولأن ذلك يشبه التظلم من الظالم والاستغاثة منه، وهو عدل من الله وحق؛ فلذلك حرم. وقد أطلق القاضي أبو الطيب القول بأن ذلك مكروه، وتبعه ابن الصباغ، وقال البندنيجي بعد ذكره الكراهة: إن الكراهة كراهة تحريم، وكذلك جزم الماوردي والقاضي الحسين والإمام بالتحريم، وألحق به تخميش الوجه: وهو أخذ لحمه بالأظفار، ومنه قيل نهشته الكلاب.
فإن قيل: الشيخ جزم بجواز البكاء بعد الموت، وقد ورد النهي عنه، وهو ما روي: أنه- عليه السلام زار عبد الله بن ثابت الأنصاري وكان يغشى عليه، فبكى أهله؛ فقام جابر بن عتيك ليسكتهم، فقال- عليه السلام: "دعهنَّ يبكين،
فإذا وجب فلا تكبينَّ باكيةُ"، وأراد بالوجوب: الموت، وأقل درجات النهي: أن يحمل على الكراهة.
قلنا: لأجل ذلك قال ابن الصباغ: إنه يكره.
والجائز من غير كراهة: البكاء عليه قبل الموت، ويشهد له حديث أسامة بن زيد المتقدم، وحديث عبد الله بن عمر الذي أخرجه مسلم قال: اشتكى سعد بن عبادة شكوى له، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده مع عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود، فلما دخل عليه وجده في غشية، فقال:"أقد قضى؟ "، قالوا: لا، يا رسول الله؛ فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى القوم بكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، بكوا، فقال: "ألا تسمعونَّ، إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا- وأشار إلى لسانه- أو يرحم.
وعبارة البندنيجي تقرب من ذلك؛ فإنه قال: إذا ثبت أن البكاء مباح بلا ندب، فوقته ما لم يمت الميت، فإذا مات انقطع البكاء فلا يبكي عليه أحد.
وعن الشيخ أبي حامد أن المستحب ألا يبكي أحد بعد الموت، وعبارة الإمام: الأولى عدمه، فإن غلب فلا كراهة. وأخذ القاضي الحسين من الخبر المذكور- مع ما ذكرناه أولاً- أن البكاء جائز قبل الموت وبعده، لكنه قبل الموت مستحب. أراه للقلق على فراقه، وأنا لا نسر بأموالك وميراثك؛ ليطيب قلبه بذلك.
وعلى كل حال، فلا يعذب الميت ببكاء من بكى عليه؛ لقوله تعالى:{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]، ولقوله:{لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} [طه: 15]،
وقوله- عليه السلام لرجل في ابنه: إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه"، قال ذلك في "المختصر" عن الشافعي.
وما رواه مسلم عن عمر بن الخطاب أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الميت ليعذب ببكاء الحي"، وعن ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه- فقد قيل: إنه محمول على من أوصى بالبكاء عليه والندب والنياحة كما كانت الجاهلية تفعله، وإليه ذهب البخاري.
قال الرافعي: ولك أن تقول: ذنب الميت الحمل على الحرام والأمر به؛ فوجب ألا يختلف عذابه بالامتثال أو بعدمه، فإن كان لامتثالهم فالإشكال بحاله.
قلت: وقد يجاب بأن الذنب على السبب يعظم عند وجود المسبب، ولا كذلك إذا لم يوجد، وشاهده قوله- عليه السلام "من استنَّ سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة".
وقيل: إنه محمول على من يبكي عليه ويعدد أفعاله التي يستوجب العذاب بها، مثل: نهب الأموال، وقتل النفوس، وقطع الطريق، ونحو ذلك، ويدل عليه رواية مسلم عن المغيرة بن شعبة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من نيح عليه فإنه يعذب بما نيح عليه [به] يوم القيامة"، وقد جاء في لفظ من حديث عمر السابق:"إنَّ الميِّت ليعذَّب ببعض بكاء أهله عليه" أخرجه مسلم،
وفيه دليل على أن كل بكاء لا يعذب به.
وقيل: معنى العذاب: أنه يوبخ إذا ندبوه بذكر الخصال الجميلة والأفعال الحميدة، فيقال له: أكنت كما يقال؟ وهو ضرب من التعذيب، ويؤيده رواية البخاري عن النعمان بن بشير قال: "أغمي على عبد الله بن رواحة، فجعلت أخته عمرة تبكي، [وتقول]: واجبلاه، وكذا، وكذا، تعدِّد عليه، فقال حين أفاق: ما قلت شيئاً إلا قيل لي: أنت كذلك؟
وقيل: إنه يحتمل أن يكون المراد: أنه يعذب حين البكاء عليه؛ لأنهم يبكون بعد الدفن، وهو يعذب في القبر بجرمه وذنبه إذ ذاك، وحروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض.
وقيل: يحتمل أن الله قضى وقدر أن يخفف عنه العذاب لو لم يبك أهله عليه، ويزيده عذاباً بذنبه أن لو بكى أهله عليه. وهذا والذي قبله حكاهما القاضي الحسين عن ابن سريج، وأيدا الثاني بأن مثل ذلك جائز؛ فإنه روى:"أنه- عليه السلام أسر واحداً من عقيل، فحبسه مدة، ثم أمر بإطلاقه، فقيل له: أسرت ثقيف واحداً من المسلمين؛ فأمر- عليه السلام باستدامة الحبس على العقيلي، فقال: بم أخذت؟ فقال- عليه السلام: بحلفائك من ثقيف" يعني: استدامة الحبس عليك بجرمك وذنبك؛ لما فعل حلفاؤك من ثقيف، يعني: من أسر
المسلم. كذلك فيما نحن فيه.
وقيل: إن العذاب المشار إليه حزنه بسماع بكائهم عليه؛ فإنه يرقُّ عليهم، ويسوءه إتيانهم بما يكره ربُّه، وقد روي أن ابن عباس وابن عمر اجتمعا على باب حجرة مات فيها بعض آل عمر، والنساء يبكين، فقال ابن عباس لابن عمر: هلا نهيتهن عن ذلك وقد سمعت أباك عمر يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الميِّت ليعذَّب ببكاء أهله عليه"؟ فقالت عائشة: يرحم الله عمر! ولكن قال: "إن الله يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه"، ثم قالت: حسبكم القرآن: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] فقال ابن عباس تصديقاً لها: "الله أضحك وأبكى"، يعني: لا ذنب للميت في أن يبكي عليه أهله.
قال القاضي الحسين وغيره: ومعلوم أن في هذه الرواية ما في رواية عمر؛ لأنه كما لا يعذب المؤمن ببكاء غيره فلا يزاد في عذاب الكافر بذنب غيره؛ فلابد من تأويل، ويعود ما ذكرناه من قبل، والذي أشار إليه الشافعي: الأول؛ لأنه قال: وما زيد من عذاب الكافر فبسيئاته، لا بذنب غيره.
وقال الإمام وغيره: إن الرواية الصحيحة عن عائشة أنها قالت: رحم الله عمر! ما كذب، ولكن أخطأ ونسي؛ إنما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على يهودية ماتت ابنتها وهي تبكي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنهم يبكون، وإنَّها تعذَّب"، وهذه الرواية لا تحوج إلى تأويل أصلاً؛ إذ ليس فيها إبداء تعذيب بسبب بكائهم، وقد نسب في "الوسيط" ما ذكرناه عن عائشة أولاً إلى قول ابن عمر، وإليها ما ذكرناه ثانياً.
والمشهور نسبة القولين إليها، والله أعلم.
قال: ويستحب لأقرباء الميت، [أي: الأبعدين]، وجيرانه أن يصنعوا طعاماً لأهل الميت- أي: الأقربين- لما روى أبو داود عن عبد الله بن جعفر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اصنعوا لأهل جعفر طعاماً؛ [فقد جاءهم] ما يشغلهم"، وأخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. وكان هذا القول منه حين جاءه نعيُّ جعفر ابن أبي طالب، ولأن ذلك من البر والمعروف.
قال الشافعي: وأحب أن يكون ذلك يشبعهم يومهم وليلتهم، ويستحب أن يلحَّ عليهم حتى يأكلوا. قاله الرافعي.
وفي "الروضة": أنه لو كان الميت في بلدٍ وأهله في غيره، استحب لجيران
أهله اتخاذ الطعام لهم.
فلو قيل: يستحب لجيران أهل الميت، لكان أحسن؛ لتدخل فيه هذه الصورة. ولو اجتمع نسوة ينحن لم يجز أن يتخذ لهن طعامُ؛ فإنه إعانة على المعصية، وإصلاح أهل [البيت الطعام] وجمع الناس لم ينقل فيه شيء، وهو بدعة غير مستحب. قاله ابن الصباغ، والله أعلم.