الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
باب ما يجوز بيعه، وما لا يجوز
أي: مما يعتقد جوازه لكونه كان بيعاً في الجاهلية.
اعلم أن المذكور في أكثر الكتب عدُّ شرائط المبيع خمساً:
أن يكون طاهراً، منتفعاً به، مملوكاً للعاقد - وزاد بعضهم: أو لمن يقع العقد له؛ ليدخل فيه الولي والنائب، وهو صحيح لكن يدخل معهما الفضولي، فإن العقد إذا صح منه وقع للمالك - مقدوراً على تسليمه، معلوماً.
وزاد بعضهم شرطاً سادساً، وهو: ألا يتعلق به حق قربة لازمة؛ ليخرج به أم الولد والمكاتب والموقوف، والعبد الذي نذر السيد عتقه، على الصحيح.
وقيل: إنه لا حاجة إلى ذلك؛ فإن شرط القدرة على التسليم يتضمن ذلك.
وفي الذخائر: عدَّ شرائطه سبعاً:
الأول: أن تكون العين قابلة للبيع ومحلاًّ له، وذلك يتضمن الطهارة والانتفاع. وأن تكون غير محرمة.
والثاني: أن تكون مملوكة للعاقد ملكاً مستقراًّ.
والثالث: القدرة على التسليم.
والرابع: أن تكون معلومة.
والخامس: السلامة من الرِّبا فيها.
والسادس: الخلاص من مقارنة ما لا يجوز العقد عليه.
والسابع: أن يؤمن عليها العاهة.
والشيخ- رضي الله عنه أتى في هذا الباب من الشروط السبعة، ما عدا الخامس
والسابع، وذكر الخامس في الباب الثاني، والسابع في الباب الثالث، لكنه أتى بها من غير ترتيب.
قال: لا يصح البيع إلا في عين طاهر، فأما الكلب والخنزير والخمر والسرجين والزيت النجس، فلا يجز بيعها.
السرجين والسرقين واحد، وهو الزبل، ويقال: بكسر السين وفتحها.
والأصل في عدم جواز بيع الكلب: [ما روى] الشافعي ومسلم والبخاري بإسنادهم عن أبي مسعود الأنصاري أنه صلى الله عليه وسلم: ""نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن" ومهر البغي وحلوان الكاهن حرامان فكذلك ثمن الكلب.
وروى فيه ابن عباس- أيضاً -: "فإن جاء يطلب ثمنه فاملأ كفه تراباً"، أخرجه أبو داود.
فإن قيل: روى جابر: أنه – عليه السلام – نهى عن ثمن الكلب والسِّنَّور إلا كلب صيد.
وهذا يدل على صحة بيع كلب الصيد؛ فوجب حمل ما ذكرتموه من الحديث على غيره جمعاً بين الحديثين.
فجوابه: أن الحديث موقوف على جابر على الصحيح – كما قاله الدارقطني – وهو حجة أيضاً على من صار إلى صحة بيعه؛ فإنه لا يقصره على كلب الصيد. وقد قيل في معناه: ولا كلب صيد؛ لأنه جاء في اللغة مثل ذلك؛ قال الشاعر: [من الوافر]
وكل أخ مفارقه أخوه لعمرو [أبيك] إلا الفرقدان
معناه: والفرقدان.
وفي الخنزير والخمر: ما روى مسلم عن جابر بن عبد الله – رضي الله عنهم – أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح – بمكَّة – يقول: "إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة فإنه يُطْلَى بها السٌّفن، وَيُدْهَنُ بها الجُلُود، وَيستصبحُ بِهَا الناسُ؟ فقال: "لا، هو حَرامٌ". ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك:"قَاتل الله اليهود؛ إن الله لمَّا حرَّم عليهم شُحُومها [جَمَلُوه ثم] باعوه فأكلوا ثمنه".
وروى البخاري أيضاً معناه.
وفي السرجين والزيت النجس، وما في معناهما [من الأعيان النجسة والمتنجسة]: ما روى أبو داود عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه"، وذلك محرم؛ فكان ثمنه محرماً.
وبالقياس على الجيفة دون جلدها، والعذرة؛ فإن الإجماع منعقد على بطلان بيعهما، وإن كان في الجيفة منفعة إطعامها جوارح الصيد، وفي العذرة منفعة تسميد الأرض.
قال الغزالي: ثم الإجماع على ذلك يدل على أنه لا علة لبطلان البيع إلا النجاسة، وقد يمنع بغير ذلك، ويقال: بل العلة عدم المنفعة المقصودة، فإن البيع لا يعتمد مجرد المنفعة؛ بل لابد من منفعة مقصودة، وهذا النوع من الانتفاع ليس بمقصود.
وجوابه: أن من ذهب من العلماء إلى صحة بيع الأعيان النجسة يراعي فيها مثل تلك المنفعة؛ فلا جرم حسن الاستدلال به عليه.
ولا فرق في الخمر بين أن تكون محترمة أو غير محترمة.
وفي "تعليق" القاضي الحسين: أنه لو ألقى العصير وعناقيد العنب في الدن بنية الخل وصار خمراً، فلا خلاف في أنها نجسة.
وهل يجب الضمان على من أراقها؟ وحل يحل بيعها؟ كان – رحمه الله – يحكي فيه وجهين، أظهرهما: أنه لا يحل البيع، ولا ضمان على المريق كالمصفّى.
وفي "النهاية" في كتاب الرهن: أن الشيخ أبا علي حكى تردداً في طهارتها وجواز بيعها.
واعلم أن ذكر الشيخ هذه الأمثلة ليس لتعداد الصور من غير مزيد فائدة، بل لمعنىّ حسنٍ، وهو أن الخنزير والخمر متفق على بطلان بيعهما، والكلب والسرجين
مختلف في صحة بيعهما عند بعض العلماء.
فذكر الخنزير ليقاس عليه الكلب؛ بجامع ما اشتركا فيه من استوائهما في النجاسة والحيوانية والانتفاع، فإن الكلب كما هو منتفع به كذلك الخنزير منتفع به في صلاح الخيل.
وذكر الخمر ليقاس عليه السرجين؛ بجامع ما اشتركا فيه من النجاسة والجماديَّة والانتفاع؛ فإن الخمر ينتفع بها بمصيرها خلاًّ، كما ينتفع بابن اليوم بالكبر، وذكر الزيت النجس ليبين به أن الأعيان المتنجسة بالمخالطة حكمها – فيما ذكرناه – حكم الأعيان النجسة، وذكر الزيت في هذا المقام أحسن من ذكر العسل المتنجس؛ لأنه إذا جزم بعدم الصحة في الزيت مع اختلاف العلماء [في إمكان] تطهيره – على ما سنذكره – كان ذلك فيما لا يمكن تطهيره أولى.
ثم حيث شرعنا في ذلك فنقول: ذهب أبو العباس بن سريج، وأبو إسحاق إلى أن الزيت والشيرج والبزار إذا وقعت فيه نجاسة يمنك تطهيره، وأن ذلك جائز وصورة ذلك: أن يوضع في إناء فيه قلتان من الماء، ثم يحرك ويثقب أسفل ذلك الإناء، فإذا خرج الماء سُدَّ.
وذهب غيرهما على ما حكاه صاحب "الإفصاح" وغيره إلى عدم إمكان تطهيره.
وقال الرافعي: "إنه الأظهر"، وأيده بما سنذكره عنه.
وحكى الجيلي وغيره أن الخلاف في ذلك مبني على اشتراط العصر في غسل النجاسة، فمن اشترطه قال بعدم إمكان التطهير.
ثم إذا قلنا بعدم إمكان التطهير لم يصح بيعه عند العراقيين، وعند المراوزة فيه وجهان مبنيان على جواز الاستصباح بالدهن المتنجس، وفيه قولان مبنيان على أن الدخان هل هو طاهر أم نجس؟ والذي ذهب إليه الشيخ أبو محمد أنه نجس كالرماد؛ فإنه نجس على المذهب.
وحكى القاضي الحسين وجهاً أنه طاهر وإن حكم بنجاسة الرماد.
قال الإمام: وهو الذي يظهر؛ فإن الذي ثار محض أجزاء الدهن.
ثم الخلاف في الدخان مبني – على ما حكاه الجيلي –على أن النار هل تطهر أم لا؟
والصحيح من المذهب عند القاضي الحسين – على ما حكاه في "التعليق" – إن الاستصباح به جائز، وهو يوافق إيراد الغزالي في "الوجيز"، وبه جزم الشيخ في "المهذب"، وقال: الأولى ألا يفعل. وكذلك ابن الصباغ جزم بجواز الاستصباح به، وكذلك في شحم الميتة.
وفي الرافعي: أن الظاهر عند الأصحاب منع الاستصباح بالزيت النجس.
وإن قلنا بإمكان التطهير فالذي ذهب إليه المراوزة جواز بيعه، والذي ذهب إليه بعض العراقيين أن في جواز بيعه وجهين:
أحدهما: - ويحكي عن ابن أبي هريرة -: أنه يجوز كالثوب النجس.
وأصحهما – على ما حكاه الرافعي، وبه قال أبو إسحاق -: أنه لا يجوز.
[ووجهه الرافعي:] بأنه – عليه السلام – لما سئل عن الفأرة توجد في السمن، قال:"إن كان جامداً فَأَلْقُوها وما حولها، وإن كان ذائباً فأريقوه"، ولو كان جائزاً لما أمر بإراقته، وهذا أجدر ما يحتج به على امتناع التطهير.
والذي حكاه البندنيجي في "تعليقه" أنه ينظر على هذا القول: إن كان معظم الانتفاع بالمتنجس لم يذهب [التنجيس][كالبذر فيجوز وجهاً واحداً؛ فإن الاستصباح به جائز بكل حال، وإن كان معظم الانتفاع] بالمتنجس قد ذهب كالزيت والشيرج ونحو ذلك، فإن المقصود منه الأكل وقد فقد، ففي جواز بيعه وجهان.
فقد ظهر لك مما ذكرناه عدم صحة بيع الزيت النجس على الصحيح من المذهب كما جزم به الشيخ، وهو موافق أيضاً لما حكاه القاضي الحسين في "التعليق": أن الشافعي نص في الأطعمة على أنه لا يجوز بيع الزيت النجس، وأنه
خُرِّج فيه وجه: أنه يجوز.
وقد ضعف مجلي بناء المراوزة الخلاف مع القول بعدم إمكان التطهير؛ فإن أكثر ما فيه جواز الانتفاع به في وجه مخصوص، وهذا لا يسلط على بيعه مع الحكم بنجاسته كالكلب والسرجين.
ثم حكم الماء النجس حكم الزيت النجس عند العراقيين في آخر الخلاف؛ من حيث إن المقصود الأعظم منه التطهير والشرب، وهو ممتنع، وفي الرافعي: أن بعضهم أشار إلى الجزم بالمنع.
وقال: بلوغه إلى حد الكثرة ليس بتطهير، ولكنه يستحيل من صفة النجاسة إلى [صفة] الطهارة؛ كالخمر تتخلل، وهذا على القول بجواز بيعه.
فرع: الصبغ النجس، هل يجوز بيعه؟ فيه وجهان يجريان أيضاً في الخل النجس لإمكان الصبغ به. قاله القاضي الحسين.
وهذا الخلاف كالخلاف في الزيت النجس على القول بعدم إمكان تطهيره.
قال: ويجوز بيع الثوب النجس وكذا ما في معناه من [آجر] أو خشب أو حجر، وغير ذلك مما نجاسته بالمجاورة؛ لأن البيع وارد على العين وهي طاهرة، وما جاورها من النجاسة يزول عن قرب.
وهذا يشابه ما قاله البندنيجي في البزر؛ من حيث إن معظم الانتفاع به باق، وهو اللبس، ودفع الحر والبرد.
ثم هذا إذا لم تستره النجاسة، أما إذا سترته، ففي "التتمة": أنه لا يصح بيعه، وفي الرافعي: تخريجه على بيع الغائب.
فرع: إذا كانت قرية يسكنها المجوس أو عبدة الأوثان لم يجز شراء الذبيحة منها، وإن أمكن أن يكون فيها مسلم أو كتابي، حكاه ابن الصباغ.
قال صاحب "الفروع": وكذا لو كان في البلد مسلمون ومجوس لم تحل أيضاً، إلا أن يكون المسلمون أكثر فتحل.
قال: ولا يصح إلا فيما فيه منفعة؛ لقوله تعالى: ? وَلا تَاكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ
بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29] وما لا منفعة فيه غيرُ متقوِّم فبذل العوض في مقابلته سفه؛ فأكله من أكل المال بالباطل.
قال: وأما الحشرات والسباع التي لا تصلح للاصطياد – أي: ولا للقتال [عليها] – فلا يجوز بيعها؛ لعدم المنفعة.
وهكذا الحكم في الطيور التي لا تصلح للاصطياد، ولا التفات إلى ما يتحصل من جلدها وأجنحتها.
وحكى عن القاضي الحسين وجه في جواز بيع السباع لأجل جلودها، وهو جارٍ في الحمار الذي تكسرت قوائمه، وفي الطيور إذا كان في أجنحتها فائدة.
ومنهم من لم يُجْرِهِ في الطيور.
وفرق بأن الجلود يمكن تطهيرها ولا سبيل إلى تطهير الأجنحة.
وأما السباع التي تصلح للاصطياد كالفهد والنمر والهرة، وكذا ما يمكن القتال عليه – كالفيل فيجوز بيعها؛ لوجود المنفعة المقصودة.
وفي الفيل والهرة وجه: أنه لا يجوز بيعهما، حكاه في "الحلية".
وكذا يجوز بيع القرد؛ لأنه يُعَلَّم الأشياء فيتعلم، وبيع دود القز جائز أيضاً.
وفي بيع العَلَق – وليس فيه إلَاّ مصلحة مص الدم – وجهان: أظهرهما الجواز.
وفي بيع السم الطاهر الذي لا يستعمل قليله في الأدوية وجهان في "الحاوي"، وجه الجواز: الاعتماد على قتل الكفار به.
ويجوز بيع الزرزور، والطاوس للاستمتاع بصورته، وكذا ما يستمتع بصوته.
واعلم أن الشيخ خص هذا النوع مما لا ينتفع به بالذكر وإن كان تحته أنواع؛ لنفي توهم من يزعم أن في الحشرات منفعةً في الخواص وفي السباع، وهي إقامة الهيبة والسياسة، إذ هذه المنفعة غير معتبرة.
وأما ما لا منفعة فيه شرعاً: كآلات الملاهي، والأصنام إذا كانت بعد زوال صورتها لا مالية لها لا يجوز بيعها، وكذا لو كان له بعد الرضاض مالية –على الأظهر عند عامة الأصحاب – وعليه يدل خبر جابر.
ومنهم من جوز بيعها، ورأى الإمام الأظهر الجواز، إذا كانت متخذة من جواهر نفيسة، بخلاف ما إذا اتخذت من خشب ونحوه.
وكذا ما لا منفعة فيه لقلته كالحبة من الحنطة والزبيبة، وغيرهما، لا يصح بيعه، ولا نظر إلى زمن الغلاء، ولا إلى ما يوضع في الفخِّ؛ لأنها ليست منفعة معتبرة، وفي "التتمة": حكاية وجه في جواز البيع.
وعلى المذهب: لا يجوز أخذ الحبة من صُبرة الغير بغير إذنه، فإن أخذت وجب ردها، فإن تلفت لم يضمنها بالمثل، على الأصح، خلافاً للقفال.
وفي بيع الماء على شاطئ البئر – إذا قلنا: إنه يملك – أو التراب في الصحراء، أو الأحجار بين الشعاب الكبيرة – وجهان في "التتمة"، وأصحهما: الجواز.
فرع: بيع الجارية المغنية بما تساويه لولا الغناء، صحيح، وبأكثر منه هل يصح؟ فيه ثلاثة أوجه، ثالثها – وهو قول الشيخ أبي علي -: إن قصد الغناء بطل، وإلا فلا.
وهذا مفرع – كما حكاه الرافعي في كتاب الصداق – على أن مثل هذه إذا غصبت ونسيت الألحان يرد معها أرش النقص بسبب النسيان، وهو وجه حكاه الإمام أيضاً مع وجه آخر: أنه يضمن قيمتها مغنية إذا تلفت، وإن كان قد جزم قبيل الكلام في "الأمة تغرُّ من نفسها"، بأنه إذا أتلفها لم يضمن إلا مثل قيمتها لو لم تحسن الغناء، مع حكاية الخلاف في جواز بيعها.
قال: ولا يجوز بيع ما يبطل به حق آدمي: كالوقف، وأم الولد، والمكاتبُ – [أي بضم الباء] – في أصح القولين والمرهون.
قد تقدم في صدر الباب أن هذا يندرج تحت القدرة على التسليم؛ لأن العجز عن التسليم نوعان: حسي وشرعي، وهذا من الشرعي.
وذكر الشيخ إبطال حق الآدمي ليرشدك إلى علة الحكم، فالوقف لا يصح بيعه؛ لما روى ابن عمر أن عمر أصاب أرضاً بخيبر، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، فقال:"إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها" قال: فتصدق بها عمر – رضي الله عنه – صدقة، لا تباع ولا توهب ولا تورث.
وأما أم الولد فلا يصح بيعها؛ لما روى عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع أمهات الأولاد.
وفي القديم حكاية قولك أنه يجوز بيعها متبعاً فيه ما روي عن علي – كرَّم الله وجهه – وتعتق بموت مستولدها على هذا، وقيل: لا تعتق بموته، كما رواه الخراسانيون، وهو إلى كلام الشيخ أقرب؛ إذ لو لم يكن كذلك لما كان فيه إبطال
لحق آدمي إلا أن يقال: الولاء على الورثة.
وزاد الإمام في كتاب الرهن في الحكاية عن القديم: أن المستولدة لا تعتق أصلاً، وإن بقيت في ملك المستولد إلى الموت، وسبيل ذلك سبيل الاستخدام.
ولو حكم حاكم بصحة بيعها، فهل ينتقض حكمه على الجديد؟
قال الشيخ أبو علي في "الشرح": يحتمل قولين؛ بناءً على أن [أهل] العصر الثاني إذا أجمعوا على أحد القولين بعد انقراض العصر الأول على الخلاف تصير المسألة مجمعاً عليها.
وفيه قولان:
أصحهما: أنه لا يصير إجماعاً؛ فعلى هذا لا ينقض.
والمكاتب لا يصح بيعه في الجديد؛ لأنه كالخارج عن ملك السيد؛ ولهذا لا يرجع أرش الجناية عليه؛ فأشبه ما لو باعه، ولأن عقد الكتابة وارد على الرقبة بالنجوم، فلو صح بيعها لاجتمع عليها عقدان يقتضيان نقل الملك فيها بعوض، وذلك لا يعقل.
والقديم: أنه يصح؛ لما سنذكره من قصة بريرة، ولأن عتقه غير متيقن؛ فملك بيعه كالمدبر والمعلق عتقه على صفة.
فعلى هذا، هل تنفسخ الكتابة؟ الذي حكاه الطبري وابن الصباغ وغيرهما: أنها لا تنفسخ، ويكون الولاء للمشتري. وفي "التهذيب" و"تعليق" القاضي الحسين، حكاية وجهين:
أحدهما: أنها تنفسخ.
والثاني: لا تنفسخ، حتى لو أدى النجوم إلى المشتري يعتق، و [يكون] الولاء للبائع؛ كان لو مات السيد فأدى النجوم إلى الورثة.
والمرهون لا يصح بيعه؛ لأن المقصود من الرهن: الاستيثاق إلى حين قضاء الدين، فلو صح بيعه قبل ذلك لبطلت فائدة الرهن.
وأبدى الإمام في كتاب "الإقرار" احتمالاً في صحة بيعه موقوفاً، من بيع المفلس
ماله قبل فك الرهن.
وتلحق بالمرهون كل عين ثبت لمن هي تحت يده حق حبسها؛ ليستوفي ما وجب له بسبب العمل فيها: كالصباغ إذا صبغ الثوب؛ فإنه لا يصح بيعه قبل توفية الأجرة، وكذا القصار إذا قلنا: إن القصارة بمنزلة العين، وإن قلنا: إنها أثر فلا حق له في حبسها، فيجوز له بيعه قبل قبضه.
ويلتحق بذلك أيضاً ما إذا استأجر صباغاً ليصبغ له ثوباً وسلمه إليه فليس له بيعه ما لم يصبغه، وكذا لو استأجر قصاراً على قصره؛ ليس له بيعه ما لم يقصره، وكذا لو استأجر صائغاً على عمل ذهب، ونظائر ذلك، كما صرح به المتولي وغيره؛ لأن له حبسه إلى أن يعمل فيه ما يستحق به العوض، وعليه يخرج ما قيل في بيع الأشجار المساقي عليها: أنه لا يصح؛ لأن المساقاة عقد لازم، وقد استحق العامل أن يعمل فيها ما يستحق به أجراً.
وبعض الناس يقول: كان يتجه أن يُخَرَّجَ على بيع الأعيان المستأجرة من حيث إن العامل قد استحق جزءاً من الثمرة الذي مقتضى العقد أن يكون للبائع؛ وغفل عن ملاحظة هذا الأصل. والله أعلم.
فائدة: كثيراً ما يسأل عن بيان ما في بيع المكاتب من إبطال حق الآدمي على القول بأنها لا تنفسخ، وهو الصحيح.
ويجاب عنه: بأن فيه إبطال حق الولاء على العصبة، وهذا السؤال غير متوجه على ما صورنا به كلام الشيخ من أن باء "المكاتب" مضمومة، وعلى تقدير أن تكون مكسورة، فالجواب غير صحيح على قول صاحب "التهذيب"، وعلى قول ابن الصباغ فقد يورد عليه جواز بيع المدبر مع أن فيه إبطال مثل هذا الحق.
وقد يقال في ذلك: إن الكتابة أثبتت للعبد استقلالاً حتى لا يجب عليه امتثال ما يأمره به السيد؛ فلو صح بيعه لاقتضى إيجاب التسليم، وهو لا يحصل إلا بأن يستدعيه يأتيه، كما قررناه.
وذلك يبطل ما حصل له بالكتابة من الاستقلال.
فإن قيل: لو كنا هذا هو المانع لوجب ألا يصح بيع الشِّقْصِ المشاع فإنه لا يمكن تسليمه إلا بتسلمي الكل وهو يؤدي إلى إبطال حق الشريك [من الاستقلال بالتصرف وعدمه في نصيبه، ومع ذلك يصح بيعه، ويجبر الشريك] على تسليم حصته، ليستقر العقد وذلك يدل على عدم مراعاة ما ذكر.
قلت: يظهر الفرق [في] أن [في] مسألة الدار [لا غاية] تنتظر فلو لم يجز ذلك لأدى إلى منع بيع المشاع على الإطلاق، وذلك ضرر بَيّنٌ.
وللمكاتب غاية تنتظر فلا يحصل بتأخير البيع مثل ذلك الضرر مع أنه الذي أدخله على نفسه انقطع الإلحاق.
وقد يقال: وجه الإبطال أنه لو صح لم يجز أن يعتق على مشتريه؛ لأن صفة عتقه متقدمة على ملكه، ولا على بائعه لزوال ملكه. ثم على تقدير نفوذه يؤدي إلى تضييع الولاء على مستحقه؛ لأنه لا يكون للبائع؛ لعتقه لا في ملكه، ولا للمشتري فإنه لم يعقد بسببه.
قال: وفي العبد الجاني – أي: جناية تتعلق برقبته – قولان:
أحدهما: وهو اختيار المزني أنه يصح؛ لأن الجناية إن كانت توجب القصاص فهو يرجى سلامته ويخاف تلفه، فلم يمنع ذلك من بيعه كالمريض.
وإن كانت خطأ فلم تتعلق برضا السيد فلا يكون سبباً للحجر عليه في ملكه، ولأن هذا الحق غير مستقر في رقبة العبد؛ فإن السيد بالخيار بين التسليم والفداء، فلا يمنع البيع، كما لو باع عبده بشرط الخيار، ثم باعه فإنه يصح.
والقول الثاني، أنه لا يصح، وقيل: إنه ظاهر المذهب، فإن الشافعي قال: وبهذا أقول.
ووجهه: أنه حق لآدمي تعلق برقبة العبد فمنع [من] صحة بيعه كالرهن، بل أولى؛ لأن الجناية تقدم على الرهن، والقصاص لصاحبه العفو على المال فهو كجناية الخطأ، ويخالف المريض في ذلك. وثبوته بغير اختياره إكراه. ولا يشبه البيع بشرط الخيار؛ لأن البائع يملك إسقاط حق المشتري، وهاهنا لا يسقط حقه، وإنما يوفيه حقه بالفداء، فهون كإبقاء الدين الذي به الرهن.
قال: وقيل: إن كانت الجناية خطأ لم يجز قولاً واحداً؛ كالمرهون، وإنما القولان في جناية العمد وتوجيههما ما تقدم.
وبعضهم بناهما على القولين فيما يوجبه القتل العمد فقال: إن قلنا: القود عيناً؛ صح وإلا فلا.
[و] قال الإمام: قد نسب بعض أصحابنا تخريج القولين على قولنا: موجب العمد القود؛ لأن المالية ثابتة ضمناً؛ ولهذا قلنا: مستحق القصاص يرجع إلى المال دون رضا من عليه القصاص، وهذا ما يقتضيه كلام الغزالي في وسيطه؛ فإنه قال: فيه خلاف مرتب على أن موجب العمد ماذا؟
قال: وقيل: إن كانت الجناية عمداً جاز قولاً واحداً - كالمريض المذفف والمرتد، وإنما القولان [فيما] إذا كانت الجناية خطأ. وتوجيههما ما ذكرناه.
وهذه الطريقة أصح عند الشيخ أبي حامد وراويته المحاملي والبندنيجي، والأولى عند الغزالي من القولين فيها صحة البيع.
والأظهر والأصح عند غيره عدم الصحة.
وفي المرتد حكاية وجه في "الوسيط": أنه لا يصح بيعه، وهو أظهر في بيع المتحتم قتله بالمحاربة وقد حكاه ابن الصباغ والبندنيجي في المحارب تفريعاً على القول بصحة بيع الجاني.
وهو ما جزم به المحاملي.
وكان القياس يقتضي أن يكون الصحيح صحة بيعه، وإن منع بيع الجاني كما هو في "التهذيب"؛ لأن القتل متحتم فلا يترك لتعلق المال برقبته، ولا يقال: هذا متحقق الهلاك فلا منفعة فيه فيبطل بيعه لذلك لأن فيه منفعة مقصودة وهي العتق، وما قال ابن أبي عصرون من أن جواز عتقه لا يستدل به على جواز بيعه بدليل الآبق والمجهول لا يرد علينا؛ لأن فيه فَقْدَ شرطٍ آخر.
ولا خلاف في صحة بيع من تعلق أرش الجناية بذمته أو استحق قطع طرفه في السرقة لانتفاء ما أشار إليه الشيخ من العلة وهي: إبطال حق الآدمي.
ووراء ما ذكرناه أمران آخران:
أحدهما: حكى المتولي أن بعض الأصحاب خرج قولاً ثالثاً في بيع العبد الجاني أنه يكون موقوفاً على الفداء، فإن فداه نفذ وألا فلا [ومن طريق الأولى يصح بيع العبد الأعجمي الذي لا تمييز له إذا جنى على شيء بإذن سيده، وقلنا: لا تتعلق الجناية به أصلاً، كما سنذكره وجهاً في كتاب الرهن.
والثاني، قال في "التهذيب": إن التزم السيد الفداء قبل البيع صح بيعه، وإن باعه قبل التزام الفداء وهو معسر فلا يصح، وبما أجاب به في المعسر قال الماوردي أيضاً: وهو الذي صححه الإمام في كتاب الرهن. وإن كان موسراً فعلى الخلاف السابق.
التفريع على القول بصحة البيع إذا قتل في يد البائع قبل التسليم قتل قصاص أو حد انفسخ العقد، وإن قتل في يد المشتري وكان جاهلاً بجنايته أو ردته فوجهان:
أحدهما: وبه قال ابن سريج، وابن أبي هريرة: أنه يرجع عليه بأرش ما بين قيمته
ولا جناية وقيمته مع الجناية؛ لأن ذلك حصل بسبب جرى في يد البائع، فكان كرجل اشترى عبداً ظهرت به علة عند البائع ثم مات منها في يد المشتري؛ فإنه يرجع بالأرش.
والثاني: وهو المذهب في "الشامل"[وظاهره في] غيره، واختيار ابن الحداد وأبي إسحاق: أنه ينفسخ العقد ويرجع عليه بجميع الثمن؛ لأن تلفه كان لمعنى استحق عند البائع، فأشبه ما لو تلف في يده، ويفارق المريض إن سلم الحكم فيه، فإنه تلف بزيادة مرض حصل في يد المشتري ولم يوجد مثل ذلك هاهنا.
أما إذا منع الحكم فيه وقيل بأنه يجب تمام الثمن - أيضاً - كما حكاه القاضي الحسين وجهاً، وطرده فيما إذا كانت به جراحات سارية؛ فقد استوت المسألتان وإن كان عالماً فعلى الأول: لا شيء له، وعلى الثاني: وجهان:
أحدهما: يرجع بجمي الثمن.
والثاني: لا شيء له، وهو ما اختاره ابن الصباغ.
وإذا اختصرت قلت: في ذاك ثلاثة طرق.
أحدها: أنه كالعيب في حال الجهل والعلم.
والثاني: كالمستحق فيهما.
والثالث- قال البندنيجي وهو مذهب الشافعي -: أنه كالمستحق [مع] الجهل بالحال وكالعيب مع العلم به.
وإذا آل الأمر إلى المال إما بالعفو أو كانت الجناية خطأ أو عمداً؛ فللسيد فداؤه، وهل يجب عليه ويجعل بإقدامه على البيع ملتزماً له؟ فيه وجهان؛ ظاهر النص منهما وهو الذي رجحه ابن الصباغ وغيره: الوجوب، فيفديه على هذا بأقل الأمرين من قيمته وأرش الجناية؛ قال المحاملي والبندنيجي قولاً واحداً.
وعلى الوجه الآخر بكم يفديه؟ فيه وجهان:
أحدهما: بما تقدم.
والثاني: بأرش الجناية بالغاً ما بلغ.
والفرق: أنه على هذا القول مخير بين الفداء والتسليم، وربما يحصل زبون يشتريه بقدر أرش الجناية وعلى الأول قد تعذر عليه التسليم؛ فلم يمكن البيع فصار كما لو أعتقه أو قتله.
وأجرى الماوردي الخلاف على الوجهين معاً، مع جزمه بأنه إذا أعتقه لا يلزمه إلا أقل الأمرين وحكى الرافعي في الفصل الخامس في تزويج العبيد عن الإمام: ان من الأصحاب من أجرى هذا الخلاف فيما إذا قتله، والصحيح الأول.
وعلى كل حال متى تعذر الفداء؛ إما بإعسار السيد أو ممطالته [مع عسر] الأخذ منه، أو سفره على القول بوجوبه كان للمجني عليه فسخ البيع لسبق حقه.
فرع: إذا اشترى عبداً قد استحق [قطع] طرفه، ولم يعلم به، فقطع في يده، كان له الخيار على المذهب بين الإمساك والرد، وعلى رأي ابن سريج تعيَّن له الأرش.
[فرع] آخر: إذا أعتق السيد العبد الجاني، فنفوذ عتقه ينبني على نفوذ بيعه.
فإن نفذناه فالعتق أولى وإلا فثلاثة أقوال، كما في عتق المرهون.
وقطع في "التهذيب" بالنفوذ إذا كان موسراً وبعدمه إذا كان معسراً.
وفرق بينه وبين المرهون: بأنه في حالة اليسار قادر على نقل حق المجني عليه إلى ذمته باختيار الفداء فإذا أعتق انتقل الحق إلى ذمته. وفي الرهن بخلافه.
وفي حال الإعسار فإن حق المجني عليه متعلق بالرقبة فلا تعلق له بذمة السيد، وحق المرتهن متعلق بهما جميعاً، فنفوذ الإعتاق هاهنا يبطل [الحق] بالكلية، وفي الرهن غايته قطع أحد المتعلقين.
وفصَّل الماوردي فقال: إن كانت الجناية موجبة للقصاص؛ نفذ عتقه؛ موسراً كان أو معسراً. وللمجني عليه أن يقتص منه بعد الحرية، وإن كانت الجناية موجبة للمال فإن كان موسراً نفذ وألا فلا، وحكم استيلاد الجارية حكم عتقها.
فائدة: أرش الجناية إذا تعلق برقبة العبد، إن كان بقدر قيمته أو أكثر؛ فلا إشكال [في أنه] يتعلق بجملة رقبته، وإن كان أقل فهل يتعلق بجميع الرقبة أو بقدره منها؟
فيه خلاف أشار إليه الغزالي عند الكلام في أن الزكاة هل تتعلق بالعين أو الذمة؟
وإذا تعلق الأرش بجميع الرقبة فأبرأه المجني عليه من شيء منه، فهل ينفك من العبد بقدره؟
حكى الرافعي في الوصايا عند الكلام في الدور الواقع في الجنايات: إذا جنى عبد على حر، وعفا المجني عليه ومات، فإن أجازه الورثة فذاك وإلا نفذ في الثلث، وانفك ثلث العبد عن تعلق الأرش، وأشار الإمام فيه إلى وجه آخر، كما أن شيئاً من المرهون لا ينفك ما بقي شيء من الدين، والظاهر الأول. انتهى. يتجه جريان مثل ذلك هاهنا. وإذا قلنا: أرش الجناية يتعلق بذمة العبد الجاني مضافاً إلى رقبته، هل يملك المجني عليه فك الرقبة عن التعلق ورد الحق إلى الذمة خاصة كما يملك فك الرهن؟
فيه وهجان: حكاهما الرافعي عن الإمام في "باب العفو عن القصاص".
قال: ولا يجوز بيع ما لا يملكه إلا بولاية أو نيابة، عني بالولاية: كبيع الأب وإن علا، والوصي والحاكم يدل عليه قوله من بعد: "فإن بلغ الصبي وادعى أنه باع العقار من غير غبطة ولا ضرورة فإن كان الولي أباً أو جداً فالقول قولهما، وإن كان – يعني: الولي – غيرهما لم يقبل إلا ببينة.
و [عنى] بالنيابة: بيع الوكيل.
والدليل على اعتبار ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام: "لا تبع ما ليس عندك" وهذا على عمومه.
وما روى واثلة بن عامر أو عامر بن واثلة أنه – عليه السالم – قال: "لا تبع ما لا تملك" و [لأن] بيع الآبق غير صحيح [مع] كونه مملوكاً؛ لعدم القدرة على التسليم، فبيع ما لا يملك ولا قدرة له على التسليم أولى، وهذا هو الجديد، الذي لا يعرف العراقيون غيره، على ما حكاه الإمام ومن تابعه.
وحكوا عن القديم أنه ينعقد ونفوذه موقوف على إجازة المالك، فإن أجاز نفذ؛ إذ ذاك. ويستعقب الملك الإجازة، ولا يحكم بتقدم الملك عليها تبيُّناً.
وإن رد لغا، وكذا إجازة من يقوم مقام المالك من ولي إن كان المال محجوراً عليه دون إجازة المحجور عليه إذا بلغ، أو ملكه البائع ثم أجاز كما حكاه الشيخ أبو محمد.
وقد حكى من العراقيين هذا القول أيضاً المحاملي في اللباب [وابن الصباغ في كتاب الأضحية] واستدل له بما روي [أن النبي] صلى الله عليه وسلم دفع إلى عروة البارقي ديناراً ليشتري به شاة فاشترى به شاتين، وباع أحداهما بدينار، وجاء بشاة ودينار، فقال – عليه السلام:"بارك الله لك في صفقة يمينك".
قال الماوردي: فكان لو اشترى تراباً لربح فيه.
وجه الدلالة [فيه]: أنه باع الشاة الثاني من غير إذن، وأقره – عليه السلام –
على ذلك، وأجاب من قال بالأول عن هذا الحديث بأنه مرسل، ولو صح فلا دلالة فيه؛ لاحتمال أن يكون النبي صلى الله عليه ولم رد الأمر فيه إلى رأيه.
ويؤيده أن القائل ببيع الفضولي لا يجوز له التصرف فيما يبيعه، وعروة قد تصرف فيه بالإقباض وقبض الثمن.
والقولان جاريان على ما حكاه الإمام في كل عقد يقبل الاستنابة كالإجارة، والهبة، والعتق، والنكاح والطلاق وغيرها.
وأما الشراء للغير بغير إذنه فإن كان بعين ماله فعلى القولين لا محالة، وإن كان في الذمة فكذلك عند بعض المحققين.
وعلى الجديد إن لم يسم المشتري له وقع عن نفسه، وكذا على القديم إذا رد وإن أضاف الثمن إلى نفسه فهو كما لو اشترى له بعين ماله، ولم يكن قد أذن له، والحكم فيه إلغاء التسمية. وهل يقع عنه أم يبطل من أصله؟ فيه الوجهان.
وإن كان قد أذن له فهل تلغو التسمية أيضاً؟ فيه وجهان - فإن ألغيت فالحكم كما تقدم وإلا فقد وقع عن الإذن. والثمن المدفوع يكون قرضاً أو هبة؟ فيه وجهان.
فائدة: هذه المسألة على القول القديم ملقبة بوقف العقود، وهذا اللقب ينظم معها مسألتين:
إحداهما: تأتي - إن شاء الله تعالى - في باب الغصب، وهي: إذا غصب أموالاً وباعها وتصرف في أثمانها.
والثانية: إذا باع مال أبيه على ظن أنه حي فإذا هو ميت، وبان أن المال له، ففي صحة البيع ولزومه قولان: نقلهما العراقيون كما نقلهما المراوزة، [على ما] حكاه الإمام.
وحكى البندنيجي الخلاف في كتاب العدد وجهين، وأن أصلهما القولان، [فيما] إذا كاتب عبده كتابة فاسدة ثم أوصى به وهو يعتقد صحة الكتابة، فإن في صحة الوصية قولين.
ووجه الصحة: صدوره من المالك.
ووجه البطلان – وهو ما حكاه البندنيجي في كتاب الهبة المنصوص [وكذا في "باب العفو" من كتاب الصداق]-: أن هذا العقد وإن كان منجزاً في الصورة فهو في المعن معلق والتقدير: إن كان مورثي قد مات فقد بعتك.
وأيضاً فإنه كالعابث؛ لاعتقاده أن المبيع لغيره.
قال الرافعي: ولا يبعد تشبيه هذا الخلاف بالخلاف في أن بيع الهازل هل ينعقد؟ وفيه وجهان.
وقال: إن الخلاف يجري فيما إذا باع العبد على ظن أنه آبق أو مكاتب فإذا هو قد رجع أو فسخ الكتابة وفيما إذا زوج أمة ابنه على ظن حياته فإذا هو قد مات وأجراهما ابن الصباغ فيما إذا كان له على رجل مائة درهم، وهو لا يعلم بها وأبرأه من مائة على ما حكاه في كتاب الصداق.
ويجري أيضاً فيما لو أعتق عبداً لابنه على هذا الظن، لكن الصحيح فيه النفوذ؛ لأنه يقبل صريح التعليق [فتقدير التعليق] أولى، حكاه الرافعي في أول نكاح المشركات.
ويجري أيضاً – على ما حكاه الإمام – في كتاب النكاح [فيما إذا قال: إن كان أبي قد مات فقد بعتك ماله لكنه مرتب وأولى بالبطلان.
ولا يجري] فيما إذا باع مال أبيه على ظن أنه مال نفسه ثم بان أن أباه قد مات قبل البيع، بل يصح قولاً واحداً كذا حكاه الإمام عن شيخه في باب مداينة العبيد. ثم قال: وهذا الذي ذكره مع حسنه محتمل.
واعلم أن ظاهر ما حكيته عن الإمام أولاً يقتضي أن قول البطلان هو الجديد، وقول الصحة هو القديم ويؤيده أنه قال بعد ذلك: وللشافعي في الجديد مرامز إلى
القولين في هذا النوع لكنه حكى في أول الوكالة: أن القولين نص عليهما الشافعي في الجديد.
وقد حكى الرافعي أن الصحيح منهما قول الصحة.
وفي "المهذب" في كتاب الرهن: أن المنصوص بطلان العقد والله أعلم.
قال: ولا يصح بيع ما لم يتم ملكه عليه -[كالمملوك بالبيع، والنكاح، وغيرهما من المعاوضات، أي: كالاشتراك، والتولية، والصلح، والإجارة، والخلع-[قبل القبض].
وقد تقدم في الباب الأول من الأحاديث ما يدل على منع بيع المبيع قبل قبضه. واختلف الأصحاب في المعنى الذي لجله منع:
فمنهم من قال: ضعف الملك؛ فإنه متعرض للسقوط بالتلف، وهذا قول أهل العراق.
ومنهم من قال: كي لا يؤدي إلى أن تكون العين الواحدة في آن واحد مملوكة لشخصين على التمام وذلك مُحال.
وبيانه: أن المبيع إذا تلف قبل القبض تبينا انتقاله إلى ملك البائع قبيل التلف، فلو جوز بيعه لكان له بائعان فيصير مضموناً للمشتري الأول على البائع بحكم عقده، ومضموناً عليه للمشتري الثاني بحكم عقده، فيلزم ما ذكرناه.
وهذا المعنىُّ من قول الفقهاء: توالي الضمانين، واستبعد الرافعي هذا التعليل وجعل الاعتماد على الأخبار، وهو قريب من كلام الإمام؛ فإنه جعل الغالب على هذا التعبد.
وأما عوض النكاح وغيره فلأنه مملوك بعقد معاوضة فلم يملك فيه التصرف قبل القبض كالمبيع.
وفي الصداق قول قديم رواه المراوزة أنه يجوز بيعه قبل قبضه، ومحل الإمعان فيه كتاب الصداق فليطلب منه.
وهذا القول أجراه الإمام والبغوي في بدل الخلع والصلح عن دم العمد، وجعله الماوردي وجهاً مخرجاً في الصداق وبدل الخلع من القول بأنهما إذا تلفا رجع بقيمتهما، وخصه القاضي الحسين في التعليق في دم العمد إذا قلنا: إن موجبه القود عيناً أو أحد الأمرين وصرح بالمصالحة عن القود.
أما إذا صرح بالمصالحة عن الدية فلا يجوز التصرف فيه إن جوزنا مثل هذا الصلح؛ لأنه مملوك بمعاوضة. أو قال: صالحتك عن موجب هذا القتل وصححنا هذا الصلح، وهو الأظهر، فلا يجوز أيضاً التصرف فيه قبل القبض احتياطاً على المذهب.
وفي الاشتراك والتولية وجه حكاه الشيخ أبو علي عن بعض الأصحاب – كمذهب مالك -: أنه يجوز.
ولا فرق فيما ذكرناه بين ما بيع مكايلة أو موازنة أو غيرهما.
وفي "تعليق" القاضي الحسين: أن في حرملة حكاية عن الشافعي في الكبير أن بيع المبيع قبل القبض جائز، إلا ما بيع مكايلة أو موازنة، فإنه لا يجوز بيعه قبل الكيل والوزن عليه.
ولا بين أن يكون قد صدر من البائع أو غيره كما تقدم ذكره على الصحيح من الوجهين.
ومحلهما إذا كان المثمن من جنس آخر أو أقل أو أكثر من الأول – وإن كان مثل الأول – ففيه خلاف مرتب على الصورة الأولى، وأولى بالجواز.
قال القاضي الحسين: ويرجع حاصل [هذا] الخلاف إلى أن الاعتبار باللفظ أو بالمعنى، فإن اعتبرنا اللفظ أجرينا الخلاف السابق، وإن اعتبرنا المعنى، جوزناه هاهنا، لأن هذا العقد معناه الإقالة، وهذا ما حكاه في "التتمة"، وسيأتي مثله عن ابن سريج في كتاب "السلم"، إن شاء الله تعالى،
ولا يستثنى من ذلك إلا إذا اشترى من مورثه شيئاً ولم يقبضه، ثم مات المورث، فإنه إن استوعب ميراثه، صح بيعه قبل قبضه؛ لأنه صار في يده شرعاً، سواء كان على المورث دين أو لم يكن.
فإن انتقل إليه نصفه مثلاً ملك التصرف في نصف المبيع.
والمقاسمة إذا قلنا: إنها بيع، فإنها تصح أيضاً قبل القبض؛ لأن الرضا فيها غير معتبر؛ لأن الشريك يجبر على ذلك.
وإذا لم يعتبر الرضا جاز ألا يعتبر القبض كما في الشفعة – كذا حكاه المتولي وقياسه على الشفعة بناء على الصحيح، وهو ما جزم به في "التهذيب"، وألا فهو قد حكى وجهاً أنه لا يجوز.
تنبيه: اقتصار الشيخ على منع عقد المعاوضة في المبيع قبل قبضه من بين سائر التصرفات – يعرفك أن اختياره في غيره إما التوقف وإما الجواز وهو وجه حكاه الأصحاب، وجزم به الماوردي في العتق والوقف والصدقة، والقاضي الحسين في الهبة والرهن والتزويج من الأجنبي.
وحكى في الهبة عنه وجهين، وابن خيران في الكتابة على ما [حكاه في] الحلية عند الكلام في تسليم المسلم فيه، وهو مناقض لما نقل عنه في منع العتق.
وقد حكاه الماوردي عن غيره في الكتابة، والإمام صححه في الإجارة.
ووراء ذلك مقالات للأصحاب منها: أن العتق إذا صدر وللبائع حق الحبس فمنهم من خرجه على عتق الراهن، ومنهم من نفذه، وهو الصحيح.
والفرق أن الراهن حجر على نفسه مع قوة حق الوثيقة فيه، وهذا لم يحجر على نفسه، وحق الوثيقة فيه ضعيف؛ ولذلك يسقط بالإعارة، كما سنذكره إن شاء الله تعالى.
ومنها: الوقف إن افتقر إلى القبول كان كالبيع، وإن لم يفتقر فهو كالإعتاق، والهبة، والرهن، [و] ادعى الرافعي أنهما ملحقان بالبيع عند عامة الأصحاب سوى الغزالي.
وفي "النهاية" الجزم في الهبة بالصحة بعد توفية الثمن. وحكاية الخلاف قبله، وقال: لا خلاف أن للبائع أن يمتنع من التسليم إذا أثبتنا له حق الحبس.
وفائدة الصحة: أن حق البائع إذا زال وقبضه المشتري لا يحتاج إلى تجديد عقد.
وقال الماوردي: الخلاف فيها مأخوذ من [الاختلاف في قولي] الشافعي في أنها: هل يلزم فيها المكافأة أم لا؟
فإن قيل: إن المكافأة تلزم لم تصح، وإن قيل: إن المكافأة لا تجب فيها صحت.
وقطع في الرهن بالمنع إذا كان محبوساً بالثمن وأجرى الخلاف عند عدم الحبس.
وفي الرافعي: أن الأصح في الإجارة عند المعظم المنع، وأن الخلاف فيها مبني على أن عقد الإجارة يرد على العين أو المنفعة؟ فإن قلنا: يرد على العين لم يجز، وإن قلنا: يرد على المنفعة جاز.
والتزويج صحيح عند المعظم، وأشار الإمام إلى وجه فارق بين أن يكون للبائع حق الحبس فلا يصح، أو لا فيصح، وهو جار في الإجارة إذا نقصت القيمة.
وإذا صحت هذه التصرفات فهل يحصل القبض؟
أما في العتق والوقف والصدقة إذا كان المبيع جزافاً: فنعم، حتى لو لم يرفع البائع يده عن الموقوف والمتصدق به يصير مضموناً عليه بالقيمة؛ صرح به الماوردي، وإن رفع يده عنه برئ.
وأما الهبة والرهن: فنفس العقد ليس بقبض، فإن قبضه المشتري من البائع وسلمه إلى المرتهن أو المتَّهب، فقد حصل الغرض، فإن أذن لهما حتى قبضاه؛ ففي "التهذيب": أنه يكفي، ويتم به البيع والهبة والرهن.
وقال الماوردي: لا يكفي، ولكن ينظر إن [قصد] قبضه للمشتري، صح له وافتقر إلى استئناف قبض الهبة، فإن أذن له [في] أن يقبضه لنفسه لم يصح، [وإن قصد قبضه لنفسه فلا يصح] قبضه للمشتري ولا لنفسه، ويكون البائع ضامناً للعين بالثمن والمشتري بالقيمة إذا تلفت في يد المتهب، وهل يكون المتهب ضامناً بالقبض؟ فيه وجهان.
وما ذكره مباين لما حكاه في باب اختلاف المتبايعين، فإنه قال: لو أجر المشتري المبيع قبل إقباض الثمن كان للبائع أن يمنع المستأجر منها: [لأن تمكين
المستأجر منها] تسليم إلى المشتري.
والتزويج ووطء الزوج لا يكون قبضاً عن جهة البيع، ووطء المشتري بعد رفع يد البائع قبض؛ صرح به الماوردي.
فرع: هل ينفذ تصرف المشتري في الزوائد الحاصلة من المبيع قبل القبض؟ فيه وجهان، ينبنيان على أن الفسخ لو وقع، رفع العقد من أصله أو من حينه؟
فإن قلنا بالأول لم يصح، وإلا فيصح.
قال: فأما ما ملكه بالإرث، أي: وكان المورِّث يملك التصرف فيه أو الوصية أو عاد إليه بفسخ أو عقد جاز له بيعه قبل القبض؛ لأن ملكه عليه مستقر فأشبه المبيع بعد القبض.
ولا فرق في العود إليه بفسخ عقد بين أن يكون الثمن في جهته أم لا، كما صرح به المحاملي عن ابن سريج [عند الكلام] فيما إذا كان البيع فاسداً، ووجهه بأن صاحب العين المبيعة لم يدفعها إليه على سبيل الرهن، وإنما دفعها إليه بيعاً، فإذا فسخ البيع ارتفع ما بينهما من التبايع وصار كأنه لم يبعه، فصار كسائر أمواله لا يجوز حبسه.
وفي "التتمة": أن الثمن إذا كان في جهته لم يجز له البيع قبل توفيته، وهو قريب مما حكاه الغزالي في كتاب الغصب عن القاضي عن نص الشافعي في غير "المختصر"، فيما إذا اشترى شراءً فاسداً أن له حبس المبيع إلى أن يرد عليه الثمن.
تنبيه: قول الشيخ: "أو الوصية" يشمل ما إذا قلنا: إنه يملك الوصية بالقبول أو بالموت، ويتضمن منع التصرف بعد الموت إذا قلنا: إنه لا يملك به.
على أن القاضي الحسين في التعليق حكى في هذه الصورة وجهين بناءً على أن القبول يحصل في ضمن البيع أو لا؟ والذي جزم به الماوردي: أنه لا يصح قبل القبول مطلقاً.
وقوله: "أو عاد إليه بفسخ عقد" يشمل ما تكون العين فيه مضمونة عند من هي تحت يده كالثمن والمبيع ورأس مال السلم إذا كان باقياً، وغير ذلك مما هو في
معناه، وما إذا لم يكن مضموناً كالعين الموهوبة للولد إذا رجع فيها الأب، والمرهونة بعد فك الرهن، والمستأجرة بعد انتهاء مدة الإجارة إذا منعنا بيع المستأجر.
وذلك ينبهك إلى جواز التصرف في كل عين تحت يد الغير أمانة كمال القراض والشركة والمال في يد الوكيل وغير ذلك.
أو مضموناً لا يبطل بتلفه سبب الملك كالمغصوب والمستعار والمستام، أما إذا كان رأس مال السلم وغيره تالفاً عند الفسخ فقد صار ديناً في الذمة، وحكم بيع الدين سيأتي في القرض، إن شاء الله تعالى.
حكى ابن كج: أن الأب ليس له بيع ما رجع فيه من هبته لولده، وهو غريب، ووراء ما ذكره الشيخ صور:
منها: إذا أخرج السلطان رزق رجل، حكى صاحب التلخيص عن نص الشافعي أنه يجوز بيعه قبل القبض فمن الأصحاب من قال: هذا إذا أفرزه السلطان فتكون يد السلطان في الحفظ يد المفرز له.
ومنهم من لم يكتف بذلك وحمل النص على ما إذا وكل وكيلاً يقبضه فقبضه الوكيل ثم باعه الموكل وألا فهو بيع شيء غير مملوك، وهذا ما أورده القفال في الشرح.
ومنها: بيع أحد الغانمين نصيبه على الإشاعة قبل القبض صحيح، إذا كان معلوماً، كما إذا كانوا خمسة، فالخمس لأهل الخمس، ولهم الخمسة أربعة أخماسها.
ومنها: بيع غلة الوقف عليه صحيح قبل قبضه.
ومنها: بيع الصيد الذي أزمنه أو وقع في شبكته صحيح.
ومنها: إذا كان له في ذمة إنسان دنانير مستقرة يصح بيعها منه قبل قبضها بدراهم، على ما سنذكره [إن شاء الله تعالى] من التفصيل.
قال: ولا يجوز [بيع] ما لا يقدر على تسليمه، كالطير الطائر، أي: وإن كان من عادته العود- والعبد الآبق – أي: وإن عرف موضعه – وما أشبههما مثل: الجمل الشارد، والفرس العائر والسمك في الماء، والعبد المنقطع الخبر، وأنواع ذلك.
ووجهه: ما روى أبو هريرة وابن عباس – رضي الله عنهما – أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن [بيع] الغرر.
وروى مسلم عن أبي هريرة عنه – عليه السلام: أنه نهى عن بيع الغرر.
وحقيقة الغرر: ما تردد بين جوازين متضادين الأغلب منهما أخوفهما، كذا قاله الماوردي، وغيره عبر عنه بأنه الذي ينطوي عنا عاقبته، ومنه أغر الثوب، يقال: رد الثوب إلى غره، أي: إلى طيه، وذلك موجود فيما ذكرناه.
وقد رُوي أنه – عليه الصلاة والسلام – نهي عن بيع الآبق.
ووراء ذلك أمور أخرى:
أحدها: حكى الماوردي والمحاملي وغيرهما عن تخريج ابن سريج في النحل وجهاً: أنه يجوز بيعه خارج الكوارة إذا كانت معلومة.
وفرق الماوردي بينها وبين غيرها من الطيور: بأنها إذا حبست عن الطيران تلفت؛ لأنها لا تقوم إلا بالرعي، ولا نفع فيها إلا عند الطيران؛ لرعي ما يستخلف من العسل، وليس كذلك ما سواها؛ لأن حبسه ممكن ومنفعته مع الحبس حاصلة.
وحكى الإمام: أن المذهب في غيرها – إذا كانت عادته العود – صحة البيع
كالعبد، والأكثرون على الأول، وهو ما جعله الغزالي الأظهر، وحكى أيضاً فيه وجهاً فيما إذا كان في دار فيحاء يعلم حصوله لكن بعد عسر.
وهو جار في "السمك في البركة الكبيرة إذا كان قد شاهده، وهو – في السمك – من تخريج ابن سريج، ولو لم يكن قد شاهده فلا يصح البيع.
قال الماوردي: وقد غلط بعض أصحابنا، فخرجه على بيع الغائب، وهو غلط؛ لعدم القدرة على وصفه، ومقتضى هذا: انه إذا علم قدره ووصفه أن التخريج يتجه كما صرح به الرافعي.
وأحسن بعض الأصحاب فقال في العبد الآبق: إذا عرف مكانه، وعلم أنه يصل إليه إذا رام الوصول فليس له حكم الآبق.
وأبدى الإمام في جواز بيع المنقطع الخبر مع اتصال الرفاق، وعدم إجزائه في العتق عن الكفارة ظاهراً احتمالاً في جاوز بيعه، ثم قال: ومما يجب ذكره أنّا إذا منعنا البيع فلو [تبين] بقاء العبد فالظاهر عندي نفوذ البيع، وإن كان يلتفت على الوقف، ولكن إذا بان الأمر وكان البيع مستنداً إلى الملك والتمكن من التسليم فظن التعذر لا يبقى أثره مع تبين خلافه، وكان في المعاملات [أيضاً] يضاهي صلاة الخوف من سواد يحبسه عدواً ثم تبين خلافه، هكذا حكاه في "باب اللقيط".
ومن هذا القبيل بيع المغصوب الذي لا يقدر على انتزاعه لا يصح بيعه من غير الغاصب، ويكفي في ذلك غلبة الظن لا التحقيق ويصح بيعه منه، وكذا من غيره إذا كان [البائع أو المشتري] يقدر على نزعه منه، عند الشيخ في "المهذب"، والماوردي، وابن الصباغ، والمحاملي، وهو الصحيح عند غيرهم، لكن يثبت للمشتري الخيار إن كان هو القادر على تخليصه، وقد جهل الحال عند الشراء،
وكذا إذا علم وعجز؛ لضعف طرأ عليه، أو قوة طرأت للغاصب.
[وفي الرافعي حكاية وجه أشار إليه الإمام: أنه لا خيار له، وعلى الأول] لو ادعى البائع أنه قادر على الانتزاع، فالقول قول المشتري مع يمينه، وكذا الحكم في بيع الآبق ممن يقدر على رده، ويجوز تزويج الآبقة والمغصوبة وإعتاقها بخلاف المكاتبة؛ على ما حكاه في البيان.
وفي كلام الماوردي عند الكلام في القبض حكاية عن ابن سريج ما يدل على صحة هبة الآبق.
فرع: لو باع قطع جمد وزناً، وكان [مما] ينماع بعضه [إلى] أن يوزن، ففي صحة بيعه وجهان منقولان في الرافعي في أواخر كتاب الإجارة عن فتاوى القفال.
قال: ولا ما في تسليمه ضرر، أي: على البائع، وقد يجامعه ضرر المبيع، كالصوف على ظهر الغنم؛ لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع اللبن في الضرع والصوف على ظهر [الغنم]، ولأنه إن لم يشترط الجز فهو يزداد، وما يزاد بها
يكون داخلاً في البيع فيؤدي إلى اختلاط المبيع بغيره وذلك ممتنع، كما سنعرفه من بعد – إن شاء الله تعالى – ولأن الحيوان قد يموت فيتنجس.
وإن شرط الجز فلا عرف منضبط حتى يرجع إليه، وظاهر العقد يقتضي أن يقطعه من أصله، وفي ذلك إضرار بالحيوان فيمنع منه.
وحكى [عن] بعض أصحابنا: أنه يجوز إذا شرط الجز.
ولا خلاف أنه إذا عيّن موضع الجز، صح البيع، إلا ما أبداه الغزالي احتمالاً من أجل أن به تغيير عين المبيع.
ثم ما ذكرناه إذا كانت الغنم حية، أما المذكاة: فيجوز بيع الصوف عليها؛ إذ ليس في استيعاب جميعه إيلام، قاله الرافعي.
وفي "تعليق" القاضي الحسين في باب الوقت الذي يحل فيه بيع الثمار: أنه إذا سلخ الجلد، فباع ما عليه من شعر دون الجلد لم يصح؛ لأنه لا يمكن استيعاب جميعه بالجز؛ لأنه يتعيب به الجلد ويتضرر به البائع.
قال في "التهذيب": ويجوز الوصية بالصوف على ظهر الغنم.
قال: وبيع ذراع – أي: معين – من ثوب ينقص قيمته بقطعه، أي: نقصاناً يختل بمثله؛ لأن الشرع منع من إضاعة المال، وجواز البيع يفضي إليه، أو يتقاعد عن إيجاب التسليم. وأيضاً فإنه يفضي إلى تغيير عين المبيع، والبيع لا يوجبه، فيتقاعد البيع أيضاً عن إيجاب التسليم، وهذا ما اختاره الشيخ أبو حامد وحكاه صاحب التلخيص نصاً، وجزم به الإمام، وقال: لم يتثبت أحد بالخلاف. وإن رضي البائع بالنقص.
وفيه وجه حكاه الشيخ في "المهذب"، وابن الصباغ وغيرهما، وبه قال صاحب "التقريب"، وجزم به الماوردي -: أنه يصح؛ كما لو باع ذراعاً معيناً من أرض أو دار.
ومن قال بالأول فرق بأن التمييز في الأرض يحصل بالعلامة بين النصيبين، [من غير ضرر.
قال الرافعي: ولمن نصر خلافه أن يقول: الضرر حاصل بتضييق مرافق البقية
بالعلامة وبتنقيص القيمة]، فوجب أن يكون الحكم ما في الثوب.
واعترض ابن الصباغ على التعليل بالضرر بأنهما إذا رضيا به، وجب أن يصح البيع كما يصح بيع إحدى زوجي الخف، ومصراعي الباب وإن نقص تفريقهما من قيمتهما.
و [اعترض] الماوردي: بأن هذا التعليل يفضي إلى نقص البيع في جميع المُشَاعات بما يستحقه من قسمتها المفضية إلى تنقيص الحصص، فاقتضى أن يكون مطرحاً.
قلت: وقد يجاب عما قالاه بأن الملكية فيما ذكراه لا تذهب بحيث لا يمكن تلافيها، بدليل زوال ما ذكر من النقص بشراء البائع ما باعه أو شراء المشتري ما بقي، ومالية النقص في بيع الذراع من الثوب ذهبت بالكلية لا تدارك لها فإضاعة المال محققة.
وقد جزم البغوي وغيره بمنع بيع نصف من سيف أو إناء.
وقال الرافعي: القياس طر الوجهين فيه أيضاً.
أما إذا لم تنقص قيمة الثوب بقطعه [أي: يقطع الذراع المبيع] كالكرباس الصفيق؛ فالذي أورده الجمهور الصحة.
وحكى الإمام ومن تابعه وجهاً، واختاره صاحب التلخيص: أنه لا يصح.
ولو باعه ذراعاً غير معين فالحكم فيه كما سنذكره، فيما لو باعه ذراعاً من أرض؛ إن جوزنا مثل ذلك، ولم ينظر إلى قطع الثوب، ولا يجيء الوجه الذي انفرد [به] الإمام بنقله ثَمَّ.
فروع:
إذا باع شيئاً معيناً من جدار أو اسطوانة؛ نظر: إن كان فوقه شيء لم يجز لأنه لا يمكن تسليمه إلا بهدم ما فوقه.
وإن لم يكن، نظر: إن كان قطعة واحدة من طين أو خشب وغيرهما، لم يصح،
وإن كان من لبن أو آجر جاز، هكذا أطلقه في التلخيص، وهو محمول عند الأئمة على ما إذا جعل النهاية [شق نصف من الآجر واللبن دون أن يجعل القطع نصف سمكها].
وفي "النهاية": أن الحكم في الخشبة كالحكم في الثوب، فإن كان القطع ينقصها لم يجز، وإلا فوجهان.
قال الرافعي: وفي تجويز البيع إذا كان من لبن أو آجر إشكال- وإن [جعل] النهاية ما ذكره – من وجهين:
أحدهما: إن كان موضع الشق قطعة واحدة من طين أو غيره، فالفصل الوارد عليه وارد على ما هو قطعة واحدة.
والثاني: يثبت أنه ليس كذلك رفع بعض الجدار ينقص قيمة الباقي، وإن لم يكن قطعة واحدة فيفسد البيع؛ ولهذا قالوا: لو باع جذعاً في بناء لم يصح؛ لأن الهدم يورث النقاصن، فأي فرق بين الجذع والآجر، وكذا لو باع فصاً في خاتم.
وذكر بعض الشارحين للمفتاح في تفاريع هذه المسألة: أنه لو باع داراً إلا بيتاً في صدرها لا يلي شارعاً ولا ملكاً له، على أنه لا ممر له في المبيع لا يصح. انتهى.
وحكى القاضي الحسني مع هذا وجهاً آخر أنه يصح.
ومحلهما إذا لم يمكنه إيجاد ممر، أما إذا أمكنه صح.
ولو لم ينف الممر، ففي الرافعي أنه يستحق الممر، وفي "تعليق" القاضي الحسين في استحقاقه الممر في المبيع وجهان.
قال: ولا يجوز بيع المعدوم أي: كالثمرة التي لم تخلق؛ لنهيه – عليه السلام – عن بيع الغرر، وقوله صلى الله عليه وسلم:"لا يحل بيع ما ليس عندك" كما خرجه الترمذي. وقال: إنه حديث حسن صحيح.
قال: ولا بيع العربون.
وصورته على ما قال القتبي: أن يشتري سلعة، ويدفع درهماً أو ديناراً على أنه إن تم البيع كان المدفوع من الثمن، وإن لم يتم ورد السلعة؛ كان ذلك للبائع.
ووجه فساده: نهيه- عليه السلام – عن بيع الغرر، وروي أنه – عليه السلام:"نهى عن بيع المُسْكان" وهو بعي العربون، وجمعه مساكين، كما جمعوا العربان على عرابين؛ ولأن معنى القمار قد تضمنه.
ويقال في هذا أيضاً: أَرْبون، وأُرْبان، وُعرْبان، وعَرَبون، وعُرْبون، وبذلك تكمل فيه ست لغات، وهو أعجمي عُرِّب، واللغة العالية عربون بالفتح، وأصله في اللغة التسليف والتقديم.
وبعضهم استدل على بطلان هذا البيع بما روي [عن] عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن بيع العربان" وهو منقطع عند أبي داود.
وفي سنده ابن لهيعة.
وما رُوي أنه – عليه السلام – سئل عن العربان فأحله، وأن زيد بن أسلم راويه سئل عنه [فقال]: هو الرجل يشتري السلعة، فيقول: إن أخذتها، وألا رددتها ورددت معها درهماً – هو مرسل، وفي إسناده الأسلمي.
قال: ولا يجوز بيع ما يجهل قدره كبيع الصبرة إلا قفيزاً منها، أي: وهي مجهولة [لهما]؛ لما روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة، والمزابنة، [والمعاومة] والمخابرة، وعن الثنيا، ورخص في العرايا.
وقال النسائي: "وعن الثنيا إلا أن تعلم".
قال المحاملي: والثنيا: أن يبيع شيئاً ويستثني بعضه؛ ولأن الصبرة ليست معلومة بكيل ولا وزن، وإنما التعويل في إعلامها على العيان، فإذا استثنى منها مقداراً اختل به ضبط العيان، فلا يشار إلى شيء منها [إلا] وللصاع المستثنى منه نصيب، وذلك يكسب المبيع جهالة لا تحتمل.
كذا وجه الإمام المنع فيما إذا باع ثمرة البستان إلا مُدَّا منها، وقال: إن المنع متفق عليه في كتبه الجديدة والقديمة، وأن بيع الصبرة إلا قفيزاً منها مثله.
أما إذا كانت الصبرة معلومة لهما؛ فالبيع صحيح، والاستثناء ثابت، ولا حاجة إلى ذكر أمداد الصبرة لفظاً.
وكذا يجوز بيع الصبرة إلا ربعها أو جزءاً معلوماً منها وإن كانت مجهولة.
ومن طريق الأولى إذا باع جميع الصبرة وهي مجهولة.
ولكن هل يكره؟ فيه قولان في "الشامل" وغيره.
وعكس هذه المسألة، لو قال: بعتك صاعاً من هذه الصبرة وكانت معلومة الصيعان، كعشرة مثلاً؛ صح العقد؛ لأنه قد وجد مورداً يمكن الإشارة إليه، لكن ينزل
العقد على الإشاعة، ويكون المبيع منها العشر، حتى لو تلف منها صاع بطل العقد في عشر المبيع، وفي باقيه تفريق الصفقة.
أو [ينزل العقد] على واحد منها على الإبهام، وللبائع التعيين.
ولو تلف إلا صاعاً بقى العقد [فيه]، وفيه وجهان، اختيار القفال منهما على ما حكاه الإمام الأول، وهو الذي عليه الجمهور، كما حكاه الرافعي، وبه جزم في الوجيز.
ولو كانت مجهولة الصيعان، ففي صحة البيع وجهان، بناهما الإمام على الخلاف فيما إذا كانت معلومة الصيعان.
فإن نزل العقد على صاع منها صح هاهنا كذلك، وإن نزل على الإشاعة بطل هاهنا؛ لأنه بيع جزء مجهول.
قال الإمام: واستدل القفال عليه بما لا مدفع له فقال: لو قسمت الصبرة أمداداً وميزت، ثم قال مالكها: بعتك مدًّا منها فالبيع باطل، ولا فرق بين أن تتميز كذلك وبين أن تجمع، ولا بين بيع شيء مجهول القدر مضبوطاً بالعيان يستثني منه مقدور وبين بيع مقدر مضاف إلى مجهول القدر مضبوط بالعيان، وهذا معنى قول الغزالي:"فأي فرق بين استثناء المعلوم من المجهول، واستثناء المجهول من المعلوم والإبهام يعمهما؟ "؟! وفي الفرق غموض.
وقد ذكر في "تعليق" القاضي الحسين فرق بين ما أورده القفال أولاً وبين هذه المسألةُ وهو أن الصيعان إذا فرقت تتفاوت في الكيل؛ لأنه ربما كان أحدهما أكثر من غيره لو كيل ثانياً، ولم يوجد هذا المعنى في مسألتنا، وهذه المادة مأخوذة مما ذكرناه فيما إذا اشترى طعاماً مكايلة فقبضه، ثم باعه مكايلة، لابد من كيله ثانياً؛ لهذا المعنى.
وفي شرح التنبيه لابن التلمساني فرق بين ما أورده القفال ثانياً وبين مسألتنا وهو أن المبيع في مسألة الصاع معلوم القدر، والمبيع فيما استشهد به مجهول القدر، فإنه مع تقدير الإخراج لا تبقى البقية المنسوبة إلى المشاهدة والتخمين إذا كان المبيع هو الجملة إلا صاعاً، فانحسمت طرق التعريف من الإشاعة بالجزئية والمشاهدة، وقد كان القفال إذا سئل عن هذه المسألة يفتي بالوجه الأول ويقول: المستفتي يستفتي
عن مذهب الشافعي لا عما عندي.
واعلم أن بناء الإمام قد يظهر أنه مناقض، فإن ظاهر المذهب على ما حكاه عند الكلام في "بيع ذراع من الدار" والأصح على ما حكاه في كتاب القراض وغيره أيضاً صحة البيع، حتى قال في "التهذيب": لو لم يبق إلا صاع سلم إليه، وما حكى عن الجمهور تنزيل العقد في حالة العلم على الإشاعة، ومقتضاه أن يكون الراجح عدم الصحة، لكن سبيل تصحيحه أن يقال: إنهم ينزلون العقد على الإشاعة إذا أمكن.
وإذا لم يمكن فهو منزل على صاع منها؛ لاستواء الغرض، وهذا مصرح به في "تعليق" القاضي الحسين، وإليه أشار الرافعي أيضاً.
وبنى الغزالي الخلاف في هذه المسألة على مأخذ فساد البيع فيما إذا قال: بعتك عبداً من هذه الأعبد الثلاثة، هل هو الغرر الذي فيه مع سهولة الاجتناب عنه، أو لأن العقد لابد له من مورد يتأثر به كما في النكاح؟
فعلى الأول يصح هاهنا إذ لا غرر؛ لتساوي أجزاء الصبرة بخلاف العبيد، وإن تساوت قيمها؛ لأن أعيانها مقصودة.
وعلى الثاني يبطل، وهو الأصح عنده.
وقد حكى في "التتمة" عن القديم قولاً مثل مذهب أبي حنيفة أن البيع يصح في مسألة العبيد إذا قال: بعتك أحد عبيدي أو عبيدي الثلاثة على أن تختار من شئت في ثلاثة أيام فما دونها، وعلى هذا لا يمكن البناء، والمذهب بطلان البيع.
وفساد القديم يظهر بعدم اطراده في الثياب وغيرها من الدواب والأعيان، فإن أبا حنيفة لم يطرد قوله كما حكاه أصحابنا فيها، ولا فيما زاد على الثلاثة أبعد.
ولو لم يملك من الأعبد الثلاثة إلا واحداً فقال: بعتك عبدي منها، وهو غير معروف، ففي "التهذيب" الجزم بالبطلان، وفي "التتمة" تخريجه على بيع الغائب مع مشاهدة جميعهم.
فرع: لو قال: بعتك صاعاً من هذه الصبرة ونصف الباقي بعده – لم يصح؛ لأن الباقي يبقى مجهولاً، قاله القاضي الحسين.
وأبدى الإمام فيه في كتاب القراض احتمالاً من حيث إن بيع الصاع وحده مع
جهالة الصبرة صحيح، فَذِكْرُ بعضها بعد أخذ الصاع [منها] كذكر نصفها من غير أخذ نصف الصاع.
ولو قال: بعتك نصف الصبرة وصاعاً من النصف الآخر، لم يصح.
قال القاضي الحسين في كتاب المساقاة: لأنه لم يصر المبيع من الصبرة معلوماً بالجزئية.
قال الإمام: وهذا التفريع إنما يحسن إذا لم نجوِّز بيع صاع من صبرة مجهولة الصِّيعان، فإن جوزناه فبيع النصف من الصبرة المجهولة جائز، وبيع صاع من النصف الباقي، كصبرة مجهولة بيع صاع منها.
آخر: بيع القز وفيه الدود يجوز جزافاً، وبالوزن لا.
تنبيه: الصبرة: واحد الصُّبَر، وهي الكومة المجموعة من الطعام، وسميت صبرة؛ لإفراغ بعضها على بعض.
والقفيز: مكيال سعته ثمانية مكاكيك، والمكوك: صاع ونصف، والعرق: ستة عشر رطلاً.
والإردب، قال الإمام: مكيال من مكاييل مصر، واللفظ من لغة أهله.
وقيل: إنه يسع أربعة وعشرين صاعاً، قاله في باب الشروط التي تفسد البيع. والنووي أطلق حكاية ذلك.
والقّنْقَل: نصف أردب، والكُر: سِتُّون قفيزاً.
قال: ولا يجوز بيع ما يجهل صفته. هذا الكلام فيه إشارة إلى علة المنع، ووراءها أمور نذكرها.
قال: كالحمل في البطن، أي: إذا أفرد بالعقد؛ لنهيه- عليه السلام – عن بيع الغرر وعن بيع المجر، والمجر – بميم مفتوحة وجيم ساكنة وراء مهملة -: هو شراء ما في الأرحام، وعن بيع الملاقيح والمضامين، والملاقيح: ما في البطون من
الأجنة، والواحد منها: ملقوحة، والمضامين: ما في أصلاب الفحول، ولأنه غير مقدور على تسليمه، ويجهل قدره هل هو واحد أو أكثر؟
ولا فرق في ذلك بين أن يبيعه من مالك الأم أو من غيره.
أما إذا بيع مع أمه بان قال: بعتك الجارية وحَمْلها بكذا فهل يصح؟ فيه وجهان محكيان في "تعليق" القاضي الحسين، وبناهما المتولي على أن الحمل هل يقابله قسط من الثمن عند الإطلاق أم لا؟
فإن قلنا: لا يقابله، بطل.
وإن قلنا: يقابله، فالمذهب أن العقد صحيح، وقوله:"وحملها" تصريح بمقتضى العقد.
وهكذا الحكم فيما إذا قال: بعتك الجبة وحشوها.
ولا خلاف أنه إذا باع الأم من غير تعرض لذكر الحمل في اندراجه [إذا لم يكن] بقيةً من حمل وضعت بعضه، لكن هل يقابله قسط من الثمن أم لا؟ فيه وجهان ينبنيان على أن الحمل هل يعرف أم لا؟ والصحيح أنه يعرف.
وإذا كانت الأم ثمناً أو صداقاً أو أجرة أو بدلاً في خلع أو صلح فحكمه في التبعية كما إذا بيعت، وهذا إذا وقع البيع بالاختيار.
أما إذا وقع لا عَنْ رضا المالك البيع المحتوم في حق المرتهن، ففي تبعيته للأم قولان جاريان فيما لو انتقل الملك عن الأم قهراً بفسخ العقد وقد حدث في ملك المنتقل عنه، ويستوي فيه الرد بالعيب، وبسبب الإفلاس، والرجوع في الهبة، وهل تستتبعه الأم في العقود الاختيارية الخالية عن المعاوضة كالرهن والهبة؟ فيه قولان، والجديد في الهبة: أنه لا يتبع.
وحكم الثمرة غير المؤبرة حكم الحمل فيما ذكرناه، صرح به الإمام في باب الخراج بالضمان، والماوردي فيا لثمرة أيضاً في باب ثمرة الحائط.
أما إذا كان الولد المجنن بقية حمل وضعت بعضه في يد البائع ثم وضعت باقيه في يد المشتري، قال الإمام في آخر "النهاية": ظاهر نص الشافعي أن الولدين للبائع، وهو خلاف القياس.
قال الشيخ أبو علي: كان الخضري يحكي قولين في المسألة:
أحدهما: ما نسبناه إلى النص.
والثاني - ما رأيناه الصواب، لا يجوز غيره -: أن الثاني للمشتري.
ثم إذا حكمنا بأن الحمل للبائع فيجب أن يحكم بفساد البيع في الأم على ظاهر المذهب.
قلت: وهذا الخلاف كالخلاف في استتباع ما أُبّرَ ما ولم يطل وسنذكره إن شاء الله تعالى.
قال: واللبن في الضرع، لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع اللبن في الضرع، ولأنه مجهول القدر، فإن الضرع قد يكون ثخيناً فيكون اللبن قليلاً، وقد يكون رقيقاً فيكون اللبن كثيراً؛ ولأنه يتجدد شيئاً فشيئاً إذا أخذ في الحلب، وما يحدث ليس مبيعاً، فلا يتأتى التسليم.
ولا فرق في ذلك بين أن يعين قدراً من اللبن أو [لا] على الصحيح من المذهب؛ لأن وجود القدر المذكور في الضرع لا يتحقق.
وفي توجيه القاضي الحسين [له] أنه قيل: إن ما في الضرع يكون دماً، ثم ينقلب بالحلاب لبناً بجريانه على عروق الضرع.
وفيه وجه: أنه يصح، إذا رأى منه أنموذجاً، وقال للطالب: بعتك من هذا اللبن الذي في الضرع مُدًّا مثلاً.
قال الإمام: وهذا يحتاج إلى فضل نظر، فإن باع مقداراً لا يتأتى حلبه إلا ويتزايد اللبن مع حلبه، فلا ينفع أبداً الأنموذج، فإن المانع قائم.
وذكر الوجهين مطلقاً يشير إلى أن المحذور حيث لا أنموذج، وعدم الرؤية، أو عدم الإحاطة بالصفات.
ومن سلك هذا المسلك يلزمه التخريج على بيع الغائب، وكان شيخي يتأنق في التصور ويقول: إذا ابتدر حلبه واللبن على كمال درَّته، لم يظهر اختلاط شيء به له قدر وبه مبالاة، وإن فرض شيء على بعد- فمثله محتمل، كما إذا باع جزءاً من قرط.
فإذا قل مقدار المبيع وتصور بالصورة التي ذكرناها، وفرض أبداً الأنموذج فينقدح ذكر خلاف هاهنا.
ومن حقيقة هذا أن الخلاف إذا رُدَّ إلى تقليل المقدار، فلا حاجة إلى ذكر الأنموذج في التخريج على الخلاف.
وحاصل القول: أنه إذا ظهر الزائد والاختلاط، امتنع البيع قولاً واحداً، وإن قل المقدار، فمن أصحابنا من يرى إلحاق هذا ببيع الغائب.
ومنهم من حسم الباب وراء إلحاق القليل بالكثير؛ فإنه لا ضابط للقدر الذي يقال فيه: إنه مبيع خالص غير مختلط، وهذا ما حكاه المتولي.
ولما تأمل الغزالي كلام الإمام قال: وغلط الفوراني إذ ذكر في الأنموذج وجهين، وصور محل الخلاف فيما إذا قبض على قدر من الضرع و [أحمك] شَدَّهُ.
قال والمسك في الفأرة [أي]: قبل الفتق، كما صرح به المحاملي، والإمام؛ لأن بقاءه في غير الفأرة ممكن؛ فلم يصح بيعه مع استتاره بها، والجهل بقدره كالدر في الصدف.
وحكى الإمام عن صاحب "التقريب" وغيره عن ابن سريج: أنه قال: يصح بيعه؛ لأن بقاءه فيها من مصلحته؛ لأنها تحفظ رطوبته ورائحته، فكان بمنزلة الجوز واللوز في قشره.
وقال الإمام: الوجه عندنا تخريج البيع على بيع الغائب؛ فإن بيع المسك في فأرته مع فأرته لا يزيد على بيع الثوب في الكم، فإن كان ما ذكره الأصحاب جواباً على منع بيع الغائب فصحيح.
وإن قطعوا بالفساد، وفرقوا بينه وبين الغائب، فهذا لا سبيل إليه.
والتخريج على بيع الغائب هو المذكور في "تعليق" القاضي الحسين فيما إذا باع المسك دون الفأرة، وصحة البيع مع الفأرة، وهو مفرع على القول بطهارة الفأرة، وهو الصحيح، أما إذا قيل بنجاستها جاء في ذلك الخلاف في تفريق الصفقة، وسنذكره.
ولو كان راس الفأرة مفتوحاً، وقد رأى المسك فيها، فقد صرح الماوردي بصحة بيعه جزافاً وبالوزن، وفصل المتولي، فقال: إن لم يتفاوت ثخنها، ورأى جوانبها، صح، وإلا فلا.
وقال الإمام: الحكم في ذلك ما إذا باع السمن مع ظرفه، والذي ذكره بعض المحققين فيه مثل ما قاله المتولي في الفأرة، وخرجه أبو حامد على بيع الغائب، وأن الأوجه القطع بالفساد.
قال الإمام: وهذا الذي ذكره صحيح لا شك فيه.
فرع: بيع اللحم في الجلد قبل السلخ، لا يصح على الأصح.
وقيل: يتخرج على بيع الغائب، وهكذا الحكم فيما إذا بيعا معاً.
وبيع القطن بعد التشقق في جوزه لا يصح – وإن كان على الأرض – عند أبي حامد.
وفي جواز بيع الجوهر لمن لا يعرف الجوهر من الزجاج وجهان.
تنبيه: فأرة المسك مهموزة، كفأرة الحيوان، ويجوز ترك الهمز.
وقال الجوهري: ليست مهموزة وهي تنفصل عن الظبية خلقة، وحشوها السك، وذلك مخصوص بذلك الجنس، وهي على موضع السرة منها، والرب – تعالى – يربي في كل سنة فأرة، وينميها وتبقى ملتحمة ثم تستشعر بأطرافها قمثفاً فتحتك الظبية بالصَّرار والمواضع الخشنة فتسقط الفأرة. كذا قاله الإمام.
قال: وبيع ذراع من الدار أي: غير معين، وهما لا يعلمان ذرعان الدار؛ لأنه لا يمكن حمله على الإشاعة للجهل بالنسبة، ولا على ذراع غير معين لاختلاف أجزائها، وذلك غرر، بخلاف بيع صاع من صبرة مجهولة، حيث صححنا العقد على ظاهر المذهب؛ لأنها متساوية الأجزاء، فأمكن تنزيل العقد على صاع لا بعينه.
أما لو علما ذرعان الدار، فالبيع صحيح، وينزل على الإشاعة.
قال الإمام: إلا أن يعني بالذراع معيناً، لا على تأويل الإشاعة، فلا يصح العقد حينئذ.
ولو اختلف البائع والمشتري، فقال المشتري: أردت جزءاً شائعاً فيها. وقال البائع: بل أردت ذراعاً معيناً لا على مذهب الإشاعة، بل نحوت بذكر الذراع نحو قول القائل: بعت شاة من القطيع – فهذا فيه احتمال عندنا:
يجوز أن يقال: الظاهر حمله على الإشاعة.
ويجوز أن يقال: يقبل قول البائع؛ فإن اللفظ الصريح في الإشاعة الجزء المنسوب إلى الكل كالنصف والربع.
وحكى [عند الكلام] في بيع صاع من الصبرة وجهاً: أن البيع لا يصح وإن لم يجر اختلاف، وهو بناء على أن مأخذ الصحة فيما إذا باع صاعاً من عشرة آصع أن العقد يرد على صاع لا بعينه، ولا يخفى أنه إذا باع ذراعاً معيناً منها أنه يصح، وكذا ما فوقه ذا عين الابتداء والانتهاء، ولو عين الابتداء في طول العرض دون الانتهاء فأصح الوجهين في "الشامل" وغيره: الصحة، وفي "الحاوي": الأصح البطلان.
ولو وقف في وسط الأرض، [وقال]: بعتك عشرة أذرع ابتداؤها من موقفي لم يصح.
ولو خط في وسط الأرض دائرة وباعها، صح البيع إذا عين له ممراًّ، فلو أطلق استحقاق ممر، ولم يعينه، بطل، [ولو لم] يشترطا ممراًّ وأطلقا العقد فهل يقتضي الإطلاق ثبوت ممر؟ فيه وجهان:
فإن قلنا: يقتضيه – وهو المذهب؛ كما قال القاضي الحسين – صح، وثبت له حق الاختيار من كل جانب كما كان للبائع، وكذا إذا قال: بعتكها بحقوقها.
وإن قلنا: لا يقتضيه، ففي صحة البيع وجهان، كما لو صرح بنفي الممر:
أصحهما في "النهاية" – وبه جزم القاضي الحسين – البطلان.
والغزالي رجح وجه الصحة، والأكثرون على خلافه.
وهذا كله إذا لم تكن متاخمة للشارع، [أما إذا كانت متاخمة للشارع]، أو لملك المشتري، فعند الإطلاق لا يثبت له حق الممر.
وفي "تعليق" القاضي الحسين: حكاية وجهين [فيه]، في باب الوقت الذي يحل فيه بيع الثمار وحكاهما أيضاً، فيما إذا باع داراً مطلقاً، وكان ظهرها مما يلي الشارع أو ملك المشتري، هل له الاستطراق في الممر المعروف بالدار أم لا؟ ويجب أن يفتح لها باباً في "كتاب الشفعة".
وعند إدخال الحقوق في البيع إذا كانت الأرض متاخمة لملكه يكون الحكم ما لو لم تكن متاخمة لملكه عند الإمام، وأجرى الإمام هذا الفصل كله فيما إذا باع بيتاً من دار ولم يتعرض لإدخال حق الممر في العقد.
فرع: إذا عين خطين، وقال: بعتك من هذا الخط إلى هذا الخط، لم يدخل الخطان في البيع، حكاه القاضي الحسين في التعليق.
قال: وفي بيع الأعيان التي لم يرها المشتري قولان: أصحهما: أنه لا يجوز؛ لنهيه عليه السلام عن بيع الغرر، وعن بيع غائب بناجز، ولم يفصل بين صرف وغيره فهو على عمومه؛ ولأنها عين لم يرها من ابتاعها، غُبن فلم يصح بيعها؛ قياساً على الثوب في الغبن، وهذا أحد قولي الجديد الذي نص عليه في "الأم" و"البويطي" و"الرسالة" والسنن، وهو اختيار المزني والربيع والبويطي.
قال: والثاني: أنه يجوز إذا وصفها [أي]: بأن يقول: بعتك العبد التركي الذي في بيتي، أو الفرس العربي الذي في إصطبلي، وما أشبه ذلك إذا لم يكن ثم غيره.
ووجهه: عموم قوله تعالى: - وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]، وما روى الدارقطني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من اشترى شيئاً لم يره فهو بالخيار إذا رآه".
وفي رواية: "إن شاء أخذه وإن شاء تركه"؛ ولأن عثمان بن عفان وطلحة تناقلا
دارين إحداهما بالبصرة، والأخرى بالكوفة، فقيل لعثمان: إن غبنت؟ فقال: لا أبالي؛ لأني بعت ما لم أره فلي الخيار إذا رأيتها، وقيل لطلحة، فقال: إن لي الخيار؛ لأني اشتريت ما لم أره – فترافعا إلى جبير بن مطعم، فقضى بالخيار لطلحة.
وقد رُوي أن عبد الله بن عمر اشترى أرضاً لم يرها.
وعبد الرحمن بن عوف اشترى إبلاً لم يرها ولم يخالف هؤلاء الخمسة أحد فكان إجماعاً.
وقيل: يشترط مع ما ذكرناه ذكر معظم الصفات، وضبطه البغوي بما يوصف به المدعي عند القاضي، وفي "التتمة": عد هذا وجهاً آخر.
وقيل: يشترط استيعاب جميع صفات السلم.
وقال الماوردي: إنه ليس بشرط باتفاق الأصحاب.
وحُكي عن البصريين أنه إذا استوعب ذلك بطل؛ لأنه يخرج عن بيوع الأعيان، ويصير من بيوع السلم، والسلم في الأعيان لا يجوز.
وحكى الإمام وجهاً: أن ذكر الجنس لا يشترط، فيكفي أن يقول: بعتك ما في كمي.
وعن أصحاب القفال أنه يشترط ذكر الجنس دون النوع.
والمذهب الأول.
ولو كان المبيع عقاراً فلابد من ذكر البلد الذي هو فيه، وفي ذكر البقعة وجهان.
تقدم ذكرهما، ويشترط فيه ذكر الحدود ولا يُكتفى باثنين منها.
وهل يُكتفى بذكر ثلاثة.
نظر: إن لم يحصل بها [التمييز]، لم يكف؛ وألا كفى على الأصح؛ حكاه الماوردي، وفي إيراده ما يشعر بأن هذا لا يختص ببيع الغائب.
قال: ويثبت للمشتري الخيار إذا رآها؛ للحديث، ولقضية عثمان، وهل يوصف العقد قبل الرؤية بالتمام؟ فيه وجهان:
اختيار أبي إسحاق: أن العقد ليس بتامِّ، حتى لو مات أحدهما، أو جن، أو حجر
عليه بفلس - بطل العقد، ولا يقوم الوارث [فيه] مقام الموروث، ولكل واحد منهما أن يفسخ العقد قبل الرؤية.
واختيار ابن أبي هريرة: أنه تام فلا يبطل بالموت والجنون والحجر.
ومن ثمرة [هذا] الخلاف أن الخيار الثابت عند الرؤية يكون عند أبي إسحاق خيار مجلس، وهو أصح عند المحاملي وغيره، وعند أبي علي بن أبي هريرة خيار عيب فيكون على الفور، وهو أصح عند الإمام، وهذا تمام القول القديم وأحد قولي الجديد الذي نص عليه في الصرف، والصلح، والمزارعة، والصداق، والأمالي، وبه قال جمهور أصحابنا، على ما حكاه الماوردي، وصححه البغوي.
والقائلون بالأول خصصوا الآية إن سلم عمومها بما ذكر من الأدلة.
وقالوا: الحديث راويه عمرو بن أمية الكردي وهو يضع الأحاديث كما نقله الحفاظ، وغيره رواه مرسلاً، وعلى تقدير صحته فهو محمول على شراء ما رآه قبل العقد فإنه يثبت له الخيار إذا رآه، وقد تغير.
و [أجابوا] عن قضية عثمان وغيرها بأن عمر مخالف فلا إجماع.
ومحل القولين بالاتفاق: ما إذا كانت العين غائبة كما صورناه، أما إذا كانت حاضرة، فباعها على شرط خيار الرؤية كثوب في سفط، أو مطوي يبيعه ن غير أن يراه المشتري- فقد حكى المحاملي: أن الحكم كذلك، وإليه أشار البندنيجي.
وقال الماوردي: قد اختلف أصحابنا فيه على وجهين:
أحدهما: أنه كبيع العين الغائبة على قولين.
والوجه الثاني: أنه لا يجوز قولاً واحداً، وهو قول أكثر أصحابنا، وإليه أشار أبو إسحاق وابن أبي هريرة؛ لأن الحاضر مقدور على رؤيته، فارتفعت الضرورة، بخلاف الغائب.
تنبيه: احترز الشيخ بقوله: "الأعيان" عن السلم.
وبقوله: "لم يرها المشتري"، عن بيع الأعيان التي لم يرها البائع، وقد رآها المشتري.
ويتصور ذلك بأن يكون قد اشتراها وكيله، أو ورثها، ثم وصفت له، فوصفها للمشتري؛ فإن فيها لأصحابنا – على ما حكاه ابن الصباغ والبندنيجي – طريقين:
أحدهما: الجزم بالبطلان.
والثاني: طرد القولين، و [هي التي] صححها ابن الصباغ، وطرد القولين فيها لو لم يرياها جميعاً.
وحكى المحاملي الطريقين هكذا فيما إذا لم يرياها جميعاً.
أما إذا لم يرها البائع خاصة، فأحد الطريقين القطع بالصحة.
والثاني: إجراء القولين، وقال: إنهما مأخوذان من الطريقين فيما إذا لم يرياها جميعاً.
فإن قلنا بإجراء القولين فيها، فلم يجعل لعدم رؤية البائع أثراً في [إبطال البيع]، فيصح عند رؤية المشتري وجهاً واحداً.
والمراوزة قالوا: فيه قولان مرتبان على عدم رؤية المشتري، وأولى بالبطلان.
قال الغزالي: والأصح – أي: وإن ثبت الخلاف -: البطلان في الشراء والبيع جميعاً.
و [احترز الشيخ] بقوله: "إذا وصفها" عما إذا لم توصف: أما مع إمكان ذلك، فإنه لا يصح عندهم – كما ذكرناه – أو مع عدمه كما ذكر من الحمل في البطن ونظائره.
وكذا بيع الجزر والشلجم والبصل والفجل في الأرض قبل قلعه عند أكثر أصحابنا. وبعضهم خرج ذلك على بيع الغائب.
ومحله: إذا لم يظهر منه شيء أما إذا ظهر بعضه [من الأرض] صح بيعه، كما إذا رأى ظاهر الصبرة، صرح به القاضي الحسين في تعليقه.
و [احترز] بقوله: "ويثبت للمشتري الخيار إذا رآها" عما قبل الرؤية، فإنه لا يثبت له مجموع خيار الإجازة والفسخ على الأصح، لمفهوم الحديث.
وفيه وجه: أنه يثبت، حكاه الإمام.
والذي حكاه ابن الصباغ وغيره: أنه إن أراد الفسخ نفذ، وإن أراد الإجازة فلا.
وإطلاق الشيخ هذا اللفظ يعرفك أيضاً أنه لا فرق بين أن يجده دون ماوصف له، [أو موافقاً له، وهو المذهب.
وفيه وجه – حكاه المحاملي، والبندنيجي، وابن الصباغ -: أنه لا خيار له إذا وجده كما وصف] على قول اعتبار معظم الصفات أو صفات السلم.
وفي ابن يونس: تخصيصه بما إذا اعتبرنا صفات السلم وهو الأشبه؛ لأنه لم يبق بعد ذلك وصف تختلف به الأغراض فيشابه المسلم فيه إذا أحضره على الصفة.
أما إذا اكتفينا بمعظم الصفات، [فينبغي أن يثبت له؛ لأنه قد بقي من الصفات ما تتعلق به الأغراض.
وأيضاً: فإن القائل بالاكتفاء بمعظم الصفات] فرق بينه وبين السلم بأن الخيار يثبت فيه عند الرؤية، فيندفع ما يحذر منه، بخلاف السلم، كما حكاه المحاملي، ويقتضي هذا تصحيح ما أشرنا إليه.
ويعرفك أيضاً أنه لا فرق بين أن يشترط ثبوت الخيار عند الرؤية، [أو لا]، وهو المشهور.
[و] في كتاب ابن كج أن أبا الحسين حكى عن بعض أصحابنا أنه لابد من اشتراط خيار الرؤية.
وفي "الحاوي": أن بيع الغائب بغير شرط خيار الرؤية باطل، لا يختلف فيه المذهب.
وقد يفهم من ذلك: أنه الوجه الذي حكاه أبو الحسني، والذي فهمته منه إرادة ذكر ما هو شرط في هذا العقد على هذا القول.
وسكوت الشيخ عن جانب البائع يعرفك أنه لا خيار له عند الرؤية، وهو الأصح من الوجهين في "الشامل"، والمذهب عند المحاملي، وبه قال ابن أبي هريرة.
وفيه وجه: أنه يثبت له أيضاً، [وهو قول أبي إسحاق؛ لأن عنده أن بالرؤية يثبت له [خيار المجلس]، كما ذكرناه من قبل.
وخيار المجلس يشترك فيه المتبايعان.
وهذا الخلاف فيما إذا كان البائع [قد رأى المبيع]، أما إذا لم يره، وصححنا العقد، فهو كالمشتري، ويكون ظهور زيادة عما وصفه مثل ظهور النقص عند عدم رؤية المشتري، صرح به الماوردي والمحاملي وغيرهما.
وروى عن القفال: أنه لا خيار له أصلاً، وهو الأصح عند الإمام؛ لأن جانبه بعيد عن إثبات الخيار، وكذلك إذا ظن أن المبيع معيب فإذا هو سليم، لا خيار له، وإن استضر به.
وفي هذه الصورة وجه: أنه يثبت أيضاً، وأبطل الغزالي علة القفال بخيار المجلس والشرط فإن البائع يساوي المشتري فيهما، وهذا من جنسهما.
فروع:
أحدها: هل يصح شراء الأعمى مع القول بصحة بيع الغائب وشرائه؟ فيه وجهان:
أظهرهما- عند الرافعي والقاضي الحسين -: أنه لا يصح.
وهو الذي يظهر من كلام الشيخ حيث جعل من تمام القول الذي عليه التفريع ثبوت الخيار عند رؤيته، وقد تعذر فأشبه ما لو شرط نفي خيار الرؤية.
والثاني: أنه يجوز، ويقوم وصف غيره له مقام رؤيته، كما تقوم الإشارة من
الأخرس مقام النطق، وهذا أصح عند المحاملي.
وقد ينبني الخلاف على [أن] استقصاء الأوصاف على وجه يفيد الإحاطة بجميع المقاصد، هل يقوم مقام الرؤية حتى ينعقد البيع بعده بيع حاضر؟ وفيه خلاف في الجديد في الطريقين، وبعضهم أثبته وجهين، وبعضهم قولين.
وأصحهما: المنع من حيث إن الرؤية تحيط بمقاصد لا تحيطها العبارة وقد بناه الأصحاب على أن البصير إذا صححنا منه شراء ما لم يره هل يصح منه التوكيل في الرؤية [والإجازة والفسخ؟ فيه وجهان:
أظهرهما: الجواز، كما يصح تفويض الأمر إليه في خيار العيب والخلف، فإن صححنا التوكيل صح البيع على القول الذي عليه التفريع، وألا بطل.
هكذا حكاه الرافعي.
وفي الحلية للشاشي: أن الشيخ أبا حامد حكى وجهين في صحة التوكيل في خيار الرؤية [وأن أصحهما أنه لا يصح، وعلى مقابله: هل يقوم الوكيل مقام الموكل في الفسخ والإجازة؟ فيه وجهان:
أصحهما: أنه يقوم مقامه في ذلك.
والثاني: لا يقوم وإنما يحكي ما يراه، ثم قال: وهذا التوكيل في الرؤية] لا معنى له.
وفي "النهاية" في كتاب الرهن: أنا إذا شرطنا في صحة قبض ما رهنه منه – وهو في يده – مُضِيَّه إليه، ورؤيته، فوكل وكيلاً حتى يراه ويخبره به، هل يكفي؟ فيه [وجهان]:
أصحهما: أن التوكيل في ذلك كاف كأصل القبض، وهذا يعضد هذا الوجه، ولا يقال: إن المقصود ثم أن يعلم بقاؤه أم لا؛ لأن هذا مفرع على القول باشتراط الرؤية مع العلم ببقاء العين.
وعلى القول بعدم صحة شراء الأعمى، لو اشترى شيئاً لم يره – وهو بصير – فعمي قبل الرؤية، بطل العقد، وقيل: لا يبطل، حكاه المتولي.
ولا نزاع في أن للأعمى أن يؤجر نفسه ويشتريها، ويقبل الكتابة، [ويكاتب عبده].
وقال في "التتمة": على المذهب، يعني في الكتاب [للعبد]، وسلمه أيضاً صحيح إذا كان يعرف الصفات قبل العمى، ويوكل من يقبض له.
وفي صحة قبضه بنفسه وجهان:
أصحهما: المنع.
وإن كان لا يعرف الصفات، فوجهان:
أصحهما – عند العراقيين – [وبه أجاب في "الوجيز" -: الصحة.
وعند المزني، وابن سريج، وابن خيران، وابن أبي هريرة: البطلان، واختاره البغوي، والمتولي.
وهذا إذا كان رأس المال في الذمة [وعين في المجلس].
أما لو كان عيناً فهو كبيع العين.
الثاني: للبائع أن يمتنع من قبض الثمن، ومن تسليم المبيع قبل الرؤية حكاه الرافعي في كتاب الشفعة، وهو يؤخذ مما تقدم.
الثالث: لو باع ثوباً قد رأى نصفه دون نصفه الآخر، فالذي ذهب إليه أكثر أصحابنا البصريين وغيرهم أنه لا يصح؛ لاختلاف الحكم، وعدم الضرورة، بخلاف العين الغائبة بجملتها.
ومنهم من قال: إنه يجوز كالعين الغائبة، وهو ما حكاه البندنيجي عن المنصوص، وصححه ابن الصباغ.
فرع: لو وكل إنسان وكيلاً حتى يشهد شيئا ًويشتريه بعد المعاينة، صح الشراء للموكل؛ فإنه استعان بمعاينة الوكيل وأحلها محل معاينة نفسه، وأجرى التوكيل فيها؛ فصح ذلك كما يصح التوكيل بأصل الشراء؛ هكذا لفظ الإمام متصلاً بـ"باب بيع حبل الحبلة"، فافهم منه ما تفهمه.
قال: وإن رآها قبل العقد [وهي مما لا يتغير – أي: غالباً في تلك المدة التي بين الرؤية والعقد] وهو ذاكر لأوصافها –جاز بيعها، أي: على القولين جميعاً؛
لحصول المقصود بالرؤية السابقة.
وقال أبو القاسم بن بشار الأنماطي من أصحابنا: لا يصح حتى يشاهدها حال البيع.
وحكى الشيخ أبو علي عن الإصطخري: أنه تناظر مع بعض من يذهب عن الأنماطي، وكان يلزمه المسائل وهو يلتزمها؛ حتى قال له: لو عاين ضيعة وارتضاها ثم ولاها ظهره فاشتراها، فهل يصح؟ فتوقف، وأن الإصخري قال: لو ارتكبه لكان خارقاً للإجماع.
قال الإمام: وما أرى الأنماطي يسمح بهذا، ويحتمل أن يكتفي بكون المبيع بمرأى منه حالة العقد وإن كان لا يلاحظه، وبالجملة فإن مذهبه فاسد.
أما إذا كان غير ذاكر لأوصافها، أو كانت مما يعلم تغيرُّها في مثل تلك المدة المتخللة بين الرؤية والعقد، فلا أثر لهذه الرؤية.
وإن كان بين الرؤية والعقد ما يحتمل فيه التلف، ويحتمل البقاء، وكذا ما يحتمل التغير ويحتمل البقاء، فوجهان:
المذهب منهما – عند المحاملي، وابن الصباغ، والبندنيجي -: الصحة، وهو الأصح عند الماوردي أيضاً في الثانية، وفي الأولى: الأصح البطلان.
واعلم أن الرؤية المصححة للعقد أن يرى من المبيع مقاصده لا كل جزء وذلك يختلف باختلاف المبيع؛ فالدار يشترط أن يرىمنها البيوت، والسقوف، والجدران داخلاً وخارجاً، والمستحم، والبالوعة.
والستان يرى منه الأشجار، والجدران، ومسايل الماء.
وفي اشتراط رؤية طريق الدار ومجرى الماء الذي تدور به الرحى وجهان:
والعبد يرى وجهه وأطرافه، ولا يجوز النظر لعورته.
وفي اشتراط رؤية باقي بدنه وجهان:
أظهرهما – وهو المذكور في "التهذيب" -: أنه لابد [منه].
وفي الجارية وجوه:
أحدها: أنها كالعبد.
والثاني: يشترط رؤية ما يبدو عند المهنة.
والثالث: يكفي رؤية الوجه والكفين، وفي رؤية الشعر وجهان:
أصحهما في "التهذيب" الاشتراط وبه جزم أبو الطيب في باب الخراج بالضمان. وفي "الحاوي": الأصح عدم الاشتراط.
[ولا يشترط رؤية اللسان، والأسنان على الأصح.
والدواب يرى منها مقدمها ومؤخرها وقوائمها، وتحت السرج، والإكاف، والجل.
وعن بعض الأصحاب أنه لابد أن يجري الفرس بين يديه؛ ليعرف سيره].
والثوب المطويّ لابد من نشره.
قال الإمام: ويحتمل عندي جواز بيع الثياب التي لا تنشر بالكلية إلا عند القطع؛ لما في نشرها من التنقيص، ويلتحق بالجوز واللوز؛ فإنه لا يعتبر كسرها لرؤية القلوب مع أنها معظم المقصود، ثم إذا نشرت فما كان منها صفيقاً كالديباج المنقش، فلابد من رؤية كلا وجهيه وفي معناه البسط والزَّلاليْ، وما كان رقيقاً لا يختلف وجهاه كالكرباس يكفي رؤية أحد وجهيه على أصح الوجهين؛ وهو ما جزم به في "الحاوي" في باب الرد بالعيب حيث قال: إن الثوب إذا نشر صح الشراء، إن كان مطويًّا على طاقين؛ ليرى جميع الثوب من جانبيه، وإن كان مطوياًّ على أكثر، لم يحص إلا أن يكون على خيار الرؤية.
ولا يجوز بيع الثياب التَّوّرِيَّة في المسوح على القول باشتراط الرؤية.
والمصحف والكتب، لابد من تقليب الأوراق، ورؤية جميعها.
والفُقَّاع، ذكر أبو الحسن العبادي: أنه يفتح رأسه وينظر فيه بقدر الإمكان. وفي الإحياء أطلق المسامحة به.
والمتماثلات؛ كالحنطة، والشعير يكفي فيها رؤية ظاهر الصبرة على الصحيح، ونقل قول عن رواية الصعلوكي – وبعضهم ينسبه إليه نفسه -: أنه لابد من تقليبها؛ ليعر باطنها.
وعلى الأول لو خالف باطنها ظاهرها خرج على قولي بيع الغائب عند الشيخ أبي محمد، وكذا لو بان تحت الصبرة دكة.
وأبدى الإمام في الأولى احتمالاً وقال في الثانية لا وجه لما قاله شيخي، والذي حكاه العراقيون في الصورتين ثبوت الخيار.
[والجوز] واللوز والتمر في هذا المعنى ملحق بالحنطة، وكذا الدقيق.
وألحق الماوردي الدقيق بالقطن إذا رؤي أعلاه في العِدْل وفيه وجهان:
أحدهما: أنه يكفي.
والثاني: لابد من رؤية جميعه والأشبه عند الصميري أنه كالقَوْصَرة من التمر إذا لتصقت حباته، والأصح فيه الاكتفاء برؤية اعلاه.
ولو رأى من المثل أنموذجاً، وقال: بعتك من هذا النوع كذا لم يصح، وإن قال: بعتك من الحنطة التي في البيت وهذا أنموذج منها، فإن لم يدخل الأنموذج في البيع فالأصح أنه لا يكفي، وإن أدخل فالأصح الاكتفاء.
والصحيح أن رؤية الأنموذج لا تقوم مقام الوصف في السلم، واستقصاء الوصف هل يقوم قام الرؤية؟ فيه خلاف تقدم.
وإذا اكتفينا به فظهر عند الرؤية نقصانه عما وصف؛ تبين بطلان العقد.
قال الإمام: ولا يكفي رؤية ظاهر صبرة البطيخ والرمان ونحوهما، وكذا أعلى ما في الظروف من العنب والخوخ ونحوهما، بخلاف المائعات، ولا يكفي رؤية المبيع من وراء حائل لا مصلحة له فيه؛ كالزجاج، بخلاف ما له فيه مصلحة كالماء على الأرض، [فإنها تكفي] معه، ولا يشترط مع ما ذكرناه من الرؤية الذوق في المذوق، والشم في المشموم، على الأصح، وهو ما ادعى الغزالي فيه الوفاق.
وفي "التتمة" والبحر حكاية وجه في اشتراط ذلكن واشتراط اللمس في الملموس من الثياب، ونحوها.
قال: فإن رآها وقد نقصت ثبت له الخيار؛ لحصول العيب.
وحكى المراوزة وجها، أنا نتبين بطلان العقد؛ لتبين انتفاء المعرفة، والجمهور على الأول.
قال الإمام: وليس المعنى بتغيره بعيب؛ فإن خيار العيب لا يختص بهذه الصورة.
ولكن الظاهر عندي أن يقال: كل تغيير لو فرض خلفاً في صفة مشروطة تعلق به الخيار، فإذا اتفق بين الرؤية والعقد أثبت الخيار، ويمكن أن يقال: كل تغير تخرج به الرؤية عن كونها مفيدة لمعرفة وإحاطة فهو مثبت للخيار.
قال: واختلفا في النقصان- أي: عن الحالة التي وقعت فيها الرؤية – فالقول قول المشتري، [لأنا نريد انتزاع الثمن من يده، فلا ينزع منه إلا بقوله، وهذا نصه في كتاب الصرف.
وحكى الغزالي عن صاحب "التقريب" – [وهو الأصح]-: أن القول قول البائع؛ لأن الأصل عدم التغير واستمرار العقد.
قلت: ولو وفصل مفصل فقال: إما أن يكون الاختلاف في نقص من أصل الخلقة، أو في نقص حدث بعد أن كان كاملاً، فإن كان الأول بأن ادعى البائع أنه كذا وجد، ولم يحدث فيه نقص فيظهر أن القول قوله، وإن كان الثاني بأن ادعى البائع أنه كان كاملاً أو أن هذا النقص حدث قبل الرؤية، وأنه رآه ناقصاً كما هو الآن، فالذي يظهر أن القول قول المشتري؛ عملاً بالأصل في الموضعين، كما لو وقع مثل هذا الاختلاف في عيب المغصوب بعد تلفه؛ فإن الحكم كما ذكرناه على الأصح، وسنذكر – إن شاء الله تعالى – الفرق بين هذه المسألة ومسألة العيب الذي يمكن حدوثه في موضعها.
ويجري مثل هذا الخلاف المنقول عن الأصحاب في مسألة الكتاب فيما إذا صححنا بيع الغائب، وادعى البائع أن المشتري رأى المبيع قبل العقد فلا خيار له، وأنكر المشتري، فالأظهر عند أبي الحسن العبادي أن القول قول المشتري أيضاً أما إذا لم يصححه؛ ففي فتاوى الغزالي أن القول قول البائع.
قال الرافعي: ولا ينفك هذا عن الخلاف، وقد صرح به ابن أبي الدم الحموي في أدب القضاء.
قال: ولا يجوز البيع بثمن مجهول القدر؛ لنهيه – عليه السلام – عن بيع الغرر.
قال: كبيع السلعة برقمها أي: بما يكتب عليها؛ لأنه يجهل كم قدره، وجنسه، وصفته.
وفي "التتمة" حكاية وجهين آخرين:
أحدهما: أنه يجوز.
والثاني: الفرق بين أن تزول الجهالة في المجلس؛ فيصح، أو لا؛ فلا يصح.
وهذا حكاه في المرابحة، وعزاه الرافعي لغيره.
قال: وكبيع السلعة بألف مثقال ذهب وفضة؛ لأن قدر كل واحد منهما مجهول، وقد أُورِدَ على ذلك أنه لم لا يحمل على التشطير، إذا قلنا: إن البيع يصح بالكناية، كما لو قال: قارضتك على أن الربح بيننا؛ فإنه ينزل على الشطر في وجه؟
ولو قال: أشركتك معي في العقد؛ فإنه يصح أيضاً، على وجه، وينزل على الشطر وكذا لو استأجر أرضاً ليزرعها ويغرسها؛ صح على وجهٍ وينزل على الشطر كما حكاه في الأشراف.
وفي الإقرار لو قال: هذا الشيء لزيد وعمرو، وفي الوقف لو قال: وقفت هذا على زيد وعمرو، وكذا في الوصية؛ فإنه ينزل على الشطر، فهلا كان هاهنا مثل ذلك.
وقد حكى الرافعي فيما إذا قال: بعتك بألف صحاح ومكسرة – وجهين:
أظهرهما: البطلان، ثم قال: ويشبه أن يكون هذا الوجه جارياً فيما ذكرناه.
فروع:
[أحدها] لو قال: بعتك بما باع به فلان فرسه.
قال المراوزة: إن كان ذلك معلوماً لهما صح، وإن لم يعلماه أو أحدهما لم يصح.
وفي "التتمة" حكاية وجه: أنه يصح.
وحكى الرافعي في الفصل الثالث من الوصايا في المسائل الحسابية، أنهما إذا كانا يعلمان ثمن الفرس خلافاً في صحة البيع، وأن اختيار العراقيين والبغوي عدم الصحة، واختيار الإمام، والروياني وغيرهما الصحة.
ومادة الخلاف عند العراقيين ما إذا قال: أوصيت له بنصيب ابني هل يحمل على النصيب نفسه؛ فتبطل الوصية، أو على مثله؛ فتصح.
لو قال: بعتك هذا الثوب بدينار إلا درهماً؛ فإن جهلا أو أحدهما قيمة الدينار في الحال لم يصح، وإن علما قيمته صح، على ما حكاه الجمهور.
وفي "الحاوي" حكاية وجه: أنه لا يصح، وأنه الأصح.
ويتجه أن يجيء فيما إذا جهلا ذلك – الوجهان المذكوران من قبل في مسألة الرقم.
[الفرع الثاني] لو قال: بعتك بمائة درهم من صرف عشرين بدينار لم يصح، وإن كان [من] صرف البلد عشرين درهماً بدينار، حكاه الماوردي والقاضي أبو الطيب، وابن الصباغ، ثم قال: وكذلك ما يفعلونه الآن، لا يسمون الدراهم، وإنما يبيعون بالدنانير، ويكون [كل] قدر معلوم من الدراهم عندهم ديناراً؛ فإن هذا لا يصح؛ لأن الدراهم [لا يعبر بها عن] الدنانير، لا حقيقة ولا مجازاً، مع أن البيع لا يجوز بالكناية حكاه في باب الربا.
[الفرع الثالث] لو قال: بعتك هذه العين بالدراهم، فهل يحمل على ثلاثة حتى يصح البيع؟ فيه وجهان في "تعليق" القاضي الحسين في كتاب الإقرار.
قال: فإن باعه قطيعاً كل شاة بدرهم، أو صبرة كل قفيز منها بدرهم جاز، وإن لم يعلم مبلغ الثمن في حال العقد؛ لأن الجهل ينتفي بالعلم [بالتفصيل، كما ينتفي بالعلم] بالجملة، كما إذا باعه بثمن معين جزافاً.
وهكذا الحكم فيما لو قال: بعتك هذه الأرض أو هذا الثوب كل ذراع بدرهم.
وحكى الماوردي عن البغداديين من أصحابنا: أن البيع لا يصح في الأرض، إذا كانا لا يعلمان قدر ذرعانها، وأنهم لم يطردوه في الثوب، بل حكموا فيه بالصحة، وطرده أبو إسحاق في جميع الصور على ما حكاه ابن كج، وأبداه في البحر في كتاب الإجارة في مسألة الصبرة احتمالاً عن [ابن] أبي هريرة.
وحكى مجلي وجهاً في عدم صحة البيع بصبرة من الدراهم مجهولة القدر في باب السلم.
ولو قال: بعتك هذه الرزمة، كل ثوب بدرهم على أن فيها عشرة أثواب، وقد شاهد كل ثوب منها، فإن خرجت تسعة؛ صح العقد، ولزمه تسعة دراهم، ولو خرجت أحد عشر، قال الماوردي: بطل العقد في الجميع قولاً واحداً، بخلاف الأرض والثوب
الواحد إذا باعه مذارعة، فإن في صحة البيع قولين؛ لأن الثياب قد تختلف، وليس يمكن أن يكون الثوب الزائد مشاعاً في جميعها، وما زاد في الثوب الواحد والأرض مقارب لباقيه فأمكن أن يكون مشاعاً في جميعه.
ولو قال: بعتك من هذه الصبرة كل صاع بدرهم لم يصح في شيء منها.
وقال ابن سريج: إنه يصح في صاع منها، كما صار إليه فيما إذا قال: آجرتك كل شهر بدرهم، وحكاه الإمام عن صاحب "التقريب".
وفي "النهاية" في كتاب الإجارة: أن الشيخ أبا محمد كان يقول: إذا قال: بعتك كل صاع من هذه الصبرة بدرهم؛ فالمبيع جميع الصبرة، كما لو قال: بعتك الصبرة كل صاع بدرهم.
ولو قال: بعتك هذه الصبرة بعشرة دراهم كل صاع بدرهم، نظر: إن خرجت عشرة آصع صح، وإلا فقولان:
أصحهما في "التهذيب": البطلان.
وعلى مقابله إن خرجت تسعة فله الخيار، فإن أجاز فبكل الثمن، أو بقسطه؟ فيه وجهان، وإن خرجت أحد عشر، فلمن يكون الزائد؟ فيه وجهان:
أظهرهما: أنه للمشتري، فعلى هذا لا خيار له.
وفي البائع وجهان: أصحهما: ثبوت الخيار له.
ولو قال: بعتك هذه الصبرة كل صاع بدرهم على أن أزيدك صاعاً، فإن لم يكن الصاع معلوماً لهما بطل وإن كان معلوماً نظر: إن أراد هبته فسد العقد، وإن أراد إدخاله في العقد وكانت الصبرة معلومة الصيعان صح، فإن كانت عشرة مثلا ًفمعناه: صاعاً وعشراً بدرهم.
وحكى الإمام عن رواية صاحب "التقريب" وجها – وأنه مال إليه: أنه لا يصح؛ لأن العبارة لا تبنى على ذلك إلا على بُعْدٍ في المَحْمَل؛ فضاهى اللغز.
وإن كانت مجهولة الصيعان لم يصح؛ لأنه لا يدري أشترى صاعاً وعشراً أو صاعاً وتسعاً أو ما يتردد معه فيكون الثمن مجهول الجملة مجهول التفصيل.
وإن أطلق العقد؛ فهل يحمل على الهبة أو على إرادة إدخاله في البيع؟ فيه
وجهان في "الحاوي".
فإن قيل: إذا تردد اللفظ بين احتمالات، فكيف يصح العقد بمجرد إرادة صورة الصحة؟
قال الغزالي: هذا يلتفت على الأصح في انعقاد البيع بالكنايات.
وفي بعض نسخ "الوسيط":تصوير المسألة بما إذا قال: بعتك هذه الصبرة بعشرة على ان أزيدك صاعاً، والصواب تصويرها كما ذكرناه كما هو موجود في شروح "المختصر".
ولو قال: بعتك هذا السمن وظرفه كل رطل بدرهم.
قال الداركي: يصح العقد واختاره ابن الصباغ، والمذهب أنه لا صح إلا أن يكون ذلك معلوماً لهما.
فائدة: التعامل بالدراهم المغشوشة، هل يجوز وإن لم يكن قدر النقرة معلوماً؟ فيه وجهان في "الوسيط" في زكاة النقدين.
وفي كتاب الخلع منه تقييد وجه الجواز بما إذا كانت المعاملة على أعيانها، وأن الصحيح أنه يقبل تيسيراً لمُقِرِّيها إذا غَلَبَتْ في المعاملة، وصحح الإمام في كتاب الخلع وجه [منع] التعامل بها.
والصحيح في "تعليق" القاضي الحسين في باب بيع الطعام قبل أن يستوفي: أن التعامل بالدراهم المطرفية جائز في العين والذمة، وهي مركبة من أشياء لا يعرف قدر كل واحد منها.
وفي "التتمة" حكاية وجه ثالث – نسبه إلى اختيار القاضي الحسين -: أن الغش إن كان مغلوباً صح، وإن كان غالباً [فلا].
قال الرافعي: وربما نقل العراقيون الوجهين على الإطلاق، يريد فيما إذا كان قدر النقرة معلوماً أو مجهولاً.
والمذكور في "تعليق" القاضي أبي الطيب في باب الربا: أن الغش إن لم يكن له قيمة بأن يكون مستهلكاً كالزرنيخية والنوراتية؛ فإنه لا يتحصل منه شيء عند
إدخالها النار؛ فيجوز شراء السلع بها لا يختلف أصحابنا في ذلك، وإن كانت له قيمة مثل الرصاص والنحاس، فهل يجوز شراء السلع بها؟ فيه وجهان:
أصحهما: الصحة.
وعلى هذا لو اشترى بها ذهباً؛ ففي صحة العقد قولاً تفريق الصفقة في الحكم.
ومعنى الدراهم الزرنيخية والنوراتية: أن تؤخذ النورة والزرنيخ فتجعل مثل الدراهم وتطلي بالفضة، كذا قاله المحاملي.
وقال الماوردي في كتاب الزكاة: لو كان قدرُ الفضة معلوماً قد اشتهر عند الخاص والعام؛ بحيث لا ينقص ولا يختلف؛ فالمعاملة بها جائزة على العين وفي الذمة، وإن كان مجهولاً والغش فيه نظر:
فإن كان الغش في باطنها والفضة ظاهرة غير ممتزجة، [فلا تجوز المعاملة بها في الذمة]، ولا في العين، وإن كان غير متميز كما ذكرناه؛ جازت المعاملة بها.
وعلى كل [حال] فلو أتلفها متلف لم يلزمه مثلها، ولزمه رد قيمتها بالذهب،
وحكم الذهب المغشوش حكم الورق المغشوش.
قال: فإن كان لرجلين عبدان، لكل واحد منهما عبد، فباعاهما بثمن واحد ولم يعلم كل واحد منهما ما له، أي: ما يقابل عبده من الثمن؛ بطل العقد في أحد القولين، وهو الذي نص عليه؛ لأن الصفقة تتعدد بتعدد البائع وقد جهل كل منهما ما يختص به من الثمن؛ فبطل، كما لو قال: بعتك هذا العبد بما يخصه من الألف لو وزع عليه وعلى عبد فلان، وقد ادعى الإمام في باب تفريق الصفقة الإجماع على بطلانه، [وهذا ما صححه ابن الصباغ في كتاب الشركة].
قال: وصح في الآخر: ويقسط الثمن عليهما على قدر قيمتهما؛ لأن جميع الثمن معلوم، ويمكن التوصل منه إلى معرفة ما يقابل كل واحد منهما بواسطة التقويم، وهذا القول مأخوذ من نصه فيما إذا كاتب عبدين على عوض واحد أنه يصح.
قال الرافعي في كتاب الصداق: ويمكن أخذ القولين من القولين اللذين نص عليهما فيما لو تزوج امرأتين وخالعهما على عوض واحد.
وهذه طريقة ابن سريج، ووراءها طرق:
أحدها: القطع بفساد البيع، وإثبات قولين في الكتابة وبهذا قال أبو إسحاق كما حكاه صاحب البحر في كتاب الشركة، وكذا أبوسعيد الإصطخري وقال:[إن ابن سريج] خرق الإجماع، وفرق بأن البيع معاوضة محضة وتأثير فساد العوض والجهل به في البيع أشد من تأثيرهما في العقود الثلاثة؛ لأن البيع يلغو بفساد العوض والجهل به، والنكاح والبينونة لا يتأثران بذلك، والكتابة - وإن فسدت - لا تلغو بل إذا أدى المسمى عتق بموجب التعليق.
قال ابن الصباغ: وما ذكره من خرق الإجماع فليس كذلك؛ لأن أبا حنيفة وغيره يُجوِّز ذلك.
الثاني: إثبات القولين في البيع، والقطع بصحة الكتابة؛ لما فيها من شائبة العتق؛ ولهذا جوزت على خلاف الدليل؛ ولأن المالك للعوض واحد، والصادر منه لفظ واحد؛ فصار كما لو باع عبدين من واحد.
والثالث: القطع بفساد البيع وتصحيح الكتابة جرياً على ظاهر النصين، وتخصيص
القولين بالنكاح والخلع، والفرق بائن.
وأقرب الطرق في البيع على ما حكاه الرافعي ما قال به ابن سريج، والأصح من القولين البطلان.
وفي الجيلي: أن الأصح مقابله، ويجري الخلاف فيما لو استأجر رجل دارين من رجلين غير مشتركين، بينهما صفقة واحدة بأجرة واحدة، وفيما لو باع رجل عبدين من رجلين لكل منهما عبد بثمن واحد، وفي نظائر ذلك.
أما إذا كان العبدان مشتركين بينهما على الإشاعة فباعاهما بثمن واحد – صح العقد وجهاً واحداً، وعنه احترز الشيخ بقوله:"لكل واحد منهما عبد"، ولا يشارك أحدهما صاحبه فيما قبضه لنفسه من الثمن؛ لأنه ليس بوكيل للآخر.
قال ابن الصباغ في باب الشركة: ويفارق أحد الشريكين في مال الشركة؛ لأن كل واحد منهما وكيل لصاحبه.
وقد يظهر من قول الشيخ: "ولم يعلم كل واحد منهما ما له" الاحتراز عما إذا علم التوزيع قبل العقد أنه يصح لانتفاء المحذور، وعليه يدل كلامه وكلام غيره فيما إذا اشترى الوكيل المأذون له في شراء شاة بدينار؛ فاشترى شاتين تساوي كل واحدة منهما ديناراً، حيث قالوا: إن الشاتين للموكل على رأي [أو للوكيل] شاة بنصف دينار.
ولم يخرج احد صحة هذا العقد على الخلاف الذي ذكره الشيخ هاهنا ويجوز أن يكون احترز به عما إذا فصل الثمن قالا: بعناك هذين العبدين بمائة، ستون لهذا وأربعون لهذا، لكن قد يقال: ليس الثمن في هذه الصورة واحداً بل ثمنين.
ثم صورة المسألة أن يأذن أحدهما لصاحبه في بيع عبده بما رآه من الثمن أو مع عبده بمائة، أو يوكل وكيلاً لذلك، أو يوجبا العقد بأنفسهما، وصورته أن يقول المشتري: اشتريت منكما هذين العبدين بمائة؛ فيقول كل منهما: بعتك.
قلت: وقد يلاحظ فيما عدا هذه الصورة اتحاد الصفقة وتعددها بالنسبة إلى الوكيل – كما سنذكره – فإذا قلنا: إنها متحدة امتنع التصوير بما عدا الأخيرة.
قال: ولا يجوز البيع بثمن مجهول الصفة كالبيع بثمن مطلق؛ أي: في الذمة، [في موضع] ليس فيه نقد متعارف أي: بل استوى رواج نقوده؛ لأنه عوض في البيع فلا
يجوز ثبوته في الذمة مع الجهل بصفته، كالمسلم فيه.
أما إذا غلب نقد منها أو لم يكن سوى نقد واحد، حمل العقد عليه، وإن كان دراهم مغشوشة إذا جوزنا التعامل بها إلا أن يعين غيره، وهكذا الحكم في صفته من صحة وتكسير.
ولو غلب من جنس العروض نوع، فهل ينصرف الذكر إليه عند الإطلاق؟ فيه وجهان:
المذكور منهما في "تعليق" القاضي أبي الطيب في باب الربا، والمحكي عن أبي إسحاق، وهو المذهب في "التتمة": أنه ينصرف إليه.
والفلوس إذا راجعت رواج النقود؛ فالصحيح على ما حكاه الغزالي: أنها كالعروض، ومقتضى هذا أن يجيء فيها الوجهان عند الإطلاق.
وقد جزم الرافعي بتنزيل العقد عليها، ثم إذا نزل العقد عليها لا يحتاج إلى ضبطها بالوزن، بل يجوز بالعدد، وإن كان في الذمة صرح به القاضي حسين في باب بيع الطعام قبل أن يستوفي.
وكما يعتبر النقد الغالب في إطلاق المعاملات، كذلك يعتبر في تقويم المتلفات، فلو تساوت في الرواج؛ عين القاضي واحداً للتقويم.
قلت: وقد حكى في زكاة العروض أن رأس المال إذا كان عرضاً فاستوت نقود البلد في الرواج، والمال يبلغ بكل منها نصاباً – أن التقويم يكون بنقد أقرب البلاد إليها على وجه؛ والمال يبلغ بكل منها نصاباً – أن التقويم يكون بنقد أقرب البلاد إليها على وجه؛ لأنها لما استوت صارت كالمعدومة، ويتجه جريان هذا الوجه هاهنا.
فروع:
[إذا اشترى من رجل ثوباً بنصف دينار؛ لزمه شق دينار، ولا يلزمه من دينار
صحيح] وكذا إذا اشترى منه ثوباً آخر بنصف دينار لزمه نصف دينار آخر مكسور ولا يلزمه دينار صحيح، وإن شرط في البيع الثاني: أن يعطيه ديناراً صحيحاً غير الأول والثاني نظر: إن كان البيع الأول [قد لزم لم يصح الثاني وإن كان الأول] لم يلزم بطل العقدان، قاله أبو الطيب في التعليق.
ولو ابتاع ثوباً بنصف دينار ثم ابتاع آخر بنصف دينار على أن له عليه ديناراً كان البيع الأول والثاني جائزين؛ لأن المقترن بالثاني لا ينافيه؛ قاله الماوردي.
ولو باعه بألف درهم من نقد سوق كذا فإن كان مختلفاً لم يصح، وإن كان غير مختلف فوجهان:
أظهرهما: الصحة؛ قاله الماوردي أيضاً في باب الربا.
ولو باعه بدينار صحيح فجاءه بصحيحين، وزنهما دينار فعليه القبول، فإن جاء بصحيح وزنه دينار ونصف، قال في "التتمة": عليه قبوله، والزيادة أمانة في يده.
قال الرافعي: والحق أنه لا يلزم القبول: لما في الشركة من الضرر، وقد ذكر صاحب البيان نحواً من هذا.
ولو باع بنصف دينار صحيح وشرط أن يكون مدوراً؛ جاز، إن كان يعم وجوده.
ولو باع بنقد قد انقطع من أيدي الناس؛ فهو باطل، وإن كان لا يوجد في البلد ويوج في غيرها، فإن كان الثمن حالاً أو مؤجلاً إلى مدة لا يمكن نقله فيها؛ فهو باطل أيضاً.
وإن كان مؤجلاً إلى مدة يمكن نقله؛ صح، ثم إن حل الأجل وقد أحضره فذاك، وألا [فينبني على أن الاستبدال على الثمن، هل يجوز؟
إن قلنا: [لا؛ فهو كما لو انقطع المسلم فيه.
وإن قلنا: نعم]، فيستبدل وإلا انفسخ العقد.
وفيه وجه: أنه ينفسخ.
وإن كان يوجد في البلد إلا أنه عزيز.
فإن قلنا: يجوز الاستبدال صح، فإن وجد فذاك وإلا تبادلا.
وإن قلنا: لا، لم يصح.
ولو كان القدر الذي جرى به التعامل موجوداً ثم انقطع، إن جوزنا الاستبدال تبادلاً، وإلا فهو كانقطاع المسلم فيه.
قال: فإن باعه بثمن معين – أي: لم يكن في الذمة – لم يره، فعلى قولين أي: قولي بيع الأعيان الغائبة وقد تقدم الكلام عليهما.
فرع: إذا أبطل السلطان ذلك النقد الذي وقع العقد عليه إما بالتعيين أو لكونه غالب نقد البلد وقد أطلقا العقد، لم يكن للبائع إلا ذاك النقد.
وفيه وجه: أنه مخير إن شاء أجاز العقد بذلك النقد وإن شاء فسخه، كما لو تعيب المبيع قبل القبض.
قال: ولا يجوز البيع بثمن إلى أجل مجهول؛ لأن الأجل يقابل بقسط من الثمن؛ لأنه يزيد بزيادة الأجل وينقص بنقصانه، وإذا كان مجهولاً جهل ما يقابله، والمجهول إذا أضيف إلى معلوم أكسبه الجهالة؛ فبطل كذلك.
قال: كالبيع إلى العطاء أي: عطاء السلطان حقوق المرتزقة؛ لأنه مختلف ويتقدم تارة، ويتأخر تارة أخرى.
ولو قال: إلى وقت العطاء وكان معلوماً؛ جاز؛ لانتفاء العلة.
قال: وبيع حبل الحبلة في قول الشافعي، أي: في تأويل الشافعي؛ لقول ابن عمر: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع حبل الحبلة"، كما رواه مالك عن نافع عنه.
قال: وهو أن يبيع بثمن إلى أن تحمل هذه الناقة وتلد ويحمل ولدها، قيل: صوابه: إلى أن تلد [ويلد] ولدهما أن الكل فاسد، لكن هكذا روي، وما قاله الشيخ، هو ما رواه مسلم عن ابن عمر فلا مؤاخذة واختار الشافعي هذا التأويل؛ لأنه تأويل ابن عمر، وهو راوي الحديث، وكان أفهم بمقصوده عليه الصلاة والسلام.
تنبيه: "حبل الحبلة" الباء مفتوحة فيهما، وحكى إسكانها في الأولى وغلط راويه، والحبلة هنا جمع حابل؛ كظالم وظلمة.
قال الأخفش: امرأة حابل ونساء حبلة، وقيل: إنها فيها للمبالغة.
والحبل مختص بالآدميات، ويقال لغيرهن: حمل.
قال أبو عبيد: لا يقال لشيء من الحيوان: حبل إلا ما جاء في هذا الحديث.
قال: ولا يجوز تعليق البيع على شرط كبيع المنابذة، وهو أن يقول: إذا نبذت إليك الثوب أي: ألقيته إليك، كما قيل في قوله تعالى: - فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ} [الأنفال: 58]، وقوله - فَنَبَذُوهُ} [آل عمران: 187].
قال: فقد وجب البيع، وكبيع الملامسة، وهو أن يقول: إذا لمسته فقد وجب البيع. الأصل في ذلك ما روى الشافعي بسنده عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن [بيع] الملامسة والمنابذة.
وعن أبي سعيد الخدري "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين ولبستين
…
".
أما البيعتان: فالملامسة والمنابذة، وأما اللبستان: فاشتمال الصماء، والاحتباء في ثوب واحد ليس على فرجه منه شيء.
والمعنى في ذلك ما فيه من الغرر.
وصورة المنابذة على ما حكاه الشافعي في "المختصر" أن يقول: أنبذ ثوبي [إليك] وتنبذ ثوبك إليَّ، على أن كل واحد بالآخر.
أو يقول: أنبذ إليك ثوبي بعشرة؛ فيكون النبذ بيعاً، فعلى هذا يكون معنى قول الشيخ: فقد وجب البيع أي انعقد.
ووجه بطلانه اختلال الصيغة.
قال الأئمة: ويجيء فيه الخلاف المذكور في المعاطاة، فإن المنابذة مع قرينة البيع هي المعاطاة بعينها.
وقيل: صورتها: أن يأتي أحدهما بثوب مطوي أو في ظلمة، ويقول: بعتك هذا بكذا، بشرط أني إذا نبذته إليك قام ذلك مقام نظرك، ولا خيار لك إذا رأيته، والعلة في بطلانه: إذا منع بيع الغائب [فبطلانه ظاهر]، وإن جوز فاشتراط قيام النبذ مقام النظر.
قال الإمام: ويتطرق إلى هذا احتمال من جهة، أن من اشترى شيئاً على شرط نفي [خيار] الرؤية ففي صحة الشرط خلاف، ولا يمتنع أن يكون هذا على ذلك الاختلاف، وبهذا الاحتمال أجاب أبو سعيد المتولي.
ومثل هذين القولين مذكور في الملامسة لكن المنقول فيها على ما حكاه الرافعي عن "المختصر" الاثني، وفيها تكلم الإمام والمتولي بما ذكرناه.
ويحتاج كلام الشيخ – إن حمل على التأويل الثاني – إلى إضمار في الابتداء، وتقديره: ولا يجوز تعليق لوزم البيع على شرط، لكن يعكر عليه المثال الثالث، فإنه يصير غير ملائم لهما، فتعين أن الشيخ اختار التأويل الأول.
قال: وكبيع حبل الحبلة في قول أبي عبيدة أي: القاسم بن سلام – في تأويله حديث ابن عمر، وهو أن يقول: إذا ولدت هذه الناقة وولد ولدها؛ فقد بعتك الولد، ووجه فساده أنه بيع ما ليس بمملوك ولا معلوم ولا مقصور على تسليمه.
تنبيه: اقتصر الشيخ من الأمثلة في تعليق البيع على الشرط بما ذكره، لأن فيه دلالة على ما عداه؛ من جهة أنه إذا امتنع انعقاد البيع [صيغة التعليق مع وجود ما يدل على
الرضا وهو النبذ منها أو اللمس، فمع عدم ما يدل على الرضا عند انعقاد العقد]؛ كالتعليق على قدوم زيد أو طلوع الشمس – أولى.
قال: فإن جمع في البيع بين حر وعبد أو بين عبده وعبد غيره أي: ولم يفصل الثمن عليهما؛ ففيه قولان:
هذه المسألة هي قاعدة تفريق الصفقة، وعليها تتفرع مسائل كثيرة في الأبواب، وقد ذكرنا في أول كتاب البيع لم يسم العقد صفقة؟
[فأحد القولين أن العقد باطل] العقد فيهما، وله تعليلان نقلهما انب كج عن الشافعي فيما إذا باع عبده وعبد غيره عزاهما إلى الأصحاب.
أحدهما: أن الثمن المسمى يتوزع عليهام باعتبار القيمة، ولا يدري حصة كلٍّ منهما عند العقد، فيكون الثمن مجهولاً ويصير كما لو قال: بعتك عبدي هذا بما يخصه من الألف لو وزع عليه وعلى عبد فلان.
والثاني: أن اللفظة واحدة لا يتأتى تبعيضها، فإما أن يغلب حكم الحرام الحلال أو بالعكس، والأول أولى؛ لما روي عن ابن عباس: أنه قال: "ما اجتمع الحرام والحلال إلا غلب الحرام الحلال".
ولأن تصحيح العقد في الحرام ممتنع، وإبطاله في الحلال غير ممتنع، فكان كما لو باع درهماً بدرهمين.
وعلى العلتين لا يجيء هاذ القول فيما إذا ميز ثمن الحلال منهما.
قال الماوردي: لأن تمييز الثمن يجعلهما كالعقدين.
وفي "التتمة": أنا إذا عللنا بالجمع بين الحلال والحرام فسد أيضاً.
وفي "التهذيب": أن المشتري إن قبل مفصلاً مثل أن قال: قبلت هذا بكذا، وهذا بكذا كما فصل البائع – صح، وإن قال: قبلتهما والتفريع على هذا القول؛ فقد قبل، لا يجوز الجمع في القبول، والمذهب جوازه؛ لأن القبول مرتب على الإيجاب والإيجاب يقع متفرقاً فيقع القبول كذلك.
قال: والثاني: يصح في الذي يملك؛ لأنه لو كان الجمع بينهما يوجب حمل
أحدهما على الآخر: لم يكن حمل الصحة على البطلان بأولى من العكس؛ فوجب أن يسقط اعتبار أحدهما بالآخر لتكافؤ الأمرين، ويحمل كل منهما على مقتضاه في الحالين، ولأن كل واحد منهما لو أفرد العقد عليه لخالف حكمه حكم صاحبه؛ فوجب إذا جمع بينهما أن يختلفا أيضاً، كالمشتري صفقة عبد، أو شقصاً فيه الشفعة، وهذا القول هو الصحيح عند القاضي أبو الطيب، قال: وبه أفتى، وصححه غيره أيضاً، واختاره الغزالي في موضعين من "الوسيط" في الإقالة وفي باب المصراة.
وأجاب القاضي عن جهالة الثمن، بإنا على قول نخيره بين أن يختار بكل الثمن، أوي فسخ؛ فلا جهالة إذن.
أو على القول الآخر نقول: العقد وقع على ثمن معلوم في الابتداء وإنما سقط بعضه لمعنى في العقد فصار كما إذا رجع بأرش العيب فإن الثمن ما بقي وليس بمعلوم في العقد، ومع هذا فالبيع صحيح بما بقي.
قلت: ويؤيد ذلك ما سنذكره في المرابحة عند حط الزيادة.
وعن الثاني: بأن الذي بطل العقد فيه غير متميز عما صح العقد فيه بأن كُلاًّ منهما لو أفرد لصح العقد به، فليس أحدهما بالبطلان بأولى من الآخر؛ فأبطل العقد فيهما، وهاهنا الحرام ممتاز عن الحلال، فاختص الفساد به.
وحكى الإمام طريقة في المسألة الأولى جازمة بعدم الصحة، وهي التي صححها الشيخ أبو محمد في السلسلة.
ويجري الخلاف فيما إذا باع خمراً وخَلاًّ وخنزيراً وشاة وميتة ومزكاة، وكذا إذا باع معلوماً ومجهولاً إن قلنا يجيز بكل الثمن، وإن قلنا يجيز بقسطه من الثمن؛ فلا يجوز وجهاً واحداً.
وحكى الرافعي على هذا وجهاً: انه يصح ويثبت له الخيار، فإن أجاز لزمه جميع الثمن.
وحكى الإمام الخلاف في مسألة الخمر والخنزير والميتة مرتباً على الخلاف في مسألة الحر وأولى بالبطلان؛ لأن فيه تقدير عين لم يرد العقد عليها.
ويظهر لاختلاف علتي الفساد فوائد بعضها مذكور في الباب، وبعضها غير مذكور.
فمنه: إذا باع ملكه وملك غيره، وكان مما يتقسط الثمن عليهما بالأجزاء؛ كالعبد الواحد، والصبرة من الطعام، فعلى الأولى: يصح العقد في المملوك، وعلى الثانية، لا.
وهذا الطريق هو الصحيح، ويؤيده نص الشافعي في جريان القولين يما إذا باع الثمار قبل إخراج الزكاة، والثمار مما يتقسط الثمن عليها بالأجزاء، ومن الأصحاب من قطع بالقول الأول.
ومنه إذا زوج أمته وأمة غيره أو مسلمة ومجوسية، فعلى الأولى يصح فيما يحل، وهو الذي رجحه الإمام، وسنذكره في كتاب النكاح مع ما يتفرع عليه من المسائل فليطلبْ ثَمَّ، وعلى الثانية يبطل.
ومحل القولين في الأصل عند الشيخ أبي محمد ما إذا كانا جاهلين بحقيقة الحال. أما إذا علما فإنه يبطل وجهاً واحداً، والجمهور على خلافه.
قال: وللمشتري الخيار، أي: إذا كان جاهلاً بالحال لتبعيض الصفقة عليه، قال: إن شاء فسخ العقد، وإن شاء أمضاه فيما يصح بقسطه من الثمن في أحد القولين؛ لأنهما جعلا الثمن في مقابلة الحلال والحرام؛ فلم يجز أن يجعل في مقابلة الحلال وحده؛ لأنه غير ما تضمنه بذل البائع وقبول المشتري، وهذا هوا لصحيح، وعليه يقوَّم الحر عبداً، وهل يثبت للبائع الخيار إذا أجيز العقد؟ فيه وجهان أصحهما: عند المحاملي والإمام وغيرهما: أنه لا يثبت لكن مع علمه بالحال.
قال: وبجميع الثمن في القول الآخر؛ لأن العقد إنما يتوجه نحو ما يجوز بيعه، فكان الآخر كالمعدوم، ولأن المبيع قد ذهب بعضه، فأثبت للمشتري [الخيار] بني أخذه بجملة الثمن أو فسخ العقد كما في العيب، فعلى هذا لا خيار للبائع.
وقيل في مسألة الحر: الخلاف مرتب على الخلاف في مسألة العبدين، وأولى بأن
يجيز بكل الثمن، حكاه القاضي الحسين.
أما إذا كان عالماً بالحال، قال الرافعي: فلا خيار له وفيما يلزمه من الثمن القولان.
ومنهم من قطع بأنه يلزمه جميع الثمن؛ لأنه التزمه عالماً بأن بعض المذكور لا يقبل العقد.
قلت: والجزم بأنه لا خيار له فيه نظر؛ فإن الإمام حكى فيما إذا اشترى عشرين درهماً بدينار، وأقبض الدينار، وقبض [من] الدراهم تسعة عشر، وتفرقا – انفسخ العقد في الدرهم وما يقابله، وفي الباقي: قولاً تفريق الصفقة.
فإن قلنا: لاينفسخ، فهل يثبت للمشتري الخيار؟ فيه ثلاثة أوجه:
وجه الثبوت ظاهر، ووجه عدمه: أنه الذي ينتفي في هذا التبعيض؛ إذ المسألة مفروضة إذا تفرقا على خيار. والثالث: إن علما أن العقد ينفسخ في الباقي وتفرقا عن قصد فلا خيار، وإلا ثبت، ويتجه أني جيء مثل ذلك هاهنا.
ولو كان المبيع خمراً وخلاًّ، أو خنزيراً وشاة، أو ميتة ومذكاة، وصححنا العقد، فكم يلزم المشتري من الثمن عند لزوم العقد؟ فيه طريقان:
أحدهما: القطع بتمام الثمن، وهو ما حكاه الماوردي، ويحكي عن صاحب التلخيص.
وأصحهما: طرد القولين، تقوم عند من يرى لها قيمة، وهو الأصح عند الغزالي وقيل: تقدر الخمر خلاًّ، وهو المحكي أيضاً فيما إذا أسلم الزوجان وقد جرى القبض في بعض المهر الفاسد مع الوجه الآتي.
وقيل: تقدر عصيراً، وهو المحكي في الصداق في "الوسيط" وغيره.
والخنزير يقدر شاة، وقيل: بقرة، وهو ما حكاه في "التهذيب" هاهنا، والذي أورده الإمام في نكاح المشركات، والميتة تقدر مذكاة وتقوَّم.
فرع: لو كان يملك من عبد نصفه، فقال لرجل: بعتك نصف هذا العبد، فهل ينزل على نصفه الذي يملكه أو ينزل على النصف منه شائعاً؟ فيه وجهان محكيان في "الوسيط" في العتق في السراية.
فإن حملناه على الإشاعة من جميعه بطل العقد في ربعه، وفي الربع الباقي قولاً تفريق الصفقة.
وأجرى الغزالي الخلاف في الأصل فيما لو أقر بنصفه، ثم قال: وقال أبو حنيفة: ينزل البيع على نصفه الخاص، والإقرار يشيع؛ لأن الإنسان قد يخبر عما في يد الغير ولا يبيع مال الغير، وهذا يتجه فليجعل وجهاً في مذهبنا.
وهذا الذي ذكره يخرج من كلام الإمام في كتاب الشركة؛ فإنه حكى الخلاف في مسألة البيع ثم قال: ولو أقر بأن لفلان في هذا العبد نصفه، فإن لم ننزل مطلق البيع على نصفه، فالإقرار أولى، وإن نزلناه في البيع على نصفه، ففي الإقرار يخرج على وجهين:
أصحهما: أنه يشيع؛ خلاف البيع وفرق بما أشار إليه الغزالي.
قال: فإن جمع بينهما فيما لا عوض فيه كالرهن والهبة، أي: مثل أن يرهن عبده وعبد غيره، أو يهب عبده وعبد غيره، فقد قيل: يصح فيما يحل قولاً واحداً؛ نظراً إلى العلة الأولى.
قال الإمام: وهذا فيه فضل نظر؛ فإن الدَّين وإن لم يكن عوضاً عن الرهن، فرهن الدين بالشيء المجهول لا يصح على الأصح – كما سيأتي- وما قاله يحتاج إلى تأمل.
[قال:] وقيل على قولين؛ نظراً إلى العلة الثانية.
قال: وإن جمع بين حلالين، [ثم تلف] أحدهما قبل القبض- أي: والآخر في يد البائع – لم يبطل في الآخر؛ لانتفاء العلتين حالة العقد.
وقيل: على قولين، وهو قول أبي إسحاق المروزي؛ لأن الفساد الطارئ قبل
القبض حكمه حكم الفساد المقارن للعقد، كما في العيب والهلاك.
والمذهب في "الحاوي" في باب الربا، وفي "التهذيب"، والذي عليه أكثر الأصحاب- الأول؛ قياساً على النكاح، فإنه لو جمع بين أجنبية ومَحْرَمٍ في العقد، كان في صحة نكاح الأجنبية القولان، ولو تزوج أجنبيتين ثم انفسخ نكاح إحداهما بردة أو غيرها لم ينفسخ نكاح الأخرى فعلى هذا يثبت له الخيار.
فإن أجاز فكم يلزمه من الثمن؟ قال الشيخ أبو حامد: يأخذه بالحصة قولاً واحداً.
وحكى أبو الطيب في تعليقه فيه القولين السابقين، وأنا إن قلنا: يجيز بكل الثمن فلا خيار للبائع، وإلا فوجهان.
قال الإمام: ولا اتجاه للقول بأنه يجيز بكل الثمن، ولولا اشتهاره في النقل لما ذكرناه، ثم [قال:] قال الأئمة: القولان هاهنا مرتبان على القولين في المسألة السابقة، فإن قلنا ثم: يجيز بالقسط، فهاهنا أولى، وإلا فقولان.
أما إذا كان الآخر في يد المشتري وهو قائم، فقد حكى الإمام القولين مرتبين على الصورة الأولى، وأولى بعدم الانفساخ؛ لتأكد العقد في العبد المقبوض بانتقال الضمان فيه إلى المشتري.
ولو تلف في يد المشتري قبل الآخر في يد البائع، فقولان مرتبان على القولين في الصورة قبلها، وأولى بعدم الانفساخ، وهذه الصورة تناظر ما سيأتي، فيما إذا تلفت العين المستأجرة في أثناء المدة، هل ينفسخ في المدة التي استوفى المنفعة فيها؟
فإن قلنا: بتفريق الصفقة، فهل يثبت له الخيار في فسخ العقد في العبد الذي تلف في يده، وكذلك في نظيره من مدة الإجارة؟ فيه قولان في "تعليق" القاضي الحسين.
وأصحهما: أنه لا يثبت، بخلاف ما لو كان العبد المقبوض باقياً، إما في يده أو في يد البائع؛ لأن ملك العب بالتلف قد استقر قراره، وكذلك المنفعة المستوفاة، كذا قال.
فرع: إذا باع في مرض موته عبداً يساوي ثلاثين بعشرة، ولا مال له غيره، فرد البيع في بعض المبيع، فما حكم الباقي؟ فيه طريقان:
أحدهما: القطع بصحة البيع؛ لأنه نفذ في الكل ظاهراً، والرد في البعض تدارك حادث، وهذا أصح عند صاحب "التهذيب".
ووجهه: بأن المحاباة في المرض وصية، والوصية تقبل من الغرر مالا يقبله غيرها.
وأظهرهما عند الأكثرين: أنه على قولي تفريق الصفقة.
فإن قلنا بصحة العقد في الباقي، ففي كيفيته قولان أو وجهان:
أحدهما: أن البيع يصح في القدر الذي يحتمله الثلث، والقدر الذي يوازي الثمن بجميع الثمن، ويبطل في الباقي فيصح في مثالنا البيع في ثلثي العبد بالعشرة ويبقى مع الوارث ثلث العبد وقيمته عشرة، والثمن وهو عشرة وذلك مثلاً المحاباة وهي عشرة: وإلى ترجيح هذا مال ابن الحداد والأكثرون.
وقيل: إنه المنصوص عليه.
والثاني: أنه إذا ارتد البيع في بعض المبيع، وجب أن يرتد إلى المشتري ما يقابله من الثمن. فعلى هذا تدور المسألة؛ لأن ما ينفذ فيه البيع يخرج من التركة، وما يقابله من الثمن يدخل فيها، ومعلوم أن ما ينفذ فيه البيع يزيد بزيادة التركة، وينقص بنقصها، فيزيد المبيع بحسب زيادة [التركة، وتزيد التركة بحسب زيادة المقابل الداخل، [ويزيد المقابل الداخل] بحسب زيادة] المبيع وهذا دور، ويتوصل إلى معرفة المقصود منه بطرق نذكر أسهلها وهو أن ينظر إلى ثلث المال وينسبه إلى قدر المحاباة، ويجيز البيع في المبيع بمثل نسبة الثلث من المحاباة.
فنقول في هذه المسألة: ثلث المال عشرة، والمحاباة عشرون، والعشرة نصف العشرين، يصح البيع في نصف العبد وقيمته خمسة عشر بنصف الثمن وهو خمسة، كأنه اشترى سدسه بخمسة، وثلثه وصية له ويبقى مع الورثة نصف العبد وقيمته خمسة عشر، والثمن خمسة فالمبلغ عشرون وذلك مثلاً المحاباة، وقد ذهب إلى ترجيح هذا القول أكثر الحُسَّابِ، وابن القاص، وابن اللبان، وتابعهم إمام الحرمين، وادعى أنه اختيار ابن سريج.
قال الرافعي: لكن في هذه الدعوى نظر؛ فإن الأستاذ أبا منصور وغيره نسبوا الأول إلى اختيار ابن سريج.
ولو باع المريض قفيز حنطة بقفيز حنطة، وكان [قفيز المريض] يساوي عشرين،
وقفيز الصحيح يساوي عشرة ومات المريض ولا مال له غيره، ورد الورثة المحاباة، وقلنا بجواز تفريق الصفقة، فإن قلنا بالقول الأول فالبيع باطل فيهما بلا خلاف؛ لأن مقتضاه صحة البيع في قدر الثلث، وهو ستة وثلثان، وفي قدر الذي يقابله من قفيز الصحيح وهو نصفه؛ فيكون خمسة أسداس قفيز في مقابلة قفيز، وذلك ربا.
وإن قلنا بالثاني صح البيع في ثلثي قفيز المريض بثلثي قفيز الصحيح وبطل في الباقي، وبهذا قطع قاطعون كي لا يبطل غرض الميت من الوصية؛ وهو الأصح في "التهذيب".
وعلى كل حال، فللمشتري الخيار في فسخ البيع، ولا خيار للورثة في إبطال البيع، وما حكى عن صاحب التلخيص من حكاية قول آخر:[أن] للورثة الخيار في فسخ البيع، وقول: أنه لا خيار للمشتري، فقد نوقش فيه. والله أعلم.
قال: فإن جمع بين عقدين مختلفي الحكم كالبيع والإجارة، أي: مثل أن قال: بعتك هذا العبد وأجرتك هذه الدار سنة بكذا، واختلاف الحكم فيها: أن التأقيت في الإجارة شرط وهو مبطل في البيع، ويجوز التصرف فيها مع تعرضها للانفساخ بعد قبض العين، والبيع بخلافها.
قال: والبيع والصرف، أي: بأن يقول: بعتك هذا العبد وهذا الدينار بهذه الدراهم.
فالصرف: بيع الدينار بما يقابله من الدراهم، والبيع: بيع العبد بما يقابله من الدراهم، واختلاف حكمهما: أن الصرف يبطل بالتفرق قبل التقابض، بخلاف البيع، ولو باع بذهب في هذه الصورة كانت من صور مد عجوة.
قال: والبيع والنكاح، [أي: مثل أن يقول: زوجتك ابنتي وبعتك عبدها هذا [بمائة] وله تزويجها وبيع عبدها، أو: زوجتك جاريتي – إن كان ممن يحل له نكاح الأمة – وبعتك عبدي هذا بكذا.
وفي الجيل: تصويرها بما إذا قال: تزوجت ابنتك واشتريت منك عبدك بألف درهم.
وكذلك صورها البندنيجي أيضاً، وفيه نظر لأن هذا من باب ما إذا باع عبده وعبد غيره بثمن واحد، واختلاف الحكم فيما ذكرناه أن النكاح لا يفسد بفساد مقابله، بخلاف البيع.
قال: والبيع والكتابة، أي: مثل أني قول: كاتبتك وبعتك هذه الدار بألف، تؤديها في نجمين، واختلاف الحكم فيهما: أن المكاتب بسبيل من فسخ الكتابة متى شاء بخلاف البيع.
قال: ففيه قولان:
أحدهما: يبطل العقد يهما؛ لأن حصة كل واحد من العقدين من الثمن مجهولة حالة العقد، لا تعرف إلا بالتقسيط بعده؛ ولأن اختلاف الأحكام يغلب على الظن وقوع الانفساخ في أحدهما، وذلك يجر جهلاً إلى العوض فأبطل العقد.
قال: والثاني: يصح ويقسط الثمن عليهما على قدر قيمتهما، [أي]: إن قُدِّر التلف، وفي النكاح على مهر المثل؛ لأنها ما اشتملت على ما يمتنع إفراده بالعقد، والصفقة متحدة في نفسها فلا حاجة إلى تقدير توزيع في الابتداء حتى يفضي إلى جهالة، فأِبه ما إذا اشترى شقصاً مشفوعاً وسيفاً؛ فإن ما فيهما من اختلاف الحكم لا يمنع صحة العقد، وهذا هو الأصح.
وفرق الإمام بينهما بأن مقصود العقد في الشقص والسيف لا يختلف فيما يتعلق بالفسخ والتنفيذ، وصورة القولين تتلقى من اختلاف يتعلق بالفسخ والإجازة بسبب أنه قدر إذا سبق الفسخ إلى شيء اعتاض ما يبقى في مقابلة الباقي.
ورجع هذا إشكال إلى وضع العقد، والشفيع إذا أخذ الشقص فهو مقرر للعقد، وإن كان [ينشأ بينه] وبين المشتري توزيع فهذا لا ينعطف إلى العقد فسخاً في البعض.
نعم، لو اشترى شقصاً مشفوعاً وسيفاً، ثم المشتري باعهما فهو يلتحق بصورة القولين.
وحكى عن القاضي الحسين في التعليق، والصورة هذه إبداء وجهين في ثبوت
الخيار للمشتري إذا لم يعلم الشفيع بالبيع الأول وكان المشتري جاهلاً بالحال.
وأظهرهما: أنه لا يثبت.
والثاني: أنه يثبت له لتبعيض الصفقة عليه ولانتزاع الشقص منه.
ويجري القولان يما لو جمع بين بيع وسلم، ويما لو باع صاع حنطة ودرهماً بصاع شعير ودنانير، ووجه الاختلاف فيهما: أن الطعام يقع مقابلاً بما في الجانب الآخر من شعير وذهب، وبيع الطعام بالنقد لا يشترط فيه التقابض وبالشعير يشترط.
واعلم أن قول الفساد فيما إذا جمع بين البيع والنكاح مقصور على البيع والصداق، أما النكاح فصحيح، قال الرافعي: بلا خلاف وكذلك غيره بناء على أن النكاح لا يفسد بفساد الصداق.
وحكى الغزالي الخلاف في فساد النكاح في كتاب الصداق، ونسبه الإمام إلى بعض المصنفين ثم قال: والوجه القطع بصحة النكاح.
وإنما أخذ هذا من تردد الأصحاب: فيما إذا جمع نكاح مستحلة ومحرمة في عقد، فإنه نقل قول في فساد المستحلة مشهور على ضعفه، وقول الصحة في الكتابة والبيع لا يرجع إلى البيع فإنه باطل قولاً واحداً على ما حكاه الرافعي وغيره، لصدور أحد شقيه قبل تمام عقد الكتابة، وإنما يرجع إلى الكتابة، لكن قد اقترن بها عقد فاسد فتخرج صحتها أيضاً على هذا القول على تفريق الصفقة فإن جوزت صحت وإلا فلا.
وحكى البندنيجي في صحة البيع مع الكتابة طريقين صرح بهما الغزالي في كتاب الرهن والجمهور في كتاب الكتابة].
أحدهما: ما ذكرناه.
والثاني: طرد القولين في الجميع.
وفي المجموع للمحاملي أن القول بصحة البيع محكيٍّ عن الشافعي.
وفي "تعليق" القاضي الحسين تشبيه الطريقين بالطريقين المذكورين فيما إذا قال: اشتريت منك هذا الزرع على أن عليك حصاده بدرهم، فإن منهم من جزم ببطلان الإجارة لما ذكرناه من العلة.
ومنهم من طرد القولين في صحتها، وهوا لذي اختاره ابن الصباغ، وحكى الرافعي في مسألة الزرع طريقة قاطعة بفساد العقدين وصححها.
وهذه الطريقة قال القاضي الحسين: لا تجيء فيما إذا قال: اشتريت منك هذا الزرع، واستأجرتك على حصاده بدرهم بل في ذلك الطريقان الأولان؛ لأن في الإتيان بلفظ الشرط تغيير لمقتضى العقد، وهو وجوب الحصاد على المشتري.
فرع: لو اشترى حطباً على ظهر بهيمة مطلقاً، فيصح العقد، ويسلم إليه في موضعه، أو لا يصح حتى يشترط تسليمه إليه في موضع؛ لأن العادة تقتضي حمله إلى داره؟
حكى المتولي في ذلك وجهين.
أما إذا شرط حمله إلى بيته، فإن كان مجهولاً بطل، وإن كان معلوماً خرج على ما ذكرناه في مسألة الزرع، صرح به القاضي الحسين.
ولو اشترى رطبة بشرط القطع على أن يرسل فيها دابته بطل العقد، قاله العبادي في فتاويه.
فائدة: الصفقة تتعدد بتفصيل الثمن قطعاً، كما [إذا] قال: بعتك هذا بكذا، وأجرتك هذا بكذا، وقبل المشتري كذلك، وليست هذه الصورة مما يجري فيها القولان، وكذلك لو جمع المشتري في القبول، فقال: قبلت فيهما على المذهب؛ لأن القبول يترتب على الإيجاب.
وقيل: إذا لم يجز تفريق الصفقة لم يجز الجمع في القبول.
وتتعدد أيضاً بتعدد البائع وإن اتحد المشتري، كما إذا باع اثنان عبداً من واحد
صفقة واحدة، ومقتضى هذا أنهما إذا أوجبا العقد له على عبد بألف بأن قالا: بعناك هذا العبد بألف، كما صور القاضي الحسين، فَقبِلَ نصيب أحدهما وهو النصف بخمسمائة – أنه يصح، وهو ما حكاه الإمام في "باب الخراج بالضمان"، وادعى أنه لاخلاف فيه، وقد حكى القاضي الحسين في التعليق فيه وجهين.
وهل تتعدد بتعدد المشتري، مثل أن يشتري اثنان عبداً من واحد؟ فيه قولان:
أصحهما: نعم، كما في طرف البائع، وهذا ما حكاه القاضي أبو الطيب والبندنيجي في باب الخراج بالضمان.
والثاني: لا، فعلى الأول: لو باع اثنان من اثنين عبداً؛ فقبل أحدهما نصيب أحد البائعين بنسبته من الثمن ففي صحته وجهان، صرح بهما القاضي الحسين وغيره.
وقال الإمام في "باب الخراج بالضمان": وأظهرهما في النقل أن ذلك ممتنع، وأظهرهما في القياس التصحيح.
وهل تتعدد بتعدد الوكيل؟ فيه أربعة أوجه:
أحدها: النظر إلى العاقد، وبهذا أجاب ابن الحداد، وهو الأصح عند الشيخ أبي علي والأكثرين.
والثاني- وبه قال أبو زيد والخضري -: أن الاعتبار بالمعقود عليه، وهذا أصح عند الغزالي.
والثالث – ويحكي عن أبي إسحاق -: أن الاعتبار في طرف البيع بالمعقود له، وفي طرف الشراء بالعاقد، والفرق: أن العقد يتم في جانب الشراء بالمباشر دون المعقود له؛ ألا ترى أن المعقود له لو أنكر كون المباشر مأذوناً له وقع العقد عن المباشر، وفي جانب البيع لايتم بالمباشر حتى لو أنكر المعقود له الإذن بطل.
قال الإمام: وهذا الفرق فيما إذا كان التوكيل بالشراء في الذمة، أما إذا وكله بشراء عبد بثوب له معين فهو كالوكيل بالبيع.
والرابع – ذكره المتولي -: أن الاعتبار في جانب الشراء بالوكيل، وبالبيع بهما جميعاً فأيهما تعدد؛ تعدد العقد.
وثمرة هذا الخلاف تظهر في الأبواب – إن شاء الله تعالى -.
قال: وإن جمع بيعتين في بيعة واحدة بأن قال في أحد التأولين – أي: اللذين ذكرهما الشافعي فيما رواه بسنده عن أبي هريرة – رضي الله عنهما – أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة – بأن قال: بعتك هذا العبد بعشرة على أن تبيعني دارك بمائة.
بطل البيع للخبر؛ ولأنه سلف في عقد فلا يصح الشرط، وإذا سقط الشرط وجب أن يضاف إلى السلعة من الثمن ما سقط بإزاء الشرط وذلك مجهول فيصير الثمن مجهولاً.
فعلى هذا لو وقع البيع الثاني بالثمن الذي عيناه نظر: إن علما فساد الأول صح الثاني، وإن جهلا صحته، قد حكى الإمام هاهنا والقاضي الحسين في التعليق أن البيع صحيح.
قال القاضي: إلا أن يعلق انعقاد أحدهما بانعقاد الآخر، وجعل الإيجاب في أحدهما إيجاباً في الآخر، كما يفعل في نكاح الشغار فيقول: بعتك هذا العبد على أن تبيعني دارك؛ فإن وجب لك عبدي وجب لي دارك، يمتنع العقدان.
وهذه الزيادة حكاها أبو داود عن الشافعي من تتمة هذا التأويل، والذي حكاه الإمام هاهنا قد عزاه إلى شيخه في باب ما يفسد الرهن، وإن كان المشتري يعتقد أن الوفاء به واجب، ثم قال: وقياس ما قاله القاضي أن البيع على اعتقاد الوجوب فاسد مردود، وهذا ما جزم [به] المتولي والبغوي.
وقد تعرض الغزالي لهذا الخلاف في الرهن.
وقول الفساد يدانيه ما حكاه الإمام متصلاً بباب نفقة الأقارب فيما إذا وهب المشتري الدلال شيئاً على اعتقاد انه يستحقه عليه، فإن له الرجوع كما حكاه الصيدلاني عن القفال إذ الأجرة على الذي أمره.
قال: أو قال في التأويل الآخر: بعتك عشرة نقداً أو بعشرين نسيئة، بطل البيع للخبر، ولأنا الثمن مجهول؛ أنه لا يدري أنه عشرة نقداً أو عشرون نسيئة، ولأنه لم يجزم الإيجاب بل تردد، والتردد في الإيجاب مانع من صحته، وهذه المسألة قريبة الشبه بما إذا قال: بعتك عبداً من هذه الثلاثة أعبد ولك خيار التعيين، وقد ادعى الإمام فساد البيع فيها بالإجماع.
وفي "الحاوي" أن الإمام مالكاً قال بصحة البيع، وقد حكينا عن أبي حنيفة مثله في مسألة بيع الصبرة، وأنه قول قديم للشافعي.
قال: وإن فرق بين الجارية وولدها – [أي: المملوكة له بالبيع]، قبل سبع سنين، بطل البيع، والأصل فيه ما روى أبو داود عن علي – كرم الله وجهه – أنه فرق بين جارية وولدها، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وردَّ البيع.
وروى الترمذي عن [أبي أيوب قال: سمعت] رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من فرق بين والدة وولدها، فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة"، وقال: إنه حديث حسن غريب.
وبالتسليم يحصل التفريق المحرم؛ فيكون ممنوعاً شرعاً، والممنوع شرعاً كالممنوع حِساً، وقوله – عليه السلام:"لا تولَّه والدة بولدها"، وذلك يحصل
بالبيع؛ فكان منهيًّا عنه.
قال الجوهري: الوله: ذهاب العقل والتحير؛ من شدة الوجد.
وهذا هو الجديد، [وبه قال البغداديون والإصطخري]، ولا فرق فيه بين أن ترضى الأم بالتفرقة أم لا، كما صرح به الماوردي في السير.
وفي الرافعي فيه أيضاً حكاية وجه عن ابن القطان، والقاضي الطبري: أنه يرتفع التحريم بالرضا [به فيصح].
وروى الإمام والقاضي الحسين في كتاب الرهن عن القديم قولاً أن البيع يصح، وأن النهي محمول على التنزيه، ونسب الماوردي هذا في كتاب السير إلى البصريين، وقال: إنهما لا يقران على التفرقة فإن تراضى المتبايعان على ضم أحدهما إلى الآخر تم البيع الأول، وإن تمانعا فسخ البيع الأول.
وعن كتاب ابن كج أنه يقال للبائع: إما أن تتطوع بتسليم الآخر، أو يفسخ البيع، فإن تطوع بالتسليم، وامتنع المشتري من القبول فسخ.
ومحل القولين على ما حكاه أبو الفرج البزاز فيما إذا كان التفريق بعد سقي الولد اللبأ، فأما قبله فلا يصح جزماً؛ لأنه تَسَبُّب إلى هلاك الولد.
وزاد الماوردي على سقي اللبأ أن يجد مرضعة ترضعه تمام الرضاع على ما حكاه في كتاب الرهن في أثناء فصل منه.
والوالد في معنى الوالدة [على المذهب في "التتمة"، و"الشامل"، وغيرهما في كتاب "السير"؛ خلافاً لابن سريج.
وقال الغزالي هاهنا: الظاهر أن الوالد في معنى الوالدة]، ولا يتعدى إلى غيرهما من الأقارب، وفي الجدة احتمال.
وقال في كتاب السير: الجدة عند عدم الأم في معناها، أي: إذا كان لها حق في الحضانة، كما قاله الماوردي، ولو بيع مع الجدة عند وجود الأم، فهل يسقط التحريم؟ فيه قولان، ولا خلاف أنه يباع مع الأم دون الجدة.
والأب هل يلحق بالأم في تحريم التفريق؟ فيه قولان: فإن ألحقناه بها فهل يتعدى إلى سائر المحارم؟ فيه قولان.
وقد يستدل لقول المنع في الأب بما روى أبو داود عن أبي موسى أنه – عليه السلام –قال: "ملعون من فرق بني الوالد وولده، وبين الأخ وأخيه".
وفي "الحاوي"، فيما إذا كان مجتمعاً مع أجداده وجداته من قبل أبيه ثلاثة أوجه
أحدها: يجوز التفريق.
والثاني: لا يجوز، وسواء في هذا الأنثى والذكر.
إذا قيل بتحريم التفرقة بينه وبين [الأب.
والثالث: يجوز التفرقة بينه وبين] الجد، ولا يجوز بينه وبين الجدة.
قال: ويما بعد ذلك إلى البلوغ قولان:
أحدهما: لا يجوز؛ لما روى الدارقطني عن عبادة بن الصامت قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفرق بين الأم وولدها، فقيل: يا رسول الله، إلى متى؟ قال:"حتى يبلغ الغلام، وتحيض الجارية".
وهذا ما جزم به القاضي الحسين في الرهن.
وأظهرهما – وهو الذي نقله المزني، وجزم به الماوردي في كتاب الصداق وابن الصباغ في الرهن، وجعله الإمام في السير المذهب – الجواز؛ لأنه – حينئذ – يستغني عن التعهد والحضانة، فأشبه البالغ، فإنه يجوز أن يفرق بينه وبينها لكن مع كراهة.
والحديث في إسناده عبد الله بن عمرو بن حسان، قال عبد الحق: وهو ضعيف الحديث.
وحكم الهبة والوصية وكل جهة مملكة حكم البيع فيما ذكرناه، صرح به الإمام في كتاب السير.
وفي الرافعي الجزم بالوصية بالجواز، موجهاً ذلك بأن الموت لعله يكون بعد انقضاء زمان التحريم.
وفي فتاوى الغزالي [إلحاق] التفرقة بالسفر بالتفرقة بالبيع، وأنه لا يجوز التفرقة بين الزوجة وولدها، بخلاف الحرة المطلقة.
وفي "التتمة": أن الوصية بالحمل دون الأم أو بالأم دون الحمل هل تصح أم لا؟
فعلى هذين القولين، [أي] المذكورين في الأصل، وإنما قلنا ذلك؛ لأنه لو أراد أن يفرق بين الأم والولد الطفل بالوصية، لا يجوز في أحد القولين كما لا يجوز في البيع.
قلت: وكان يتجه أن يقال: إن قلنا: إن الملك يحصل بالموت فيجوز؛ لأنه قهري كما في الرد بالعيب، وإن قلنا: لا يحصل به، فلا يصح، وذلك مستمد مما سنذكره عن المتولي في الوصية للكافر بالعبد المسلم، ولا يحرم التفريق بالعتق، وفي الرد بالعيب اختلاف للأصحاب.
والمذهب الجواز، وفي "تعليق" البندنيجي وأبي الطيب في كتاب السير الجزم بمقابله.
وقال: إن ذلك يجعل بمنزلة العيب الحادث عند المشتري.
وحُكي عن الشيخ أنه لا اشترى جارية وولدها الصغير ثم تفاسخا البيع في أحدهما جاز، ولو كانت الأم رقيقة والولد حرًّا وبالعكس؛ فلا منع من بيع الرقيق، ذكره المتولي.
وفرق الماوردي بين ما إذا كان الولد رقيقاً أو حُرًّا بفرقين:
أحدهما: أنه إذا كان رقيقاً أمكن بيعه معها، ولا كذلك إذا كان حرًّا.
والثاني: أنه إذا كان مملوكاً فحضانته للأم فإذا فرق بينهما سقطت الحضانة، وليس كلك إذا كان حرًّا، فليس فيه إبطال لحقها، حكى ذلك في كتاب الرهن.
وحكم الولد المجنون حكم الولد الذي له دون سبع سنين، صرح به القاضي الحسين في كتاب السير، وأن امتناع التفريق ينتهي بإفاقته.
فرعان:
أحدهما: لو باع بعض الولد مع جملة الأم في عقد واحد، لم يصح، أشار إليه ابن الصباغ في كتاب الصداق، وعلله صاحب "الإكمال على ما فيه التنبيه من الإجمال" بأن ذلك يؤدي إلى التفرقة بينها وبين الولد في بعض الزمان.
الثاني: التفرقة بين البهيمة وولدها بعد استغنائه عن اللبن جائز، وعن الصيمري حكاية وجه فيه.
قال: وإن باع شاة إلا يدها، أو جارية إلا حملها، أو جارية حاملاً بحُرٍّ، بطل البيع؛ لما روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الثنيا، وقد تقدم ذكر هذا الحديث مع تفسير الثنيا.
ومحل الكلام في بيع الشاة دون يدها إذا كانت حية، أما إذا كانت مذكاة فإن كان المقطع معلوماً كالأكارع جاز، صرح به القاضي الحسين في التعليق عند الكلام في بيع الثمار.
ولا فرق في الحمل بين أن يكون لمالك الأم، ويستثنيه باللفظ [أو لا]، كما إذا أوصى له به، ويكون استثناءً بالشرع إذا علم المشتري الحال.
وحكى الغزالي فيما إذا استثنى الحمل عن البيع – وجهين:
أحدهما: الصحة؛ كما لو كان الولد حرًّا فإن بيع الأم صحيح على الظاهر.
قال في "التتمة": وهذه الطريقة على قولنا: إن الحمل لا يعلم [أظهر]؛ لأنها معلومة مقدور على تسليمها، والحمل تابع لها، فلا يجوز [أن] يتغير الحكم
فيها بسبب البائع.
وحكى القاضي الحسين في التعليق أن مالك الجارية الحامل إذا باعها من مالك الحمل؛ صح على وجه.
فرع: لو وكل [مالك الحمل] مالك الأم في بيعه، أو وكَّل مالك الأم مالك الحمل في بيعها، فباعهما دفعة واحدة، لم يصح، قاله المتولي.
فائدة: اختلف نقل الإمام والغزالي رضي الله عنهما في صحة بيع الأمة الحامل بالحر في مواضع أذكرها لك بالنص.
قال الإمام قبيل باب النهي عن بيع وسلف: إن الأصح صحة العقد، وأبعد بعض أصحابنا، فذكر وجهاً في منع بيعها إلى أن تلد، وكذلك إذا كان الحمل بالوصية لزيد وكانت الجارية لعمرو، فإذا باع مالك الجارية الجارية؛ فهو كما لو فرض البيع وهي حامل بولد حر، وهذه مادة ما حكيناه عن الغزالي من قبل، وفيما حكاه في كتاب الرهن فإنه قال: إذا وطئ الراهن الجارية المرهونة، وقلنا: لا ينفذ الاستيلاد، فإن بيعت وفي بطنها الولد الحر صح.
وفيه وجه: أنه يبطل، وإن كان ما نقله الإمام في هذا الموضع يخالف ذلك؛ فإنه قال: إذا حل الحق وهي حامل فالذي نقله الأئمة قطع القول بأنه يمتنع بيعها لإمكان اشتمال رحمها على الولد الحر، وقد قدمت في هذا خلافاً في كتاب البيع ونزلته منزلة ما إذا باع جارية حاملاً بولد مملوك، واستثنى حملها، ولكن المذهب المنع، كما ذكره الأصحاب، وإن كان تجويز البيع منقاساً.
وقد نحا الغزالي: هذا النحو في كتاب النكاح حيث قال فيما إذا وطئ الأب جارية الابن وأحبلها أما إذا قلنا: لا يحصل الاستيلاد؛ فلا يجوز بيع الجارية وهي حامل بولد حر، وفي كتاب السير حيث قال فيما إذا وطئ جارية من المغنم؛ إذا لم ينفذ الاستيلاد، وعتق الولد، فهذه حامل بحرٍّ، والأصح منع بيعها.
والذي حكاه الرافعي عن اختيارهما الأول، فتأمل ذلك.
ثم في كلام الإمام في الرهن مناقشة فإنه قال: إنه ألحق بيع الجارية الحامل بالحرّ ببيع الأمة التي استثنى حملها، والأمر كما حكاه في البيع على العكس، والله أعلم.
فرع: لو باع شاة لبوناً واستثنى لبنها؛ ففي صحة البيع وجهان، حكاهما الفريقان، وأصحهما: أنه لا يجوز كما لو استثنى الحمل في بيع الجارية، والبيض في بيع الدجاج، والكُسَبْ في بيع السمسم، والحب في بيع القطن.
والفرق على الوجه الثناي أنه يقدر على تسليم المبيع حالة العقد، بخلاف تلك الصور، لكن فيه مانع آخر: وهو اختلاط اللبن بما يتجدد، ولو لم يستثن اللبن دخل في العقد.
قال في "التتمة": ومقابله قسط من الثمن.
قال القاضي أبو الطيب في تعيقه قولاً واحداً.
وفي "الوسيط" في باب بيع المصراة أنه لا يقابله قسط من الثمن على رأي.
قال: وإن باع جارية حاملا ًوشرط حملها ففيه قولان، [أي] مبنيان على أن الحمل هل يعرف فيعامل معاملة المعلوم أم لا؟ وفيه خلاف.
فإن قلنا بالأول – وهو الأصح -: صح البيع؛ كما لو شرط في العبد أنه كاتب، فإن ظهر أنها غير حامل ثبت له الخيار.
وإن قلنا بالثاني: بطل البيع، كما لو شرط معها شيئاً مجهولاً، وهذا ظاهر النص في كتاب الصرف؛ فإنه قال: ولا خير في أن يبيع الرجل الدابة ويشترط عقاقها، وأراد به إذا شرط حملها، والعَقُوق: الحامل، والعَقَاق: الحمل.
وقيل: القولان في غير الآدمي من الحيوانات، أما في الآدمي فيصح قولاً واحداً؛ لأن الحمل فيها عيب، فإذا أخلف انتفى عنها العيب؛ فيصير كما لو شرط أنها سارقة فخرجت غير سارقة.
وقيل: لا يصح فيما إذا شرط الحمل قولاً واحداً.
ولو شرط كون الشاة المبيعة لبوناً؛ صح العقد عند العراقيين وجهاً واحداً.
وحكى الإمام في ذلك طريقين:
أحدهما: ما صار إليه العراقيون.
والثاني: طرد القولين وكذا فيما لو شرط حشو الجبة.
ومنهم: من جزم فيها بالصحة، وأجرى القولين فيما عداها.
وهذا فيما إذا لم يصرح ببيع الحمل واللبن والحشو، أما إذا قال: بعتك هذه الجارية وحملها، أو هذه الشاة وما في ضرعها، أو هذه الجبة وما فيها من الحشو؛ ففيه خلاف.
وجزم بعضهم بالصحة في الجبة؛ لأن الحشو داخل في مسمى الجبة، فذكره ذكر ما دخل في اللفظ، ولا يضر التنصيص عليه، والحمل غير داخل في مسمى الجارية، فذكره ذكر شيء مجهول مع معلوم.
وإذا قلنا بالبطلان في حشو الجبة؛ ففي بيع الظهارة والبطانة قولاً تفريق الصفقة، وفي كلام الإمام تعرض إلى إجراء مثل هذا الخلاف في الجارية والشاة.
وبيض الطير كحمل الجارية والدابة في جميع ذلك.
فرع: لو شرط أن الشاة تضع [لرأس] الشهر ونحوه، لم يصح البيع قولاً واحداً، وكذا لو شرط أنها تدر في كل يوم كذا رطلاً من اللبن لم يصح البيع.
وفي زوائد العمراني حكاية وجه في الثانية في باب المصراة.
قال: وإن باع عبداً مسلماً من كافر، بطل البيع في أصح القولين؛ لقوله تعالى: - وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء:141]، ولأن الرق ذل؛ فلا يصح إثباته للكافر على المسلم، كما لا ينكح الكافر المسلمة، وهذا نصه في "الإملاء".
قال: ويصح في الآخر، ويؤمر بإزالة الملك فيه: أما صحة البيع؛ فلأن من صح يبعه للعبد صح شراؤه –أصله المسلم -، ولأن إسلام العبد لا يمنع من بقاء ملكه عليه؛ فلا يمنع من دخوله في ملكه بالشراء – أصله المسلم – ولأنه سبب يملك به العبد الكافر فملك به العبد المسلم؛ كالإرث.
وأما كونه يؤمر بإزالة الملك فيه؛ فلأن به يحصل دفع الذل عنه، وهذا نصه في "الأم"، وأكثر الكتب على ما حكاه القاضي الحسين.
والقولان يجريان فيما لو وهب له أو أوصى [له به].
وقال في "التتمة": هذا إذا قلنا: إن الملك في الوصية يحصل [بالقبول، أما إذا قلنا:] يحصل بالموت؛ ثبت بلا خلاف كالإرث.
وحكى في الزوائد في كتاب الجزية عن الطبري: أنا إذا لم نصحح البيع؛ ففي صحة الوصية وجهان:
أحدهما: أن الحكم كذلك، ولا يؤثر إسلام الموصى له بعد ذلك، وإن كان قبل الموت.
والثاني: إن أسلم قبل الموت صح، وإلا فلا.
وحكى في "الحاوي" في باب عقد الذمة في صحة الوصية به – ثلاثة أوجه.
ثالثها: إن أسلم الموصى له قبل القبول ملك العبد وإلا فلا.
وعلى كلا الوجهين لا يجوز بيعه من كافر، صرح به الشاشي في "الحلية"، ويحكي عند الكلام في جواز نكاح الأمة.
ويتفرع على القولين مسائل:
فعلى الأول لو اشترى من يعتق عليه؛ ففي صحته وجهان:
أحدهما: لا يصح، كما لو لم يعتق عليه.
والثاني: يصح، وهو الأصح.
قال القاضي أبو الطيب: كما لو قال لمسلم: أعتق عبدك عن كفارتي؛ فأعتقه دخل في ملكه، وعتق، وهذا لا أعلم فيه خلافاً بين أصحابنا، فكذلك هاهنا.
وحكى الإمام وغيره جريان الخلاف في هذه الصورة، لكن مرتباً على الأول، وأولى بالصحة؛ لأن الملك لا يجري فيه إلا ضمناً مقدراً.
وشراء الأب بيع على حقيقة البياعات يبطله التعليق بالإغرار ويفسد بفساد العوض، حتى إذا فسد فلا عتق، وهذا يشعر بأن الملك مقصود فيه والعتق بعده.
واستدعاء العتق يقبل التعليق، ولو ذكر عوضاً فاسداً نفذ العتق، ورجع إلى بدل آخر على قياس فساد البدل في الخلع، فاقتضى ذلك ترتيباً.
ولو شهد بحرية عبد مسلم ثم اشتراه، فالخلاف مرتب على الصورة الأولى، وأولى بالبطلان؛ لأن العتق وإن حكم به فهو ظاهر غير محقق، بخلاف صورة القريب فإنه واقع تحقيقاً.
ولو اشتراه بشرط العتق، وصححناه، فمن الأصحاب من خرجه على الوجهين في شراء القريب، ومنهم من جزم بالبطلان، وفرق بأن القريب يعتق عقيب الشراء، وهاهنا العتق موقوف على اختياره.
واستئجار الكافر المسلم - ينظر فيه، إن ورد العقد على الذمة صح وإن ورد على العين، قال القاضي أبو الطيب: من أصحابنا من قال فيه قولان؛ كالشراء.
ومنهم من قال: يصح، وهذا أظهر عند الرافعي؛ لأن الإجارة لا تقيد ملك الرقبة، ولا تسلط عليه تسليطاً تاماًّ بل [و] هو في يد نفسه إن كان حرًّا، أو في يد مولاه إن كان عبداً.
وعلى هذا هل يؤمر بإزالة ملكه عن المنافع؟ فيه وجهان.
جواب الشيخ أبي حامد، والقاضي أبي الطيب في أواخر كتاب عقد الذمة منهما: نعم، فلو لم يفعله فقياس ما تقدم أن يؤجر عليه.
وفي "الحاوي" في كتاب الإجارة: أن الحاكم يفسخها عله، وفيه كتاب الذمة بعد حكاية القولين في صحة الإجارة، والصحيح عندي أن يعتبر حال الإجارة، فإن كانت معقودة على عمل يعمله الأجير في يد نفسه لا في يد المستأجر ويتصرف فيه على موجب عقده لا على رأي مستأجره؛ كالخياطة، والصباغة؛ صحت الإجارة.
وإن كانت معقودة على تصرف الأجير في يد المستأجر [عن أمره] كالخدمة لم يجز [وجزم بأنا] إذا صححنا الإجارة عن الخدمة ونحوها بأنه يؤمر بإزالة الملك، وفيما إذا كانت الإجارة على ما يعمله في يد نفسه بعدم الإجازة.
وفي جواز ارتهان الكافر العبد المسلم خلاف.
قال الرافعي: ولا خلاف في جواز إعارته وإيداعه، وسيأتي الكلام فيه في
العارية - إن شاء الله تعالى -.
وإذا باع الكافر عبداً مسلماً – كان قد أسلم في يده – بثوب، ثم وجد في الثوب عيباً، هل له رده واسترداد العبد؟
حكى الغزالي وإمامه فيه وجهين.
وفي "التهذيب" و"التتمة": أن له رد الثوب لا محالة، وفي استرداده العبد وجهان: أظهرهما ما ذكره الغزالي أن له استرداده، وعلى مقابله يصير كالهالك.
ولو وجد المشتري بالعبد عيباً والصورة هذه فأراد رده واسترداد الثوب، فعن الشيخ أبي محمد طرد الخلاف؛ لأنه كما لا يجوز للكافر تملك المسلم، لا يجوز للمسلم تمليك الكافر [إياه].
فإذا منع من الرد رجع إلى الأرش.
وعن غيره القطع بالجواز.
ولو تقابلا، فإن قلنا: الإقالة بيع لم يصح على القول الذي عليه التفريع. وإن قلنا: إنها فسخ فوجهان.
ولو اشترى عبداً كافراً ثم أسلم قبل القبض؛ فهل يبطل العقد؟ فيه وجهان إذا كان البائع مسلماً، فلو كان كافراً فقد أبدى الإمام فيه تردداً، وحكاه الغزالي خلافاً مرتباً وأولى بعدم الانفساخ؛ لأنه كيفما انقلب انقلب إلى كافر.
ولو توكل الكافر عن المسلم في شرائه، قال القاضي أبو الطيب: لا يصح، كما لا يجوز أن يتوكل عن المسلم في التزويج، ولا يكون المحرم وكيلاً في شراء الصيد وعقد النكاح.
وقال ابن الصباغ: هذا عندي ليس بشيء؛ لأن الفاسق لا يجوز أن يكون وليًّا في النكاح، ويجوز أن [يكون وكيلاً في القبول].
قال مجلي: وهذا لا يلزم القاضي؛ لأنه لم يقصد الجمع بين البيع والنكاح حتى يفرق بينهما، وإنما قصد أن من لا يكون أهلاً للعقد لنفسه لا يصح أن يكون وكيلاً فيه لغيره.
نعم، لو كان الإلزام أن الفاسق يجوز أن يكون وكيلاً في ولاية النكاح، ولا تصح ولايته؛ للزم إن سلمه القاضي.
والذي حكاه الغزالي أن الوكيل في الشراء صح، وإن أضمر فوجهان مبنيان على تعلق العهدة بالوكيل، وبناهما الرافعي على أن الملك بيع للوكيل ثم ينتقل عنه للموكل، أو يقع للموكل ابتداءً.
فإن قلنا بالأول لم يصح، وإن قلنا بالثاني صح.
قلت: ولو خرج خلاف في صحة البيع مع القول بأن الملك يحصل للوكيل أو لا، مما إذا اشترى من يعتق عليه – لم يبعد من حيث إن الملك مختلف فيهما غير مستقر، ويجوز أن يفرق بما للشارع في العتق من التشوف.
وإطلاق الغزالي وغيره القول بالصحة عند التصريح بالسفارة مصور بما إذا قال: اشتريت لزيد، فقال: بعتك. أو قال: بعتك، فقال: اشتريت لزيد [وصححنا مثل هذا العقد.
أما إذا قلنا بعدم الانعقاد فيما إذا قال: بعتك، فقال: اشتريت لزيد] على ما حكاه المتولي والبغوي عند الكلام الذي ينعقد به النكاح وجهاً: فلا يصح أيضاً، وقد أشار إلى ذلك الإمام بقوله: إذا صححنا البيع بصيغة السفارة.
ولو توكل المسلم عن الكافر في شراء العبد المسلم، لم يصح التوكيل، فإذا تعاطى العقد نفذ على الوكيل ولا يتعداه إلى الموكل، كذا صرح به الإمام، وهو محمول على ما إذا لم يصرح بالسفارة.
والمرتد، هل يجري فيما ذكرناه من الأحكام مجرى المسلم؟ فيه وجهان بناهما القاضي الحسين والإمام على القولين في أنه هل يقتل بالذمي؟
التفريع على القول الثاني، هل يمكن من قبضه؟ فيه وجهان جاريان فيما لو أسلم العبد بعد الشراء وقبل القبض وقلنا بعدم [انفساخ العقد]، أحدهما: يقبضه بنفسه، والثاني: ينصَّب الحاكم من يقبضه وهو الأظهر.
قال الإمام على هذا القول: ولا يخفى أنه يتخير في فسخ البيع؛ فإن ما جرى من التعذر طارئاً لا ينقص عن إباق العبد قبل القبض.
وإذا امتنع الكافر من إزالة الملك [عنه] بيع عليه بثمن مثله، فلو لم يجد من يشتريه بثمن مثله صبرنا إلى الوجود، وأحلنا بينه وبين السيد، ثم لا يعطله بل يستكسبه، ونفقته واجبة على سيد الكافر.
والحكم في أن الكتابة هل تكتفي بدلاً عن زوال الملك بالبيع والهبة والإعتاق؟ فيه خلاف نذكره – إن شاء الله تعالى- في كتاب العتق مع ما يتعلق به.
فرع: هل يمنع الكافر من شراء المصحف وكتب الحديث؟ الذي نص عليه الشافعي في كتاب الجزية كما حكاه الأصحاب [المنع] ثم قال الأئمة هاهنا: إن منعنا الكافر من شراء العبد المسلم فكذلك هاهنا، وإلا فوجهان؛ لأن العبد يدفع الذل عن نفسه.
والكتب التي فيها آثار السلف ملحقة بالمصحف عند العراقيين، [وكذا التي فيها حكايات الصالحين كما حكاه الإمام في كتاب الهدنة، وقال: لست أراه كذلك وجهاً].
وامتنع الماوردي في "الحاوي" من إلحاق كتب الحديث والفقه بالمصحف.
وقال: إن بيعها منه صحيح [لا محالة]، وجزم في كتاب عقد الذمة بطريقة المنع في المصحف لأجل تحريم مسه.
وقال في كتب الحديث: إن كان المذكور فيها سيرته وصفته جاز ابتياعهم لها، وإن كان فيها كلامه من أمره ونهيه وأحكامه ففي البيع وجهان، وظاهر نص الشافعي إلحاق كتب الحديث بالمصحف.
ثم إذا صح البيع يما ذكرناه، فهل يؤمر بإزالة الملك [عنها]؟ فيه وجهان، ورهن هذه الأشياء مرتب على جواز بيعها كما تقدم في العبد.
فرع آخر: بيع المصحف من المسلم ليس بمكروه وكذلك كتب الحديث.
وعن الصيمري: أن بيع المصحف مكروه، قال: وقد قيل: إن الثمن يتوجه إلى
الدفتين لا إلى كلام الله – تعالى – وقد قيل: إنه بدل عن أجرة النسخ.
قال: وإن باع العصير ممن يتخذ الخمر أو السلاح ممن يعصي الله –تعالى- به أي مثل قاطع الطريق [والمتغلب] واللص، ولم يتحقق أنهما يفعلان بالمبيع ما هو محرم كما صرح به سائر الأئمة.
[قال]: أو باع ماله ممن أكثر ماله حرام [أي]: ولم يتحقق أن الذي وقع عليه العقد من الثمن حلال أو حرام [قال] كره؛ لأنه لا يأمن من الإعانة على المعصية أو أخذ الحرام، وقد قال- عليه السلام:"الحلال بين الحرام بين و [بين ذلك أمور] متشابهات" وسأضرب لكم في ذلك مثلاً – إن شاء الله تعالى – "وإن حمى الله – تعالى- محارمه، وإن من يرعى حول الحمى يوشك أن يخالط الحمى" وإنما لا يحرم؛ لأنه قد لا يفعل الحرام، أو يكون [ما أعطاه] من الحلال.
قال: ولم يبطل البيع لما ذكرناه من العلة، أما إذا تحقق أنه يتخذ من العصير الخمر أو يعصي الله تعالى بالسلاح فإنه يحرم؛ لقوله تعالى: - وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2].
ولكن يصح البيع أيضاً؛ لأن ذلك [المعنى في] غير المعقود عليه؛ فلم يمنع الصحة؛ كالبيع وقت النداء.
وفي الرافعي حكاية وجه أنه لا يحرم بيع العصير مع تحقق اتخاذ الخمر [منه، وهو ما حكاه المحاملي في اللباب].
ومن هذا القبيل بيع السلاح من أهل الحرب؛ فإن فيه تقوية أعداء الله.
وفي "الحاوي" حكاية وجه أنه لا يصح بيعه منهم، وهو الظاهر في "النهاية" وبه جزم الرافعي.
وعلى القول بالصحة يفسخ عليهم كما في شراء الكافر المسلم، صرح به الماوردي.
وبيع الجارية ممن يتخذها للغناء، [والغلام ممن اشتهر باللياطة] كمبيع العصير ممن يتخذ الخمر صرح به ابن عصرون في "المرشد"، وكذا بيع الخشب ممن يستعمله في الملاهي، كما قاله المحاملي [في اللباب].
وأما إذا باع ماله ممن أكثر ماله حرام، وتحقق أن ما وقع عليه العقد من ماله حرام لم ينعقد البيع، ولو تحقق أنه حلال لم يكره.
فإن قيل: إذا لم يتحقق أنه حرام ولا حلال وغلب على الظن] أن ما وقع به العقد حرام، فهلا خرجتم ذلك على غلبة الظن في النجاسة والطهارة؟!
قال الإمام: قلنا: لأنا صادفنا أصلاً مرجوعاً إليه في الإملاك وهو اليد فاعتمدناه، ولم نجد في النجاسة والطهارة أصلاً يعارض غلبة الظن إلا الطهارة.
فروع:
بيع الحديد [من أهل] الحرب صحيح، وبيع السلاح من أهل الذمة جائز، وكذا رهنه منهم صرح به الإمام في كتاب الرهن، واستشهد له بأنه عليه السلام: مات ودرعه مرهون عند أبي شحمة اليهودي.
وحكى في "التتمة" وجهاً في عدم صحة بيعه منهم، ورهن السلاح من أهل الحرب إذا منع بيعه منهم، فيه وجهان محكيان في "النهاية" في الرهن.
وبيع الشطرنج مكروه، كما أن لعبه مكروه، حكاه القاضي الحسين قبل باب السلف.
قال: وإن شرط في البيع شرطاً يقتضيه العقد كالتسليم، وسقى الثمرة، وتنقيتها إلى - أوان الجداد وأما شبه ذلك أي: مثل خيار المجلس، والرد بالعيب، وضمان الدرك على البائع، وغير ذلك لم يفسد العقد؛ لأنه تأكيد لمقتضاه.
تنبيه: الجداد بكسر الجيم وفتحها بالدال المهملة وبالمعجمة [أيضاً] وكذلك الحصاد [والقطاف] والصرام كله بالوجهين.
قال الجوهري: فكان الفعال والفعال مطردين في كل ما كان فيه معنى وقت الفعل.
قال: وإن شرط ما فيه مصلحة للعاقد كخيار الثلاث أي فيما يجوز شرطه [فيه] والأجل أي المعلوم فيما في الذمة – والرهن والضمين – [أي إذا عين الراهن والضامن، وكذا من يوضع الرهن تحت يده على أحد الوجهين].
قال: لم يفسد العقد أي؛ ويجب الوفاء بالشرط.
أما اعتبار ذلك في خيار الثلاث فلحديث حبان بن منقذ.
وأما في الأجل فلقوله تعالى: - إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282].
ورُوي أنه – عليه السلام – قال: " [و] من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم"، والسلم نوع من البيع.
وروى مسلم عن عائشة – رضي الله عنها – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاماً نسيئة فأعطاه درعاً رهنا.
ورُوي أنه عليه السلام أمر عبد الله بن عمر أن يجهز جيشاً، وأمره أن يبتاع ظهراً إلى خروج المصدق.
وأما في الرهن فلقوله تعالى: - فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283].
وأما في الضمين: فبالقاس على الرهن لما اشتركا فيه من الحاجة إلى التوثيق، ويلتحق بهما اشتراط الإشهاد، قال الله تعالى: - وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282].
أما شرط الأجل المجهول [فمبطل للعقد]، كما تقدم.
وكذا شرطه في المبيع [المعين] أو الثمن المعين، مثل أن يقول: اشتريت منك بهذا الدينار على أن أسلمه لك في وقت كذا؛ لأن الأجل رفق أثبت لتحصيل الحق في المدة والمعين حاصل.
ولو أجل شيئاً بألف سنة. قال الروياني: بطل العقد؛ للعلم بأنه لا يبقى إلى هذه المدة، ويسقط الأجل بالموت، كما لو أجر ثوباً ألف سنة.
فعلى هذا يشترط في صحة الأجل مع كونه معلوماً فيما في الذمة احتمال بقائه إلى المدة المضروبة ويقوم مقام تعيين الرهن والضامن، وصف الرهن بصفات المسلم فيه، ومعرفة الضامن بالنسب. ولا يكفي فيه أن يقول: رجل موسر ثقة.
قال الرافعي: ولو قال قائل: الاكتفاء بالصفة أولى من الاكتفاء بمشاهدة من لا يعرف حاله؛ لم يكن مبعداً.
وفي كتاب القاضي ابن كج: أنه لا حاجة إلى تعيين الضامن، وإذا أطلق أقام من شاء ضميناً، ولا يشترط في الإشهاد التعيين على أصح الوجهين، وهو الذي ادعى الإمام القطع به، ورد الخلاف إلى أنه لو عين الشهود هل يتعينون أم لا؟
والصحيح في الاستقصاء" كما حكاه في كتاب الرهن عدم تعينهم.
فإن قلنا بتعينهم فامتنعوا من الشهادة ثبت للشارط الخيار.
وإن قلنا: لا يتعينون.
قال الإمام في كتاب الرهن: ينبغي أن يشهد من يعرف منهم في الصفات
المقصودة في الشهادة؛ حتى لا يكتفي بإشهاد أقوام يظهر انحطاطهم عنهم، والعلم عند الله تعالى. ولا يبطل العقد بهذا الشرط.
واعلم أن كلام الشيخ يقتضي الاسترسال في جواز اشتراط ما فيه مصلحة للعاقد على هذا النحو، وليس يماثل ذلك الاشتراط الإشهاد، وقد ذكرناه، ويؤكده قول الإمام في كتاب الرهن.
ومن الأصول المعتمدة في البياعات أن العقد إذا كان له مقتضى عند الإطلاق فلا يجوز تغييره في نقيض إطلاقه بما لا يقع فيه ولا مصلحة تتعلق [به،][فأما الشرط الذي يتعلق] بمصلحة العقد فلا يجوز الاسترسال في تجويزه بل يتبع فيه توقيف الشارع؛ كالخيار وما في معناه؛ فإن هذه الأشياء في المعاملان؛ كالرخص في العبادات.
قال: وإن شرط العتق في العبد لم يفسد [العقد ويلزم] الشرط، ووجهه ما رُوي عن عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت: جاءت بريرة، فقالت: إني كاتبت على تسع أواق، في كل سنة أوقية؛ فأعينيني، قالت عائشة: إن أحب أهلك أن أعدها لهم عدًّا وأعتقك فعلت، ويكون ولاؤك لي. فذهبت بريرة إلى أهلها؛ فأبوا ذلك عليها، فقالت إني قد عرضت عليهم أبوا ألا يكون لهم الولاء، فسمع بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فسألني، فأخبرته، فقال::خذيها وأعتقيها واشترطي لهم الولاء؛ فإن الولاء لمن أعتق"، قالت عائشة: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطب ثم قال: "أما بعد، فما بال رجال منكم يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله – عز وجل – فأيما شرط كان ليس في كتاب الله فهو باطل، وإنكان مائة شرط فقضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، ما بال رجال منكم يقول أحدهم: أعتق [يا] فلان، والولاء لي، إنما الولاء لمن أعتق" هكذا أخرجه
البخاري، وروى مسلم معناه.
وجه الدلالة منه: أن بيع بريرة كان بشرط العتق بدليل اشتراط الولاء، فصحح النبي صلى الله عليه وسلم البيع مع اشتراطه، وأبطل أن يكون الولاء لغير المعتقة.
ولأنه لو قال له: أعتق عبدك عني بألف صح البيع ونفذ العتق، وإن لم يستقر للباذل على العبد ملك؛ فما استقر بالعقد ملكه وشرط عليه عتقه أولى أن يصح.
وقيل: إن الشرط باطل، ويبطل به العقد؛ لعموم نهيه – عليه السلام – عن بيع وشرط؛ ولأنه شرط ينافي [مقتضى] العقد فأبطله؛ كما لو باع بشرط ألا يسلم.
وقيل: يبطل الشرط دون العقد، رواه أبو ثور عن الشافعي.
قال الماوردي: وليس يعرف [له]، ولا يحفظ عنه إلا من جهته، وأصح الأقوال الأول.
ومحلها إذا أطلق الشرط، أو قال: بشرط أن تعتقه عن نفسك، أما إذا قال: بشرط أن تعتقه عني فهو لاغ.
قال: فإن امتنع عن العتق – أي على قولنا بصحة الشرط – أجبر عليه، [وقيل]: لا يجبر، بل البائع بالخيار بني الفسخ والإمضاء.
هذا الخلاف مبني على أن العتق حق لله تعالى، كالملتزم بالنذر، أو حق للبائع لأن اشتراطه يدل على تعلق غرضه به، وينزل لأجله جزءاً من الثمن، فيه وجهان: أظهرهما: الأول.
فإن قلنا: [به] أجبر عليه، وهو قول أبي سعيد الإصطخري، والأصح.
وفي كيفية إجباره احتمالان للإمام:
أحدهما: يكون الحكم فيه كالمولى، وهو المذكور في "التتمة" و"تعليق" القاضي الحسين.
والثاني: لا طريق سوى الحبس حتى يعتق.
وإن قلنا: إنه حق للبائع فلا يجبر، كما في شرط الرهن والكفيل، وهذا ما اختاره ابن عصرون.
وفي "النهاية" أنا إذا قلنا: إن العتق حق للبائع وامتنع، فهل يجبر عليه؟
ذكر صاحب "التقريب" فيه قولين.
وإذا قلنا بالقول الذي حكاه أبو ثور؛ فلا يجبر على عتقه، ولكن هل يثبت للبائع الخيار عند امتناعه من العتق؟ فيه وجهان:
أحدهما – وهو قول البغداديين -: لا خيار له؛ لفساد الشرط.
والثاني – وهو قول البصريين -: له الخيار؛ لأن فساد الشرط يمتنع من لزومه، ولا يمنع من استحقاق الخيار به، كما لو شرط في البيع رهناً لم يلزم، وأوجب خيار البائع.
فروع:
هل للبائع المطالبة بالعتق، على قولنا: إنه حق له فنعم، وإن قلنا: إنه حق لله تعالى؛ فكذلك على أصح الوجهين.
وهل يسقط بإسقاط البائع؟ إن قلنا: إنه حق لله تعالى، فلا، وإن قلنا: إنه حق له سقط على ظاهر المذهب عند الإمام، وهو ما حكاه القاضي الحسين في التعليق، كما لو شرط الرهن والكفيل ثم عفا عنه.
قال الإمام: وفي كلام شيخي رمز إلى خلاف هذا؛ يعني: في الرهن والكيل كحق الأجل.
ولو باع العبد بشرط العتق أيضاً، لم يصح في أصح الوجهين؛ لأن العتق مستحق عليه، فليس له نقله إلى غيره، وهل يجزئ إيلاد الجارية عن الإعتاق؟ فيه وجهان: أصحهما: لا، بل عليه أن يعتقها.
وفي "حلية الشاشي" و"الشامل"، حكاية وجه أنه لا يجزئ عتقها [عن] الشرط؛ لأنها صارت مستحقة العتق بالإحبال، وعلى هذا تكون بمثابة الغائبة بالموت، فتجري فيها الأوجه، كما سنذكر.
ولو جنى هذا العبد قبل اتفاق العتق، فهل يسلم ليباع في الجناية؟
قال المارودي: إن قلنا بإجباره على عتقه؛ وجب فداه كأم الولد.
ولو قتل العبد قبل العتق كانت قيمته للمشتري، ولا يكلف صرفها إلى عبد آخر ليعتقه.
ولو مات قبل اتفاق العتق؛ فخمسة أوجه:
أظهرها: ليس للبائع إلا الثمن.
والثاني: يسخ العقد ويرجع إلى القيمة.
والثالث: له الثمن وما بين قيمته مع الشرط وقيمته من غير الشرط، فإذا كان الثمن عشرة وقيمته مع الشرط اثني عشر وبدون الشرط خمسة عشر؛ لزمه ثلاثة عشر. ولم يزد الماوردي على هذه الأوجه.
وقال: إنها تجري على قول الإجبار وعدمه.
والرابع: له الثمن وما يقابل الشرط من نسبة الثمن؛ فيجب له في مثالنا اثنا عشر وحكى الإمام هذا الوجه -و [لو] ضرب له مثالاً يقتضي مخالفة ما ذكرناه في الحكم، فإنه قال: لو كان مع الشرط يساوي مائة، وبونه يساوي مائة وخمسين، فالتفاوت بالثلث، فيعود عبد ضبط ذلك، ويقول: الثمن تسعون، وقد بان أن نسبة التفاوت [بثلثي] الجملة، فكأنه أخذ ثمن ثلثي العبد، وإذا كان ثمن ثلثي العبد تسعين فثمن الجملة مائة وخمسة وثلاثون، فيغرم خمسة وأربعين، ومقتضى هذا في مثالنا أن يكون ما قبضه أربعة أخماس الثمن، وإذا كان ثمن أربعة أخماسه عشرة؛ يكون ثمن جميعه اثني عشر ونصفاً؛ فيغرم درهمين ونصفاً.
والخامس- وهو الذي صححه ابن عصرون -:أنه يثبت له الخيار بين الفسخ والرجوع إلى القيمة وبين الإمضاء. والاقتصار على الثمن، وهذان الوجهان لم يحك القاضي أبو الطيب في تعليقه سواهما، وفحوى كلامه: أنهما جاريان على قول الإجبار وعدمه. فإنه قال: هلا قلتم مع بقاء العبد وقد امتنع المشتري من العتق أنه يرجع بذلك، يعني بما يقابل الشرط؟!
فالجواب: أنه هناك يمكن إجباره على العتق فأجبرناه عليه في أحد الوجهين، ويمكن رده فخيرناه في الوجه الآخر. وهاهنا قد [تعذر] الإجبار؛ لأن الميت لا يصح إعتاقه، وتعذر التخيير؛ لأنه لا يمكن رده فجعلنا له الرجوع بالنقص، كما يرجع
بالأرش إذا تعذر الرد بالعيب.
وقال الرافعي: هذه الوجوه مفرعة على أن العتق حق للبائع أو هي مطردة سواء قلنا: إنها للبائع أو لله تعالى، فيه رأيان للإمام؛ أظهرهما: الثاني.
وقيل: إن قلنا: إن الحق لله - تعالى - لم يلزمه شيء؛ وهو الوجه الأول.
وإن قلنا: إنه حق للبائع جرى ما عدا الأول من الأوجه، حكى ذلك ابن التلمساني.
فروع:
لو اشترى عبداً بشرط أن يدبره أو يعتقه بعد شهر - مثلاً - أو يكاتبه، أو داراً بشرط أن يقفها، ففي هذه الشروط وجهان:
أصحهما: أنها ليست كشرط العتق، بل يبطل البيع بها. وعليه يدل قول الشيخ من بعد.
واختيار ابن عصرون صحة البيع بشرط العتق بعد شهر.
وفرق القاضي الحسين بين البيع بشرط العتق وبين البيع بشرط الكتابة أو الاستيلاد، بأن المشتري لا يقدر عليهما بنفسه ويقدر على العتق منفرداً به، وليس لهما من القوة ما للصريح.
وبأن عقد البيع لا يقتضيهما بحال، بخلاف العتق؛ فإن عقد البيع قد يقتضيه، كما إذا اشترى من يعتق عليه.
ولو باع عبداً بشرط العتق على أن يكون الولاء للبائع؛ ففيه قولان:
أحدهما: أنه يبطل العقد، وهو الذي عليه الجمهور.
والثاني: أنه يصح، وهو ما رُوي عن حكاية الإصطخري أو تخريجه لحديث بريرة؛ فإنه عليه السلام لا يأذن في باطل، وعلى هذا فهل يثبت الشرط؟ المحكي عن الأصحاب الذي [لا] يكاد يوجد غيره أنه لا يثبت كما حكاه الرافعي. وقال الإمام: إنه فاسد، وحكى وجهاً أنه يثبت الولاء للبائع من غير تقدير الملك،
كما إذا باع عبداً لنفسه بمال، فإذا اشترى نفسه عتق، وسبيل العتق أنه ملك نفسه، فاستحال أن يكون مملوكاً لنفسه ومالكاً، ثم إذا حصل العتق فالولاء للسيد، وهذا ما حكاه الغزالي في الوجيز.
ولو جرى البيع بشرط الولاء دون شرط العتق بأن قال: بعتكه بشرط أن يكون الولاء [لي] إن أعتقته يوماً من الدهر فقد ذكر في "التتمة": أن العقد هاهنا باطل بلا خلاف.
وقال في كتاب الخلع: المشهور من المذهب فساد العقد، وهذا يشعر بخلاف.
ولو باع العبد بشرط أن يبيعه بشرط العتق، فالصحيح على ما حكاه الرافعي في كفارة الظهار – البطلان.
وعن أبي الحسين تخريجه على وجهين، ولو اشترى أباه أو ابنه بشرط أن يعتقه، فعن القاضي الحسين أن العقد باطل؛ لتعذر الوفاء بهذا الشرط، فإنه يعتق عليه قبل أن يعتقه، ويظهر على رأي الأودني أن يصح.
فائدة: استشكل بعضهم إذنه صلى الله عليه وسلم في اشتراط الولاء، ومنعه منه بعد ذلك.
وأجيب بأن قوله – عليه السلام: "اشترطي لهم" المراد به: عليهم، كما في قوله تعالى: - وَإِنْ أَسَاتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7].
[وقيل] معناه: اشترطي أو لا تشترطي فهو لاغ لا يضر شرطه ولا تركه.
وقيل: أذن فيه ثم منعه ليكون أقطع لعادتهم، كما رُوي أنهم كانوا لا يرون جواز الإحرام بالعمرة في أشهر الحج، فأمرهم – عليه السلام – بالإحرام بالحج في أشهر الحج فأحرموا به ثم أمرهم بفسخ الإحرام بالحج بالعمرة، للمبالغة في رجوعهم عما كانوا يعتقدون منعه.
وعلى هذا التأويل يكون هذا الشرط خاصاً في بيع بريرة لا غير، واختاره العمراني.
وقيل: إن قوله "واشترطي لهم الولاء" غير محفوظ في الحديث، وإنما رويت هذه الزيادة من طريق هشام بن عروة، ولم يتابع عليها، كذا حكاه البغوي، وكذا الماوردي في باب الكتابة ونسبه إلى الشافعي نفسه.
وحُكي عن بعض أصحابنا أنه – عليه السلام – أذن في ذلك حين جوازه ثم ورد بعده [نسخ] فأظهر نسخه بفسخه.
وحكى عن [ابن أبي هريرة أنه قال: قوله] – عليه السلام – اشترى واشترطي لهم الولاء خارج مخرج الوعيد والتهديد لا مخرج الإذن والجواز، كما في قوله تعالى: - فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29].
وحكى عن أبي علي الطبري: أنه قال: قوله "اشترطي لهم الولاء" أي: اشترطي لهم العتق، فعبر عن العتق بالولاء لحدوثه عنه واستحقاقه به.
وفي الذخائر أن بعض الناس قال: إنما وقع البيع على نجوم كتابتها، والصحيح [أنها ابتاعت] رقبتها، وعلى هذا قد يشكل مذهبنا؛ لأن بريرة كانت مكاتبة.
[والجديد] أنه لا يصح بيع المكاتب.
وأجيب عن ذلك: بأن بريرة كانت الساعية في ابتياع عائشة- رضي الله عنها – ومثل ذلك مبطل للكتابة – كما ستعرفه في بابها – أو لأن بريرة أظهرت العجز فعجزها أهلها، وفسخوا العقد بإقدامهم على بيعها، والفسخ يحصل بالبيع أو يحتمل ذلك، وهي قضية عين.
قال: وإن شرط ما [سوى ذلك مما] ينافي موجب البيع – أي: مقتضاه – وهي بفتح الجيم.
قال: وليس فيه مصلحة؛ كبيع الدابة بشرط أن يركبها، [وكبيع] الدار بشرط أن يسكنها شهراً – أي البائع لم يصح العقد لقوله صلى الله عليه وسلم:"كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل" وهذه الشروط ليست في كتاب الله فتكون باطلة.
وإذا بطلت صار الثمن مجهولاً؛ لأن الشرط يقتضي زيادة في الثمن مرة ونقصانه [مرة] أخرى، فإذا بطل بطل ما يقابله، وذلك يؤدي إلى الجهالة بالثمن، ولما روى عبد الحق مسنداً من طريقين: أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط، فظاهره يقتضي فساد المنهي عنه؛ ولأن ذلك يتضمن اشتراط عدم التسليم فبطل – كما لو صرح به.
وحكى عن صاحب "التقريب"، وأبي علي، وأبي ثور نصًّا غريباً عن الشافعي أن البيع لا يفسد بالشرائط الفاسدة، بل يلغو الشرط ويصح العقد كما في النكاح.
وحكى المراوزة فيما إذا استثنى منفعة الدار مدة معلومة لنفسه – أنه يصح البيع على رأي، كما يصح بيع الدار المستأجرة على رأي؛ ولأنه – عليه السلام: ابتاع بعيراً من جابر بأربعة دنانير وقال: لك ظهره حتى تأتي المدينة.
والمذهب فساد البيع بالشرط الفاسد بخلاف النكاح؛ لأن الشرط فيه يسقط
المسمى، ويوجب مهر المثل، ولا قائل بمثله في البيع؛ فانقطع الإلحاق.
والفرق بين ما نحن فيه وبين بيع الدار المستأجرة أن المنافع ملك له، وقد تضمن العقد خروجها عنه إلى المشتري فلا يصح شرطها له؛ لأنه يخالف مقتضى العقد بخلاف المستأجر؛ ولأن في هذا الشرط منعاً من التسليم إلى المشتري ولا يجوز، ويفارق المستأجر فإن المنافع مستحقة بعقد سابق، وصار ذلك مثل الدار المبيعة إذا كانت مشحونة بالأمتعة فإنها تحتاج إلى مدة في تفريغها، ولو استثنى [مثل] تلك المدة بطل العقد، وهذا يحسن أن يفرق به بين ما نحن فيه وبين ما لو باع نخلاً وعليها طلع غير مؤبر، فاستثناه لنفسه؛ إذ ليس فيه تأخير للتسليم.
وأجيب عن حديث جابر بجوابين:
أحدهما: أنه شرط بعد العقد.
قال القاضي أبو الطيب: ويدل عليه أنه جاء في بعض ألفاظه: "فلما نقد الثمن شرطت حملاني إلى المدينة".
والثاني: لم يكن ذلك مع جابر بيعاً مقصوداً لرواية سالم بن أبي الجعد: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه الثمن ورد عليه الجمل، وقال:"أتراني إنما ماكستُكَ لآخذ جملك؟ خذ جملك ودراهمك، فهما لك".
فدل على أنه – عليه السلام – إنما أراد منفعته لا مبايعته.
من هذا القبيل ما إذا باع شجرة يابسة بشرط التبقية أو الثمار بعد بدو الصلاح بشرط [القطع وقت] الجداد.
وألحق المتولي بهذا القسم ما إذا شرط أن يصلي النوافل أو يصوم شهراً غير رمضان أو يصلي الفرائض في أول الوقت وجزم بالبطلان.
وفي حلية الشاشي: أن أصحابنا قالوا: الشرط الفاسد لا يؤثر في العقد، إلا إذا كان فيه غرض فأما [ما] لا غرض فيه؛ كقوله: بعتك على أن تدخل الدار أو تقف في
الشمس أو تصلي النفل، أو تأكل كذا، وأبدى احتمالاً في البطلان مما إذا أوصى بثلث ماله لزيد وللحمار، فإنه على وجه يعطي نصف الثلث؛ لجعلنا الإضافة إلى ما لا غرض فيه؛ كالإضافة إلى ما فيه غرض.
وقريب مما حكاه أولاً ما جزم به الإمام والغزالي فيما إذا باعه بشرط ألا يطعمه إلا الهريسة، ولا يلبسه إلا الحرير - أنه يصح.
وكذلك فيما إذا شرط الكيل أو الوزن بشيء معين. وإلى هذا يرشد قول الشيخ؛ كبيع الدابة بشرط أن يركبها، وبيع الدار بشرط أن يسكنها شهراً، فصار المثال هو المبين للمراد بالقاعدة.
وهذه الشروط ليست موافقة لمثاليه، وقد حكى الغزالي في كتاب السلم في بطلان البيع بفساد شرط الكيل والوزن وجهاً آخر.
فرع: إذا حذف الشرط المفسد في زمن الخيار لا يؤثر ذلك في الصحة، ورأي صاحب "التقريب" وجهان:
إن حذف الأصل المذكور، يصير العقد صحيحاً، وأجراه بعضهم في خيار الشرط. والأظهر أنه لا يجري، وأجراه بعضهم في سائر المفسدات.
قال الإمام: والأصح: لا؛ لأن بين الأجل والمجلس مناسبة لا توجد في غيره، وهي المنع من المطالبة بالثمن، كذا حكاه الرافعي في كتاب السلم، ولو شرط في المجلس شرطاً فاسداً فسد العقد، صرح به القاضي [الحسين].
قال: ولم يملك فيه المبيع أراد الشيخ بهذه الزيادة التنبيه على إبطال مذهب أبي حنيفة يما إذا قبضه؛ فإن عنده أنه يملكه ملكاً ضعيفاً، وللبائع انتزاعه منه متى شاء بجميع زوائده، ولو تلف أو زال ملكه عنه ضمنه بالقيمة مع موافقته على أنه لا يملكه قبل القبض، وعندنا لا فرق في عد الملك بين ما قبل القبض وما بعده.
ووجهه ما رُوي أنه عليه السلام قال: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا؛ فهو رد"؛
ولأنه قبض في بيع فاسد فلم يحصل الملك به؛ كالمحرم إذا اشترى صيداً وقبضه، وكذا إذا كان الثمن دماً أو ميتة.
قال: فإن قبضه المبتاع وجب رده أي على مالكه، ولا يملك التصرف فيه خلافاً له، أما أنه يجب رده فلقوله صلى الله عليه وسلم:"على اليد ما أخذت حتى ترد"، وأما أنه لا ينفذ تصرفه [فيه] فلأنه تصرف فيما للبائع فيه سلطان؛ فلم ينفذ كما في [البيع قبل القبض].
وفي قول الشيخ: "وجب رده" ما يعرفك أن مؤنة الرد على المشتري؛ لأن من وجب عليه رد شيء كانت مؤنة الرد عليه، ولا فرق في ذلك بين أن يكون قد دفع الثمن وأفلس البائع أو لا، وقد ذكرنا من قبل أن له حبسه إلى أن يقبض الثمن على النص، وهو ما حكاه ابن كج عن الإصطخري والمذهب خلافه.
قال: فإن هلك عنده ضمنه بقيمهت أكثر ما كانت من حين القبض إلى حين التلف؛ لأنه ما من حالة تعرض فيها قيمة إلا وهو مخاطب فيها بالرد، فإذا لم يرد فقد فوت الرد فلزمه بدله كالغاصب.
واعلم أن ظاهر كلام الشيخ يقتضي أنه لا فرق في غُرم القيمة بين أن يكون المبيع من ذوات الأمثال أو القيم، وهو ما حكيناه في الباب قبل هذا الباب عن الماوردي، والذي حكاه غيره أن ذلك فيما إذا كان من ذوات القيم، أما إذا كان من ذوات الأمثال فالواجب المثل.
قال: فإن حدثت فيها زيادة كالسمن وغيره –أي: مثل تعلُّم صنعة – ضمنها؛ لأنها حدثت على ملك البائع وفاتت تحت يده فضمنها كالعين.
ومراد الشيخ بهذه المسألة ما إذا كانت العين باقية وردها بعد زوال الزيادة كما صرح به أبو الطيب وابن الصباغ في كتاب الغصب.
قال: وقيل لا يضمن القيمة إلا من حين القبض؛ لأنها التي دخل على أن يضمنها، ولا يضمن الزيادة – أي: الحادثة في يده من سمن وغيره لعدم إلزامه ذلك بالعقد فأشبه المستعير، وهذا القول حكاه المراوزة ولم أره في شيء من كتب العراقيين إلا في "الحاوي" في كتاب الغصب، فإنه ذكره في موضعين منه، والمذكور في غير "الحاوي" بدله أنه لا يضمن القيمة إلا من حين التلف، ولا يضمن الزيادة كما حكاه الإمام عن العراقيين وهو الموجود في النسخ العتق، ويوجبه ابن الخل ونسبه القاضي أبو الطيب وابن الصباغ في كتاب الغصب إلى ابن أبي هريرة.
وحكى البندنيجي عِوَضَهُ في كتاب الغصب: أن المشتري لا يضمن الزيادة وإذا تلفت العين بزيادتها كان عليه قيمتها أكثر ما كانت من حين القبض إلى حين التلف بعد حذف ما زاد في قيمتها لأجل السمن، ولم أره في [غير] تعليقه.
وبه يتحصل في المسألة أربعة أقاويل، وكلها – ما عدا الرابع – يجري كما حكاه الإمام في كل ضامن غير متعد ولا متصرف في غصب، فإذا ضمن المستام قيمة ما تلف تحت يده؛ فالقول في القيمة المعتبرة كما ذكرناه.
ولا يضمن إلا ما [قصد شراءه] حتى لو قبض العين ليشتري نصفها لم يضمن إلا بدل نصها، كما صرح به المتولي قبل الفصل الخامس في كيفية القبض.
قال: والمذهب الأول لأنها عين تضمن أجزاؤها المستحقة بالاستعمال؛ فأشبهت العين المغصوبة وبهذا فارق المستعير؛ فإنه لا يضمن الأجزاء المستحقة بالاستعمال على الصحيح، وما قيل من أنه دخل على أنه لا يضمن الزيادة – يبطل باستحقاق
الأجرة، مع أنه دخل على أنه لا يضمنها.
قال: وإن كان لمثله أجرة لزمه أجرة المثل؛ لأن العين مضمونة عليه؛ لثبوت يده عليها، لا بحق منفعتها.
قال الرافعي وغيره: ولا فرق في ذلك بين أن ينتفع به أو تفوت المنفعة تحت يده.
وقال القاضي الحسين في كتاب الغصب: وكذا الإمام، هذا إذا قلنا: إنه يضمن ضمان المغصوب.
أما إذا قلنا: بغيره فلا يضمنها إلا إذا استوفاها، وعلى هذا الخلاف يخرج ضمان الولد المنفصل وطرد الخلاف المذكور في ضمان المستام أجرة المدة التي فاتت المنافع فيها تحت يده. والولد الحادث في يده، وما قالاه موافق لما قاله الغزالي في منافع الصداق إذا فاتت تحت يد الزوج، وقلنا: إنه مضمون ضمان يد [أنه] لا يضمن بدلها إلا أن يستوفيها.
فرع: لو أنفق على المبيع مدة لم يرجع على البائع إن كان عالماً بالفساد وإن كان جاهلاً فوجهان.
فائدة:
إن كان لمثله أجرة وأوجبناها مع أكثر الأمرين من القيمة، فهل يندرج ما يقابل الأجزاء المستحقة بالاستعمال في الأجرة أم لا؟ فيه خلاف يأتي مشروحاً في نظر المسألة من كتاب الغصب إن شاء الله تعالى.
قال: وإن كانت - أي: العين المبيعة -جارية فوطئها؛ لزمه المهر لاستمتاعه بملك الغير مع قيام الشبهة، وهذا إذا كانت الأمة جاهلة بفساد البيع، أما لو كانت عالمة فذلك ينبني عليه أنه لو كان عالماً بفساد البيع، هل يجب عليه الحد؟
والمشهور أنه لا يجب فيما إذا كان الفساد بالشرط، كما هو مسألة الكتاب؛ لأن أبا حنيفة يرى أن الملك ينتقل إليه كما قدمنا حكايته، فيكون ذلك شبهة في درء الحد، كما في النكاح بلا ولي، ونكاح المتعة، ويجيء فيه وجه الصيرفي.
وقال الإمام: يجوز أن يقال: يجب الحد؛ لأن أبا حنيفة لا يبيح الوطء، وإن كان
يثبت الملك بخلاف الوطء في النكاح بلا ولي، فإن الخالف فيه يبيح الوطء.
فإن قلنا بالمشهور وجب المهر أيضاً.
وإن قلنا بما أبداه الإمام فقد قال: يكون بمثابة الجارية المغصوبة إذا وطئت من غير استكراه، وسيأتي الكلام فيها.
ولو كان سبب ساد البيع لكونه عقداً على ميتة أو دم، فمن علم من الجارية أو المشتري بفساد البيع وجب عليه الحد؛ لأن أبا حنيفة لم يخالف في ذلك، ثم المهر الواجب مهر ثيب إذا كانت ثيباً، وهر بكر إن كانت بكراً.
فإن قيل: كيف يجب المهر وقد أذن في الوطء بالبيع؟
قيل: الوطء لا يباح بالإذن – بل بالملك – ولا ملك؛ ولأن الوطء ليس معقوداً عليه؛ بدليل أنه يملك بالابتياع من لا يحل له وطؤها.
قال: وأرش البكارة إن كانت بكراً؛ لأنه أتلف ذلك الجزء، [و] وجوب مهر البكر؛ لأنه استمتع ببكر، فالأرش في مقابلة إزالة عين، والمهر في مقابلة استيفاء منفعة، فلما اختلف سببهما لم يمتنع وجوبهما.
وفي الرافعي في باب الرد بالعيب، وابن يونس في كتاب الديات حكاية وجه: أنه يجب مهر بكر، ويدخل فيه أرش البكارة.
وصححه الرافعي، وإن كان قد جزم هاهنا بما ذكرناه أولاً، كما رجحه ابن عصرون.
وقيل: يجب عليه مهر ثيب وأرش البكارة.
قال: فإن أولدها فالولد حر للشبهة ولا ولاء عليه، فإنه لم يمسه رق ولم ينله عتق.
قال: ويلزمه قيمته؛ لأنه أحال بينه وبين ملكه. قال: يوم الولادة؛ لأنه وقت الحيلولة، ولا يمكن تقويمه قبل ذلك. [و] قال الرافعي: وتستقر عليه القيمة بخلاف ما لو اشترى جارية واستولدها فخرجت مستحقة بغرم قيمة الولد ويرجع على البائع؛ لأنه غرَّه ثم.
وفي "النهاية": أن البائع إن كان عالماً بفساد العقد فهو في صورة الغار، والغار يغرم للمغرور قيمة الولد إذا غرمها، فلا معنى لإثبات قيمة الولد له، فإنه لو غرمه لرجع على من [غره]، والمغروم له في هذا التقدير هو الغار بعينه، وإن كان البائع لا يدري فساد العقد؛ ففي المسألة احتمال ظاهر من حيث إنه لم يعتمد تغرير أجنبي ينتقل ذلك سبباً لانقلاب الضمان عليه، [وقد رمز المحققون إلى هذا التردد].
وفي "تعليق" القاضي الحسين إبداء ما ذكره الإمام أولى – وطرده في المهر أيضاً إذا قلنا: إن المغرور يرجع به على الغار، ثم قال: ويمكن أن يفرق بين ما نحن فيه وبين المغرور بأن هناك الغاصب غره بسلامة الأولاد، فلأجل غروره قلنا: له أن يرجع عليه، وهاهنا البائع ما غره بل هو غر نفسه؛ إذ كان يمكنه الوقوف والاطلاع عليه بخلاف ذلك.
قال: وإن وضعته ميتاً- أي: من غير جناية جان – لم تلزمه قيمته؛ لانتفاء الحيلولة بعد الانفصال وانتفاء إمكان التقويم قبله؛ لأنا نشك في حياته فلا توجب قيمته بالشك مع كونه ليس بمفوت روحه، بخلاف الجاني على البطن الذي تصير جنايته سبباً لتفويت الروح، أو منها من الانسلال؛ فإن ظاهر الحال يقتضي أن ذلك حصل بضربه وجنايته، وهذا مما ادعى الإمام فيه نفي الخلاف، وأجراه في الضمان الذي يتعلق بمحال الغرور.
وقال فيما لو غصب جارية فعلقت بمولود من سفاح وانفصل الولد ميتاً فالمذهب أنه لا ضمان أيضاً، وفيه شيء بعيد، [وكذلك ولد] الصيد في حق المحرم.
وفي المذهب في كتاب الغصب في الصورة الأولى: أن الشافعي قال: عليه ضمان قيمته يوم وضعته ميتاً، وقال أبو إسحاق: لا تجب قيمته.
والفرق على الأول بينه وبين ما لو كان جاهلاً بالتحريم فإنه لا يضمن وجهاً واحداً.
ما حكاه العمراني عن المحاملي أن الولد في صورة الجهل ينعقد حرًّا، والحر لا تثبت عليه اليد فلا يضمن بها، وإنما يضمن بالحيلولة ولم تحصل، وفي صورة العلم
الولد ينعقد رقيقاً، وقد تثبت يد الغاصب عليه حال كونه حملاً، فإذا تلف لزمه ضمانه.
وهذا الفرق بعينه يجيء هاهنا، أما إذا ألقته ميتاً بجناية جان وجبت الغرة على عاقلة الجاني، وعلى المشتري أقل المرين من قيمة الولد يوم الولادة لو كان حيًّا والغرة، ويطالب به المالك من شاء من الجاني والمشتري.
وفي مجموع المحاملي: أن المشتري لا شيء عليه؛ لأن المشتري لم يخرج حيًّا، فلم تحصل الحيلولة [والمشهور أنه] يكون للسيد أقل الأمرين – كما ذكرناه – وهذا ما اقتصر الأئمة على ذكره هاهنا، وقالوا في نكاح الغرور: إن الأمة المغرور بنكاحها إذا أتت بولد ميت فهو حر، ولا قيمة على المغرور، فلو ألقته بجناية جان وجب على الجاني غره.
وفيما يجب على المغرور وجهان، اختيار القاضي منهما: أنه يغرم عشر قيمة الأم؛ لأنه يغرم للسيد ما فوته عليه، ولولا ما حصل [للمشتري] من تفويت رقه بالحرية؛ لمي كن للسيد إلا عشر قيمة الأم، فرجع به على المغرور.
والوجه الثاني: قال الإمام – وهو المشهور وعليه جمهور الأصحاب -: أنه يغرم أقل الأمرين من قيمة الغرة وعشر قيمة الأم، فإن كان عشر قيمة الأم أقل غرمه؛ لأنه واجب الجنين الرقيق. وإن كانت الغرة أقل لم يلزم المغرور إلا قيمة الغرة؛ لأن سبب تغريم المغرور ما وجب له على الجاني من الغرة؛ إذ لو انفصل ميتاً من غير جناية فلا ضمان.
قال الإمام: وهذا ليس على وجهه، فإنا إذا اخترنا الوجه الأول فتعويلنا فيه أنه جرى في الجنين حالة، لولا الغرور لكان يسلم للمولى عشر قيمة الأم، فقد صار المغرور سبباً في تفويت ذلك. ثم إذا قلنا: يغرم المغرور للسيد أقل الأمرين؛ فإنه لا يغرم له ما لم يسلم له الغرة، وإن سلكنا المسلك الآخر غرمنا المغرور عشر قيمة الأم في الحال، ولم ننتظر حصول الغرة له، فعلى هذا لو كان للجنين وارث سوى الأب ولا يتصور معه إلا أم الأم، فإذا للجدة السدس والباقي للأب، فإن أوجبنا على المغرور الأقل فنعتبر الأقل من عشر قيمة الأم وخمسة أسداس [من] الغرة،
فإن السدس الذي للجدة، غير محسوب على الأب.
وحكى في كتاب الغصب عن القاضي: أن الواطئ لو مات وخلف أبا فضرب ضارب بعد موته الجارية، فأجهضت الجنين ميتاً فالغرة مصروفة إلى الجد، ويجب عليه ضمان الجنين للمالك ما كان يجب على الأب لو كان حيًّا.
ثم قال القاضي: لو كان مع الأب جدة وارثة للسدس من الغرة ينظر إلى خمسة أسداس الغرة وإلى عشر قيمة الأم، ويجعل كأن السدس المصروف إلى الجدة غير ثابت.
قال الإمام: ولا شك أن إخراج السدس عن الاعتبار يقتضي قياسه إخراج الجد عن الضمان ويفوز بالغرة إرثاً.
وإذا رأينا [أنه لا ضمان] فيحتمل أن يحيط الضمان أو يعلقه بتركة الغاصب، والظاهر إتباع الضمان الغرة فطرده في السدس المصروف إلى الجدة أيضاً، هذا آخر كلامه، ولا يخفى عليك مناقضة ما حكاه عن القاضي ثانياً لما حكاه عنه أولاً.
وعلى كل حال فيتجه جريان مثل ذلك في مسألتنا.
ويعضده أن المحاملي [في المجموع] قال: إن حكم الغاصب إذا وطئ الجارية المغصوبة حكم ما ذكرناه سواء إلا في مسألتين:
أحدهما: أن الغاصب إذا وطئ مع العلم بالتحريم فعليه الحد وولده مملوك، وليس كذلك هنا، ويضاف إلى ذلك مسألة أخرى، وهي إذا ملكها بعد ذلك لم تصر أم ولد في الغصب، وهنا قولان.
قال: وإن ماتت الأمة من الولادة – أي: في يد البائع بعد تسلمها –لزمه قيمتها؛ لأنه المتسبب إلى الحمل المفضي إلى الطلق، لكن هل يجب ذلك في ماله أو على عاقلته؟ فيه قولان يأتيان في الجنايات، وأي قيمة تعتبر؟
حكى الإمام عن العراقيين فيما يلزم الراهن إذا ماتت الأمة المرهونة بسبب إحباله ثلاثة أوجه:
أحدها: أقصى القيم من يوم الإحبال إلى يوم الموت كالغاصب.
والثاني: يوم الإحبال.
والثالث - وهو اختيار ابن أبي هريرة -: أنه يجب قيمة يوم الوضع، فإن التلف تحقق يومئذ، وما تقدم غير موثوق به.
قلت: ويتجه أن يجيء منها هاهنا الوجه الأول والأخير، وأما الوجه الآخر وهو اعتبار قيمة يوم الإحبال [فيحتمل أن تجيء أيضاً، ويحتمل أن يكون عوضه أنه يجب أقصى القيمة من يوم الإحبال] إلى يوم الرد، والله تعالى أعلم.
فإن قيل: لو علقت الحرة من وطء شبهة ثم ماتت من الطلق لم يجب عليه ديتها.
فهلا قلتم هنا مثله؟
قال المحاملي: قلنا: لنا في تلك المسألة قولان:
أحدهما: أن الدية تجب، فعلى هذا سقط السؤال.
والثاني: لا تجب.
والفرق أن ضمان الأمة أوسع من ضمان الحرة؛ ألا تراها تضمن باليد والحرة لا تضمن باليد، والذي رجحه الإمام [في كتاب الرهن الأول.
ويجري القولان في الحرة فيما إذا وطئت بالزنا مستكرهة، على ما حكاه الإمام] هاهنا، وكذلك ابن الصباغ، والقاضي أبو الطيب، وأضافوا إلى الفرق الأول أنه غير محكوم بأنه منه وغير ملحق به فلا ينسب التلف إليه، ولأجل هذا جزم في "النهاية" في كتاب الرهن بعدم وجوب الضمان، وعزاه إلى الأصحاب وطرده في الأمة وإن قدرت مضبوطة.
فروع:
نختم بها الباب: فيما إذا اشترى أمة شراء فاسداً فوطئها فحملت منه -: ولو لم تمُت من الولادة ولكن نقصت قيمتها.
قال الأصحاب: يجب عليه الأرش.
وفي "النهاية" في كتاب الصداق: أنه لو أصدق زوجته جارية حاملاً وولدت في يد الزوجة وانتقصت قيمتها بالولادة- أنه يجب بناء هذا على أن المبيع إذا خرج في يد البائع ثم سرت الجراحة في يد المشتري، وقد ظهر اختلاف الأصحاب في ذلك؛
فمنهم من جعل السراية من ضمان البائع؛ لأن سببها الجراحة فعلى هذا نقصان الولادة من ضمان الزوج، وإن حدث في يدها.
ومن أصحابنا من قال: نقصان السراية من ضمان المشتري؛ لأنه حدث في يده فعلى هذا نقصان الولادة من ضمانها.
قلت: و [قد] يتجه أن يجري مثل ذلك هاهنا، وفيما إذا ماتت من الطلق، وما يتخيل بينهما من فرق فهو مندفع بما حكاه العمراني عن الطبري فيما إذا وطئ الغاصب الجارية المغصوبة فحملت منه ثم ردها وماتت من الولادة – أن في ضمانه لها وجهين، وغاية الأمر هنا أن تلحق بالغاصب.
لو حصلت زوائد من المبيع منفصلة في يده فضمانها مبني على الأقوال في كيفية الضمان، فإن قلنا بالمذهب ضمنها، وألا فلا.
لو قال: بعتك بلا ثمن لا ينعقد بيعاً، وهل ينعقد هبة؟ فيه قولان: يرجع حاصلها
إلى أن الاعتبار باللفظ أو بالمعنى، فإن راعينا الأول أبطلنا، والأصح: هبة، ولهذا نظائر تأتي في مواضعها إن شاء الله تعالى.
فإن قلنا: لا ينعقد هبة، ففي ضمان العين وجهان، ولو قال: بعتك ولم يذكر ثمناً لم ينعقد بيعاً ولا هبة، ويضمن العين، وقيل بطرد الوجهين، صرح به الإمام.
لو كان لرجل نصف دار فباعها بنصفها الآخر، هل يصح؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه لا يصح؛ فيه وجهان:
أحدهما: أنه لا يصح؛ إذ لا فائدة فيه، وهذا ما صححه الإمام في كتاب الصلح، ولم يحك سواه.
والثاني: وهو الصحيح في الرافعي: أنه يصح؛ لاجتماع الشرائط المرعية في العقد.
وله فوائد؛ منها: لو ملك أحدهما ذلك بالهبة من ابنه انقطع عنه ولاية الرجوع.
ومنها: لو ملكه بالشراء ثم اطلع بعد هذا التصرف على عيب لم يملك الرد على بائعه.
ومنها: لو ملكته صداقاً وطلقها الزوج قبل الدخول لم يمكن من الرجوع فيه، ولو باع الثلث من الدار بنصفها، حكى الإمام عن صاحب "التقريب" في الموضع الذي ذكرناه – الصحة ثم قال: وهذا عندي كلام ملتبس لا أصل له، والوجه القطع بالفساد.