الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الزكاة
أصل "الزكاة" في اللغة: النمو والبركة والمدح، يقال: زكا الزرع يزكو زكاءً بالمد إذا نمى [وكثر ريعه]، وزكت النفقة: إذا بورك فيها، وفلان زاك: إذا كان كثير الخير والمعروف، قال الله تعالى:{أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} [الكهف: 74]، أي: نامية كثيرة الخير.
وقيل: إن أصلها مع ذلك الطهارة، وإن كل ذلك قد استعمل في الكتاب الكريم والسنة النبوية.
وقد أنكر داود بن علي أن لها موضوعاً في اللغة، وقال: ما عرف اسمها إلا بالشرع.
وهي في الشرع: عبارة عن قدر من المال يخرجه المسلم في وقت مخصوص لأهل السهمان، مع النية، والصدقة تشرك الزكاة في هذا المعنى، وهما يقعان على زكاة الأموال، وزكاة الأبدان وهي صدقة الفطر، والكتاب يشملهما.
وقد قيل: إنما سمي ذلك زكاة؛ لأن المال ينمو ببركة إخراجه ودعاء المصروف إليه؛ قال الله تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 39]، وقيل: لأن مؤديها يتزكى إلى الله تعالى، أي: يتقرب إليه بصالح العمل.
وقيل: لأنها تزكي صاحبها، أي: تشهد بصحة إيمانه، وتطهره.
والأصل في وجوبها على الجملة قبل استقرار الإجماع عليها في زمن أبي بكر- رضي الله عنه من الكتاب قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} [البينة: 5] وقوله: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} إلى قوله: {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 180] وقوله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] قال الشافعي رحمه الله: الكنز المراد في الآية: هو المال الذي لا تؤدى زكاته سواء كان مدفوناً أو ظاهراً، وسمي الظاهر:
كنزا؛ لأنه منع من إخراج الزكاة، كما منع دفنه من التلف والنقصان، وقد جاء ما يعضد ذلك؛ روى أبو داود عن أم سلمة قالت: قلت: يا رسول الله، إني ألبس أوضاحا من ذهب، أفكنز هي؟ قال: ما بلغ أن تؤدى زكاته فزكي فليس بكنز". وروى الشافعي بسنده عن ابن عمر أنه [كان] يقول: ما أدي زكاته، فليس بكنز، ولو كان تحت سبع أرضين.
وقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البينة: 5]، واختلف [أصحابنا] في أنها مجملة أو عامة، على وجهين:
أحدهما: أنها عامة، كقوله تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] فتكون حجة في كل مختلف فيه، إلا ما أخرجه الدليل.
والثاني- وهو قول أبي إسحاق، كما قال ابن الصباغ، وطائفة كما قال الماوردي، وادعى البندنيجي والروياني في "البحر" أنه المذهب-: أنها مجملة كقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]؛ لأنه يفتقر إلى قرينة تعين المراد به، بخلاف آية السرقة، فعلى هذا تدل على وجوب الصلاة والزكاة في الجملة، وهو المقصود هنا.
ومن السنة قوله عليه السلام: "بني الإسلام على خمس .. " الحديث، وغيره مما سنذكره إن شاء الله تعالى.
قال: لا تجب الزكاة أي في المال، إلا على حر مسلم تام الملك على ما
يجب فيه الزكاة:
أما وجوبها على الحر المتصف بما ذكره إذا كان بالغاً عاقلاً؛ فلما ذكرناه من الأدلة، وهو إجماع.
وأما إذا كان صبياً؛ فلرواية الشافعي بسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ابتغوا في مال اليتامى لا تأكلها الزكاة"، وروى الدارقطني بسنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من ولي يتيما له مال، فليتجر فيه، ولا يتركه [حتى] تأكله الصدقة"، وأراد صدقة الفطر والمال.
وأما إذا كان مجنونا فبالقياس على الصبي، وأيضاً فعموم قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ:"أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم" يشملها، ولأن الزكاة حق مالي يجب بغير عقد على سبيل الطهرة يستوي فيه الرجال والنساء؛ فوجب أن يستوي فيه المكلف وغير المكلف: كزكاة المعشرات وزكاة الفطر، وقد وافقنا أبو حنيفة- وهو الخصم- على وجوب ذلك عليهما.
واحترزنا بقولنا: "بغير عقد" عن البيع، وبقولنا:"يستوي فيه الرجال والنساء" عن تحمل العقل.
وقد امتنع بعض أصحابنا كما قال المتولي وغيره من إطلاق القول بوجوب الزكاة عليهما، وقال: إنها تجب في مالهما، والولي مخاطب بالإخراج، وبعضهم لم يمتنع من ذلك، بل قال: إنها تجب عليهما [في مالهما] والولي مخاطب بأدائه، كنفقة الأقارب، وأروش الجنايات، وهذا هو الذي صححه القاضي الحسين.
فإن قيل: لا نسلم أن ملك الصبي والمجنون تام؛ لأنهما غير قادرين على التصرف فيه، وذلك موهن للملك، كما سيأتي.
قيل: تمام الملك عبارة عن تهيئة المال لكمال التصرف، ومالهما مهيأ له، ووليهما نائب عنهما فيه فيما يقبل النيابة. نعم ملك الجنين المال الموصى به
وغيره غير تام؛ لأن القضاة لا ينصبون القوام كي يتصرفوا في مال الأجنة، بل هو موقوف على ما يتبين من بعد، ولهذا جزم القاضي الحسين بعدم الوجوب، وهو الذي حكاه الإمام عن الأئمة موجهاً له بأن حياة الحمل غير موثوق بها، وكذلك وجوده بعد أن حكى تردداً عن شيخه في وجوب الزكاة [فيه][وقيده] في باب من تلزمه زكاة الفطر، بما إذا خرج حياً، والماوردي حكى الوجهين فيما ملكه بالوصية قبل باب ما يسقط الزكاة عن الماشية، و [قال]: يشبه أن يكونا مخرجين من اختلاف قوليه في الوصية، هل تملك بموت الموصي أو بالموت والقبول؟ وهذا منه يدل على اعتقاده أنه لو ملك ذلك بالإرث، وجبت لا محالة.
قلت: والذي يقتضيه كلام الشيخ أنه لا زكاة عليه؛ لأنه نفى أن يكون له ملك أصلا؛ حيث قال في باب الوقف: وإن وقف على من لا يملك الغلة كالعبد والحمل، والله أعلم.
وأما انتفاء الوجوب عمن عدا ذلك فسنذكر دليله إن شاء الله تعالى.
قال: فأما المكاتب، فلا زكاة عليه؛ لما روى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ليس في مال المكاتب زكاة حتى يعتق" أخرجه الدارقطني، إلا أن إسناده ضعيف كما قاله عبد الحق، وقد روي مثله عن عمر موقوفاً، ولا مخالف له، ولأن
الزكاة تجب على سبيل المواساة، وماله غير صالح لها.
ودليله: أنه لا يجب عليه بسببه نفقة قريبه، ولا يعتق عليه إذا ملكه، وكما لا يجب عليه الزكاة في الحال لا تجب عليه بعد العتق، إلا أن يمضي عليه حول من حين العتق، والحالة الأولى هي التي احترز الشيخ عنها بقوله: حر، ويجوز أن يكون قد احترز به أيضاً عن العبد القن، إذا ملكه سيده مالا، وقلنا بملكه؛ فإنه لا يجب عليه زكاته كما قال في باب العبد المأذون له لقدرة السيد على انتزاعه منه؛ فإن ذلك يدل على ضعف ملكه، ولأجل هذه القدرة قال بعض الأصحاب- كما حكاه الماوردي-: إن زكاته تجب على السيد على هذا القول أيضاً. ونسبه الإمام إلى "شرح التلخيص"، وهو غلط؛ لأن القدرة على اختلاب الملك ليست بملك بل هي موهنة لملك المالك ومضعفة له؛ ولهذا لم توجب الزكاة على الأب فيما وهبه لولده وإن كان قادراً على انتزاع الملك.
فإن قيل: لم جعلتم قدرة السيد على الانتزاع علة في عدم وجوب الزكاة على العبد، ولم تجعلوا قدرة الأب على انتزاع ملك الولد علة في عدم الوجوب الزكاة عليه؟
قيل: لأن قدرة السيد أقوى من قدرة الأب؛ فإن السيد يملك انتزاع ما ملكه لعبده وبذله وما ملكه له غيره كما سيأتي، ولا كذلك الأب؛ فإنه إنما يثبت [له] الرجوع في عين الموهوب في حال مخصوص.
وقد اقتضى كلام الشيخ أن من نصفه حر إذا ملك به نصابا لا زكاة عليه؛ لأنه ليس بحر، وهو الظاهر من المذهب في "البحر" ولم يورد المتولي وابن الصباغ غيره، وقال الإمام: إن به قطع العراقيون؛ لنقصان المالك في نفسه، فيجوز أن
يكون الشيخ قد احترز عنه أيضاً.
وفي "المهذب" وغيره حكاية وجه آخر جزم به في "الوجيز" والشيخ أبو علي فيما حكاه القاضي الحسين في كتاب السرقة: أنها تجب عليه؛ لأنه يملك بنصفه الحر ملكا تاما فوجبت عليه الزكاة كالحر، قال الروياني: وهو اختيار والدي والصحيح عندي الآن؛ لأن الشافعي نص على أنه تلزمه زكاة الفطر في نصفه الحر؛ ولأجل ذلك صححه الرافعي- أيضاً- واختاره في "المرشد"، وفرق ابن الصباغ بين زكاة الفطر والمال بأن زكاة الفطر تتبعض؛ فلذلك وجب عليه نصف صاع، ونصفه على السيد، بخلاف زكاة المال؛ فإنها لا تتبعض ولا تجب إلا على تام الملك.
قال: وأما الكافر فإن كان أصلياً فلا زكاة عليه لقول أبي بكر في كتاب الصدقة الذي سنذكره: "هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين"؛ فإن مفهومه أنها غير واجبة على الكفار، ولأنه لا يطالب بها في حال كفره، ولا بعد إسلامه؛ فأشبهت الصلاة في حق الحائض.
قال في "المهذب": ولأنه حق لم يلتزمه [فلم يلزمه] كغرامات المتلفات وهذه العلة تقتضي قصر الحكم على الحربي، إذ هو الذي لا يلزمه غرامات المتلفات بخلاف الذمي مع أن الحكم في المسألة شامل لهما.
ثم كلام الشيخ غني عن التأويل على قولنا: إن الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة، كما هو قول أبي حامد أما إذا قلنا: إنهم مخاطبون بها كما هو مذهب الشافعي والجمهور فنقول: مراده أنها لا تجب عليه كما تجب على المسلم حتى تؤخذ من ماله قهراً إذا امتنع من أدائها، وإن كان أثر الوجوب يظهر في تضعيف العقاب في الدار الآخرة، وقد أشار إلى ذلك القاضي الحسين- رحمه الله وهذا ما احترز عنه الشيخ خاصة بقوله: مسلم؛ فإن المرتد سنذكر الخلاف فيه.
قال: وإن كان مرتدا ففيه ثلاثة أقوال هذه المسألة مصورة بما إذا حال الحول عليه بعد ملك النصاب وهو مرتد ففيه الأقوال.
قال: أحدها: تجب، والثاني: لا تجب، والثالث: إن رجع إلى الإسلام وجبت وإن لم يرجع لم تجب.
اعلم أن الشيخ في "المهذب" بنى هذه الأقوال على أن ملكه هل يزول بالردة أم لا؟ فإن قلنا: إن ملكه باق وجبت، وإن قلنا: زال ملكه، لم تجب، وهو ما اختاره في"المرشد" وإن قلنا: إنه موقوف، فكذلك الزكاة، وهو في ذلك متبع لأبي إسحاق المروزي، وقد تبعه بعض الشارحين لهذا الكتاب [في ذلك] فقال: إن الأقوال في الزكاة مبنية على الأقوال في الملك: وعندي في ذلك نظر؛ لأن الذي اقتضاه إيراد الشيخ في باب الردة ترجيح أن ملك المرتد ليس فيه إلا قولان كما صار إليه ابن سريج، وطائفة: البقاء، وهو الذي نص عليه في زكاة المواشي، والأصح في "الحاوي" وغيره [ثم: الوقف، وهو ما نص عليه في باب الردة، وصححه في "التهذيب" وغيره] ثم، وقضية البناء على ذلك: أن يكون في الزكاة قولان لا غير: الوجوب والوقف، صرح به الماوردي [وابن الصباغ وغيرهما، وأن الصحيح منهما عند الماوردي] الوجوب، وفي "التهذيب": الوقف، وهو الذي صرح به في "المختصر"، وقد جزم الشيخ بإجراء الأقوال في الزكاة، وهو يقتضي منع البناء إن أجري كلامه في باب الردة على ظاهره، وأن الصحيح إجراء الأقوال في الملك كما هي طريقة أبي إسحاق، ولم يورد في "المهذب" غيرها، وحينئذ يلزمه المخالفة لما ذكره هنا وثم، وطريق الجواب لمن التزم تصحيح كلام الشيخ أن يقول: القول بعدم الوجوب هنا ليس مبنياً على زوال الملك، بل وجهه أن ملكه في هذه الحالة متعرض للزوال فلم تجب فيه الزكاة، كمال المكاتب بل أولى؛ لأن المكاتب يملك التصرف في ماله، وهذا لا يملكه؛ لأن من قال: ليس في زوال ملكه إلا قولان، وافق على أن في تصرفه ثلاثة أقوال:
فإن قيل: عدم نفوذ تصرفه عند من رآه، كان لكونه محجورا عليه بنفس الردة حجر سفه، أو فلس أو مرض على اختلاف فيه، ولا يمكن من علل عدم الوجوب بكونه غير قادر على التصرف أن يلحقه بالمريض ولا بالسفيه؛ لأن الزكاة تجب عليهما وكذا لا يمكنه أن يلحقه بالمفلس المحجور عليه لأن الصحيح وجوب الزكاة عليه كما ستعرفه، فبطلت هذه العلة.
قلت: هذا لازم لو كان المنع مبنياً على منع التصرف، وليس كذلك، بل منع التصرف جاء مرجحا لما نحن فيه على الأصل المقيس عليه عدم الوجوب، وقد حكى القاضي أبو الطيب في باب الردة طريقة قاطعة ببقاء الملك ورد الخلاف إلى التصرف؛ عملا بنص الشافعي؛ فإنه قال هاهنا: إن الشافعي لم ينص على ملكه، وإنما نص على حكم تصرفه، وقضية بناء الزكاة على الملك: القطع بوجوبها على طريقة إن لم يلاحظ منع التصرف كما تقدم، وقد حكي عن الحناطي أنه قال: يحكي عن ابن سريج أنه تجب الزكاة على الأقاويل كلها كالنفقات والغرامات، والله أعلم.
فإن قيل: قد جزمتم القول بأنا إذا قلنا: إن ملكه موقوف كان أمر الزكاة موقوفاً: فإن عاد إلى الإسلام وجبت، وإلا فلا، وأي فرق بينه وبين الموصى له بنصاب زكاتي إذا حال عليه بعد موت الموصي، وقبل القبول حول ثم قبل، وقلنا: إن ملكه موقوف؛ فإنه لا تجب عليه الزكاة كما قاله القاضي الحسين والمتولي وهو أصح الوجهين في "التهذيب" وإن كنا نقول: لو تم الحول قبل القبول والرد، وقلنا: إنه ملك بالموت بالوجوب عليه وإن كان الملك يرتد برده.
قيل: الفرق أن في مسألة الوصية أصل الملك كان للميت، فلما لم يتحقق ثبوت الملك لم نوجب الزكاة قبله، [وهنا] أصل الملك ثابت فبقينا الحكم عند زوال العارض على ما كان، كذا قاله المتولي ويعكر [عليه] اتفاق الجمهور على أن المبيع في زمن الخيار إذا تم عليه الحول أو زهت الثمرة فيه، وقلنا بقول الوقف، وأجيز العقد أن الزكاة تجب على المشتري كما سنذكره إن
شاء الله تعالى.
التفريع: إن قلنا بالوجوب فلو أخرجها في حال ردته قال في "التهذيب": جاز؛ كما لو أطعم عن الكفارة، بخلاف الصوم؛ فإنه لا يصح منه؛ لأنه عمل البدن فلا يصح إلا ممن يتدين به، وفي "النهاية" عن صاحب "التقريب": أنه لا يبعد أن يقال: لا يخرجها ما دام مرتدا، وكذلك الزكاة الواجبة قبل الردة؛ [لأن الزكاة قربة مفتقرة إلى النية، فعلى هذا إن عاد إلى الإسلام أخرج الزكاة الواجبة قبل الردة] وبعدها، وإن هلك على الردة حصل اليأس عن الأداء، وبقيت العقوبة في الآخرة.
قال الإمام: وهذا خلاف ما قطع به الأصحاب، لكن يحتمل أن يقال: إذا أخرج في الردة، ثم أسلم: هل يعيد الزكاة؟ فيه وجهان كالوجهين في الممتنع إذا ظفر الإمام بماله وأخذ الزكاة منه هل يجزئه أم لا؟ وإن قلنا بعدم الوجوب فإذا عاد للإسلام استأنف الحول، وقيل: إن قلنا: إن الوارث يبني على حول الموروث [بنى هو] أيضاً.
أما إذا وجبت الزكاة على الشخص ثم ارتد قبل أدائها فتؤخذ من ماله على المشهور، عاد إلى الإسلام أو قتل، لكن قد حكي عن الإصطخري أنه قال: إذا قتل لا تقضى الديون الماضية من ماله إن قلنا بزوال ملكه، وهذا الوجه يظهر [أن يجري] هاهنا إن لم يكن للزكاة تعلق بعين ما له الموجود، ووجه صاحب "التقريب" الماضي جار كما تقدم.
قال: وما لم يتم ملكه عليه كالدين الذي على المكاتب، أي: من نجوم الكتابة أو غيرها للسيد إذا قلنا: إنه يسقط بعجزه، على أحد الوجهين.
قال: لا تجب فيه الزكاة؛ لأن مال المكاتب لا تجب فيه الزكاة مع قدرته على التصرف فيه، فلألا تجب فيما عليه للسيد مع عدم قدرته على التصرف فيه من طريق الأولى.
ثم اعلم أن ما مثل به الشيخ ما لم يتم ملكه عليه، وهو الدين الذي على المكاتب بالتفسير الذي قررناه، قد اشتمل على ثلاثة أمور: كونه دينا، وقدرة الغير
على إسقاط الملك فيه قهرا من غير سبب، وعدم قدرة المالك على التصرف التام فيه بسبب ذلك. ولا شك في عدم تمام الملك عند اجتماع الأمور، وعدم الزكاة لكن هل الاجتماع [هو المؤثر حتى لو فقد لفقدان البعض وجد تمام الملك أو لا، وعلى الثاني ما هو المؤثر] من ذلك: هل الدينية أو قدرة الغير على الإسقاط، أو منع التصرف؟ هذا ما ظهر فيه اختلاف الأصحاب؛ لاختلافهم في وجوب الزكاة عند فقد الاجتماع ووجود بعض الأمور الثلاثة دون بعض، وذلك يظهر لك بسرد ما اتفق عليه الأصحاب، وما اقتضى كلامهم الاتفاق عليه، وما اختلفوا فيه واقتضى كلامهم الاختلاف فيه، مما ذكره الشيخ كما ننبه عليه في موضعه مع ما يتعلق به من اختلاف الأحوال والفروع، وما لم يذكره؛ استغناء بالتنبيه عليه، فأقول- وإن طال الكلام لغرض بيان أصول الأحكام في معرض التقرير وإزالة الإبهام-:
من المتفق عليه: مسألة التمسك: وهي مما لا خلاف فيها بين الأصحاب، ويظهر أن يكون في معناها الثمن في الذمة في مدة خيار المجلس الباقي للمتعاقدين أو للمشتري وحده؛ بسبب إمضاء البائع العقد دون المشتري حولا كاملاً إذا قلنا: إن الملك فيه للبائع؛ لأنه قد اجتمع فيه الدينية وقدرة الغير- وهو المشتري- على إسقاط الملك فيه وعدم قدرة المالك على التصرف التام فيه بسبب ذلك.
فإن قلت: لم لا يكون الحكم في ذلك كالحكم في المبيع في زمن الخيار إذا قلنا: الملك فيه للمشتري؛ فإن الأصحاب قالوا: إذا باع مالا زكاتيا قبل تمام الحول، ثم تمَّ الحول في مدة الخيار أو اصطحب مدة فتم الحول في دوام خيار المجلس، أو زهت الثمار المبيعة- فوجوب الزكاة ينبني على أقوال الملك:
فإن قلنا: إنه للبائع فعليه الزكاة، وبهذا القول أجاب الشافعي [في هذه المسألة التي نحن فيها] ثم هل يبطل البيع في قدر الزكاة أو في كل المبيع التفاتا على تفريق الصفقة؟ فيه كلام يأتي في باب زكاة الثمار [في هذه المسالة التي نحن فيها].
وإن قلنا: إنه للمشتري فلا زكاة على البائع، لانقطاع حوله بزوال ملكه، والمشتري يبتدئ الحول من بعد الشراء وإذا تم الحول من حينئذ وجبت الزكاة عليه. [نعم، قال ابن الصباغ: لو فسخ البائع أو المشتري عاد إلى ملك البائع ووجبت عليه] عندي الزكاة، لأن هذا الفسخ استند إلى العقد بالشرط المذكور فيه، وجزم في "الحاوي" أنه يستأنف الحول من يوم الفسخ.
وإن قلنا: إن الملك موقوف، فإن تم العقد تبينا أن الملك كان للمشتري، وإن فسخ تبينا أنه كان للبائع.
قال الرافعي: وحكم الحالين ما ذكرنا، هذا ما ذكره جمهور أئمتنا ولم يتعرضوا لخلاف بعد البناء على الأصل المذكور.
قال الإمام: إلا صاحب "التقريب" فإنه قال: وجوب الزكاة على المشتري يخرج على القولين في المغصوب، بل أولى بعدم استقرار الملك مع ضعف [الملك] والتصرف، قال: وإنما خرجه على القولين إذا كان الخيار للبائع أو لهما، فأما إذا [كان] الخيار للمشتري وحده، والتفريع على أن الملك له، فملكه ملك الزكاة بلا خلاف، لأن الملك ثابت والتصرف نافذ وتمكنه من رد الملك لا يوجب توهنا وقد أبدى الرافعي احتمالاً في جريان مثل قول صاحب "التقريب" في جانب البائع إذا فرعنا على أن الملك له وكان الخيار للمشتري وحده.
قلت: يحتمل ألا يكون الحكم كذلك؛ لأن الكلام في مسألة البيع يفرض في أربع صور:
إحداها: إذا كان في الذمة ولم يقبض، وهو نظير مسألتنا، فيظهر أن نقول: لا تجب الزكاة [فيه] على المشتري، وإن قلنا: إن الملك له والخيار لهما أو للبائع وحده؛ لما ذكرناه بل هنا أولى؛ لأن الثمن مقدور على التصرف فيه على الجملة قبل القبض على الصحيح؛ بخلاف المبيع.
الثانية: إذا كان في الذمة ثم قبض في زمن الخيار فحكمه قبل القبض ما تقدم وبعده سنذكره.
الثالثة: أن يكون معينا لم يقبض، فهذا يبني على أن المبيع قبل القبض، وبعد لزوم العقد هل تجب الزكاة فيه أم لا؟ وفيه خلاف سنذكره.
الرابعة: إذا كان معيناً قد قبض، وهي مسألة الخلاف التي أوردت، ألا ترى أن الإمام قال: إذا كان الخيار للمشتري وحده فملكه ملك الزكاة بلا خلاف؛ لأن الملك ثابت والتصرف نافذ، ولولاه مقبوضاً لم يكن التصرف [نافذا؛ لأن التصرف] في المبيع قبل القبض [لا] ينفذ، وإذا كان كذلك فقد خالف محل الخلاف في هذه المسألة ما ذكرناه من وجهين:
أحدهما- وبه يظهر بيان قاعدة عظيمة، وهي أن المال في مسألة المبيع عين؛ وفي مسألتنا دين، وقد قال الأصحاب: الدين المستقر إذا كان ذهبا أو فضة أو عرضا للتجارة هل تجب فيه الزكاة أم لا؟ حكى الزعفراني [فيه] وحده قولا في القديم عن الشافعي: أنها لا تجب كيف كان، قال الإمام: وهو بعيد في حكم المرجوع عنه، والجديد الصحيح: الوجوب فيه في الجملة، لكنه ينظر:
فإن كان الدين حالا على مليء [مقر] ظاهراً أو باطناً باذلا له وجبت فيه الزكاة، وطولب بإخراجها بعد حولان الحول، كما قال الإمام وغيره، وحكى ابن التلمساني في شرحه لهذا الكتاب أن الغزالي حكى وجهاً آخر: أنه لا تجب، وأنه صححه.
وإن كان على مليء جاحد في الظاهر والباطن وله بينة به أو علمه الحاكم، وقلنا: يقضي بعلمه- قال ابن الصباغ: فالذي يقتضيه المذهب الوجوب؛ لأنه متمكن من أخذه في الظاهر، وعبارة الإمام: أن الدين إذا كان مجحودا وعليه بينة فلا حكم للجحد، وفي "التتمة" فيما لو قصر في إقامة البينة حتى حال الحول: فهل يجب الإخراج قبل الأخذ؟ فيه وجهان كما في الدين المؤجل وإن لم يكن عليه بينة ولا علمه الحاكم ففي وجوبها قولان جاريان فيما لو كان مقرا وهو معسر، وادعى الإمام أنهما القولان في المال المغصوب، وفي ذلك نظر سنذكره، والمختار في "المرشد": الوجوب.
ولا يجب الإخراج قبل القبض بلا خلاف.
وإن كان مقرا في الباطن مماطلا، ولو طلبه بالحاكم خشي أن يجحده فهل تجب؟ سيأتي الكلام [فيه] في الكتاب.
ولو كان الدين مؤجلا على مليء مقر؛ فثلاثة طرق:
أحدها: لا تجب قولا واحدا، وإذا قبضه [في الظاهر] استأنف الحول؛ لأنه لا يستحقه، ويحكى هذا عن أبي إسحاق.
والثاني: تجب قولا واحدا كالمال الغائب الذي يسهل إحضاره، وعلى هذا: هل يجب إخراج الزكاة قبل قبضه؟ فيه وجهان قال الإمام: الأصح عندي المنع؛ فإنه لو أخرج خمسة نقدا وماله مؤجل كان ذلك إجحافاً به، وما يساوي خمسة نقدا يساوي ستة نسيئة ويستحيل أن يقنع بأربعة مثلا، والواجب في توقيف الشرع خمسة.
والثالث- وبه قال أبو إسحاق، وهو الأصح- أنه كالدين على المعسر؛ فيكون علىى القولين ولا يجب الإخراج إلا بعد القبض. قلت: ينبغي أن يقال: أو حلوله.
وقيل: يجب الإخراج في الحال كما يجب الإخراج عن الغائب الذي يسهل
إحضاره وسيأتي الكلام فيه.
أما إذا كان المال غير ما ذكرناه فلا زكاة فيه قولا واحداً؛ إذ لا يتصور وجود شرط الزكاة فيه؛ فإن السوم شرط في زكاة النعم والزهو في الملك والاشتداد شرط في زكاة الثمار والزروع، وذلك لا يوجد في الدين.
قال الرافعي: ولك أن تقول: لم [لا] يجوز أن تكون الماشية الثابتة في الذمة موصوفة بكونها سائمة؛ ألا ترى أنا نقول إذا أسلم في اللحم بعوض لكونه لحم راعية أو معلوفة: فإذا جاز أن يثبت في الذمة لحم راعية جاز أن يثبت في الذمة راعية. نعم، العلة الصحيحة في امتناع وجوب الزكاة فيها: أن الزكاة إنما تجب في النامي، والماشية في الذمة [لا تنمو، بخلاف الدراهم إذا ثبتت في الذمة] فإن سبب الزكاة فيها رواجها وكونها معدة للتصرف، فإذا عرفت ذلك فإن قلنا إن الدين لا زكاة فيه فالفرق ظاهر، وإن قلنا: تجب في المؤجل، فالفرق يقع بالوجه الثاني، وهو أن الغير في مسألتنا قادر على إسقاط الملك فيه بالكلية كما في مسألة المكاتب، وفي مسألة البيع ليس الغير قادراً على الإسقاط فيه بالكلية، بل هو ناقل للملك من شخص إلى شخص، والقدرة على إسقاط الملك أقوى من القدرة على نقله.
فإن قلت: لا نسلم أن لذلك تأثيراً في الحكم؛ بدليل أن الأصحاب لم يفرقوا بين ما إذا كان المبيع ماشية تجزئ في الأضحية أو غيرها مع قدرة البائع على إسقاط الملك فيها بجعلها أضحية.
قلت: ذلك لو فعله البائع لتضمن انتقال الملك فيه إليه، ثم جعله أضحية بعد ذلك، على أني أقول: لا أسلم أن الملك في الأضحية سقط بل انتقل إلى الفقراء وكذلك جعله الإمام شبيهاً بالوقف، وإن كان الأصحاب شبهوه بالعتق كما سنذكره، والله أعلم.
ويجوز أن نقول بوجوب الزكاة في الثمن إذا كان في الذمة وقلنا: الملك فيه
للمشتري، وإن الدين المؤجل تجب فيه الزكاة، والفرق بينه وبين الدين على المكاتب وإن استويا في كون من عليه الدين قادراً على إسقاطه، وهو ممنوع من التصرف فيه لأجل ذلك: لأن الملك فيه مصيره إلى اللزوم والعقد معقود له؛ فكان الجواز في أوله محتملاً، بخلاف الدين على المكاتب، والله أعلم.
وعلى هذا يكون المتفق عليه ما مثل به الشيخ لا غير، ومن المختلف فيه غير ما يأتي عليه كلام الشيخ وما يتعلق به- مسائل:
الأولى: المال الموصى به إذا لم يقبله الموصى له، ولم يرده حتى مضى عليه حول، أو كان ثمرة فلم يقبله ولم يرده حتى زهت، ثم قبله، وقلنا: إن الملك فيه للوارث، كما هو أحد الوجهين لا للميت فإن الموصى له متمكن من انتزاعه قهرا، والوارث غير قادر على التصرف فيه بسبب ذلك، لكنه ليس بدين، وهل تجب على الوارث زكاته؟ فيه وجهان، أصحهما في "النهاية" وغيرها: لا، قال الإمام: ولا يسوغ غيره، لأن هذا الملك تقدير، اضطررنا إليه لما لم نجد مالكاً متعيناً في هذا الزمان.
نعم لو رد الموصى له الوصية وقد تحقق ملكه ففيه الخلاف المتكرر أمثاله في الأملاك الضعيفة التي لا يثبت التصرف فيها، أما إذا قلنا: الملك قبل القبول والرد للميت، فلا زكاة فيه جزما؛ لأن الميت ليس من أهل الوجوب، وقد تقدم بيان الحكم فيما إذا قلنا: الملك فيه للموصى له أو موقوف.
الثانية: المال الملتقط إذا عرفه الملتقط بنية التملك وتم الحول، وقلنا: لا يملك إلا باختيار التملك أو التصرف، فإنه ملك لا يملك مالكه التصرف التام فيه، والغير يقدر على إزالته فإذا مضى عليه حول آخر وهو كذلك فهل تجب زكاته على المالك؟ فيه طريقان:
إحداهما- وتحكى عن رواية الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني-: القطع بالمنع.
والثانية: حكاية القولين في المال المغصوب فيه، وهي التي صححها ابن الصباغ وغيره.
أما إذا قلنا: إنه ملك بانقضاء سنة التعريف، فلا يجب على المالك زكاة اللقطة
في السنة الثانية، لكنَّ قيمتها تثبت [له] دينا في [ذمة الملتقط]، فإذا قلنا بوجوب الزكاة في الديون ففي وجوبها في القيمة [قولان] لأنها ضالة عن مالكها، وهل تجب زكاة العين الملتقطة [على الملتقط] وقد ملكها؟! الجمهور على الوجوب، وحكى الرافعي عن رواية الشيخ أبي محمد وجهين؛ بناء على أن المالك لو علم بالحال- والعين باقية- فهل يتمكن من الاسترداد أم لا؟ وفيه خلاف مذكور في موضعه، ويجريان أيضاً كما قال فيما إذا قلنا: إنه لا يملك إلا باختيار التملك، فاختاره؛ بناء على الأصل المذكور، فإن قلنا: إن المالك لا يتمكن من الاسترداد، فهو ملك يتسلط الغير على إزالته.
قلت: لكن المالك قادر على التصرف فيه فلم يوجد من الأمور الثلاثة المذكورة في الدين على المكاتب سوى القدرة على إزالة الملك فإن كان ذلك مستقلاً بمنع الزكاة وجب ألا تجب الزكاة في المال الموهوب للولد ثم هذا الخلاف كما قال الرافعي إذا قلنا: إن الدين لا يمنع وجوب الزكاة أو قلنا: إنه يمنع، لكنه ملك قدر القيمة من غير اللقطة، وقال: إن الأظهر والأشهر في المسألة -[أي] الأخيرة-: الوجوب.
المسألة الثالثة: مال الغنيمة إذا أحرزه الغانمون، ولم يقسم لعذر أو غير عذر حتى مضى حول- فهل تجب زكاته؟ نظر:
[إن لم] يختاروا التملك حين الحيازة حتى مضى الحول فلا زكاة؛ لأنها غير مملوكة للغانمين على الصحيح، بل ملكوا أن يتملكوا وهذا ما اختاره ابن سريج وابن خيران، ولم يورد ابن الصباغ والبندنيجي والماوردي هاهنا غيره.
وفي "تعليق" القاضي الحسين وغيره حكاية قول آخر: أنهم ملكوه ملكا في [غاية] الضعف والوهي؛ فإنه يسقط بمجرد الإعراض، وللإمام أن يقسمه بينهم قسمة تحكم فيخص بعضهم ببعض الأنواع [وبعض الأعيان] إن اتحد النوع.
وإن اختاروا التملك نظر:
فإن كانت الغنيمة أصنافا فلا زكاة؛ سواء كانت مما تجب الزكاة في جميعها أو في بعضها؛ لأن كل واحد منهم [لا يدري ماذا] يصيبه وكم نصيبه.
وإن لم تكن إلا صنفا واحداً زكاتياً وبلغ نصيب كل واحد من الغانمين نصابا- وجبت الزكاة ويعرف ذلك بأحد أمرين أن يعزل الإمام لكل طائفة حصتهم ولا يقسموها أو يكون جميع الغانمين محصورين بحيث يعلمون ذلك لا أنهم محصورون في نفس الأمر؛ لأن ذلك لابد منه. وكذا تجب الزكاة إذا لم يبلغ نصيب كل منهم نصاباً وكانت ماشية أو غيرها، وقلنا: إن الخلطة تؤثر في الوجوب كما في الجديد، اللهم إلا ألا يتم النصاب إلا بالخمس، فإنه لا زكاة عليهم إذ الخلطة مع أهل الخمس لا تثبت؛ لأنه لا زكاة في الخمس بحال؛ لعدم تعين مالكه، هذا ما ذكره الجمهور من العراقيين والمراوزة، قال الرافعي: وهو ظاهر المذهب.
ويقوم مقام اختيارهم التملك إفراز الإمام نصيب كل طائفة وقبضهم له كما قاله الماوردي والبندنيجي، وقال ابن الصباغ: إنه يقوم مقام اختيار التملك نفس إفراز النصيب إذا كانوا حضورا، وقال فيما إذا كانوا غيبا: لا يجب عليهم الزكاة؛ لأنه لا يعلم اختيارهم التملك. وهذا ما عزاه البندنيجي إلى نصه في "الأم".
وفي "التهذيب" حكاية وجه فيما إذا لم يكونوا محصورين، والنوع واحد زكاتي: أن الزكاة تجب، وهو مشار إليه في تعليق القاضي [الحسين]؛ بناء على أنهم ملكوا المال حقيقة.
ثم لا فرق فيما ذكرناه بين أن يكون الخمس قد أفرز لأهله أو لا كما قاله في "العدة"، وإن كان الأكثرون لم يتعرضوا لذلك [كما] قال الرافعي، وقال البغوي تبعا للقاضي الحسين: إن محل الوجوب إذا قلنا به إذا كان الخمس قد أفرز، أما إذا لم يكن قد أفرز فلا وجوب. ولم يحك سواه، وفي "الحاوي" حكاية ما قاله في "العدة" والبغوي وجهين: نسب قول صاحب "العدة" منهما إلى البغداديين، وقال: إنه أصح عنده في الحكم، لأن مشاركة أهل الخمس لهم لا
تمنع وجوب [زكاة عليهم، كما أن مشاركة المكاتب والذمي لا تمنع وجوب] الزكاة على الحر المسلم، ونسب قول البغوي إلى البصريين من أصحابنا، وقال: إنه بنص الشافعي أشبه؛ لأنه قال في تعليل إسقاط الزكاة عن مال الغنيمة: لأنه لا ملك فيه لأحد؛ فإن للإمام أن يمنعهم قسمته إلى أن يمكنه، ولأن فيه خمسا.
قلت: وكأن القائلين بهذا لاحظوا التفرقة بين ما بعد إفراز الخمس وما يخرج من رأس الغنيمة وقبل ذلك، بالنسبة إلى جواز الإعراض عن الغنيمة قبل الإفراز والمنع من الرد بعده لكنَّ هذا قول مخرج ذكره ابن سريج، والمنصوص أنه لا فرق في نفوذ الرد بين الحالين، وهو الأصح في "التهذيب"، فلا جرم سوى الطبري وغيره بينهما هاهنا، ولم يجعلوا للقدرة على الرد من جهة المالك أثرا في منع الزكاة [كما لم يجعل الأصحاب كافة لقدرة المشتري على رد المبيع إذا كان الخيار له وحده، وقلنا: إن الملك له- أثرا في منع الزكاة] ولم يجعل [الجمهور] لقدرة الملتقط على رد العين الملتقطة وقد ملكها على مالكها- أثراً في منع وجوب الزكاة عليه كما تقدم.
وقد سلك الإمام طريقاً آخر فقال: وجوب الزكاة ينبني على أن الغنيمة هل تملك قبل القسمة أم لا؟ إن قلنا: لا فلا زكاة فيها بحال، وإن قلنا: نعم، ففي الوجوب ثلاثة أوجه:
أصحها- وهو المذهب [وبه قطع أئمة المذهب]-: لا؛ لضعف الملك، ولأن الملك في المغنم غير مقصود وإنما يتحقق القصد عند القسمة، والغرض من الجهاد إعلاء كلمة الله تعالى والذب عن دين الله تعالى.
والثاني: نعم؛ اكتفاء بأصل الملك.
والثالث: إن كان فيما غنموه ما ليس بزكاتي، ونحن نقدر أن تقع بزكاتي خمساً فلا زكاة أصلا؛ فإن للإمام أن يوقع القسمة على الأخماس على شرط التعديل فيوقع الزكاتي على الخمس، وإذا كان ذلك ممكناً مقدراً فلا زكاة لضعف الملك وانضمام هذا التقدير إليه. وقد حكى الرافعي هذا الوجه عن روايته
بغير هذه العبارة وأورد عليها سؤالا، والمذكور في "النهاية" ما أبديته وسؤاله لا يرد عليه.
المسألة الرابعة: الدين الزكاتي لمن تجب عليه الزكاة هل يمنع وجوب الزكاة على المديون في مثله إذا كان مقراً به أو منكراً ولصاحبه بينة به؟ ينظر:
إن كان للمديون مال غير زكاتي يمكن وفاء الدين منه فالذي أورده الجمهور أن ذلك لا يمنع الوجوب، وحكى الإمام عن شيخه ترددا فيه بناء على ما سنذكره من المعنيين في علة منع الدين الوجوب.
وإن كان لا مال له غير المال الزكاتي فهل يمنع الدين الزكاة في قدره إن بقي النصاب بعد تقدير وفائه، أو أصل الوجوب إن كان الدين يستغرق النصاب أو ينقصه؟ فيه ثلاثة أقوال:
المشهور في الجديد، وهو الصحيح الذي تقع به الفتوى: الوجوب؛ لإطلاق النصوص الواردة في الزكاة، ولأن الزكاة إن تعلقت بالذمة فالذمة لا تضيق عن ثبوت الحقوق وإن تعلقت بالعين فالدين المتعلق بالذمة لا يمنع الحق المتعلق بالعين؛ ألا ترى أن العبد المديون لو جنى تعلق أرش الجناية برقبته؟
وهذا إذا لم يتصل به حجر حاكم، فإن اتصل به فسنذكره من بعد.
والقول الثاني نص عليه في القديم كما قال الفوراني: أن الدين لا يمنع تعلق الزكاة بالأموال الظاهرة ويمنع تعلقها بالأموال الباطنة، ويحكى عن رواية البيهقي أيضاً.
وقال القاضي الحسين: إن الذي نص عليه الشافعي في "الكبير": أن الساعي لو جاء يطالبه بزكاة أمواله الظاهرة لا يقول: هل عليك دين؟ ولو طالبه بأمواله الباطنة يقول: هل عليك دين أم لا؟ وهذا يدل من كلام الشافعي أنه يفرق بين الظاهر والباطن. ثم قال الفوراني والقاضي: إن من أصحابنا من جعل ذلك قولا في المسألة.
قلت: ومقتضى قول الفوراني أن يكون قديما ومقتضى قول القاضي أن يكون
جديداً؛ لأن "الكبير" هو "الأم" وهي من الجديد، اللهم إلا أن يكون ما حكاه فيها عن القديم والجمهور لم يثبتوا ذلك قولا للشافعي، فلا جرم قال الإمام: والصحيح عندنا أن المراد بهذا أن من ادعى أن عليه دينا إنما ذكره ليسقط الزكاة قال الإمام: لا نصدقه في زكاة الأموال الظاهرة، وأما الأموال الباطنة فالإمام لا يتولى أخذها. وهذا فيه نظر.
فأما إذا قلنا: الدين يمنع تعلق الزكاة بالعين، واعترف صاحب المال بدين- فالظاهر عندي: تصديقه كما يصدق في ادعاء انقطاع الحول وغيره؛ فإن المالك مؤتمن فيما يدعيه من الممكنات، وهذا في الدين أظهر؛ فإن إقراره بالدين ثابت وهو يطالب بموجبه.
والقول الثالث وهو الثاني عند الجمهور والذي نص عليه في القديم وفي اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى من الجديد، كما قال الماوردي [والرافعي]-: أنه يمنع الوجوب، ولماذا منعه؟ فيه معنيان ذكرهما المراوزة، واختلفوا في أن العلة منهما ماذا؟
أحدهما: أن ملكه واه؛ لأن صاحب الدين يمكنه انتزاعه من يده متى شاء إذا امتنع هو من الأداء وإذا لم يمتنع وأدى فلا يبقى له ملك، وهذا ما اقتضى إيراده في "الوجيز" ترجيحه، وإليه يرشد ما سنذكره من كلام الأئمة.
والثاني: أن الإيجاب عليه يؤدي إلى إيجاب زكاتين في مال واحد، قال القاضي الحسين: لأنها تجب بلا خلاف على صاحب الحق، فلو ألزمنا المديون الزكاة أيضاً لصار المال الواحد سبباً لزكاتين على شخصين، وهو ممتنع.
قلت: والنص الذي حكاه الفوراني عن القديم والقاضي عن "الكبير" يرشد إلى هذه العلة؛ لأن البينة تلزم في الأموال الباطنة دون الظاهرة؛ فلا جرم قال: [إن] الذي يمنع الوجوب في الباطنة [دون الظاهرة وبهذا علل هذا القول من أثبته من أصحابنا كما قال القاضي الحسين] وأبطل الرافعي هذا التوجيه
بوجهين من المعنى:
أحدهما: لا نسلم لزوم البينة لكن البينة في المال الواحد؛ لأن المستحق للمديون غير هذا المال، ولرب الدين مطلق المال لا هذا المال، فليس وجوب الزكاة عليه باعتبار هذا المال حتى يلزم البينة.
والثاني: هب أنه يلزم البينة لكن البينة كما تندفع بألا تجب الزكاة على المديون تندفع بألا تجب على رب الدين، فلم يعين الأول؟ فإن رجح جانب المديون لضعف ملكه عاد الكلام إلى العلة الأولى وإن رجح بأن ماله مستغرق بحاجة مهمة وهي قضاء الدين فهذا كاف في التوجيه؛ فلا حاجة إلى واسطة البينة.
أما إذا كان من عليه الدين منكرا ولا بينة لربه، وحلف عليه فهل يمنع الوجوب؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن الحكم كما تقدم.
والثاني: أنه لا يمنع قولا واحداً، لسقوط المطالبة عنه بحلفه فكأنه لا دين عليه قاله الماوردي.
وقد فرع الأصحاب على المعنيين مسائل فقالوا:
إن قلنا بالأول لم تجب الزكاة فيما إذا كان الدين لذمي أو مكاتب [أو] إذا كان الدين مما لا تجب فيه الزكاة لنقصه عن النصاب أو غير ذلك، أو كان مما تجب فيه الزكاة لكنه من غير جنس المال كما إذا كان المال ماشية والدين دراهم، أو كان المال دنانير والدين دراهم، وادعى الإمام أن الأصح في هذه الصورة الوجوب.
وإن قلنا بالثاني وجبت.
وقد اقتضى المعنيان الوجوب فيما إذا كان الدين مؤجلا وقلنا: لا زكاة في المؤجل، فإن قلنا: تجب الزكاة فيه، فيمتنع الوجوب؛ نظراً للعلة الأولى، وتجب نظراً للعلة الثانية، قاله القاضي الحسين، وأطلق المتولي والبغوي وغيرهما
القول بأنه لا فرق في الدين- إذا قلنا: إنه يمنع- بين المؤجل والحال، والماوردي قال في أول الفصل: إنه إذا كان [الدين] مؤجلا لا يمنع الوجوب وجها واحداً، وفي آخره: إنه على القولين.
وقضية المعنى الثاني: ألا يمنع دين الله الوجوب دون المعنى الأول.
وقد أطلقوا القول بأنه لا فرق في الدين المانع بين أن يكون لآدمي أو لله تعالى كالزكوات والكفارات وجزاء الصيد، وكذا المال المنذور كما قال القاضي الحسين، نعم لو كان عليه الحج فهل يمنع؟ فيه وجهان حكاهما الإمام، والفرق: أن دين الحج [لا] يضيق ودين الزكاة لا يقبل التأخير، والمال ليس مقصود الحج، وقال: إن دين المنذور ودين الحج يعتدلان؛ لأن عندي أداء أحدهما يجب من غير اختيار، ولكن ليس المال مقصوداً، [و] المنذور مقصود في المالية، ولكنه يدخله الناذر على نفسه تطوعاً، وحكى الرافعي والماوردي عن ابن سريج [أنا] إن أوجبنا الزكاة عند دين الآدمي فهاهنا أولى وإلا فوجهان، أصحهما عند الإمام: أنه لا يمنع، وفرق بأن هذا الدين لا مطالب به في الحال فكان أضعف حالا، وأن النذر يشبه التبرع، إذ الناذر بالخيار في نذره؛ فالوجوب بالنذر أضعف.
[ثم] هذا كله إذا كان الدين بعدم النصاب أو بنقصه كما ذكرنا فلو كان عليه دين وله نصابان من جنسين، ولو وزع عليهما لنقص كل منهما، ولو جعل
القضاء من أحدهما لبقي النصاب الآخر- نظر:
فإن لم يكن الدين من جنسهما وزعا عليهما، ولا زكاة، وهذا ما حكاه القاضي الحسين وتبعه البغوي.
وقال ابن الصباغ: الذي يقتضيه المذهب أنه يراعى في ذلك حق الفقراء كما صرفنا [عين] مال الزكاة إلى ديونه، وهذا يحكى عن أبي قاسم الكرخي، ويقال: إنه يحكى عن ابن سريج ما يوافقه، وقد أقام المتولي هذا وجهاً آخر في المسألة فحكى فيها وجهين، وصحح الثاني وجزم القول بأنه لو كان يملك أجناساً وبعضها لا يبلغ نصاباً وبعضها يبلغ نصاباً: أنا نجعل الدين من الناقص؛ مراعاة لحق الفقراء، وهذا يقوي ما صححه.
ولو كان الدين من جنس أحد المالين اللذين كل منهما نصاب فهل يقضي عليهما أو يختص بالجنس؟ فيه وجهان بناهما المتولي على أن من امتنع من قضاء دين وظفر صاحب الدين بأمواله، وفي الأموال جنس الحق وغير الجنس فله أن يأخذ الجنس، وهل له أن يأخذ من غير الجنس فيه وجهان، فإن قلنا: لا يأخذ إلا الجنس فيجعل الدين هنا في مقابلة الجنس، وهو الذي صححه؛ لأنه أقرب إليه، وإلا ينقص على الجميع، وهذا ما صححه القاضي الحسين، والرافعي بناهما على أن الدين من غير الجنس يمنع الوجوب أم لا؟ فإن قلنا: يمنعه، فالحكم كما إذا كان من غير جنس أحدهما، وإن قلنا:[لا يؤثر] في غير الجنس، اختص بالجنس.
وحكى ابن يونس وجهاً ثالثاً: أنه يراعى فيه حظ الفقراء.
فرع. لو ضمن عن آخر مالا بإذنه فهذا الدين هل يمنع؟ قال في "البحر": قال والدي: لا نص فيه، ويحتمل وجهين:
أحدهما: لا يمنع؛ لثبوت حق الرجوع له بعد الأداء؛ فصار كأنه لا دين عليه حيث يصل إليه عوضه عقب أدائه.
والثاني: يمنع؛ لأن الدين عليه في الحال، ولا شيء له على المضمون عنه قبل
الأداء؛ فصار [كما لو لم يرجع بشيء].
قلت: لو بنى الوجهين على الوجهين في أن الضامن في صورة يثبت له فيها الرجوع على المضمون عنه هل يثبت له على المضمون عنه حق حتى يطالبه به ويقيم له به ضامناً؟ وإذا وفاه ما ضمنه صح أم لا؟ لكان أوجه.
المسألة الخامسة: الماشية الموقوفة على معين إذا قلنا: إن الملك فيها للموقوف عليه هل تجب فيها الزكاة لاستقرار الملك، أو لا تجب لعدم قدرته على التصرف؟ فيه وجهان في "المهذب" و"التتمة" وأصحهما في "البحر": الثاني، قال: وعلى كلا الوجهين لا تخرج الزكاة من عينها؛ لأنها وقف فلا تعطى المساكين.
ولو كان الموقف نخلا أو كرما على معين وجبت عليه الزكاة في الثمرة قولا واحداً، بخلاف ما لو وقفت على غير معين.
قال: وفي الآخرة قبل استيفاء المنفعة قولان. صورة المسألة: أن يكري داراً بملك منفعتها سنتين مثلاً، بثمانين ديناراً معينة أو في الذمة، ويقبضها، ثم تقوم في يده حولاً كاملاً، فالأجرة تقسط على السنتين إذا كانت أجرتهما على السواء، فإذا كان الأمر كذلك فقد استقر ملكه على الأربعين ديناراً هي أجرة السنة الأولى؛ فيجب عليه زكاتها بلا خلاف، وهل يجب عليه زكاة [ما في] الأجرة المقابلة للسنة الثانية أم لا؟ فيه قولان:
قال الشيخ: أصحهما: أنه يجب فيها الزكاة؛ لأن ملكه قد ثبت على ذلك، وملك التصرف فيه بسائر أنواع التصرف، حتى لو كان بدل مال الزكاة جارية حل
له وطؤها فوجبت عليه زكاته، ولا يقدح فيه تعرض ملكه للسقوط بانهدام الدار، أصله مهر المرأة قبل الدخول، ووجه مقابله: أن الأجرة في مقابلة المنفعة، وإذا كان كذلك فلا استقرار لها قبل استيفاء المنفعة لجواز أن تسترد لانهدام الدار، وهو مقتضى عقد المعاوضة، وأما الصداق فقد حكي عن ابن سريج أنه خرج قولاً من هنا إليه أنه لا زكاة فيه قبل الدخول، فعلى هذا لا فرق على المشهور.
فالفرق: أن الصداق ليس في مقابلة الوطء فلم يكن استيفاؤه شرطاً في استقراره؛ ولهذا لو ماتت قبل الدخول لم يسترد الزوج منه شيئاً ورجوع الشطر إليه بالطلاق ونحوه ليس من مقتضى العقد؛ بل هو ابتداء تملك أثبته الشرع له ويدل على ذلك: أنه يقطع الملك لا يرفعه ولا يقال: إن الصداق متعرض أيضاً للسقوط بما هو من مقتضى العقد وهو فسخه بعيبها لأنا نقول: المؤثر في استقرار العوض والمعوض احتمال سقوطه بتلفه أو تلف مقابله لا غير بدليل أن احتمال رد المبيع والثمن بالعيب لا يمنع استقرار الملك فيهما، وهذا منه.
وقد اختلف الناقلون في محل القولين:
فالذي حكاه ابن الصباغ عن القاضي أبي الطيب، وقال الرافعي: إنه الذي يشعر به كلام طائفة- أنهما في نفس الوجوب، فعلى القول الثاني: لا يجب [عليه] زكاة أجرة السنة الثانية عند مضي السنة الأولى وإن كانت في ملكه حولا، وكذا بعد مضي السنة الثانية، لا يجب زكاتها للسنة الأولى، وإن بان استقرار ملكه عليهما حولين [كاملين] كما لا يجب في مال المكاتب وإن بان استقرار ملكه عليه بعد عتقه أحوالاً.
قلت: وهو الظاهر من كلام الشيخ أيضاً، وقد ظن الرافعي أن كلام الإمام الذي سنذكره مشير إليه أيضاً؛ لأنه قال في نصرة القول بعدم الوجوب: إن القول بثبوت الملك التام في الأجرة، ممنوع على رأي بعض الأصحاب؛ فإن صاحب "النهاية" حكى طريقة أن الملك يحصل شيئاً فشيئاً، فمن قال بذلك لا يسلم بثبوت الملك في الأجرة فضلاً عن ثبوت الملك التام. وليس الأمر كما ظنه؛ لأن
الإمام حكى أن القولين في الزكاة مبنيان على أن الملك في الأجرة يحصل بنفس العقد، أو يحصل بالتدرج ويكون الأمر فيه موقوفاً على سلامة العاقبة فإن مضت المدة سالمة عما يوجب الانفساخ تبينا أن الأجرة ملكت بنفس العقد، وإن طرأ انفساخ تبينا أنه لم يجز ملك إلا فيما مضت مدته. وهذا يقتضي أن المدة إذا مضت تبينا أنه ملك بنفس العقد بلا خلاف، وقد أوضح ذلك في "الحاوي" فقال: لم يختلف قول الشافعي في أن الأجرة إذا كانت معجلة بالشرط أو بإطلاق العقد، فقد ملك جميعها بعقد الإجارة، واستحق قبضها بتسليم الدار المؤجرة، وإنما اختلف قوله هل ملكها بالعقد ملكاً مستقراً مبرماً أو ملكها ملكاً موقوفاً مراعى؟ فالذي نص عليه في "البويطي" وغيره: أنه ملكها ملكاً مستقراً مبرماً كأثمان المبيعات وصدقات الزوجات، [و] الذي نص عليه في "الأم" وفي غيره، وهو الأظهر: أنه ملكها بالعقد ملكاً موقوفاً مراعى، فكلما مضى زمان من المدة بأن استقرار ملكه على ما قابله من الأجرة، نعم: لو تمسك الرافعي فيما ذكره بما نقله في "التتمة" لكان أولى؛ فإنه حكى في ملك الأجرة بنفس العقد طريقتين:
إحداهما: أن فيه قولين، وإلى ذلك يرشد كلام المزني.
والثانية: القطع بالملك ورد الخلاف إلى الاستقرار.
وقد يستأنس لطريقة أبي الطيب من كلام الإمام بقوله من بعد حكاية الخلاف الذي سنذكره في المبيع الذي لم يقبض هل تجب فيه الزكاة أم لا: [إنا إذا] قلنا: إن الملك ثابت في جميع الأجرة ملكاً مستقراً كما هو الأصح فالثمن المقبوض أولى بالزكاة من المبيع؛ فإن التصرف نافذ فيه، وإنما فيه توقع الانفساخ، وإن قلنا: إن الملك في الأجرة موقوف فالمبيع أولى بالزكاة؛ فإن الملك فيه محقق، وهو عماد الزكاة، والتصرف المجرد مع التوقف في الملك لا يؤكد الزكاة ووجوبها. انتهى.
وإنما قلت: إنه يستأنس بذلك؛ لأن الخلاف في المبيع الذي لم يقبض فيه
نفس الوجوب، كما ستعرفه، وقد جعله مرتباً على قول على الأجرة، وعلى آخر جعل الأجرة مرتبة عليه؛ فدل على استوائهما في [عود أصل] الخلاف إلى الوجوب وعدمه، والذي قاله الشيخ أبو حامد وشيعته: أن القولين في أنه هل يجب عليه إخراج زكاة أجرة السنتين عند مضي السنة الأولى، أو الواجب عليه عند مضي السنة الأولى إخراج [زكاة] حصتها من الأجرة، وهي نصف وثمن دينار، فإذا مضت السنة الأخرى أخرج زكاة [أجرة] السنة الثانية لسنتين، وأما الوجوب فثابت قطعا. وهذه الطريقة لم يورد القاضي أبو الطيب في "تعليقه" والماوردي والقاضي الحسين والبغوي والمصنف في "المهذب" غيرها، ونسبوا القول الأول إلى نصه في "مختصر" البويطي، وقال أبو الطيب: إنه الأشبه بالصحيح، وهو اختيار المزني وأبي ثور، كما قال القاضي الحسين وابن سريج، وإليه ميل ابن الصباغ، وهو الصحيح في "المهذب"، والثاني إلى نصه في ["الأم"]، وهو الذي نقله المزني، وقال الماوردي: إنه الأظهر، والبغوي: إنه الأصح، والرافعي: إن إليه ميل الجمهور، وابن يونس: إنه الذي صححه أبو حامد، وحكي عن ابن سريج القطع به؛ فإن البندنيجي قال: أكثر أصحابنا يذهبون إلى أن ما حكى عن البويطي قول ثانٍ للشافعي رواه البويطي عنه وليس الأمر كذلك؛ فإن أبا العباس ذكر في "الانتصار" أن هذا مذهب أبي يعقوب البويطي من عنده لا يرويه أحد عن الشافعي، وقال القاضي الحسين في "الفتاوى"، و"التعليق": الإجارة إن كانت واردة على أجرة في الذمة، فالظاهر الأول؛ لأن ملكه مستقر على ما أخذ، حتى لو انهدمت الدار لا يلزمه رد المقبوض، بل له رد مثله.
وقد اختار ابن الصباغ طريقة الشيخ أبي حامد، وقال في الرد على أبي الطيب: لو جاز ألا تجب الزكاة في قسط السنة الثانية عن السنة الأولى، لعدم استقرار الملك لكان إذا استقر الملك يستأنف حوله ولا يزكي لما مضى؛ كمال الكتابة، فلما نص على هذا القول أنه يزكي لما مضى، دل على أن عدم الاستقرار لا يمنع الوجوب وإنما يمنع الإخراج.
قلت: وإذا جمعت بين الطريقتين كان لك أن تقول: هل تجب زكاة حصة
السنة الثانية للحول الأول أو لا تجب؟ فيه قولان، أصحهما كما قال الشيخ: الوجوب، وعلى هذا هل يجب الإخراج عن السنة الثانية حال الوجوب أو لا يجب إلا بعد مضي السنة [الثانية] فيه قولان، أصحهما الثاني.
قال الأصحاب: وهما جاريان، فيما إذا باع عينا بمائة دينار، وقبض الثمن ولم يسلم العين حتى مضى عليه حول، هل يجب الإخراج، أو لا؛ لأنه متى هلك
المبيع بطل العقد، وسقط الثمن، وكانا يجريان فيما إذا قبض مائة دينار عن سلم في ذمته إلى سنتين فحال الحول على الدنانير في يده، وقلنا: إنه إذا انقطع المسلم فيه انفسخ العقد، هل يجب الإخراج [حال الوجوب أم لا؟ أما إذا قلنا لا ينفسخ بل يثبت له الخيار، فيجب الإخراج] قولاً واحداً، قاله القاضي أبو الطيب وغيره، والبندنيجي قال: إن قلنا ينفسخ عند الانقطاع، لم يجب الإخراج، وإن قلنا: لا ينفسخ وجب.
قلت: وينبغي أن يلاحظ مع ذلك هل للمسلم إليه مال يمكن تأدية المسلم فيه من غير رأس المال أو لا؟ فإن لم يكن له مال لوحظ فيه أن الدين هل يمنع وجوب الزكاة أم لا؟ كما سيأتي.
التفريع: إن قلنا بطريقة أبي الطيب وجب عليه عند مضي الحول الأول إخراج دينار لا غير، فإذا مضى الحول الثاني نظر: فإن كان قد أخرج ما وجب عليه في السنة الأولى من غير المال وجب عليه إخراج زكاة تسعة وأربعين ديناراً لا غير وإن أخرجها من غير المال وجب عليه زكاة الخمسين [لا غير]، وإن لم يخرجها أصلاً [انبنى] على أن الزكاة تجب في العين أو في الذمة؟ فإن قلنا بالأول، فالحكم كما لو أخرجها من المال، وإن قلنا: تجب في الذمة، فإن كان له مال غير ذلك يمكنه إخراج الزكاة منه، فالحكم كذلك، وإن لم يكن له مال سواه انبنى على أن الدين هل يمنع وجوب الزكاة في قدره إذا كان ذلك القدر لا ينقص النصاب، أو يمنع أصل الوجوب إذا كان ينقصه؟ وفيه قولان تقدما: فإن قلنا بالصحيح، وهو أنه لا يمنع الوجوب كان الحكم كذلك أيضاً، وإن قلنا: إنه يمنع كان الحكم كما لو أخرجها من المال.
وإن قلنا بطريقة الشيخ أبي حامد: فإن قلنا: يجب التعجيل، أخرج عند تمام الحول الأول زكاة جملة الثمانين دينارين، ثم إذا حال الحول الثاني نظر: فإن كان قد أخرج الزكاة من غير المال أخرج أيضاً دينارين، وإن كان قد أخرجها من عين المال أخرج زكاة ثمانية وسبعين دينار، وإن لم يخرج ذلك أصلاً انبنى على أن
الزكاة تجب في العين أو في الذمة؟ فإن قلنا: تجب في العين، فالحكم كما لو أخرجها من عين المال، وإن قلنا: تجب في الذمة، فالترتيب كما سبق على الطريق الأولى.
وإن قلنا: لا يجب التعجيل وجب عند حولان الحول الأول إخراج زكاة قسط السنة الأولى وهو دينار، فإذا مضى الحول الثاني كان الحكم في قسط السنة الأولى على التفصيل السابق، وأما قسط السنة الثانية فقد بان استقرار ملكه عليه سنتين، فتجب عليه زكاتها سنتين، لكنا إذا قلنا: إن الزكاة تجب في العين، وجب عليه إخراج زكاة تسعة وسبعين ديناراً [وثمن] مع ما يخرجه من زكاة حصة السنة الأولى، وإن قلنا: تجب في الذمة، وله مال يخرج منه الزكاة غير ذلك أو لا مال له سواه، وقلنا: الدين لا يمنع وجوب الزكاة أخرج زكاة ثمانين ديناراً مع ما يخرجه من زكاة حصة السنة الأولى وإن قلنا: إن الدين يمنع الوجوب، كان الحكم كما إذا قلنا: إنها تجب في العين، والله أعلم.
وقد أطلق الغزالي وغيره القول بأنا إذا فرعنا على هذا القول أنه يلزمه بعد انقضاء السنة الثانية زكاة الثمانين لسنتين ويحط ما أدى وما ذكرناه هو الصحيح، وغيره مؤول محمول عليه، أما إذا كانت الأجرة معينة غير مقبوضة انبنى مع ما ذكرناه على أن المبيع قبل القبض هل تجب فيه الزكاة أم لا؟ وفيه كلام سيأتي.
فإن قلنا: لا تجب فهاهنا كذلك، وإن قلنا: تجب [فالحكم] كما إذا كانت مقبوضة.
فإن قلت: الغزالي قد قال: إن الصداق قبل القبض وبعده عند الشافعي تجب فيه الزكاة، وعنده أن الأجرة كالصداق، كما قاله [مجلي].
قلت: عدم التفرقة في الصداق بين ما قبل القبض وبعده مبني- كما قال في "الإبانة"- على أنه في يد الزوج مضمون عليه ضمان يد لا عقد أما إذا قلنا: إنه مضمون ضمان عقد، فقد قال في "الإبانة": إنه كالمبيع سواء، ولا خلاف في أن الأجرة في يد المستأجر مضمونة ضمان عقد، فكيف يمكن أن تكون عند الشافعي كالصداق سواء؟ فظهر أن ما قلناه هو الظاهر، وقد زاد في "التتمة" على ما ذكرناه، فقال: إذا قلنا: إن الصداق مضمون ضمان يد، فإن لم يكن قد طالبت به وجبت الزكاة، وإن طالبت به فامتنع من التسليم فهو كالمغصوب وقال: وحكم مال الخلع والصلح عن دم العمد كالصداق سواء.
قلت: وينبغي أن يلحق بهما الجعل في الجعالة، والله أعلم.
ولو كانت الأجرة مؤجلة بآخر المدة، قال ابن الصباغ: حكمها حكم المعجلة. وهذا فيه نظر؛ بل ينبغي أن يتخرج على الخلاف في أن الدين المؤجل هل تجب فيه الزكاة أم لا كما تقدم، فإن أوجبناها فيه فهي كالمعجلة، ولو كانت الأجرة حالة غير مقبوضة، فهي دين، فإن لم نوجب فيه الزكاة فلا كلام [فيه]؛ وإن أوجبناها فيه، فهي كالمقبوضة وهذا ما ظهر لي تفقها وهو موافق لقول مجلي، والله أعلم.
قال: وفي المال المغصوب، والضال، والدين على مماطل قولان.
اعلم أن الأصحاب حكوا في وجوب الزكاة في المال المغصوب والضال قولين، كما حكاهما الشيخ:
أحدهما: الوجوب لمفهوم قوله عليه السلام: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول" ولأن الأدلة الواردة في إيجاب الزكاة في المال الزكاتي لم
تفصل؛ فكانت على عمومها، إلا في الحالة التي خصها الدليل، ولأن ملك
المالك مستقر على ذلك؛ فوجب عليه زكاته كالذي في يده، وهذا ما نص عليه في "المختصر" في باب الغنم السائمة، وهو الصحيح باتفاق الأصحاب، وقال العراقيون وغيرهم كما قال الرافعي: إنه الجديد، وعلى هذا لا يجب عليه الإخراج قبل عود المال إليه بلا خلاف؛ لما فيه من الإضرار به.
والقول الثاني: أن الزكاة لا تجب- وإن عاد إليه [كما] قال الماوردي- لأمرين:
أحدهما- يرجع إلى ما قاله الإمام-: أن مبنى الشرع مشعر بأن الزكاة إرفاق في مقابلة ارتفاق المالك؛ ولذلك تعلقت الزكاة بالثاني جنساً وقدراً واعتبرت مدة يغلب النماء في مثلها، والحيلولة تمنع الارتفاق، وهذا يشبه أن يكون قول ابن سريج وأبي إسحاق؛ لما ستعرفه.
والثاني: أن وهاء الملك ونقصان التصرف [به] يمنعان وجوب الزكاة دليله المكاتب لا زكاة عليه فيما يملكه؛ لوهاء ملكه، ونقصان تصرفه فيه ورب المغصوب والضال واهي الملك ناقص التصرف؛ فوجب ألا تلزمه الزكاة، وهذا القول نسبه القاضي أبو الطيب والماوردي وغيرهما من العراقيين وغيرهم- كما قال الرافعي- إلى القديم، وبه قال أبو حنيفة، وقال الإمام تبعاً للقاضي الحسين وغيره: إنه مأخوذ من قوله في موضع آخر في الدراهم المغصوبة والمجحودة: [و] لا يجوز فيه إلا واحد من قولين: إما ألا تجب الزكاة؛ لأنه يحول دونه، أو تجب لإحوالها؛ لأن ملكه لم يزل، فعلى هذا إذا غصب المال بعد مضي ستة أشهر [وأقام في يد الغاصب ستة أشهر] مثلاً، ثم عاد إلى الملك، استأنف له الحول من حينئذ.
قال في "البحر": ومن أصحابنا من قال: إنه ينبني على المدة التي كانت في يده، فإذا مضت ستة أشهر زكاه، قال: وهذا أقرب عندي؛ لأن ملكه في الحقيقة لم يزل، وهذه الطريقة هي المشهورة، ووراءها فيهما طريقتان أخريان:
إحداهما: القطع بالوجوب، والقائل بها قال: إنما قصد الشافعي بقوله: لا يجوز إلا واحد من قولين، الرد على مالك حيث قال: تجب في العام الأول دون ما بعده من الأحوال؛ فكأنه يقول: القياس ما قلت أو ما قاله أبو حنيفة، فأما ما قاله مالك فلا وجه له.
قال أصحابنا: وما قاله مالك مستقيم على أصله؛ لأن عنده أن التمكن شرط في الوجوب، وإن لم يوجد عقد الحول الثاني، فإذا وجد الإمكان بعد أحوال وجد شرط وجوب زكاة السنة الأولى، ولم يوجد شرط عقد الأحوال بعدها، كذا قاله صاحب "البحر" وغيره.
قال الرافعي: وما ذكره مالك يقتضي أن يكون للشافعي قول مثله؛ لأن له قولاً كمذهبه في أن الإمكان من شرائط الوجوب.
قلت: وما ذكره أبو علي إن كان نقلاً فلا اعتراض عليه، بل نستفيد منه أن للشافعي قولاً أن الحول الثاني إنما يعقد عند التمكن من الأداء عن الأول كما سيأتي حكايته وجهاً عن بعض الأصحاب وإن كان تفقهاً كما أبداه الرافعي فلا وجه له؛ لأنا حيث قلنا: إن التمكن شرط الوجوب، فابتداء الحول الثاني من حين انقضاء الأول، لا من وقت التمكن كما ستعرفه، وبهذا خالف مذهبنا مذهب مالك- رحمه الله والله أعلم.
والطريق الثانية: عن ابن خيران نفي الخلاف في ذلك، وتنزيل ما حكى عن
الشافعي على حالين: فحيث قال: لإحوالها، أراد إذا عادت إليه بنمائها، وحيث قال: لا تجب، أراد إذا عادت إليه من غير نماء.
فإن قلت: هذه الطريقة أخذا بظاهر نصه في الموضعين؛ فإن الموضع الذي نص على الوجوب فيه ما إذا كان المغصوب والضال غنما ونحوها؛ فإنها إذا عادت عادت بنمائها في الأغلب كما سنذكره، والموضع الذي قال: لا يتجه فيه إلا واحد من قولين، هو ما إذا كان المغصوب والمجحود دراهم، وهي إذا عادت [عادت] بغير نماء.
قلت: هذا التردد الذي استنبط منه عدم الوجوب قاله الشافعي في القديم، كما قال في "البحر"، والقديم: عود الدراهم إليه بنمائها كما سيأتي في الغصب، فهي كالغنم سواء، وقد اقتضت طريقة ابن خيران القطع بعدم الوجوب في الدراهم والدنانير على الجديد، والصحيح باتفاق القلة الطريق الأول، وهو إجراء القولين في الماشية وغيرها فلا فرق بين أن تعود الماشية بنمائها أو لا، وعن ابن سريج وأبي إسحاق أنها إن لم تعد بنمائها فالأمر كذلك، وإن عادت بنمائها
وجبت الزكاة قولاً واحداً؛ لأن المؤثر على قول السقوط إنما هو فوات النماء عليه.
قال الإمام: وعلى هذا لو عادت مع بعض النماء دون البعض كان كما لو عادت به دون شيء منه، والمراد أن يعود النماء نفسه أو ثبوت بدله في ذمة الغاصب والجاحد، وبعدمه: عدم حدوثه أو حدوثه وتلفه غير مضمون، وذلك في الضال ظاهر، وفي المغصوب مصور- كما قال القاضي الحسين وغيره- بما إذا كان الغاصب حربياً أو عبد المالك.
قال الإمام: ولو فات في يد الغاصب ما كان يفوت في يد المالك فلو بقي في يده فلا مبالاة به. أما الدين على المماطل، فقد سوى الشيخ بينه وبين المغصوب والضال في القولين، وذلك يقتضي أن يكون الجديد منهما الوجوب، والقديم المنع، لكن القديم منع وجوب الزكاة في الديون مطلقاً كما تقدم، وقال الرافعي وغيره: إنا إذا قلنا بقوله الجديد، وهو وجوب الزكاة في الديون على الجملة، فهو كالمغصوب؛ ففي وجوب الزكاة فيه القولان، ولا يجب الإخراج قبل حصوله قطعا، وقطع في "العدة" بوجوب الزكاة فيه، وكذا فيما إذ كان دينه على مليء غائب، وما حكاه عن "العدة" في الدين على المماطل هو الذي أورده القاضي أبو الطيب والماوردي والبندنيجي وابن الصباغ وصاحب البحر لا غير، ثم [ما ذكره] من تخريج القولين في المغصوب، [الجديد منهما الوجوب] في الدين على المماطل.
وقد فرع على الجديد في وجوب الزكاة في الدين في الجملة نظراً لأنه قد قدم أن القولين في المغصوب الجديد منهما الوجوب، والقديم: المنع؛ فلا يستقيم مع التفريع على الجديد في وجوب الزكاة في الدين على الجملة إلا الوجوب في الدين على المماطل؛ لأنه في المغصوب الجديد. نعم، لو كان القولان في المغصوب مذكورين في الجديد لم يرد ما ذكرناه.
فإن قلت: التردد الذي أخذ منه القول بعدم الوجوب في المغصوب مذكور في "المختصر" وذلك يدل على أن الخلاف في الجديد.
قلت: لا يمتنع أن يكون مذكوراً في "المختصر" وهو القديم؛ لأن المزني يكون أخذه من القديم، وكثيراً ما يتفق ذلك، وهذا لأن الماوردي وغيره جزموا القول بأن عدم الوجوب في المغصوب هو القديم، وإن حكوا عن "المختصر" حكاية التردد المذكور.
تنبيه: الضال المذكور هاهنا: ما ضل عن مالكه حيوانا كان أو غير حيوان، حتى لو دفن شيئاً، فنسي موضعه كان حكمه ما تقدم، سواء كان ذلك في داره أو خارجها.
قال في "الحاوي" في باب الدين مع الصدقة: ومن أصحابنا من أوجب زكاته قولاً واحداً؛ لأنه منسوب إلى التفريط في غفلته وقلة تحرزه، ووجدت ابن أبي هريرة مائلاً إليه.
ثم اختلف من قال بهذا الوجه: هل يلزمه إخراج زكاته قبل وجدانه؟ على وجهين:
أحدهما: نعم.
والصحيح: أنه في حكم المغصوب والتائه؛ فلا يلزمه إخراج زكاته قبل ظهوره، وبعد ظهوره على قولين.
ولو وقع منه شيء في "البحر" وتعذر الوصول إليه فهو كالمال الضال.
ثم الكلام في الضال إذا وقع في يد الملتقط في سنة التعريف لقصد التملك كما إذا لم يقع في يده وبعد سنة التعريف فيه ما قدمت حكايته من قبل.
والمماطلة: المدافعة عن أداء الحق، يقال: مطله يمطله- بضم الطاء- مطلا وماطله، يماطله مماطلة فهو مماطل.
قال الجوهري: وهو مأخوذ من مطلت الحديدة إذا ضربتها، ومددتها لتطول، وكل ممدود ممطول والله أعلم.
فروع- ألحقها بعض الأصحاب بما نحن فيه:
منها: المال الغائب عن الشخص، إذا لم يكن مقدوراً عليه، لانقطاع الطريق، أو انقطاع خبره فيه القولان، قال الرافعي: وذكر في "التهذيب" وجهاً آخر: أنه
تجب الزكاة فيه، لا محالة. نعم، لا تخرج في الحال ولا تتوقف حتى يصل إليه، ولو كان مقدوراً عليه معلوم السلامة وجب إخراج زكاته في الحال، ولا يتوقف حتى يصل إليه.
وفي "الشامل" في هذه الحالة الجزم بأنه لا يلزمه أن يخرجها إلا بعد وصوله إليه، وحكى في "البحر" في المسألة وجهين عن رواية بعض الأصحاب بـ"خراسان"، وأطلق القاضي الحسين حكاية طريقين في المال الغائب:
إحداهما: أن الزكاة تجب [وفى] الإخراج قبل وصول المال إلى يده وجهان.
والثانية: أنه لا يلزمه الإخراج وجهاً واحداً، وهل تلزمه أم لا؟ فعلى قولين، قال: والصحيح: الطريق الأولى.
قال الرافعي: وحيث قلنا: تخرج، فينبغي أن تخرج في بلد المال؛ فإن أخرج في غير ذلك البلد، ففيه خلاف نقل الصدقة، وهذا إذا كان المال مستقراً في بلد فإن كان سائراً فقد قال في "العدة" لا يخرج زكاته حتى يصل إليه فإذا وصل زكاه لما مضى بلا خلاف.
ومنها: المبيع قبل القبض إذا مضى عليه حول ألحقه بعضهم بالمغصوب والضال، وعن القفال: القطع بالمنع؛ لضعف ملك المشتري فيه؛ ولذلك لا ينفذ تصرفه فيه، وإن أذن البائع، ولهذا أيضاً يقال: إنه يتلف على ملك البائع لو تلف في يده، وعن صاحب "التقريب" القطع بالوجوب؛ فإن المشتري قادر على الوصول إليه بأداء الثمن، وتسليم المبيع، وهذا هو المنصوص في "المختصر" وبه قطع الجمهور، وادعى الرافعي أنه الصحيح، والمذكور في تعليق أبي الطيب من الخلاف الطريقة الأولى والثانية.
قال القاضي الحسين: والخلاف في هذه الصورة جار في المسلم فيه في ذمة المسلم المقر مع سائر الديون؛ كالمبيع قبل القبض مع سائر الأعيان.
وفي "التتمة" حكاية وجه آخر في المبيع قبل القبض: أن البائع كان محقاً في الجنس، بأن يكون المشتري لم يوف الثمن، وجبت الزكاة قولاً واحداً، وإن
كان مبطلاً في الجنس فهو كالمغصوب.
ومنها: مال المفلس إذا حجر عليه، وقلنا: إن الدين لا يمنع وجوب الزكاة، فإن فرق بين غرمائه، أو لم يفرق لكنه عين لكل واحد عيناً من ماله، ولم يقبضوا بعد- فلا زكاة عليه، قال في "التتمة": لأن ملكه ضعف بتسليط الحاكم غريمه على أخذه بحقه، وقال ابن الصباغ، تبعاً للقاضي أبي الطيب: لأنه زال ملكه عن ماله، وإن كانوا [ما] قبضوه؛ فصار كالمشتري يملك العين بالشراء قبل قبضها، وهذا محمول على ما إذا قال لكل واحد منهم: قد جعلت لك بدينك العبد الفلاني، أو الثوب الفلاني الذي قد عرفته، فقبل كل واحد منهم ذلك كما قال الماوردي وإلا فمجرد التعيين لا يفيد الملك.
وإن لم يفرق ماله ولا عينه، فهل تجب الزكاة فيه؟ فيه طرق:
إحداها: أن فيه قولي المغصوب والضال، وهي التي حكاها الماوردي لا غير.
والثانية- قالها أبو إسحاق-: إن كان ماشية، وجبت الزكاة، وإلا فهو كالمغصوب؛ لأن الحجر يمنع نماء غير الماشية، ولا يؤثر فيها، كذا حكاه القاضي أبو الطيب والبندنيجي عنه.
وحكى ابن الصباغ عنه أنه قال: إن كان ماشية لم يمنع من الوجوب وإلا وجبت، وإذا صح ذلك كان طريقة ثالثة.
والرابعة- قالها في "الإفصاح"-: القطع بالوجوب ماشية كانت أو غير ماشية؛ لأن الحجر عليه لا يمنع من وجوب الزكاة، كالحجر على السفيه.
قلت: وهو الذي لا يتجه غيره؛ لأن التفريع على الجديد والجديد كما تقدم وجوب الزكاة في المال المغصوب والضال ماشية كان أو غير ماشية.
والذي اختاره القاضي أبو الطيب: الطريقة الأولى، وادعى البندنيجي أنها المذهب؛ لأن الماشية وإن كانت نامية إلا أنه يحول بينه وبينها، وأما السفيه فنائبه يتصرف عنه في ماله، ولا كذلك المفلس، وقال الفوراني: الصحيح أن فيه [قولاً واحدا]: أنه لا تجب عليه الزكاة في ذلك المال، وهذه طريقة خامسة.
ومنها: المال المرهون هل تجب الزكاة فيه؟ فيه طريقان حكاهما القاضي
الحسين في موضع من "تعليقه"، والمتولي عن الأصحاب:
إحداهما: تخريجه على القولين في المغصوب والضال، وهي التي ذكرها في موضع آخر قبل ذلك احتمالاً لنفسه، ولم يورد في "الوجيز" غير هذه الطريقة، وإليها أشار الإمام في باب البيع في المال الذي فيه الزكاة.
والثانية: القطع بالوجوب، وهي التي صححها القاضي، وحكاها عند الكلام في رهن الماشية هو وغيره عن النص، ولم يورد العراقيون غيرها؛ لأنه هو الذي سد على نفسه باب التصرف بتعلق حق الغير الناشئ من تصرفه به، بخلاف المغصوب؛ فإن امتناع تصرفه بغير اختياره.
وقد قال الرافعي عند الكلام في زكاة الفطر: إن هذا الخلاف لم نلقه إلا في حكاية الإمام، والمصنف في "الوسيط" والذي أطلقه الجمهور الوجوب. نعم يجيء الخلاف في الوجوب من طريق آخر، وهو أن الرهن لا بد وأن يكون بدين، فيأتي الخلاف في أن الدين هل يمنع وجوب الزكاة، أم لا؟ والذي قاله الجمهور [جواب على] القول المشهور، وهو أنه لا يمنع.
قلت: وفيما قاله نظر من وجهين:
أحدهما: أن قوله: لا بد [من] أن يكون بدين أي: على الراهن إن أراد في الغالب فصحيح، وإلا فقد ينفك الرهن عن دين على الراهن، كما إذا رهن ماله بدين غيره، فإنه يجوز في هذه الحالة أن ينتفي الخلاف إن بنى على الأصل الذي ذكره.
الثاني: أن من حكى الخلاف في أن المرهون لا تجب فيه الزكاة، أو تجب، اقتضى كلامه أنه لا فرق فيه بين حالة وحالة، ومثل ذلك لا يمكن تخريجه على أن الدين هل يمنع الوجوب، أم لا؟ لأن الخلاف في الدين مخصوص بما إذا لم يكن للمدين مال غيره على المشهور، وكان وفاء الدين يذهب النصاب أو ينقصه. [نعم لو كان الراهن لا يملك غير المرهون، وكان الدين يذهب النصاب أو ينقصه]- خرج على ذلك كما حكاه الماوردي، وكذا الفوراني؛ حيث جزم بالوجوب فيما إذا كان الراهن موسراً، وقال فيما لو كان معسراً لا يمكنه فك الرهن: إنه كالمديون في حكم الزكاة عليه.
ثم إذا قلنا بالمشهور، وهو أن الرهن والدين لا يمنعان الوجوب، قال العراقيون: فإن كان للراهن مال سواه فعليه إخراج الزكاة منه؛ ليسلم الرهن؛ لأنها من مئونة الرهن، وللإمام احتمال إذا قلنا: إن الزكاة تجب في العين أنه لا يجب عليه أن يخرجها من غيره؛ كما لا يجب عليه فداء العبد المرهون إذا جنى، وهذا
ما حكاه الفوراني تفريعاً على هذا القول، وكذا أبو علي الطبري وآخرون. وإن كان لا يجد ما يؤدي، قال الشافعي: أخذ الساعي من الرهن إن كان الواجب من جنس المال كالشاة من الأربعين، وإن كان من غيره؛ مثل أن يكون المال خمساً من الإبل، باع جزءاً من بعير بقدر شاة، وإن تعذر ذلك بيع بعير واشترى منه شاة، وكان الباقي رهناً، قال ابن الصباغ: قال أصحابنا: إنما قال الشافعي هذا القول على الجديد أن الزكاة تجب في المال، فأما على القول القديم، وهو أن الزكاة تتعلق بالذمة، فقد اختلف أصحابنا فيه:
فقال أبو علي في "الإفصاح": استوى حق الزكاة وحق الرهن؛ لأن كل واحد منهما يتعلق بالعين والذمة، وإذا استويا فللشافعي في حق الله تعالى وحق الآدميين إذا استويا ثلاثة أقوال تأتي في الكتاب.
[وقال آخرون -وعليه الأكثر - كما قال ابن الصباغ: إن الرهن مقدم على حق الزكاة؛ لأمرين:
أحدهما: أن الرهن أسبق.
والثاني: أنه تعلق بالمال بعقد صاحب المال ورضاه؛ فكان آكد مما تعلق به بغير تعليقه، فإن كان على الراهن دين لغريم آخر كان حق المرتهن مقدماً، ثم الزكاة ثم الغريم الآخر.
وهذا الطريق لم يورد البندنيجي سواه، وقال القاضي أبو الطيب: إنه غير صحيح، لأن تقديم وجوب حق المرتهن لو كان له تأثير لمنع وجوب الزكاة في المال؛ كما أن المال المرهون لا يتعلق به حق رهن آخر؛ لأن حق المرتهن الأول به يمنع من ذلك؛ فلما لم يمنع تقدم حق المرتهن تعلق حق الزكاة بالمال لم يكن لتقدمه تأثير، وأما العلة الثانية، فيدخل عليه حق الجناية؛ فإنه وجب عن غير عقد، وتقدم على حق الراهن الواجب بالعقد، وهذا الذي ذكرناه هو المشهور، وهو المحكي عن أبي إسحاق.
وعن ابن أبي هريرة، وأبي حامد القاضي: أنه إذا لم يكن مال آخر تؤخذ الزكاة من عين المرهون بلا خلاف إن كان الواجب من جنس المال، وإنما يكون
الخلاف فيما إذا كان من غير جنسه، والفرق أنه إذا كان الواجب من غير جنس الأصل لم [تكن متعلقة] بعينه.
قلت: وكأنهما أشارا إلى التفريع على الجديد فقط؛ لأنه لا خلاف فيه إذا كان الواجب من جنس الأصل: أن الزكاة تجب في العين، والخلاف فيه فيما إذا كان من غير جنس الأصل هل تتعلق بالذمة أو بالعين، كما ستعرفه؟ وغيرهما فرع المسألة على القديم والجديد، والله أعلم.
وهذه الطريقة لم يورد الماوردي غيرها في باب الدين مع الصدقة، وحكاها الإمام في باب البيع في المال الذي فيه الزكاة عن بعض الأصحاب، وأن الشيخ أبا علي قال: الصحيح منها تقديم الزكاة؛ فإن لها على [كل] حال تعلقاً بالعين، وتعلقها بالعين أقوى من تعلق الدين بالرهن؛ لأنها تسقط بتلف المال قبل الإمكان، ولو تلف الرهن لم يسقط الدين، وقال الإمام: الوجه عندي التسوية، ولا وجه لتقديم الزكاة؛ فإنه لا اختصاص لها بالعين. قال الرافعي: وهذه الطريقة قالها العراقيون باعتقادهم، أما إذا قلنا: إن الزكاة في الذمة يكون المال مرتهناً، كما سنذكره، وأما من يخص تعلقها بالذمة كما سيأتي فينبغي أن يقطع بامتناع أخذها من المرهون؛ كسائر الديون المرسلة.
قلت: وهذا لا يسلم عن احتمال يظهر لك مما بعد.
وسلك الماوردي طريقاً آخر، فقال: إن كان الدين حالا ورب المال موسراً طولب بها، وإن كان معسراً فإن قلنا: الزكاة تجب في العين قدمت، وإن قلنا: تتعلق بالذمة، بدئ بحق المرتهن وكانت الزكاة ديناً في ذمته وإن كان مؤجلاً: فإن كان حلول الزكاة أسبق بدئ بها، إلا أن يتطوع الراهن بدفع الزكاة من غيرها، وإن أبي أخذت من الرهن، وإن كان حلول الدين أسبق من حلول الزكاة قدم الدين، فإن بيع الرهن قبل الحول فلا زكاة، وإن بقي على حاله حتى حال الحول ففيه الزكاة، ويطالب بها، وإن كان حلول الدين حلول الزكاة معاً فالحكم كما لو كان حالا ابتداء. قال: وقد خرج قول ثالث: أنهما سواء إذا قلنا:
الزكاة تتعلق بالذمة، ويقسط ذلك عليهما.
وأما القاضي الحسين فإنه حكى في باب رهن الماشية ما حكيناه من طريقة البندنيجي، وقال في موضع آخر بعد ذلك: إن الزكاة مقدمة من غير فصل بين أن يكون الواجب من جنس المال كالشاة من الأربعين، أو من غيره كالشاة عن الخمس من الإبل، وهو الذي ذكره المتولي، قال القاضي: لأنا إن قلنا: [إن] الزكاة في العين كاستحقاق جزء فحق الشريك مقدم على حق المرتهن وإن قلنا: كأرش الجناية؛ فأرش الجناية مقدم على حق المرتهن وإن قلنا: كتعلق حق الرهن؛ فتعلق الزكاة بالعين أخص، بدليل أنه تسقط الزكاة بتلف العين؛ فأشبه أرش الجناية، وتعلق حق المرتهن لا يسقط بتلف العين. وهذا ما أبداه الإمام احتمالاً، بعد أن حكى عن شيخه القطع بتقديم حق المرتهن إذا قلنا: إن تعلق الزكاة بالعين كتعلق الرهن، [وأبدى احتمالاً]- وإن ناقضه كلامه المتقدم- بأنا إنما قدمنا أرش الجناية؛ لأن تعلقه بالرقبة لا يستدعي اختيار الراهن؛ فإذا كان تعلق الأرش يزحم حق المالك في ملكه فكذلك يزحم حق المرتهن في وثيقته، والرهن إنما يمنع الراهن من اختيار تصرف ينافي ما التزمه للمرتهن من حق الاختصاص؛ فأما ما يثبت من غير اختيار فينبغي أن يزاحم [حق] المرتهن، وكيف يستقيم الحكم بوجوب الزكاة والمالك لا مال له غير المرهون، ثم يد الساعي مقبوضة عن تتبع المال الذي وجبت الزكاة بسببه؟ هذا ما لا يكون، وقد حكينا وفاق الأئمة على أن للساعي إذا لم يجد بائع مال الزكاة- وقد صححناه؛ بناء على تعلقه بالذمة- أن يأخذ الزكاة من المال، ويبطل البيع في ذلك المقدار، وبه تبين أن غرض الأئمة من قولهم: إن التعلق كتعلق الرهن، أو كتعلق أرش الجناية- إنما هو في البيع. فأما إن قلنا: إنه كالرهن، امتنع قولاً واحداً، وإن قلنا: كأرش الجناية، كان فيه قولان. نعم، إذا أخرجت الزكاة من المال، ثم أيسر الراهن فهل يلزمه أن يرهن مقدار الزكاة جبراً للنقص الذي وقع في المرهون بأخذ الزكاة منه؟ قال الصيدلاني- وهو في "تعليق" القاضي الحسين منسوب إلى القفال-: إن قلنا: الزكاة تتعلق بالذمة؛ فيجب ذلك عليه، وإن قلنا: تتعلق بالعين،
فوجهان، أصحهما عند القفال: المنع، وقال الإمام: إنهما ينبنيان على الوجهين فيما إذا ظهر ربح في مال القراض وقلنا بأن العامل لا يملك شيئاً من الربح إلا بالقسمة، ورب المال قد أدى الزكاة من مال القراض؛ فيجعل كأن رب المال استرد طائفة من المال، أو يجري به مجرى سائر المؤن؛ فإن قلنا: إن ذلك كالمؤن، فلا يمتنع ألا يوجب على الراهن جبر النقصان إذا أيسر، وإن قلنا: هو كاسترداد طائفة فيتجه إيجاب الجبران، والقاضي الحسين شبه الوجهين في أنه يجب الجبران؛ بناء على أن الزكاة تجب في الذمة، أو لا تجب بناء على أنها تجب في العين- بالخلاف في مسألة القراض، فإن قلنا: إن الزكاة في الذمة فيجعل كما لو استرد طائفة من المال؛ كما لو كان عليه دين فقضاه من مال القراض، وإن قلنا: الزكاة في العين، يُجرَ بها مجرى المؤن، وتكن من الربح.
وإن ابن الحداد زاد على هذا مسألة وهي إذا مات وخلف نخيلا، وعليه دين؛ أي: مستغرق للتركة، فأثمرت النخيل فجاء الساعي، وأخذ عشرها فهل للغرماء أن يرجعوا بقيمة المأخوذ على الورثة؟ فيه وجهان: إن قلنا: الزكاة في
الذمة [لهم ذلك وإن قلنا: في العين فلا. والإمام حكى عنه أنه قال في هذه المسألة: إنا إن قلنا: إن الدين] يمنع انتقال التركة، فلا عشر فيها، وإن قلنا بالمذهب، وهو أنه لا يمنع، وقلنا: لا يمنع الدين الزكاة- فالتركة كالرهون، وفيه الخلاف المقدم؛ فإن لم يجد الوارث ما يخرج منه العشر، أخرج العشر لا محالة من ثمار التركة، ثم إذا وجد الوارث بعد هذا ما يفي بمقدار الزكاة فهل يلزمه أن يغرم للغرماء قدره؟ فيه وجهان:
أصحهما: نعم؛ فإن العشر إنما وجب على الوارث، وهو المخاطب بها، والتركة مستحقة للغرماء.
والثاني: لا كالمؤن؛ فإنه لا خلاف في أن نفقة التركة من وسطها إلى أن يتفق صرفها إلى الغرماء؛ فلتكن الزكاة كذلك.
قال: ومن قال بالوجه الذي صححه الشيخ انفصل عن النفقة بأن الزكاة عبادة مقصودة وجبت فيه، وخوطب الوارث بها، والنفقة ليس لها تعلق بالذمة على التحقيق؛ فأخذت من التركة، ولو وجد الوارث ما يؤدي منه العشر فإن قلنا في الحال الأول: يجب التدارك، وجب الإخراج منه، وإلا فلا كالنفقة.
قال: ولا تجب الزكاة إلا في المواشي، والنبات، والناض، وعروض التجارة، وما يؤخذ من المعدن والركاز.
أما الوجوب في هذه الأشياء فسيأتي دليله- إن شاء الله تعالى- في أبوابها.
وأما انتفاء الوجوب عما عداها؛ فلأنه الأصل، ولا نص فيها، ولأنه ليس بنام ولا معد للنماء؛ فلا يلحق بالمنصوص عليه؛ لأنه ليس في معناه.
قال: وهل تجب في أعيانها، أو في الذمة؟ فيه قولان:
أحدهما: تجب في الذمة؛ لقوله عليه السلام لمعاذ: "أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم" وكلمة "على" للإلزام، والوجوب في الذمة؛ ولأنها زكاة فكان محلها الذمة؛ كزكاة الفطر؛ ولأنها لو وجبت في العين كما سنذكره لامتنع على رب المال تعيينها من المال وإخراجها من غيره بغير رضا من هي له [كأحد الشريكين] ولكان إذا نتجت كل شاة من الأربعين
شاة بعد الحول أن يكون للفقراء شاة وسخلة؛ كما في الأضحية، وهذا هو المحكي عن القديم.
وظاهر كلام الشيخ أن لا تعلق لها بالعين عليه أصلاً، وهو ما حكاه الماوردي والقاضي الحسين وجهاً عن الأصحاب؛ قياساً على الحج وصدقة الفطر والكفارة، لكن الذي أورده ابن الصباغ والمصنف [في "المهذب" وغيرهما] من العراقيين والبغوي في باب صدقة الغنم السائمة في حكاية هذا القول: أن الزكاة في الذمة والمال مرتهن بها، قال الماوردي: وهو أصح وعليه فرع الشافعي، وحكى عن ابن سريج نفي الأول؛ حيث قال: لا خلاف في تعلقها بالعين، وإنما التردد في كيفية التعلق.
وقال الإمام: إن من قال به فقد غلط، وكان ما قاله غير معدود من المذهب، فإنا حكينا فيما إذا باع المالك جميع مال الزكاة، وكان أربعين من الغنم أن بيعه صحيح عند من قال: إنها تتعلق بالذمة ثم إن أدى الزكاة من غيره نفذ البيع، وتم، وإن لم يؤدها فالساعي يأخذ شاة من الأربعين، من يد المشتري، وهذا متفق عليه، ومن كان عليه دين مطلق، فباع ماله لم يكن لمستحق الدين تعلق بما باعه وإن تعذر عليه استيفاء دينه ممن عليه؛ فإذا ثبت للساعي أن يأخذ شاة من يد المشتري كان له ذلك قطعا بالتعلق بالعين؛ فالوجه عندي أن يقول: الزكاة وجبت في الذمة، وتعلقها بالمال كتعلق أرش الجناية برقبة [العبد] الجاني؛ إذا قلنا: إن بيع [العبد] الجاني صحيح؛ فإنا نقول على هذا: إذا باع السيد العبد الجاني صار بيعه ملتزماً للفداء؛ فإن فداه فيا حبذا، وإن لم يفده [فالمجني عليه] ينقض البيع؛ فامتداد يد الساعي خارج على ما ذكرناه ولكن بين تعلق الزكاة وبين تعلق الأرش برقبة العبد فرق على هذا؛ لأن السيد ليس مطالباً بالفداء، أي: قبل البيع، ومالك المال [مأمور بتأديتها] شرعاً، فلما نفذنا البيع، وتوجه الأمر المطلق أطلق مطلقون القول بأن الزكاة تتعلق بالذمة على هذا الرأي، ثم إذا التزم هؤلاء امتداد يد الساعي لم يجيبوا عنه.
قلت: وإذا أقمت ما أبداه الإمام وجهاً في المسألة جاءك في كيفية حكاية
هذا القول ثلاثة أوجه:
أحدها- وهو أبعدها-: أنه لا تعلق لها بالعين مع الذمة أصلاً.
والثاني: لها تعلق بها كتعلق أرش الجناية.
الثالث- وهو المشهور-: لها تعلق [بها] كتعلق الرهن، وعلى هذا فما هو كالمرهون منه؟ فيه وجهان في "تعليق" القاضي الحسين و"التتمة":
الذي اقتضاه إيراد ابن الصباغ وغيره السابق: أنه جميع المال، وهو الذي أورده البندنيجي، والروياني في "البحر" صريحاً.
والذي جزم به القاضي أبو الطيب وابن الصباغ في باب المبادلة بالماشية: أنه قدر الزكاة.
قال: والثاني: [تجب] في العين؛ فيملك الفقراء من النصاب قدر الفرض، لقوله تعالى:{فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج: 24] وقوله عليه السلام: "في عشرين مثقالاً نصف مثقال، وفي سائمة الغنم إذا بلغت أربعين شاة" ولأن الزكاة تختلف باختلاف [صفة] المال، فلما كان الفرض مأخوذاً على صفة المال دل على تعلقه بالعين؛ كمال الشركاء؛ ولأن الزكاة حق يسقط بتلف المال قبل التمكن من الأداء؛ فكانت متعلقة بعينه؛ كحق المضارب في القراض، وبهذا فارقت صدقة الفطر؛ لأنها لا تسقط بتلف المال، وهذا هو الجديد، والمشار إليه في القديم؛ كما قال الماوردي، وهو الصحيح عنده، وفي "المهذب".
ولا فرق فيه بين أن يكون المال إبلا أو غيرها، ولا في الإبل بين أن يكون واجبها الغنم أو الإبل على الصحيح.
ونقل في "الأم" قولاً منصوصاً فيما إذا كان إبلاً وواجبها الغنم: أنها تتعلق
بالذمة، والعين مرتهنة بها تفريعاً على الجديد؛ لأن الواجب ليس من جنس المال حتى نقضي بوجوبه في النصاب، كذا حكاه البندنيجي، وكذا في "البحر" في موضعين من باب صدقة الغنم السائمة، وقال في الثاني منهما: إن القفال حكى مع ذلك قولاً آخر: أن تعلقها بالعين كتعلق أرش الجناية برقبة العبد؛ كما قاله أبو حنيفة، وهذا ما صححه في "الوجيز" وقال في "التتمة": إنه اختيار القفال، موجهاً له بأنه لو أخر الإخراج مدة حتى نتجت الأعيان كلها لم يكن النتاج للفقراء؛ كما أن الجارية الجانية إذا ولدت لا يتعدى إليه حق الجناية، وإذا قلنا به فهل المتعلق به كل المال، أو قدر الزكاة؟ فيه وجهان حكاهما القاضي الحسين والمتولي وغيرهما.
فإن قيل: إذا قلنا: إن التعلق كتعلق أرش الجناية على هذا، فهو ما قاله الإمام؛ تفريعاً على القول الأول، أو غيره؟
قلت: غيره؛ لأن هؤلاء قالوا: إن هذا القول قال به أبو حنيفة، ومذهب أبي حنيفة- كما حكاه القاضي أبو الطيب وغيره-: أن الزكاة لا تتعلق بالذمة أصلاً، بل هي متعلقة بالمال، مع كونه باقياً على ملك المالك؛ كأرش الجناية، وقول الإمام: إنها مع كونها في الذمة تتعلق بالمال كتعلق أرش الجناية فهو غيره قطعاً، والذي أورده العراقيون ما ذكره الشيخ.
وعلى هذا: لو كان المال ماشية كأربعين من الغنم مثلاً، أو أكثر منها، فهل حق أهل السهمان شائع في كل واحد من العدد بقسطه، أو في واحد من العدد، أو أكثر لا بعينه؟ فيه وجهان في "الزوائد" عن صاحب "الفروع" ذكرهما في ضمن مسألة ما إذا أفرز قدر الزكاة، وباع الباقي.
فإن قلت: لعل القائل بالأول هو الصائر إلى جواز تضحية شخصين بشاتين يملك كل واحد منهما نصفها على الإشاعة؛ فإن اسم "الشاة" نأخذه باعتبار
مجموع الجزأين، وإن كانا من شاتين، وهو مطرد في عتق نصفي عبدين في الكفارة، ومن قال بالوجه الثاني لعله هو القائل بعدم الإجزاء في مسألة الأضحية، والعتق في الكفارة؛ لأن المفهوم من لفظ "الشاة" و"الرقبة" الاتحاد، دون جمعه؛ فلا جرم أوجب الشاة مبهمة.
قلت: لا؛ إذ لو كان هذا المأخذ للزم أن يجزئه في الزكاة نصف شاتين، وهو لا يجزئ من غير ضرورة ولا حاجة، كما ستعرفه في باب قسم الصدقات عند الكلام في نقل الزكاة.
ثم على كلا الوجهين فللمالك تعيين واحدة للفرض رفقاً به، وكذا جعل له إخراجها من غير المال وفاقاً، كما قال الإمام، وهو الأصح في "الجيلي" لأجل ذلك، وفي "تعليق" القاضي أبي الطيب وغيره في باب المبادلة بالماشية أن أبا إسحاق كان يقول: إذا أدى الزكاة من غير ذلك المال الذي وجبت فيه تبينا أنها لم تكن متعلقة بعينه، ولم يستحق الفقراء جزءاً منه لأجلها.
قلت: وعلى هذا يكون قولنا: تجب في العين، موقوفاً مراعى: فإن أخرجها منه تبينا وجوبها فيه، وإلا فلا، وقد حكاه الماوردي هكذا قولاً آخر في المسألة، والإمام حكاه عن رواية صاحب "التقريب" وقال: إنه انفرد بنقله. وإذا ضممت هذا إلى ما تقدم كان في كيفية تعلقها بالعين ثلاثة أقوال، وإذا جمعت بين قولنا: إنها تتعلق بالذمة، وما قيل فيه، وقولنا: إنها تتعلق بالعين، وما قيل فيه- جاء في المسألة ستة أقوال أو أوجه، والمشهور من الأقوال على قولنا: إنها تتعلق بالعين ما ذكره الشيخ؛ ولأجله قال: فإن لم يخرج منه، أي: ولا من غيره، [شيء]- لم تجب في السنة الثانية زكاة؛ لأن الفقراء ملكوا قدر الزكاة؛ فبقي على ملكه دون النصاب، قال القاضي أبو الطيب: ونصيب الفقراء لا تأثير لاختلاطه بالمال، وإن كانت الخلطة مؤثرة في الوجوب؛ لأن مالكه لم يتعين
فيستقر ملكه؛ فهو بمنزلة الخلطة بمال المكاتب، فإنها لا توجب في المال زكاة الخلطة؛ إذ المكاتب غير مستقر الملك.
قلت: وهذا يفهم أن مالكه لو كان متعيناً لأثرت الخلطة في الوجوب، وتعينه يكون بانحصار أهل السهمان في البلد.
وقولنا: إن نقل الصدقة لا يجوز، فإنه سيأتي أنهم يملكون الزكاة ملكاً مستقراً حتى تنتقل بموتهم إلى ورثتهم، وإن كانوا أغنياء، ويشرع لهم الحلف عند نكول رب المال عند الأكثرين، والذي يظهر: عدم الوجوب في هذه الحالة أيضاً؛ لأنه لو قيل بالوجوب للزم أن يكون من تجب عليه في صورة هو الذي وجبت له؛ لأن الفقراء إذا ملكوا قدر الزكاة، وهو شاة من أربعين مثلاً، ولم يخرجوا به عن صفة الاستحقاق- لكان يجب عليهم حصة الشاة التي ملكوها عن السنة الأولى من الشاة التي تجب في السنة الثانية، والإنسان لا يجب له شيء على نفسه، وإذا امتنع الوجوب لذلك يسقط، ولا ينتقل إلى الغير؛ كما إذا كان المشتري شريكاً في الشقص المشفوع فإن الشفعة بينه وبين الشريك الآخر على ظاهر المذهب، لا بمعنى أنه أخذ من نفسه، بل بمعنى أنه وقع عن نفسه.
وإذا ثبت ذلك في حق الفقراء امتنع الوجوب على رب المال أيضاً؛ لأن الشاة لا تتبعض في الوجوب، ويشهد لذلك أيضاً أن من عليه قصاص لمورثه وغيره إذا مات مورثه لا يثبت له قصاص على نفسه؛ لاستحالة أن يثبت للإنسان شيء على نفسه، ولما كان ذلك ممتنعاً سقط في حقه ولما سقط في حقه سقط في حق
غير مورثه أيضاً؛ لأنه لا يتبعض وأيضاً فإنه سيأتي ذكر خلاف في اشتراط نية الخلطة، فإن اشترطناها فلا يخفى الحكم، وإلا فقد تقدم أن ملك الفقراء معرض للسقوط؛ فإن لرب المال إبداله، ونتاجه لرب المال، ومثل هذا لا يصلح للمواساة.
أما إذا خرجت من غير المال وجبت في السنة الثانية بلا خلاف، ولو لم تخرج منه، ولا من غيره، وكان المال بعد قدر الزكاة لا ينقص عن النصاب: مثل أن يكون خمساً وعشرين من الإبل، أو مائة وإحدى وعشرين من الغنم أو أربعين من البقر فإن الواجب في السنة الثانية في المسألة الأولى أربع شياه، وفي الثانية: شاة، وفي الثالثة تبيع، وعلى هذا فقس.
وكل هذا تفريع على أن تعلق الزكاة بالعين تعلق شركة أما إذا قلنا: تعلق جناية بالتفسير الذي ذكرناه فيظهر أن يكون الحكم في ذلك كما لو نذر التصدق بشاة من أربعين معينة، ولم يعينها ولم يخرجها حتى حال الحول، وقلنا: إنها تتعين في تلك الغنم، فإن للأصحاب في وجوب الزكاة فيها طريقين حكاهما الإمام والقاضي الحسين وغيرهما:
إحداهما: تخريجه على القولين في أن الدين هل يمنع الوجوب أم لا؟ وعلى هذا ينطبق قول الإمام في مسألتنا؛ تفريعاً على أن الزكاة تتعلق بالعين تعلق جناية: إن الحكم كما إذا قلنا: إنها تجب في الذمة فقط فينبني على أن الدين هل يمنع الوجوب أم لا؟ كما سنذكره.
والثانية: القطع بعدم الوجوب؛ لأن المال صار مستحقاً قبل دخول وقت الوجوب.
قال الإمام: والظاهر أن لا زكاة؛ لأن ما جعل صدقة لا تبقى حقيقة ملك له، وعلى هذا الطريق ينطبق ما حكاه الرافعي عن الصيدلاني: أنا إذا قلنا: الزكاة متعلقة بالعين، فتجب في العام الأول شاة، وبعد ذلك لا يجب شيء؛ لأن النصاب ناقص سواء جعلنا تعلقه بالعين للاستيفاء كالجناية، أو على معنى الشركة، لكن لك أن تقول: الخلاف في مسألة النذر جاء لتعين المال للتصرف؛
فلذلك شابه الزائل عن ملكه، ولا كذلك في مسألتنا إذا قلنا: التعلق تعلق جناية؛ لأنه لا يتعين مال الزكاة للتصرف؛ فامتنع الخلاف وقد قال الرافعي: إنه يجوز أن يفرض خلاف في وجوب الزكاة من جهة تسلط الغير عليه، وإن قلنا: إن الدين لا يمنع وجوب الزكاة.
وقد أفهم كلام الشيخ: أن الزكاة على القول الأول تجب في السنة الثانية إذا لم يخرجها من المال، وهو قدر النصاب؛ إذ المسألة مصورة بذلك، وبه صرح في "المهذب" هكذا، ولا شك في ذلك إذا كان قد أخرجها من غير المال، أو لم يخرجها وكان له مال غير زكاتي يمكن إخراجها منه، على أنه يجيء في هذه الحالة احتمال من الذي حكيناه عن الإمام في أن الدين في مثل هذه الصورة هل يمنع الوجوب أم لا؟ أما إذا لم يكن له مال آخر فالذي يظهر أن يقال: لا تجب الزكاة جزما؛ لأنا قد قلنا: إن كونها تتعلق بالذمة هو القديم، والقديم: أن الدين يمنع وجوب الزكاة، سواء فيه دين الله تعالى ودين العباد، اللهم إلا أن نقول: العلة في كون الدين مانعاً من الوجوب تثنية الزكاة؛ فإن الزكاة هاهنا تجب؛ إذ لا تثنية، والأصحاب قالوا في هذه الصورة: إن قلنا: الدين يمنع وجوب الزكاة، لم تجب، وإن قلنا: لا يمنع الدين الوجوب- كما هو الجديد- وجبت. وفي ذلك نظر؛ لأنه كيف يكون التفريع على الجديد، ونحن قائلون بالقديم؟ نعم، ذلك متجه فيما إذا كان المال إبلا واجبها الغنم؛ فإن قلنا: إن في الجديد قولا يوافق القديم: أن الزكاة تجب في الذمة، فحينئذ يكون الجديد قد فرع على القديم، ولا منع من ذلك.
ثم على تقدير ما قالوا من التفريع: ينبغي إذا قلنا: الدين لا يمنع الوجوب، إن تبينا الأمر بعد ذلك على أن للزكاة تعلقاً بالعين على هذا القول أو لا، فإن قلنا: لا تعلق لها بالعين أصلاً، فالحكم كما ذكروه، وهو الوجوب، وإن قلنا: لها تعلق بالعين تعلق رهن- كما قاله كل العراقيين والبغوي وبعض المراوزة- فينبني على أن الرهن هل يمنع الوجوب، أم لا؟ فإن قلنا: لا يمنع كما هو المشهور وجبت، وإلا فلا.
وقد أشار إلى هذا الرافعي بعد حكايته عن الإمام أن الحكم فيما إذا قلنا: إنها
تتعلق بالعين تعلق الرهن، كالحكم على قولنا: إنه لا تعلق لها بالعين أصلاً، وقد يجاب عن عدم التخريج على أن الرهن مانع؛ فيقال: من لم يوجب الزكاة في المرهون ألحقه بالمغصوب والضال؛ لعدم قدرة المالك على التصرف فيه، والقائلون بأن الزكاة تثبت في الذمة والمال مرتهن بها، منهم من جزم بصحة تصرفه فيه، وهو البغوي، ومنهم من جعل جواز التصرف قولاً في المسألة كما ستعرفه، وعلى هذا فقد انتفت علة إلحاق المرهون بالمغصوب والضال، فلا جرم جزموا هاهنا بالوجوب، وإن قلنا: إن المال مرتهن بالزكاة.