الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب صدقة المواشي
قد تقدم أن اسم "الصدقة" مرادف لـ"الزكاة"، وإتيان الشيخ به في صدر هذا الباب دون باقي أبواب الزكاة؛ اتباعاً لكتاب أبي بكر- رضي الله عنه الذي سنذكره.
قال: ولا تجب الزكاة في شيء من المواشي إلا في الإبل والبقر والغنم.
هذا الفصل سيق لبيان حكمين:
أحدهما: وجوب الزكاة في الإبل والبقر [والغنم]، ويجمعها اسم "الأنعام"؛ لأنها المختصة بهذا الاسم لغة؛ قال الله تعالى:{وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَاكُلُونَ} [النحل: 5] ثم قال {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] ففصل ذلك عن الأنعام.
والدليل على وجوب الزكاة فيما ذكرناه قبل الإجماع من الكتاب قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] والإبل والبقر والغنم من الأموال النفيسة، ومن السنة: ما روي عن رسول الله ? قال: "في الإبل صدقتها وفي البقر صدقتها، وفي الغنم صدقتها"، والأحاديث الدالة على ذلك كثيرة، وسنذكر منها في الباب ما تيسر إن شاء الله تعالى.
ثم المعنى الذي لأجله وجبت فيها الزكاة أنها تكثر منافعها، ويطلب نماؤها، فاحتملت المواساة بالزكاة، وبهذا يظهر لك اختصاص الوجوب بالإنسي من ذلك؛ لأنه الذي يقصد منه ما ذكرناه، وأما الوحشي من ذلك وغيره فلا يقصد ذلك منه، وقد ادعى الماوردي الإجماع على عدم الوجوب فيه؛ لاستواء الأغنياء والفقراء في تملكه والقدرة عليه، وأما المتولد بين البقر الوحشي والإنسي، أو بين المعز والظباء فلا تجب فيه الزكاة عندنا وإن كانت الأم مما يجب فيها الزكاة
لأنها لم تتمحض نعما، ولأنها [لا] تجب في البغال إجماعاً وإن كانت أمها من الخيل، وهي مما تجب فيها الزكاة عند الخصم، قال الشافعي: وكما لا يسهم للبغل وإن أسهم لأمه من الخيل. وبالقياس على ما لو كان الأب إنسياً والأم وحشية؛ فإنه لا زكاة إجماعاً، ويخالف هذا ما لو تولدت من السائمة والعجول المعلوفة، حيث أوجبنا الزكاة فيها؛ لأنها داخلة تحت الاسم وعلف الأب لا يسري إلى الولد، وأيضاً فإن المعلوفة من جنس تجب فيه الزكاة، وبقر الوحش والظباء لا زكاة في شيء من جنسها.
التفريع: انتفاء الوجوب عما عدا ذلك من المواشي التي لا تسمى نعما، وهي الخيل والبغال والحمير، وهو مجمع عليه في ذكور الخيل المنفردة والبغال والحمير، وأما في إناث الخيل المنفردة أو الذكور مع الإناث فقد خالفنا في عدم الوجوب فيها أبو حنيفة، ودليلنا عليه من السنة: ما روى البخاري ومسلم أنه- عليه السلام قال: "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة"، وقال عليه السلام كما أخرجه البخاري:"عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق"،
وقد روي أن أهل الشام كتبوا إلى عمر فقالوا: كثر عندنا الخيل والرقيق فتركه لنا، فقال: لا آخذ شيئاً لم يأخذه صاحباي، وسأستشير فاستشارهم فقالوا: حسن، وفيهم علي ساكت فقالوا: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال: لا بأس إن لم يكن جزية راتبة من بعد، فأخذ عمر من كل عبد عشرة دراهم، ورزقه جريبين، ومن كل فرس عشرة دراهم، وجعل له عشرة أجربة شعيرا، قال أبو إسحاق: فأعطاهم أكثر مما أخذ منهم. والدلالة من هذا الأثر من وجوه:
أحدها: أنهم سألوه، ولو كانت واجبة لبدأهم.
والثاني: أنه قال: لم يأخذها صاحباي. ولو كانت واجبة لأخذاها.
والثالث: أنه استشار، ولو كان نص لما استشار.
الرابع: أن عليا قال: إن أمنت ألا تكون جزية راتبة فافعل، ولو وجبت لكانت راتبة.
والخامس: أن عمر أعطاهم في مقابلتها رزقا، ولو كانت واجبة لم يعطهم شيئاً.
ومن جهة المعنى: أن كل جنس من الحيوان لا تجب الزكاة في ذكوره إذا انفردت لا تجب في ذكوره وإناثه كالحمير والبغال، وعكسه المواشي، ولأن ذلك يقتنى للزينة والاستعمال لا للنماء؛ فلم يحتمل الزكاة كالعقار والأثاث.
واحتاج الشيخ إلى بيان ما تجب فيه الزكاة من المواشي وما لا تجب فيه؛ لأنه
أجمل ذلك بقوله في الباب قبله: ولا تجب الزكاة إلا في المواشي.
ولا يخرج مما ذكره هاهنا زكاة التجارة في الخيل والبغال والحمير وغير ذلك؛ لأنها تجب في قيمتها لا فيها، وكلامه هاهنا فيما تجب فيه.
تنبيه: الإبل بكسر الباء وتسكن للتخفيف، ولا واحد لها من لفظها، وهي مؤنثة وتصغيرها أبيلة كغنيمة والجمع: آبال: والنسبة إبلى بفتح الباء.
البقر: اسم جنس، الواحد: بقرة، للذكر والأنثى ويقال في الواحد أيضاً: باقورة، والبيقورة والبقير، والبقرات كلها بمعنى البقر.
وهي مشتقة من: بقرت الشيء إذا شققته؛ لأنها تبقر الأرض بالحراثة، ومنه قيل لمحمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب: الباقر؛ لأنه بقر العلم فدخل فيه مدخلاً بليغاً.
الغنم، أيضاً: اسم جنس مؤنثة، لا واحد لها من لفظها، يطلق على الذكور والإناث.
قال: فإذا ملك منها، أي الحر المسلم التام الملك على ما تجب فيه الزكاة نصاباً من السائمة حولاً كاملاً، أي: متوالياً- وجبت فيه الزكاة في أصح القولين؛ لمفهوم قوله صلى الله عليه وسلم: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول" ولأنه لو أتلف المال في تلك الحال وجب عليه ضمان الزكاة، ولو لم تجب لما ضمنها كما قبل الحول، وهو ما نص عليه في "الإملاء" كما قال أبو الطيب وغيره وقال الماوردي في موضع: إنه نص عليه في الأم وفي آخر: إنه الجديد.
قال: ولا تجب في الآخر حتى يتمكن من الأداء؛ لأنه لو تلف النصاب قبل التمكن من الأداء، لم يضمن الزكاة، ولو كانت واجبة لضمنها، وتحريره قياساً: أن كل حالة تسقط الزكاة فيها بتلف المال وجب ألا تكون الزكاة فيها واجبة، أصله: ما قبل الحول ولأن الإمكان شرط الوجوب في الصلاة والحج؛ فكذا في الزكاة، وهذا ما نص عليه في "الأم" كما قال القاضي أبو الطيب، وقال الإمام والقاضي الحسين والمصنف: إنه القديم؛ ولذلك قال ابن الصباغ ومن بعده: إنه نص عليه في "الأم" والقديم.
وطريق الجمع بين النقول: أنه نص في "الأم" على القولين، وفي القديم على الثاني فقط، وكذا حكاه البندنيجي قبيل باب صدقة البقر، وفي موضع من "الحاوي": أنه الذي نص عليه في "الإملاء"، وادعى في "البحر" أنه ظاهر المذهب، وكأن مستنده في ذلك - والله أعلم-: قول القاضي الحسين قبل باب صدقة البقر: إن به أجاب في "المختصر" في مواضع، والمنتصرون للأول قالوا: إنما لم يضمنها إذا تلفت قبل التمكن؛ لأنها في يده أمانة، ولم يفرط؛ فكان كالمودع تتلف الوديعة في يده من غير تفريط، ولا فرق بين الزكاة والصلاة والحج، لأن الإمكان فيهما إنما هو شرط في القضاء، والقضاء هناك يجري مجرى الضمان، وإلا فوجوبهما يتعلق بدخول الوقت، ووجوب الحج يتعلق بوجود الزاد والراحلة، وسيأتي حقيقة القولين وفائدتهما من بعد، إن شاء الله تعالى.
وقد أفهم كلام الشيخ أنه متى وجد ما ذكره وجبت الزكاة، وإن كانت الماشية من العوامل، وهو وجه في المذهب لم يورد الشيخ أبو محمد في "مختصر المختصر" غيره، وصححه البغوي؛ لحصول الرفق بالإسامة، وزيادة فائدة الاستعمال.
قال الرافعي: وفي لفظ "المختصر" ما يمكن الاحتجاج به له، لكن الصحيح في "التتمة" وغيرها، وهو الذي أورده معظم العراقيين: نفي الوجوب؛ للخبر.
أما من ملك دون أقل النصب، وهو في الإبل خمس وفي البقر ثلاثون، وفي الغنم أربعون كما سيأتي في الكتاب، وثم نذكر الدليل على اعتباره- إن شاء الله تعالى- ولا خلطة فلا يجب عليه الزكاة بالاتفاق؛ لما ستعرفه. ولو ملكه فأكثر منه، لكنه لم يتصف بالسوم، فلا يجب اتفاقاً، والدليل على ذلك في الإبل: قوله عليه السلام: "في كل أربعين من الإبل السائمة بنت لبون" وفي الغنم ما روي
أنه عليه السلام قال: "في سائمة الغنم زكاة" وفي كتاب أبي بكر الذي سنذكره: "في أربعين من الغنم السائمة الزكاة"، ووجه الدلالة من ذلك: أن الماشية لما كانت متنوعة إلى سائمة وغير سائمة، وخص الوجوب بحالة السوم دل على انتفائه فيما عداها، وهذا هو المعبر عنه بمفهوم الصفة، وهو حجة عند الشافعي والإمام مالك- رضي الله عنه وهو الخصم في اشتراط السوم؛ فإنه قائل بالوجوب في السائمة والمعلوفة؛ فلا جرم قامت الحجة عليه بما ذكرناه، ولأن ذلك جنس تجب الزكاة في عينه بحول ونصاب، فوجب أن يتنوع نوعين: نوع تجب فيه الزكاة، ونوع لا تجب فيه الزكاة، كالذهب والفضة.
وإذا ثبت ذلك في الإبل والغنم قسنا البقر عليهما، وقد روي أنه عليه السلام قال:"ليس في العوامل صدقة" ورواية أبي داود: "ليس في البقر العوامل صدقة" وذلك يدل على نفي الزكاة في المعلوفة منها؛ لأن الغالب في العوامل العلف؛ فلذلك أسقط الزكاة فيها، وإلا فالعمل رفق آخر غير النماء فمقتضاه تأكد الوجوب، لا منعه، ويؤيد ذلك أنه روي عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ليس في الإبل والبقر العوامل صدقة إلا أن تكون سائمة".
والمراد بالسائمة: الراعية في الكلأ المباح؛ فلو رعت في الكلأ المملوك؛ فهل هي معلوفة أو راعية؟ فيه وجهان معزيان إلى "البيان". وسميت السائمة بهذا
الاسم؛ لأنها تسم الأرض برعيها، والسمة: العلامة؛ ولهذا قيل لأول المطر: وسمى؛ لأنه يعلم الأرض بآثاره.
والسوم المؤثر في الوجوب بالاتفاق هو الحاصل بقصد المالك أو من يقوم مقامه من وكيل أو حاكم، وذلك مصور بما إذا غصبت وهي معلوفة، ثم ردها الغاصب إلى الحاكم في غيبة المالك، فأسامها، فإن الزكاة تجب كما صرح به في "البحر". ولو أسامها الغاصب، وكانت معلوفة، وقلنا: الغصب لا يمنع الوجوب لو كانت سائمة- فهل يؤثر في الإيجاب؟ فيه وجهان:
وجه التأثير: إلحاق ذلك بما لو غصب حبا فبذره، [وانعقد حبا] فإن زكاته تجب على المالك.
والأصح: مقابله، وادعى في "الحاوي" أنه مذهب الشافعي، مستدلاً بأنها لو خرجت من يده، ورعت من غير قصده لم يكن ذلك سوما موجباً للزكاة؛ فكذلك إسامة الغاصب، وما ذكره دليلاً هو رأي الشيخ أبي حامد، وهو غير سالم من النزاع؛ فإن المحكي في "البحر" أن القاضي أبا الطيب قال: لو جاز أن يقيم سنة هكذا لم يبعد أن يجب على قول القائل الأول؛ ولأجل ذلك قال القاضي الحسين ومن بعده: قصد السوم من المالك هل هو شرط أم لا؟ فيه وجهان أصحهما: نعم.
ثم إذا قلنا بتأثير إسامة الغاصب في الوجوب، فأدى المالك الزكاة ففي الرجوع بها على الغاصب وجهان حكاهما الإمام ومن تبعه، وقطع بعضهم بالرجوع، وقال: هل يطالب الغاصب بالإخراج؟ فيه وجهان، وعليه ينطبق قوله في "البحر": إن بعض أصحابنا قال: لا خلاف على المذهب أن قرار الضمان على الغاصب؛ لأنه أوقعه فيها. نعم، هل للمالك أن يطالب الغاصب بإخراجها؟ فيه وجهان؛ بناء على أن الحلال إذا حلق شعر محرم وهو نائم؛ فقرار ضمان الجزاء على الحلال، وهل يؤمر الحلال بالإخراج؟ فيه خلاف، وقال في "التهذيب": إذا قلنا: الغصب لا يمنع وجوب الزكاة، فعلى من تجب؟ فيه وجهان، أحدهما: على الغاصب والثاني: على المالك، وعلى هذا هل يرجع بها على الغاصب؟ فيه وجهان. وإذا قلنا: يرجع عليه بعد الغرم، فهل له ذلك قبل الغرم؟
حكى الإمام فيه وجهين، والوجهان المذكوران في تأثير سوم الغاصب في الوجوب، جاريان فيما إذا أسامها المشتري شراء فاسداً، كما ذكره الرافعي وغيره، ويجريان في تأثير علف الغاصب في المنع، إذا غصبها سائمة، أصحهما في "البحر": التأثير وادعى الماوردي أنه مذهب الشافعي؛ لأنها غير سائمة، ومقابله يقاس على ما لو صاغ الفضة المغصوبة حلياً مباحاً، فإن ذلك لا يسقط زكاتها عن المالك، وإن قلنا: إن المالك لو صاغها لسقطت.
ومن قال بالأول فرق بأن علف الغاصب كعلف المالك؛ لأنه طائع فيه و [إنما هو عاص] بغصبه و [صياغة الغاصب تخالف] صياغة المالك؛ لأنه عاص في الصياغة، والصياغة المحرمة لا تسقط الزكاة.
وقد حكى ابن الصباغ أن من قال بعدم تأثير علف الغاصب قال إن علفه محرم، فهو كمسألة الصياغة، وعلى هذا بطل الفرق، لكن ابن الصباغ أبطل التعليل بالتحريم؛ فإن صاحب الماشية لو علفها ما غصبه سقطت الزكاة فإن كان العلف محرماً وخالف الحلي فإن صاحبه لو صاغه صياغة محرمة لوجبت.
وعن الشيخ أبي محمد أنه فصل، فقال: إن علفها بعلف من عنده، فالأظهر أن حكم السوم لا ينقطع؛ لأنه لا تلحق مؤنة بالمالك [ثم].
وقد ألحق البغوي علف المشتري لها شراء فاسداً بعلف الغاصب حتى يكون في انقطاع الحول الوجهان. وعن ابن كج أنه قال: عندي تسقط الزكاة، وينقطع الحول؛ لأنه مأذون من جهة المالك في التصرف؛ فأشبه علفه علف الوكيل، بخلاف الغاصب.
قلت: والأظهر عندي في ذلك بناؤه على أصل ذكره الأصحاب في الأبواب متفرقاً، وهو أن العقد الصحيح إذا تضمن الإذن في شيء فإذا وجد التصرف بمقتضاه في فاسده، هل ينفذ أم لا؟ وفيه خلاف من ذلك إذا قلنا:[إن بيع] المكاتب أو نجوم الكتابة لا تصح فقبضها المشتري: هل يعتق المكاتب، أم لا؟ وفيه خلاف مذكور في موضعه.
فإن قلنا: لا يعتق المكاتب؛ لأنا لم نجعل للإذن أثراً فكذا هنا، فيكون في انقطاع السوم الوجهان في الغاصب.
وإن قلنا بعتقه، فيجوز أن نقول:[ينقطع السوم، ويجوز أن نقول]: لا، والفرق: أن بيع المكاتب لو كان صحيحاً لم يقتض إلا التسلط على القبض فلا جرم جعلناه إذناً فيه، ولا كذلك ما نحن فيه؛ فإنه ليس يلزم هذا العقد العلف، والله أعلم.
ثم إذا قلنا: لا بد من قصد العلف في إبطال حكم السوم، فقد اختلف المراوزة في معنى القصد: فالذي ذهب إليه الأكثرون - كما قال الإمام- أن الماشية إذا اعتلفت وفاقاً فهي سائمة، وإن علفها مالكها قصداً أثر ذلك، وذكر الشيخ أبو علي في "شرح التلخيص" وجهاً: أن ذلك لا يحصل إلا إذا قصد بالعلف رد السائمة إلى العلف من السوم، فإن علفها قصداً مثل أن يقع ثلج، فيعلفها قصداً منتظراً زواله، ولم يقصد قطع السوم- لم يؤثر ذلك. وهذا ينطبق عليه ما سنذكره عن البندنيجي.
ثم العلف المؤثر في قطع السوم اتفاقاً: ما إذا وجد في كل الحول أو معظمه، ولا يؤثر اتفاقاً فيما إذا وقع بما لا يتمول، وما بينهما هل يؤثر؟ فيه أوجه:
أحدها: نعم، مهما كان، ولو دفعة واحدة، لكن مع نية القطع، وهو ما ادعى البندنيجي في تعليقه أنه المذهب، وحكى في "البحر" عنه أنه حكاه عن نصه في "الأم" وأنه قال في موضع آخر: لا زكاة حتى يسيمها دهرها؛ ولأجل ذلك جزم به الفوراني، وصححه البغوي. وقال الشيخ أبو حامد: إنه أقيس والجزم به هو الذي يقتضيه مفهوم قول الشيخ: إذا ملك نصاباً من السائمة حولاً كاملاً.
والثاني: أن المؤثر منه الأكثر كما تقدم؛ لأن رفق السائمة لا يزول إلا به، وهذا يحكى عن أبي إسحاق وابن أبي هريرة، تخريجاً من أحد القولين في المسقي بماء السماء والدولاب: أنه يعتبر فيه الأغلب، ونقله الماوردي عن أبي حنيفة لا غير، وقال: إنه غلط من وجهين:
أحدهما: أن في السوم إيجاباً، وفي العلف إسقاطاً، وهما إذا اجتمعا في الزكاة غلب حكم الإسقاط.
والثاني: أن سوم جميع الماشية في بعض الحول [كسوم بعض الماشية في جميع الحول؛ فلما ثبت أن سوم بعضها في بعض الحول] مسقط للزكاة من غير أن يعتبر فيها الأغلب فوجب أن يكون سوم جميعها في بعض الحول مسقط للزكاة من غير أن يعتبر فيها الأغلب، والفرق بينه وبين الزرع على أحد القولين: أن الزرع لم يتردد بين إسقاط وإيجاب، فلذلك اعتبر حكم الأغلب فيه، والماشية مترددة بين إسقاط وإيجاب، فلذلك غلب حكم الإسقاط فيه.
قال الإمام: وعلى هذا الوجه لو فرض التساوي في السوم والعلف ففيه تردد، والأظهر السقوط.
والثالث: إن علفت قدراً كانت الماشية تعيش لولاه، لم يؤثر، وذلك كما قال أبو إسحاق: اليوم واليومان، وإن علفت قدراً كانت تموت لو لم ترع فيه ولم تعلف، وهو الثلاث فما فوقها أثر؛ لظهور المؤنة، وهذا ما حكاه القاضي أبو الطيب عن أبي إسحاق ولم يورد غيره، وحكاه الإمام عن شيخه والصيدلاني، وادعى في "البحر" بعد حكايته عن أبي إسحاق أيضاً أنه المذهب، وقد صححه في "الروضة" تبعاً لـ"البحر" واقتصر الماوردي والمصنف في "المهذب" عليه.
قال القاضي الحسين: وإذا قلنا به، فلو كان يسرحها كل يوم وإذا ردها بالليل إلى مراحها، ألقى إليها شيئاً من العلف لم يقطع ذلك السوم، ونسب الإمام هذا القول إلى الصيدلاني، موجهاً له بأنها لو أجيعت ليلاً، واقتصر على إسامتها نهاراً لم تهلك، ثم قال: وقد يختلف هذا باختلاف العشب قلة وكثرة، ومسيس الحاجة إلى العلف ليلاً؛ فليتبع فيه المعنى، وقال: إنه لا يبعد أن يلحق الضرر البين بالهلاك على هذه الطريقة.
وهذه الأوجه الثلاثة مذكورة في تعليق البندنيجي "والشامل" وغيرهما.
والرابع - ويحكى عن الشيخ أبي محمد، وقال الغزالي: إنه أفقهها، ولم يحك في "الخلاصة" غيره-: أن المؤثر منه ما يعد مؤنة بالإضافة إلى رفق السائمة.
قال الرافعي: وإلى هذا ميل ابن كج، وفيما علق عن الشيخ أبي محمد أن أبا إسحاق رجع إليه بعد أن كان يعتبر الأغلب، وقد فسر الرفق بدَرِّها ونسلها وأصوافها وأوبارها. قيل: ويحتمل أن يقال: رفق إسامتها.
قال الإمام: ولم يصر إلى تلفيق السوم والعلف أحد، حتى إذا جرى في أثناء العلف إسامة سنة لو لفق وجمع وجبت الزكاة.
قال الرافعي: والأوجه المذكورة هل هي مختصة بما إذا لم يقصد بالعلف قطع السوم، وإن قصده ينقطع لا محالة، أو هي شاملة للحالين؟ في كلام الناقلين لبس في ذلك، ولعل الأقرب الأول، كذا أورده صاحب "العدة" وغيره.
قلت: ويؤيد ذلك أن القاضي الحسين والفوراني جزما القول بأن العلف دفعه بقصد قطع السوم يؤثر، وقالا: لو أنفق لا عن قصد كما إذا ركب بعض بدنه لحاجة، فطرح لها شيئاً من التبن والعلف: هل يقطع السوم أم لا؟ فيه وجهان، ولا أثر للنية المجردة دون الفعل في طرق الإسامة والعلف بلا خلاف، قاله في "التهذيب" ولو وجد ملك النصاب المتصف بالسوم، لكنه لم يمض عليه حول فلا زكاة فيه اتفاقاً، لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال:"لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول" أخرجه أبو داود ولأنه حق مالي يعتبر فيه الحول؛ فوجب أن يتعلق وجوبه بآخره كالجزية، بل أولى؛ لأنها تجب صغاراً، والزكاة تجب قربة لله وطاعة والمعنى في اعتباره: أن يمضي على المال زمان يتهيأ النماء فيه غالباً، فيواسي منه بالزكاة.
وقد فهمت مما ذكره وشرحه الشيخ أن من شرط وجوب الزكاة فيما ذكره:
النصاب المتصف بالسوم بلا خلاف، وكذا الحول، وهل من شرطه التمكن من الأداء، أم لا؟ فيه القولان، وهما جاريان في زكاة الثمار وغيرها، ويعبر عنهما بأن التمكن شرط في الضمان، أو شرط في الوجوب؟ وفائدتهما تظهر فيما إذا نقص النصاب بعد الحول، وقبل التمكن مثل أن كان المال خمساً من الإبل، أو ثلاثين من البقر، أو أربعين من الغنم، فتلفت واحدة، فعلى الأول يسقط عنه خمس شاة، أو ثلث عشر تبيع، أو ربع عشر شاة، وعلى الثاني: لا شيء عليه، والقولان متوافقان على [أنه مهما] حصل التلف بآفة سماوية قبل التمكن [فلا ضمان] وعلى [أنه إذا تلف] المال قبله، وجب كما تقدمت الإشارة إليه وفي "الجيلي" حكاية وجه في المسألة الأخيرة: أن ذلك يمنع الوجوب إذا قلنا: إن التمكن شرط فيه.
ثم المعنى بأن التمكن شرط في الوجوب: أنا عند وجوده نتبين أن الزكاة وجبت عند تمام الحول؛ لأنها وجبت حال التمكن، كذا قاله المتولي.
قيل: وحينئذ فتسميته شرط الوجوب توسع.
قلت: ومما قاله المتولي يظهر لك أن ابتداء الحول الثاني يكون من حين انقضاء الأول، وهو الذي أورده ابن الصباغ والإمام وغيرهما، وادعى في "البحر" أنه لا خلاف في ذلك، وفي "تعليق" القاضي الحسين أن بعض أصحابنا قال على القول بأن التمكن شرط الوجوب: إن ابتداء الحول الثاني من حين [انقضاء] التمكن، كما قال الإمام مالك رحمه الله.
قلت: ويمكن أخذه مما حكيناه عن رواية أبي علي الزجاجي قولاً: أن الزكاة في المال المغصوب والضال للحول الأول دون ما عداه إن كان القول منصوصاً؛ كما أشرت إليه من قبل، وإن لم يكن منصوصاً - بل مخرجاً- فيكون قائله هو الصائر إلى ابتداء الحول الثاني من حين التمكن، وعلى هذا فيظهر أن نقول: الوجوب إنما هو عند التمكن لا أنه عند التمكن يظهر أنه كان واجباً عند تمام الحول، والتمكن المشار إليه في الأموال الباطنة: أن يكون المال حاضراً عنده، وقد وجد أهل السهمان، أو الإمام أو نائبه، فلو كان المال غائباً في موضع آخر قال الرافعي: فلا تمكن، سواء جوزنا نقل الصدقة، أو منعناه.
وفي شرح ابن التلمساني أنا إذا تحققنا بقاء المال في حال الغيبة، وقلنا: يجوز نقل الصدقة- فقد تحقق الإمكان.
قلت: ولا يعكر على ما قاله الرافعي ما حكيناه عنه وعن غيره في المال الغائب آنفاً؛ لأنه يحتمل أن يكون مرادهم ثم الإخراج في بلد المال، لا في غيره، وإن جوزنا النقل وهذا لا يفهم إلا بمطالعة ما تقدم.
ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يطلب الإمام أو نائبه أو أهل السهمان منه ذلك، أو لا كما قاله أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما، لكن الماوردي قال: التمكن يكون بمطالبة الإمام العادل، أو حضور أهل السهمان. وهذا يفهم اشتراط مطالبة الإمام دون أهل السهمان وكذا كلامه الذي سنذكره من بعد.
والحكم في الأموال الظاهرة، كما تقدم إن قلنا: يجوز لرب المال تفرقة زكاتها بنفسه، وإلا فالتمكن أن يجد الإمام أو نائبه في قبضها.
وقال الماوردي: التمكن على هذا: أن يطالبه الإمام العادل بها. وقال القاضي
الحسين قبل باب صدقة البقر: كل موضع قلنا ليس له التفرقة بنفسه فإذا طالبه الإمام، ولم يدفع لزمه الضمان بلا خلاف ولو طالبه الفقراء لا يضمن، وكل موضع قلنا: له التفرقة بنفسه، فإذا طالبه الإمام، وقلنا: الأفضل الدفع إليه، فلم يفعل- لزمه الضمان، وإن طالبه المساكين ففي الضمان وجهان. وإن قلنا: الأفضل أن يفرق بنفسه، وإن طالبه المساكين ففي الضمان وجهان. وإن قلنا: الأفضل أن يفرق بنفسه، فطالبه الفقراء، فأخر- ضمن، وإن طالبه الإمام فلم يعطه ففي الضمان وجهان. وهذا يقتضي أن المطالبة شرط في الضمان في كل الأحوال.
فإن قلت: قد ذكر القاضي الحسين وغيره من المراوزة وصاحب "البحر" أنا حيث قلنا: إن الأفضل أن يدفع إلى الإمام، فقدر على الصرف لأهل السهمان، وأخره ليدفع إلى الإمام لحيازة الأفضل، أو للخروج من الخلاف، فهلك المال فهل يضمنه؟ فيه وجهان جاريان فيما إذا كان الأفضل تفرقته بنفسه، وقدر على الإمام أو نائبه فأخر الدفع إليه؛ ليصرف ذلك بنفسه لأهل السهمان، فتلف المال، وفيما لو كان له أقارب أو جيران يجوز صرف الزكاة إليهم، فأخر الصرف لغيرهم؛ حتى يصرفه إليهم ويحوز الفضيلة فتلف المال قبل الصرف، والمذكور منهما في "الإبانة" في الأخيرتين عدم الضمان، وإن حكاهما في الأولى.
وقد قال الإمام بعد حكاية الوجهين عن الأئمة: إنهما مبنيان على أن التأخير بهذا السبب هل يجوز أم لا؟ فإن قلنا: يجوز، لم يضمن وإلا ضمن. ثم قال: وفيه فضل نظر عندي؛ فالوجه أن نقول: إن لم نعذره بهذا السبب عصيناه وضمناه، وإن عذرناه فأنفق فتلف المال ففي الضمان وجهان.
وهذا ما اقتصر على إيراده الغزالي، وكذا الرافعي، وقال: الأصح جواز التأخير بهذا العذر، وعلى هذا فأصح الوجهين: الضمان، لأن الإمكان حاصل، وإنما أخر لغرض نفسه فتلفت؛ [فيقيد] بشرط سلامة العاقبة عندنا إلى السؤال.
فعلى قول من لا يضمنه لم نجعل القدرة على أهل السهمان أو الإمام أو نائبه مع حضور المال تمكنا إذ لو كان تمكنا لضمن قولاً واحداً، كما سيأتي
في قسم الصدقات.
قلت: هذا هو الظاهر، لكن الإمام قال: الذي أرى القطع به: أن المعنى بالإمكان المشروط في الوجوب تصور الأداء، فأما ما يتعلق بإحراز الفضائل فلا يسوغ المصير إلى أنه شرط وجوب الزكاة على هذا القول. قال: وقد صرح بذلك الصيدلاني في آخر الباب، وليس هو مما يمارى فيه. وأبدى في جواز انتظار الأقارب ونحوهم تفصيلاً لنفسه نذكره- إن شاء الله تعالى- في قسم الصدقات.
قال: وما ينتج من النصاب أي ملكاً لمالكه بسبب ملكه النصاب في أثناء الحول يزكى بحول النصاب وإن لم يمض عليه حول أي: وإن لم يمض على النصاب حول؛ إذ لو كان مراده وإن لم يمض [على ما نتج حول] لكان ركيكاً؛ لأن ذلك معلوم من قوله: وما ينتج في أثناء الحول، والدليل على ذلك ما روي: "أن ساعياً لعمر- رضي الله عنه وهو سعد بن رستم قال له: إن هؤلاء يزعمون أنا نظلمهم فنعد عليهم السخلة ولا نأخذها منهم، فقال: اعتد عليهم بالسخلة يروح بها الراعي على يده ولا تأخذها. وكان علي- كرم الله وجهه- يعد الصغار مع الكبار، ولا مخالف لهما من الصحابة.
وفي "الحاوي": أنه عليه السلام قال لساعيه: "عد عليهم صغيرها وكبيرها"
فكان على عمومه، ولأن الحول وقت في وجوب الزكاة لأجل النماء، والسخال نماء في أنفسها فوجب أن يكون وجودها مع أصلها موجباً للزكاة كالحبوب والثمار.
فإذا ثبت هذا فاعلم أن كلام الشيخ قد اشتمل على صورتين:
إحداهما- وهي مما لا خلاف فيها عندنا-: إذا بقي النصاب إلى آخر الحول، وقد حصل منه ما يتم به نصاب آخر: كما إذا كان عنده تسع من الإبل، أو تسع وعشرون من البقر، أو مائة وعشرون من الغنم فنتجت واحدة قبل الحول، فيجب في المثال الأول والأخير شاتان، وفي الثاني مسنة.
والصورة الثانية: وهي المستفادة من قوله: "وإن لم يمض عليه حول"-: أن تموت الأمهات بجملتها أو يبقى منها دون النصاب وتمامه من السخال موجود؛ فتجب الزكاة فيه أيضاً، عملاً بما ذكرناه.
وقال أبو القاسم الأنماطي شيخ ابن سريج وتلميذ المزني: إن الحول قد انقطع بموت كل الأمهات، وكذا بموت البعض. ووافقه في الأولى دون الثانية بعض الأصحاب كما نقله ابن كج عن رواية أبي حامد، وهو المنقول عن أبي حنيفة أيضاً.
وتمسك الأنماطي لقوله بأنه ثبت لذلك حكم أمهاته إذا كن نصاباً؛ فإذا فقدن أو نقص النصاب امتنع الضم كما في الابتداء؛ [لما ذكرناه] قال الإمام وغيره: وهو غير معدود من المذهب، وقال في "المهذب": إنه ينكسر عليه بأم الولد؛ فإنه ثبت لولدها حكهما في الاستيلاد مع بقائها حتى يعتق بعتق السيد كما تعتق هي بموته، ولو ماتت قبل السيد لم يبطل ذلك الحكم في حق الولد وإن بطل في حقها.
واحتج الماوردي على بطلان الوجه الأخير بالإجماع؛ فإنه روي أن أبا بكر قال في أهل الردة: "والله لو منعوني عقالا مما أدوه إلى رسول الله لقاتلتهم
عليه"، وبإجماعنا مع أبي حنيفة على أن العناق لا يؤدى في الزكاة من مال فيه كبار؛ فثبت أن ذلك يؤدى من الصغار، وكان هذا منه بحضرة المهاجرين والأنصار، وكل رجع إلى قوله فثبت إجماعهم عليه.
أما ما نتج من دون النصاب وكمل به النصاب، فابتداء حوله مع أصله من حين نتاجه لا خلاف فيه عندنا؛ لأن الحول إنما ينعقد على نصاب، وما ينتج من النصاب غير مملوك لمالك النصاب، كما إذا أوصى لشخص بالأمهات، ولآخر بحملهن، فلا يزكى لحول النصاب، وكذا لو نتج مملوكاً لمالك النصاب لكن بسبب غير ملك الأمهات، كما لو أوصى الموصى له بالحمل لمالك الأمهات به، ومات قبل النتاج ثم حصل النتاج؛ لأنه ملك بطريق مقصود فيجعل كالمستفاد قاله في "التتمة".
وما ينتج من النصاب بعد الحول إن كان بعد التمكن من الأداء فلا يزكى للحول الأول بلا خلاف، وإن كان قبل التمكن فمن الأصحاب من قال: إن الحكم فيه كذلك، وهو الذي أورده كثيرون مستدلين به للقول الصحيح في أن التمكن شرط الضمان [لا شرط] الوجوب؛ إذ لو كان شرطاً للوجوب لكان كما ينتج في أثناء الحول، وهذا ما أورده في "الوسيط" تبعاً للإمام والقاضي الحسين في موضع من كتابه وإن قال في [موضع] آخر منه ما سنذكره.
ومنهم من حكى في ذلك قولين، وهؤلاء اختلفوا في أصلهما:
فمنهم من قال: إنهما ينبنيان على أن التمكن شرط الضمان أو الوجوب؟ فإن قلنا بالأول فالحكم كما تقدم، وإلا فكما لو نتجت قبل الحول، وينسب هذا إلى القاضي أبي حامد.
ومنهم من قال: أصلان بأنفسهما غير مبنيين على ما ذكر.
حكى الطريقين هكذا القاضي أبو الطيب وابن الصباغ والمصنف، وقالوا: عدم الضم، وقال في "الإبانة": إن قلنا: إن التمكن شرط الضمان، فهي كما لو نتجت
بعد الحول والتمكن وإلا فوجهان:
أحدهما: يضم لأنه لم يحصل وجوب الزكاة في وقت الاستفادة، فأشبه ما قبل الحول.
والثاني: لا يضم؛ لأنه استفاده في الحول الثاني؛ بدليل أن الحول الثاني إنما انعقد من وقت تمام الحول الأول.
قلت: وهذا منه يدل على أن القائل بالوجه قبله يسلم أن ابتداء الحول الثاني من وقت تمام [الحول] الأول وإلا لما كان ذلك دليلاً عليه، وليس الأمر كذلك؛ فإن القاضي الحسين قال في باب "كيفية فرض الإبل: إن من أصحابنا من قال على قولنا: إن التمكن شرط الوجوب يكون ما حصل من النتاج بعد الحول وقبل التمكن جارٍ فيه الحول الأول، وإن ابتداء الثاني من حين التمكن كما قاله مالك رحمه الله.
وما تجدد [في] ملكه من السخال بغير النتاج، بل بالبيع الشراء والإرث والاتهاب ونحو ذلك فلا يزكى بحول النصاب وإن كانت منها بلا خلاف؛ لقوله عليه السلام:"من استفاد مالاً فلا زكاة فيه حتى يحول عليه الحول" رواه الترمذي غير أنه قال: ويروى عن ابن عمر موقوفاً، وهو أصح.
ولأن الأصل اشتراط الحول للخبر، خالفناه في النتاج والأرباح لمعنى لا يوجد في غيرهما، وهو أنه من نمائه ويشق إفراده بالحول؛ فوجب أن يبقى فيما عداه على الأصل، لكن لك أن تقول: قد تقدم ما يقتضي أن عدم اشتراط الحول في السخال هو الأصل؛ فبطل هذا الاستدلال.
ثم على ما ذكرناه ماذا يجب عليه؟ هذا يظهر من قاعدة قررها الأصحاب، وهي أن [المال] المتجدد من جنس ما عنده في أثناء الحول هل يضم إلى المال الأول حتى يجعلا كالمال الواحد، أو لا؟ وللشافعي في ذلك قولان:
أحدهما- وهو القديم-: عدم الضم، ولكن ينفرد الأول بحوله والثاني بحوله،
ويجب في كل منهما ما كان يجب فيه لو اجتمعا في الحول.
والجديد: الضم، لكن أثره إنما يظهر [في المال المتجدد، وأما في المال القديم فلا، وثمرة ذلك تظهر] لك في التفريع.
وعن ابن سريج: أنه لا يضم إليه أصلاً؛ كما لا يتبعه في الحول، بل يفرد بالحول إن كان نصاباً في نفسه ويجب فيه ما كان يجب لو لم يكن له غيره.
ونقل صاحب "التتمة" وجهاً آخر: أن المتجدد لا يضم إلى المال القديم في الحال، ولا يعقد له حول من حين ملكه، فإذا تم نصاب الأول ضممنا إليه المتجدد، وانعقد الحول عليهما من ذلك الوقت؛ حتى لا يؤدي إلى تبعيض ملك الواحد، على ما نذكره في التفريع.
وقد حكاه الرافعي عن بعض الشروح في بعض الصور، وقال: إنه يطرد في غيرها.
فإذا عرفت ذلك نظرت: فإن لم يكن المتجدد نصاباً في نفسه لو انفرد، ولا يكمل به النصاب كما لو كان عنده خمس من الإبل ستة أشهر مثلاً، ثم ملك أربعاً منها أو ثلاثين من البقر، ثم ملك تسعاً [منها أو] أربعين من الغنم، ثم ملك عشرة منها- قال الأصحاب: لم يكن بهذه الزيادة حكم بحال.
قلت: وقد يقال: إذا قلنا بالقول القديم الذي تقدمت حكايته، وأن فرض النصاب يتعلق بالجميع- أن يكون لها أثر في الضمان على تقدير تلف البعض، وإن لم يكن لها أثر في [الضمان على تقدير] وجوب شيء.
وإن كان المتجدد ليس بنصاب في نفسه لو انفرد، لكنه يكمل به نصاب آخر، كما إذا كان قد ملك غرة المحرم ثلاثين من البقر مثلاً، ثم ملك بعد ستة أشهر عشرة منها فعلى قياس القول القديم: تجب في الثلاثين عند تمام حولها ثلاثة أرباع مسنة [وفي العشرة المتجددة عند تمام حولها وهو بعد مضي سنة: ربع مسنة] والمنقول: أن الواجب فيها إذا تم الحول على الأول تبيع، وإذا تم حول العشرة وجب ربع مسنة.
قال القاضي أبو الطيب: ولا يختلف المذهب في ذلك، وهذا هو مقتضى التفريع على الجديد؛ لأن الثلاثين لم يثبت لها حكم الخلطة مع [العشرة في] حول كامل فانفردت بحكمها، والواجب فيها تبيع، ويجب [في حول العشرة] ربع مسنة؛ لأنه يثبت لها حكم الخلطة في حول كامل؛ فوجب فيها بالقسط، والواجب في الأربعين مسنة، فيخص العشرة ربعها ويجب إخراج ذلك كذلك [وهكذا الحكم في كل مسنة] كما صرح به القاضي الحسين.
ثم قال: فإن قيل: كيف توجبون على رأس كل حول ثلاثة أرباع مسنة، وعلى كل حول العشرة ربع مسنة، وذلك إيجاب للشقص، ولا مدخل لإيجاب الشقص [في الزكاة؛ ألا ترى أنه لا يجب في خمس من الإبل خمس بعير؟
قلنا: ليس هذا بإيجاب الشقص، وإنما هو إيجاب الكامل متفرقاً على الشهور في سنة واحدة] وإنما الإضرار برب المال والمساكين في إيجاب الشقص رأس كل سنة، [وإيجاب] خمس البعير عن الخمس منه انتهى.
قال ابن الصباغ: وما ذكرناه- يعني في إيحاب ربع المسنة في العشر- إنما يتصور على القول الذي يقول: إن الزكاة تتعلق بالذمة، ولم يخرج منها فأما إذا قلنا: إنها استحقاق جزء من العين، أو قلنا: هي في الذمة فأخرج منها قبل تمام الحول الزيادة- لم يجب في الزيادة شيء؛ لأنه لا يتم بها نصاب. انتهى.
وعلى قياس مذهب ابن سريج، وبه صرح: أنه لا يجب في العشرة في السنة الأولى شيء، وإن أخرج الزكاة من غيرها وقلنا: إنها تجب في الذمة؛ لنقصها عن النصاب. نعم، إذا انقضى حول الثلاثين انعقد الآن الحول على الأربعين؛ فيجب فيها عند انقضائه مسنة، وعلى الوجه الآخر الذي حكاه في "التتمة" لا يخفى التفريع.
ولو كان المستفاد نصاباً في نفسه لو انفرد، لكنه لا يبلغ مع الأول نصاباً ثانياً، وذلك يفرض في الغنم، مثل أن يكون قد ملك غرة المحرم أربعين منها، ثم بعد ستة أشهر ملك أربعين- فقياس القديم: أنه يجب عليه عند تمام حول الأولى نصف شاة [وعند تمام حول الثانية نصف شاة، وقد حكاه الإمام والقاضي أبو
الطيب، وقياس الجديد: أنه يجب عليه عند تمام حول الأولى شاة] وبه صرح في "المهذب" وغيره، وحكى فيما إذا تم حول الثانية ثلاثة أوجه، حكاها الماوردي وأبو الطيب والبندنيجي أيضاً:
أحدها: أنه يجب فيها أيضاً شاة؛ لأنها منفردة بحولها فانفردت بحكمها وهذا قياس ابن سريج.
والثاني يجب فيها نصف شاة؛ لوجود الخلطة فيها، وهذا قياس القول الجديد.
والثالث- وهو أصحها كما قال تبعاً لصاحب "الإفصاح"-: أنه لا [يجب] شيء فيها، وقال أبو الطيب وابن الصباغ: إنه الأقيس.
قلت: وهذا والذي قبله قد يقال بأنه يمكن بناؤهما على أن الوقص هل يتعلق به [الوجوب أم لا؟ فإن قلنا: يتعلق به] وجب نصف شاة، وإلا فلا شيء فيها، وقياس الوجه الآخر غير خاف على من عرفه، وقد صرح به في "التتمة" حيث قال: إذا ملك خمسين من الإبل، فلما مضى من الحول ستة أشهر استفاد عشرة فإذا تم حول الخمسين وجب عليه في ظاهر المذهب حقة، وأما العشرة التي استفادها فإن قلنا الوقص عفو، فلا شيء فيها، وإلا وجب فيها سدس حقة.
ولو زاد ملكه على الثمانين، بأن ملك أربعين أول المحرم وأربعين أول صفر، وأربعين أول ربيع الأول- فالمحكي عن القديم وهو قياسه أنه يكون في الجميع شاة في كل أربعين ثلثها، والجديد: أنه يجب في الأولى شاة عند تمام حولها، وفي الأربعين الثانية والثالثة وجهان حكاهما الماوردي عن رواية ابن سريج:
أحدهما: تجب في كل أربعين عند تمام حولها شاة، وهو قياس مذهب ابن سريج الذي تقدمت حكايته؛ ولأجل ذلك نسبه القاضي الحسين والمتولي إلى ابن سريج نفسه.
والثاني: تجب في الأربعين الثانية نصف شاة، وفي الأربعين الثالثة ثلث شاة، وهو قياس الجديد إن قلنا: إن فرض النصاب يتعلق بالجميع، ولأجله قال القاضي الحسين: إنه مذهب الشافعي.
ثم وجوب النصف في السنة الأولى عن الأربعين الثانية على هذا- كما قال الماوردي- إذا كان قد أخرج الزكاة من غير المال، وقلنا: الزكاة في الذمة، فإن أخرجها من المال أو قيل: إنها في العين، فعليه أربعون جزءاً من تسعة وسبعين جزءاً من شاة، [ووجوب الثلث في الأربعين الثالثة- كما قال الماوردي والقاضي الحسين والمتولي- إذا كان قد أخرج زكاة المالين من غيرهما، وقيل: إن الزكاة في الذمة، فإن كان قد أخرجها من المالين، أو قيل: إنها في العين- فعليه أربعون جزءاً من مائة شاة، وثمانية عشر جزءاً ونصف جزء من شاة].
قال القاضي: إلا شيئاً قليلاً، فينظر كم المؤدى في الزكاة في الدفعتين، فيحط ذلك عن مائة وعشرين، فما يبقى أضيف إليه أربعون جزءاً فيقال:[يجب] أربعون جزءاً من كذا وكذا.
وقياس [الوجه] الثالث في المسألة قبلها الذي صححه في "المهذب"، وقلنا: إنه يمكن بناؤه على أن الوقص لا يتعلق به شيء: ألا يجب في الأربعين الثانية والثالثة عند تمام حولهما شيء، وبه صرح الماوردي فيها واختاره في "المرشد" ولا يقال: إنه عن القول القديم الذي تقدمت حكايته؛ لأن على القديم نجعل الواجب شاة، في كل أربعين ثلثها، وعلى هذا الوجه الشاة مقابلة الأربعين الأولى.
وفائدة الاختلاف تظهر عند التلف [بعد الحول] وقبل التمكن من الأداء، وفي جواز التصرف في المال.
وحكى الماوردي وجهاً رابعاً في المسألة: أنه إن خلط الجميع وسامها في مرعى واحد كانت تبعاً، وإن فرقها فلكل واحد حكم نفسه، وإذا تأملت ما أوضحناه قست عليه ما عداه كما هو في معناه.
تنبيه: قوله: "ينتج من النصاب" هو بضم أوله وفتح ثالثه، معناه: يولد، يقال: نتجت الشاة والناقة- بضم النون وكسر التاء- تنتج نتاجاً: ولدت، وقد نتجها
أهلها بفتح النون.
قال: وإن باع النصاب في أثناء الحول، أي: ولو بمثله، لا لقصد التجارة، وقلنا: إن الملك للمشتري- انقطع الحول؛ لما روي [عن] ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول عند ربه" كذا حكاه في "الحاوي" ووجه الدلالة منه: أنه علق الزكاة بتمام الحول عند ربه، ولم تتحقق، أما إذا قلنا: إن الملك للبائع في زمن الخيار، وتم العقد- فإن انقطاع الحول يكون بانقطاع الخيار، وإن انفسخ العقد أو فسخ لم ينقطع أصلاً، صرح به الرافعي. ثم حيث قلنا: إنه ينقطع بالبيع، فلا فرق بين أن يكون قد فعله لحاجة أو لأجل الفرار من الزكاة؛ لعموم الخبر.
قال الشافعي: لأن الزكاة إنما تجب بالملك والحول لا بالفرار.
قال القاضي الحسين: معناه: أن مجرد الفرار لا يوجب الصدقة بالإجماع، وقصد الشافعي بما ذكره الرد على مالك حيث قال: لا ينقطع الحول وتجب الزكاة، كما لو طلق زوجته في المرض.
وأصحابنا قالوا: إن سلمنا أن المطلقة في المرض ترث فالفرق: أن حق الورثة يتعلق المال في مرض الموت؛ بدليل منعه من التبرعات فيما زاد على الثلث، وحق الفقراء إنما يتعلق بعد الحول؛ فنظيره تطليقها في الصحة.
وقد حكى الرافعي عن المسعودي أنه أشار إلى أنه إذا عاد إلى ملكه يبني ولا يستأنف، ونقل القاضي ابن كج أنه إذا باع وقد قرب الحول؛ فراراً من الزكاة أخذت منه الزكاة، قال: وهذا يوهم الاكتفاء بما مضى من الحول.
والمشهور الأول، وما ذكره الرافعي عمن ذكرناه فالذي يظهر لي أنه قال عنهما حكاية لمذهب مالك، لا أنه في مذهبنا؛ لأنه ذكره عقيب ذكره مذهب مالك واستقصاء له عن مأخذه، ويؤيد ذلك أنه عند ذكره ما تقدم لم يذكره.
وحكم بيع بعض النصاب في أثناء الحول بما لا يثبت خلطة بينه وبين غيره، حكم بيع الجميع، وكذا أثلاث المجموع، والبعض.
نعم، لو كان البيع يثبت بشركة كما إذا كان له أربعون من الغنم ملكها أول
المحرم، ولآخر مثله، وقد ملكها في أول المحرم أيضاً، فباع أحدهما نصف غنمه بنصف غنم الآخر فإنه ينقطع الحول فيما تبايعاه قولاً واحداً، وما لم يتبايعاه، هل ينقطع فيه الحول؟ فيه طريقان في "المهذب" و"تعليق" أبي الطيب وغيرهما:
إحداهما: لا ينقطع قولاً واحداً، وبها قال أبو إسحاق وغيره، وهي الصحيحة.
والثانية: أن في انقطاعه قولين، فإن قلنا: لا ينقطع، فماذا يجب عليه؟ فيه كلام سنذكره، إن شاء الله تعالى.
قال: وإن مات ففيه قولان:
أصحهما: أنه ينقطع؛ لأن ملك الميت قد زال وتلقاه الوارث عنه؛ فأشبه ما لو انتقل إليه بالبيع ونحوه، وهذا ما صححه عن الشيخ أيضاً وبه جزم في الوجيز، ويحكى عن أبي إسحاق القطع به، والمنع من إثبات قول آخر في المسألة.
قال: والثاني: أن الوارث يبني على حول الموروث، لأن من ورث مالا ورثه بحقوقه التي عليه وله، أصله: الشفعة والرهن والرد بالعيب؛ فإن الشفعة قد تكون حقاً على [المال كما] إذا ورث شقصاً للغير فيه شفعة، وقد يكون حقاً له: كما إذا ورث شقصاً ثبت لمورثه بسببه الشفعة في شقص آخر؛ فإن الحقين لا يسقطان بالموت، والوجهان يفرضان هكذا في الرهن والرد بالعيب، هذا ما حكى عن القديم.
والقائلون بالأول- وهو المعزي للجديد- قالوا: لا تعلق للحق بالمال قبل تمام الحول؛ فلم يمت ربه وقد تعلق به حق، بخلاف ما قيس عليه فإن الحق كان قد تعلق فلم يبطل بالموت.
التفريع: إن قلنا بالأول فالحكم كما قلنا إذا ملك الشخص مالا مبتدأ بالاتهاب ونحوه، ولا يخفى حكمه. نعم، قال الأصحاب: لو كان معداً للتجارة لم ينعقد عليه الحول عند انتقاله إلى الوارث ما لم يتصرف فيه بنية التجارة. ولو كان سائمة، ولم يعلم الوارث الحال حتى تم حول فهل تجب الزكاة أم يبتدئ
الحول من يوم علم؟
قال الرافعي: فيه خلاف مبني على أن قصد السوم هل يعتبر أم لا؟
قلت: وإذا كان مأخذ [اعتبار] استئناف الحول قصد السوم، فينبغي أن يقال: هل تجب الزكاة أم يبتدئ الحول من حين قصده السوم لأن إذا علم بالحال قد لا يقصد السوم فلم يوجد الشرط، وإن قلنا بالثاني نظر: فإن تعدد الوارث، وبلغ نصيب كل منهم نصاباً وجبت الزكاة في آخر الحول وكذا إن كان دون النصاب وكان ماشية أو غير ماشية، وقلنا بتأثير الخلطة فيه، ولم يقسموا أما إذا قلنا: لا تأثير للخلطة فيه، انقطع الحول، قال العجلي: ويحتمل أن يقال: نجعل الورثة كالشخص الواحد وكأنهم عين المتوفى، ونستديم ذلك في حقهم في هذه الصورة ولا يبعد إثبات الخلطة في هذه الصورة على الخصوص؛ كما لا يبعد استدامة الحول مع انقطاع الملك وتجدده.
ولو ارتد في أثناء الحول، ثم عاد إلى الإسلام- فقد تقدم حكمه-.
قال الشيخ رحمه الله: وأول نصاب الإبل خمس، بدأ الشيخ من المواشي بالإبل؛ اتباعاً للشافعي، والشافعي بدأ بها؛ اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه بدأ بها في أكثر الكتب التي كتبها للسعاة، ومنها ما سنذكره، والمعنى فيه أنها كانت أعم أموالهم ويصعب ضبطها؛ فبدأ بها لنفع الغاية بها؛ ولهذا المعنى كتب النبي صلى الله عليه وسلم نصب المواشي وواجبها في صحيفة، وتركها في قراب سيفه ولم يكتب ما عداها من فروض الصلاة ومواقيتها، والصوم وأحكامه، والحج ومناسكه، بل اقتصر على القول في ذلك.
ونصب الإبل أحد عشر: أربعة منها يجب فيها غير الجنس، ويتغير الفرض فيها بزيادة [السن لا غير] وأربعة [منها يجب] فيها الجنس، ويتغير الفرض فيها بزيادة العدد لا غير، والثلاثة الباقية يجب فيها الجنس ويتغير الفرض فيها بزيادة العدد.
والدليل على أن أول نصاب الإبل خمس- مع ما يفهمه ما سنذكره من كتاب
أنس- ما روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة".
قال القاضي الحسين: وهو مما لا خلاف فيه بين الأئمة.
قال: فتجب فيه شاة، وفي عشر شاتان، وفي خمس عشرة ثلاث شياه، وفي عشرين أربع شياه، الأصل في ذلك عند الشافعي: رواية أنس وابن عمر رضي الله عنهما:
فرواية أنس أن أبا بكر الصديق- رضي الله عنه كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين، التي أمر الله بها رسوله، فمن سألها من المسلمين على وجهها فليعطها، ومن سأل فوقها فلا يعط في أربع وعشرين من الإبل فما دونها الغنم في كل خمس شاة فإذا بلغت خمساً وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض أنثى، فإذا بلغت ستاً وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها ابنة لبون أنثى، فإذا بلغت ستاً وأربعين إلى ستين ففيها حقة طروقة الجمل فإذا بلغت إحدى وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة، فإذا بلغت ستاً وسبعين إلى تسعين ففيها بنتا لبون فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان طروقتا الجمل، فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة. ومن لم يكن عنده إلا أربع من الإبل فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها، فإذا بلغت خمساً من الإبل ففيها شاة" أخرجه البخاري مقطعاً في
مواضع من كتابه مع زيادة فيه نذكرها في مواضع الحاجة إليها- إن شاء الله تعالى- وأخرجه أبو داود بكماله وإن اختلفت بعض ألفاظه ووجدت فيه زيادة سنذكرها.
ورواية ابن عمر كما قال الشافعي في "الأم": أخبرنا أنس بن عياض عن موسى بن عتبة عن نافع عن عبد الله بن عمر: "إن هذا كتاب الصدقة" فذكر نحوه وزاد فيه: "فقال في آخره: هذه نسخة كتاب عمر بن الخطاب" وحكى المعنى من أوله إلى قوله: "ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة"، وهذا نص في المدعى.
قال أصحابنا: وإنما أخذ الشافعي برواية المذكورين دون رواية علي وعمرو بن حزم، وإن كان قد روياها مستوفاة أيضاً؛ لثلاثة أمور:
أحدها: أنهما أصح إسناداً.
والثاني: أن كليهما ذكر من طريقين ثابتين، بخلاف ما عداهما.
والثالث: أنهما معمول بهما بخلاف ما رواه غيرهما؛ فإن فيه ما اتفق على ترك العمل به، وهو أن الواجب في خمس وعشرين من الإبل خمس شياه.
فإن قيل: حديث أبي سعيد الخدري السابق يقتضي نفي الوجوب في الخمس والعشر من الإبل؛ لأنه أضاف "الخمس" إلى "الذود"، والذود- بفتح الذال المعجمة وسكون الواو وبعدها دال مهملة: هو ما بين الثلاثة إلى التسعة، وقيل: ما بين الثلاث والعشر، والخمس منه أقلها على التفسير الأول: خمسة عشر، فدونها دون الخمسة عشر، وإذا كان كذلك فقد عارض حديث أنس وابن عمر.
فجوابه: أن منهم من [رواه]"خمس ذود" بالتنوين على البدل لا على الإضافة، وعلى هذا اندفع السؤال. ومن رواه على الإضافة قال: الحديث دال على جواز استعماله في الواحد، أو هو دال على الجمع، والجمع إذا وقع مميزاً لا يقتضي زيادة على العدد المذكور ويشهد لذلك قوله:"وعلى خمسة دراهم" فإن دراهم جمع ولا يقتضي لفظه أكثر من خمسة منها، والله أعلم.
وقد تكلم أصحابنا في تفسير بعض ألفاظ الخبر، فقالوا:
قوله: "هذه فريضة الصدقة" أي هذه نسخة فريضة الصدقة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان كتبها في نسخة ووضعها في قراب سيفه، فلما توفي وعاد الأمر لأبي بكر أخذها من قراب سيفه، وكان يعمل عليها مدة حياته، ثم مات فعمل بها عمر بعده مدة حياته، كذا نقله الماوردي، ونقل القاضي الحسين أن أبا بكر كان قد استنسخ كتاب أنس من كتاب كتبه له النبي صلى الله عليه وسلم وعليه خاتمه وكان في صدره مكتوباً:"هذه الصدقة" فهذه ترجمة الكتاب وعنوانه مثل أن يكتب على ظهر محضر أو سجل: هذا محضر فلان.
وقوله: التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، قيل: يحتمل أن يكون المراد: التي قدرها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يقال في "فرض القاضي النفقة": أي قدرها. وهذا ما جزم به الصيدلاني، ولم يورد الماوردي غيره.
وقيل: يحتمل أن يكون المراد: التي أوجبها، وهو قول المسعودي.
والاحتمالان أوردهما ابن الصباغ.
وقوله: التي أمر الله بها رسوله إشارة إلى قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} الآية [التوبة: 103].
وقوله: "فمن سأل فوقها فلا يعط" قيل: معناه: فلا يعط شيئاً؛ لأنه إذا طلب ما لا يستحق بطلت أمانته قال الماوردي: وعلى هذا لا يجب الدفع إليه.
وقيل: فلا يعط الزائد، وهو الأصح في "الشامل"، وفي "تعليق" القاضي الحسين وقال: إن مقابله مذهب المعتزلة في أن الولي ينعزل بالجور، ومذهب أهل الحق: أنه لا ينعزل، قال الماوردي: وهذا إذا طلب الزائد بغير تأويل، فإن كان يتأول مثل أن طلب الكبيرة عن الصغار تعين الثاني.
تنبيه: قول الشيخ: "وفي عشر شاتان" إلى قوله: "وفي عشرين أربع شياه" يظهر أنه ليس على معنى أن الشاتين في العشر والشاة في الخمسة عشر والعشرين وجب مجموعها في مقابلة المجموع والجزء في مقابلة الجزء حتى لو تلفت واحدة من العشر بعد الحول وقبل التمكن، وقلنا: إن التمكن شرط الضمان،
يسقط ما في مقابلها من الشاتين أو الشاة، حتى لو كان المال عشراً سسقط عشر الشاتين، ويكون الواجب تسعة أعشارها، بل بمعنى أن في كل خمس [من ذلك] شاة، حتى لو تلفت من العشر كما ذكرت واحدة نقول: سقط عنه خمس شاة، ووجب عليه شاة وأربعة أخماس شاة، ويدل عليه من قول الأصحاب ما قاله الإمام من بعد: أن المشايخ قالوا: إذا ملك نصابين فواجب كل نصاب منحصر فيه، وزعموا أن هذا متفق عليه، ويشهد له من السنة ما تقدم ذكره من رواية أنس عن كتاب أبي بكر، وأصرح منه ما رواه أبو داود في الخبر المذكور وهو قوله:"فيما دون خمس وعشرين من الإبل في كل خمس ذود شاة".
ويجيء في المسألة وجه آخر من قول الإصطخري، فيما إذا ملك أربعمائة من الإبل: أنه لا يجزئه إلا ثمان حقاق أو عشر بنات لبون؛ لأنه جعل المجموع شيئاً واحداً، وجعل الواجب في مقابلته؛ إذ لو كان لكل شيء منه حكم عنده لقال بما قال به أئمة المذهب كما سنذكره-: إنه يجزئه أربع حقاق وخمس بنات لبون، وهذا لا يتجه غيره فيما إذا وجب عليه بنتا لبون وحقتان.
ثم اعلم أن الأصحاب قالوا: إيجاب الشرع الشاة في الخمس على خلاف قاعدة الزكاة شرعها رفقاً بأرباب الأموال؛ لأنه لو أوجب فيها بعيراً لأضر بهم، ولو أوجب فيها خمساً- كما هو القياس حيث أوجب في خمس وعشرين- لأضر بالفريقين لعسر المشاركة والتشقيص فجمع بإيجاب الشاة فيها بين المصلحتين، ونفي كلا من الضررين.
نعم، هل أوجبها أصلاً بنفسها أو بدلاً عن خمس البعير المجزئ في خمس وعشرين؟ فيه وجهان لأصحابنا، وادعى الإمام أن الثاني منهما لا يناسب مذهب الشافعي، وقد غلط من ظن ذلك من قول بعض الأصحاب إنه يشترط ألا تنقص قيمة البعير المخرج مكان الشاة عن قيمة شاة مجزئة، ولهذا الاختلاف أثر يظهر لك من بعد.
قال: فإن أخرج منها بعيراً قبل منه؛ لأنه إذا أجزأ عن خمس وعشرين فما
دونها وهو بعضها أولى، وهذه الدلالة تسمى دلالة فحوى الخطاب ومنها قوله تعالى:{فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] فكان النهي عن الضرر من طريق الأولى.
ثم ظاهر كلام الشيخ أن الضمير في قوله "منها" يعود إلى العشرين، وبه صرح في "المهذب"، وإذا كان كذلك كان مقتضاه قبوله فيما دون ذلك من طريق الأولى؛ عملاً بما ذكرناه، وقد حكى الأصحاب من الطريقين وجهاً آخر: أنه لا يجزئه من العشرين إلا أربعة أبعرة، أو ثلاثة أبعرة وشاة، أو بعيران وشاتان، أو بعير وثلاث شياه، وكذا لا يجزئه في الخمسة عشر إلا ثلاثة أبعرة، أو بعيران وشاة، أو بعير وشاتان [وفي العشر بعيران أو بعير وشاة].
وبعضهم بناه على أصل مقصود في نفسه، وهو أنه إذا أخرجه عن الخمس أجزأه بلا خلاف، لكن ما الواجب فيه: هل كله أو خمسه؟ وفيه قولان أو وجهان مذكوران في الطريقين، قال القاضي الحسين- وتبعه البغوي-: إنهما مبنيان على أن الشاة وجبت أصلاً [أو بدلاً عن خمس؟ يعني: وفيه الخلاف السابق: فإن قلنا: وجبت أصلاً] فالواجب كله، وإلا فخمسه فإن قلنا إن الواجب كله لم يجزئه البعير الواحد عن العشرين ولا عن [العشرة؛ بل لا بد معه مما ذكرناه، وإن قلنا: إن الواجب خمسه، أجزأه عن] العشرين فما دونها.
وهذا البناء يقتضي أن يكون الراجح عند أئمة المذهب: عدم الإجزاء؛ لأن الراجح عندهم أن الواجب كله كما ذكره ابن الصباغ والبغوي وصاحب "المرشد" وإن كان الإمام قد قال: إنه غير مرضي عندي، والراجح بالاتفاق: الإجزاء ومن ذكره وأشعر إيراده بأنه لا خلاف فيه، وقال الإمام: الوجه القطع به، ومن حاد عن اعتبار الأولى من طريق الفحوى فقد ضل عن سواء طريقه ضلالاً بعيداً.
قال الرافعي: [من وجوه] الإشكال في البناء أن يقال: لم يلزم من كون كله فرضاً إذا أخرجه [عن هذا، إن أخرج] عن خمس ألا يكتفي به عن العشر؛ بل يجوز أن يكون كله فرضاً إذا أخرج عن هذا، وفرضاً إذا أخرج عن ذلك؛ ألا
ترى أنه يقع فرضاً يكتفى به عن الخمس والعشرين، مع الحكم بأن كله فرض إذا أخرج عن الخمس، وكذا البدنة ضحية واحدة إذا ضحى بها وهي بعينها ضحية سبع إذا اشتركوا فيها.
ثم الوجهان في أن الواجب من البعير عند إخراجه موضع الشاة كله أو خمسه مشبهان عند العراقيين والماوردي بما لو نذر التضحية بشاة، فضحى ببدنة أو بقرة، أو أخرج المتمتع بدنة أو بقرة، فالبدنة تقع فرضاً، أو الفرض مقدار السبع والباقي تطوع؟ وفيه خلاف وقال الإمام: إن هذا ذلك؛ فإن من أراد الاقتصار على سبع بدنة بدلاً من الشاة في الأضحية ونحوها جاز له ذلك، ولو أراد المزكي إخراج خمس البعير فقط لم يجزئه بلا خلاف، بل الشرط عند من قال إن الواجب خمسه التبرع بالباقي؛ لزوال عيب التشقيص على الفقراء؛ فالوجه: القطع بأن الزيادة على السبع تطوع في الضحايا، وإن ثبت فيه خلاف فهو شبيه بما تقدم ذكره من أن من استوعب الرأس بالمسح فهل يقع بالكل فرضاً أم لا؟ والأصح أن الفرض قدر الاسم، إذ يجوز الاقتصار عليه كما في السبع من البدنة في التضحية.
والمراد بالبعير هنا: ما يجزئ في الخمس والعشرين، وإن كان لغة يطلق على الذكر والأنثى؛ لأنه اسم جنس؛ فيكون الشيخ قد أتى بمطلق وأراد به مقيداً، وذلك جائز ويقال في جمعه: أبعرة، وأباعر، وبعران، وقد اقتضى كلام الشيخ أنه إذا أخرجه عن الخمس أجزأه، سواء كانت قيمته أكثر من قيمة الشاة أو مثلها أو دونها، وهو ما ادعى في "التهذيب" أنه المذهب، سواء كان النقص بسبب عيب فيها أو لرداءة جنسها، وهو ما ادعى الإمام قطع الأئمة به إذا كان سبب التفاوت عزة الغنم؛ إذ علمنا أن سبب العدول إلى جنس الغنم الترفه والتخفيف، [فلا التفات إلى] سبق على ندور.
وفي "الإبانة" أن القفال روى عن الشافعي أنه لا يجزئه في حال النقص، وأن سائر الأصحاب أنكروه عليه، وقالوا: لا يجوز. ولم يوجد للشافعي هذا؛ لأن ما يجوز أداؤه في الزكاة لا تراعى قيمته بحال، وقال الإمام: إن شيخه رواه ولم يعزه إلى القفال، والمحكي في "تعليق" القاضي الحسين: أن إبله إن كانت مراضا أو
قليلة القيمة لعيب فيها، فأعطى واحدة منها مكان شاة، وقيمتها أقل من قيمة الشاة - فالذي نص عليه أي في "المختصر": أنه يجوز، وهو الذي أورده ابن الصباغ وصاحب "البحر"، وزاد محكياً عن نصه في "الأم": أنها لو كانت متباينة في المرض، فأعطى أردأها وأدونها قبل منه، قال القاضي: والذي نص عليه فيما إذا كانت له خمسة صحاح رديئة الجنس، فأعطى واحدة منها مكان شاة، لا يقبل إلا أن تساوي شاة فمن أصحابنا من فرق بين النصين بأنه: إذا أعطى واحدة من الصحاح فهو يعتقد التطوع، وأقل ما في التطوع ألا ينقص ما أدى عن الأصل وهو الشاة، وفي المراض هو غير متطوع؛ وإنما يعطي البعير مكان أداء شاة للضرورة على اعتقاد أن الواجب عليه ذلك؛ فلا حاجة إلى اعتبار القيمة، وهذا الفرق هو قول القفال كما قاله في "البحر" قال القاضي: والصحيح أن في المسألتين قولين بالنقل والتخريج، والقولان مبنيان على أصل مستنبط من هذا الفرع، وهو أن الواجب في الأصل شاة أو خمس بعير فعلى الأولى يجزئ، وعلى الثاني: لا، وقد قال في "التتمة" إن القول بعدم الإجزاء فيما إذا كانت معينة قد قال به ابن سريج، وإنه قيل: إنه منصوص عليه في "الكبير".
وإذا اختصرت ما ذكرناه جاءك في المسألة ثلاثة أقوال، ثالثها: إن كانت إبله صحاحاً فلا يجزئ، وإلا أجزأ.
ولو أخرج قيمة الشاة حيث لم يجد جنس الشاة أصلاً، فقد حكى الإمام عند الكلام فيما إذا اجتمع فرضان في نصاب عن صاحب "التقريب" أنه يؤخذ منه ذلك، وأنه حكى الوفاق في ذلك، والسبب فيه: أن الشاة في وضعها خارجة عن جنس المال؛ فاحتمل في ذلك قيمة الشاة عند الضرورة، والله أعلم.
قال: ويجزئ في شاتها الجذع من الضأن وهو ماله ستة أشهر، والثني من المعز، وهو الذي له سنة.
هذا الفصل نظم أمرين:
أحدهما: إجزاء الجذع من الضأن والثني من المعز فيها، ذكراً كان أو أنثى.
الثاني: بيان سن ذلك.
فالأول: الإجزاء.
والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "في كل خمس شاة" وهي تطلق لغة على الواحد من الضأن أو المعز ذكراً كان أو أنثى ومختصة في عرف الشرع من الأضاحي ودماء الجبرانات بالجذع من الضأن والثني من المعز؛ فنزلت عليه كما نزلناها على ما يجزئ في الأضاحي، وإن أبعد بعض أصحابنا فقال: يجزئ فيها كل ما يطلق عليه اسم "شاة" وإن لم يجزئ في الأضاحي.
وقيل: لا يجزئ فيها إلا الجذعة أو الثنية، لما روى سويد بن غفلة قال: أتانا مصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "نهينا عن أخذ المراضع وأمرنا أن نأخذ جذعة من الضأن أو الثنية من المعز"، ولأنه عليه السلام أطلق الشاة هنا، وقيدها في الأربعين من الغنم، فحملنا المطلقة على المقيدة، ولو انتفي هذا لأثبتنا هذا الحكم بالقياس عليها.
وهذا الخلاف مذكور في كتب الأصحاب وجهين، ونسبوا الأول منهما إلى أبي إسحاق، وادعى البندنيجي أنه المذهب، وقد اختلف في محلهما على طريقين حكاهما المتولي:
أشهرهما- وهي المذكورة في "التهذيب" و"تعليق" البندنيجي-: جريانهما فيما إذا كانت الإبل ذكوراً أو إناثاً.
والثانية: إن كانت إبله أو بعضها إناثاً لا يجزئ إخراج الذكر.
والوجهان مخصوصان بما إذا كانت كلها ذكوراً، أو إنهما مبنيان على أن الشاة
المخرجة أصل بنفسها أم بدل عن الإبل؟ فإن قلنا: بدل جاز إخراج الذكر؛ كما لو أخرج عنها بعيراً ذكراً يجزئه وإن قلنا: أصل لم يجز؛ جرياً على الأصل المعتبر في الزكوات، وهو كون المخرج أنثى.
قلت: وهذا البناء يقتضي أنه لا فرق في جريان الوجهين بين أن تكون الإبل كلها ذكورا أو ذكورا وإناثاً، لأن إخراج الذكر منها بدلاً جائز كما ستعرفه، وقد حكى الماوردي الوجهين مطلقين ثم قال: وذهب بعض متأخري أصحابنا البصريين إلى أن الإبل إن كانت إناثاً لم يجزئ فيها إلا الأنثى، وإن كانت ذكوراً أجزأ الذكر والأنثى؛ اعتباراً بوصف المال كما يؤخذ من الكرام كريم، ومن اللئام لئيم.
ثم ظاهر كلام الشيخ والخبر إجزاء الجذع من الضأن والثنية من المعز كيف كان الحال ولأنه أطلق ذكر الإجزاء ولم يخصه بحال، والإطلاق يصدق عليهما لغة وشرعاً بدليل الأضحية ودماء الجبرانات، وإذا كان كذلك اقتضى التخيير فيهما، وهو الذي حكاه البندنيجي والماوردي وابن الصباغ والمتولي، وقال ابن الصباغ: وهذا بخلاف الشاة المخرجة عن الأربعين؛ فإنه عليه السلام عينها منهما.
ولا فرق عند هؤلاء بين أن يكون النوعان في البلد مستويين. أو أحدهما أغلب، نعم لو كان الغالب في البلد نوعاً من المخرج، كما إذا كان فيها غنم مكية وشامية وبغدادية- تعين الأغلب كما في زكاة الفطر قاله ابن الصباغ والبندنيجي والماوردي، فلو أخرج غير الأغلب لم يجزئه إلا أن يكون مثل الأغلب أو خيراً منه، وعلى ذلك ينطبق قول الشافعي في "الأم": إن كان في بلده جنس من الغنم، فجاء بجنس آخر فإن كان مثله في القيمة أو خيراً منه أجزأه، وإن كان دونه لم يجزئه.
وحكى في "التتمة" في هذه الصورة وجهين:
[أحدهما: نعم، وكما لا يعتبر غالب غنم البلد ضأناً ومعزاً؛ فكذلك لا يعتبر نوعها مكية وشامية.
والثاني: لا يجزئه، قال: وليس بصحيح].
والذي حكاه في "المهذب": أن الواجب عليه من غنم البلد إن كان ضأناً فمن الضأن، وإن كان معزاً فمن المعز، وإن كان منهما فمن الغالب كما في زكاة الفطر [منه] وإن كانا سواء جاز من أيهما شاء، وهو في ذلك متبع للقاضي أبي الطيب.
وإذا جمعت ذلك جاءك في المسألة وجهان أو وجه وقول، والذي نسبه الإمام إلى العراقيين منهما الثاني، وإن صاحب التقريب ذكر نصاً عن الشافعي موافقاً له، ونسب نقله إلى المزني وغلطه في النقل [وأنه نقل] نصوصاً مخالفة لذلك، متضمنها: أنه يخرج شاة من أي نوع كان جذعة من الضأن أو ثنية من المعز، ولا نظر إلى غنم البلد.
قال: والذي ذكره صاحب "التقريب" في نهاية الحسن، لأن الشاة وجبت فيه مطلقة في الذمة؛ فاعتبر اسم الشاة، ولا يتخصص لفظ الشارع بالعرف على مذهب المحققين في الأصول، ودليله الشاة في الأضحية، وبذلك يتحقق في المسألة قولان.
قال الإمام: وقد ذكر بعض الضعفة وجها: أنه يخرج الشاة من نوع غنمه إن كان يملك غنماً، اعتباراً بإبل العاقلة؛ فإنا في طريقه نقول: يخرج كل غارم من العاقلة من إبله إذا كان يملك إبلاً، وهذا لا يعد من المذهب؛ بل هو هفوة.
قلت: وهذا الوجه ظاهر لفظه في "المختصر" يدل عليه؛ فإنه قال فيه: فإن كانت غنمه معزاً فثنية أو ضأناً فجذعة ولا نظر إلى الأغلب في البلد.
فرع: قد ذكرنا أن إبله إذا كانت كراماً وجب من الغنم كريم، وإن كانت لئاماً فلئيم، وأنه لا يجزئ فيها إخراج المعيب، على المذهب في حال سلامة الإبل، ولو كانت معيبة أو مراضاً فلا يجزئ فيها المعيب والمريض أيضاً، وماذا يجب عليه؟ [فيه وجهان]:
أحدهما: ما يجب لو كانت صحاحاً سليمة، وهو المنصوص في "المختصر"،
وظاهر المذهب في "المهذب" و"البحر" والمختار في "المرشد" وادعى القاضي الحسين: أنه لا خلاف فيه.
والثاني- قاله ابن خيران، وهو الذي أورده كثيرون كما قال الرافعي: أنه تجب شاة صحيحة بالقسط؛ فيقوم الأصل صحاحاً، فإذا قيل: قيمته ألف، قومت الشاة التي تجزئ فيه، فإذا قيل: قيمتها عشرون، قومنا المراض فإذا قيل: قيمتها خمسمائة أوجبنا عليه ما تجزئ فيها الأضحية قيمتها عشرة، فإن تعذر تحصيلها بذلك تصدق بالدراهم، قال ابن الصباغ وغيره: وعكس المتولي هذا الترتيب فقال: الواجب عليه شاة بالقسط كما ذكرناه، فإن لم يمكن تحصيلها بما اقتضاه التوزيع فوجهان:
أحدهما: يخرج شاة تجزئ في الأضاحي.
والثاني: يتصدق بالدراهم.
والثاني من الأمرين اللذين قلنا: إن الفصل يتضمنهما بيان سن ما يجزئ.
وما ذكره الشيخ في بيان الجذع هو الذي اختاره الروياني في "الحلية" كما قال الرافعي، وقد حكى عن ابن الأعرابي أنه قال: المتولد بين شاتين [يجذع] لستة أشهر إلى تسعة، وبين هرمين يجذع لثمانية أشهر، [وهو ما أورده ابن الصباغ في باب الأضحية، وقيل: هو ما أتى عليه ثمانية أشهر]، وهو اختيار الروياني في "الحلية"، والأصمعي: هو ما له ثمانية أشهر أو تسعة. وسنذكر في باب
الأضحية غير ذلك، ومن أراد استيفاء ما قيل في ذلك، فليطالع هنا وثم.
وما ذكره في الثني من المعز هو المنقول في "الحاوي" والمختار في الحلية كما قال الرافعي، والمشهور في الكتب: أنه الذي له سنتان ودخل في الثالثة، وقد جمع الماوردي بين النقلين بما سنذكره في الأضحية.
قال: وفي خمس وعشرين بنت مخاض؛ للخبر، وهي التي لها سنة ودخلت في الثانية، سميت بذلك؛ لأن أمها قد آن لها أن تكون ماخضاً، أي حاملاً، وقولنا: آن لها أي: دخل وقت قبول أمها للحمل، لا أنه لا يشترط في صدق الاسم أن تكون أمها حائلاً، وكذا في اللبون لا يشترط أن تكون أمه ذات لبن، و"الماخض": اسم جنس لا واحد له من لفظه، والواحدة: خلفة، والذكر من ولدها يسمى: ابن مخاض، إذا كان له سنة، وقيل: إن الواحد من الإبل إلى تمام السنة تختلف أسماؤه فالذي قاله الماوردي أنه يقال لولد الناقة [إذا وضعته لدون وقته ناقص الخلق: خديج] وإن وضعته لوقته ناقص الخلق: مخدوج، وإن وضعته لوقته كامل الخلق قيل له: هبع وربع، ثم فصيل، ثم سليل، ثم حوار ثم حاسر فإذا تمت سنته قيل فيه ما ذكرناه.
وقال القاضي الحسين: إنه تسمى الأنثى من ولد الناقة حين وضعه: ربعة وهبعة، وفي الذكر: ربعا وهبعا، إذا كان ربيعياً، ثم بعد ذلك يسمى حواراً، وقيل: تمام السنة يسمى فصيلاً.
وقال البندنيجي: الفصيل اسمه من حين يفصل عن أمه إلى انتهاء سنة من عمره، ويقال له حوار.
قال: فإن لم يكن في إبله أي حالة الإخراج بنت مخاض، أي كيف كانت- قبل منه ابن لبون، أي ذكر، وإن كان قادراً على شراء ابنة مخاض؛ لأنه جاء في رواية أبي داود عن أنس في كتاب أبي بكر: "فإن لم يكن فيها بنت مخاض فابن
لبون ذكر" ولفظ البخاري في سياق تتمة حديث أنس السابق: "ومن بلغت صدقته بنت مخاض وليست عنده وعنده بنت لبون فإنها تقبل منه، ويعطه المتصدق عشرين درهماً أو شاتين، فإن لم يكن عنده ابنة مخاض على وجهها وعنده ابن لبون فإنه يقبل منه وليس معه شيء".
قال: وهو الذي له سنتان، ودخل في الثالثة، سمي بذلك، لأن أمه قد آن لها أن تكون لبونا على غيره.
فإن قيل: قد قلتم: إنه إذا قدر في الكفارة على شراء [الرقبة] وعادم الماء إذا قدر على شرائه- لا يجوز أن ينتقل إلى البدل فهلا كان هاهنا مثله.
قيل: للنص والمعنى:
أما النص فإن الله تعالى يقول: [{فمن لم يجد فصيام}]{فلم تجدوا ماء فتيمموا} [النساء: 43] فاعتبر عدمهما وهما قادران عليه بالبدل وقال عليه السلام في مسألتنا: "فإن لم يكن في إبله" فاعتبر الوجود في ماله.
وأما المعنى فمن وجهين:
أحدهما: أن الزكاة مبنية على التخفيف؛ لأنها مواساة من ماله؛ ولهذا جوز له الصعود [إلى] فرض أعلى وأخذ الجبران وعكسه، بخلاف الكفارة والطهارة.
والثاني: أن ابن اللبون يساوي بنت المخاض؛ لأنه أفضل منها بالسن فيمتنع من صغار السباع ويرعى بنفسه، وهي أفضل منه بالأنوثة، وكان القياس يقتضي إجزاءه عند وجودها لولا الخبر، فإنه شرط في إجزائه عدمها.
وإذا عرفت أنه يجزئ عنها ابن اللبون عرفت أن إجزاء الحق والجذع عنها من طريق الأولى وهو ما جزم به الأصحاب عند فقد ابن اللبون من ماله، وكذا معظمهم مع وجوده، وحكى الماوردي وتبعه الروياني وجهاً ضعيفاً: أنه لا يجزئ لأنه لا مدخل له في الزكاة، وقد اتفق الكل على إجزاء الحقة والجذعة
عنها ولو مع وجودها، أما إذا كانت في إبله ابنة مخاض نظر: فإن كانت بحيث تجزئ عنه ويجب عليه إخراجها، فلا يقبل منه ابن اللبون بلا خلاف، وإن كانت مما لا تجزئ لكونها معيبة فقد أطلق الغزالي وإمامه- وتبعهما الروياني والرافعي- قبوله منه، وفي تعليق القاضي أبي الطيب: أن إبله لو كانت كراماً، وفيها بنت مخاض لئيمة أو نجيبة مهزولة لم يجز إخراجها في زكاته، فهل يجزئه ابن لبون أو يجب عليه شراء بنت مخاض؟ فيه وجهان. وإن كانت لا يجب إخراجها؛ لكونها كريمة فهل يجوز له الانتقال إلى ابن لبون؟ فيه وجهان:
أحدهما: نعم؛ لأنها إذا لم يجب إخراجها صارت كالمعدومة، وهذا ما حكاه الإمام عن العراقيين وقال: إنه متجه وإليه ميل كلام صاحبي "المهذب" و"التهذيب"، وفي "البحر" أن أكثر أهل العراق حكوه عن النص لا أنه في خصوص المسألة، بل لأنه نص على أنه يجوز لمن عليه حقة، وفي جماله حقة ماخض: أن ينزل إلى بنت لبون، أو يصعد إلى الجذعة مع الجبران، فجعل ما لا يلزم إخراجه كالمعدوم؛ فكذا هنا، وهذا الوجه قد صدر به في"الوسيط" كلامه، ثم قال: وقال القفال: يلزمه شراء بنت مخاض؛ لأنها موجودة في ماله، وإنما
تركت نظراً له فلا يؤخذ ابن لبون، وهذا هو الوجه الثاني، وقال الإمام: إن إليه ميل كلام أصحاب القفال، وإنه ظاهر المذهب، وكذلك قاله في "التتمة" وفي "البحر" أنه المذهب، ولم يورد القاضي أبو الطيب غيره، وادعى مجلي أنه قول أكثر الأصحاب.
ولو كانت ابنة المخاض حال الوجوب معدومة من ملكه، لكنها تجددت في ملكه قبل الإخراج: فهل يجزئه ابن اللبون أم لا؟ فيه وجهان، أصحهما في "البحر": لا.
وقد اقتضى كلام الشيخ أمرين:
أحدهما: قبول ابن اللبون منه عند فقد بنت المخاض من ماله، سواء كان ابن اللبون في ملكه أو لا، وهو وجه حكاه القاضي الحسين، وصدر به في "الوسيط" كلامه، وقال في "التتمة": إنه الصحيح من المذهب [فيه]؛ لأنه مهما اشترى ابن اللبون أو اتهبه فقد صار موجوداً في ملكه دون بنت مخاض، ولم يحك القاضي أبو الطيب والبندنيجي والماوردي- وتبعهم في "المهذب"- غيره، وحكاه الإمام عن نقل الأئمة عن النص.
وعن صاحب "التقريب": أنه يجب عليه [شراء بنت مخاض؛ لأنها الأصل، وهذا ما قال القاضي الحسين في "تعليقه": إنه نص عليه].
والوجهان فيما إذا لم يرد [العدول] إلى فرض أعلى [من بنت المخاض] ويأخذ الجبران، فإن أراد ذلك فهو له. نعم، لو كان في ملكه ابن لبون فأراد أن يخرج بنت لبون، ويأخذ الجبران فهل يجوز؟ فيه وجهان في "الحاوي" و"البحر".
أحدهما: يجبره في تحصيلهما.
والثاني: يطالبه ببنت مخاض؛ لأنه الأصل. ثم إن جاء بابن لبون أخذ منه.
الأمر الثاني عدم إجزاء الخنثى مكان بنت المخاض عند فقدها كما اقتضاه نصه في "المختصر" وظاهر الخبر؛ لأنه اشترط في إجزاء المخرج بدلاً عن بنت المخاض أن يكون ذكراً، والخنثى لم تتحقق ذكورته، وهو ما حكاه الأصحاب وجهاً نسبه الإمام إلى بعض الضعفة، وقال: إن القول به هوس؛ بل الصحيح الإجزاء، وهو ما جزم في "الوجيز" و"التتمة"، وصدر به في "الوسيط" كلامه؛ لأنه إن كان ذكراً فقد حصل المقصود، وإن كان أنثى فقد زاد خيراً، والخبر محمول على إرادة التأكيد لدفع احتمال توهم الغلط؛ فإن الأسنان المنصوص عليها إناث، وقد جاء التأكيد في كلامه عليه السلام بنحو ذلك، وهو في قوله:"فما أبقت الفرائض فلأولى عصبة رجل ذكر" وكما يقال: رأيته بعيني، وسمعته بأذني هاتين.
وقد قيل: إن ابن اللبون يطلق على الذكر والأنثى، والذي أورده القاضي الحسين في "تعليقه" الأول موجه بأنه اتصف بالنقص؛ لأنه ليس له قوة الذكر ولا نسل الإناث، ولا خلاف أن الخنثى إذا كانت أمه ماخضا لا يجزئ؛ لأن الأنوثة لم تتحقق.
قال: وفي ست وثلاثين بنت لبون للخبر، فإن لم تكن في إبله فله شراؤها، فإن لم يفعل كان للساعي الصعود إلى الحقة، والنزول إلى بنت مخاض مع الجبران كما سيأتي، وهل لرب المال إخراج حق عنها؛ جبراً لفائت الأنوثة بزيادة
السن كابن اللبون عن بنت المخاض؟ حكى الإمام عن صاحب "التقريب" أنه تردد جوابه فيه، وقال: إن ما ذكره من طريق الاحتمال متجه، ولكن اللائق بمذهب الشافعي اتباع النص، وتخصيص ما ذكره الشارع من إقامة ابن اللبون مقام بنت المخاض، وقد صرح الماوردي والحناطي في المسألة بوجهين، وأن الصحيح المنع كما قال الإمام: إنه اللائق بالمذهب، وبه جزم القاضي أبو الطيب والحسين والمتولي وغيرهم من العراقيين، وفرقوا بين [ابن] اللبون والحق بوجهين:
أحدهما: أن زيادة سن ابن اللبون تمنع من صغار السباع، وترعى الشجر وترد الماء، وذلك لا يوجد في بنت المخاض؛ فكان ذلك مقابلا لأنوثتها، وليس كذلك بنت اللبون مع الحق؛ فإنهما يشتركان في ذلك، وإنما فضلها بمجرد السن، وذلك لا يقابل الأنوثة؛ فلم يستويا.
والثاني- قاله في "البحر"-: أن للمصدق في ابنة اللبون خيارين بالنزول وبالصعود، فلا يجوز إثبات خيار ثالث له بإخراج الحق، وفي ابنة المخاض ليس له إلا خيار واحد وهو الصعود؛ لأنه ليس له النزول بإخراج ما دون بنت مخاض فجعل له إخراج ابن لبون مكان بنت مخاض؛ ليحصل له خياران قياساً على ذلك.
فإن قيل: لو وجبت عليه جذعة ولم يملكها، وملك تيسا، لا يجوز له إخراجه بلا خلاف، وإن كان لا خيار له على وجه [يأتي ذكره] إلا في النزول فقط، وكان قياس هذا الفرق: أن يجزئه إخراج التيس على هذا الوجه.
فجوابه: أنا لا نسلم أنه لا خيار له إلا من جهة النزول؛ بل له الخيار من جهة الصعود بلا خلاف أيضاً، لكن الخلاف في أنه يأخذ مع ذلك الجبران أم لا؟ وما دون بنت المخاض لا يجزئ بحال.
وقد عكس في "الوسيط" ذلك فصدر كلامه بجواز إخراج الحق عن بنت اللبون عند فقدها، ولم يورد في"الوجيز" غيره، ثم قال: وقال صاحب التقريب: يحتمل ألا يجوز؛ لأنه بدل غير منصوص عليه، ولو أراد أن يخرج ابن لبون عند
فقدها ويعطي الجبران، فهل تقبل منه؟ فيه وجهان في "الحاوي" وتبعه في "البحر"، ووجه الجواز بأن الشرع أقامه مقام بنت مخاض.
قال: وفي ست وأربعين حقة؛ للخبر، ولفظ أبي داود:"حقة طروقة الفحل".
قال: وهي التي لها ثلاث سنين ودخلت في الرابعة، سميت بذلك؛ لأنها استحقت أن يطرقها الفحل وقد أشار عليه السلام إليه بقوله:"طروقة الفحل"، وقيل: لأنها تستحق أن يحمل على ظهرها وتركب وهو ما ذكره ابن الصباغ، وإليه يرشد قوله عليه السلام في الرواية الأخرى:"طروقة الجمل".
فرع: لو أخرج بدل الحقة بنتي لبون، قال في "الروضة": جاز على الصحيح؛ لأنهما تجزئان عما زاد.
قال: وفي إحدى وستين جذعة للخبر، وهي التي لها أربع سنين، ودخلت في الخامسة، سميت بذلك؛ لأنها تجذع سنها، أي: تسقطه، وقال البندنيجي: لتكامل أسنانها. ويقرب منه قول الماوردي: إذا بلغت خمساً خرج جميع أسنانها. وكأنهما أخذا بقول أبي حاتم: الجذوعة وقت من الزمن.
وعن الأصمعي: أنها إنما سميت جذعة؛ لأن أسنانها لا تسقط فتدل عليها.
وهذا السن هو آخر ما أوجبه الشرع من أسنان الإبل في الزكاة، وإن أجزأ منها ما عداه كالثنية، وهي التي طعنت في السادسة، والذكر يسمى ثنيا، والجمع: ثنايا، وسميت بذلك؛ لأنها تثني ثنياتها، وهذا السن هو أول ما يجزئ من الأسنان في الأضحية، وبعده: الرباعية، وهي التي طعنت في السابعة، والذكر: رباع، والجمع: رباعيات، ثم يليها: السدس والسديس للذكر والأنثى، وهو الطاعن في السنة الثامنة سمي بذلك؛ لإلقائه السن السديس الذي بعد الرباعية، ثم يلي ذلك، البازل: وهو الطاعن في التاسعة: ذكراً كان أو أنثى؛ لأنه بزل نابه أي: ظهر، ثم المخلف وهو الطاعن في العاشرة ذكراً أو أنثى، وبعد ذلك يقال: مخلف عام، ومخلف عامين، وبازل عام وبازل عامين وقال البندنيجي وغيره: بعد التسع يقال له: بازل عام، وبازل عامين، وإن البازل والمخلف عبارة عن شيء واحد.
قال الماوردي: ونهاية الحسن في الإبل: الجذع، من حيث الدر والنسل والقوة،
وما زاد عليه رجوع كالكبر والهرم.
قلت: وإن صح ذلك فقياسه ألا يجزئ ما بعده، والله أعلم.
فرع: لو أخرج بدل الجذعة حقتين أو بنتي لبون، قال في "الروضة": جاز على الصحيح؛ لأنهما تجزئان عما زاد، وفي "التتمة" وجه: أنه لا يجوز. وهو [جار في] الفرع قبله.
قال: وفي ست وسبعين بنتا لبون، وفي إحدى وتسعين حقتان؛ للخبر، وفي مائة وإحدى وعشرين ثلاث بنات لبون، لقوله في كتاب أبي بكر "فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة"، وظاهر هذا أن الثلاث البنات وجبت في المائة والعشرين، ولا شيء في مقابلة الزائدة عليها؛ لأنه لو قابلها شيء لكان في مقابلة كل أربعين وثلث واحدة، وقد قال به أبو العباس وأبو سعيد الإصطخري كما قاله في "التتمة" وغيره من الفريقين أطلق حكاية ذلك وجهاً ولم ينسبه لأحد، وإن قائله قال: يجوز أن يكون الشيء مغيراً للفرض ولاحظ له من الفرض؛ كالأخوين من الأبوين يردان الأم من الثلث إلى السدس، ولا يأخذان شيئاً، والصحيح أنه يقابل الزائدة قسط منها؛ لقوله عليه السلام:"إذا زادت الإبل على مائة وعشرين ففيها ثلاث بنات لبون".
وقوله: "فيها"، يرجع إلى الكل، وفائدة الخلاف تظهر فيما لو تلفت واحدة بعد الحول وقبل التمكن، وقلنا: إن التمكن شرط في الضمان، فإن قلنا بالأول لم يسقط من الفرض شيء، وإلا سقط ما يقابل التالفة قال في"الوسيط": وعلى الأول يبنى ما لو زاد نصف بعير على مائة وعشرين يجب فيها ثلاث بنات
لبون، وهو بعيد. وما استبعده هو المنقول عن الإصطخري، وأنه تمسك فيه بما ذكرناه من كتاب أبي بكر؛ فإنها إذا زادت نصف بعير أو أقل منه صدق أنها زادت على عشرين ومائة، والصحيح خلافه؛ لأنه جاء في الخبر المروي عن ابن عمر:"فإذا زادت الإبل على المائة والعشرين واحدة ففيها ثلاث بنات لبون".
قال: ثم في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة؛ للخبر، فيجب في مائة وثلاثين حقة وبنتا لبون، وفي مائة وأربعين بنت لبون وحقتان، وفي مائة وخمسين ثلاث حقاق، وفي مائة وستين أربع بنات لبون، وفي مائة وسبعين حقة وثلاث بنات لبون، وفي مائة وثمانين بنتا لبون وحقتان، وفي مائة وتسعين ثلاث حقاق وبنت لبون فإذا بلغت مائتين فما يجب فيها؟ يأتي الكلام فيه.
قال: وفي الأوقاص التي بين النصب، أي: كالأربعة بين نصب الإبل التي يجب فيها الغنم، والعشرة بين الخمس وعشرين والست وثلاثين، وغير ذلك، والسبعة بين الثلاثين والأربعين من البقر، والسبعة عشر بين الأربعين والستين منها، وغير ذلك، والثمانين بين الأربعين والمائة وإحدى وعشرين من الغنم، والسبعة والتسعين بين المائة وإحدى وعشرين والمائتين وواحدة وغير ذلك.
قال: قولان:
أحدهما: أنها عفو لقوله عليه السلام: "في كل خمس شاة" ولو وجبت في الوقص لكانت في تسع، ولأنه عدد ناقص عن نصاب إذا بلغه وجبت فيه الزكاة، فلم تتعلق به كالأربعة الأول، وهذا ما نص عليه في كتبه القديمة والجديدة، كما قاله ابن الصباغ تبعاً لأبي الطيب، وقال البندنيجي: إنه الذي نص عليه في "البويطي" والجديد، وهو الذي صححه النواوي وغيره [تبعاً لـ"الحاوي"]، وقال في "البحر": إنه اختيار ابن سريج، واقتصر القاضي الحسين على نسبته [إلى الجديد] واستدل له بقوله عليه السلام:"في خمس وعشرين بنت مخاض، ولا شيء في زيادتها إلى خمس وثلاثين".
والثاني: أن فرض النصاب يتعلق بالجميع؛ لقوله في كتاب أبي بكر: "فإذا
بلغت خمساً وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض" ولأنه حق يتعلق بنصاب مقدر؛ فوجب أن يتعلق به وبما زاد عليه إذا وجد معه ولم ينفرد بحكم؛ كالقطع في السرقة، وهذا ما نص عليه في "الإملاء"، قال في "الحاوي" و"المهذب" و"البحر": وكذلك في "البويطي"، قال البندنيجي والقاضي الحسين وفي القديم، واختاره ابن سريج كما قاله الرافعي وغيره وصاحب "المرشد" اختاره أيضاً، واقتضى إيراد ابن الصباغ والقاضي أبي الطيب ترجيحه.
وإذا عرفت مجموع ما ذكرناه عرفت أن القولين مذكوران في كل من الجديد والقديم، وفائدتهما تظهر مع ملاحظة ما تقدم من أن التمكن شرط الضمان أو الوجوب، في فرعين هما كالأصلين والقاعدتين في الباب:
أحدهما: إذا ملك تسعاً من الإبل، فهلك منها أربع بعد الحول وقبل التمكن فإن قلنا: التمكن شرط في الوجوب، وجبت شاة [واحدة] وإن قلنا: شرط في الضمان، فإن قلنا: إن الزائد على النصاب عفو، وجبت شاة أيضاً، وإن قلنا: يتعلق بالجميع، وجب عليه خمسة أسباع شاة؛ لأنها وجبت في مقابلة تسعة فخص كل منها تسعاً، وحكى القاضي أبو الطيب عن أبي إسحاق أنه قال: يجب عليه شاة كاملة على هذا، قال ابن الصباغ: ولم يذكر وجهه، ووجهه عندي أن الزيادة لما لم تكن شرطاً في وجوب الشاة لم يسقط شيء منها بتلفها وإن كانت متعلقة بها، وهذا كما قلنا في ثمانية شهود شهدوا على شخص بالزنى فحكم الحاكم بشهادتهم وقبلهم ثم رجع أربعة منهم عن الشهادة فإنه لا يجب عليهم شيء فلو رجع منهم خمسة وجب عليهم الضمان؛ لنقصان ما بقي عن العدد المشروط كذلك هذا.
الثاني: المسألة بحالها لكن التالف خمس بعد الحول وقبل التمكن فإن قلنا: إن الإمكان شرط الوجوب، لم يجب عليه والحالة هذه شيء وإن قلنا: إنه شرط الضمان، فإن قلنا: إن الوقص عفو، وجب عليه أربعة أخماس شاة، وإن قلنا: إن فرض النصاب يتعلق بالجميع، وجب عليه أربعة أتساع شاة، قال ابن الصباغ: ولا يجيء وجه أبي إسحاق هاهنا؛ لنقصان العدد [كما ذكرت في
الشهادة].
قلت: لكن وجه أبي إسحاق وإن كان مأخذه ما ذكره ابن الصباغ من التوجيه فمقتضاه أن يجب عليه في هذه الحالة- والتفريع على ما ذكراه- أربعة أخماس شاة؛ لأن ذلك نظير ما إذا رجع خمسة من شهود الزنى، فإنه يجب عليهم ربع الدية، لأن الباقي من النصاب ثلاثة أرباعه، وهاهنا الباقي منه أربعة أخماسه.
وقد سلك الإمام طريقاً آخر في حكاية القولين في الكتاب بعد حكايتهما عن الأصحاب كما ذكرنا، فقال: لو رددت إلى ما يظهر لقلت: إن الزكاة تتعلق بالتسع، فإن النصاب والوقص من جنس واحد، وإنما القولان في أنا هل نجعل الوقص [في حكم الوقاية للنصاب، كما يجعل الربح في القراض] وقاية لرأس المال؟ فكنا نقول في يقول: هو وقاية، وإن كانت الزكاة تتعلق بالجميع؛ فإن الزكاة إذا لم تزد به لم تنقص بتلفه، وفي قول يقول: ليس الوقص وقاية؛ بل تتعلق الزكاة على قضية واحدة بالكل، وإذا تلف البعض سقطت حصته من الزكاة.
قال: ومن تمام الشأن في ذلك أن المشايخ قالوا: إذا ملك نصابين فواجب كل نصاب منحصر فيه، وزعموا أن هذا متفق عليه وإنما القولان في النصاب والوقص، وتحقيق القول في ذلك: أن من ملك نصابين فالوجه أن يقال: واجب النصابين متعلق بجميع المال من غير انحصار واختصاص، والدليل عليه: أن بنت المخاض واجب نصيب وهي الأخماس، ثم لا وجه إلا إضافة بنت المخاض إلى جميع الخمس والعشرين من غير حصر وتخصيص، ثم إذا وضح هذا في الأسنان فلا شك في اطراد قياسه حيث تكون الزيادة بالعدد والدليل عليه: أنه إذا زاد بعير بزيادة عشرة عند استقرار الحساب فلا يعتقد عاقل أن البعير وجب في العشر، ولكن الوجه إضافة الكل إلى الكل، ويوضحه الراجح في الخلطة وتفريعاتها؛ فإذا خرج من هذا أن حقيقة المذهب: أن من ملك نصابين فواجبهما متعلق بجميع المال بلا خلاف، وليس أحد النصابين وقاية للثاني، وإذا ملك نصاباً ووقصاً فالوجه انبساط الواجب على الكل، ولكن هل يسقط واجب
النصاب بتلف الوقص، أو الوقص وقاية للنصاب، والتلف محسوب من الوقص كما نقول في الربح في القراض؟ فيه القولان، وعلى ذلك جرى في "الوسيط" والله أعلم.
تنبيه: الأوقاص: جمع "وقص" بفتح القاف وإسكانها والمشهور في استعمال الفقهاء إسكانها، وقد عده ابن بري من لحن الفقهاء في الجزء الذي جمعه في اللحن والتصحيف.
ونقل ابن الصباغ وشيخه أبو الطيب أن أكثر أهل اللغة قالوا بالإسكان، ورداً على من غلط الفقهاء في ذلك، قال النواوي: وفي نقلهما نظر؛ لأنه مخالف للموجود في كتب اللغة المشهورة المعتمدة، ثم قيل: إن "الوقص" مشتق من قولهم: رجل أوقص، إذا كان قصير العنق لم تبلغ عنقه حد أعناق الناس؛ فسمي وقص الزكاة لنقصانه عن النصاب.
قلت: وهذا يقوي صحة إطلاق الوقص على الأربعة من الإبل قبل النصاب ونحوها، ومنه قول الشافعي في "البويطي": و"ليس في الأوقاص من شيء، وهو ما لم يبلغ ما تجب فيه الزكاة"؛ ولأجله قال الشيخ: "وفي الأوقاص التي بين النصب"؛ ليخرج ما قبل النصاب، فإن القولين ليسا فيه، والموجود في أكثر كتب المذهب أن الوقص: ما بين الفرضين.
وفي "تعليق" البندنيجي أن أول النصاب يقال له: وقص. وما بين النصابين، قال [في] "البويطي": يقال له: شنق، والفقهاء كلهم يقولون: وقص.
وغيره قال: الشنق- بالشين المعجمة والنون المفتوحتين والقاف- كالوقص، سواء عند أهل اللغة.
وقال القاضي أبو الطيب: إنه قول أكثر أهل اللغة، وعن الأصمعي أنه قال: الشنق مختص بأوقاص الإبل، والوقص يختص بالبقر والغنم.
قال: ومن وجب عليه سن أي مما ذكره ولم يكن عنده أخذ منه سن أعلى منه، ورد عليه شاتان أو عشرون درهماً، أو سن أسفل منه [ودفع معه] شاتين أو عشرين درهماً.
الأصل في ذلك: ما روى البخاري عن أنس في كتاب أبي بكر الذي تقدم بعضه، قال:"ومن بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة وليست عنده جذعة وعنده حقة، فإنها تقبل منه الحقة، ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له أو عشرين درهماً، ومن بلغت عنده صدقة الحقة، وليست عنده الحقة، وعنده الجذعة فإنها تقبل منه [الجذعة] ويعطيه المصدق عشرين درهماً أو شاتين، ومن بلغت [عنده صدقة الجذعة وليست عنده إلا بنت لبون فإنها تقبل منه بنت لبون، ويعطي شاتين أو عشرين درهماً، ومن بلغت صدقته بنت لبون وعنده حقة، فإنها تقبل منه الحقة ويعطيه المصدق عشرين درهماً أو شاتين، ومن بلغت صدقته] بنت لبون وليست عنده وعنده بنت مخاض فإنها تقبل منه بنت مخاض، ويعطي معها عشرين درهماً أو شاتين، ومن بلغت صدقته بنت مخاض وليست عنده [وعنده] بنت لبون، فإنها تقبل منه، ويعطيه المصدق عشرين درهماً أو شاتين" فقد اشتمل الحديث على حكم الصعود والنزول وتقدير الجبران، وادعى الإمام الاتفاق على أصل الجبران.
ثم ظاهر كلام الشيخ يقتضي أموراً:
أحدها: أنه لو وجب عليه جذعة وليست عنده، أنه تقبل منه الثنية ويعطى الجبران إذا طلبه، أو الحقة ويأخذ معها الجبران، وهو ظاهر النص، والأصح في "تعليق" أبي الطيب و"الروضة"، والراجح عند العراقيين.
ومن الأصحاب من قال: إن بذله بغير جبران قبل منه، وإن طلب الجبران فلا يقبل؛ لأنها تساوي الجذعة في القوة والمنفعة؛ فلا معنى لدفع الجبران، وهذا ما ادعى القاضي الحسين أنه الظاهر، ورجحه البغوي والغزالي، وقال في "التتمة": إنه المذهب. وإذا أردنا أن نحترز عن هذه الصورة لأجل هذا الوجه قدرنا في كلام الشيخ عند قوله "ومن وجب عليه سن ولم يكن عنده أخذ منه سن أعلى منه"، أي: فيما يجب في الزكاة، وقد يقال: يتعين هذا حتى يخرج ما دون بنت مخاض؛ فإنا لو جرينا على ظاهر اللفظ لاقتضى إجزاءه مع الجبران، ولا قائل به.
الثاني: أنه لا فرق في الصعود وأخذ الجبران بين أن يكون المأخوذ صحيحاً أو مريضاً، ولا خلاف فيه إذا كان صحيحاً، وأما إذا كان مريضاً فقد أطلق في"المهذب" وغيره القول بأنه لا يجوز، وهو المحكي في "الحاوي" عن نصه في "الأم"؛ لأن قدر التفاوت بين الصحيحين فوق قدر التفاوت بين المريضين، وما دفع بين أعلى التفاوتين كيف يدفع لأدناهما، ولا جابر إلى إيجاب ما دون ذلك؛ [لأن ذلك] يكون نظراً إلى القيمة، ولا مدخل لها في الزكوات عندنا، وقال الإمام: هذا عندي فيما إذا قلنا: الخيرة لرب المال في الصعود والنزول عند التشاحح كما سنذكره، [وهو مراد الأصحاب] أما إذا قلنا: إنه للساعي، وكانت المصلحة للفقراء في أخذ الأعلى ودفع الجبران، فالوجه القطع بجواز ذلك، وهذا ما أورده الرافعي، ولا خلاف في أنه لو أراد النزول وأخذ الجبران- والحالة هذه- جاز إذا رضي رب المال؛ لأن ذلك أحظ للفقراء.
الثالث: إذا كان واجبه بنت لبون، وليست عنده، فأخرج جذعة- أنها تقبل منه، ويأخذ الجبران المذكور، وكذا لو كان واجبه حقة، فأخرج بنت مخاض مع الجبران المذكور تقبل منه، وليس كذلك؛ لأن ماله إن كان كله جذاعاً في الصورة الأولى، و [كله بنات مخاض] في الصورة الثانية:[فهل يجوز له إخراج الجذعة في الصورة الأولى وبنت المخاض في الصورة الثانية]؟ بلا خلاف [إلا ما حكاه القاضي أبو الطيب] وابن الصباغ والمتولي عن [ابن] المنذر من أصحابنا: أنه لا يجوز الصعود والنزول إلا إلى سنة واحدة، وهذا لا التفات إليه ولا تعويل عليه، وإذا كان كذلك كان الجبران فيهما أربع شياه أو أربعين درهماً، والشيخ قد قال: إن الجبران يكون شاتين أو عشرين درهماً، وفي هذه الحالة قال الأصحاب: لمعطي الجبران أن يخرج شاتين وعشرين درهماً، كما لو كان عليه كفارتا يمين؛ فإنه يجوز له أن يطعم عشرة ويكسو عشرة، وهذا بخلاف ما لو كان الجبران شاتين أو عشرين درهماً: لا يجوز للمالك إذا كان معطيه أن يخرج شاة وعشرة دراهم؛ كما لا يجوز أن يخرج عن كفارة يمين إطعام خمسة وكسوة
خمسة. نعم، إن كان المخرج لذلك الساعي ورضي رب المال جاز؛ لأنه لو رضي بأخذ الشاة فقد كفى، وأشار في "التتمة" إلى خلاف في هذه الحالة [بقوله]: جاز على الصحيح من المذهب.
وإن كان في ماله الحقاق والجذاع، وفرضه بنت لبون، أو في ماله بنت مخاض وبنات اللبون، وفرضه الحقة- فقد حكى العراقيون والمراوزة في جواز إخراج الجذعة في الصورة الأولى إذا أراد أخذ الجبران لسنتين، وبنت المخاض في الصورة الثانية، ودفع جبران سنتين- وجهين:
أحدهما: الجواز وهو ما نسبه [الإمام] إلى القفال، وقال: إنه منقاس حسن.
وأصحهما في "المهذب" و"الشامل" و"الحاوي": المنع، وإليه صار معظم الأصحاب كما قال الإمام؛ لأنه يكثر الجبران من غير حاجة، وهذا ما حكاه القاضي الحسين، وعلى هذا لو رقي من بنت لبون إلى جذعة مع وجود بنت مخاض فوجهان حكاهما القاضي الحسين وغيره من المراوزة، والفرق: أن الموجود القريب ليس في جهة الترقي، أما إذا أراد الترقي من بنت لبون إلى جذعة، وفي ماله حقة، وطلب جبراناً واحداً- أجيب إليه بلا خلاف، قاله الإمام ومن بعده.
الرابع: [أنه] لو كان في ملكه الفرض، لكنه معيب بحيث لا يجزئ في الزكاة، أن له الانتقال والنزول؛ لأن تقدير كلامه: ومن وجب عليه سن ولم يكن عنده سن بحيث يجزئ. وقد حكى القاضي أبو الطيب فيما إذا كان ماله صحيحاً إلا الفرض فهل يجوز له الصعود [أو النزول أو يتعين عليه شراء الفرض] بقيمة فرض صحيح وقيمة فرض مريض على قدر المالين؟ فيه وجهان جاريان فيما لو كان ماله مريضاً إلا الفرض.
قلت: وهما كالوجهين اللذين حكيناهما عنه فيما إذا كان في ماله بنت مخاض لا يجوز إخراجها: هل [له] إخراج ابن لبون عنها أم لا يجوز؟
والصحيح [منها] الذي جزم به جماعة كما تقدم، الجواز، ونظيره هنا الجواز أيضاً، كما اقتضاه كلام الشيخ.
فرع: لو ملك إحدى وستين بنت مخاض، فأخرج واحدة منها، قال في "الروضة": فالصحيح الذي قاله الجمهور، أنه يجب معها ثلاث جبرانات، وفي "الحاوي" وجه آخر: أنها تكفيه وحدها، حذارا من الإجحاف. وليس بشيء.
قال: والاختيار في الصعود والنزول أي: إذا أمكنا إلى المصدق.
المصدق بتخفيف الصاد وتشديد الدال، هو الساعي وبتشديدهما هو رب المال، قال النواوي: والذي ضبطناه عن نسخة المصنف الأول.
وعلى هذا فوجه كون الخيار له: أنه الناظر للفقراء؛ فجعلت الخيرة له ليأخذ ما هو الأحظ للمساكين، كما إذا كان ماله مائتين من الإبل، وفيها أربع حقاق وخمس بنات لبون، وهذا ما ادعى في "المهذب" أنه المنصوص أي في "الأم" كما قاله في "البحر" وقال البندنيجي: إنه المذهب، والماوردي: إنه ظاهر المذهب مع حكاية وجه آخر: أن الاختيار في ذلك لرب المال؛ لأن الصعود والنزول أثبت رفقاً بالمالك، كي لا يحتاج إلى الشراء، فلا يليق به إلا التخيير، وهذا ما ادعى في "التتمة" أنه المذهب، واختاره النواوي تبعاً للرافعي وصاحب "المرشد"، قال البندنيجي: وهذا هو الأشبه بمذهب ابن سريج، وفي "البحر" أن ابن سريج قال به كما قال في الفرضين، وأن من أصحابنا من قال به هاهنا بخلاف الفرضين، والفرق: أن له تركهما وتحصيل الواجب، بخلاف الفرضين في المائتين، وهذا الوجه هو الذي فرع عليه القاضي أبو الطيب وغيره من بعد كما سنذكره، وصدر به في الوسيط كلامه، ثم أشار إلى الأول بقوله: ومن أصحابنا من نقل نصاً عن "الإملاء" أن المتبع: الأغبط للمساكين كما في اجتماع الحقاق وبنات لبون.
وهو بعيد، ووجه الإشارة من ذلك تتوقف معرفتها على معرفة أمرين ذكرهما الإمام:
أحدهما: أن محل الخلاف في المسألة إذا عين رب المال شيئاً، وعين الساعي غيره، وكان الحظ للفقراء فيما عينه الساعي، أما إذا كان الحظ فيما عينه رب
المال فلا خلاف في اتباعه؛ لأن الساعي إن وافقه فلا كلام، وإن خالفه فرأيه غير متبع على خلاف النظر، وإن استوى ما يريدانه في المصلحة قال: فالأظهر عندي اتباع رأي رب المال.
والثاني: نذكره من بعد، وحينئذ ننبه على ما يحصل به المقصود، إن شاء الله تعالى.
قال: وفي الشاتين أو العشرين درهماً إلى الذي يعطي ذلك للخبر، وهذا ما نص عليه في "المختصر" ولفظه لفظه؛ فعلى هذا: لو كان المعطي هو الساعي تعين عليه رعاية الأحظ لأهل السهمان منهما، فإن كان في دفع الدراهم ولم تكن عنده باع من مال الزكاة وأداها، قاله الرافعي وغيره.
وإن كان المعطي هو رب المال أخرج ما شاء، قال في "الأم": والاحتياط له أن يعطي الأحظ لأهل السهمان منهما، فإن لم يفعل ذلك بل أخرج ما هو الأحظ لنفسه جاز وإن نازعه الساعي.
وحكى الإمام عن نصه في "الإملاء" أن الخيرة إلى الساعي، أي: فيتعين إخراج الأحظ لأهل السهمان وأن من الأصحاب من قال لأجل نصه في "المختصر" ونصه في "الإملاء": في المسألة قولان. والذي ذهب إليه الجمهور وقطع به الصيدلاني: أن المسألة على قول واحد، وهو ما نقله المزني وحمل ما حكى عن "الإملاء" على ما إذا كان الساعي هو المعطي، وهذا هو الأمر الثاني الذي تقدمت الإشارة إليه، وقد قال الإمام عقيبه: إن الاختلاف في الصعود والنزول بين الساعي ورب المال مخرج على هذا الخلاف يقول الغزالي: ومن أصحابنا من نقل نصا عن "الإملاء" أن المتبع الأغبط للمساكين. أشار به إلى ما حكاه الإمام أن يتخرج مثله فيما نحن فيه، لا أنه منصوص عليه فيه، والله أعلم.
تنبيه: الشاة المأخوذة في الجبران كالشاة المأخوذة عن خمس من الإبل في اعتبار الذكورة والأنوثة والسن إن كان المخرج هو رب المال، حتى يأتي الخلاف السابق فيها، وإن كان المخرج هو الساعي فالاعتبار بما يرضى به رب المال إن كان دون ذلك، وإن حصل تنازع فالمعتبر فيها ما تقدم، قاله المتولي.
وفي "تعليق" القاضي الحسين: أنا إن قلنا: [إنه] يؤخذ الذكر في الشاة عن الخمس من الإبل، فهاهنا أولى، وإلا فوجهان، والفرق: أن الشاة ثم وجبت أصلاً، وهنا بدلاً والمعتبر في الدراهم المخرجة جبراناً أن تكون بقرة قال الإمام: بلا خلاف، وكذلك تكون دراهم الشريعة حيث وردت.
قال: وإن اتفق فرضان في نصاب أي: وهما موجودان فيه بحيث يجزئ [كل] منهما لو انفرد، كالمائتين فيها أربع حقاق أو خمس بنات لبون؛ لأنه قد اجتمع فيها أربع خمسينات وخمس أربعينات، فشملهما قوله في كتاب أبي بكر:"في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة".
قال: اختار الساعي أنفعهما للمساكين، إذ لا مزية لأحد الفرضين على الآخر فتعين الأنفع للمساكين؛ لقوله تعالى:{وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} [البقرة: 267] ومعناه: لا تقصدوا المال الدون، وليس المراد [به] غيره؛ لقوله:{وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَاّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة: 267].
وقال ابن سريج: يخرج المالك ما شاء منهما، وإن كان الأحظ خلافه، وجاء
[تخريجاً] من نصه في "المختصر" أن الخيرة إليه عند إخراجه الشاتين أو الدراهم جبراناً وأيده بقوله- عليه السلام لمعاذ: "إياك وكرائم أموالهم"[والأنفع: من الكرائم] وقد ادعى الإمام أن قياس هذا المذهب ظاهر، ويعتضد بظاهر الخبر [لأن الخبر] كما تضمن إخراج [الحقاق لمكان] حساب الخمسين تضمن إخراج بنات اللبون لمكان إجزاء [حساب] الأربعينات، وعلى هذا فالأولى لرب المال إذا كان رشيداً: أن يخرج الأحظ للمساكين، أما إذا كان مولى عليه فلا يجوز لوليه إخراجه؛ بل يجب إخراج ما الأحظ فيه لرب المال، قاله أبو الطيب وغيره، والصحيح الأول؛ لما ذكرناه، وهو المنصوص عليه في "الأم" وكذا في "المختصر" حيث قال: فإذا بلغت مائتين فإن كانت أربع حقاق منها خيراً من خمس بنات لبون أخذها المصدق، وإن كانت خمس بنات لبون خيراً لا يحل له غير ذلك. والمنتصرون لهذا قالوا: حديث معاذ مخصوص بغير الفرضين إذا اجتمعا، فأما إذا اجتمعا فلا، والفرق بين ما نحن فيه والجبران من وجهين:
أحدهما: أن العشرين درهماً والشاتين متعلقة بذمة رب المال دون ماله، ومن لزمه في الذمة أحد حقين كان مخيراً في دفع أيهما شاء، والفرض في الحقاق أو بنات اللبون متعلق بالمال لا بالذمة؛ فكان الخيار في المال إلى مستحقه.
فإن قلت: هذا فرق على قولنا: إن الزكاة تتعلق بالعين، فما هو على قولنا: إنها تتعلق بالذمة؟
قلت: إذا قلت بهذا لم يحتج إلى فرق؛ لأن قوله في القديم، والقديم أنه تتعين الحقاق، وما وقع التفريع عليه هو الجديد، والجديد أنها تتعلق بالعين.
والفرق الثاني: أنه لما جاز لرب المال العدول عن العشرين والشاتين إلى [جواز ابتياع] الفريضة الواجبة عليه كان مخيراً بين الدراهم والشاتين، ولما لم يجز لرب المال العدول عن هذين الفرضين إلى غيرهما لم يكن مخيراً بينهما، وعلى هذا إذا أخذ الساعي الأدنى فقد قال في "المختصر": كان حقاً على رب
المال أن يخرج الفضل فيعطيه أهل السهمان.
واختلف الأصحاب [فيه] على طرق:
إحداها: أن ذلك فيما إذا كان قد أخذه باجتهاده، ولا تفريط من رب المال؛ بأن يكون قد أحضر الفرضين معاً، ثم ظهر بعد الأخذ أن الأحظ خلافه، فأما إذا أخذه بغير اجتهاد أو وجد تفريط من رب المال؛ بأن أحضر الصنف الأدنى وحده فلا يحتسب وينظر: فإن كان ذلك الصنف قائماً في يد الساعي أخذه رب المال وأخرج [الصنف] الأعلى، [وإن كان قد تلف ردت القيمة إليه، وأخرج الصنف الأعلى].
والثانية- وبها قال أبو إسحاق-: إجراء اللفظ على ظاهره، وأنه يجزئه بكل حال، ويخرج الفضل، قال في "الحاوي": لأن أخذ الأفضل وجب من طريق الاجتهاد؛ فلم يجز أن يبطل حكماً ثبت بالنص. قال الرافعي: وهذا رجوع إلى قول ابن سريج.
قلت: ليس كذلك؛ لأن هذا القائل لا يجوز الإقدام على أخذ غير الأغبط، بخلاف ابن سريج؛ فإنه يجوز ذلك إذا دفعه رب المال.
وهاتان الطريقان لم يورد البندنيجي غيرهما.
والثالثة- حكاها القاضي أبو الطيب وابن الصباغ مع الأوليين-: أنه ينظر: فإن كان المأخوذ باقياً رده، وإن كان قد فرق على أربابه أجزأ، وأخرج رب المال الفضل.
وسلك الإمام في حكاية الطرق مسلكاً آخر، فقال: إن أخذ الأدنى بغير اجتهاد فلا يقع الموقع بلا خلاف، وإن أخذه باجتهاد ثم ظهر أن الأحظ خلافه فثلاثة أوجه، اثنان ذكرهما صاحب "التقريب":
أحدهما: وقوعه الموقع.
والثاني: لا.
والثالث: ذكره العراقيون معهما، وهو إن كان المأخوذ باقياً رده، وإن فرقه وقع الموقع.
وإذا جمعت بين ذلك و [بين] ما تقدم واختصرت قلت: في المسألة أربعة أوجه:
أحدها: لا يقع الموقع بكل حال.
والثاني: وقوعه بكل حال.
وهما بعيدان.
والثالث: إن كان باجتهاد ولا تقصير من رب المال وقع الموقع، وإن كان بغير اجتهاد أو تقصير من رب المال فلا يقع الموقع.
والرابع: إن كان باقياً أخذه ولم يقع الموقع، وإن كان قد فرق وقع الموقع لعسر الاسترجاع.
وعن رواية أبي الحسين بن القطان وجه خامس يكاد أن يدخل في الثالث، وهو: إن دفع المالك ذلك مع العلم بأنه الأدون لم يجزئه وإن كان الساعي هو الذي أخذه جاز، قال الرافعي: ويقرب منه عند صاحب "التهذيب" مجرد علم المالك بحاله تقصيراً مانعاً من الإجزاء، وإن لم يوجد إخفاء وتدليس.
ثم حيث قلنا بوقوعه الموقع، فهل يجب عليه إخراج قدر التفاوت إذا كان الأحظ بحسب زيادة القيمة أو يستحب فرق فيه وجهان في الطريقين أصحهما: الوجوب، وكيفية معرفته: أن يقوم المخرج ويقوم الفرض الآخر، وما بينهما هو التفاوت والفضل الذي أراده الشافعي، وعلى الوجهين [ينظر] في الفضل:
فإن كان مقداره يسيرا بحيث لا يمكن أن يشتري به جزءاً من الفرض فرَّق الدراهم، كذا قاله الأصحاب، وهو محمول على ما إذا كانت بالنقد، فلو كان "النقد ذهبا قوم به وأخرج [التفاوت] ذهبا، ففرقه والحالة هذه، وعن صاحب "التقريب" أنه تردد في انتظار إمكان الشراء، قال الإمام: وهو بعيد غير معتد به.
قلت: ولعله على بعده فيما إذا كان الشراء ممكناً [عادة] لكنه تعذر في ذلك الوقت للعسرة.
وإن أمكن أن يشتري به جزءاً من الفرض، فهل يتعين أن يفرق الدراهم، أي:
أو الذهب إذا كان هو النقد؟ فيه وجهان في "تعليق" أبي الطيب وغيره، وقال ابن الصباغ وغيره: إن الثاني أصح. وعلى هذا: لو أخرج شقصاً جاز، قال الإمام: وفيه أدنى نظر؛ لما فيه من العسر على أهل السهمان، وإذا قلنا بشراء الشقص، فهل يكون من جنس الأعلى أو الأدنى الذي أخذه؟ فيه وجهان عند المراوزة قال الإمام: والذي مال إليه الكافة: الثاني، وأظهرهما عند الصيدلاني: مقابله قال الإمام: ولا يبعد عندي في مثل هذا المقام أن يخير المالك حتى يقال إن شاء أخرج من نوع المأخوذ، وإن شاء أخرج من النوع الآخر بعد تحقق جبران النقصان، وقد أشار إليه بعض المصنفين، وهو متجه؛ فيحصل إذا ثلاثة أوجه فيما يشتريه ثم هل له أن يفرق الفاضل بنفسه؟ ظاهر النص في "المختصر" الذي حكيناه: أن له ذلك؛ لأنه قال: فيعطيه أهل السهمان. وقد بنى القاضي الحسين ذلك على أن رب المال هل له تفرقة زكاة الأموال الظاهرة أم لا؟ فإن قلنا بالثاني، وقلنا يخرجه جزءاً من حيوان، فكذلك، وإن قلنا: يخرجه نقداً، قال: يحتمل وجهين- صرح بهما غيره-:
أحدهما: يفرقه كالأموال الباطنة؛ لأنه من جنسها.
والثاني: يجب دفعه إلى الإمام؛ لأنه بدل حيوان.
وقال على الأول-: إن قوله: فيعطيه إلى أهل السهمان، إنما ذكره؛ لأنه لو دفعه إلى الساعي ربما سخط ذلك؛ لأنه يحتاج إلى أن يقول: أخطأت في الاجتهاد، ولا يعجبه ذلك، وربما [لا] يأخذه.
قال: وقيل: [فيه] قولان:
أحدهما: ما ذكرت، ووجهه وتفريعه سلف.
والثاني: [أنه يتعين] الحقاق، أي: كيف كانت؛ لأن تغير الفرض بالسن أكثر من تغيره بالعدد؛ فكان الاعتبار بالسن أولى، ولأن الإبل قبل أن تبلغ مائتين كلما زادت عشرة جعلت بنت اللبون حقة من غير تخير فكذلك إذا كان في مائة وتسعين ثلاث حقاق وبنت لبون، وجب إذا بلغت مائتين أن تجعل بنت لبون
حقة؛ فتصير أربع حقاق من غير تخيير، وهذا ما نص عليه في القديم.
والقائل بالطريقة الأولى الجازمة بالتخيير [قال: تركه] في القديم القول بالتخيير؛ إنما كان لأن الغالب أن الحقاق خير من بنات لبون، فلهذا لم يذكر أن الساعي مخير بينهما.
وقال صاحب "التقريب": إنه محمول على ما إذا لم يكن في ماله إلا الحقاق، أما إذا لم يكن في ماله إلا أحد الفرضين، والآخر معدوم أو كالمعدوم وهو المعيب أو ناقص، [مع سلامة بقية النصاب]- فقد قال الغزالي في الحالة الأولى: إن الفرض هو الموجود قولاً واحداً. وهو في ذلك متبع للإمام؛ فإنه قال: لا خلاف [في] أن الساعي يأخذه ويكتفي به، قال الرافعي: وهكذا زعم ابن كج والعراقيون كأبي الطيب وابن الصباغ والبندنيجي، وقالوا: إن قلنا بالقديم، وكان الموجود الحقاق فلا إشكال وإن كان الموجود غيرها فهو مخير بين أن يشتري الحقاق وبين أن يصعد بسن ويأخذ الجبران، أو ينزل بسن ويعطي الجبران. وهذا منهم تفريع على [أن] الخيار في الصعود والنزول [لرب المال، كما أشرت إليه من قبل، وإلا فقياس ما تقدم من أن المنصوص في أن الخيار في الصعود والنزول] إلى الساعي [أن يكون له ها هنا إن لم يشتر رب المال الحقاق. وإن قلنا بالجديد، وهو أن الخيار للساعي] في تعيين بنات لبون أو الحقاق، وهو الذي عليه نذكر بقية الفروع الآتية من بعد- أخذ الموجود ولا يكلفه غيره.
وصرح البندنيجي وغيره بأن الحكم في الحالة الثانية كهو في الأولى، وكذا في الحالة الثالثة؛ فإذا كان في ملكه أربع حقاق وثلاث بنات لبون، أو خمس بنات لبون، أو ثلاث حقاق- تعين الكامل على الجديد، حتى لو أراد العدول إلى الناقص ويكمله من الكامل مع الجبران لم يجد إليه سبيلاً، وعلى ذلك يدل قوله في "المختصر": فإن وجد أحد الصنفين أخذ الذي وجد، ولا يفرق
الفريضة. قيل: ومعناه ما ذكرناه فقد قيل: إن الربيع قال: ولا يفارق الفريضة، ومعناه: لا يترك الفريضة. واختلف الأصحاب في ذلك:
فمنهم من قال: الذي نقله الربيع هو الصحيح، فإن تفريق الفريضة جائز، وهو أن يأخذ أربع بنات لبون وحقة موضع [بنت لبون بلا جبران.
ومنهم من قال: الذي نقلاه صحيح، والمراد مما نقله المزني أنه لا يقبل ذلك مع الجبران. نعم، لو كانا ناقصين في ملكه: بأن كان في ملكه ثلاث حقاق وأربع بنات لبون، فإن أعطى الحقاق وبنت لبون مع الجبران جاز، وكذلك إن أعطى بنات اللبون وحقة وطلب] جبرانها جاز أيضاً، ولو قال: خذوا مني حقة وثلاث بنات لبون وجبرانها، ففي القبول وجهان، قال البندنيجي: المذهب منهما: المنع، وقد أجراهما الإمام فيما لو كان في ماله حقة وأربع بنات لبون، وأراد إخراج الحقة وثلاث بنات لبون وجبرانها، لكنه قال: المذهب منهما: الجواز، ومقابله زيف لا أصل له.
ولو كان سن الفرضين معدوماً في ماله، قال العراقيون وفي "الوجيز": إن له أن يشتري أيهما شاء؛ لأن بالشراء يصير موجوداً في ملكه، وهذا ما رجحه في "النهاية"، وصححه في "الوسيط"، وحكى وجهاً آخر: أنه يجب شراء الأحظ، وقد نظره.
ثم هذا إذا لم يرد اتخاذ ما دون الفرض أو أعلى منه أصلاً، ويعطي الجبران أو يأخذه، فإن أراد ذلك: بأن اتخذ بنات لبون أصلاً، ونزل منها إلى بنات مخاض، فأخرج خمس بنات مخاض وخمس جبرانات جاز. وكذا لو اتخذ الحقاق أصلاً، وصعد إلى الجذاع وطلب الجبران جاز ولو اتخذ الحقاق أصلاً ونزل إلى بنات مخاض، أو اتخذ بنات اللبون أصلاً، ورقي إلى الجذاع قال الإمام: فلا يجوز وجهاً واحداً، وإن أجرينا في مثله خلافاً فيما تقدم، والفرق أنه في نزوله وصعوده هاهنا يتخطى واجباً، وهو بنات لبون أو الحقاق، ولا كذلك؛ ثم؛ فإن الحقاق وبنات اللبون ليست واجب ماله، وإن كانت على طريق ترقيه ونزوله.
وحكى الرافعي أن الشيخ أبا محمد حكى في الفرق وجهاً: أنه يجوز النزول والصعود فيهما. كما لو وجب عليه حقة، فلم يجدها، ولا بنت لبون في ماله؛ فنزل إلى بنت مخاض.
فرع: لو كانت إبله أربعمائة، فقد اجتمع فيها ثماني حقاق، وعشر بنات لبون؛ فإن أخذ خمس بنات لبون وأربع حقاق، جاز، ونظيره ما تقدم في الجبرانين، وقال الإصطخري: لا يجوز إلا أن يأخذ ثماني حقاق، أو عشر بنات لبون؛ لأن الشافعي قال:"لا تفرق الفريضة" وفي هذا تفريق الفريضة.
وقد حكى الإمام الوجهين من غير نسبة شيء منهما لأحد، وقال: إنهما يجريان مهما بلغ المال مبلغاً يشتمل على أربعينات وخمسينات.
فإن قيل: قد ذكرتم أن الساعي لا يأخذ إلا الأغبط على المذهب، ويلزم من ذلك أن يكون كل من الصنفين أغبط إذا جوزتم أحدهما له في هذه الحالة، وذلك لا يمكن.
قال ابن الصباغ: يجوز أن يكون لهم حظ ومصلحة من اجتماع النوعين؛ قال الرافعي: وهذا يفيد معرفة شيء آخر، وهو أن جهة الغبطة غير منحصرة في زيادة القيمة، لكن إذا كان التفاوت لا من جهة القيمة يتعذر إخراج الفضل وقدر التفاوت.
قال: وأول نصاب البقر ثلاثون؛ فيجب فيه تبيع.
تمسك الشافعي في ذلك بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه أمر معاذاً أن يأخذ من كل ثلاثين تبيعاً، ومن أربعين مسنة" وبروايته عن مالك بن أنس، عن حميد بن قيسن عن طاوس:"أن معاذاً أخذ من ثلاثين بقرة تبيعاً، ومن كل أربعين مسنة" فكان عمل معاذ موافقاً لما أمر به.
فإن قيل: هذا مرسل؛ لأن طاوسا ولد في زمان عمر، وكان له سنة حين مات معاذ، والشافعي لا يقول بالمراسيل، فكيف يحتج بها؟
قيل: الجواب عن ذلك من أوجه:
أحدها: أن هذا وإن كان مرسلاً؛ فطريقه السيرة والقصة، وهذه قضية مشهورة في اليمن خصوصاً، وفي سائر الناس عموماً، وطاوس يمان؛ فكان الأخذ به من طريق اشتهاره، لا من طريق إرساله، ويدل على ذلك أن الشافعي حين قال ما قاله عقبه بقوله في "المختصر": وهذا لا أعلم فيه بين أحد من أهل العلم لقيته خلافاً.
والثاني: أن الشافعي يمنع من الأخذ بالمراسيل إذا كان هناك مسند يعارضه، وإن كان مرسل لا يعارضه مسند فالأخذ به واجب.
والثالث: أن هذا وإن أرسله الشافعي فقد أسنده غيره؛ فكان الأخذ به من طريق الإسناد، روى أبو داود عن معاذ- وهو ابن جبل- أن النبي صلى الله عليه وسلم:"لما وجهه إلى اليمن أمره أن يأخذ من البقر من كل ثلاثين تبيعا أو تبيعة، ومن كل أربعين مسنة" وأخرجه
الترمذي، وقال: حديث حسن. وروى أبو بكر البزار من حديث ابن عباس قال: لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن "أمره أن يأخذ من كل ثلاثين من البقر تبيعاً، أو تبيعة جذعاً أو جذعة، ومن كل أربعين بقرة مسنة قالوا: فالأوقاص؟ قال: ما أمرت فيها بشيء وسأسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدمت عليه؛ فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله فقال: "ليس فيها شيء".
وفي "موطأ مالك": فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يقدم معاذ بن جبل.
قيل: وهذا هو الصحيح أن معاذاً قدم بعدما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وذكر الدارقطني عن الشعبي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في كل أربعين من البقر مسنة، وفي كل ثلاثين تبيع أو تبيعة" وقد ادعى في "البحر" أن
ذلك مجمع عليه؛ لما ذكره الشافعي، ولا يسلم من النزاع.
قال: وهو الذي له سنة، أي: ودخل في الثانية؛ لأنه لا يتحقق استكمال السنة إلا بالدخول في غيره، وهذا ما حكاه الأزهري كما قال في "البحر"، وقال القاضي الحسين ما ذكره الشيخ، ثم نقل عن أهل اللغة أنهم قالوا: إنه ليس بسن، ولكنه سمي تبيعاًلأنه يتبع أمه في المسرح، كما يقال: فصيل إذا فصل عن أمه، وقيل: لأن قرنه يتبع أذنه، وقيل: لأن قرنه يتبع ترقوته؛ فتساويا، والمذكور في "الحاوي": أن التبيع: ما له ستة أشهر فصاعدا؛ لأن قد قوي على اتباع أمه، وإليه أشار في "الإبانة" بعد حكاية الأول بقوله: وقيل: التبيع اسم للعجل الذي يتبع أمه وإن لم يستكمل سنة، وقد حكاه الإمام، وقال: إن حظ الفقيه مما ذكرناه أن يعلم أن التبيع هو الجذع، يعني كما ورد في الخبر، والجذع من البقر كالجذع من الضأن، وقد تقدم تردد في سن الجذعة من الضأن، قال: وظاهر المذهب: أنها التي طعنت في السنة الثانية.
ومن أصحابنا من قال: إذا استكملت ستة أشهر فهي الجذعة، وهذا على بعده يجري في التبيع، والمذهب الذي عليه التعويل: أنه الذي استكمل سنة، وتقوم مقام التبيع فيما ذكرناه التبيعة، بل هي أولى؛ لفضلها بالأنوثة، كذا قاله الأصحاب كافة.
فإن قيل: خبر معاذ قد دل على أن الواجب في الثلاثين من البقر تبيع أو تبيعة، فلم اقتصر الأصحاب على أن واجبه التبيع، وأنه إذا أخرج التبيعة كان أولى وأسقط الواجب، ويكون متطوعاً بالزيادة، كما قاله في "المختصر"، ولا يقال: إن ما وجب على التخيير، إذا كان أحد خصاله أكمل كان الأدون منها هو الواجب؛ فإن فعل الأكمل سقط به؛ لأن ذلك موجود في خصال كفارة اليمين، وقد اتفق الكل على أن واجبها أحد الخصال الثلاث.
قلت: المعتمد في زكاة البقر ما أشار إليه الشافعي من الاتفاق على أن الواجب في الثلاثين تبيع، وفي الأربعين مسنة واستأنس بحديث معاذ الذي رواه عن مالك، وليس فيه ذكر التبيعة، وإلا فقد قال عبد الحق في "الأحكام الكبرى":"إنه ليس في زكاة البقر حديث متفق على صحته"؛ فلا جرم اقتصر الأصحاب على ذكر أن الواجب في الثلاثين هو التبيع، والتبيعة تجزئ عنه، والله أعلم.
قال: وفي أربعين مسنة، للخبر، وهي التي لها سنتان، أي: ودخلت في الثالثة، كذا قاله القاضي الحسين، وأفهم أنه قول أهل اللغة، وفي "تعليق" البندنيجي أن المسنة لم تنص اللغة ولا الشريعة على قدر سنها، ولكن الظاهر أن المراد بها: الثنية؛ لأنه لما كان في الثلاثين تبيع وهو الجذع، والسن الذي يليها: الثنية- علم أن المراد في النصاب الثاني: السن الذي يلي الجذعة والذي يليها الثنية، والمذكور في "الحاوي" أن الثنية ما لها سنة كاملة ودخلت في الثانية، والخلاف منطبق على أن الثني من الغنم هو هل ما استكمل سنة؟ أو ما استكمل سنتين، وقد تقدم الكلام فيه، ويأتي في الأضحية، والبقر في ذلك كالغنم، كما ذكر الإمام، وإن كان الشيخ قد قال خلافه في الأضحية.
وجمع "المسنة"- كما قال البندنيجي-: مسنان ومسنات، وقال: إنه يقال لما تلده البقر حين يولد: عجل، وعجول؛ فإذا استكمل سنة، ودخل في الثانية قيل له: جذع، وللأنثى جذعة؛ قفإذا استكمل سنتين، ودخل في الثالثة فهو ثني وثنية، فإذا استكمل أربعاً ودخل في الخامسة فهو سديس وسديسة، فإذا استكمل خمساً ودخل في السادسة فهو ضالع، ولا اسم له بعد ذلك إلا ضالع
عام، وضالع عامين.
ويجزئ عن المسنة إخراج تبيعين عند الجمهور؛ لأنهما يخرجان عن ستين، فما دونها أولى.
وحكى الرافعي في إجزائهما وجهين، وهما كالوجهين اللذين حكيناهما عن المتولي وغيره فيما إذا أخرج بنتي لبون أو حقتين عن جذعة، والصحيح منهما أيضاً: الإجزاء.
قال: وفي ستين تبيعان، وعلى هذا أبداً: ثم في كل ثلاثين تبيع، ومن كل أربعين مسنة؛ عملاً بظاهر خبر معاذ، وإنما ذكر الشيخ "وفي ستين تبيعان"، وإن كان قوله: وعلى هذا أبداً: في كل ثلاثين تبيع، وفي كل أربعين مسنة" مغيناً عنه، بياناً لأول النصب التي يتكرر فيها ما أخرج من قبل، وبه يظهر أن ما زاد على الأربعين لا يجب فيه شيء ما لم يبلغ ستين، خلافاً لأشهر الروايات عن أبي حنيفة؛ فإنه أوجب في الخمسين مسنة وربعاً، ووافق على أنها إذا بلغت ستين يجب فيها تبيعان، وقد حكى القاضي أبو الطيب أن بعض أصحابنا قال: فرض البقر إنما يستقر في الستين، يعني أنه إنما يجب في كل ثلاثين تبيع، وفي كل
أربعين مسنة بعد الستين، قال: وهذا ليس بصحيح؛ لأن فرض البقر مستقر من أوله في كل ثلاثين تبيع، وفي كل أربعين مسنة، ولو اجتمع فرضان في نصاب كالمائة وعشرين، فيها ثلاث مسنات، وأربعة أتبعه، فالحكم في تعيين المسناـ، أو اختيار الأحظ للمساكين عند وجودهما وفقدهما، كما تقدم في الإبل، وقد نقل البندنيجي أنه نص في القديم على تعين المسنات، ولا يستثنى من ذلك إلا جواز أخذ الجبران ودفعه؛ فإنه لا يجزئ في البقر بلا خلاف، بل يجب عليه عند فقد سن الفرض من ماله تحصيله، أو إخراج أعلى منه، كما قاله الماوردي وغيره، وفرق بينه وبين الإبل، بأن الغنم لما وجبت في ابتداء فرض الإبل جاز أن يدخل جبرانها فيما بين أسنانها، وذكره ابن الصباغ أيضاً، وقال: إنه ليس بصحيح؛ لأنه ينكسر بدخول الدراهم في الجبران، لكن الصحيح في التعليل: أن الزكاة لا يعدل فيها عن المنصوص عليه إلى غيره بالقياس.
وهذا يخدشه جواز إخراج المسن عن التبيع، وكذا المسنة عنه، وإخراج ما فوق المسنة عنها، وتبيعين عنها كما قاله ابن الصباغ وغيره.
فإن قيل: إن الحكم المستفاد من فحوى الخطاب ثبت بالقياس؛ لأن هذا منه يعم الفرق الصحيح النازع إلى هذا المعنى ما قاله في "البحر": إن الجبران تقويم الشرع؛ فيجب قصره على الموضع الذي ورد فيه الشرع.
قلت: أي وجنسه، حتى يدخل فيه ما إذا أعطى الثنية من الإبل، وطلب الجبران؛ فإنه يجاب على المذهب، كما تقدم، وقد فرق في "التتمة" بينهما: بأن الإبل جرى فيها التخفيف بإيجاب غير الجنس، وهو الشاة؛ فجاز أن تختص بالجبران بخلاف غيرها، وقد أورده في "البحر" أيضاً، ولا يرد عليه ما ذكره ابن الصباغ لتغيير العبارة.
قال: وأول نصاب الغنم أربعون؛ فيجب فيه شاة، وفي مائة وإحدى وعشرين شاتان، وفي مائتين وواحدة، أي: إلى ثلاثمائة ثلاث شياه، ثم في كل مائة شاة.
الأصل في ذلك: ما روى البخاري في كتاب أبي بكر الذي تقدم ذكر بعضه: "وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة؛ فإذا زادت على عشرين ومائة إلى مائتين شاتان، فإذا زادت على مائتين إلى ثلاثمائة
ففيها ثلاث شياه، فإذا زادت على ثلاثمائة ففي كل مائة شاة، فإن كانت سائمة الرجل ناقصة من أربعين شاة واحدة فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها".
واعلم أنا لو لم نقدر ما ذكرناه في كلام الشيخ لأفهم أنه يجب في ثلاثمائة وواحدة أربع شياه كما حكى عن إبراهيم النخعي والحسن بن صالح؛ تمسكاً بأنه- عليه السلام حد الغاية بالثلاثمائة في وجوب الشياه الثلاثة فيجب أن يكون ما يتعقبها مغيراً للفرض كما جعل المائتين حد الغاية في وجوب الشاتين وغير الفرض ما يعقبها، وهذا لم يقل به أحد في مذهبنا، والحديث يرد عليه؛ لأنه قال:"فإن زادت على ثلاثمائة ففي كل مائة شاة"، ومن أوجب أربع شياه في ثلاثمائة وواحدة خالفه، قد قال في "البحر" حكاية عن المزني والربيع: إنه روي في بعض الألفاظ: "إذا نقصت سائمة الرجل عن أربعين شاة فلا شيء فيها، ثم ليس في زيادتها شيء حتى تبلغ مائتين وشاة فإذا بلغتها ففيها ثلاث شياة، ثم لا شيء في زيادتها حتى تبلغ أربعمائة، فإذا بلغتها ففيها أربع شياه، ثم في كل مائة شاة، وما نقص عن مائة فلا شيء فيها"، وهذا أصرح في الرد على المخالف.
وقد أجاب الأصحاب عما ذكره بأن العدد المحدود يجعل لتغيير الفرض تارة وتارة لتغيير النصب والحساب [من غير] أن يتغير الفرض، يدل عليه أن الواحدة الزائدة على عشرين ومائة من الإبل تغير الحساب، ويستقر بها النصاب، وهو إيجاب بنت لبون في كل أربعين، وحقة في كل خمسين، ولا يتغير بها الفرض، كذا في مسألتنا: استقر النصاب بالثلاثمائة ولم يتغير بها الفرض.
والقاضي الحسين قال: إنما ذكر عليه السلام وقصين متواليين، لا نصاب بينهما في الحديث الأول تحسينا للعبارة؛ لأن العرب تستحسن أن تمد الكلام إلى غاية، ثم تردفه بما يستدرك بكل الغاية؛ كقوله تعالى:{وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] [أي: حتى ينقطع دمهن، {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} أي: بعد الانقطاع فأردفه بما يستدرك بكل الغاية.
قال: وإن كانت الماشية إناثاً، أو ذكوراً وإناثاً، أي: على السواء، أو كانت
الإناث قدر الفرض فقط، لم يؤخذ في فرضها أي: المتأصل، إلا الأنثى وأما في الإبل وأربعين من البقر؛ فلظاهر ما تقدم من الخبر، وأما في الغنم، فلحديث سويد ابن غفلة، ولأنه حيوان تجب الزكاة في عينه، فكانت الأنوثة متعينة في فرضه؛ كالإبل.
وقد وافق الخصم هنا وهو أبو حنيفة، وهذا ما نص عليه في "الأم". وقد أطلق جمهور الأصحاب والنقلة القول بذلك، ولم يتعرضوا لاعتبار القيمة في المخرج في الحالين.
وفي "الرافعي" أن الأنثى المأخوذة من الإناث والذكور تكون دون الأنثى المأخوذة من محض الإناث بطريق التقسيط، قال: كما ذكرناه في المراض. وهذا ما يقتضيه كلام الأئمة الذي سأذكره من بعد.
قال: إلا في ثلاثين من البقر؛ فإنه يجزئ فيها الذكر؛ للخبر، واحترزنا بقولنا في بيان كلام الشيخ:"المتأصل" عما إذا أخرج عما دون الخمس والعشرين من الإبل الذكور الغنم، فإنها تؤخذ منه ذكوراً على المذهب، وكذا ابن اللبون عند ملكه خمساً وعشرين من الإبل ليس فيها بنت مخاض كما تقدم.
وقول الشيخ: "في فرضها" احترز به عما إذا أدى ما فوق الفرض ذكراً؛ فإنه يجزئ في بعض الصور، وهو ما إذا كان في ملكه أربعون من البقر، فأخرج تبيعين، فإنهما يؤخذان منه عن المسنة التي هي فرضه، ويجزئان [عنها على المشهور كما تقدم.
قال: وإن كانت كلها ذكوراً أخذ] في فرضها الذكر، أما في ثلاثين من البقر فللخبر، وأما في الغنم؛ فلأن أخذ الأنثى يؤدي إلى الإجحاف برب المال، وليس في أخذ الذكر ما يؤدي إلى التسوية بين القليل والكثير وهذه الزيادة ذكرت فارقة بين الغنم والإبل حيث قلنا: لا يجب فيها الذكر كما سيأتي.
قال: إلا الإبل، فإنه لا يؤخذ فيها أي أصلاً، إلا الإناث؛ للخبر، ولأن أخذ الذكر يؤدي إلى التسوية بين ما يؤخذ من الكثير والقليل في بعض الصور، وهو ما إذا كان ماله ستة وثلاثين، فإن أخذ الذكر منها يؤدي إلى تسويتها بخمس
وعشرين؛ فإنه يؤخذ فيها ابن لبون، وهذا قول أبي الطيب بن سلمة وأبي إسحاق، وقال: إنه مذهب الشافعي، قال في "البحر": وقد نبه عليه في "الأم" وإنما انغلق كلام المزني؛ بشدة اختصاره وعلى هذا قال الأصحاب: يؤخذ أنثى بالقسط ليندفع الضرر عن المالك، وطريق معرفة القسط: أن تقوم الذكور بتقدير الأنوثة، ويقوم فرضها أنثى، ثم تقوم ذكوراً، فما نقصت من قيمة الإناث نقص من قيمة الفرض قدر ذلك، واشتري به أنثى.
مثاله: إذا كان في ملكه خمسة وعشرون قيمتها لو كانت إناثاً ألف، وقيمة بنت مخاض منها مائة، وقيمتها وهي ذكور خمسمائة- فقد علمنا أنه قابل فوات الأنوثة النصف، فينقص من قيمة الفرض النصف، وهو خمسون في مسألتنا، ونأمره أن يخرج أنثى قيمتها خمسون، هكذا قاله البندنيجي وغيره، وهو ما قلت من قبل: إنه يدل على ما حكاه الرافعي؛ إذ لو لم يكن كذلك لكان الصواب أن يقوم على تقدير أن يكون منها أربع وعشرون ذكوراً وواحد أنثى [وتقوم به أنثى] ويقوم الفرض منها ثم تقوم ذكوراً كلها فما نقصت نقص من قيمة الفرض واشتري به أنثى فتأمل ذلك، تعرفه والله أعلم.
وقد حكى مثل هذا الوجه أو القول في الغنم إذا كانت كلها ذكوراً، وقال القاضي الحسين: إنه قول قديم، والذي أورده القاضي أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ وغيره من العراقيين فيها ما تقدم، وهو المنصوص في "الأم" كما قال في "البحر"، والفرق ما تقدم.
قال: وقيل: يؤخذ فيها الذكر؛ كما يؤخذ من المراض مريضة، ومن الغنم الذكور ذكر، ولأن تكليف المالك إخراج أنثى من مال لا أنثى فيه إضرار به، والشرع إنما أوجب الزكاة مواساة؛ فلا يناسبها الإضرار.
قال: إلا أنه يؤخذ في ست وثلاثين ابن لبون أكثر قيمة من ابن لبون يؤخذ في خمس وعشرين؛ حذارا من التسوية بين القليل والكثير، وهذا ما نص عليه في "الأم"، وأشار إليه في "المختصر"، حيث قال: في الإبل لا نأخذ ذكراً مكان أنثى، إلا أن تكون تامة كلها ذكوراً. وبه قال ابن خيران ولم يحكه أبو الطيب في
"التعليق" إلا عنه، وصححه النواوي.
ثم معرفة التفاوت بين المخرج عن خمس وعشرين والمخرج عن ست وثلاثين، يتوقف على معرفة المخرج عن خمس وعشرين عند انفرادها، وقد قال في "البحر": إنا نقدرها كلها إناثاً، فإذا قيل: قيمتها ألف، قيل: فكم قيمة بنت مخاض منهأ؟ فإذا قيل: مائة: فكم قيمتها ذكوراً؟ فإذا قيل: خمسمائة قيل: فكم قيمة ابن مخاض منها؟ فإذا قيل: خمسون- أوجبنا عليه ابن لبون قيمتها خمسون.
فإذا فهم ذلك عدنا إلى مسألة الكتاب، وهي إذا كان جملة ماله ستا وثلاثين، فنوجب عليه- على سياق ما تقدم والحالة هذه- ابن لبون قيمته اثنان وسبعون؛ لأن التفاوت بين القيمتين على نسبة التفاوت بين العددين، وذلك أحد عشر جزءاً من خمسة وعشرين جزءاً وهو خمسان وخمس خمس، وخمسا الخمسين عشرون، وخمس خمس الخمسين اثنان، وإذا أضيف ذلك إلى خمسين بلغ ما ذكرناه وعلى هذا: في ست وسبعين ابنا لبون، كل [واحد] منهما أكثر قيمة من ابن لبون يؤخذ في خمس وعشرين، وكذا في كل موضع أخرج فيه ابن اللبون عن أربعين.
وفي المسألة وجه ثالث: أنه إن أدى أخذ الذكر إلى التسوية بين نصابين لم يؤخذ، وإلا فيؤخذ وشرحه: أنه لا يؤخذ ابن لبون من ست وثلاثين؛ لأن ابن اللبون مأخوذ من خمس وعشرين عند فقد بنت مخاض؛ فيلزم التسوية بينهما، ويؤخذ من خمس وعشرين ابن مخاض، ومن ست وأربعين حق، ومن إحدى وستين جذعة، ولذا يؤخذ الذكر إذا زادت الإبل واختلف الفرض بزيادة العدد، كذا قاله الرافعي.
والأوجه متفقة على أخذ ابن لبون عن خمس وعشرين إذا كان فيها، والأخير مصرح بأن الإبل إذا كانت ذكوراً ليس فيها ابن لبون، وهي خمس وعشرون- أنه يؤخذ منه ابن مخاض، وهو ما ادعى القاضي الحسين أنه الظاهر من المذهب فيما إذا كانت إبله كلها أبناء مخاض، قال: لأن النصاب الأول من الإبل يشبه
جميع النصب من الغنم، على معنى أن الواجب فيه من جنسه باعتبار العدد، لا باعتبار الصفة، والوجه الأول جار فيه، وهو ما أورده ابن الصباغ، ولم يحك خلافه، وفرق بينه وبين ما إذا كان ماله ستاً وثلاثين حيث يجزئه ابن لبون على وجه؛ بأن ابن لبون له مدخل في الزكاة في الجملة بخلاف ابن مخاض.
قلت: هذا الفرق يقتضي عدم إجزاء الحق والجذع، ولا جرم اقتصر هو وكثيرون على إيراد الخلاف الذي ذكره الشيخ، وقد أغرب في "البحر" حيث حكى عن بعض الأصحاب أنه حكى عن ابن خيران أنه قال فيما إذا كان ماله خمساً وعشرين: إنه لا يؤخذ ابن لبون ولا ابن مخاض، قال: وهذا غير صحيح عن ابن خيران.
وهذا كله إذا كان الذكور في سن الواجب، فلو كانوا في غير سنه، كما إذا ملك ستاً وثلاثين ابن مخاض قال القاضي الحسين: فإن قلنا لا يجزئه واحد منها عن خمس وعشرين فهاهنا أولى، وإلا فوجهان، والفرق حذر التسوية بين القليل والكثير.
قال: وكذلك الوجهان جاريان فيما لو ملك ستة وأربعين بني مخاض أو بني لبون، فإن قلنا بالجواز أخذنا منه ابن لبون تزيد قيمته على المأخوذ في ستة وثلاثين.
واعلم أن كلام الشيخ يفهم أنه إذا ملك أربعين من البقر كلها ذكور: أنه يجزئ فيها الذكر، وهو المنصوص عليه في "الأم" كما قال في "المهذب" و"البحر"، وقال البندنيجي: إنه ظاهر المذهب، وقول ابن خيران، وصححه النواوي، قال في "البحر"- تبعاً لما أفهم كلامه في "المهذب"-: وعلى هذا يقوم النصاب من الإناث، والفرض الذي فيها، ثم يقوم النصاب من الذكور، ويؤخذ بالقسط حتى لا يؤدي إلى التسوية بين الذكور والإناث. وفي "ابن يونس": أنا لا نحتاج على هذا التقويم؛ إذا المحوج إليه خشية مساواة القليل الكثير، وذلك مفقود فيها.
وفي المسألة وجه آخر: أنه يتعين إخراج الإناث؛ كما قيل بمثله في الإبل، وهو ما حكى عن أبي إسحاق وأبي الطيب بن سلمة.
قال: وإن كانت الماشية صحاحاً أخذ منها صحيحة، أي: ولا يجزئه معيبة وإن كانت أكثر قيمة من صحيحة، والدليل عليه من الكتاب قوله تعالى:{وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} ومعناه: لا تقصدوا الرديء منه تنفقون، فعبر عن الرديء
بالخبيث وإن كان ينطلق لإرادة المحرم، والدليل على أن المراد دون الحرام، قوله:{وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَاّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة: 267] والذي يؤخذ مع الإغماض إنما هو [الرديء] دون المحرم؛ لأن المحرم لا يجوز أخذه بحال، والمراد بالنفقة: الصدقة؛ قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا} الآية [التوبة: 34] وأراد بالنفقة فيها الصدقة؛ لقوله عليه السلام: "ما بلغ أن تؤدى زكاته فزكي فليس بكنز".
ومن السنة ما روى أبو داود عن ابن شهاب في نسخة كتاب أبي بكر قال: "ولا تؤخذ في الصدقة هرمة ولا ذات عوار ولا تيس الغنم إلا أن يشاء المصدق"، وقد أخرجه البخاري، وروى أبو داود عن سالم- وهو ابن عبد الله بن عمر- عن أبيه في نسخة كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ولا تؤخذ في الصدقة هرمة ولا ذات عيب" وأخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن.
قال: وإن كانت مراضاً أخذ منها مريضة؛ لرواية أبي داود عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً إلى اليمن فقال: "إنك تأتي قوماً أهل كتاب" إلى أن قال: "فإن هم أطاعوك فإياك وكرائم أموالهم"، أخرجه البخاري ومسلم.
وفي أخذ الصحيحة من المراض أخذ الكرائم وقد روى أبو القاسم البغوي في "معجم الصحابة" بسنده عن عبد الله بن معاوية الغاضرين من غاضرة قيس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من فعلهن فقد طعم طعم الإيمان: من عبد الله وحده، وأنه لا إله إلا هو، وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه، رافدةً عليه كل عام، ولا يعطي الهرمة ولا الدرنة ولا المريضة ولا الشرط اللئيمة، ولكن
من وسط أموالكم؛ فإن الله لم يسألكم خيره، ولم يأمركم بشره". وأخرجه مسنداً أيضاً أبو القاسم الطبري.
ولأنه نصاب وجب فيه الزكاة؛ فوجب أن يكون فرضه بصفته، أصله: النصاب من الحبوب والثمار، والحديث الأول محمول على مال فيه صحيح ومريض؛ لأنه الغالب، والفرق بين هذا وبين ما لو كان المال كله ذكوراً أو صغاراً حيث لا يؤخذ منه الذكر ولا الصغير- على قول أو وجه: أن اسم "بنت لبون" مثلاً يطلق على المريضة، ولا يطلق على الذكر والفصيل، وقد وجب بلفظ "بنت لبون".
قال: وإن كانت صحاحاً ومراضاً، أي: والصحاح قدر الفرض أو أكثر منه أخذ منها صحيحة ببعض قيمة فرض صحيح وبعض قيمة فرض مريض على قدر المالين؛ لأن المريض لا يزكي الصحيح، لأن في إخراجه تيمم الخبيث، وفي إخراج الصحيح من غير اعتبار القيمة إضرار بالمالك وأخذ الكرائم، وهو منهي عنه؛ فتعين التقدير بالنسبة رعاية للجانبين، ومثال ذلك: إذا كان له أربعون من الغنم منها عشر مراض وثلاثون صحاح، فيقال: كم [قيمة] فرض صحيح منها؟ فإذا قيل: عشرون، فيقال: وكم قيمة فرض مريض منها؟ فإذا قيل: عشرة، قيل له:
نصف وربع قيمة الصحاح خمسة عشر، وربع قيمة المراض اثنان ونصف، وجملة ذلك سبعة عشر ونصف فأعط فرضاً صحيحاً قيمة ذلك. وهكذا الحكم فيما لو كان واجب ماله من الغنم حيوانين، وفيما لو كان ماله إبلاً وواجبه حيوان واحد أو حيوانان على المشهور.
ولو كان ماله ثلاثين من الإبل، ونصفه صحاح والنصف الآخر مراض، وقيمة كل صحيحة أربعة دنانير، وقيمة كل مريضة ديناران- قال في "التهذيب"، تبعاً للقاضي الحسين وغيره: يجب عليه صحيحة قيمتها ثلاثة دنانير؛ نظراً إلى نصف قيمة الصحيح ونصف قيمة المريض.
قال الرافعي: ولك أن تقول: هلا كان هذا ملتفتاً إلى أن الزكاة هل تنبسط على الوقص أم لا؟ فإن انبسطت فذاك وإلا قسط المأخوذ على الخمس والعشرين. انتهى.
قلت: لو خرج على هذا فما الذي يجعل الوقص منه: هل من الصحاح أو من المراض، أو منهما؟ إن جعلناه من الصحاح أضررنا برب المال، وإن جعلناه من المراض أضررنا بالفقراء فتعين أن يجعل منهما، وحينئذ لا تختلف النسبة، على أن جعله منهما على السوية متعذر، لأن الخمس لا تنقسم.
أما إذا كان الصحاح من ماله دون الفرض كما إذا كان واجبه حيوانين وجميع ماله مراض إلا أحد الحيوانين فالذي أورده البندنيجي والروياني: أنه يخرج واحداً معيباً والآخر سليماً بالنسبة، وإن أخرج السليم جاز، وهو الذي حكاه الإمام عن العراقيين والصيدلاني، وحكى عن شيخه أنه كان يقطع في دروسه أنه لابد [من] أن تكونا جميعاً صحيحتين، ولا يكفيه أن يخرج تلك الصحيحة ومعيبة؛ لأن من أخرج بعيرين من إبله فهما يزكيان ماله، وكل واحد منهما يزكي الثاني، وإن كانتا مخرجتين فيلزم من إخراج صحيح ومريض أن يزكي المريض الصحيح، قال الإمام: وهذا عندي خروج عن ضبط الفقه، وتقدير بعيد لا حاصل له، والزكاة إذا أخرجت فالباقي يزكي بها فأما الزكاة فلا تزكي نفسها؛ ولأجل هذا قال الغزالي: إن هذا سرف؛ لأنه إذا لم يبق في ماله صحيح سقط أثر المخرج.
وقد حكى القاضي الحسين والمتولي الخلاف المذكور وجهين في المسألة، وأنهما مأخوذان من اختلاف وقع في نسخ "المختصر"؛ فإن في بعض منها- كما قال هو والقاضي أبو الطيب وغيرهما-:"ولا يأخذ مريضاً وفي الإبل عدده صحيح"، وفي بعض "النسخ]:"ولا يأخذ مريضاً وفي الإبل [عدد صحيح] "، فمن قرأه بإثبات الهاء قال: المراد لا يأخذ مريضاً في الفرض وفي الإبل عدد؛ فإن الواحد أول العدد وليس عدد الفرض صحيحاً، وجوز الأخذ بهذه الصورة؛ لأن عدد الفرض لم يكن صحيحاً في ماله. ومن قرأه بنفي الهاء، قال: مراده: لا يأخذ مريضاً في الفرض وفي الإبل عدد ما صحيح وقد وجد في ماله في هذه الصورة عدد ما صحيح فلا يأخذ المريض.
فإن قلت: الواحد أول العدد وليس بعدد؛ فلا تندرج هذه الصورة في كلام الشافعي بتقدير حذف الهاء.
قلت: قد استشعر القاضي ذلك حيث منع ألا يكون الواحد عدداً بقوله: "واسم العدد يقع على الواحد. وأنا أقول: هذا التخريج صحيح، وإن قلنا: إن الواحد ليس بعدد؛ لأنا لو فرضنا الكلام فيما إذا كان الواجب عليه ثلاث حيوانات، كما إذا كان ماله مائتين وواحدة من الغنم، والجميع مراض إلا شاتين، فإن قضية من قرأ
اللفظ بغير هاء: ألا يجزئه إخراج المريضة في هذه الحالة؛ لأنه قد وجد في المال عدد صحيح، وإذا صح ذلك فوجهه ما ذكره الشيخ أبو محمد، وإذا كان كذلك وجب طرده في الصورة الأخرى؛ لوجوده فيها.
ثم قضية بناء الوجهين على الاختلاف الذي وقع في نسخ "المختصر" بما ذكرناه من التقرير القطع بأن الإبل إذا كان الواجب فيها اثنان من جنسها وكانا صحيحين وباقيها مراضا- ألا يجزئه إلا صحيحان قولاً واحداً، ولكن بالقسط، وكذا في الغنم وغيرها، وهو ما قلنا من قبل: إنه المشهور وقد أغرب القاضي الحسين- وتبعه في "التهذيب" و"التتمة"- حيث قال: إذا كان ماله نصابين وأحد النصابين صحيحاً والآخر مريضاً بأن يكون له ست وسبعون من الإبل أو مائتان من الغنم نصفها صحاح ونصفها مراض، فأخرج صحيحة ومريضة- هل يجزئه أم لا؟ فيه وجهان.
قال القاضي: على اختلاف قراءة المختصر من قرأ: وفي الإبل عدد صحيح، قال: ما دام في الإبل صحيح لا يؤخذ مريض، ومن قرأ: عدده صحيح قال: يؤخذ من المريض مريض ومن الصحيح صحيح، يعني جميع الإبل، قال: والصحيح [أن] الهاء راجعة إلى المخرج؛ فلا يأخذ إلا الصحيح في هذه المسألة، وقد قال في "التهذيب": إن الصحيح عنده أنه يأخذ صحيحة ومريضة.
قلت: ومن هذا الخلاف يؤخذ خلاف في المال المشتمل على نصابين يتعدد بتعددهما الواجب: كالست والسبعين هل نقول: وجب في مقابلة نصفها بنت لبون الإبل؛ أخذا من [الخلاف المذكور] فيما إذا ملك أربعمائة من الإبل هل يجزئه أربع حقاق وخمس بنات لبون، أو لا يجزئه إلا ثماني حقاق أو عشر بنات لبون؟ ويمكن أن يكون مأخذ الخلاف هاهنا ذلك أيضاً، لكن قضيته لو قيل به أن يكون الصحيح هنا الجواز كما قاله البغوي، والصحيح [خلافه] بل المشهور اختصاص الخلاف بالصورة الأولى.
وقد أغرب الغزالي فيها حيث قال- تفريعاً على ما قاله الصيدلاني-: إنه يكتفي منه بصحيحة تقرب قيمتها من ربع عشر ماله إذا كان المملوك أربعين من الغنم. وغرابة ذلك من وجهين:
أحدهما: أن قوله: تقرب قيمتها يشعر بأن الأمر في ذلك على التقريب قال الرافعي: وهذا لم أره في كلام غيره، ولا ينبغي أن يسامح بالنقصان والبخس.
قلت: مراد الغزالي- والله أعلم-: أن التفاوت في هذا يسير؛ لأن الزائد بسبب صحة واحدة من أربعين قليل ومع قلته لا يهمل بل يجب اعتباره، فهو ضد ما فهم عنه.
الثاني: جعله التفاوت منسوباً إلى ربع عشر القيمة إذا كانت غنمه أربعين، وهو الذي رواه ابن كج عن أبي إسحاق والذي قاله الجمهور في التقسيط هو الأول، قال الرافعي: وهو يتضمن النظر إلى آحاد الماشية إلا إذا استوت قيم الصحاح وقيم المراض وقد تكون مختلفة ولفظ الغزالي يغني عن النظر إلى آحاد الصور.
واعلم أن المعيب كالمريض فيما ذكرناه. نعم، لو كان كل المال معيباً، لكن البعض أردأ- فقد قال الشافعي في "المختصر": يأخذ خير المعيب. واختلف الأصحاب في ذلك:
فمنهم من أجراه على ظاهره، وأوجب خير المعيب من جميع ماله، قال الماوردي: وهو غلط؛ لأنه لا يطرد على أصل الشافعي، وهذا لم يورده الجمهور، بل أكثرهم قال: لا يختلف أصحابنا أن إبله إذا كانت [كلها] معيبة، فلا يجوز أن يأخذ خيرها في الصدقة، وممن قال ذلك، الإمام لكنه ذكر عن العراقيين بعد ذلك تردداً في صورة تقتضي المنازعة في ذلك.
ومنهم من قال: أراد بذلك أخذ خير الفرضين، وهي الحقاق وبنات اللبون، ولم يرد خير جميع المال، قال في "الحاوي": وهو الصحيح وبه قال ابن خيران، ويؤيده قوله في "الأم": يأخذ خير المعيب من السن التي وجبت عليه.
ومنهم من قال: مراده أن يكون رب المال أذن للساعي أن يأخذ من إبله ما شاء فيأخذ خيرها.
ومنهم من قال: أراد بخير المعيب: أوساطها، كما قال تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] يعني: وسطاً، لأنه قال في آية أخرى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143] ثم هؤلاء اختلفوا في المراد بالوسط على وجهين حكاهما البندنيجي والماوردي:
أحدهما: أوسطها عيبا، مثال ذلك: أن يكون ببعضها عيب، وببعضها عيبان، وببعضها ثلاثة عيوب؛ فيأخذ ما به عيبان، وهذا ما أورده القاضي أبو الطيب تفريعاً على هذا.
والثاني: أوسطها في القيمة، مثال ذلك: أن تكون قيمة بعضها معيباً خمسين، وقيمة بعضها معيباً مائة، وقيمة بعضها معيباً مائة وخمسين فيأخذ ما قيمته مائة لأنه أوسطها، وهذا معنى قول الغزالي بعد حكاية النص: وقال الأصحاب: يخرج بالقسط وهو الأصح، وعليه تنطبق رواية الربيع- كما قال القاضي الحسين-: ويأخذ من خير المعيب ما تفاوت بالقيمة قدر صدقته.
والصورة التي حكى فيها الإمام التردد عن العراقيين: ما إذا ملك خمساً وعشرين معيبة فيها بنتا مخاض، إحداهما من أجود المال مع العيب والأخرى: دونها فقال: أحد الوجهين: أنه يأخذ التي هي أجود، وأصحهما: أنه يأخذ الأوسط. وذكر أن من قال بالأول شبه المسألة بالأغبط من الحقاق وبنات اللبون إذا اجتمع فرضهما في نصاب كالمائتين.
ثم العيب المؤثر فيما نحن فيه: كل ما يرد به في البيع كذا قاله علماؤنا كما قال الإمام في باب فرض الإبل السائمة، وأنهم قالوا: لا تعتبر العيوب المانعة من الإجزاء في الأضاحي، وحكى عن شيخه أن من أئمتنا من اعتبر السلامة من عيوب الأضاحي، والسلامة من العيوب التي تثبت الرد وهذا زلل غير معتد به، والوجه: القطع باعتبار عيوب الرد فحسب، والفارق بين الوجهين يقع في شيء واحد، وهو أن الشرقاء والخرقاء تجزئ على الوجه الأول، كما صرح به الإمام في باب زكاة الغنم عن الصيدلاني؛ موجهاً له بأنها ليست معيبة بعيب مؤثر في القيمة والمالية وهي المرعية في الزكاة، وإن كان استشراف المنظر حساً معتبراً في
الضحايا على رأي، وعلى الوجه الثاني لا تجزئ إذا قلنا بعدم إجزائها في الضحايا، وقال الإمام في باب زكاة الغنم: إنه غير معدود من المذهب، وإنما هو هفوة من السامع والمستمع، وقد أوضح في "الخلاصة" حقيقة الوجه الأول وهو الصحيح في "الرافعي" فقال: المؤثر في المنع ما لا يجزئ في الأضحية إلا سلامة الأذن.
قال: وإن كانت صغاراً، أي: بأن كانت دون أول سن تجب فيها، وذلك يتصور في جميع الماشية بأن تنتج في ملكه ماشية ثم تموت أمهاتها ويتم حولها وهي صغار ويفرع على المذهب في [أن] الحول لا ينقطع بموت الأمهات، خلافاً للأنماطي، ويتصور أيضاً في المعسر بأن يملكها ببيع ونحوه، ويتم عليها حول ولم يكمل لها سنتان، وقلنا بالصحيح: إن الثنية منها ما استكملت سنتين.
قال: فإن كانت من الغنم، أخذ منها صغيرة؛ لعموم قوله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [التوبة: 103] فلم يجز لحق هذا الظاهر أن يكلفوا الزكاة من غيره، ولقول أبي بكر في حق مانعي الزكاة:"والله، لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلهم على منعه" كما أخرجه البخاري ومسلم.
وجه الدلالة منه: أنه أخبر عنهم أنهم كانوا يؤدون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العناق،
والعناق: الأنثى الصغيرة من أولاد الغنم ما لم تجذع، وهي إنما تؤخذ من مال كله سخال، ولأنا لو كلفناه كبيرة من مال لا كبير فيه لكلفناه كريمة من مال لا كريمة فيه؛ لأن الكبيرة كريمة في هذه الحالة، وذلك لا يجوز؛ للخبر الآخر، ولأنه مال تجب الزكاة في عينه؛ فوجب أن نأخذ زكاته من عينه [كالثمر الردئ] وهذا ما حكاه القاضي الحسين عن الجديد، وقال تفريعاً عليه: إنا نأخذ صغيراً سخلة من جملة السخال تبلغ قيمتها قيمة ربع عشر ماله إذا كان أربعين؛ وهو جزء من أربعين جزءاً.
قال: وإن كانت من الإبل والبقر أخذ منها كبيرة أي: ولا يأخذ صغيرة منها مطلقاً؛ لأن ذلك يؤدي إلى التسوية بين القليل والكثير، فيأخذ في خمس وعشرين من الإبل فصيلاً يأخذه في إحدى وستين منها، وفيما بينهما، ويأخذ في ثلاثين من البقر عجلاً يأخذه في أربعين منها وذلك إضرار بالفقراء؛ فتعين أخذ كبيرة.
قال: أقل قيمة من كبيرة تؤخذ من الكبار؛ رعاية لجانب رب المال، وهذا ما حكى عن ابن سريج وأبي إسحاق [قالا]: والفرق بين ذلك وبين الغنم بوجهين:
أحدهما: أن محذور التسوية بين القليل والكثير مفقود فيهما.
والثاني: أن أسنان فرائض الإبل والبقر منصوص عليها؛ فلم يجز تركها
لمخالفة النص، وسن فرائض الغنم لم يرد النص به؛ لوروده في الإبل والبقر، فجاز تركه عند فقده.
وعن بعض الأصحاب: أنه طرد هذا الوجه في الغنم- أيضاً- فقال: يأخذ منها كبيرة بالقسط وهو ما حكاه البغوي عن القديم تبعاً للقاضي الحسين والفوراني؛ لأنا لو أخذنا الصغيرة من الغنم لأخذناها من الإبل أيضاً كالمريضة، والمعيبة حيث تؤخذ من جميع النعم، ولو أخذناها من الإبل لزمت التسوية، فامتنع الأخذ أصلاً ورأساً، كما أنا نمتنع من أخذ الصغيرة من الإبل والبقر- على هذا الوجه لأجل ذلك- فيما إذا كان المال خمساً وعشرين من الإبل وثلاثين من البقر، وحينئذ لا أثر للفرق الأول، والثاني ضعيف، ولا وجه له في بدله. وعلى هذا نقول: كم قيمة النصاب لو كان كباراً؟ فإذا قيل: ألف مثلاً قيل: فكم قيمة الفرض منه؟ فإذا قيل: عشرة، قيل: فكم قيمة هذه الصغار؟ فإذا قيل: خمسمائة، قيل له: أخرج سن الفرض ويكون قيمته خمسة كذا قاله الماوردي والبندنيجي في الإبل، وطرده منقاس في غيرها، والقاضي أبو الطيب قال في الإبل على هذا: إذا كانت خمساً وعشرين فإنه يخرج ابنة مخاض قيمتها قيمة واحدة من الصغار، وإذا كانت ستاً وثلاثين أخرج بنت لبون قيمتها قيمة فصيل منها، والقياس: طرد ذلك في البقر والغنم إن قلنا بتعين الكبيرة فيها.
وقد قال الإمام: إن الساعي يجتهد في الغنم ويحرص؛ حتى لا يجحف برب المال، فيأخذ جذعة من أربعين من سخال الغنم قريبة القيمة من سخلة، ويشترط أن تكون سليمة من العيوب، ولا ينبغي أن يظن الفقيه أنا نلتزم التسوية بين قيمة تلك الجذعة وبين السخلة؛ فإن هذا قد لا يتأتى أصلاً، وقد تكون أكبر سخلة في المال غير مستكملة شهراً، وقد لا تكون شريفة الجنس- أيضاً- فليس من الممكن فرض جذعة سليمة على قيمتها، ولو فرضنا وجدان ذلك؛ لكون السخال نفيسة وكانت الجذعة من نوع قريب القيمة فما عندي أن الأئمة
يسمحون بالعدول عن النوع الشريف، ولا أحد يصير إلى أنا نعدل إلى الدراهم، فإن هذا يؤدي إلى [إيجاب] إخراج قيمة سخلة، ولو أجزأت قيمة سخلة لأجزأت سخلة في نفسها.
قلت: وبهذا يندفع السؤال على قول من قال: إنا إذا أوجبنا عليه في الإبل والبقر كبيرة أقل قيمة من كبيرة تؤخذ من الكبار، فلم نجد كبيرة بتلك القيمة- إنا نأخذ منه القيمة للضرورة كما ذكره المسعودي [في "الإيضاح"].
قال: وقيل: تؤخذ الكبيرة، أي: التي وصفناها من النصب التي يتغير الفرض فيها بالسن، أي: كخمس وعشرين من الإبل، وست وثلاثين وست وأربعين وإحدى وستين منها، وثلاثين من البقر وأربعين منها، للمحذور الذي ذكرناه من التسوية، فأما ما يتغير الفرض فيها بالعدد، أي: كست وسبعين من الإبل، وستين من البقر؛ فإنه يؤخذ الصغار؛ لانتفاء المحذور المذكور فجاز كما في الغنم، وهذا ما ضعفه الماوردي، وقال: إنه لا يتحصل منه شيء؛ لوضوح فساده من الاعتبار، وغيره بين فساده؛ بأن التسوية المحذورة فيما يتغير الفرض فيه بالسن موجودة فيما يتغير الفرض فيه بالعدد، وذلك بين ست وسبعين وإحدى وتسعين من الإبل، وبين الستين من البقر والثمانين، وقد سلم الحكم في ذلك كما قاله الماوردي، ولا فرق بينهما إلا في الصورة؛ فإن ما يتغير الفرض فيه بالسن المأخوذ منه واحد، والمأخوذ فيما يتغير فيه الفرض بالعدد اثنان، ولا أثر لذلك.
وقد عبر قوم من الأصحاب عن هذا الوجه بعبارة أخرى تدفع الإلزام المذكور، وهي أن الصغيرة تؤخذ حيث لا يؤدي أخذها إلى التسوية، ومنهم الغزالي في "الوسيط" تبعاً للإمام وادعى الإمام في موضع: أنه وجه عدل متجه، وفي آخر: أنه الأصح، وكذا البغوي وقال: إنه الجديد، وإذا قلنا به وجبت صغيرة لائقة بماله، وفي المسألة وجه آخر: أنه تؤخذ الصغيرة من الإبل والبقر بكل حال، كما تؤخذ من الغنم، فيؤخذ في خمسة وعشرين فصيلاً فصيل [وفي ستة وثلاثين فصيلاً فصيل، وفي ستة وأربعين فصيلاً فصيل، وفي واحد وستين فصيلا
فصيل]، وفي ستة وسبعين فصيلان، وفي ثلاثين عجلا عجل، وفي ستين عجلان، وفي سبعين عجلان، ثم هكذا فيما زاد ونقص، قال الماوردي: وهو ظاهر النص، والبندنيجي وأبو الطيب قالا: إنه ظاهر المذهب [والمتولي قال: إنه المذهب] وهو الذي صححه الفوراني، وقال ابن الصباغ: إنه ليس بشيء.
وعلى هذا قال الشيخ أبو بكر- وهو ابن الحداد- والصيدلاني: ينبغي أن يحرص الساعي حتى يأخذ من المقدار الكبير من الإبل فصيلا أكثر شيئاً مما يأخذه فيما دونه حتى يحصل عند الإمكان فصل بين المأخوذ من الكثير والمأخوذ من القليل، فإن أراد أن يأخذ فصيلاً من خمس نظر إلى الأسنان عند وجودها، ومعلوم أنه [لو] ملك خمسا وعشرين من جذاع الإبل أو ثناياها، فإنا نكتفي منه ببنت مخاض، وهي أول الأسنان المعتبرة، فلينظر الناظر إلى مثل ذلك في الفصلان.
قال الإمام: ويخرج من هذا أنه يأخذ أكثر الفصلان في المقدار الكبير. وقال غيره: إنه يأخذ من ست وثلاثين فصيلاً فوق الفصيل المأخوذ من خمس وعشرين، ومن ست وأربعين فصيلاً فوق المأخوذ من ست وثلاثين، وعلى هذا القياس.
وعلى الجملة فإن أمكن التفاوت فهو حتم، والنظر فيه إلى نظر الساعي واجتهاده، وإن تساوت الفصلان على مزية واحدة، فلابد على هذا من التسوية بين القليل والكثير على هذا الوجه الذي عليه نفرع، كذا قاله الإمام.
قلت: والقياس يقضتي طرد مثل هذا في البقر، وقد اقتضى ما ذكره الشيخ في الإبل والبقر الجزم بعدم إجزاء الصغيرة عن خمس وعشرين من الإبل وثلاثين من البقر، أما على [الوجه] الأول فظاهر، وأما على [الوجه] الثاني؛ فلأنها من النصب التي يتغير الفرض فيها بالسن، وقد جزم البغوي بإجزاء الصغير عن خمس وعشرين من الإبل، وحكى الخلاف فيما جاوز ذلك.
قال الرافعي: وفي كلام الصيدلاني مثل ذلك والقياس طرد ذلك في البقر، وقد حكى في "الوجيز" وجهاً: أن الصغيرة تؤخذ في غير الإبل، وفي الإبل فيما
جاوز إحدى وستين، ولا تؤخذ فيما دونه؛ كي لا يؤدي إلى التسوية، وهذا الوجه يلحق البقر بالغنم مطلقاً دون الإبل.
قلت: و [هو الذي] لا يتجه غيره؛ لأن عماده المنع من إخراج الصغيرة، أما التسوية بين القليل والكثير أو خشية الإفضاء إليها فذلك مأمون في البقر؛ لأن الواجب في ثلاثين منها ذكر، وفي أربعين أنثى، وفي ستين ذكران، وفي ثمانين أنثيان، وذلك فارق بين القليل والكثير؛ فإن الأنوثة صفة زائدة قائمة في بعض الصور مقام زيادة السن؛ ألا ترى إلى جعل الشرع ابن اللبون مجزئاً، في خمس وعشرين وبنت اللبون واجب ست وثلاثين؟ نعم، لو كانت الصغار ذكوراً، وقلنا: لو كانت البقر كلها [ذكوراً] في سن الواجب أخرج الذكر، كما هو المنصوص، فهاهنا لو قلنا: يخرج الصغير من البقر، للزمت التسوية، أو خشية الإفضاء إليها؛ فيتجه إلحاق البقر- والحالة هذه- بالإبل، والله أعلم.
واحترز الشيخ بقوله: منها عما إذا كانت صغاراً وزكاتها من غيرها، كالعشرين فما دونها من الإبل؛ فإنها وإن كانت صغاراً لا يؤخذ عنها إلا ما يؤخذ عن الكبار نعم، لو أخرج منها فصيلاً، قال القاضي الحسين وغيره: جاز. وقال في "التهذيب": إنه يجوز على القول الجديد.
وقد سكت الشيخ عما إذا كانت الماشية صغاراً وكباراً؛ اكتفاء بما تقدم في الصحاح والمراض، إذ حكمهما واحد، وقد استدل لذلك بقول عمر- رضي الله عنه لساعيه سفيان بن عبد الله الثقفي:"اعتد عليهم بالسخلة يروح بها الراعي على يده ولا تأخذها، ولكن خذ الجذعة والثنية، فإن ذلك عدل بين غذاء المال وخياره"، والغذاء: السخال والبهم، واحدها: غذي، ومعناه: إذا فعلت ذلك لم تظلم.
ولو كان ماله نصابين كست وسبعين من الإبل مثلاً، ونصفها كبار ونصفها صغار، فهل يتعين إخراج كبيرتين، أو يجوز أخذ كبيرة وصغيرة منه؟ إذا قلنا: تؤخذ صغيرة من الصغار، حكمه أيضاً ما تقدم في نظير [مسألة الصحاح والمراض، قاله المتولي، وحكى الخلاف المذكور في] المسألة الأخرى، ثم في
نظيرها هاهنا، ولو كانت الماشية أعلى سناً من سن الفرض، لم يطالب رب المال إلا بالفرض المنصوص عليه.
قال: وإن كانت المواشي أنواعاً: كالبخاتي، والعراب، والجواميس، والبقر، والضأن، والمعز، ففيه قولان.
البخاتي- بتشديد الياء وتخفيفها- والعراب: نوعان للإبل كما أن المَهْرِية، والأَرْحَبية، والمُجَيْدية، والعَقِيلية، والقِرْمِلية أنواع لها.
والجواميس والبقر المعروفة بين الناس نوعان- كما أراد الشيخ للبقر- وقد أنكر عليه جعله البقر أحد نوعي البقر، وكان الصواب أن يقول: والجواميس والعراب؛ لأنهما نوعان للبقر، وكذا الدربانية- بدال مهملة مفتوحة، ثم راء ساكنة ثم باء موحدة، ثم ألف ثم نون-: نوع لها، قال الأزهري: أنواع البقر منها الجواميس، وهي أنبل البقر، وأكثرها ألبانا وأعظمها أجساماً. والعراب: وهي جرد ملس حسان [الألوان] كريمة. ومنها الدربانية: وهي التي ينقل عليها الأحمال.
وقال ابن فارس: الدربانية ترقُّ أظلافها وجلودها ولها أسنمة.
والضأن والمعز: نوعان للغنم، وكذا العربية والملكية والبلدية أنواعها.
فإذا وجدت أنواع من جنس في ملك شخص، أو نوعان، ضم بعضها إلى بعض في إكمال النصاب بلا خلاف، والمخرج من ماذا؟ قال الشيخ: ففيه قولان،
أي: منصوصان في "الأم"، كما قال في "البحر":
أحدهما: [يؤخذ] من الأكثر؛ لأن للغلبة تأثيراً في الأصول، دليله: المائع إذا اختلط بالماء نظرنا إلى الأغلب، والشخص إذا غلب عليه الخير أو الشر، كان الاعتبار به في قبول شهادته وردها.
والثاني: يجب في الجميع بالقسط، لأنه مال تجب الزكاة في عينه؛ فلم يعتبر الغالب في أخذ الزكاة منه؛ كالدراهم والحبوب إذا كان فيهما الجيد ودونه.
وهذا ما أشار إليه في "المختصر" حيث قال: [والقياس: أخذ من كل بقدر حصته، وهو الأصح بالاتفاق.
وفي المسألة قول ثالث، قاله في موضع آخر من "الأم": أنه يخرج من أوسط الأنواع عند اجتماعها، حيث قال]: إذا اختلفت الغنم وكانت أجناساً بعضها أرفع من بعض، أخذ المصدق من أوسط أجناسها، لا من أعلاها ولا من أسفلها؛ لأن ذلك العدل.
التفريع: إن قلنا بالأول، أخذ من النوع الأغلب من ماله، ولا نظر إلى كونه أحظ للمساكين أو خلافه، فإن كان ماله أربعين من الغنم، ثلاثين ضأنا وعشرين معزا أخذنا جذعة من الضأن، [ولو انعكس الحال أخذنا ثنية من المعز. ولو كان ماله ثلاثين من البقر، عشرين عراباً وعشرة جواميس- أخذنا تبيعا من العراب، ولو انعكس] الحال أخذنا تبيعاً من الجواميس، ولو كان ماله خمسة وعشرين من الإبل، خمسة عشر مهرية، وعشرة أرحبية أو مجيدية أو غير ذلك أخذنا بنت مخاض مهرية، ولو انعكس الحال أخذنا بنت مخاض من النوع الآخر.
فإن لم يجد [من] الأكثر السن الواجب، قال الشافعي: كلفنا رب المال تحصيلها ولا تنخفض ولا ترتفع. قال في "البحر": وأراد: لا يجوز أن يأخذ من النوع الأدنى مع الجبران، أو من الأعلى مع دفع الجبران إليه، ولكن لو أخذ من السن الأكبر ودفع الجبران، أو الأدنى مع الجبران، يجوز بلا إشكال، وعلى هذا – أيضاً-: لو تساوى النوعان أو الأنواع، مثل: أن كان في ملكه عشرون من الضأن وعشرون من المعز، أو ثلاثون من البقر: عشر عراب، وعشر جواميس،
وعشر دربانيات، قال في "الوسيط" تبعاً لـ"النهاية": إنه كاجتماع الحقاق وبنات اللبون، فالمذهب وهو المنصوص في "الأم" كما قال في "البحر": أن الساعي يختار الأنفع للمساكين، وهو ما أورده البندنيجي، والقاضي الحسين والشيخ في "المهذب"، وقاله أبو إسحاق في "الشرح" كما قال ابن الصباغ.
وقيل: الخيرة لرب المال يخرج ما شاء، كما هو مذهب ابن سريج في الحقاق وبنات اللبون، وهو ما ذكره أبو إسحاق في "الشرح" كما قاله في "البحر" وأنه لا وجه له على مذهب الشافعي، وأن بعض أصحابنا قالوا: ويجيء فيه وجه آخر: أنه يؤخذ من كل واحد منهما بقدره؛ كالتمر إذا كان نوعين سواء، يؤخذ من كل نوع بقدره.
قلت: ليس المعني بذلك: أنه يأخذ شقصاً من حيوانين، بل المراد: أنه يأخذ منه حيواناً واحداً بالقسط، فيقوم النصاب كما لو كان كله من نوع ويقوم واجبه وكذلك يقوم النوع الآخر وواجبه، فيأخذ منه حيواناً قيمته قدر نصف قيمة كل من النوعين، وهو الذي أورده الماوردي، حيث قال عند استواء النوعين: إن عليه إخراج شاة من أيهما شاء على قدر المالين. وحقيقته ترجع إلى- ما قاله القاضي أبو الطيب في "المجرد"- أنه ينبغي أن يسقط هذا القول إذا تساوت.
ولو كانت إبله عشراً مهرية، وعشراً أرحبية وخمساً مجيدية، وجب عليه بنات مخاض مهرية أو أرحبية، والخيرة للساعي على المذهب في أخذ أيهما شاء لا بالتشهي، بل باتباع الأحظ، وحقيقته ترجع إلى تعيين المهرية؛ لأنها الأجود؛ ولهذا قال القاضي الحسين: لو كانت إبله عشراً مهرية، وعشراً أرحبية وعشراً مجيدية، أخذ بنت مخاض عن المهرية على هذا القول بلا خلاف، كما قال الإمام وغيره. وإن قلنا بالقول الثاني لم يأخذ أشقاصاً من حيوانات وإن اقتضاه ظاهر النص، وقال به القاضي الحسين تخريجاً بل يأخذ منه في النصاب الواحد حيواناً كاملاً بالقسط، فنقول في المثال الأول: كم قيمة النصاب لو كان كله ضأنا؟ فإذا قيل: مائة وستون قلنا: وكم قيمة الفرض منه؟ فإذا قيل: أربعة، قلنا: وكم قيمة النصاب لو كان كله معزاً؟ فإذا قيل: ثمانون، قلنا: وكم قيمة الفرض منه؟ فإذا قيل: درهمان، أخذنا منه شاة قيمتها ثلاثة ونصف؛ لأن الثلاثة نصف
وربع قيمة الفرض من الضأن، والنصف قيمة الربع من المعز، وقد قيل: إنه لا حاجة في تقويم النصاب، بل تقوم الجذعة من الضأن في مثالنا، ونأخذ ثلاثة أرباع قيمتها، وتقوم الثنية من المعز ونأخذ قيمتها، ويجمع ذلك، فما بلغ أخرج شاة قيمتها ذلك وهذا ما ذكره أبو الطيب وهكذا نفعل في البقر والإبل إذا كانت نوعين، وإن كانت أنواعاً فبالنسبة: فإذا كان ماله إبلاً عشراً مهرية، وعشراً أرحبية، وخمساً مجيدية، قيل: كم قيمة بنت مخاض مهرية؟ فإذا قيل: عشرة، قيل: وبنت مخاض أرحبية كم قيمتها؟ فإذا قيل: خمسة، قيل: وبنت مخاض مجيدية، فإذا قيل: اثنان ونصف، أخذنا من العشرة خمسيها وذلك أربعة، ومن الخمسة خمسيها، وذلك اثنان، ومن الاثنين ونصف خمسه وذلك نصف، ومجموع ذلك ستة ونصف، فيخرج بنت لبون قيمتها ستة ونصف، وعلى هذا فقس.
قال الأصحاب: والخيرة في النوع المخرج منه الفرض على هذا القول إلى المالك، وقال ابن الصباغ: الذي يقتضيه المذهب أنها تكون من أعلى الأنواع، واختاره في "المرشد"؛ ولأجل ذلك حكى بعضهم في المسألة وجهين هكذا.
وقال في "التتمة": المذهب المشهور أنه يتخير الساعي كما في الحقاق وبنات اللبون. وهذا قد يقال: إنه ما صار إليه ابن الصباغ، وقد يقال: إنه غيره، فتأمله.
وهذا الذي ذكرناه فيما إذا كان الفرض حيواناً واحداً، فلو كان أكثر منه، كما لو ملك مائة من الضأن [ومائة] وواحدة من المعز، فقد قال القاضي الحسين: إنه يخرج ثنية وجذعة بلا خلاف، وفي الشاة الثالثة وقع الاشتراك فيخرج على هذا القول شاة ثنية إما ضأنا وإما معزا، تبلغ قيمتها مائة جزء من مائتي جزء وجزء [من الضأن ومائة جزء وجزء من مائتي جزء] من المعز. وقياس ما قاله القاضي الحسين أنه لو كان في ملكه مائتان من الضأن ومائتان من المعز، أنه يخرج شاتين من الضأن وشاتين من المعز، بلا خلاف؛ إذ لا اشتراك وهو ما صرح به في "البحر" وحكاه الرافعي عن رواية ابن كج عن أبي إسحاق، ثم قال الرافعي: والمشهور طرد الخلاف.
قلت: وهو راجع إلى ما قدمت ذكره أن الواجب بسبع، فيجب الجملة في الجملة، والبعض مشاعاً من مجموع الحيوانات في البعض، إذ لا إشاعة، بل يجب في كل مائة- والصورة كما ذكرناه- شاة، والله أعلم.
وإن قلنا بالقول الثالث الذي لم يحكه الشيخ لعدم اطراده؛ فإنه إنما يأتي عند وجود ثلاثة أنواع في المال متقاربة، ولا يأتي إذا كان نوعان فقط، واستوت الأعداد- فلا يخفي تفريعه. نعم، لو لم يجد في الأوسط السن التي وجبت، قال الساعي لرب المال: إن تطوعت بالأعلى منه أخذته، وإن لم تتطوع كلفتك أن تأتي بمثل الفرض وسطاً، وقد حكى الرافعي في أصل المسألة وجهاً عن رواية ابن كج: أنه يؤخذ من الأجود؛ أخذاً من نصه في اجتماع الحقاق وبنات اللبون.
تنبيه: كلام الشيخ يفهم أنه لا يؤخذ عن الضأن المعز وعن المعز الضأن، وهو ما ادعى ابن التلمساني: أنه الأصح، ووراءه وجهان، حكاهما المتولي عن القاضي الحسين:
أحدهما: أنه يجوز كما يجوز أن يأخذ من أحد النوعين عن الآخر، في النصاب الذي بعضه ضأن وبعضه معز، وهذا ما صححه في "التهذيب" وقاسه على ما إذا أخرج مهرية من الإبل عن أرحبية، وعلى هذا يشترط ألا ينقص قيمة البدل عن المبدل.
والثاني: يرجع عند الاختصار إلى أنه إن أخرج المعز عن الضأن لم يجزئه وإن أخرج الثنية من الضأن عن المعز والقيمة مستوية أجزأه، وإن أخرج عنها جذعة من الضأن فوجهان.
وأطلق في "التهذيب" الحكاية عن القاضي بأنه قال: يحتمل ألا يؤخذ من المعز عن الضأن؛ لأن المعز دون الضأن، ويؤخذ الضأن عن المعز؛ كما تؤخذ المهرية عن المجيدية، ولا تؤخذ المجيدية عن المهرية.
واعلم أن المهرية منسوبة إلى قوم من اليمن يقال لهم: بنو مهرة.
والأرحبية: من اليمن، وكذا المجيدية منسوبة إلى مجيد، وهو فحل كان لإبلهم.
قال في "البحر": وقد قيل: النجيدية [بدل المجيدية].
والقرملية: إبل الترك.
قال: ولا تؤخذ الربى، [أي: بضم الراء وتشديد الباء] وهي التي يتبعها ولدها، كما قاله في "المهذب" و"الوسيط"، والقاضي الحسين، وقال أبو الطيب: هي القريبة العهد بالولادة، وهو قول أهل اللغة، قال الأزهري: يقال: هي في ربابها- بكسر الراء- ما بين خمس عشرة ليلة، وقال الجوهري: قال الأموي: هي رُبَّى ما بينها وبين شهرين، وقد حكى البندنيجي الوجهين، وقال القلعي: وأهل اللغة لا يشترطون كون الولد معها، وقد قال أبو زيد: الربى من المعز والضأن، وربما جاء في الإبل.
وإنما لم تؤخذ لأنها من كرائم الأموال؛ فإنها كثيرة اللبن، وقد قال- عليه السلام لمعاذ:"فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب" أخرجه البخاري ومسلم.
قال: والماخض.
الماخض عند أهل اللغة: الحامل التي دنت ولادتها.
قال الأزهري: هي التي أخذها المخاض لتضع، والمخاض: وجع الولادة، والمراد في اصطلاح الفقهاء بالماخض: الحامل قربت ولادتها أو بعدت كما ستعرفه.
ووجه المنع من أخذها: أنه جاء في حديث عبد الله بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تؤخذ الشافع ولا حزرة الرجل" والشافع: الحامل،
قاله القاضي الحسين.
وقال أبو الطيب: هي الحامل ولها ولد، فتكون قد شفعت ولدها بحمل آخر، وقيل: إنها السمينة العظيمة، سميت بذلك؛ لأن لحمها شفعه شحم السمن ولحمه، وعلى هذا فتكون الدلالة على منع الأخذ فيها بخصوصها: أن ذلك يؤدي إلى الإجحاف برب المال؛ لأنها مشتملة على حيوان آخر لم يجب؛ ولذلك أوجبها الشرع تغليظاً في قتل العمد.
قال الأصحاب: والتي طرقها الفحل في هذا المعنى كالمتحققة الحمل؛ لأن الغالب في البهائم العلوق بمرة واحدة بخلاف الآدميات.
قال: وفحل الغنم.
وهو المعد للضراب؛ لرواية البخاري وغيره عن ابن شهاب في نسخة كتاب أبي بكر: "ولا تأخذ في الصدقة هرمة ولا ذات عوار، ولا تيس الغنم إلا أن يشاء المصدق".
قال: والأكولة.
الأكولة- بفتح الهمزة وضم الكاف- هي المسمنة المعدة للذبح، كما قال الشافعي وأبو عبيد، وقال غيره: أكولة غنم الرجل: الخَصِيُّ.
ووجه المنع: قوله عليه السلام: "لا تأخذ الشافع: وهي السمينة- كما تقدم- ولرواية أبي داود عن مسلم بن ثفنة البكري عن شيخ يقال له: سعر، قال: لبثت في شعب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في غنم لي، فجاءني رجلان على بعير، فقالا لي: إنا رسولا رسول الله صلى الله عليه وسلم إليك؛ لتؤدي صدقة غنمك، فقلت: ما علي فيها؟ فقالا: شاة، فعمدت إلى شاة قد عرفت مكانها ممتلئة لحماً وشحماً، فأخرجتها إليهما، فقالا: هذه شاة الشافع، وقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نأخذ شافعاً. قلت:
فأي شيء تأخذان؟ قالا: عناق جذعة أو ثنية، قال: فعمدت إلى عناق معتاط – والمعتاط: التي لم تلد ولداً وقد حان ولادتها- فأخرجتها إليهما، فقالا: ناولناها، فجعلاها معهما على بعيرهما، ثم انطلقا. وفي رواية: الشافع: التي في بطنها الولد. انتهى.
وقيل: المعتاط من الغنم: [هي] التي امتنعت من الحمل؛ بسمنها وكثرة لحمها، وهي بضم الميم وسكون العين المهملة قبل الألف تاء ثالثة الحروف، وبعد الألف طاء مهملة.
قال: وحزرات المال، أي: خياره، سمي بذلك؛ لأن الرجل يحزره من ماله بقلبه، ويقصده لفضيلته.
ووجه المنع خبر معاذ، وخبر عبد الله بن زيد، وقد جاء مرسلاً عن عروة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن بعثه على الصدقة:"إياك وحزرات أنفسهم" أخرجه أبو داود.
والحزرات: بحاء مهملة ثم زاي ثم راء، واحدتها: حزرة، بإسكان الزاي كتمرة وتمرات.
وقد استدل الأصحاب على ما ذكرناه بقول عمر لساعيه المقدم ذكره: "ولا
تأخذ الأكولة ولا الربى ولا الماخض، ولا فحل الغنم" وفي رواية أخرى:"ولا ذات الدر" ولم ينكر عليه أحد ذلك.
قال: إلا أن يختار رب المال.
ووجهه في أخذ فحل الغنم رواية البخاري السالفة، وفي أخذ الخيار ما روى أبو داود عن [أبي] بن كعب قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقاً، فمررت برجل فلما جمع لي ماله، لم أجد عليه فيه إلا ابنة مخاض، فقلت له: أدِّ ابنة مخاض؛ فإنها صدقتك، فقال:[ذاك] ما لا لبن فيه ولا ظهر، ولكن هذه ناقة قنية عظيمة سمينة، قال: فخذها، فقلت له: ما أنا بآخذ ما لم أؤمر به، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم منك قريب، فإن أحببت أن تأتيه فتعرض عليه ما عرضت علي فافعل، فإن قبله منك قبلته، وإن رده عليك رددته، قال: فإني فاعل فخرج معي وجاء بالناقة التي عرض علي حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا نبي الله، أتان رسولك ليأخذ [مني] صدقة مالي، وايم الله، ما قام في مالي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا رسوله قط قبله، فجمعت له مالي، فزعم أن ما على فيه إلا ابنة مخاض، وذلك ما لا لبن فيه ولا ظهر، وقد عرضت عليه ناقة عظيمة قنية ليأخذها، فأبى وردها علي، وها هي ذه قد جئتك بها يا رسول الله خذها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ذاك الذي عليك، فإن تطوعت بخير أجرك الله فيه، وقبلناه منك"، فهاهي ذه يا رسول الله، قد جئتك بها فخذها، قال: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبضها، ودعا له في ماله بالبركة. انتهى.
فقبول ذلك منه دليل على الجواز، وكذا قوله:"أجرك الله" ومنه نأخذ الجواز في باقي الصور.
وأجرك الله: بمد الهمزة وقصرها لغتان، وقد أنكر الأصمعي المد.
فإن قيل: الحمل نقص، فكيف يقبل في الزكاة إذا رضي المالك؟
قلنا: قال القاضي الحسين: الحمل في البهائم ليس بنقص بخلاف بنات آدم؛ فإنه نقص فيها. وكذلك قاله الإمام والمتولي وفيه نظر، كما ستعرفه، أن الأصح: أنه عيب في البهائم وبنات آدم.
وقد طلب المتولي والفوراني الفرق بين إجزائها هنا وعدم إجزائها في الأضحية كما قال: ثم فرق بأن القصد من الأضحية اللحم، والغالب أن بالحمل ينقص اللحم، وفي الزكاة المقصود: منفعة أهل السهمان؛ ولهذا أوجب الشرع في الزكاة الإناث، والنفع في الحبلى أكثر.
وما ذكره الشيخ في جميع الصور هو المشهور إلا في فحل الغنم؛ فإن فيه إذا أخرجه ما تقدم في أخذ الذكر.
وفي "النهاية" أن العراقيين حكوا وجهاً بعيداً عن بعض الأصحاب: أن الربى لا تقبل من جهة أنها لقرب عهدها بالولادة تكون مهزولة، والهزال عيب، قال: وهو ساقط؛ لأن الهزال الذي يعد عيباً هو الظاهر البين.
وفي "الإبانة" أن صاحب "التقريب" قال: إذا أعطانا كريمة لا تجزئ؛ لظاهر خبر معاذ.
وفي "النهاية" أن صاحب "التقريب" حكاه عن غيره، وقال: إنه مزيف لا أصل له. ولا شك في جريانه في فحل الغنم، ولا الأكولة، وكذا في الحامل إذا قلنا:
الشافع: الحامل؛ لورود النهي عن أخذها، وإليه أشار الإمام. بقوله: إنه لو بذل ماخضاً، قبلت منه على طريق الأئمة، واعتدت فريضة كالكريمة في نوعها.
ثم محل النوع عند عدم رضا المالك بأخذ الكريمة إذا لم يكن كل ماله كذلك، فإن كان بأن كانت ماشية سمينة طالبناه بسمينة، قال الإمام: ويجعل ذلك كشرف النوع. وهذا بخلاف ما لو كانت كلها ماخضة لا يطالب بماخضة كما قاله صاحب "التقريب" وقال الإمام: لا وجه عندي لمخالفته لمكان حملها الزائد على الواجب؛ فإن الشرع أوجب في الأربعين شاة واحدة.
قال: وإن كان بين نفسين من أهل الزكاة نصاب مشترك من الماشية، أو نصاب غير مشترك إلا أنهما اشتركا في المراح والمسرح والمشرب والفحل والراعي والمحلب حولاً كاملاً- زَكَّياً زكاة الرجل الواحد.
هذا الفصل سيق لبيان زكاة الخلطة، وهي عند الفقهاء نوعان: خلطة اشتراط وخلطة جوار، ويعبر عن الأولى: بخلطة الأعيان وعن الثانية بخلطة الأوصاف، وقد منع بعضهم تسميتها "خلطة" لغة؛ لأن الخلطة في اللغة: ما لم يتمز، وقال: هي تسمية شرعية يدل عليها قوله- عليه السلام: "والخليطان ما اجتمعا في الحوض والفحل والمرعى"، وروي "والراعي" أخرجه الدارقطني.
وقال آخرون: بل تسمى "خلطة" لغة وشرعاً، وقد جاء ذلك في الكتاب العزيز في قصة داود {إِنَّ هَذَا أَخِي} إلى قوله: {وَإِنَّ كَثِيراً مِنْ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى
بَعْضٍ} [ص: 23، 24] فسماهم خلطاء وإن كانت النعجة متميزة عن النعاج.
وقد ذكر الشيخ النوعين معبراً عن الثلاني بما لا نزاع فيه، وهو قوله: أو نصاب [غير] مشترك إلا أنهما .. إلى آخره، والدليل على الوجوب في الحالين عموم قوله صلى الله عليه وسلم:"في خمس من الإبل شاة، وفي ثلاثين من البقر تبيع، وفي أربعين شاة شاة" ولم يفرق بين أن يكون ذلك لمالك أو لملاك والدليل على وجوبها في النوع الثاني بخصوصه: ما رواه البخاري وغيره عن أنس في كتاب أبي بكر- رضي الله عنه: "ولا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية" قال الأصحاب: والدلالة بهذا من وجهين:
أحدهما: قوله: "ولا يجمع بين مفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة" فإنه خاطب بذلك السعاة وأرباب الأموال، فلا يجمع الساعي بين عشرين من الغنم لشخص وعشرين لآخر، حتى يأخذ منها شاة، ولا يفرق بين ثمانين من الغنم بين شخصين لكل واحد منهما أربعون؛ ليأخذ من كل منهما شاة، ولا يجمع أرباب الأموال بين المفرق مثل: أن يكون لزيد أربعون من الغنم، ولعمرو مثل ذلك، [فيجمعا بينهما] ليأخذ الساعي منهما شاة ولا يفرق بين مجتمع مثل: أن يكون بين شخصين أربعون من الغنم؛ فيفرقاها، كي لا يأخذ منهما شاة.
والثاني: قوله: "وما كان من خليطين، فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية" والراجع إنما يكون غالباً في خلطة الأوصاف كما سنبينه.
وإذا ثبت وجوب الزكاة في هذهذه الخلطة، كان وجوبها في الأولى أولى، ولأجل ذلك قال الشافعي: والذي لا أشك فيه أن الشريكين ما لم يقتسما الماشية فهما خليطان. وأراد بذلك أن خلطة الأوصاف لما ورد الشرع بوجوب الزكاة فيها فما لم يشك في كونه خلطة ملحق بها.
وقد حكى الحناطي وجهاً غريباً: أن خلطة الجوار لا أثر لها، وإنما يؤثر خلطة الشيوع، والحديث يرد عليه.
ثم المراد بالمراح: الموضع الذي تبيت فيه الماشية وهو بضم الميم وبالمسرح: الموضع الذي ترعى فيه، كذا حكى عن الشيخ أبي حامد، وهو الذي قاله أبو الطيب، والبندنيجي، والقاضي الحسين، والماوردي، وكلام الغزالي يقتضي أنه غيره؛ فإنه قال: يشترط اتحاد المسرح والمراح والمرعى [والمشرع].
قال الرافعي: وكلام كثير من الأئمة يوافقه، قال: وليس ذلك في الحقيقة اختلافاً، ولكن الماشية إذا سرحت عن أماكنها تجيء قطعة قطعة، وتقف في موضع، فإذا اجتمعت امتدت إلى المرعى، فكأن بعضهم أطلق اسم "المسرح" على ذلك الموضع وعلى المرتع نفسه؛ لأن الإبل مسرحة إليها، ومنهم من خص اسم "المسرح" بذلك الموضع.
والمراد بالمشرب: الموضع الذي يشرب منه الماء، عيناً كان أو نهراً أو بئراً.
وبالفحل: الذي يضربها واحداً كان أو أكثر، سواء كان مشتركاً بينهما أو لأحدهما أو مستعاراً، وهذا ما أورده العراقيون والماوردي، وقال القاضي [الحسين]: قال الشافعي: "ويكون فحولها مختلطة"، فاختلف أصحابنا في ذلك:
فمنهم من قال: أراد به أن يكون الفحل مشتركاً، بينهما [وهو المحكي عن رواية الشيخ أبي محمد أيضاً.
قال القاضي]: والأكثرون [قالوا]: أراد به ألا يميز كل واحد منهما ماشيته عند الإنزاء، ويكون الفحل بينهما مرسلا ينزو.
كلام الغزالي يحتمل إجراؤه على هذا الخلاف؛ فإنه قال الاشتراك: في الراعي والمحلب والفحل فيه وجهان. وفي بعض الشروح أن بعض الخراسانيين قال: إن اشتراط الاشتراك في الفحل مخصوص بما إذا اتحد النوع، فإن اختلف كالضأن والمعز فلا يضر اختلاف الفحل؛ للضرورة. قلت: وحقيقة ذلك ترجع إلى أنا على الأول لا نثبت حكم الخلطة عند اختلاف نوع المال، إذ لا اشتراك في الفحل مع اختلافه، ولكن نثبتها عند اتحاد النوع، إذ في تلك الحالة يتصور الاشتراك، وعلى الثاني نجوزها في الحالين، لكن لابد مع اتحاد النوع من الاشتراك فيه؛ للخبر.
وهذا لم أره لغيره، نعم، حكى الرافعي في اشتراط الاشتراك في الفحل وجهين، أحدهما: أنه لا يشترط ولا يقدح في الخلطة اختصاص كل واحد بإنزاء فحل على ماشيته، قال: وهو أصح عند المسعودي لكن يشترط أن يكون الإنزاء على موضع واحد كما سنذكره في الحلاب.
والمراد بالاشتراك في الراعي: أن يكون راعي المالين متحداً، واحداً كان أو أكثر بحيث لا يتميز [مال] كل منهما براع، وفيه الوجه الذي حكيناه عن الغزالي.
والمراد بالمحلب- بفتح الميم-: الموضع الذي يحلب فيه؛ لأن الشافعي نص عليه في "الإملاء"، فقال: وأن يحلب في مكان واحد، فإن تفرقا في مكان الحلاب قبل الحول زكيا زكاة الاثنين. ولأجل ذلك قال الرافعي: إن اتحاد موضع الحلاب لابد منه. وأفهم كلام النووي خلافاً فيه؛ لأنه قال: والأصح اشتراط اتحاد موضع الحلب فينبغي أن يقرأ كلام المصنف بفتح الميم؛ لأنه بالفتح: موضع الحلب، وبكسرها: الإناء الذي يحلب فيه، ولفظ الشافعي الذي حكاه في "المختصر":"ولا يكونان خليطين حتى يريحا ويسرحا، ويحلبا ويسقيا معاً"، واختلف الأصحاب فيه، فقال أبو إسحاق: ما نقله المزني غلط، ولم يذكره الشافعي في "الأم" ولا في شيء من كتبه. وغيره صحح النقل، وقال: قد حكاه الزعفراني وحرملة أيضاً، لكن ما المراد منه؟ اختلفوا فيه:
فمنهم من قال: مراده أن يكون [موضع حلابهما واحداً كما نص عليه في "الإملاء".
ومنهم من قال: مراده أن يكون] الإناء الذي يحلب فيه واحداً، وأن يخلط اللبن بعد الحلب؛ لأن ذلك أرفق، وأقل مؤنة، قال القاضي أبو الطيب: وهو الذي عليه عامة الأصحاب، وهو ظاهر النص، ولا يقال: إن خلط اللبن يؤدي إلى الربا؛ لاحتمال أن يكون لبن أحدهما أكثر من لبن الآخر؛ لأنا نقول: ما كان موضوعاً على الرفق والمساهلة سقط [اعتبار الربا فيه] كما قلنا في مسافرين خلطوا أزوادهم؛ فإنه يجوز أن يتفاوت أكلهم، ولم يمنع ذلك من الخلط؛ فكذا هنا.
ومنهم من قال: المراد: أن يكون الحالب واحداً والإناء واحداً مع خلط اللبن.
ومنهم من قال: المراد: أن يكون الإناء واحداً والحالب واحداً، فأما خلط اللبن فلا يشترط؛ لأن اللبن نماء فلا يعتبر فيه الخلط كالصوف، بل لا يجوز خلط اللبن؛ لأنه يفضي إلى الربا، وما ذكر من دفع ذلك قياساً على أزواد المسافرين، فالفارق قائم، وهو أن المقصود هاهنا التمليك وهو مما يشاحح فيه، وفي أزواد المسافرين الإباحة ولا مشاححة وهذا ما ادعى البندنيجي أنه المذهب.
ثم دليل اعتبار هذه الأشياء ما تقدم من الخبر؛ لأنه نص فيه على البعض، ونبه به على الباقي بجامع طلب خفة المؤنة، وقد اشترط بعض الأصحاب نية الخلطة في الوجوب وفي منعه، حتى إذا جمع الرعاة الماشية واتصفت بصفات الخلطة لا تجب الزكاة، كما قيل بمثل ذلك في قصد السوم والعلف، والمذهب في "تعليق" البندنيجي: عدم الاشتراط، وهو المختار في "المرشد"؛ لأن المصلحة حاصلة وإن لم يقصد.
وقد أفهم كلام الشيخ أنه لا فرق فيما ذكره بين أن يكون النصاب مشتركاً بينهما على التساوي أو على التفاضل، وكذا في خلطة الجوار، وهو الذي صرح به الأصحاب.
واحترز بقوله: "من أهل الزكاة"، عما إذا كان بين نفسين أحدهما من أهل الزكاة والآخر ليس من أهلها، كالمكاتب والذمي؛ فإن الزكاة لا تجب لعدم تأثير
الخلطة، ولو كان بينهما ما يخص من هو من أهل الزكاة منه قدر النصاب، كما إذا ملك ثمانين من الغنم نصفين؛ فإنه تجب عليه شاة قاله القاضي الحسين؛ لعدم تأثير الخلطة أيضاً.
وبقوله: "نصاب" عما إذا كان بينهما دون النصاب مختلطاً [وفي ملكهم غير مختلط ما يكمل به النصاب، كما إذا وقعت الخلطة] في ثمانٍ وثلاثين من الغنم بينهما نصفين، ويملك كل منهما شاة مفردة؛ فإنه لا زكاة للخبر.
وبقوله: "حولاً كاملاً" عما إذا كان ملك أحدهما بعض النصاب والآخر باقيه بعد ذلك، ومضى حول من حين ملك الأول؛ فإنه لا تجب الزكاة ما لم يتم حول من حين ملك الأول؛ فإنه لا تجب الزكاة ما لم يتم حول من حين ملك الثاني، ولا يزكيان زكاة المنفرد كما ستعرفه، ويتصور ذلك فيما إذا كان المال بين ذميين نصفين، فأسلم أحدهما غرة المحرم، وباع الآخر نصفه غرة صفر فمن تجب عليه الزكاة والمال مختلط لم يفصل، ويسلمه كذلك حين البيع؟ نعم، لو ملك أحدهما نصاباً في أول المحرم، والآخر نصاباً في أول المحرم، وخلطا حين ملكا- ثبت حكم الخلطة كما تقدم، وإن لم تقع الخلطة إلا في أول صفر فهل تجب عند تمام الحول الأول عليهما زكاة الخلطة أو زكاة الانفراد؟ وفيه قولان؟
القديم: الأول؛ لقوله- عليه السلام: "ولا يفرق بين مجتمع"، ولأن الزكاة تعتبر بآخر الحول؛ بدليل ما لو نتجت سخلة في آخر الحول أو ماتت واحدة منه وهذا القول مطرد فيما إذا لم يخلطا إلا في ذي الحجة؛ فعلى هذا يجب عليهما شاة.
والجديد- وهو الذي نص عليه في عامة كتبه، كما قال البندنيجي-: الثاني؛ فتجب على كل منهما شاة؛ لأنه انفرد في أول الحول فكان النظر إلى المتقدم أولى؛ ولأن زكاة الانفراد مجمع عليها بخلاف زكاة الخلطة، وأيضاً: فإنه لو لم تقع الخلطة إلا قبل انقضاء السنة بيوم أو يومين [لم تؤثر؛ فكذا هنا، وبهذا فارق نتاج السخلة وهلاك الشاة قبل انقضاء الحول بيوم أو يومين] وأيضاً: فإن النظر
إلى آخر الحول إنما هو في المستفاد من النصاب؛ بدليل أنه لو ملك سخلة بالبيع ونحوه قبل الحول لم يضم، وهو نظير ما نحن فيه.
وهذا كله في السنة الأولى، أما في السنة الثانية فلا خلاف في أن الواجب فيها زكاة الخلطة إذا بقي النصاب، ولو كان أحدهما ملك أربعين في أول المحرم، والآخر ملك أربعين في أول صفر، ووقع الخلط- فقد حكى عن ابن سريج [تخريج] قول: أن الواجب زكاة الانفراد أبداً في الحول الأول، قال الرافعي: ولم يصح ذلك عن ابن سريج. وقد ذكر أبو إسحاق في "الشرح" عن ابن سريج خلافه، وأضاف التخريج إلى غيره من الأصحاب، وما بعده؛ نظراً إلى أن الاعتبار: الاتفاق في الحول كما في غيره والمنصوص في القديم والجديد خلافه. نعم، ينظر: فإن خلطا- والصورة كما ذكرنا- أول صفر ففي القديم يزكيان جميعاً زكاة الخلطة، قال في "الوسيط" وغيره: فيجب على كل منهما نصف شاة عند تمام سنة، وهكذا أبداً ما دام النصاب.
قلت: وهذا ظاهر إذا قلنا: إن الزكاة لا تتعلق بالوقص، أما إذا قلنا: تتعلق [به] فينبغي أن يكون الحكم كما سنذكره.
وفي الجديد: أن على الأول شاة عند تمام السنة الأولى، وفيما على الثاني عند تمام السنة الأولى [له] وجهان في "تعليق" البندنيجي وغيره:
أحدهما: عليه شاة أيضاً؛ لأن خليطه لم ينتفع بخلطته؛ فكذلك هو نظراً إلى التسوية، قال الغزالي: وهو بعيد.
والثاني: عليه زكاة الخلطة نصف شاة.
قلت: وهذا ظاهر إذا قلنا: إنه لا تعلق للزكاة بالوقص، فإن قلنا: إنها تتعلق به فينظر:
إن أخرج الأول الزكاة من عين المال وجب على الثاني أربعون جزءاً من تسعة وسبعين جزءاً ونصف من شاة، وهو أكثر من نصف شاة؛ لأن المال عند وجوب الزكاة عليه تسع وسبعون شاة ونصف شاة، [وإن كان مختلطاً]، والنصف الآخر لأهل السهمان ولا زكاة عليهم كما تقدم.
وإن أخرج الأول الزكاة من غير المال فإن قلنا: إن الزكاة تتعلق بالعين تعلق شركة، فكذلك، إلا على قول حكاه ابن خيران وأبو إسحاق: أنه إذا أخرج الزكاة من غير المال تبينا أنها لم تتعلق بالعين؛ فيكون الحكم كما إذا قلنا: إنها تتعلق بالذمة، وإذا قلنا به وجب على الثاني نصف شاة، وإن قلنا: إن الزكاة تتعلق بالعين تعلق جناية، فالحكم كذلك.
وكل هذا أخذته من كلام الأصحاب الذي ستعرفه، وهذا حكم السنة الأولى، أما في السنة المستقبلة فالواجب على كل منهما عند تمام سنته زكاة الخلطة، وإن وقع خلطهما في أول ربيع الأول فعلى القديم: الواجب عليهما جميعاً زكاة الخطة، وعلى الجديد: زكاة الانفراد، وهذا في السنة الأولى وفيما بعدها تجب زكاة الخلطة، قال البندنيجي: فيجب على الأول نصف شاة، وأما الثاني: فينظر: فإن كان الأول قد أخرج زكاة نصيبه من غير هذا المال وجب عليه أربعون جزءاً من تسعة وسبعين جزءاً ونصف من شاة كما تقدم، وإن أخرجها من غيره، وقلنا: قد ملك الفقراء من النصاب قدر الفرض، فالحكم كذلك. وإن قلنا تتعلق بالذمة، وجبت عليه نصف شاة.
قلت: ويجيء فيه من البحث والتفريع ما تقدم.
ولو كان أحدهما قد ملك أربعين أول المحرم، والثاني ملك عشرين أول صفر، وخلطها حين ملكها- فعلى القول المخرج المنسوب إلى ابن سريج: يجب على الأول شاة عند تمام حوله، ولا يجب على الثاني شيء في هذه السنة ولا بعدها وإن دام الاختلاط، وعلى القديم قال في "الوسيط" وغيره: يجب على الأول عند تمام سنته ثلثا شاة، وعلى الثاني عند تمام سنته ثلث شاة.
قلت: وفيه ما تقدم.
وعلى الجديد: يجب على الأول عند تمام السنة الأولى شاة، وعلى الثاني ثلث شاة.
قلت: وفيه ما تقدم.
ولا يجيء فيه الوجه السالف الناظر إلى أن شريكه لم ينتفع بالخلطة؛ لأنه لو
جاء هنا لأدى إلى عدم الوجوب عليه، وأما في السنة الثانية فيكون الحكم في حقهما كما في التفريع على القديم.
وهذا حكم خلطة المجاورة إذا طرأت على الانفراد، فلو طرأ عليه خلطة الشيوع، مثل أن يكون في ملكه أربعون من الغنم ستة أشهر، فيبيع نصيبه مشاعاً في أثناء الحول، ويسلم ذلك في وقته- فإنه ينقطع الحول فيما باعه، ولا ينقطع فيما لم يبعه، فإذا تم حوله وجب عليه نصف شاة، ووجهه الأصحاب: بأن ملكه ما انفك عن نصاب في طول الحول؛ فإنه كان في بعض الحول خليط نفسه وفي باقيه خليط غيره [فوجب أن تجب عليه الزكاة؛ لأنه لو كان خليط نفسه أو خليط غيره] جميع السنة وجبت فكذا إذا اجتمعا.
قلت: ويجيء في إيجاب الزكاة على المشتري عند تمام حوله ما تقدم من النظر إلى إخراج الأول الزكاة من عين المال أو غيره، وقد قال ابن خيران وأبو العباس: إن في المسألة قولين:
أحدهما: ما ذكرناه.
والثاني: أن حول ما لم يبعه قد انقطع أيضاً؛ بناء على القولين في أن خلطة الجوار إذا طرأت في أثناء الحول هل يجب على الأول زكاة الانفراد أو زكاة الخلطة؟ وأيد الانقطاع بأن الشافعي قال: لو كان لرجل ستون شاة ستة أشهر، ثم باع ثلثها مشاعاً، ثم حال حول البائع وجب عليه شاة على الجديد.
فلولا أن الخلطة لا حكم لها بعد البيع لكان الواجب عليه ثلثا شاة، قال القاضي أبو الطيب [وغيره]: وهذا غلط مذهباً وحجاجاً:
أما المذهب فإنهما يسقطان الزكاة عن البائع على الجديد، والشافعي إنما أوجبها على الجديد نص عليه في "المختصر" وفي "الأم".
وأما الحجاج فما ذكرناه.
وأما ما ذكرناه من نصه في الستين إذا باع ثلثها فالجواب: أن الخلاف في حكم الحلو هل ينقطع ويستأنف أو لا، الشافعي لم يتعرض له، وإنما ذكر قدر المأخوذ، وهل يكون بحكم الخلطة أم لا؟ وقد تقدم الكلام فيه.
فإذا قلنا بطريقة ابن خيران، استأنف الحول من حين ملك المشتري، واستقر
ملكه، ووجب عليهما في آخر الحول شاة على أحد القولين، وعلى القول الآخر يكون الحكم كما في التفريع على الطريقة الأولى، وهي أنا ننظر عند تمام حول المشتري: فإن كان البائع قد أخرج نصف الشاة التي وجبت عليه من عين هذا المال حين وجب، مثل أن سلم ذلك إلى الساعي مشاعاً فلا زكاة على المشتري لنقص النصاب في حقه. وإن كان قد أخرج ذلك من غيره: فإن قلنا: إن الزكاة تتعلق بالذمة أو بالعين [تعلق جناية، وجب على المشتري أيضاً نصف شاة وإن قلنا: تتعلق بالعين تعلق] شركة، فلا تجب؛ لأن النصاب قد نقص [فلا يجب] قبل تمام حوله باستحقاق الفقراء ذلك.
وعن ابن خيران حكاية قول آخر حكاه عن أبي إسحاق في "الشرح"، أيضاً كما قال البندنيجي: أنه يجب على الثاني نصف شاة، لأن البائع لما أخرج الزكاة من عين المال تبينا أن أهل السهمان لم يملكوا من هذا المال شيئاً، وأنه لم يزل عن ملك البائع، ولو كان البائع قد باع النصف معيناً والصورة هذه، مثل: أن سلم عشرين من الغنم وباعها، قال القاضي أبو الطيب: فإن عزلها وباعها انقطع الحول، وإن لم يعزلها بل باعها وسلم الكل وتركها مختلطة، فوجهان:
أحدهما- قاله ابن سلمة-: أن الحول لا ينقطع.
والثاني: أنه ينقطع. قال: وقائله يذهب إلى أن الخلطة لا تثبت إلا بالنية، وهي هاهنا معدومة.
وقد عكس البندنيجي ذلك فقال: إن علمها بعلامات وباعها ولم يعزلها فالحكم كما لو باع نصفها مشاعاً حرفاً بحرف، وإن أفرد ذلك ثم باعه ثم خلطها المشتري، ففيها الوجهان.
وقال الماوردي: إن باعها مفردة وسلمها مفردة، وأخرجها المشتري من المراح، ثم عاد وخلطها- انقطع الحول، وإن باعها وهي مختلطة وسلمها كذلك لم يبطل، وإن تسلمها مفردة لكنه لم يخرجها من المراح ثم خلطها، فوجهان:
أحدهما- قاله أبو إسحاق-: انقطاع الحول.
والثاني- قاله ابن أبي هريرة-: أنه لا ينقطع، لأن المراح يجمعهما.
ولو وجد البيع في الصورتين ولم يتصل به التسليم، قال القاضي الحسين والماوردي: فإن قلنا بوجوب الزكاة في المبيع قبل القبض عند الانفراد [على المشتري] فالحكم كما تقدم، وإلا فلا يجب، قال القاضي: وهل تجب على البائع في نصيبه؟ يحتمل وجهين:
أحدهما: لا؛ لأن ماله يختلط بمن لا زكاة في ماله؛ فأشبه ما لو كان خليطه مكاتباً.
الثاني: تجب، ويخالف ما لو كان خليطه مكاتباً؛ لأن المكاتب لم يكن من أهل وجوب الزكاة، وخليطه هاهنا من أهل الوجوب عليه.
وبقوله: "زكيا زكاة المنفرد"، الاحتراز عن وجه رواه الإمام في صدقة الفطر عن حكاية الشيخ أبي علي، فيما إذا كان بينهما أربعون من الغنم لأحدهما عشرون من الضأن، وللثاني عشرون من المعز، فأراد كل واحد منهما أن يخرج نصف شاة من نوع ما يملك- أنه يجوز؛ لإمكان تميز الملكين، والمذهب: أنه لا يجوز إلا ما يجزئ أحدهما لو انفرد بالنصاب المذكور، وما حكاه أبو علي في نهاية الضعف، قال الإمام: وهو مفسد لقاعدة الخلطة.
واعلم أن الحكم فيما إذا كان بين أنفس من أهل الزكاة نصاب مشترك من الماشية أو نصاب غير مشترك، كالحكم فيما إذا كان بين نفسين بلا خلاف.
قال: فإن أخذ الساعي الفرض من نصيب أحدهما رجع على خليطه بالحصة، أي: بقيمة الحصة؛ للخبر فإنه اقتضى التراجع، وهو رجوع كل منهما على صاحبه بشيء؛ فرجوع أحدهما من طريق الأولى، ومثال رجوع أحدهما على صاحبه فقط: أن يكون بينهما خمس من الإبل، أو خمس وعشرون منها أو ثلاثون من البقر أو أربعون منها، أو أربعون من الغنم، ونحو ذلك، والخلطة خلطة جوار، ويكون الرجوع بالنسبة: فإذا كان بينهما أربعون من الغنم نصفين رجع الدافع [بنصف قيمة] الشاة. وإن كان لأحدهما ثلاثون ولآخر عشر، وأخذ الشاة من صاحب العشر- رجع على رفيقه بنصف قيمتها، وربع قيمتها، ولو كانت من غنم الآخر رجع على خليطه بربع قيمتها.
قال الأصحاب: ولو كان بينهما ستون من الغنم، لأحدهما أربعون ولآخر عشرون، فالشاة بينهما أثلاثاً، فإن أخذت من الأربعين رجع صاحبها على الآخر بثلث قيمة الشاة، وإن أخذت من العشرين رجع على خليطه بثلثي قيمتها.
قلت: ولا يقال: إن هذا مخرج على أن فرض النصاب يتعلق بالجميع، بل هو على القولين؛ لأن جعل الوقص من مال أحدهما فقط لا وجه له؛ فتعين إشاعته وتوزيعه عليهما بالنسبة، وذلك يقتضي ما ذكرناه، والله أعلم.
ومثال رجوع كل منهما على صاحبه الذي اقتضاه الخبر: أن يكون بينهما مائة وثمانون من الإبل لأحدهما مائة وللآخر ثمانون، وليس في الثمانين بنت لبون، وفيها حقاق، وفي المائة بنات لبون، وليس فيها حقة، فإن الساعي يأخذ من المائة بنتي لبون وتسع قيمة بنتي لبون، ومن الثمانين حقتين، ويرجع صاحب المائة على خليطه [بثلث قيمة بنتي لبون وتسع قيمة بنتي لبون، ويرجع صاحب الثمانين على خليطه] بنصف قيمة حقتين ونصف تسع قيمة حقتين فإن تساوى ما على كل منهما لصاحبه جاءت أقوال التقاص.
[وهذا] الحكم فيما لو كان لأحدهما ثلاثون من البقر وللآخر أربعون منها، وليس في الثلاثين تبيع وفيها مسنة، وليس في الأربعين مسنة، وفيها تبيه، فإن الساعي يأخذ تبيعاً من الأربعين، و [مسنة] من الثلاثين، ويرجع صاحب الثلاثين [على صاحب الأربعين بأربعة أسباع التبيع]، وتجيء أقوال التقاس عند التساوي.
وهذا مما لا شك فيه ولا خلاف بين الأصحاب، وكذا لم يختلفوا فيما إذا كان مال أحدهما صغاراً ومال الآخر كباراًـ، في أخذه الفريضة من صاحب الكبار، وفيما إذا كان مال أحدهما صحاحاً ومال الآخر مراضاً: في أخذه الزكاة من صاحب الصحاح كما قاله البندنيجي وغيره. [نعم] اختلفوا فيما إذا أمكن الساعي أن يأخذ من مال كل منهما [قدر ما] يجب عليه، قال الرافعي: في حالة الانفراد، كما إذا كان بينهما مائتان من الغنم لكل منهما مائة، أو مائة وثمانون من الإبل لأحدهما مائة وللآخر ثمانون وفي الثمانين بنتا لبون
[وحقاق] وفي المائة حقتان [وبنات لبون]، فهل للساعي أن يأخذ الفرض من أحد المالين؟ أو ليس له أن يأخذ من كل مائة [إلا شاة] ومن المائة من الإبل إلا حقتين، ومن الثمانين إلا بنتي لبون؟ فيه وجهان:
المنسوب في "الحاوي" و"تعليق" البندنيجي وأبي الطيب والفوراني في "الإبانة" إلى أبي إسحاق: الثاني، ولا حاجة بهما إلى التراجع. قال الماوردي: وعلى هذا لو أخذ الفرضين من مال أحدهما لم يكن له الرجوع على خليطه؛ لأنه مظلوم بها.
والمعزي إلى ابن أبي هريرة: الأول؛ لعموم قوله: "ويتراجعان بينهما بالسوية"، وهذا ما ادعى القاضي أبو الطيب أنه ظاهر المذهب، وأنه [إذا] أخذ الشاتين من أحدى المائتين رجع صاحبها على خليطه بقيمة شاة.
قلت: وإذا تأملت الوجهين عرفت اتفاقهما على أن المأخوذ ليس شائعاً [في الجميع].
أما على قول أبي إسحاق فظاهر؛ لأنه يقول: "فرض كل منهما شاة"، إذ لو قال [بالشيوع لزمه] التراجع، وقد جزم الفوراني بأنه إذا أخذ من كل منهما شاة ومالهما مائتان على السواء: بعدم التراجع؛ فإنه أخذ من كل منهما ما وجب عليه.
وأما على قول ابن أبي هريرة؛ فإنه لو كان شائعاً لرجع المأخوذ من ماله الشاتان بقيمة نصف الشاتين لا بقيمة شاة، وإذا كان كذلك اتجه طرد ذلك في حالة عدم الإمكان كما تقدم.
لكن الجمهور على أن للساعي أخذ الفرضين من أي المالين شاء عند الإمكان وأنه يقع شائعاً؛ فيرجع المأخوذ مجموع ذلك من ماله على خليطه بالنسبة.
ومثال ذلك: إذا أخذ الحقتين وبنتي اللبون من المائة رجع على صاحبه بأربعة أتساع قيمة الحقتين وبنتي اللبون، ولو أخذ ذلك من الثمانين رجع صاحبها على صاحبه بخمسة أتساع قيمة الحقتين وبنتي اللبون، وعلى هذا القياس في غيرها من الصور.
وخطأ الإمام الفوراني فيما جزم به، وكذا في حكايته عن أبي إسحاق ما تقدمت حكايته عنه، وقال: إنه لم يره إلا في كتابه، وقال: إنه خبط يطرح من المذهب وقد عرفت أن غيره حكاه عن أبي إسحاق مع أنه ضعيف.
قال الأصحاب: ولا يتصور التراجع أو الرجوع في خلطة الأعيان إلا فيما إذا كان الفرض من غير الجنس، كما إذا كان بينهما عشرون من الإبل فما دونها، ولأحدهما غنم دون الآخر، فإن الساعي يأخذ الفرض منها، ويرجع صاحبها على شريكه بالحصة.
قلت: ويتصور فيما إذا كان من الجنس، مثل أن يكون بينهما أربعون من الغنم، لأحدهما في عشرين منها نصفها، وفي العشرين الأخرى نصفها وربعها فيأخذ الساعي شاة منها، فإنه إن أخذها من العشرين التي يملك فيها أحدهما نصفها وربعها، وكانت قيمة الشاة مثلاً أربعة دراهم، رجع صاحب النصف [والربع منها على صاحب الربع] بنصف درهم، وإن أخذها من العشرين التي بينهما نصفين، وقيمتها أربعة دراهم أيضاً رجع صاحب الربع من العشرين الأخرى على صاحب النصف والربع منها بنصف درهم.
والمرجع في القيمة عند الاختلاف إلى البينة، فإن فقدت فالقول قول المرجوع عليه مع اليمين.
ولو كان الساعي قد أخذ فوق الفرض [من] مال أحدهما نظر: فإن [كان الفاضل متميزاً كما إذا أخذ شاتين والواجب شاة، فلا يرجع المأخوذ منه إلا بالحصة من الواجب فقط، وإن كان لا يتميز نظر:
فإن] لم يكن للساعي شبهة في ذلك، كما إذا أخذ الكرام لم يرجع إلا بالحصة من غير كريمة، قال القاضي الحسين: وهذا دليل على أنالفرض يسقط وإن ظلم الساعي وأخذ أكثر، وأن الإمام لا ينعزل بالجور.
وإن كان للساعي شبهة في أخذ الفاضل وتأويل مثل: أن أخذ صحيحة عن مراض، وكبيرة عن صغار، على مذهب مالك- رجع على خليطه بحصته من الفاضل. وقياس هذا: أنه لو أخذ القيمة من أحدهما عن الزكاة؛ اعتماداً على
مذهب أبي حنيفة- أن يرجع على خليطه بحصته منهما، وهو أحد الوجهين في المسألة، ويقال: إنه نص عليه في "الأم"، وعن أبي إسحاق: أنه لا يرجع بشيء؛ لأن القيمة لا تجزئ في الزكاة عند الشافعي بحال بخلاف الكبيرة والصحيحة؛ فإنه لو تطوع بها قبلت، وقد قيل بطرد هذا الخلاف فيما لو أخذ عن السخال كبيرة.
قال: وإن كان بينهما نصاب من غير الماشية، أي: كالثمار والزروع والدراهم والدنانير وعروض التجارة، ففيه قولان:
أصحهما: أنه كالماشية، أي فيزكيان زكاة الخلطة عند الاشتراك في الملك، أو الانفراد فيه والاشتراك في الارتفاق، كما سنذكره؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة"، ولأن المؤن تخف بالخلطة؛ فعلى هذا يشترط في الثمار والزروع: اتحاد الناطور والأكار والعمال والحصاد والملقح والمنقح والنهر، وفي غيرهما: اتحاد الحانوت والحارس والميزان والوزان، والناقد والمنادي والمتقاضي، كما قال البندنيجي.
ومن الأصحاب من قال بعدم جريان هذا القول في خلطة الأوصاف، ويحكى عن اختيار أبي إسحاق، وهو الأصح في "الحاوي" قال: لأنها مأخوذة من الاختلاط، وهذه مجاورة، وما ذكره الشيخ هو الراجح عند الأكثرين، ومنهم البغوي، وهو الذي فرع عليه الشافعي في باب زكاة الثمار من "المختصر"، ولذلك قال في "التتمة": إنه المذهب؛ لأن ما صح فيه خلطة الأعيان صح فيه خلطة الأوصاف كالماشية.
قال في "الحاوي" في باب زكاة الثمار: والوجهان مأخوذان من اختلاف أصحابنا في الخلطة في الماشية بالأوصاف، هل سميت خلطة لغة أم شرعاً؟ فمن قال: لغة: منع من الخلطة، ومن قال: شرعاً، جوز الخلطة هاهنا.
قال: والثاني [أنهما] يزكيان زكاة المنفرد، أي: يزكي كل منهما زكاة المنفرد؛ لقوله- عليه السلام: "والخليطان ما اجتمعا في الرعي [والحوض
و] الفحل"؛ فدل ذلك على أن ما لا يوجد ذلك فيه لا تؤثر فيه الخلطة، ولأن خلطة المواشي تحصيلها يقع تارة بإزاء ضرر لأرباب الأموال والفقراء، وليس فيما سواها [إلا] الإضرار بأرباب الأموال؛ فإنه لا وقص فيها، فامتنع إلحاقها بالمواشي، وهذا هو القديم.
والقائلون بالجديد قالوا: الحديث مبين لما تقدم من قوله: "وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية"؛ فإن ذلك لا يكون إلا في الماشية؛ فكذلك بين الخليطين، لا لأنه أراد جنس الخلطة في كل الأموال. وأما قولهم: إن الخلطة في المواشي لها تأثير في تغليظ الزكاة تارة وتخفيفها أخرى، فهو غير مقصود منها؛ ألا ترى أن الماشية إذا كانت أزيد من أربعمائة لم تفد الخلطة فيها أبداً إلا إضراراً برب المال؟
وسلك الغزالي تبعاً لإمامه طريقاً آخر، فحكى في الثمار والزورع ثلاثة أقوال، ثالثها:[تثبت فيها] خلطة العين دون خلطة الجوار؛ إذ لا تتحد المرافق بالتجاور، وغاية الممكن فيه: اتحاد الناطور والنهر، وأما الدراهم والدنانير فالمذهب: أن خلطة الجوار لا تؤثر فيها؛ إذ لا وقع لاتحاد الحانوت والحارس، وفي خلطة الشيوع قولان.
وما قال هنا: إنه المذهب، جزم به في "الوجيز" تبعاً للقفال؛ فإنه جزم فيها بعدم تأثير خلطة الجوار، وقال: في خلطة الاشتراك قولان. وهي الطريقة التي أوردها الشيخ أبو محمد والصيدلاني، ووافقهما القاضي الحسين على إجراء القولين في خلطة الشيوع، وقال في خلطة الجوار: إنها مبنية على النخل والزرع، فإن قلنا هنا: لا تثبت، فهاهنا أولى، وإلا فقولان، ووجه الفرق: أن تمام الارتفاق إنما يحصل في الذهب والفضة بالخلطة بالشركة، بأن يتصرفا فيه فينتفعا به، ولا يرتفقان في خلطة المجاورة في الحقيقة، والله أعلم.