الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب زكاة النبات
النبات يطلق على ما له ساق وهو الأشجار، وعلى ما لا ساق له وهو الزرع والحشيش [ونحوه].
والأصل في وجوب الزكاة في النوعين على الجملة- قبل الإجماع- من الكتاب قوله تعالى: {أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ} فأوجب بأمره الإنفاق مما أخرجه من الأرض لنا، والنوعان خارجان من الأرض، ثم قال:{وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ} أي: الرديء، لما تقدم {مِنْهُ تُنفِقُونَ} [البقرة: 267] وأراد الزكاة، يدل عليه قوله- عز وجل:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] وقد تقدم أن المراد بها في هذه الآية: الزكاة؛ للخبر فكذا فيما نحن فيه.
ولأنه ليس مما يخرج من الأرض حق واجب سوى الزكاة، ولأنه حرم إخراج الخبيث، وهو الرديء كما تقدم، ولو كان المراد غيره لما حرمه، إذ يجوز إخراج خبيثه وطيبه.
ومن السنة: ما روى أبو داود عن سالم بن عبد الله عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت [السماء] والأنهار والعيون أو كان بعلاً العشر، وفيما سقي بالسواني أو النَّضْحِ نصف العشر". وأخرجه البخاري وغيره.
وعن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فيما سقت الأنهار والعيون العشر، وما سقي بالسواقي ففيه نصف العشر" أخرجه مسلم.
وقد ورد في الكتاب والسنة ما يدل على الوجوب في الزرع خاصة، قال الله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَمَا} إلى قوله: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]، وحقه- كما قال ابن عباس-: العشر ونصف العشر وروي عنه أنه قال: هو الزكاة المفروضة.
وإنما قلنا باختصاص دلالتها بالزرع؛ لقول الشافعي: "وقوله: {يَوْمَ حَصَادِهِ} دلالة على أنه إنما جعل الزكاة على الزرع"، أي: في هذه الآية.
قال الأصحاب: لأن الحصاد غير مستعمل في الأشجار، وإنما هو حقيقة في الزرع، [وإن استعمل مجازا في غيره؛ فإنه يقال: حصد الزرع] وجد النخل، وقطف العنب، وجني الفاكهة، ولا يقال: إن المراد بالحصاد في الآية الاستئصال كما في قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً} [يونس: 24] فيكون تقديرها يوم استئصاله، هذا لا يختص بالزرع؛ لما ذكرنا أنه حقيقة في الزرع، ولو سلمنا أنه
حقيقة في الاستئصال فلا يمكن الاستدلال بظاهر الآية على الثمار؛ لأن الأشجار لا تستأصل، بل تترك أصولها وتجني ثمارها، وإذا لم يمكن استعمال ظاهر الآية سقط الاحتجاج به، وقال-[عليه السلام]- لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن "خذ الحب من الحب" أخرجه أبو داود والنسائي.
وورد في السنة ما يدل على وجوبها في الثمار خاصة: روى أبو داود عن سعيد بن المسيب عن عتاب بن أسيد قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن يخرص العنب كما يخرص النخل، وتؤخذ زكاته زبيباً كما تؤخذ صدقة النخل تمراً". وأخرجه الترمذي وقال: إنه حسن غريب. وغيره ذكر أنه منقطع؛ لأن عتاباً توفي في اليوم الذي توفي فيه أبو بكر [الصديق] رضي الله عنه وولد سعيد بن المسيب في خلافة عمر سنة خمس عشرة على المشهور، وقال الترمذي: إن هذا الخبر قد رواه ابن جريج عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة. قال: وسألت محمداً- يعني البخاري- عن هذا فقال: حديث ابن جريج غير محفوظ، وحديث سعيد بن المسيب عن عتاب ابن أسيد [أصح].
[و] قال الأصحاب: وإنما جعل النبي صلى الله عليه وسلم النخل أصلاً ورد الكرم إليه؛ لأنه افتتح خيبر في سنة ست وكان بها نخل، وكان يوجه عبد الله بن رواحة
يخرصها عليهم، فكان خرص النخل ووجوب الزكاة فيه معهوداً عندهم، ثم افتتح الطائف في سنة ثمان وكان بها كرم؛ فأمرهم بخرصها كما يخرص النخل.
قال- رحمه الله: ولا تجب الزكاة في شيء من الزروع إلا فيما يقتات، أي: يكون له بقل يستمسك.
قال: مما ينبته الآدميون، أي يزرع جنسه الآدميون [وإن نبت بنفسه] كما إذا تناثر حب لمن تجب عليه الزكاة أو حمله [الهواء أو الماء] فنبت، صرح بذلك القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما.
واحترزنا بقولنا: لمن تجب عليه الزكاة عما لو حمل السيل الحب من بلاد الحرب ونبت في الصحاري، لا عشر فيه، وكذا النخيل إذا كانت مباحة في الصحاري، لا عشر في ثمارها.
قال: كالحنطة، والشعير، والدخن، والذرة، والأرز، وما أشبه ذلك والقطنية: وهي العدس والحمص والماش والباقلي واللوبيا والهرطمان.
هذا الفصل اقتضى أمرين:
أحدهما: وجوب الزكاة فيما ذكره، ودليله قد تقدم؛ لأنه داخل في جملة العموم.
والثاني: انتفاء الوجوب عما عدا ذلك وهو قسمان كما ذكر.
أحدهما: ما لا يقتات أصلاً أو في حال الاختيار؛ لأنه حين قال إلا فيما يقتات مثله، والممثل به هو المقتات في حال الاختيار فدل على أنه مراده؛ لأن المثال يبين ما أهمل من المراد.
فمن الأول: الأبازير؛ كالكمون والكراويا وغير ذلك، وكذا بذر الكتان وسائر البقول والخضروات كالقثاء والبطيخ، والبقول.
ومن الثاني: الترمس؛ لأنه لا يقتات في حال الاختيار، على أنه قد حكى عن الشافعي أنه قال: لا أعلم أنه يؤكل إلا دواء وتفكهاً.
وقال القاضي الحسين: إنه يهيج الباءة ويؤكل للجماع.
والقسم الثاني: ما يقتات لكنه لا يزرع جنسه الآدميون وهو ما نبت في الصحاري.
وقال [الشافعي] في "المختصر": ولا يبين لي أن يؤخذ من الفث وإن كان قوتاً ولا من حب الحنظل ولا من شجرة برية أي كالعفص والبلوط ونحو ذلك، كما لا يؤخذ من بقر الوحش ولا من الظباء صدقة ولا من الثفاء ولا من حب البقول.
والفث- كما قال المزني وابن أبي هريرة-: حب الغاسول وهو حب الأشنان، فإذا أدرك وتناهى حصل فيه مرارة وحموضة.
وقال غيرهما: هو حب ينبت بالبادية يشبه الشعير له رأسان يقتاته الناس في الجدب.
وقال القاضي أبو الطيب: سألت قوماً من أهل المدينة عن الفث فقال: هو حب الثمام يملح ويؤكل.
وقال أبو حامد: قال قوم: إن الفث: حب أسود يدفن حتى يلين ثم يخرج ويطحن ويخبز يأكله أعراب طيء عند المجاعة. وهو أشبه بقول الشافعي؛ لأنه قال [فيه]: "وإن كان قوتاً"، وحب الأشنان لا يكون قوتاً بحال.
وقال في "الصحاح": هو حب يخبز ويؤكل في الجدب، وخبزه غليظ شبيه بخبز الملة.
والثفاء: حَبُّ الرَّشاد.
وقيل: إنه حب باليمن لا يحتاج آكله إلى شرب الماء عليه.
والدليل على نفي الوجوب في القسمين ما روي عن علي وطلحة أنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس في الخضراوات صدقةُ".
وروى أبان عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس فيما أنبتته الأرض من
الخضراوات زكاةٌ".
وروى موسى بن طلحة عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فيما سقت السماء والبعل والسيل والعين العشر، وما سقبي بنضح أو غرب ففيه نصف العشر يكون ذلك في التَّمر والحنطة والشَّعير والحبوب، فأمَّا الرُّمَّان والقثَّاء والبطِّيخ والقضب فعفوُ عفا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي لفظ: "عفا الله عنها".
ولأن الزكاة إذا وجبت في جنس تعلقت بأعلى نوعيه [وسقطت عن أدناهما، كالحيوان لم تجب الزكاة إلا في أعلى نوعيه] وهو النعم السائمة وكالمعادن لم تجب الزكاة إلا في أعلى نوعيها وهي [الذهب والفضة]، وكالعروض لم تجب الزكاة إلا في أعلى نوعيها وهي عروض التجارة، فاقتضى أن تكون زكاة الزرع متعلقة بأعلى نوعيه دون الآخر وهو ما ذكرناه.
وتحريره قياساً: أنه جنس مال تجب فيه الزكاة فوجب أن تختص الزكاة بأعلى النوعين من جنسه كالحيوان وفارقت هذه الأشياء الأقوات الغالبة؛ لعظم منافع تلك.
وقد جمع الشيخ بقوله: "يقتات مما ينبه الآدميون"، الشروط الأربعة التي اعتبرها الشافعي فإنه قال: في "المختصر": "وما جمع أن يزرعه الآدميون، وييبس، ويدخر ويقتات خبزاً أو سويقاً أو طحيناً- ففيه الصدقة".
وأدرج في "الوسيط" ذلك في قوله: "بكل مقتات في حال الاختيار [وأنبتته أرض مملوكة أو مستأجرة خراجية أو غير خراجية فيجب فيه العشر على الحر المسلم إذا كان مالكه متعيناً"؛ لأن "المقتات في حال الاختيار"] جامع للصفات الأربع فلذلك استغنى عن التصريح بها لكن قوله: "أنبتته الأرض مملوكة أو مستأجرة" وإن ساقه لبيان أن الأجرة والعشر يجتمعان عندنا، وكذا العشر، والخراج؛ لأن الخراج أجرة خلافاً لأبي حنيفة، فهو يوهم أن ما أنبتته الأرض المغصوبة لا زكاة فيه، وليس كذلك بل زكاته واجبة على صاحب البذر بلا خلاف.
تنبيه: الحنطة: معروفة، ويقال لها: البر والقمح والسمراء، وهي تطلق على البيضاء والحمراء والواسطية والبغدادية والموصلية والشامية وهي أجودها [كما قال البندنيجي].
وقال القاضي الحسين: إن الشامية هي العلس وهو بفتح العين المهملة واللام وبالسين المهملة.
قال الأزهري: يكون [منه] في الكمام الواحد حبتان وثلاث.
قال الجوهري: وهو طعام أهل صنعاء.
والشعير: معروف وهو بفتح الشين على المشهور، ويقال: بكسرها ويطلق- كما قال البندنيجي، وتبعه في "البحر"- على الأبيض والأسود [والأحمر والحلو والحامض]، وقد قال بعض أصحاب الشافعي: إن السلت ضرب منه وهو ما كان يقطع به الشيخ أبو محمد وأبو علي في "الإفصاح"، وبه أجاب الماوردي في "الأحكام".
قال البندنيجي: وليس كما قالوا فإن الشافعي نص في "الأم"[و"البويطي"] على أنه جنس بانفراده لا يضم إلى شعير ولا إلى حنطة. قال: وهو كالحنطة
وطعمه طعم الشعير. وهكذا قال غيره من العراقيين.
وقال في "الروضة": إنه الصحيح بل هو الصواب وبه قطع جماهير الأصحاب كما قال، وذكره أهل اللغة وأراد بكونه كالحنطة: في اللون والنعومة.
وقال القاضي الحسين: إن لونه لون الحنطة وطعمه طعم الشعير وإنه الشعير العادي.
وحكى الإمام عن الصيدلاني أنه قال: هو على صورة الشعير، ولكنه لا قشر له وطبعه طبع الحنطة إلى الحرارة، ولا يضم إلى الشعير ولا إلى الحنطة، بل هو مستقل بنفسه. وما ذكره من صفته هو الذي أورده الفوراني، وكذا غيره.
وقد حكى الإمام عن صاحب "التقريب" رواية وجه ثالث فيه: أنه يضم إلى الحنطة؛ لأنه يسد مسدها.
والأرز: معروف وفيه ست لغات مشهورات.
أرز: بفتح الهمزة وضم الراء، وأرز: بضمها، والزاي مشددة فيهما.
وأرز [وأُرْز]: بضمهما وبضم الهمزة وإسكان الراء، والزاي مخففة فيهما، كرسل ورسل.
ورز، ورنزُ.
والقطنية: بكسر القاف وتشديد الياء؛ سميت به لأنها تقطن في البيوت أي: تمكث يقال: قطن إذا قام.
والحمص: بكسر الحاء، وكسر البصريون ميمه وفتحها الكوفيون.
الماش- بتخفيف الشين- حب معروف، قيل: إنه ضرب من الجلبان.
الباقلي: فيه لغتان التشديد مع القصر ويكتب بالياء والتخفيف مع المد ويكتب بالألف. ويقال: له: الفول.
واللوبيا: مذكر، يمد ويقصر. قال الرافعي: وقيل: إنها تسمى الدخن أيضاً.
الهرطمان- بضم الهاء والطاء- هو الجلبان: بضم الجيم، ويقال له: الخلَّر، بضم الخاء المعجمة، وفتح اللام المشددة وبعدها الراء.
واعلم أن في كلام الشيخ أمرين لابد من التنبيه عليهما:
أحدهما: أنه حصر القطنية فيما ذكر، وهو في ذلك متبع للقاضي أبي الطيب، فإنه هكذا قال.
وقال النووي: إن الدخن والذرة معدودان من القطنية، وينكر على المصنف حين أفردهما عنها.
وقال في "الحاوي": القطنية: الحبوب المقتاتة ما سوى البر والشعير. وكذا قال القاضي الحسين والإمام.
الثاني: أن الماوردي قد حصر ما تجب فيه الزكاة فيما ذكره؛ لأنه ذكر ما ذكره الشيخ وضم إليه ثلاثة أمور: العلس، والسلت، والجاورس وقال: هذا ما تجب فيه الزكاة دون ما عداه، ثم قال: والعلس نوع من البر، والسلت نوع من الشعر.
ومن أصحابنا من قال: هو صنف على حياله، والجاورس: نوع من الدخن.
وهذا يقتضي انحصار الوجوب- كما ذكرنا- فيما ذكره الشيخ وإذا كان هذا صحيحاً لم يبق لقول الشيخ: "وما أشبه ذلك" معنى.
نعم يجوز أن يكون الشيخ قد اختار المنصوص في السلت وهو أنه جنس مستقل بنفسه؛ فيكون قوله: "وما أشبهه" عائداً إليه؛ لأنه يشبه الشعير أو القمح مع كونه مقتاتاً.
قال- رحمه الله: ولا في شيء من الثمار إلا في الرطب والعنب:
أما وجوبها في الرطب والعنب فقد تقدم وجهه.
وأما [نفي الوجوب عما] عداهما فلأنه- عليه السلام لما قال: "فيما سقت السماء العشر .. " الخبر اقتضى أن تجب في كل ما سقته، فلما قال:
"يكون ذلك في التمر والحنطة والشعير .. " إلى آخره بين أن المراد مما أطلق أولاً ما بينه آخراً فكان عدم الوجوب فيما عدا المبين باقياً على الأصل، ولولا قوله- عليه السلام في العنب:"يخرص كما يخرص الكرم"، لكنا لا نقول بالوجوب في العنب، ولأن ما عداهما لا تكمل منفعته فشابه الخضراوات، وهذا هو الجديد.
قال الشيخ: وقال في القديم: تجب في الزيتون لأنه روي عن عمر: أنه كتب إلى عامله بالشام أن يأخذ زكاة الزيتون.
وروي عن ابن عباس أنه قال: في الزيتون العشر. ولا مخالف لهما وعلى هذا قال الشافعي: وأحب أن يخرج العشر من الزيت.
فمن الأصحاب من قال: يجب بهذا كما يجب أن يجفف التمر ثم يؤدي العشر منه؛ لأنه منتهى حاله، وعلى هذا إذا أخرج الزيت، قال الإمام: فالكسب الذي يتخلف عن عصر الزيتون ليس فيه عندي نقل، ولعل الظاهر أنه يسلم نصيب الفقراء إليهم، وليس كالقصل والتبن الذي يتخلف عن الحبوب فإن الزكاة تجب في الزيتون نفسه ثم على المالك مؤنة فصل الزيت كما عليه مؤنة تجفيف الرطب والعنب ولا يجب العشر إلا في الحب. قال: وفي المسألة احتمال.
ومنهم من قال: هو على الاستحباب، فإن أخرج الزيتون أجزأه، وهذا إذا كان الزيتون يتأتى عنه الزيت.
قلت: وهذا الوجه الثاني مصرح به بأنه يجوز إخراج الزيتون والزيت، وهو ما أورده القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وكذا المتولي، وفرق بينه وبين ما إذا أراد أن يخرج زكاة التمر دبساً أو خلاً فإنه لا يجوز؛ لأن التمر قوت والدبس والخل ليسا بقوت ولكنهما أدمان، وأما الزيتون فإنه ليس بقوت ولكنه إدام والزيت أصلح للأدم من الزيتون فلا يفوت الغرض.
وهذا الوجه لم يورده الماوردي، بل حكى الأول وحكى معه وجهاً آخر: أنه
يتعين إخراج الزيتون ولا يجزئه غيره، وقال: إنهما مأخوذان من قولين للشافعي في أن الموسق ماذا؟
أحدهما: الزيت فيعتبر أن يكون فيه خمسة أوسق زيتاً؛ لأن الزيت حالة ادخاره كالتمر؛ فعلى هذا يؤخذ عشره زيتا لا غير. قال في "البحر": وهو خلاف النص.
والثاني: الزيتون، وهو ما أورده الجمهور، وادعى الإمام الاتفاق عليه، فعلى هذا يؤخذ عشره زيتوناً لا غير.
وبذلك يجتمع في المسألة ثلاثة أوجه.
ولا يلتحق بالزيتون السمسم وبذر الكتان بالاتفاق، وقال الإمام: لو كان القياس محتملاً في ذلك لجاز إلحاقهما به.
قلت: نعم قد حكى عن ابن كج: أن القديم مطرد في وجوب الزكاة في حب الفجل.
قال الرافعي: ولم أره لغيره.
قال: والورس؛ لأن أبا بكر كتب إلى [أهل] خفاش بخط معتقب "بسم الله الرحمن الرحيم": من عبد الله أبي بكر إلى أهل خفاش أما بعد: فإن عليكم أن تخرجوا العشر من الورس والذرة، فإن فعلتم ذلك فلا سبيل لأحد عليكم.
وما ذكره الشيخ من الجزم بأنه قال في القديم تجب الزكاة في الورس- هو ما أورده البندنيجي، وغيرهما وقال: إن الشافعي علق القول في القديم على هذا الأثر؛ فقال: إن صح قلت به، وقد صح، فله في القديم فيه قولان وقد حكاهما الإمام وغيره.
وفي الزعفران على القول بوجوب الزكاة في الورس قولان؛ لأنه قال في القديم إن كان العشر في الورس ثابتاً احتمل أن يقال: في الزعفران العشر؛ لأنهما طيبان [كثيراً الثمر].
ويحتمل أن يقال: لا شيء في الزعفران؛ لأن الورس شجر له ساق وهو ثمره، والزعفران نبت فجعل الورس أدخل في الزكاة من الزعفران.
وحكي ابن الصباغ طريقة أخرى قاطعة بالوجوب.
قال: والقرطم لأنه روي عن أبي بكر أنه كان يأخذ العشر من القرطم.
ومذهب الشافعي في القديم الاحتجاج بفعل الصحابي وقوله.
وهذا القول أخذ من قوله في القديم: ولو قال قائل فيه العشر كان مذهباً.
وقد أفهم كلام بعضهم إجراء هذا القول في العصفر أيضاً. والإمام حكى عن العراقيين تردداً فيه، وهو محكي في "البحر" عن "الحاوي".
فإن قلت: قد حكى عن القديم إيجاب الزكاة في العسل حيث قال فيه: يحتمل أن يقال بألا تجب، ويحتمل أن يقال: أنه يجب فلم لا ذكر الشيخ هذا القول؟
قلت: لأنه تكلم في زكاة النبات وليس العسل منه على أن الشيخ أبا حامد وغيره قطعوا بنفي الزكاة فيه قديماً وجديداً فلعل الشيخ ممن وافقهم فيه وهو الأظهر، وبهذا الجواب يقع الجواب عن كون الشيخ لم يذكر القول القديم في أن الترمس تجب فيه الزكاة كما حكاه الإمام عن رواية العراقيين، وإليه أشار أبو حامد. وقال في "البحر": إنه أخذه من قوله فيه: "ولا أضم حنطة إلى شعير ولا شعيراً إلى سلت ولا سلتاً إلى ترمس"؛ فإن هذا يدل على أن فيه الزكاة ولكن أكثر العراقيين [لم يذكروه والشيخ بهم أسوة].
وقد أطنب البندنيجي في وصفه فقال: هو حب عريض أصغر من الباقلي في تقدير نواة التمر الهندي، [إلا أن] نواة التمر الهندي مربعة، وهذا مدور حسن التدوير كالدينار الصغير قال مجلي: وهو في مصر أشهر من أن يوصف.
وقد جعله الفوراني من بذر البراري؛ كالثفاء.
ولا فرق في العسل إذا أوجبنا الزكاة فيه بين أن يكون حصل من نحل مملوك له أو مباح.
والصحيح في جميع ما ذكرناه هو الجديد؛ لأنه- عليه السلام حين بعث معاذاً إلى اليمن قال: "لا تأخذ العشر إلا من أربعةٍ: الحنطة، والشعير، والنخل، والعنب".
وعبارة الرافعي: أنه روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "الصَّدقة في أربعةٍ: التَّمر، والزَّبيب، والحنطة، والشَّعير، وليس فيما سواها صدقةُ".
وهذا الخبر ينفي الزكاة في غير الأربعة ولكن ثبت أخذ الصدقة من الذرة وغيرها بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فخالفناه في الأقوات، وتمسكنا به فيما عداه.
تنبيه: القرطم: بكسر القاف والطاء، وضمهما، لغتان مشهورتان وهو حب العصفر.
والورس- بفتح الواو وإسكان الراء-: نبت أصفر يكون باليمن تصبغ به الثياب والحبر وغيرهما، قال في التتمة: وهي شجرة يخرج منها شيء يشبه الزعفران.
قال: ولا تجب- أي: زكاة النبات- إلا على من انعقد في ملكه نصاب من الحبوب، أي: اشتد وحان حصاده كما حكاه البندنيجي عن الشافعي وأطلقه غيره أو بدا الصلاح، أي: ظهر وهو بإسكان الألف غير مهموز، في ملكه
نصاب من الثمار.
هذا الفصل سيق لبيان أمرين:
أحدهما: بيان وقت الوجوب.
والآخر: اعتبار النصاب.
ووجه الأول- وهو بيان وقت الوجوب- قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] لأن تقديرها: وآتوا حقه الواجب وقت حصاده إذ لا يمكن أن يكون ذلك "اليوم" ظرفاً للإيتاء لأمرين:
أحدهما: أنه يجوز تأخيره عنه بل قد لا يتأتى الدفع فيه، وأنه متوقف على اليبس والدياس والتصفية بعده كما ستعرفه.
والثاني: أنه لو أخره عنه لم يوصف بالقضاء، ولو كان وقتاً للإخراج لكان إذا أخر عنه وفعل كان قضاء؛ كما نقول في زكاة الفطر إذا أخرت عن يوم الفطر، وإذا كان كذلك تعين أن يكون ظرفاً لأصل الوجوب، وحينئذ يكون الأمر بالإيتاء غير مؤقت بل متى تمكن منه فعله.
وإذا تقرر ذلك في الزرع بمقتضى الآية نظراً إلى اختصاص لفظ "الحصاد" به- كما تقدم في قول الشافعي- كان فيها تنبيه على أن وقت وجوبها في الثمار وقت بدو صلاحها؛ لأن حالة بدو الصلاح فيها كحالة استحقاق الصحاد في الزرع؛ فإن فيهما تؤمن الجائحة عليهما ولذلك جوز الشرع بيعهما في الحالين، ومنع منه قبلهما من غير شرط القطع، ومن هنا قال البندنيجي: إن وقت الوجوب فيهما وقت جواز البيع مطلقاً. يعني: من غير شرط القطع، وقد استدل الماوردي للمدعي فيهما بوجهين:
أحدهما: أن المقصود بالزكاة المواساة بالمال المنتفع به، وما لم يشتد الزرع ويبد صلاح الثمرة لا ينتفع بهما غالباً فلم تجب الزكاة فيهما.
والثاني: أن الزكاة استحداث حق شائع في المال، لأنه لا يصح بيعه إلا باشتراط القطع، واشتراط القطع لا يصح في المشاع فلأجل ذلك لم تجب فيه الزكاة وهذا هو الجديد والصحيح.
وعن صاحب "التقريب": حكاية قول غريب أن وقت الوجوب هو الاشتداد
والجفاف، ولا يتقدم الوجوب على الأمر بالأداء إذ يستحيل وجوب التمر مع عدمه.
قال في الوسيط: وهذا يلتفت على أن الإمكان شرط الوجوب وهو بعيد إذ تسليط الملاك على استهلاك الرطب إجحاف بالمساكين فالأولى الإيجاب.
وفي "تعليق" البندنيجي: أنه قال في القديم: وقت الوجوب في الزرع قبل وقت الحصاد. وهو ما يفهم من كلام الشيخ.
وقال في "الشامل": إن الشافعي أومأ في القديم إلى أن وقت الوجوب عند فعل الحصاد.
قلت: حذاراً من إقامة اليوم في الآية مقام الوقت كما ذكرته، وحمل اللفظ على حقيقته وهو المفهوم من قولهم: إن ما اتفق حصاده في فصل واحد يضم؛ لأنه وقت الوجوب فكان النظر إليه أولى.
وقد اقتضى كلام الشيخ أنه لابد في الوجوب من انعقاد نصاب في الثمار، من بدو الصلاح في نصاب منها حتى لو وجد الانعقاد أو بدا الصلاح في بعض النصاب وباقيه لم يتصف بذلك- لا تجب، والأصحاب قالوا: لا يشترط انعقاد تمام الحب وتمام الصلاح في الثمار بل يكفي في ذلك طيب أول الثمرة صرح به في "البحر" وغيره.
ووجه الثاني- هو اعتبار النصاب- قوله- عليه السلام: "ليس في حب ولا تمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسقٍ" أخرجه مسلم، وهو دال على اعتبار النصاب في الحب والتمر.
وأما الزبيب: فاعتبار النصاب فيه يؤخذ من قوله: "يخرص العنب كما يخرص النخل .. " الخبر.
وأيضاً: فقد روى أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ليس فيما دون خمسة أوسقٍ صدقةُ".
قال في "مختصر السنن": قد أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما. وهذا الخبر يشملهما.
قال: ونصابه أن يبلغ الجنس الواحد، أي: وإن اختلفت أنواعه كما تقدم، بعد التصفية في الحبوب، والجفاف في الثمار- خمسة أوسق: للخبر، والجفاف: بفتح الجيم يقال: جف الشيء يجف: بكسر الجيم؛ قال الجوهري: ويجف- أيضاً- بالفتح جفافاً، وجفوفاً.
والوسق: بفتح الواو، وكسرها، والمشهور الأول، وجمعه: أَوْسُقُ، ووُسُوقُ.
قال: وهو، أي النصاب، ألف وستمائة رطل بالبغدادي- لما روى أبو داود عن أبي سعيد الخدري أنه- عليه السلام قال:"الوسق ستُّون مختوماً"، وفي غيره:"ستون صاعاً".
وإذا كان الوسق ستين صاعاً كانت زنة خمسة منه ما ذكره الشيخ؛ لأن مجموع الخسمة ثلاثمائة صاع والصاع أربعة أمداد؛ فيكون النصاب ألفاً ومائتي مد.
والمد: رطل وثلث بالبغدادي، وذلك ألف وستمائة رطل بالبغدادي.
والرطل البغدادي، قيل: إنه مائة وثلاثون درهماً.
وقيل: مائة وثمانية وعشرون درهماً.
وقيل: إنه مائة وثمانية وعشرون درهماً وأربعة أسباع درهم، قال النووي: وهو الصحيح.
ويقال بكسر الراء وفتحها.
قال الأصحاب: والمعتبر في الموزون الأوسط من كل نوع فإنه يشتمل على الرزين والخفيف.
وفي "البحر": أن أبا حامد قال: وما حققه أصحابنا من اعتبار الوزن معناه إذا وافق الوزن الكيل وكان كل صاع خمسة أرطال وثلثاً فأما ما يختلف كيله ووزنه مثل: أن يكون التمر كبيراً ثقيلاً يكون ألف وستمائة رطل منه دون ثلاثمائة صاع فلا زكاة فيه: ولو كان خفيفاً يكون ثلاثمائة صاع منه كيلا دون ألف وستمائة رطل تلزمه الزكاة؛ لأن الأصل فيه الكيل؛ قال- عليه السلام: "المكيال مكيال المدينة، والميزان ميزان مكة".
قال: وهذا يدل على أنه على التقريب في الوزن، وعلى التحديد في الكيل، ومن أصحابنا من قال: هو تقريب أي: في الكيل أيضاً، فإن نقص منه شيء يسير لم تسقط الزكاة وهو اختيار القفال ومشايخ خراسان.
قلت: وهذا من الروياني يقتضي أن الخلاف في تقريب الكيل وتحديده.
وأما الوزن فإنه تحديد بلا خلاف، وليس الأمر كذلك بل المارودي وغيره حكوا الخلاف في تحديد الوزن وتقريبه فقالوا: إن قلنا: إنه تحديد ضر فيه نقص الرطل والرطلين، وهو الذي صححه هو وغيره، وإن قلنا: إنه تقريب لم يضر والإمام حكاه عن العراقيين، وقال: إنهم قالوا: إذا قلنا: إنه تقريب فلا يضر نقص خمسة أرطال.
قال مجلي: ولا وجه لهذا التحديد: والأمر كما قال؛ بل الأظهر ما قاله الإمام – تفريعاً عليه-: إن كل نقص إذا نقص على خمسة أوسق لا يكون خارجاً عن
الاعتدال فهو غير ضار، فإن أشكل الضبط فالأظهر أنه لا يؤثر، ويحتمل استصحاب براءة الذمة؛ فإن الأصل عدم الوجوب حتى يتحقق الشاغل، والله أعلم.
قال: إلا الأرز، والعلس: وهو صنف من الحنطة يدخر في قشره؛ فنصابه عشرة أوسق مع قشره؛ لأن خالصه يكون خمسة أوسق وهي المعتبرة حتى ولو كان خالص دون العشرة من ذلك خمسة أوسق كان ذلك هو النصاب.
وما ذكره الشيخ في العلس هو المنصوص؛ فإن الشافعي قال: أخبرني من أثق به أن القشرة التي عليه مثل [نصفه فلا تجب فيه] الزكاة حتى يبلغ عشرة أوسق مع قشره. كذا قاله الماوردي.
وإن من أصحابنا: من منع السلم فيه وبيع بعضه ببعض.
وقد حكى عن الشيخ أبي حامد أنه قال: قيل: يجيء من الأرز الثلثان فتبين أن يكون في القشر من الحب ما يبلغ خمسة أوسق.
والمراد بالقشر في الأرز: القشر الأعلى، أما الأسفل وهو الأحمر، فقد قال في "الحاوي" هنا وفي باب الربا: إن الذي ذهب إليه أكثر الأصحاب أن النصاب معه خمسة أوسق، وأبعد بعض أصحابنا- وهو كما قال هنا أبو علي بن أبي هريرة- فجعله عشرة أوسق؛ كالعلس.
وفي "البحر" حكاية وجه آخر: أنه يعتبر أن تكون خمسة أوسق بعد إخراج القشرة الحمراء؛ وقال: إنه الأصح عندي.
وقد حكى الرافعي وجهاً: أن نصاب الباقلي لا يدخل في تقديره القشرة السفلى، وأنه الذي جعله في "العدة" المذهب؛ لأنها غليظة من مقصوده.
قال في "البحر": وهو الصحيح عندي.
تنبيه: كلام الشيخ يقتضي أن النصاب في الثمار ما يبلغ خمسة أوسق بعد الجفاف سواء كان مما يجف عادة أو لا، وهو ما ذكره العراقيون لكنهم اختلفوا في كيفية تقديره على وجهين:
أحدهما: أنه يعتبر نصابه بنفسه فيقال: لو جفف على تنور هل كان يبلغ
خمسة أوسق أم لا؟ فإن قيل: يبلغ وجبت- وكيفية إخراجها تأتي- وإلا فلا تجب.
والثاني: أنه يعتبر بغيره كما يعتبر الحر عبداً في الحكومة فيقال في الرطب مثلاً لو كان يجيء منه تمر: هل كان يبلغ خمسة أوسق؟ فإن قيل: نعم وجبت وإلا فلا.
وقد حكى الماوردي وجهاً صححه في "الوسيط": أنه يوسق رطباً، فإذا بلغ خمسة أوسق منه وجبت؛ لأنه منتهى إدراكه.
قال الرافعي: وهو جار في مثله من العنب الذي لا يجيء منه زبيب.
تنبيه آخر: قوله: ولا يجب إلا على من انعقد في ملكه .. إلى آخره، ذكره تفريعاً على الجديد.
وإن قلنا بالقديم في وجوب الزكاة في الزيتون فلابد فيه من خمسة أوسق، لكن ما الوسق؟ هل الزيت، أو الزيتون؟ فيه قولان تقدما، والمشهور أنه الزيتون.
وإذا رأينا إيجاب الزكاة في الورس وجبت في قليله وكثيره، وكذا في الزعفران؛ لأنه قل أن يجتمع منهما نصاب.
وهذا ما أورده الجمهور وادعى الإمام أنه الظاهر. وحكى هو وغيره وجهاً: أنه يعتبر فيهما النصاب؛ طرداً للقياس.
والقرطم يوسق على القديم، وكذا العسل والترمس.
وعن ابن القطان: أنه خرج باعتبار النصاب في جميع ما يخص القديم بإيجاب الزكاة فيه قولان والمذكور منهما في "المجرد" في القرطم: المنع.
قال: وتضم ثمرة العام الواحد أي: من التمر أو الزبيب اختلفت أنواعهما أو اتفقت بعضها إلى بعض في إكمال النصاب، أي: وإن كان بين بدو صلاح بعضها والبعض الآخر الشهر والشهران لاختلاف البلاد في الحر والبرد.
ووجهه: أن الله- تعالى- أجرى عادته أن إدراك الثمار لا يكون في حالة واحدة، بل ثمرة النخلة الواحدة لا تدرك في وقت واحد، فلو اعتبرنا التساوي في الإدراك لما وجبت الزكاة غالباً.
قال ابن الصباغ: وقد أجمع المسلمون على ضم ما يدرك إلى ما تأخر فثبت أن الاعتبار بثمرة العام الواحد، وقد قال الأصحاب: إن ما بين إطلاع النخل إلى بدو صلاحها ومنتهى إدراكها مدة أربعة أشهر فذاك هو المعتبر، ولا فرق بين أن يكون النخل في بلد واحد أو بلاد شتى، وكذا لا فرق عند العراقيين في الضم بين أن يكون إطلاع البعض بعد جداد البعض الآخر، أو قبله إذا جمعتهما ثمرة العام؛ صرح به البندنيجي وغيره، وهو الذي رجحه في "الروضة"، وقال: إنه الأصح في "المحرر".
وقال المراوزة: إن تقدم إطلاع البعض ولحقه البعض الآخر قبل بدو الصلاح فلا خلاف في الضم، وإن تأخر إطلاع البعض حتى جد البعض فلا ضم بلا خلاف، وإن أطلع البعض بعد ما بدا صلاح البعض ولم ينته إلى حالة الجداد ففي الضم وجهان:
الذي صححه البغوي والفوراني، ويحكى عن أبي إسحاق: عدم الضم أيضاً؛ لأنها أثمرت بعد الوجوب في الأولى فكانت كثمرة عام آخر.
والذي قطع به الصيدلاني: مقابله وهو الذي يقتضيه نصه في "الأم" حيث قال- كما حكاه أبو الطيب وغيره-: لو كان نخل في بعضها رطب وفي بعضها بسر، وفي بعضها طلع فجد الرطب، ثم بلغ البسر فجده، ثم بلغ الطلع فجده، ولم يبلغ كل واحد نصاباً ضم بعضه إلى بعض، ولو آن وقت جداد الأولى ولم تجد فهل يكون الحكم كما لو جدت حتى لا يضم ما أطلع بعد ذلك إليها بلا خلاف أو يكون كحالة بدو الصلاح فقط حتى يكون كضم ما يحدث بعد ذلك؟ فيه وجهان.
ولا خلاف في أن بعض النخل إذا جد ثم أطلع قبل جداد باقيه مدة ثانية لا يضم ثمرته إلى ما بقي كما لا تضم الثمرة الثانية إلى الثمرة الأولى؛ لأن الثانية بمنزلة ثمرة عام آخر، ولا خلاف في أن ثمرة عام [لا تضم إلى ثمرة] عام [آخر].
نعم قال المراوزة- بناء على أصلهم في أن ما أطلع من النخل بعد جداد ما
هو في ملكه منه لا يضم بعضه إلى بعض-: لو كانت التي أطلعت في السنة مرتين تهاميات، وفي ملكه نجديات لا تطلع في السنة إلا مرة فكان إطلاع النجديات بعد جداد التهاميات المرة الأولى وإطلاع التهاميات المرة الثانية [قبل بدو صلاح النجديات ضممنا ثمرة التهاميات في المرة الثانية] إلى ثمرة النجديات.
وإذا تأملت ذلك علمت أن الفريقين متفقان على ضم إحدى ثمرتي التهاميات إلى ثمرة النجديات، لكن العراقيين يضمون الأولى فقط، والمراوزة يضمون الثانية فقط.
قال الرافعي: وهذا قد لا يسلمه سائر الأصحاب، لأنهم حكموا بضم ثمرة العام الواحد بعضها إلى بعض، وبأن ثمرة عام لا تضم إلى ثمرة عام آخر، ومعلوم أن إدراك ثمار التهامية [في كل عام أسرع من إدراك ثمار النجدية فيكون إطلاع التهامية] باقياً للعام القابل وما على النجدية من العام الأول.
ثم ما ذكرناه من الضم مفروض بلا خلاف فيما إذا كان الكل حالة كمال، أما لو كان في بستانه [رطب لا يتتمر ورطب يتثمر] فهل يضم أحدهما إلى الآخر؟ قال القاضي الحسين: ذلك ينبني على إذا ما باع الرطب الذي لا يتتمر بمثله هل يجوز؟ فيه وجهان. ولو باع ما يتتمر بما لا يتتمر ترتب على ذلك، فإذا قلنا: هناك لا يجوز، فهاهنا أولى وإلا فوجهان:
فإن قلنا: إن بيع أحدهما بالآخر لا يجوز فيكمل أحدهما بالآخر؛ لأنهما من جنس واحد.
وإن قلنا يجوز البيع فلا يضم لأنا جعلناهما جنسين مختلفين.
قال: وفي الزروع، أي: التي اتحد جنسها واختلفت أوقات زراعتها وحصادها بالفصول مثل الربيع، والصيف، والخريف والشتاء؛ قال الماوردي: وإنما يكون ذلك في الذرة فقط؛ لأنها التي تزرع في السنة مراراً، وأما غيرها فلم تجر العادة فيه بذلك.
قال: أربعة أقوال:
أحدها: يضم زرع العام الواحد بعضه إلى بعض، [كما يضم ثمرة العام الواحد بعضها إلى بعض].
قال ابن الصباغ: وهذا أشبه الأقوال.
وفي "تعليق" البندنيجي: أنه المذهب.
وقال في "البحر": إنه من تخريج أبي إسحاق، وعلى هذا: فلا نظر على الاتفاق في وقت الزرع ولا في وقت الحصاد بل متى جمعهما العام ضم البعض إلى البعض لكن ما المراد بالعام؟ قيل: [إن] المراد به عام الزرع وهو من وقت إمكان زرعه إلى آخر حصاده، وذلك من ستة أشهر إلى ثمانية أشهر لا السنة العربية؛ لأن الزرع لا يبقى اثني عشر شهراً فعام الزرع هذا، هكذا حكاه في "البحر" من رواية أبي حامد عن أبي إسحاق.
وقيل: أطول سنة الزرع: ثمانية أشهر، وأقصرها: خمسة أشهر.
وقال البندنيجي: أكثرها ستة أشهر، وعبارة الماوردي: إنها ستة أشهر أو نحوها.
قال في "البحر": وقال بعض أصحابنا: أراد اثني عشر شهراً.
قال: والثاني: ما اتفق زراعته في فصل واحد؛ لأن الزراعة هي الداخلة تحت القدرة وهي الأصل فكان النظر إليها، فعلى هذا: ما اتفقت زراعته في فصل ضم وإن وقع حصاده في فصلين.
وقال البندنيجي عن أبي إسحاق: ولا يكاد يتفق وقت زراعته ويختلف وقت حصاده في البلد الواحد وإنما يكون مثل هذا في بلدين.
قال: والثالث: ما اتفق حصاده في فصل واحد لقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] فكان الاعتبار به أولى؛ ولأن ما لا يعتبر فيه الحول فالمعتبر فيه حال الوجوب؛ كزكاة الفطر، وهذا ما صححه في "البحر" والنووي، وعِلَّتُهُ تنتقض- على رأي العراقيين- بالثمار؛ فإنها غير منوطة بالحول ولا ينظر فيها إلى وقت الوجوب بل ينظر إلى كونها ثمرة العام.
قال: والرابع: ما اتفق زراعته وحصاده في فصل واحد؛ لأنه مال تتعلق الزكاة بعينه فاعتبر فيه الطرفان؛ كالماشية والأثمان.
قال أبو حامد: وهذا أضعف الأقوال.
قلت: وسبب ضعفه: منع الضم عند الاتفاق في العام [أو الزرع أو الحصاد]، وإلا فإذا اتفقت الزراعة والحصاد في فصل واحد فالأقوال [الأول] موافقة على الضم، وهو ما حكاه البندنيجي، وكذا ابن الصباغ وقال: إن هذه الأقوال لا تجتمع في ضم زرع وإنما يكون في ذلك قولان؛ لأنهما إما أن يكونا متفقين في الابتداء فيكون فيهما قولان، أو متفقين في الحصاد ففيهما قولان، وكذا إن كانا مختلفين فيهما فعلى قولين.
والأقوال متفقة على أنه لا يضم زرع سنة إلى زرع سنة أخرى، وذلك مما لا خلاف فيه إلا ما سنذكره.
وسلك المراوزة في حكاية الخلاف في المسألة طريقاً آخر فقالوا: إذا اتفق وقت الزراعة ووقت الإدراك والجنس واحد فلا شك في الضم اتصلت المزارع، أو تباعدت، وكذا إذا اختلفت الزراعات في الأوقات ولكن سبب التفاوت الضرورة في تواريخ الزراعة كالذي يبتدئ الزراعة من مبتدأ شهر ثم لا يزال يواصل إلى شهرين على حسب الإمكان، فهذا يعد زرعاً واحداً بلا خلاف، فإن الزرع الواحد هكذا يفرض.
ولو اختلفت تواريخ الزرع وتواريخ الإدراك ففي الضم أقوال:
أحدها: أن المزروع بعد حصد الأول لا يضم إليه وإن اتفق الزرعان والحصادان في سنة واحدة؛ تنزيلاً للزرعين منزلة حملين لشجرة واحدة يقع طلع أحدهما بعد جداد الأخرى.
والثاني: يضم إن وقع الزرعان والحصادان في سنة؛ لأنهما حينئذ يعدان زرع سنة واحدة [واجتماعهما في سنة واحدة] بأن يكون بين الزرع الأول وحصاد الثاني أقل من اثني عشر شهراً عربياً، كذا قاله الإمام والبغوي، وإن كان بينهما سنة فصاعداً فلا يضم.
والثالث: أن الاعتبار بوقوع الزرعين في سنة، وإن كان بين الزراعة الأولى والثانية أقل من سنة فالزرع مضموم إلى الزرع، وإن وقع أحد الحصادين وراء السنة من تاريخ الزراعة.
والرابع: أن الاعتبار بالحصد، فإن وقع الحصادان في سنة وكان الزمان المتخلل بينهما أقل من سنة عربية- فأحدهما مضموم إلى الآخر، وإن كان بين الحصادين سنة فلا ضم.
قالوا: وهذه الأقوال هي المروية في "المختصر".
واختلفوا في الأظهر منها، قال الرافعي: وكلام الأكثرين مائل إلى ترجيح القول الرابع.
قالوا: وقد نص في "الكبير" على خامس، وهو: إن وقع البذران في سنة ووقع الحصادان في سنة- فأحدهما مضموم إلى الثاني؛ قال القاضي الحسين والرافعي: وكذا إن وقع زرع الثاني وحصد الأول في سنة قالوا: وهو بعيد جداً إذ يلزم منه ألا يفرض زرعان على الاعتياد في سنة، وألا يضم أحدهما
للثاني؛ فإن زرع سنة إذا حصد فتمضي ستة أشهر ويبتدئ الزرع الآخر لا محالة فلا يقع بين الحصاد والزراعة إذا لم تتعطل السنة سنة كاملة.
وعن المسعودي: أنه نقل في "الإيضاح": القول الخامس على وجه أخص مما ذكرناه فقال: الاعتبار بجمع السنة أحد الطرفين إما الزرعين وإما الحصادين ولم يلحق بهما زرع الثاني وحصد الأول.
وإذا جمعت هذا إلى ما تقدم كان عند المراوزة في ذلك ستة أقوال، وإن ضممت ذلك إلى ما حكاه العراقيون اجتمع عشرة أقوال.
قال الإمام: والصورة التي تجتمع فيها الأقوال: أن يزرع ويحصد، ثم يزرع زرعاً آخر، أما إذا كان زرع الثاني بعد اشتداد الأول فالخلاف فيه مترتب على الخلاف فيما إذا كان زرع الثاني بعد حصد الأول، وهاهنا أولى بالضم؛ لاجتماعهما في النبات في الأرض والحصول فيها، ولو كان الزرعان معاً، أو على التواصل المعتاد كما ذكرنا. ثم أدرك أحدهما والثاني بعد بقل لم يشتد حبه أصلاً- ففيه طريقان:
أصحهما في "النهاية" وغيرها، وبه قال ابن سريج القطع بالضم؛ لأن ذلك يعد زرعاً واحداً.
والثاني: أنه على الأقوال؛ لاختلافهما في وقت الوجوب، بخلاف ما لو تأخر بدو الصلاح في بعض الثمار؛ فإنه يضم إلى ما بدا فيه الصلاح؛ لأن الثمرة الحاصلة هي متعلق الزكاة. وبهذا قال أبو إسحاق، وابن أبي هريرة كما قال القاضي الحسين بعينها، والمنتظر فيها صفة الثمر، وهاهنا متعلق الوجوب: الحب ولم يخلق بعد والموجود حشيش.
فرع: قال الشافعي: الذرة تزرع مرة فتخرج فتحصد ثم تستخلف في بعض المواضع فتحصد أخرى؛ فهو زرع واحد، وإن تأخرت حصدته الأخرى.
وقال الأصحاب: قد أجرى الله- تعالى- عادته بأن الذرة إذا حصدت طلعت، فإن كانت [حين] حصدت استخلف القضب وحمل ثانياً ففي الضم وجهان:
أحدهما- وهو قول أبي إسحاق-: لا، كما لو حملت النخلة مرة، فجدها ثم حملت مرة أخرى، وحمل كلام الشافعي على أن يكون بعض الذرة حين طلع ظاهراً للشمس فأدرك فجده وبعضه كان قد طلع ولكنه مزحوماً لم يبرز ذلك للشمس فلما حصد الظاهر ظهرت الصغار فأدركت، فإن في هذه الصورة الأقوال في الضم كما تقدم، والشافعي فرع على قول الضم فيها فعلى هذا يكون للطالع ثانياً حكم نفسه، فإن بلغ نصاباً زكاه وإلا فلا شيء فيه.
والثاني: إلحاق هذا الحادث [بزرع حادث] فيضم على القول الأول والثاني ولا يضم على القول الثالث والرابع.
وعلى هذا فالفرق بينه وبين ثمرة النخلة التي أطلعتها ثانياً: أن النخل يراد للتابيد فجعل لكل حمل [حكم] نفسه والزرع لا يراد للتأبيد، فالحملان لعام واحد.
وحكى الماوردي بدل الوجه الثاني: أنه يضم قال: لأنهما زرع واحد عن بذر واحد، وفرق بينه وبين النخلة بما ذكرناه، وقال في المسألة التي حمل صاحب الوجه الأول النص عليها: إنه ينظر: إن كان ما بينهما قريباً وفصل حصادهما واحد- ضم أحدهما إلى الآخر، وإن بعد ما بينهما واختلفت فصول حصادهما فيكون على قولين:
قال: ولو كان سبب طلع الثاني كون الأول [حين] حصد تناثرت منه حبات فطلعت فلا يضم؛ لأن بذره حصل بعد حصد الأول فلم يجتمعا في بذر ولا حصاد، فإن بلغ نصاباً وجبت فيه الزكاة وإلا فلا شيء فيه.
ولا خلاف عندنا في أنه لا يضم جنس إلى جنس آخر في إكمال النصاب وإن جمع ذلك اسم عام كالقطنية. نعم النوع يضم إلى النوع كما تقدم.
قال: وما سقى بغير مؤنة، أي: من شجر وزرع، كماء السماء أي: وهو المطر الذي يستغنى به كما في بلاد الشام ونحوها، وفي معناه: الثلج إذا وقع بأرض الجبل؛ فإنه إذا أزيح عنها حرثت وزرعت ولا تحتاج إلى ماء، والسيح
أي: وهو الماء الجاري على وجه الأرض بسبب سد النهر العظيم حتى يصعد الماء على الأرض فيسقيها، أو بفتح النهر العظيم عليها فيمر عليها لاستفالها، أو بشق ساقية وهي المجراة ويسقو الماء إليها فإن ذلك كله سيح، كما قال البندنيجي وغيره.
وما يشرب بالعروق، أي: مثل أن يغرس النخل في مواضع قريبة من الماء، فإذا تعرقت استغنت بعروقها الراسخة في الماء عن السقي. وهذا عين ما فسر به الزهري وغيره البعل الذي سنذكره في الحديث، وقد قال بعضهم: مراد الشيخ: ما يصل إلى عروقه نداوة الأرض فيستغنى بها عن الماء. والأول أشبه بكلام الشيخ.
قال: يجب فيه العشر، وما سقي بمؤنة كالنواضح والدوالي يجب فيه [نصف] العشر).
والأصل في ذلك ما تقدم من قوله- عليه السلام "فيما سقت السماء والأنهار والعيون أو كان بعلا- العشر، وفيام سقى بالسَّواني أو النَّضح نصف العشر".
[وفي رواية: "فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريًّا- العشر] وفيما سقي بالنَّضح نصف العشر" أخرجه البخاري. وفي رواية أبي داود: "وما سقي بالغرب ففيه نصف العشر".
وهذا ما لم تختلف فيه العلماء، والفرق بين ما سقي بماء السماء والنضح خفة المؤنة وكثرتها، ولذلك نظير في الزكوات؛ ألا ترى أنه يجب في الركاز الخمس؛ لخفة مؤنته ولا تجب الزكاة في المعلوفة؛ لثقل مؤنتها؟ فإذا أثر ثقل المؤنة في
دفع الزكاة فبأن تؤثر في نقصانها أولى.
والبعل في الحديث الأول: بتسكين العين غير المعجمة، وقد تقدم شرحه.
وقيل: هو والعذق واحد، وهو ما سقته السماء، والمشهور اختصاص هذا بالعذق، وأما البعل فهو ما تقدم.
والسواني: جمع سانية، وهي الناقة التي يسقى عليها.
والنضح: يسمى بالعراق: الشادوف؛ قال البندنيجي: وهو ما يغترف به من النهر إلى الساقية؛ كالحقبة والقرعة.
والعثرى في الحديث الثاني- بفتح العين والثاء والياء-: الأشجار التي تشرب مما يجتمع من المطر في حفرة سمي بذلك؛ لأن المار يتعثر بها.
وقيل: هي التي تشرب من أنهار تجري إلى جانبها.
وقيل: هو البعل.
والغرب: الدلو الكبير الذي لا تستطيع الاستقاء به إلا البهيمة.
و"السيح" في كلام الشيخ: بفتح السين المهملة وإسكان الياء آخر الحروف، والحاء المهملتين يقال: ساح يسيح.
والنواضح: جمع "ناضح"، وهي الإبل والبقر، وسائر الحيوانات التي يستقى بها الماء للمزارع والنخل وغيره من الأشجار واحدها: ناضح، وناضحة.
والدوالي: جمع "دالية"، قال بعضهم: وهي البكرة يستقى بها الماء بالدلاء.
وقال البندنيجي، وغيره: هي جذع طويل يجعل تحته على النصف منه بناء ويعلق برأسه باطية من حصب مقتر تغترف الماء تسع حدود قلة من الماء، فإذا امتلأت ماء صعد الرجل على الرأس الآخر من الجذع فينزل رأسه ويصعد
الرأس الذي علق به الإناء فيقلب إلى الأرض.
والعشر: بضم الشين وإسكانها، وكذلك "التسع" وما قبله إلى الثلث ويقال: في "العشر": عشير- بفتح العين وكسر الشين- ومعشار.
قال الشافعي: والعشر: أن يكتال لرب المال تسعة والعشر العاشر لمصدق ونصف العشر: أن يكال تسعة عشر لرب المال والعشرون للمصدق.
قال الأصحاب: وإنما بدأ بالمالك؛ لأن حقه أكثر؛ ولأن حق الفقراء إنما يظهر معرفته بحق رب المال.
قال الشافعي في "الأم": ولا يزلزل المكيال، ولا يزعزع، ولا يمسح ويترك فيه من الحب ما حمل.
قال الأصحاب: لأن ذلك أقرب إلى الإنصاف.
واعلم أن ما يحتاج إليه من المؤن في سوق الماء إلى الأشجار بحفر الأنهار والقنوات لا يؤثر في نقصان العشر، وإن كبرت المؤنة فيه، وحكمه حكم ما سقي بماء السماء؛ لأن هذه المؤنات إنما لزمته لإحياء الأرض، وهي غير متكررة، وقد ادعى الإمام في ذلك الاتفاق.
وقال ابن يونس: [إنه قيل]: وما سقي من القنوات يجب فيه نصف العشر، وهو الذي أفتى به أبو سهل الصعلوكي.
وقد حكاه في "البحر" عن بعض الأصحاب فيما إذا احتاج في ذلك إلى مؤنة عظيمة، أو احتاج إلى دانق من الجص والآجر.
قال: ورأيته عن الشيخ الجليل أبي عبد الله الحناطي.
وقال صاحب "التهذيب": إن كانت القناة أو العين كثيرة المؤنة بأن كانت لا تزال تنهار وينصرف ماؤها فتحتاج إلى استحداث حفر- فهي كالبئر التي تنزح فيها السواقي، وإن لم يكن لها مؤنة أكثر من مؤنة الحفر الأول وكسحها في بعض الأوقات فسبيله سبيل النهر في وجوب العشر، والواجب فيما لو اشترى الماء لسقيه نصف العشر؛ كما أشار إليه ابن كج ونقله عنه صريحاً صاحب "الرقم".
والمسقي بالماء المغصوب مثله؛ لأن عليه الضمان.
نعم، المسقي بالماء الموهوب هل يلتحق به؟ فيه وجهان عن أبي الحسين ورجح ابن كج إلحاقه بالماء المغصوب؛ لما في قبول الهبة من المنة؛ كما لو علف ماشيته بعلف موهوب.
قال في "الروضة": وقلت: والوجهان إذا قلنا لا تقتضي الهبة ثواباً؛ صرح به الدارمي. وقال: إن قلنا: تقتضيه فنصف العشر قطعاً.
والمسقي بالناعورة- وهي التي يديرها الماء بنفسه- كالمسقي بالنضح؛ فيجب فيه [نصف] العشر.
قال: وإن سقي نصفه بهذا ونصفه بذاك، وجب فيه ثلاثة أرباع العشر.
اعلم أن ظاهر هذا الكلام يقتضي أن نصف النابت إذا سقي بماء السماء، وسقي النصف الآخر بالنضح- يجب في المجموع ثلاثة أرباع العشر وهذا لم أره لأحد من الأصحاب بل قالوا- والصورة هذه-: أحد النصفين مضموم إلى الآخر في إكمال النصاب والواجب في النصف المسقي بماء السماء العشر وفي الآخر نصف العشر.
ولا يقال: إنا إذا جمعنا ذلك كان المجموع ثلاثة أرباع العشر؛ لأن حاصل أحد النصفين من الثمرة قد يكون أكثر من الآخر، وإذا كان كذلك لم يكن المجموع ثلاثة أرباع العشر، وقد يختلف نوعهما.
ومراد الشيخ- والله أعلم- بما ذكره ما قاله الأصحاب، وهو إذا ما سقي جميع النابت بالماءين على السواء؛ ويدل عليه قوله من بعد:"وإن سقي بأحدهما أكثر" وحينئذ فتعين أن يكون التقدير: وإن سقي النابت نصف السقي بهذا ونصفه بذاك، وجب فيه ثلاثة أرباع العشر.
ووجهه: أن عند سقي الجميع بماء السماء يوجب العشر وعند سقيه بالنضح يوجب نصف العشر، وقد تساويا؛ فوجب ثلاثة أرباع العشر نظراً للتقسيط، وعلى هذا يكال من الأربعين لرب المال سبعة وثلاثون وللمصدق ثلاثة.
وقال المراوزة: إن قلنا عند التفاضل في السقي بالتوزيع فالحكم كذلك، وإن
قلنا بأنه يعتبر حكم الأكثر ففي هذه الحالة وجهان:
أحدهما: ما ذكره الشيخ، وهو الذي جزم به في "الوجيز" وقال الرافعي: إنه الأصح.
والثاني: أنه يجب العشر ترجيحاً لجانب الفقراء، وهو ما جزم به الفوراني والمسعودي.
[قال]: وإن سقي بأحدهما أكثر ففيه قولان:
أحدهما: يعتبر فيه حكم الأكثر؛ لأن للكثرة تأثيراً في الترجيح كما تقدم في المواشي، وهذا ما اختاره في "المرشد".
والثاني: يجب في الجميع بالقسط لأنه القياس، ولأن ما تجب الزكاة فيه بالقسط عند التماثل تجب فيه بالقسط عند التفاضل؛ كزكاة الفطر في العبد المشترك، وهذا ما صححه النووي وغيره؛ وقال الشافعي: إنه أقيس من الأول.
وقد اقتضى كلام الشيخ أن النظر في التساوي والتفاضل إلى السقي لا إلى نفعه لكن هل النظر إلى تعدد السقيات، أو إلى الزمن الذي وقع فيه السقي؟ لم يتعرض له.
وقد حكى القاضي الحسين فيه وجهين:
أحدهما: أن النظر إلى تعدد السقيات وكثرتها، ولا نظر إلى طول الزمان وقصره.
فإذا سقي بماء السماء أربع مرات ومرتين بالنضح؛ فعليه خمسة أسداس العشر، فنضرب ستة في عشرة فيكون ستين، وهذا ما حكاه في "المهذب" والقاضي أبو الطيب، والماوردي.
والثاني: أن النظر إلى الزمان بأن سقي ستة أشهر بماء السماء وشهرين بماء النضح فعليه سبعة أثمان العشر فنضرب ثمانية في عشرة فهي ثمانون.
وحكى الإمام بدل الوجه الثاني: أن الاعتبار بما به ينمو الزرع والثمر وبقاؤه، فإن جرت ثلاث سقيات في شهرين، وسقية واحدة في أربعة أشهر؛ فالذي وقع في الأربعة أشهر أغلب.
قال: وعبر بعض أئمتنا بعبارة أخرى وهي قريبة مما ذكرناه آخراً فقال: النظر إلى النفع؛ فإن كان نفع سقية واحدة أكثر وكانت أنجع من سقيات من جهة أخرى فالعبرة بالنفع. قال: وهذا ينفصل عن الذي قبله بشيء وهو أن الفاعل قبل هذا القول يعتبر المدة كما ذكرنا في الشهرين والأشهر، وهذا القائل الأخير لا ينظر إلى المدة، وإنما ينظر إلى النفع الذي يحكم به أهل الخبرة والبصيرة.
قال الرافعي: واعتبار المدة هو الذي ذكره الأكثرون على الوجه الثاني.
قلت: وإذا جمعت بين ما حكاه القاضي والإمام جاءك في المسألة أربعة أوجه، والأوفق لظاهر النص اعتبار ما يعيش الزرع به وينمو كما قال الرافعي.
ولا شك أن النظر إلى السقيات المفيدة دون ما لا يفيد أو يضر على الأوجه كلها، وهذا كله إذا كان النابت مما يسقى عادة بماء السماء أو النضح، فلو كانت العادة سقيه بأحدهما كما إذا كان الزرع أو النخل منشأ على السيح أو النهر أو ماء السماء فمست الحاجة إلى النضح على ندرة الانقطاع، أو كان منشا على النضح فجاء السيل وسقاه فهل يكون الحكم كما تقدم؟ أو ينظر إلى ما جرت العادة به؟ وهو ما وقع ابتداء الأمر عليه؟ فيه وجهان حكاهما القاضي الحسين وغيره، وقال الإمام: إن الصحيح هو الأول، والثاني ضعيف لا أصل له، نعم لو كان التعويل على السيح، فجرى السقي بالنضح وقل قدره فقد يشبه ذلك بالعلف إذا جرى في بعض السنة حتى يقال: لا يسقط حكم السوم ولكن بين الأصلين فرق، وهو: أنه إذا جرى العلف في نصف السنة، والسوم في نصف السنة؛ فالمذهب المتبع. سقوط السوم بالكلية، وفي النضح والسيل لا نقول هكذا، والسبب فيه: أن في السيح والنضح الزكاة، وإنما الكلام في المقدار فاتجه التوزيع أو التغليب، والعلف موجبه إسقاط الزكاة على أنه كان من الممكن أن يسقط [نصف الزكاة] ويجب نصفها نظراً إلى السوم والعلف ولكن لم يصر إلى هذا أحد.
قال: وإن جهل المقدار، أي: فلم يعلم مقدار ما شربه من كل منهما هل هو النصف أو أحدهما أكثر؟ جعل [بينهما] نصفين؛ إذ لا مرجح فوجب
التساوي؛ كدار في يد رجلين تنازعاها.
وهذا ما حكاه البندنيجي عن ابن سريج، وهو الذي أورده القاضي أبو الطيب وابن الصباغ من غير عَزْو، والإمام عزاه إلى ابن سريج كغيره، وقال: لا وجه غيره، وإن على هذا يكون الحكم كما لو تحققنا سقيه بهما نصفين، وقد تقدم.
وفي الحاوي: أن ابن سريج قال: يجب عليه ثلاثة أرباع الشعر وأن غيره قال: يأخذ زيادة على نصف العشر بشيء وإن قل وهو قدر اليقين ويتوقف عن الثاني حتى يستبين، اعتباراً ببراءة الذمة وإسقاطاً لحكم الشك.
أما إذا علمنا أن أحدهما أكثر وجهلنا عينه؛ قال في "الحاوي": فإن قلنا بمراعاة الأغلب ففيه نصف العشر، وإن قلنا باعتبار القسط كنا على يقين من قدر الواجب غير أنا نعلم أنه ينقص عن العشر ويزيد على نصف العشر فنأخذ قدر اليقين ونتوقف عن الثاني حتى يستبين.
فرع: إذا اختلف الساعي ورب المال فقال الساعي: سقيته بالسيح فالواجب العشر، وقال رب الملا: سقيته بالنضح فالواجب نصف العشر- فالقول: قول رب المال مع يمينه وهي استحباب؛ لأن دعواه لا تخالف الظاهر، فإن امتنع من اليمين لم يجب عليه إلا ما قاله.
قال: ويجب فيما زاد [على النصاب] بحسابه؛ لقوله- عليه السلام: "فيما سقت السماء العشر .. " الخبر فاقتضى عمومه وجوب العشر فيما قل وكثر، فلما استثنى منه ما دون خمسة أوسق بقي ما زاد عليها على عموم الخبر.
ولأن ذلك يتجزأ من غير ضرر؛ فأشبه الأثمان.
قال الماوردي، والقاضي الحسين: هذا إجماع لا خلاف فيه.
ولو كانت الثمار أنواعاً نظرت:
فإن كانت قليلة وفي كل نوع متسع أخذ من كل نوع بقسطه على صفته في جودته ورداءته وقيل: يجب في النوع الغالب عنده كما قيل بمثله في الماشية، والأول هو المشهور، والفرق: أن التشقيص في الحيوان محذور بخلاف الثمار؛ ألا ترى أن في المواشي إذا قلنا بالتقسيط فإنا نعتبر فيها الأنواع ونأخذ ما يقتضيه
التوزيع ولا يؤخذ البعض من هذا والبعض من ذاك، وهاهنا بخلافه.
وإن كانت كثيرة وقل مقدار كل نوع منها فثلاثة أوجه عن صاحب "الإفصاح":
أصحها- وهو الذي جزم به البغوي وغيره-: [أن الواجب من الوسط لا من الجيد ولا من الرديء؛ رعاية للجانبين].
والثاني: أن الواجب من كل نوع بالقسط كما إذا قلت الأنواع.
والثالث: أنه يجب من الغالب، وعن ابن كج حكاية طريقة قاطعة به.
قال الرافعي: لو تحمل العشر وأخرج من كل نوع بالقسط- جاز ووجب على الساعي قبوله.
قال: ويجب إخراج الواجب من التمر يابساً؛ لقول عتاب بن أسيد: "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرص العنب كما يخرص النَّخل، وتؤخذ زكاته زبيباً كما تؤخذ صدقة النخل تمراً" أخرجه الترمذي.
فلو أخرج من الرطب قدراً يكون إذا جف قدر الواجب لم يجزئه؛ لأنه بدل، والبدل لا يجوز في الزكاة من غير ضرورة، وعلى هذا إن كان باقياً رده الساعي إليه وإن كان تالفاً رد قيمته على المذهب في"المهذب" وغيره، وقيل: يرد المثل، وهذا الخلاف مبني على أن الرطب والعنب مثليان أم لا؟ وسيأتي الكلام فيه في الغصب، ولو لم يرده الساعي عند بقائه حتى جف، فإن بلغ قدر الزكاة أجزأه، وإن نقص طلب الفضل، وإن زاد رد الفاضل؛ كذا قاله الماوردي وحكي عن العراقيين.
قال الرافعي: والأولى وجه ذكره ابن كج وهو: أنه لا يجزئ بحال لفساد القبض من أصله. وسأذكر في باب زكاة المعدن ما يقتضي تخريج وجه آخر في المسألة فليطلب منه.
قال: ومن الحب مصف؛ لأن الواجب عشره، أو نصف عشره، ولا يمكن إخراجه قبلها للجهل بالمقدار فتعين إخراجه بعدها؛ إذ بها يمكن التسليم الواجب، ولا تحسب أجرة التصفية على أهل السهمان من العشر أو نصفه؛ لأن ذلك ينقصه والشرع قد أوجب إيتاءه بقوله:{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] وقال ابن عباس: حقه العشر، ونصف العشر.
ولا يستثنى مما ذكره الشيخ- كما قال الماوردي- إلا العلس؛ فإن الشافعي قال: أخيِّرُ ربَّهُ بين أن يعطى من كل عشرة أوسق منه وسقا؛ لأنه بهذه القشرة أبقى، وبين أن يخرجه من هذه القشرة وآخذ من كل خمسة أوسق العشر؟
قلت: وينبغي أن يستثنى الأرز- أيضاً- حيث اعتبرنا في نصابه ما اعتبرناه في العلس.
قال: فإن احتيج إلى قطعه أي: إلى قطع الثمر؛ للخوف من العطش، أي: على الأشجار بأن قال أهل الخبرة: إنه متى تركت الثمرة على النخل أو الكرم أضرت به؛ لأنها تمص قلب النخلة وتشرب ماء جمارها أي: وكذا تمص ماء العنب، ولا يجيء من ذلك إلا قطع الجميع.
قال: أوكان رطباً لا يجيء منه تمر أي أصلاً أو يجيء لكنه قليل النفع؛ لرقة لحمه، أو عنباً لا يجيء منه زبيب، أي: أصلاً أو محتفلاً به- أخذ الزكاة من رطبه.
هذا الفصل ينظم مسألتين لاستوائهما في الأحكام- كما قال البندنيجي وغيره- حرفاً بحرف:
فالمسألة الأولى: ما احتاج إلى قطعه للخوف من العطش- كما فسرناه- يجب فيه الزكاة إذا بدا فيه صلاحه ويخرجه من رطبه.
ووجه الوجوب: ما تقدم.
ووجه جواز إخراج الزكاة من رطبه: أنها وجبت [مواساة] ولا يليق تكليف المواسي بما يهلك ماله.
ولأن ذلك وإن أضر بأهل السهمان في هذه السنة فهو أحظ لهم فيما بعد؛
لأن الأشجار إذا بقيت تكرر حقهم في كل سنة.
ولو احتاج إلى قطع البعض خاصة كما إذا قال أهل الخبرة: إنه يكفي قطع البعض في إزالة الضرر- كان الحكم في ذلك البعض كالحكم في الكل، ولا يجوز قطع الجميع في هذه الحالة من غير أن يخرص عليه ويضمن نصيب الفقراء فيما لا يحتاج إلى قطعه.
فإن قيل: قد قال الشافعي: وإن أصاب حائطه عطش فعلم أن ترك الثمرة أضر بالنخل كان له قطعها، ويؤخذ ثمن عشرها أو عشرها مقطوعة. وهذا يقتضي تخيير الساعي في المخرج والشيخ قد جزم بأخذ الزكاة من رطبه.
قلنا: أما التخيير فقد قال به بعض المراوزة إجراء للفظ على ظاهره، وقال: يتعين على الساعي فعل ما يراه أنفع للمساكين سواء قلنا: إن القسمة بيع أو إفراز نصيب، فإن رأى المصلحة في أخذ العشر- إذا كان هو الواجب- أخذه، وإن رأى المصلحة في بيع ذلك منه فعل.
والصحيح في "التهذيب" وغيره وبه جزم العراقيون: أنه لا يتخير في ذلك، وهؤلاء اختلفوا في كلام الشافعي:
فمنهم من قال: مراده بأخذ العشر إن كانت الثمرة باقية وثمن العشر إن كانت تالفة، والشافعي يعبر بالثمن عن القيمة، وهذا ما ذكره ابن الصباغ وهو أحد الاحتمالين اللذين ذكرهما الماوردي، والثاني منهما: هو ما حكيناه عن بعض المراوزة.
ومنهم من قال: هذا من الشافعي تعليق للقول على أن القسمة إفراز حق أو بيع كما سنذكره.
والمسألة الثانية: الرطب الذي لا يجيء منه تمر والعنب الذي لا يجيء منه زبيب- تجب فيه الزكاة وإن كان كالخضراوات في كونه لا يدخر؛ لعموم قوله- عليه السلام: "وفيما سقت السماء العشر .. " الخبر. والفرق بينه وبين الخضراوات: أنه من جنس ما يدخر فألحق بها، وقد تقدم الكلام في كيفية توسيقه.
ثم في كيفية أخذ الزكاة من الرطب في المسألتين اختلاف نص؛ فإنه قال في موضع: "يجوز أخذ ذلك كيلا ووزناً"، وقال في آخر:"لا يجوز".
وقال الأصحاب: واختلاف جوابه مفرع على أن القسمة بيع أو إفراز نصيب؟ وفيها قولان:
القديم- كما قال القاضي الحسين هنا-: إفراز، وهو المختار في "المرشد"، فإن قلنا به جاز أخذها بعد القطع كيلا ووزناً كما نص عليه، ويجوز أن يخرصها بالخرص على رؤوس الشجر فيجعل الواجب في نخلة أو نخلات أو كرمة أو أكثر [منها] وللساعي أن يفعل فيها ما يراه [من] مصلحة من بيعها وقسمة ثمنها، أو قسمتها.
وإن قلنا: إن القسمة بيع لم يجز أخذ الزكاة بالكيل والوزن إذا كانت الثمرة مقطوعة؛ لأن ذلك بيع رطب برطب وهو لا يجوز حذارا من الربا، وهو الذي فرع عليه الشافعي حيث قال: لا يجوز، [كما] تقدم ذكره.
وإذا لم يجز إخراجها بالكيل والوزن- تفريعاً على هذا- لم يجز إخراجها بالخرص على رؤوس الشجر من طريق الأولى، فعلى هذا: يسلم رب المال الثمرة كلها إلى الساعي ليحصل قبض الزكاة مشاعاً سواء كانت على وجه الأرض أو على رؤوس الشجر ليستقر ملك أهل السهمان عليها إذ لرب المال دفعها من أي موضع أراد، وإن قلنا: إن الزكاة تجب في العين وبعد التسليم لا يبقى له ذلك.
ثم الساعي يفعل ما يراه أحظ لأهل السهمان من بيعها وقسمة الثمن على الأصناف.
وقال القاضي الحسين: يجوز أن يكون في جواز أخذ الزكاة بالكيل والوزن من الذي لا يجيء منه تمر وزبيب وجهان على قولنا: إن القسمة بيع، بناء على وجهين مذكورين في جواز بيع الرطب الذي لا يتتمر بمثله. إن قلنا: يجوز أخذ الزكاة بالكيل وإلا فلا يجوز، وقد صرح بهما الإمام.
قلت: ولا يمكن جريانهما في الثمرة المقطوعة خوفاً من العطش؛ لأن ذلك لا يجوز بيع بعضه ببعض بلا خلاف؛ لأنه له حالة كمال، ومن هنا يظهر لك أن قول من قال: الحكم في المسألتين اللتين اشتمل عليهما الفصل واحد- كما تقدم- غير مجرى على إطلاقه.
وقد حكى عن أبي إسحاق وابن أبي هريرة أنهما قالا: لا يجوز دفعهما بالكيل والوزن في المسألتين، وإن قلنا: إن القسمة بيع؛ لأن المغلب على هذا الاستيفاء لا المعاوضة؛ ولهذا يجوز أن يعطي الساعي من الثمرة أكثر مما يجب عليه.
ووجهه صاحب "التقريب": بأن الربا يتعلق بالبياعات المحققة، وهذا وإغن كان بيعاً فهو تصرف من الإمام لأقوام غير معينين فلا تعتبر فيه مضايق الربا.
والذي صححه القاضي أبو الطيب وغيره: المنع، قال: وما قاله أبو إسحاق يبطل بما إذا أراد إخراجها على رؤوس النخل خرصاً، فإنه لا يجوز عنده حذارا مما ذكرناه، ولا يقال: إنه إنما منع [ذلك] لأنه لا يتحقق استيفاء الحق بالخرص، وما هنا قد يتحقق بالكيل والوزن؛ لأنه ممن أجاز ذلك على قولنا: إن القسمة إفراز نصيب، وأيضاً: فهو مانع من ذلك وإن تحقق أخذ الحق؛ كما إذا أسلم رب المال ما على رؤوس الشجر ما يعلم أنه أكثر من الحق.
ثم هذا كله تفريع على الجديد في أن الفقراء قد ملكوا قدراً من المال قدر الفرض، أما إذا قلنا بخلافه فلا مانع من أخذه كيلا ووزناً وعلى رؤوس النخل أشار إلى ذلك تعليل الأصحاب، وعليه نبه الإمام.
واعلم أن العراقيين قالوا: لا يجوز لرب المال في حال الخوف على الأشجار من العطش أن ينفرد بالقطع دون حضور الساعي؛ لأنه نائب عن شركائه، فإن قطع بغير حضرته عزر إن كان عالماً بالتحريم، وعن الصيدلاني وصاحب "التهذيب" وطائفة: أنه يستحب لرب المال استئذان الساعي إن أراد القطع، قال الرافعي: وقضيته جواز الاستقلال به. ويجوز أن يكون هذا الخلاف مبنياً على
الخلاف في وجه تعلق الزكاة، وعلى كل حال فلا يضمن ما نقص من قيمة التمر والزبيب، ويأخذ منه عشر المقطوع، ولا يخرص عليه، وهذا بخلاف ما إذا قطعها من غير عطش ولا تخريص فإن الواجب عليه التمر، والفرق: أنه في حالة عدم الخوف يجب عليه التبقية إلى إدراكها [بخلاف ما هنا].
ولو أتلفت هذه الثمرة، قال القاضي الحسين: فالواجب عليه هاهنا عشر القيمة، لا يختلف القول فيه هاهنا والله أعلم.
قال: وإن أراد صاحب المال أن يتصرف في الثمرة، أي: التي تبقى إلى أوان الجداد، قبل الجفاف وبعد بدو الصلاح- خرص عليه أي: جميعها، وضمن نصيب الفقراء ثم يتصرف؛ لما روى الشافعي بسنده عن عتاب بن أسيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في زكاة الكرم:"يخرص كما يخرص النخل، ثم تؤدي زكاته زبيباً كما تؤدى زكاة النخل تمراً".
قال الرافعي: وقد روى في آخره: "ثم يخلى بينه وبينه".
قال الأصحاب: والحكمة فيه طلب الرفق بأرباب الأموال بالتصرف في ثمارهم والرفق بالفقراء في حفظ حقوقهم وخالف الزروع الثمار في هذا المعنى، لأنه لا يمكن الوقوف عليها لاستتارها، ولأن الحبوب لا ينتفع بها أصحابها إلا إذا يبست وصفيت وذلك الوقت الذي تؤدى زكاتها فيه فلا كبير فائدة في خرصها، وأما الثمار فقد ينتفع بها ربها وهي بسر ورطب وعنب قبل أن تصير تمراً وزبيباً، فجاز تقدم خرصها لينتفع بها في الحالة الأولى إن شاء.
وقد حكى الغزالي عن القديم: أنه يترك لرب النخيل نخلة أو نخلات يأكل
ثمارها هو وأهله ويعزى ذلك إلى رواية صاحب التقريب، وأن ذلك يختلف باختلاف حال الرجل في قلة عياله وكثرتهم ويكون ذلك في مقابلة قيامه بتربية الثمار إلى الجداد وتعبه في التجفيف.
وفي "البحر" حكاية ذلك وجهاً عن بعض الأصحاب؛ لأنه حكى عن الشافعي أنه ذكر خبر سهل بن أبي حثمة الذي أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا فقال: "إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثُّلث، فإن لم تدعو الثُّلث فدعوا الرُّبع".
وقال في "الأم" في آخر بيع العرايا: تأويله أنه يدع لرب الحائط وأهله من الثمر [قدر ما يأكلون]، ولا يخرصه ليؤدي زكاته. وقال في بعض كتبه: تأويله: يدع ثلث الزكاة أو ربعها عند رب المال ليتولى تفريقها بنفسه على فقراء أقربائه وجيرانه.
قال: وهل يفعل ذلك في وقتنا؟ فيه وجهان.
قلت: فثبت من ذلك أن كونه يدع له ولأهله [قدر ما يأكلون]، وجه للأصحاب،
وهو يقتضي ترك الجميع له إذا احتاج هو وأهله إلى أكله وقد رأيته هكذا في "حواشي السنن" للشيخ زكي الدين رحمه الله.
وقد نسب القاضي أبو الطيب وابن الصباغ التأويل الثاني في الخبر إلى بعض الأصحاب، وقالا: إن بعض الأصحاب قال: تأويله: ألا يرضى ربُّ المال بالخرص وألا يسلم الثمرة للساعي بالخرص على أن يضمن له حقه منها تمراً أو زبيبا و [إن] أراد التصرف فإن الساعي يترك له ثلث الثمرة أو ربعها يتصرف فيه على اختياره، فإذا صار ما عدا ذلك تمراً أو زبيباً خرصه وأضاف إليه ثلثه أو ربعه الذي تركه لرب الثمرة حتى تصرف فيه ثم يقبض زكاة الجميع.
قال ابن الصباغ: والأول منهما أولى.
وقال الماوردي: إن الثاني منهما قاله في القديم.
وإذا جمعت بين ذلك كانت التأويلات الثلاثة محكية عن الشافعي، ويجيء وجه في اعتماد مثلها في زماننا، أما إذا لم يرد صاحب المال التصرف في الثمرة فمفهوم كلام الشيخ أنها لا تخرص عليه.
وقد قال الأصحاب: إن الثمار إذا بدا صلاحها أو بدا في بعضها بعث الإمام الساعي ليخرص الثمار على أربابها، فإن اختاروا التصرف ضمنها لهم وأطلق تصرفهم فيها وإن لم يريدوا ذلك وأراد أن يأخذها بخرصها ويرد على ربها الفاضل على قدر الزكاة تمراً أو زبيباً عند جفافها ورضي بذلك ربها- فعل وإن لم يرض بواحد منهما تركها في يده أمانة على وقت وجوب إخراجها، ولا يملك التصرف فيها؛ قاله أبو الطيب وغيره، فإن تصرف فيها فسيأتي حكمه فإن أتلفها ضمنها بمكيلتها تمراً جافاً.
وحكى الماوردي وجهاً آخر: أنه يطالب بأكثر الأمرين من قيمتها [رطباً] أو مكيلتها تمراً جافاً؛ لأن لهم أوفر الحظين من الرطب أو التمر كمن أتلف أضحية معينة نذرها.
والتخريص عند عدم إرادة التصرف مستحب لا واجب.
وعن الصيمري: أنه حكى وجهاً أنه واجب.
والخرص: حزر ما على النخل والكرم من الرطب والعنب تمراً وزبيباً وهو مصدر: خرص يخرص، بضم الراء وكسرها.
والضمان، [قال البندنيجي]: اختلف أصحابنا في معناه:
فقال أبو العباس- يعني ابن سريج؛ كما صرح به في "البحر"-:
إن قلنا: إن الزكاة تجب في الذمة كان معناه: فك الثمرة من الرهن ليستفيد رب المال بالتصرف وإن قلنا: إنها تجب في العين فيملك الفقراء قدر القرض منها كان معنى الضمان أن يقال: أقرضناك هذا الرطب بما يجيء منه تمراً، وجاز هذا القرض لموضع الحاجة.
وقال الشيخ- يعني أبا حامد كما قال في "البحر"-: أجود من هذا عندي أن يقال له: خذ هذا بكذا وكذا تمراً فإن لرب المال أن يعطي العشر من عينها أو مثله من غيرها تمراً، فإذا قال: خذه بما يجيء تمراً فقد أعطاه معنى الزكاة وموجبها.
قلت: وهذا يقتضي أنه لابد بعد الخرص من لفظ يصدر من الساعي يحصل به الضمان، وقول ابن سريج يقتضي أنه لابد من رضا رب المال بذلك؛ لأن القرض لابد فيه من رضا المقترض، وقد صرح بذلك البغوي حيث قال: والخرص [تضمين في أصح] القولين فبعد الخرص يقول الخارص لرب المال: ضمنتك نصيب الفقراء من الرطب ليعطي مكيلته خرصاً ويقبله رب المال. وهو قضية ما حكيناه من قبل عن أبي الطيب وغيره.
وقال الشيخ أبو حامد وغيره من أهل الفريقين: ولا يستقر الضمان عليه إلا بعد التصرف أو الإتلاف حتى لو تلفت أو نقصت في يده من غير تفريط لا يضمن ذلك، ويدل عليه قوله في "المختصر" بعد الكلام في الخرص: ثم يخلي بين أهله وبينه فإذا صار تمراً أو زبيباً أخذ العشر على خرصه، فإن ذكر أهله أنه أصابته جائحة أذهبته أو شيئاً منه صدقوا فإن اتهموا حلفوا.
وقال الإمام: لو قيل: تسليطه على التصرف في حق المساكين يلزمه الضمان وإن تلف وكأنه قبض حقهم والتزم في ذمته التمر [التزام] قرار- فهو احتمال معنوي، ولكن الذي قطع به الأصحاب: سقوط الضمان بالجائحة، وحينئذ يكون المستفاد بالخرص تسليط الساعي على التضمين، وبالتضمين تسليط رب المال على التصرف فيجميع الثمرة بالأكل وغيره إذ لا يجوز قبله بلا خلاف عند العراقيين ولو فعله مع العلم بالتحريم [غرمه] الساعي كما صرح به ابن الصباغ وغيره، ويستفيد بالتصرف استقرار الضمان، كذا أشار إليه أبو حامد، والماوردي وقال: إن المال لو كان لمحجور عليه لصباً أو جنون أو سفه فالعبرة بضمان وليه دونه.
وحكى المراوزة، في أن نفس الخرص هل يكون عبرة مجردة أو تضميناً، قولين:
أحدهما: أنه عبرة، أي: يفيد الاطلاع على المقدار ظناً وحسباناً، ولا يعتبر حكماً، بل الحكم بعده كالحكم قبله؛ لأنه ظن وتخمين.
ولا فرق على هذا بين أن يصرح الخارص بعده بالتضمين صريحاً والضمان من صاحب الثمار قولاً، أولاً.
وعن بعض الأصحاب: أنه إذا جرى ذكر الضمان صريحاً بأن قال الخارص: ألزمتك حصة المساكين تمراً جافاً كان الخرص يتضمن التضمين ويكون الحكم كما سنذكره تفريعاً على قول التضمين، وإن فقد التصريح بالتضمين فهو عبرة لا غير.
والقول الثاني: أن الخرص تضمين؛ لأنه معيار شرعي فأشبه ما لو كال عليه بالمكيال [وكلام هذا القائل مصرح بعدم اعتبار قبول رب المال في التضمين.
ومن العجب أن الإمام حكى القول كما ذكرناه ثم قال: والذي أراه أنه يكفي تضمين الخارص ولا يشترط قبول المخروص عليه فجعل ذلك احتمالاً له على هذا الوجه]؛ لأنه معيار شرعي فأشبه ما لو كال عليه بالمكيال، والدليل على أنه معيار شرعي جواز بيع التمر بالرطب على رؤوس النخل خرصاً فيما دون
خمسة أوسق. وهذا ما صححه في "التهذيب".
وفرعوا على القولين فقالوا: إن قلنا بالأول وجب عليه إذا أتلفها بعد الخرص قيمة العشر من الرطب، كما لو أتلفها أجنبي تفريعاً على الصحيح في أن الرطب لا مثل له.
وعن صاحب "التقريب" حكاية وجه آخر: أنه يضمن أكثر الأمرين من مكيلته تمراً جافاً أو قيمة العشر، كما أتلفه، وهو ما [حكيناه من رواية] الماوردي من قبل.
قال الإمام: وهو غريب لا أصل له، ولو أتلفها قبل الخرص لم يضمن إلا قيمة العشر من الرطب وحرام عليه قبل الخرص وبعده التصرف في الثمرة والأكل منها إلا في قدر ما يفضل وهو تسعة أعشارها كذا قال البغوي والإمام عن الأصحاب وأبدى فيه شيئاً سنذكره.
وقال القاضي الحسين- بعد حكاية ذلك-: وعندي: أنه لا يجوز له التصرف في تسعة أعشارها؛ لأن الملك المشترك لا يجوز لأحد الشريكين التصرف فيه دون إذن صاحبه، وإن قلنا بالثاني ثبت حق المساكين في ذمته بعد الخرص، وله أن يتصرف في جميع الثمرة بما يشاء ثم يغرم عشرها تمراً للمساكين وكذا إذا أتلفها. نعم، لو أتلفها قبل الخرص [هل] يضمن العشر تمراً أو يضمن عشر قيمة الرطب؟ فيه طريقان:
إحداهما- حكاها في "التتمة"-: القطع الثاني.
والثانية: فيها وجهان حكاهما القاضي الحسين وغيره عن القفال:
أحدهما: يضمن التمر؛ لأنه منع الخرص فصار كما لو خرص عليه ثم أتلفه.
والثاني: يضمن عشر قيمة الرطب؛ لأنه إنما ثبت التمر في ذمته بالخرص ولم يخرص عليه بعد.
وعلى الوجهين لا يجوز التصرف قبل الخرص في الجميع، فإن تصرف فهل ينفذ؟ فيه كلام يأتي، وقد عبر في "الوسيط" عن الوجهين بأن وقت الخرص هل يقوم مقام الخرص في التضمين أم لا؟ وفيه وجهان.
ووقت الخرص- كما قال البغوي وغيره، وعليه نص في "المختصر": بدو الصلاح ولو في ثمرة؛ قالت عائشة- وهي تذكر شأن خيبر-: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله بن رواحة إلى يهود خيبر فيخرص النخل حين يطيب قبل أن يؤكل منه شيءٌ".
قال البغوي: ولا يجوز قبل ذلك، قال: وهل يجوز خرص الكل إذا كان الصلاة قد بدا في نوع دون آخر؟ فيه وجهان.
وعن ابن كج حكاية وجه آخر عن أبي إسحاق وابن أبي هريرة: أنه يضمن في هذه الحالة أكثر الأمرين من عشر التمر أو عشر الرطب.
وقد حكاه الماوردي- أيضاً- وقال: الصحيح أنه يلزمه التمر.
قال الرافعي: ولك أن تقول: ينبغي أن يكون الواجب ضمان التمر مطلقاً وإن فرعنا على قول العبرة؛ لأن الواجب عليه ببدو الصلاة التمر وإذا وجب لهم التمر، فكيف يصرف إليهم الرطب أو قيمته؟ غايته: أن الواجب متعلق به لكن إتلاف متعلق الحق لا يقتضي انقطاع الحق وانتقاله إلى غرامة المتعلق الأخرى؛ ألا ترى أنه لو ملك خمساً من الإبل؟ فأتلفها بعد الحول يلزمه للمساكين الشاة دون قيمة الإبل، نعم لو قيل: يضمن الرطب ليكون مرهوناً بالتمر الواجب إلى أن
يخرجه كان ذلك مناسباً؛ لقولنا: إن الزكاة تتعلق بالعين تعلق رهن.
قلت: وما قاله من الجزم بإيجاب التمر على كل حال هو ما أورده في "المختصر" حيث قال: "وإن أكل رطبا ضمن عشره تمراً"، ولم يورد القاضي أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ غيره؛ لأن رب المال وجب عليه تجفيف هذا الرطب وتمريته، فلهذا ألزمناه عشره تمراً، بخلاف الأجنبي فإنه [لم] يلتزم ذلك وضمان المتلف قد يختلف باختلاف المتلفين؛ ألا ترى أن من وجبت عليه شاة من أربعين، وأتلف الأربعين يلزمه شاة ولو أتلفها أجنبي وجب للفقراء القيمة، ولو أتلف المحرم صيداً مملوكاً ضمنه بالجزاء والقيمة، وغيره يضمنه بالقيمة فقط، ولو عين أضحية وأتلفها ضمنها بأكثر الأمرين، ولو أتلفها غيره ضمن القيمة فقط، ولو وطئ امرأة بشبهة فعلية مهر المثل، فإن كان من العشيرة خفف عنه، وإن كان من غير العشيرة غلظ عليه؟ قاله البندنيجي وغيرهظ
وأما ما ذكره الرافعي من التوجيه لما ذكره فهو ظاهر على قولنا: إن الزكاة تجب في الذمة دون ما إذا قلنا لا تتعلق بالذمة وتجب في العين؛ فإن فيه نظراً.
ثم هذا كله في الرطب الذي يتتمر كما صدرت الكلام به، أما ما لا يتتمر، أو وجب قطعه خوفاً من العطش فقد تقدم أن الواجب على رب المال إذا أتلفه بدل الرطب بلا خلاف، وتقدم الفرق بينهما.
فروع:
إذا سلمنا الثمرة إلى المالك أمانة أو مضمونة كما قال الماوردي وغيره وادعى هلاكها أو هلاك بعضها فقد حكينا النص فيه.
وقال الأصحاب: إنه ينظر، فإن أسنده إلى سبب كذبه الحس فيه، كما لو قال: هلكت بحريق وقع في الجرين ونحن نعلم أنه لم يقع في البحرين حريق أصلاً فلا يبالي بكلامه وأخذت منه الزكاة كما تقدم، وإن لم يكن كذلك نظر: إن أسنده إلى سبب ظاهر كالنهب والبرد والجراد ونزول العسكر نظر: فإن عرف وقوع هذا السبب وعموم أثره صدق ولا حاجة إلى اليمين، فإن اتهم في هلاك ثماره بذلك
السبب حلف وإن لم يعرف وقوعه فوجهان:
أظهرهما- الذي ذكره المعظم-: أنه يطالب بالبينة عليه.
والثاني: عن الشيخ أبي محمد: أن القول قوله [مع] اليمين؛ كالمودع إذا ادعى الرد.
قال الرافعي: [و] رأيت في كلام الشيخ أبي محمد أن هذا إذا لم يكن ثقة، فإن كان ثقة فيعفى عن اليمين أيضاً.
وفي "الحاوي": أن القول قوله، فإن اتهم أحلفه، وفي اليمين وجهان:
أحدهما: أنها مستحبة، فإن امتنع منها لم تجب.
والثاني: أنها واجبة، فإن امتنع منها أخذت منه بالسبب الأول لا لامتناعه عن اليمين.
وإن اقتصر عند دعوى الهلاك على مجرد دعواه ولم يذكر السبب، فالمفهوم من كلام الأصحاب قبول قوله مع اليمين وإذا زعم أن الخارص أجحف عليه لم يلتفت إلى قوله إلا ببينة، كما لو ادعى الميل على الحاكم والكذب على الشاهد لا يقبل إلا ببينة، وإن ادعى أنه غلط عليه؛ فإن لم يبين المقدار لم يسمع،
قاله الماوردي والبغوي. وإن بين: فإن كان قدراً يحتمل مثله الغلط كخمسة أوسق في مائة فهل يقبل؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا؛ لاحتمال أن النقصان وقع في الكيل، ولعله يفي إذا كيل ثانياً وصار كما لو اشترى حنطة مكايلة وباعها مكايلة فانتقص بقدر ما يقع بين الكيلين لا يرجع على الأول.
وأصحهما: نعم؛ لأن الكيل يقين، والخرص تخمين، فالإحالة عليه أولى، وهذا ما أورده الماوردي.
وإن كان ما ادعاه فاحشاً لا يجوز لأهل النظر الغلط بمثله فلا يقبل قوله في حط ذلك القدر، وهل يحط القدر المحتمل؟ فيه وجهان:
أصحهما- وبه قال القفال-: نعم استنباطاً مما إذا ادعت ذات الأقراء انقضاء عدتها قبل زمان الإمكان وكذبناها فأصرت على دعواها حتى جاء زمان الإمكان فإنا نحكم بانقضاء عدتها أول زمان الإمكان.
وهذا ما حكاه الرافعي، وهو في "تعليق" القاضي الحسين وأبدى في مسألة
العدة احتمال وجه آخر: أنا لا نحكم بانقضاء عدتها، وذكر تشبيهاً آخر لمسالة الزكاة، وهو ما إذا ادعى الوكيل البيع بما لا يتغابن الناس بمثله لا يقبل، وهل يحط عنه قدر ما يتغابن بمثله؟ وجهان.
وقال الماوردي فيما إذا ادعى نقصاناً متفاحشاً: إنه ينظر: فإن قال: غلط علي بهذا لا يقبل؛ لأنه نسبه إلى الخيانة والكذب ورام نقض حكم بات بدعوى مجردة، وإن قال: لم آخذ إلا هذا فقوله مقبول؛ لأنه ليس فيه تكذيب الخارص، لأنه يحتمل أن يكون قد تلف بعد الخرص فيكون الخارص مصيباً والنقصان موجوداً. وهذا موافق لما في "تعليق" أبي الطيب حيث قال: إن ادعى أن الثمرة نقصت عما خرصت نقصاناً بيناً، وقال: لا أعلم أخطأ الخارص أم سرقت الثمرة – فإنه يصدق إذا حلف، وإن نكل كان كما إذا ادعى أن الخارص أخطأ وكان النقصان متقارباً، وفيه وجهان:
أحدهما: تؤخذ منه الزكاة بناء على أن اليمين واجبة.
والثاني: لا تؤخذ بناء على أنها مستحبة.
قال- رحمه الله فإن كان، أي: النخل أجناساً خرص نخلة نخلة.
أراد الشيخ بالأجناس: الأنواع كالمَعْقِلِّي والبَرْنِيِّ، والسكر، والهِلْياث، فيكون إذا جف قليلاًن وبعضها يكون قليل الماء كثير اللحم كالمعقلي والبرني، فيكون كثير التمر عند الجفاف، وإذا كان كذلك لم يكن خرصها دفعة واحدة محصلاً للمقصود وهو معرفة المقدار.
ثم كيفية ذلك- كما قال الشافعي في"المختصر"-: أن يأتي الخارص النخل فيطيف بها حتى يرى كل ما فيها، أي من الأعذاق، وما عليها من الرطب، ثم يقول: خرصها رطباً كذا، وتنقص إذا صارت تمراً كذا، يقيسها على كيلها
تمراً، ويصنع ذلك بجميع الحائط، قال: وهكذا العنب.
قال الماوردي: واختلف أصحابنا في قوله: "فيطيف بها" هل هو على وجه الاشتراط أو الاحتياط؟ على ثلاثة مذاهب، أصحها: ثالثها، وهو إن كانت الثمرة بارزة عن السعف ظاهرة من الجريد- على ما جرت عادة العراق في تدليه- لم يكن شرطاً، وإن كانت الثمرة مستترة بالسعف مغطاة بالجريد – على ما جرت به عادة أهل الحجاز- كانت الإحاطة بالنخلة شرطاً في صحة الخرص؛ لأن ثمرها خفي.
قال: وإن كان جنساً واحداً أي: نوعاً واحداً، جاز أن يخرص الجميع دفعة لأن النوع الواحد لا يختلف غالباً عند الجفاف، وإن اختلف يسيراً فلم يمنع ذلك من تخريص جميعه كأعذاق النخلة الواحدة، فإذا أراد ذلك يعرف ما في كل نخلة من الرطب على النحو المتقدم ويجمع الجميع ثم يعرف ما يجيء منه تمراً.
قال: وأن يخرص واحدة واحدة؛ لأنه أبلغ في تحصيل المقصود فعلى هذا يفعل ما تقدم.
وقد أطلق أبو إسحاق المروزي قوله بأنه يجوز أن يخرص جميع ما في الحائط من الرطب، ثم يسقط منه قدر ما ينقص إذا يبس؛ لأنه أسهل.
قال البندنيجي: وهذا الإطلاق فاسد، بل الصواب: التفصيل كما تقدم.
وقد سكت الشيخ عن الكلام في عدد ذلك الخارص هاهنا، وتكلم فيه في باب القسمة.
وقال الأصحاب هاهنا: فيه طريقان:
أحدهما: قال ابن سريج وأبو إسحاق: يكفي فيه واحد [قولاً] واحداً كالحاكم.
وقال المزني وأبو سعيد الإصطخري في آخرين من أصحابنا: فيه قولان:
أحدهما: هذا، [وهو الذي] صححه الرافعي والمصنف في "المهذب".
والثاني: لابد من اثنين؛ كالمقومين.
كما حكى الطريقين ومن قال بهما: البندنيجي [والقاضي] أبو الطيب
وحكاهما الماوردي- أيضاً- لكنه قال: إن أبا سعيد الإصطخري وافق ابن سريج في الاكتفاء بواحد، وإن أبا إسحاق المروزي وأبا علي بن أبي هريرة وافقا المزني في إجراء القولين في المسألة وأن بها قال جمهور أصحابنا ولا فرق في ذلك بين أن يكون رب المال صغيراً أو كبيراً، وغلط بعض أصحابنا فقال: إن كان صغيراً فلابد من اثنين، وإن كان كبيراً كفى الواحد؛ لأنه رأى الشافعي في "الأم" فرق بينهما.
وحكى ابن كج وغيره هذا قولاً للشافعي، وأنه ألحق المجنون والغائب بالصبي.
قال الماوردي: وهو غلط؛ لأن الخرص إما أن يكون كالحكم أو كالتقويم، وذلك لا يختلف بالنسبة إلى [الكبير والصغير] والشافعي إنما فرق في "الأم" في جواز تضمين الكبير ثماره بالخرص دون الصغير فوهم عليه.
قال البندنيجي: والطريقان- كما ذكرنا- جاريان في القائف، وكذا في القاسم إذا لم يكن ثم رد، فإن كان فلابد من اثنين قولاً واحداً.
قال الأصحاب: ويعتبر في الخارص أن يكون بالغاً عاقلاً عدلاً عالماً بالخرص، وهل يشترط أن يكون ذكراً حراً؟ فيه تفصيل واختلاف حكاه الماوردي، واقتصر بعضهم على إيراد بعضه وجملته.
أما إن قلنا: يكفي واحد فلابد من الذكورة والحرية فيه كالحاكم، وإن قلنا: لابد من اثنين، فلا يكفي امراتان ولا عبدان.
وهل يجوز أن يكون أحدهما امرأة أو عبداً؛ ليكون الرجل الحر مختصاً بالولاية، والمرأة أو العبد مشاركاً له في التقدير والحزر؟ فيه وجهان:
أصحهما في "المحرر" و"الروضة": المنع.
ووجه الجواز: إقامة الخرص مقام الكيل والوزن.
فرع: لو اختلف الخارصان توقفا حتى يتبين المقدار منهما أو من غيرهما حكاه في "الروضة" عن الدارمي وقال إنه ظاهر.
قال: وإن باع أي: جميع الثمرة، قبل أن يضمن نصيب الفقراء، بطل البيع في
أحد القولين ولم يبطل في الآخر.
واعلم أن الأصحاب من العراقيين- كأبي الطيب والبندنيجي وابن الصباغ، وغيرهم- قالوا في هذه المسألة والصورة كما ذكرنا إن البيع هل يبطل في نصيب الفقراء أو يصح؟ قولان سواء قلنا إن الزكاة تجب في الذمة [و] العين مرتهنة بها أو تجب في العين بمعنى أن الفقراء ملكوا من المال قدر الفرض، ووجهوا البطلان بأنا إن قلنا: إن الزكاة وجبت في الذمة فقدر الفرض من المال مرتهن بها وبيع المرهون لا يجوز، وإن قلنا: إنها وجبت في العين بالمعنى الذي ذكرناه الذي لا يعرفون غيره، فبيع مال الغير لا يجوز. ووجهوا الصحة: بأنا إن قلنا: إنها تجب في الذمة وقدر الفرض من المال مرتهن بها فذاك تعلق طرأ بغير رضاه فلم يمنع من بيعه؛ كتعلق الجناية برقبة عبده، وإن قلنا: إنها تجب في العين كما ذكرنا فملك الفقراء كلا ملك، فإن ثمرة الملك ثابتة لرب المال وملكهم غير مستقر بدليل أن لرب المال إسقاطه بإخراج الزكاة من غيره [بغير رضاهم فكذلك بالبيع؛ لأن به يصير ملتزماً للإخراج من غيره].
قال ابن الصباغ: والأول أقيس؛ لما ذكرنا، قال: وقول من صار إلى الأول أن بيع العبد الجاني صحيح، ممنوع، وقول من صار إلى الثاني أن ملكهم غير مستقر، مسلم، لكن ليس لرب المال إسقاطه من العين قبل الدفع وإنما يسقط بدفع الزكاة، وإذا قلنا بهذا فهل يبطل البيع فيما عدا نصيب الفقراء أو [يصح؟ فيه قولاً تفريق الصفقة. وإن قلنا بمقابله صح فيما عدا نصيب الفقراء] من طريق الأولى.
قلت: وحاصل ذلك يرجع إلى ثلاثة أقوال في المسألة:
أحدها: بطلان البيع في الجميع.
والثاني: صحته في الجميع.
والثالث: وهو الذي صححه النووي-: بطلان البيع في نصيب الفقراء، وصحته فيما عداه.
وأنت إن أجريت كلام الشيخ على ما يقتضيه ظاهره في أن القولين في صحة البيع في الجميع أو بطلانه في الجميع كان صحيحاً. وإن أردت حمله على ما
رتبه الأصحاب، وهو الذي حكاه في "المهذب"، وأضمرت بعد قوله:"بطل البيع": أي في نصيب الفقراء في أحد القولين، ولم يبطل في الآخر- كان صحيحاً.
وقد سلك الماوردي طريقاً آخر في حكاية القولين في صحة البيع في نصيب الفقراء، ومنعه فقال: إنهما مبنيان على أن الزكاة وجبت في الذمة ولا تعلق لها بالعين أصلاً، أو وجبت في العين وجوب استحقاق آخر؟ فإن قلنا بالأول، صح البيع، وإن قلنا بالثاني فلا.
وساق بقية التفاريع التي ذكرناها وما سنذكره إن شاء الله تعالى.
ووافقه المراوزة في بنائهما على ما ذكر، وقالوا: إن قلنا: إن الزكاة تتعلق بالعين؛ كتعلق الرهن فلا يصح البيع أيضاً فيما تعلقت به، وهل هو [كل المال] أو قدر الزكاة؟ فيه الخلاف السابق [فإن قلنا: في قدر الفرض فقط جاء في بطلان البيع فيما عداه قولاً تفريق الصفقة].
وقد حكى الرافعي عن بعضهم: أنه حكى في صحة البيع على هذا القول- أي: فيما جعلناه مرهوناً- قولين كما حكاه العراقيون وقالوا تفريعاً على قول حكوه: إن تعلق الزكاة بالعين كتعلق أرش الجناية.
أما إن قلنا: إن بيع العبد الجاني جائز فهو كالتفريع على قول الذمة، وإن قلنا: لا يجوز فهو كتفريع قول الرهن، أي: فلا يصح فيما تعلق به، وهل هو [كل المال] أو قدر الفرض؟ فيه الخلاف السابق، فإن قلنا: هو قدر الفرض كان في البطلان فيما عدا قولا تفريق الصفقة.
وقال صاحب "التقريب": إن قلنا بقول الوقف الذي حكاه أبو إسحاق وهو أنه تبين إن لم يخرج الزكاة من غيره تعلقها بعينه، وإن خرجت من غيره تبينا أنها لم تجب في عينه، فإن لم يؤد الزكاة من مال آخر بل أخذها الساعي من المشتري تبينا أن البيع غير منعقد في المأخوذ، وفي الباقي قولاً تفريق الصفقة، وإن أدى الزكاة بعد البيع من مال آخر فإن منعنا وقف العقود بطل البيع أيضاً في
قدر الزكاة، وفي الباقي قولا تفريق الصفقة وإن جوزنا وقف العقود صح في الجميع، وعند الاختصار لا تزيد الأقوال على ثلاثة كما ذكرنا من قبل فإذن الطريقان متفقان [في] الخلاف ومختلفان في المأخذ.
التفريع:
إن قلنا بالبطلان في الجميع فلا يخفى الحكم وإن قلنا به في نصيب الفقراء فقط ثبت للمشتري [الخيار، وهل] يثبت للبائع، وهل يجيز المشتري العقد بكل الثمن، أو بالقسط في مسألتين؟ فيه كلام يأتي في البيع.
قال البندنيجي: وإذا أجاز المشتري العقد فرب المال يقاسمه على ذلك، ويصرف نصيب الفقراء إليهم، وإن قلنا بالصحة في الجميع، فإن أخرج البائع الزكاة من ماله لزمه البيع للجميع واستقر ملك المشتري عليه، وإن تعذر ذلك عليه بألا يكون له مال غيره كما قال ابن الصباغ أو لم يؤد رب المال الزكاة من موضع آخر كما قاله غيره- وبين العبارتين فرق- أخذ الساعي قدر الزكاة من المبيع وبطل العقد فيه إذ ذاك وهو ما استدل به الإمام على إبطال القول بأن الزكاة تثبت في الذمة ولا تعلق لها بالعين أصلاً كما تقدم، وهل يبطل البيع في الثاني؟ فيه الطريقان الآتيان في تفريق الصفقة في الدوام وفروعهما.
وقد حكى المراوزة: في أن المشتري إذا عرف الحال بعد العقد هل يثبت له الخيار في فسخ العقد قبل أخذ الساعي؟ فيه وجهان.
وجه المنع: أن المالك ربما يؤدي الزكاة من موضع آخر.
ووجه الثبوت- وهو الذي حكاه الإمام عن الأكثرين-: أن ملكه مزلزل في الحال.
وعلى هذا: إذا أدى المالك الزكاة من موضع آخر سقط الخيار على الأصح، وبه جزم في "التهذيب"؛ كما لو باع بعد الأداء.
ومقابله منسوب في "النهاية" لرواية بعض المصنفين، وهو في "الإبانة"، ووجهه: أن الخيار مستيقن وربما يخرج المؤدي مستحقاً فيكر الساعي عليه.
وهذا بخلاف ما إذا أدى ثم باع، فأصل الخيار لم يثبت، بل الأصل لزوم البيع وانتفاء الخيار، ولو أثبتنا بتوقع الاستحقاق-: هو الخيار- لأثبتناه بالشك.
وجميع ما ذكره جار فيما إذا باع جميع الماشية بعد الوجوب وقبل إخراج الزكاة وكذلك الناض والحبوب والمعدن والركاز صرح به الجمهور.
وحكى الإمام عن الصيدلاني أنه قال: ما ذكرناه من إبطال البيع في نصيب الفقراء وتخريجه فيما عداه على تفريق الصفقة مخصوص بما إذا كان الواجب جزءاً من المال كالمعشرات أو ربع العشر، فأما إذا كان الواجب حيواناً فهو غير منسوب إلى المال بطريق الجزئية وليس متعيناً حتى يكون بمثابة ما لو باع عبداً مملوكاً وعبداً مغصوباً فالوجه عند الأصحاب القطع ببطلان البيع في الجميع على هذا القول.
قلت: وما قاله من أن الواجب من الحيوان ليس بطريق الجزئية- وجه للأصحاب حكاه من قبل مع وجه آخر: أن الواجب في كل شاة من أربعين شاة مثلاً ربع عشرها وللمالك تعيين الأجزاء عند الإخراج في واحدة، وقد حكى الوجهين المتولي- أيضاً-[ثم على] تقدير التسليم كان الوجه أن يقال: إن كان النصاب مختلفاً كما إذا كان صغاراً وكباراً؛ فالحكم كما قال، وإن كان غير مختلف للتساوي في الأسنان وتقارب الصفات؛ كما إذا كان جميعه كباراً أو صغاراً- فيكون في صحة البيع فيما عدا قدر الزكاة وجهان أخذاً من القولين في جعل إبل الدية صداقاً كما سنذكر عن الماوردي ما يقرب من ذلك.
وقال الإمام: الأشهر جعل المسألة التي خالف فيها الصيدلاني على قولين لكن بالترتيب والبطلان في الجميع، وفي هذه الصورة أولى منه بما إذا كان الواجب جزءاً؛ لانضمام شيوع الشاة مع الجهالة بالثمن عند تقدير التوزيع، أما إذا باع ما يفضل عن نصيب الفقراء فقط نظر: فإن باعه مشاعاً بأن قال: بعتك تسعة أعشار هذه الثمرة فلا خلاف في الصحة إلا إذا قلت: إن جميع المال مرهون بقدر الفرض، أو قلنا: إن تعلق الزكاة بالمال كتعلق الجناية [و] إن ذلك يعم جميعه وإن بيع العبد الجاني لا يصح، فإن قياس ذلك المنع في الجميع على طريقة المراوزة، والمشهور: الصحة، وهكذا الحكم فيما وجبت الزكاة في عينه من غير الثمار.
ومن صور ذلك: ما إذا قال بعتك هذا المال إلا قدر الزكاة وكان المبيع مما تماثل أجزاؤه: كالحيوان، والدراهم والدنانير، بخلاف ما لو كان البيع مما تفاضل أعيانه ولا تتفاضل أجزاؤه كالماشية؛ فإنه لو قال: بعتك هذه الماشية إلا شاة ولم يشر إليها، فإنه ينظر: فإن كانت الغنم مختلفة الأسنان فكانت صغاراً أو كباراً فالبيع باطل؛ فإن تساوت في الأسنان وتقاربت في الصفات فكان جميعها صغاراً أو كباراً ففي البيع وجهان، أظهرهما في "الحاوي": البطلان أيضاً قال: وهما مخرجان من اختلاف قول الشافعي في جعل إبل الدية صداقاً، وإن وقع البيع على معين مثل: إن أفرز [قدر] نصيب الفقراء وباع الباقي فهل يصح؟ حكى أبو الطيب وغيره من العراقيين فيه طريقين فيما إذا كان المال ماشية أو ناضاً، وأجراهما [البندنيجي] والماوردي فيما نحن فيه، [و] في الحبوب:
أحدهما: أن الحكم كما لو باع الجميع؛ لأن قدر الزكاة ليس بمعين وبالعزل لا يتعين وإنما يتعين بدفعه لأهله، وهو كما لو لم يعزلها منه.
والثاني: أنه يصح البيع قولاً واحداً؛ لأن قدر الزكاة إذا عزل كان البيع
واقفاً على حقه فصح.
قال ابن الصباغ: والأول أقيس؛ لأنه يلزم هذا القائل أن يقول إذا عزل قدر الزكاة من مال آخر: إنه يصح بيع الكل؛ لأن الزكاة لا تتعين عليه فيه.
وقد جعل الرافعي الوجهين فيما إذا كان المال ماشية مفرعين على قولنا: إن الزكاة تتعلق بالعين تعلق شركة، وإنهما مبنيان على كيفية ثبوت الشركة، [و] فيه وجهان تقدما. وهذا البناء يخدشه جريانهما في الناضِّ مع أن الشركة فيه بالحرية.
وقد ادعى الغزالي تبعاً لإمامه أنه لا خلاف في نفوذ التصرف فيما زاد على قدر الزكاة قبل الجفاف؛ فإن المنع من التصرف في الثمار بالكلية خروج عن الإجماع، وهو خلاف ما درج عليه السلف، وفيه منع الناس من الرطب والعنب فإن تأدية الزكاة لا تقع إلا من التمر والزبيب، وفيه طرف من المعنى: وهو أن مالك الثمار يلتزم بمؤنة تربية الثمار إلى جفافها و [هو] في ذلك [يربي من] حق المساكين فقوبلت هذه المؤنة بإطلاق تصرفه في التسعة الأعشار، وأما بعد الجفاف فهو بمنزلة المواشي.
قلت: والجزم بنفوذ التصرف قبل الجفاف يخالفه ما حكيناه عن القاضي الحسين من امتناع التصرف وجعل علة الجواز أفضى بالمنع إلى امتناع الناس من الرطب والعنب؛ فيه نظر من حيث إن الخرص تضمين على الصحيح، أما مع التصريح به أو بدونه [وحينئذ] فالمالك متمكن من التصرف في جميع الثمرة فلا ينسد عليه باب التصرف في الرطب والعنب. نعم ذاك صحيح إذا قلنا: إن الخرص عبرة مجردة؛ فإن رب المال لا يكون له طريق إلى التصرف.
وقد جعل الإمام الأول من الوجهين في حالة الجفاف وعدم التمكن من الأداء في جواز التصرف؛ لأنه غير منسوب إلى تقصير في التأخير، فلو سددنا عليه التصرف فيما يزيد على مقدار الزكاة لكان ذلك حجراً مضراً بخلاف ما بعد الوجوب والتمكن، ثم جواز رهن جميع مال الزكاة كبيعه إن قلنا: قولاً تفريق
الصفقة يجريان في رهن ما يجوز وما لا يجوز، وإن قلنا: لا يجريان بل يصح فيما يصح قولاً واحداً- فحيث قلنا في مسألة البيع بالبطلان في نصيب الفقراء وفيما عداه قولان، قلنا ها هنا فيما عداه: يصح قولاً واحداً.
قال: وإن باع الثمرة قبل بدو الصلاح، أو باع الماشية قبل الحول فراراً من الزكاة كره ذلك؛ لأن الفرار من القربة مكروه، والشيخ في إطلاق لفظ "الكراهة" في هذه الحالة اتبع الشافعي وجمهور أصحابه، وزاد الماوردي في باب المبادلة بالماشية أنه مسيء بذلك.
وقد تفهم هذه اللفظة أنها كراهة تحريم كما اختاره في "المرشد" ولم يحك في "الوسيط" و"الوجيز" غيره اتباعاً للفوراني بأنه جزم بتأثيمه.
والذي حكاه الإمام عن الصيدلاني: أنه أطلق لفظ الكراهة، ثم قال: وفي بعض التصانيف: أنه يأثم بذلك، وفي التأثيم احتمال من جهة أنه تصرف يسوغ، ثم إن أثبتناه فموجب الإثم قصده لا محالة.
والذي قاله في "البحر" في باب المبادلة: أنه لا يكون عاصياً بذلك، وهو الموافق لما صرح به البندنيجي في باب كيف تؤخذ الزكاة، والماوردي في أثناء كلامه في موضع آخر- أن الكراهة كراهة تنزيه.
وقال البندنيجي: إن الإمام الشافعي قال في "الأم": ولو قطع الطلع فراراً من الصدقة كرهناه ولم يجزم بذلك.
قال: ولم يبطل البيع؛ لأنه باعه ولا حق لأحد فيه؛ لأن الحق إنما يجب في الثمرة ببدو الصلاح، وفي الماشية بحولان الحول؛ كما تقدم، ولم يوجد ذلك، وقد تقدم أنه لا تجب الزكاة عليه أيضاً في [باب] صدقة المواشي، والفرق بينه وبين المريض إذا طلق في أحد القولين، أما إذا باع ذلك لحاجة لحقته لا لأجل الفرار من الزكاة فلا كراهة، نص عليه.
وقال في "الأم": ولذلك أكره له قطع النخل إلا ما أكل أو أطعم أو تخفيفاً من النخل. ولم يخالفه أحد من أصحابه وهو أن مراده بالنخل: الإناث، أما الذكور فلا كراهة في قطع ثمرها مطلقاً؛ لأنه لا زكاة فيها.