المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب بيع الأصول والثمار - كفاية النبيه في شرح التنبيه - جـ ٩

[ابن الرفعة]

الفصل: ‌باب بيع الأصول والثمار

‌باب بيع الأصول والثمار

عني بـ"الأصول": الأرضين والأشجار والثمار.

قال الجَوْهَرِيُّ: "واحدة الثِّمَار والثَّمَرِ: ثَمَرة، وجمع الثَّمَرِ: ثمار، كجبل وجبال، وجمع الثمار.

قال الفراء: "ثُمُر؛ ككتاب وكُتُب، وجمع الثُّمُر: أثمار؛ كعُنُق وأعناق".

قال: "إذا باع أرضاً وفيها بناءٌ أو غراس، دخل البناء والغراس في البيع؛ لأنهما من الثابتات فيها التي تراد للبقاء فتلحقها كما تلحق في الشفعة، ولأن البناء يجري مجرى أجزاء الأرض، وهذا نصه هاهنا، وبه قال أبو إسحاق وأبو علي بن أبي هريرة وجمهور أصحابنا، وصححه أبو الطيب، واختاره ابن أبي عصرون، وقد نصّ في الرهن على أنهما لا يدخلان فيه، فألحق أبو العباس به البيع، وجزم فيهما بعدم الدخول كما لا تدخل الثمرة المؤبرة في البيع، وحمل النص في البيع على ما إذا قال: بعتك الأرض بحقوقها، وهذا ما صححه الإمام والغزالي، وطرده فيما إذا قال: بحقوقها، وهو القياس؛ لأنَّ ذلك إن كان من حقوقها اندرج عند الإطلاق، وإن لم يكن من حقوقها فلا يدخل بذكر الحقوق.

وذهب أبو الطب بن سلمة وأبو حفص بن الوكيل إلى تخريج قول من كل من المسألتين إلى الأخرى، وجعلهما على قولين للوفاء بما ذكرنا من الدليلين، وهذا ما صححه الشاشي في "حليته"، ومن جرى على ظاهر النصين فرق بوجهين:

أحدهما: أن عقد البيع يزيل الملك؛ فجاز أن يكون ما اتصل بالمبيع تبعاً له، لقوته، وعقد الرهن يضعف عن إزالة الملك؛ فلم يتبعه ما لم يسمَّ لضعفه، وهذا قد ضعفه ابن أبي عصرون بأن موجب الإطلاقات لا يختلف بقوة العقد وضعفه.

والثاني: أنه لما كان ما يحدث في المبيع للمشتري جاز أن يكون ما اتصل به من قبل [له]، ولما كان ما يحدث من الرهن لا يدخل في الرهن، اقتضى أن يكون ما

ص: 173

تقدم [الرهن] أولى ألَاّ يدخل فيه، وعلى هذا يندرج في البيع أيضاً ما كان متصلاً بالأرض من أساس، سواء كان من آجر، أو حجارة، أو تراب، وكذا تلال التراب التي تسمى بـ"البصرة" حبالاً، والسواقي التي تشرب الأرض منها، (وأنهارها) وعين الماء التي فيها، وهل يملك الماء الذي فيها؟ فيه من الخلاف والتفصيل ما حكيناه في الباب قبله، كذا حكاه الماوردي.

وفي "الرافعي": أنه لا يدخل فيه شرب الأرض من القناة والنهر المملوكين، إلا أن يشترط أو يقول: بحقوقها، وحكى أبو عاصم العبادي وجهاً: أنه لا يكفي ذكر الحقوق، وكذا لا يدخل مسيل الماء في بيع الأرض، وحكم المعدن الجاري حكم الماء.

وقيل: إن الموجود للبائع دون ما يحدثن والمعدن الجامد كمعدن الذهب والفضة مملوك لمالك الأرض، فيندرج في البيع؛ لأنه من أجزائها. وهل يملك دولاب الماء؟ فيه ثلاثة أوجه حكاها الماوردي، الثالث: إن كان صغيراً يمكن نقله صحيحاً على حاله من غير مشقة لم يدخل، وإلَاّ دخل.

ولو كان فيها رحا [للماء دخل] في البيع بيت الرحا وبناؤه، وأمَّا أحجاره فيها ثلاثة أوجه حكاها الماوردي، الثالث: يدخل فيه الأسفل دون الأعلى، ولا خلاف في اندراج الأسفل من حجري الرحا إذا كان المبيع باسم الطاحون، وكذا الأعلى على الأظهر.

ولفظ "الساحة" و"العَرْصة" و"البقعة" فيما ذكرناه كلفظ "الأرض".

ولا خلاف في أنه إذا قال: بعتك هذا الباغ أو البستان أو الحائط، دخل فيه الأرض والأشجار والحيطان، ومجاير الماء، وإن كان فيه بناء فعلى الخلاف.

ص: 174

ولو قال: بعتك هذا الكرم، دخل العريش على الأصح.

ولو قال: بعتك هذه القرية، دخل فيه الأبنية والحصن الذي يحوطها، وفيما يحويه من الشجر الخلافُ، واختيار الإمام والغزالي الدخول.

ولا تدخل المزارع، وفي "النهاية": أنها تدخل.

ولو قال: بحقوقها، قال في "المهذب" و"الشامل": دخلت الأشجار دون المزارع. وحكى ابن كَجٍّ أنها تدخل.

ولو قال: بعتك هذه الدار، دخل فيها الأرض، والبناء، والأبواب المركبة، والحلق، والسلاسل المسمَّرة، والقفل، وكذا المفتاح على الأصح، وفي معناه كل منفصل لا يمكن الانتفاع به إلا بمتصل كالزرائب وغطاء التنُّور، وما لا تستغني السفينة عنه مما هو منفصل إذا بيعت، وتدخل الدرج المبنية وإن كانت من ألواح، وكذا حمام الدار إن كان لا يستقل دون الدار، وإن استقل فهو في بيع الدار كالبناء في بيع الأرض وما فيها من شجر هل يدخل؟ فيه الخلاف السابق في دخوله في بيع الأرض.

وحكى الإمام وجهاً ثالثاً فارقاً بين أن يكثر بحيث يجوز تسمية الدار بستاناً فلا يدخل، وبين ألا يكون كذلك فيدخل

وهذا أعدل عند الغزالي.

والساباط المتصل [بالدار] على حائط من حدودها هل يدخل في بيع الدار؟ فيه ثلاثة أوجه.

ثالثها من تخريج أبي الفياض: إن كانت رءوس الأجذاع من الطرفين مطروحة على حائط لهذه الدار، دخل في البيع، وإن كان من أحد الطرفين لم يدخل.

قال: "فإن كان له حمل" أي: للغراس الداخل في البيع كما سنذكره عن النص، ويكون هذا الحكم فيما إذا وقع عليه العقد منفرداً من طريق الأولى.

قال: "فإن كان ثمرة تنشقق كالنخل"، أي: والكرسف الحجازي والبصري الذي

ص: 175

يبقى سنين كثيرة.

قال: أو نَوْراً يتفتح"، كالورد والياسمين، "فإن كان قد ظهر ذلك أو بعضه"، أي: ظهر ما في كون الطلع منه، والورد من كمامه، والياسمين من الشجر؛ إذ لا كمام له.

قال:"فالجميع للبائع، وإن لم يظهر منه شيء فهو للمشتري".

الأصل في كون ثمرة النخل إذا تشققت تكون للبائع، وإن لم تشقق تكون للمشتري ما روى البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم:"مَنْ بَاعَ نَخْلاً قَدْ أُبَّرَتْ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ إِلَاّ أَنْ يَشْتَرِطَهَا الْمُبْتَاعُ".

وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

وذلك يدلُّ بمنطوقه على أن ما أُبِّر يكون للبائع، وبمفهومه على أن ما لم يؤبر يكون للمشتري، وأيضاً فإن النص على التأبير إمَّا أن يراد به التنبيه على غيره أو التمييز من غيره، ولا جائز أن يراد به التنبيه؛ لأن حكم ما لم يؤبر أخفى من حكم ما قد أبر، والتنبيه ما يقصد به بيان الأخفى؛ ليدلّ على حكم الأزهر؛ فتعين أن المراد به التمييز من غيره، وأن الحكم مختصًّ به. وذلك يفيد ما ادعيناه، ولأنه نماء مستجن في أصله؛ فوجب إذا لم يظهر أن يكون في البيع تبعاً لأصله؛ كالحمل في البطن واللبن في الضرع.

فإن قيل: التأبير هو التلقيح، والتلقيح أن يشقق طلع الإناث، ويوضع فيه شيء من طلع الفحول؛ ليشتد برائحته ويقوى فلا يلحقه الفساد على ما جرت به العادة، وصحت فيه التجربة، وأنتم لا تعتبرون ذلك، بل اعتبرتم نفس الظهور في وقته سواء كان [ذلك] بنفسه، أو بفعل فاعل.

قلنا: قد يحصل ذلك عند الظهر من الرياح؛ فأغنى عن الوضع فيه، وأيضاً فإن التأبير إنما اعتبر؛ لأن الثمرة تظهر به وبالتشقق، وقد حصل هذا المعنى؛ فقام مقام

ص: 176

التأبير، وأمَّا جعل ما لم يتشقق تابعاً لما يشقق، فالأصل فيه أيضاً الحديث؛ فإنه عليه السلام لم يفصل بين أن يكون التأبير في جميعه أو في بعضه، ولأن في اعتبار التأبير في كل نخلة مشقة، وفي تبعيض الثمرة بين البائع والمشتري اختلاف وسوء مشاركة، فجعل ما لم يؤبر تابعاً لما أبر في دخوله في البيع؛ لأنه قد استقر في الشرع أن يكون الباطن تبعاً للظاهر دون العكس، كما في أساس الحائط، ورءوس الأجذاع، فإذا ثبت ذلك في النخل قيس ما في معناه، والورد والياسمين وما في معناهما عليه؛ بجامع ما اشتركوا فيه من الكمون والظهور.

وذكر ابن الصباغ أن الشيخ أبا حامد ذكر أن الورد يكون للبائع وإن لم يتفتح، وأنَّه ظاهر كلام الشافعيّ، ثم قال:"والأول أقيس".

وفي "التهذيب": أن ما لم يظهر من الورد لا يتبع الظاهر، وإن كان على شجرة واحدة؛ لأنه يؤمن فيه المحذور؛ فإنه يجمع أولاً فأولاً.

فرع: لو أُبِّر بعض النخل، وأورد العقد على ما لم يؤبر - نُظر: إن كانا من حائطين لم تكن الثمرة للبائع وإن كانا متجاورين؛ لانتفاء المعنى المشترك وهو المخالطة، وإن كانا من حائط واحد؛ فوجهان حكاهما الماورديّ وغيره، أصحهما: أنه لا يتبع.

وفي "الرافعي" حكاية وجه: "أنه يتبع في الحائطين أيضاً إذا قلنا: إنه يتبع في الحائط الواحد، وهذا كله إذا اتحد مالك المجموع، أمَّا لو اختلف فالخلاف مرتبٌ على ما إذا اتحد المالك وأولى بالبطلان، حكاه الرافعيُّ في "بدو الصلاح".

قال: "وقيل: إن ثمرة الفُحَّال للبائع بكل حالٍ"، أي: سواء تشقق الطلع أوْ لا، قال الماوردي:"وهو الأصح"، والفرق بينه وبين ثمرة الإناث أن طلع الإناث لا يوجد إلَاّ بعد إباره وتناهيه بسراً أو رطباً، وطلع الفحال يوجد قبل إباره، ويكون حال تناهيه طلعاً.

قال: "وهو خلاف النصّ" أي: نص الشافعي.

ووجه النص ما ذكرناه من مفهوم الحديث وغيره، وما ذكر في الفرق - من أن طلع الفحال حال تناهيه أن يكون طلع طلعاً - ممنوع؛ لأن المقصود من طلع الفُحَّالِ الكُشُّ لتلقيح الإناث، وذلك لم يوجد بعد؛ فهو كطلع الإناث.

تنبيه: إطلاق الشيخ القول بأن ما لم يظهر تابعٌ لما ظهر يعرفك أنه لا فرق في ذلك بين أن يكونا من نوع واحد أو نوعين، كما هو الصحيح في "تعليق" أبي الطيب،

ص: 177

والمذهبُ في "الحلية" و"والتهذيب"، وخصّ أبو علي بن خيران ذلك بما إذا اتحد النوع، وقال عند اختلافه:"كل نوع معتبر بنفسه، وأنه لا فرق بين أن يكون الذي ظهر طلع الإناث، أو طلع الفحال على النص".

أمَّا إذا قلت: إن ثمرة الفحال للبائع بكل حال، فلا أثر لظهوره قبل الإناث، وتكون ثمرة الإناث للمشتري. قاله القاضي أبو الطيب.

وفي "الحاوي" حكاية وجه: أنها أيضاً تكون للبائع، وطرده فيما إذا ظهر طلع الفحال ولم يتشقق وقلنا: إنه للبائع، أي: ثمرة الإناث تكون للبائع وإن لم تشقق، وجعله الإمام كالوجه المذكور في استتباع النوع النوع، والأصح في "الحاوي": الأول، وأنَّه لا فرق بين أن يكون التابع قد طلع قبل العقد أو بعده، كما ذهب إليه الشيخ أبو حامد، متمسكاً بأنه لمَّا كان ما لم يظهر تباً لما قد ظهر حذراً من سوء المشاركة، وجب أن يكون ما لم يطلع تبعاً لما قد أطلع، وهو الذي صححه الرافعيُّ.

وقال أبو علي بن أبي هريرة: "يشترط في التبعية أن يكون التابع قد طلع".

قال الماوردي: "وهذا أصح".

والفرق: أن ما لم يؤبر يصح عليه العقد، ويلزم فيه الشرط؛ فجاز أن يصير تبعاً لما قد أُبر في العقد، وما لم يطلع لا يصح عليه العقد، ولا يلزم فيه الشرط؛ فلم يجعل تبعاً لما قد استثناه العقد.

آخر:

لفظة "أبرت" في الحديث، قال الأزهري: يقال بالتخفيف والتشديد.

وقال الجوهريُّ: بالتخفيف.

النَّور – بفتح النون – قال الأزهري: يطلق على أيّ لون كان.

وقيل: النور ما كان أبيض، والزهر ما كان أصفر.

الفُحَّال – بضم الفاء وتشديد الحاء – ذكر النخل، جمعه: فحاحيل.

قال جمهور أهل اللغة: ولا يُقال: [فَحْل]، وجوَّز جماعة منهم أن يقال في المفرد:"فَحْل" وفي الجمع: "فُحُول"، وكذلك استعمله الشافعيُّ والغزالي، ومما حكاه الجوهريُّ: أنه لا يقال "فُحَّال" في غير الفحل.

ص: 178

فرعان:

أحدهما: لو تلف الطلع في يد البائع سقط عن المشتري حصته من الثمن إذا اختار الإمساك على الصحيح من المذهب؛ لأن الطلع موجود حقيقة، ويجوز بيعه على الصحيح، خلافاً لأبي إسحاق.

قال المتولي: ومن أصحابنا من بناه على القولين في أن الحمل هل يقابله قسط من الثمن، وليس بصحيح.

الثاني: لو شقق طلع النخل نظر: إن كان في إبانه فهو كما لو تشقق بنفسه، وإلا لا أثر له، وحيث حكمنا بكون الطلع للبائع لتأبيره فَجِرْم الكِمَام للمشتري؛ فإنه يترك على النخل، حكاه الإمام عن شيخه.

قال: "وإن كان ثمرة بارزة؛ كالتين والعنب، أو في كمام لا يزال [عنه] إلا عند الأكل؛ كالرمان والرانج فهو للبائع" أي: إذا كان موجوداً حال العقد، أمَّا في الأوليين وشبههما فلأنه ظاهر؛ فكان كالطلع المؤبر، وأمَّا في الأخريين وشبههما من الموز؛ فلأن قشر ذلك حافظ لمنفعته، فبقاؤه عليه من مصلحته؛ لأنه إذا تشقق قشره فسد، فكان القشر بمنزلة نفس الثمرة فظهوره بمنزلة ظهور ثمار سائر الأشجار.

كذا قاله المحاملي.

وفيه ما يفهم أن الكلام في الرمان إذا ظهر من الجلنار فهو الذي يقتضيه القياس، ويعضده ان الماوردي والمتولي ألحقاه بالمشمش والخوخ، ولو ظهر بعض ذلك بعد العقد لم يتبع الظاهر، قاله البغوي، وقال المتولي في التين بلا خلاف، ويدل عليه ما سنذكره من كلام الشيخ.

واعلم أن كلام الشيخ مصرح بأن العنب لا نَوْر عليه، وأنه ملتحق بالتين، وهو ظاهر النص الذي سنذكره.

وقال الشيخ أبو حامد: "عندي أن له ورداً ثم ينعقد".

وفي "الحاوي": أنه نوعان: منه ما يُوَرِّد ثم ينعقد، ومنه ما يبدو حبًّا منعقداً، فالثاني ملتحق بالتين، والأول ملتحق بالمشمش، وعلى ذلك ينبغي أن يحمل ظاهر النص،

ص: 179

وكلام الشيخ أبي حامد، وقد ألحق الشيخ في "المهذب" وغيره الرانج بالجوز وما في معناه، وهو مخالف لما ذكره هنا.

قال العمراني وغيره: ووجه الجمع بين قوليه أنه يخرج في قشرين، وقد يتشقق عنه الأعلى؛ فيبقى في قشر واحد، فيكون كالرمان، وإذا لم يتشقق فهو كالجوز.

وهذا الجواب فيه نظرٌ؛ لأن الكلام في هذه الأشياء في حال انعقادها على الأشجار، ولا يمكن أن يكون الرانج في حال انعقاده على قشرين حالهما كذلك، بل الأقرب في الجواب ما حكاه النواوي أنه نوعان: نوع ذو قشر، وعليه يحمل كلام الشيخ هنا، ونوع ذو قشرين، وعليه يحمل كلامه في "المهذب".

تنبيه: الكمام- بكسر الكاف -: أوعية طلع النخل، والمراد به هنا أوعية ما ذكره.

قال الجَوْهَرِيُّ: "وواحد الكمام: كِمّ – بكسر الكاف – وكِمَامة، والجمع كِمَامٌ وأَكِمَّة، وأَكْمَام، وأكاميم".

الرانج – بكسر النون -: الجوز الهندي.

وقال النواوي: ورأيته في نسخة من "المحكم" مضبوطاً بفتح النون، والمشهور كسرها.

قال: "وإن كنا ثمرة في قشرين: كالجوز، واللوز، فهو كالتبن والرمان على المنصوص"، أي: في "الأم"؛ فإنه [قال]: إذا باع أرضاً فيها شجر رمان، وجوز، ولوز، ورانج وغيره مما دونه حائل لا يزال عنه إلَاّ في وقت الحاجة إلى أكله؛ فهو في معنى ما تخرج ثمرته بارزة. صرح بهذه الحكاية المحاملي، وهذا ما وعدنا بحكايته في أول الباب وبعده.

ووجهه: أن ذلك يخرج من الشجرة كما يخرج التين، وقشره لا يتشقق عما في جوفه فألحق به.

قال: "وقيل: هو كثمرة النخل قبل التأبير" أي: فيكون للمشتري؛ لأنه لا يترك في القشر الأعلى كما لا يترك الثمرة في الطلع.

واعلم أن إطلاق الشيخ حكاية هذا القول قد يفهم منه أن الثمرة تكون للمشتري بكل حال، سواء تشقق عنها القشر الأعلى أو لم يتشقق؛ لكونه ألحقه بالثمرة قبل

ص: 180

التأبير، وليس كذلك، بل محله ما إذا لم يتشقق [عنه] القشر الأعلى، أما إذا تشقق عنه القشر الأعلى، فإنه يكون كثمرة النخل بعد التأبير، وهو ما ذهب إليه الشيخ أبو حامد ومن في طبقته، وحملوا النص على ما إذا تشقق عنه القشر الأعلى وبقي الأسفل، ويدل عليه أنه قال:"دونه حائل لا يزال عنه إلَاّ في وقت الحاجة إلى أكله" وهذه صفة القشر الأسفل دون الأعلى. ولم يحك الماوردي في الجوز سوى هذا القول، وألحق اللوز بالمشمش.

وقال القاضي أبو الطيب: غلط في ذلك الشيخ أبو حامد لأن تشقُّق قشر هذا عنه ليس من مصلحته إذا كان على رءوس الشجر؛ لأنه كتشقق الرمان الذي ليس فيه صلاحه، وكلام الشيخ يرشد إلى التصوير بما ذكرناه؛ لأنه قال:"وإن كان ثمرة في قشرين"، وهو بعد التشقق لا يكون في قشرين، بل في قشر واحد.

قال:"وإن كان ثمرة تخرج في نَوْر، ثم يتناثر عنه النَّور كالمشمش والتفاح – فهو كثمرة النخل: إن ظهر ذلك أو بعضه" أي: من نوره "فهو للبائع، وإن لم يظهر منه شيء فهو للمشتري"، [أي]: وإن انعقد؛ لأن استتارها بالنور كاستتارها بقشر الطلع، وتناثر النور عنه كالتشقق في الطلع، وهذا ما نصّ عليه في البويطي، والصرف، واختاره أبو إسحاق والقاضي الروياني وسائر الأصحاب كما حكاه المحاملي.

قال: "وقيل: إنه للبائع في الحالين" أي: حال كون النور عليه، وحال تناثره عنه.

وهذا ما حكاه المحاملي في "المجموع" عن تخريج الشيخ أبي حامد، وأنه الذي يجئ على المذهب، متمسكاً فيه بقول الشافعي: حكم كل ثمرة خرجت بارزة ترى في أول ما تخرج كما ترى في آخره، فهو في معنى ثمرة النخل بارزة من الطلع، وتقريره: أن الثمرة ظاهرة بالخروج، واستتارها بالنور كاستتار ثمرة النخل بعد التأبير بما عليها من القشر الأبيض، واستتار حبات العنب بما يتشقق عنها من النور اللطيف، وذلك لا يجعلها تابعة؛ فكذلك هذا، وقد رجح هذا القول أبو القاسم الكرخي والبغوي، وخَطَّأ الشيخَ أبا حامد القاضي أبو الطيب في "تعليقه"، وقال ابن الصباغ:

ص: 181

"هذه الحكاية ليست بمذكورة في التعليق الأخير عنه".

وقد ألحق أصحابنا العراقيون الفِرْسِكَ وهو الخوخ والكمثرى، والسفرجل بالمشمش والتفاح، صرح بالأول ابن الصباغ، وبما عداه الماوردي، وبالمجموع المحامليُّ في "المجموع"، وفصل الإمام فقال: الأشجار التي تبدو أزهارها منها ما يحتوي مركب الأزهار، وأصلها على الثمار على هيئات خوخات صغار كالمشمش والخوخ وما في مناه، فإذا بيعت هذه الأشجار وعليها أزهارها فالثمار في مطلق البيع للمشتري؛ فإنها مستترة استتار الطلع، وفيها مزيد معنى، وهي أنها لا تعد بعد ثمرة حتى تشت وتتصلب، وذلك بعد انتشار الأزهار وانكشافها عن الخوخات. ومن الأزهار ما لا يحتوي على الثمار ولكنها تطلع والثمرة دونها كالكمثرى والتفاح، فما كان كذلك فقد اختلف الأصحاب فيه:

فالذي مال إليه العراقيون أن الثمار لها حكم الظهور؛ فلا تتبع الأشجار المطلقة في البيع.

ومن أصحابنا من قال: هي للمشتري؛ لأنها غير منعقدة بعد، وإنما انعقادها بعد انتشار الأزهار.

فهذا هوا لذي ذكره الصيدلاني.

وهذا من الإمام يدل على أنَّ الخلاف في هذا النوع قبل انعقاد الثمار، إلَاّ أن يريد تكامل الانعقاد، ويؤيده أن المحكي في الرافعيّ أن المشمش والتفاح والكمثرى إن بيع أصله قبل انعقاد الثمرة فإنها تنعقد على ملك المشتري، وإن كان النور قد خرج، وإن بيع بعد الانعقاد وتناثر النور فهي للبائع، وإن بيع بعد الانعقاد وقبل تناثر النور فوجهان.

تنبيه: المشمش: بكسر الميمين، قاله الجَوْهَرِيُّ.

وحكى أبو عبيدة الفتح.

قال: "وإن كان ورقاً كالتوت"، أي: الذي يقصد لتربية القز، وهو الشامي، "فقد قيل: إنه إن لم يتفتح فهو للمشتري، وإن تفتح فهو للبائع"؛ لأنه مقصود لطعمة دودة القز؛ فهو كالثمرة من غيره. وهذا ما صححه الجيلي، وجزم به الماوردي، وطرده في كل ما المقصود منه الورق.

ص: 182

"وقيل: هو للمشتري بكل حال"؛ لأنه من جملة الأصل كالأغصان، وهذا ما صححه الرافعيّ والبغوي، واختاره ابن أبي عصرون.

أمَّا غر الشامي الذي يقصد بمنه الثمرة فهو للمشتري بكل حال، ومحل الخلاف في زمن الربيع، أمَّا في زمن الخريف فهو للمشتري وجهاً واحداً.

تنبيه: التوت: بالتاء المثناة في آخره، وبالمثلثة أيضاً، والأشهر الأفصح بالمثناة، وممن ذكر اللغتين ابن الأعرابي.

قال الأَصْمَعِيُّ: العرب تقول بالمثناة، والفرس بالمثلثة، وقد شاع الفرصاد في الناس كلهم.

فرعان:

أحدهما: ورق شجر النبق هل يتبع الأصل؟ فيه طريقان في "التتمة":

أظهرهما: أنها كأوراق غيرها.

والثاني: أنها كورق التوت؛ لأنها تلتقط لتغسل بها الرءوس، لكن خروجه من الأصل بمنزلة تفتح ورق التوت؛ لأنه يخرج من الأغصان في غير عُقَد يتفتح عنه. وهذا ما صرح به الماورديُّ.

الثاني: أغصان الأشجار تدخل في البيع، وكذا عروق الأشجار وإن كانت يابسة.

وفي "التهذب": أن الشجر الأخضر إذا كن فيه غصن يابسٌ لم يدخل في البيع؛ لأن العادة فيه القطع، ثم قال: ويحتمل أن يدخل كالصوف على ظهر الغنم.

آخر: إذا باع أشجاراً خضراً، وأطلق العقد هل تدخل المغارس في البيع؟ فيه وجهان.

وقال الإمام وصاحب "التهذيب": قولان أصحهما: لا، فعلى هذا لو انقلعت الشجرة، أو قطعها المالك لم يكن له غرس بدلها، ولو أراد البائع قلعها فهل له ذلك؟ المنقول هاهنا: أنه ليس له، بل عليه التبقية ما دامت.

وحكى الإمام في كتاب "الرهن" وجهاً آخر: أنه لا يمنع من قلعها، ولكن يغرم ما ينقصه القلع؛ كما يغرم المستير في مثل هذه الصورة، وعلى القول بأنه يملك المغرس إذا قلع الشجرة، كان له غرس بدلها، وبيع المغارس، وهل يدخل ما بين المغارس في البيع؟ جزم الماوردي بعدم الدخول، وقال الإمام في كتاب الرهن:

ص: 183

ينظر: فإن كانت بحيث تنفرد بالانتفاع لم تدخل، وإن كانت لا يتأتى انفرادها بالانتفاع إلَاّ على سبيل التبعية للأشجار، ففي دخولها وجهان رواهما شيخي وصاحب "التقريب".

ثم ما ذكرناه من الخلاف في استحقاق البقاء أو ملك المغارس يجري في بيع الأبنية من غير تعرض لأساسها. حكاه الإمام في "الرهن"، وكذا فيما لو اشترى أرضاً، وشرط البائع لنفسه شجرة فيها: أن المغرس يبقى له ملكاً أو مستحقاً، حكاه الرافعيُّ.

قال: "وإذا باع أرضاً، وفيها زرع لا يحصد في السنة إلَاّ مرة" أي: كالحنطة والشعير، وفي معناهما الجزر والفجل والبصل واللفت والقطن الذي سيتحصد في كل سنة - كما ببغداد وخراسان والبلاد الباردة - قال:"لم يدخل الزرع في البيع"؛ لأنه نماء ظاهر يراد للنقل والتحويل دون البقاء؛ فأشبه الطلع المؤبر والأقمشة في الدار، وألحق الرافعي بهذا النوع السّلْق، وفيه نظرٌ؛ لأنه يستجد؛ فينبغي أن يلتحق بالنوع الثاني، ولا فرق في ذلك بين أن يقول: بعتك الأرض بحقوقها، أو لا، كما حكى عن الشيخ أبي حامد والتميمي في المستعمل، وللبائع تبقية ذلك بغير أجرة إلى أول إمكان حصاده دون نهايته، أو مدة تزيد في ثمنه؛ لاقتضاء العرف ذلك. نعم، عليه قلع ما يضر بالأرض من عروق الذرة، وأصول القطن، وهل يلزمه تسوية الأرض؟ الكلام فيه مثل الكلام فيما إذا كان في الدار المبيعة ما لا يسعه بابها، وقد حكى القاضي أبو الطيب فيه أنه يجب نقض الباب حتى يخرج، ويلزم البائع ما نقض من الباب، ثم قال: ويحتمل أن يقال: يلزمه بناؤه؛ كما يلزمه تسوية الأرض، وليس له

ص: 184

إذا قلع ذلك قبل أوانه أن ينتفع بالأرض إلى أن ينتهي إلى أوان قلعه بلا خلاف، ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يكون المشتري عالماً بالحال أوْ لا. نعم، يثبت له الخيار إذا لم يعلم، وقيل: يستحق الأجرة إذا كان جاهلاً وأجاز العقد؛ لأن المنفعة متميزة عما قابله الثمن، بخلاف ما إذا كان عالماً؛ فإن مقابل ذلك اندرج في الثمن، وهذا كله تفريع على القول بصحة بيع الأرض المشغولة بالزرع، وهو ما جزم به الماوردي.

وأصح الطريقين ما لو باع داراً مشحونة بأمتعة، قال الرافعي: ولا يتخرج على القولين في بيع المستأجر؛ لأن يد المستأجر حائلة، ولا يلحق بما إذا استثنى المنفعة لنفسه؛ لأن هذا استثناء بالعرف فاحتمل، كما لو زوج أمته، ثم باعها؛ فإنه يصح، ولو باعها واستثنى منفعة بضعها ليزوجها لم يصح.

وفي "الشامل": أنَّ أبا إسحاق خرجه على القولين في المستأجر، وأبدى الإمام احتمالاً في إجرائهما في الدار المشحونة أيضاً.

وقال الجمهور: لو كان في معنى المستأجر لوجب ان يقطع بالفساد؛ لأن مدة بقاء الزرع مجهولة، فعلى هذا هل يحصل النقص بالتخلية بين المشتري وبينها في هذه الحالة؟ فيه وجهان:

أحدهما: لا؛ كما في الدار المشحونة بالأمتعة.

وأظهرهما: الحصول.

والفرق: أن التشاغل بالتفريع في الدار ممكن في الحال، على أنَّ فيها أيضاً وجهاً، وادعى الإمام أنه ظاهر المذهب، وأنه لا يكاد يتضح بين المسألتين فرق.

فروع:

لو باع الأرض وما بها من زرع فهل يصح البيع؟ نظر: إن كان قصيلاً أو شعيراً جاز، وكذا إن كان قمحاً وجوزنا بيعه في سنبله، وإن لم نجوز بطل فيه، وفي الأرض قولاً تفريق الصفقة.

ص: 185

وقيل: يصح فيه تبعاً، وإن منعنا بيع الحنطة في سنبلها. حكاه الماوردي.

آخر: لو شرط البائع قطع الزرع من الأرض ففي وجوب الوفاء بهذا الشرط تردد حكاه الإمام عن الأصحاب في أواخر كتاب "الصلح".

قال: "وإن كان يجز مرة بعد أخرى كالرَّطْبة" أي: وما في معناهامن الهندباء والكراث والنعنع، "كانت الأصول للمشتري" كما ذكرناه في الأشجار، وهذا تفريع على ما حكاه في دخول الأشجار في بيع الأرض.

أمَّا إذا قلنا: "لا يدخل" فكذلك أصول هذه الأشياء، صرح به الإمام عن العراقيين والصيدلاني.

وقال: "إنه القياس"، وحكى عن الشيخ أبي محمد القطع بدخول هذه الأشياء؛ لأنها لا تراد للنقل، بخلاف الأشجار.

وفي "الوسيط": أنَّ الشيخ أبا محمد قطع بأنه كالزرع، والعقد في هذه الصورة صحيح قولاً واحداً.

قال: "والجزة الأولى للبائع"؛ لأنها في معنى ما ظهر من الثمار، لكن يؤمر البائع بأخذ ما ظهر في الحال، كي لا يختلط بما يحدث على ملك المشتري، ولا فرق بين أن يكون ما ظهر قد بلغ أوان الجز أو لا.

قال في "التتمة": إلا القصب فإنه لا يكلف قطعه، إلا أن يكون ما ظهر قدراً ينتفع به.

وفي "الحاوي" حكاية وجه: أنه يجب تبقيتها إلى الوقت الذي جرت العادة فيه بالجز.

ص: 186

وهذا قول من زعم أن ما اطلع من ثمار النخل بعد العقد للبائع تبعاً لما أبر منها، وقد يؤخذ هذا من قول الشيخ، والجزة الأولى للبائع.

ويلتحق بهذا النوع البنفسج والنرجس؛ فتكون أصوله للمشتري وما ظهر منه حالة العقد للبائع، وفيهما وجه حكاه الرافعي: أنهما يلتحقان بالنوع قبله، وألحق الماوردي بصل النرجس والزعفران بشجر الورد، والرافعي أشجار الخلاف التي تقطع من وجه الأرض بهذا النوع.

وقال الإمام: لم يختلف علماؤنا في أن شجرة الخلاف إذا بيعت دخلت أغصانها التي تقطع عادة وتستخلف تحت مطلق البيع، وقد يتخيل بينهما فرق في الصورة.

وبذْرُ كل شيء مما ذكرناه إذا كان في الأرض حالة العقد حكمه حكم أصله فيما ذكرناه إلا في بيعه؛ فإن الأصح أنه لا يجوز، وإن كان مع الأرض.

وحكى المحاملي في كتاب "التفليس" أن ظاهر نصه فيه صحة بيع البذر تبعاً للأرض؛ كبيع الأساس تبعاً للحيطان.

وفي "الحاوي": أن من قال: ينتظر بما ظهر تناهي الجزاز في العادة، جعل ما ينبت من البذر أول جزة للبائع.

فرع: البطيخ والخيار والقثاء وما يؤخذ ثمره مرة بعد أخرى لكن في عام واحد، اختلف أصحابنا إذا بيعت الأرض، فهو فيها على وجهين:

أحدهما- وهو قول البغداديين -: أنه يكون في حكم الشجر؛ فيكون للبائع من ثمره ما ظهر، وللمشتري الأصل الباقي وما يظهر.

والثاني – وهو قول البصريين -: أنه يكون في حكم الزرع؛ فيكون للبائع أصله وثمره.

والموز لا يبقى الظاهر منه أكثر من سنة؛ فلا يندرج في بي الأرض، والفرع الذي يستخلف يكون للمشتري.

تنبيه: الرَّطْبة هي القضب الذي يطعم للدواب، يسمونه بالعراق بهذا الاسم.

قال أبو الطيب: ويسمى أيضاً: قتًّا وقُرْطاً.

والرطبة: بفتح الراء، وجمعها: رِطَاب.

ص: 187

قال الجوهري. والجِزَّة: بكسر الجيم وتشديد الزاي.

قال: "وإذا باع الأصل، وعليه ثمرة للبائع" – أي: حيث قلنا: "لا تدخل في البيع"- لم يكلف نقلها إلى أوان الجداد"، أي جدا مثلها من بسر أو رطب أو ثمرة، ويعتبر في ذلك أول زمان الإمكان، كما قاله الماوردي وأبو الطيب.

ووجهه: أن البائع يؤمر بتفريغ المبيع على حسب العرف، والعادة في الثمار تنقيتها إلى أوان الجداد، ويشهد لهذه القاعدة: أنه لو باع داراً مشحونة لا يكلف أن ينقل ما فيها في ساعة، بل شيئاً فشيئاً، على ما جرت به العادة، وكذا لو باع داراً ليلاً، لم يكلف الانتقال منها حتى يصبح، ولا فرق في ذلك بين أن يكون المشتري علم بأن الثمرة تبقى للبائع أوْ لَا، نعم إذا لم يعلم بتأبير النخل وظهور الثمرة ثبت له الخيار، ويتصور ذلك بأن يكون قد رأى الأصل قبل ذلك.

والجداد بالفتح والكسر: القطع.

أمَّا إذا كانت بحيث تندرج في البيع، فاستثناها لنفسه بالشرط – فالذي حكاه الماوردي: أنه لا يستحق الإبقاء، بل يقطع في الحال؛ لأنه إنما يصح استثناؤها له بشرط القطع كما نص عليه الشافعي في كتاب الصرف، وهذا يوجب عليه إلزام موجبه.

وفي "تعليق" القاضي أبي الطيب "والشامل": أن هذا ليس يقول به أحد من أصحابنا، وأجاب عن النص بأنه خطأ في النقل، وحكى صاحب "الحلية" الخلاف، وجعل أصله الخلاف فيما إذا باع داراً واستثنى سكناها شهراً، ومقتضاه أن يكون الصحيح قول الماوردي، لكنه رجح مقابله، كما هو في الرافعي وغيره.

ثم على قول الاشتراط: لو أطلق العقد، قال الإمام: ظاهر كلام الأئمة أن الاستثناء باطل، والثمرة للمشترين وهذا مشكل؛ فإن صرف الثمرة إليه مع التصريح باستثنائه محال عندي؛ فالوجه أني جعل شرطاً فاسداً، فيفسد العقد في الأشجار أيضاً.

قال: "فإن احتاج إلى سقي" – أي: بحيث إن لم يُسق فسدت الثمرة أو امتصت – "لم يكن للمشتري منعه من سقْيه – أي: بالماء المعد لسقي الأشجار المبيعة، وإن تضررت الأشجار به كما أشار إليه الماوردي؛ لأن ذلك من صلاح هذه الثمرة، فلم

ص: 188

يكن للمشتري المنع منه؛ قياساً على التبقية على الأصول، لكن مؤنة السقي على البائع، بخلاف ما إذا باع الثمرة؛ فإن مؤنة السقي على البائع إلى أوان الجداد؛ لأنه ألزم تبقيتها، والسقي من ضرورة بقائها.

وقيل: إذا تضررت الأشجار بالسقي لم يجبر المشتري عليه، بل يراعى جانبه، حكاه الإمام ومن تابعه.

وحكى عن أبي إسحاق وجهاً آخر: أنه لا يجبر واحد منهما؛ لاستواء الحقين، فإن تراضيا على شيءٍ، وألا فسخَ العقد.

والأول قول [أبي] علي بن أبي هريرة، واختاره ابن أبي عصرون.

والثاني عند الغزالي أصح.

والثالث عند الرافعي أظهر، وقال: إن الثاني لم أر من رجحه إلا الغزالي.

أما إذا كان ترك السقي لا يضر بالثمرة، ولكن يمن تزايدها وتنميتها، قال الغزالي: يحتمل أن يلحق بالحالة الأولى، ويحتمل أن يمتنع وجها ًواحداً.

ولو تضررت الثمار بالسقي والأشجار بتركه، قال الإمام: فتعود الثلاثة أوجه.

قلت: وفي ذلك نظرٌ؛ لأن مقتضى من نظر في المسألة الأولى إلى جانب البائع – وهو ابن أبي هريرة – ألا يجبره هنا، ومن نظر إلى جانب المشتري في الأول، كما حكاه الإمام يجبر البائع، ومذهب أبي إسحاق لا يختلف.

وقد حكى المحاملي والماوردي وغيرهما عن ابن أبي هريرة أنه قال في هذه الصورة: إن البائع يجبر.

فلا يتحرر في هذه الصورة إلَاّ وجهان، إلا أن يكون ابن أبي هريرة ينظر إلى جانب من يتضرر بالسقي كيف كان ويراعيه، والآخر ينظر إلى جانب الآخر كيف كان ويراعيه؛ فينعكس الحال، وتجيء الأوجه، والله أعلم.

ولو كانت الثمرة لا تحتاج إلى السقي، ولو سقيت زادت ونمت، وإن تركت امتصت رطوبة الأشجار، أو نقص حملها في المستقبل نقصاناً كثيراً – فالبائع مجبر على السقي أو القطع، فإن عدم الماء فهل يتغير القطع؟

حكى العراقيون فيه قولين عن "الأم"، وأصحهما عند الكرخي: تعيين القطع.

ص: 189

قال الإمام: "ولم يقع التعرض لاستواء الحقين، ولابد من هذا الوجه" يشير إلى وجه أبي إسحاق.

ولو لحق الثمرة آفة قبل وقت القطع، فهل يتعين عليه القطع؟ فيه قولان، رواهما صاحب "التقريب".

قال: "وإن كانت الشجرة تحمل حملين" – أي: متلاحقين – "فلم يأخذ البائع ثمرته حتى حدثت ثمرة المشتري، واختلطت ولم تتميز – ففيه قولان:

أحدهما: ينفسخ البيع"؛ لأن المقصود من الشجرة المثمرة الثمرة، وقد تعذر تسليمها؛ لأن كل واحد منهما لا يلزمه تسليم ما اختلط به من ماله، ولا إجباره على قبول مال صاحبه؛ فوجب أن يبطل العقد لفوات المقصود، كما لو اشترى جوهرة فوقعت في بحر عظيم قبل القبض، أو انقلب العصير خمراً، وهذا ما اختاره ابن أبي عصرون. فعلى هذا قال المتولي: يسترد المشتري الثمن، وترد الشجرة مع جميع الثمرة، وإلى ذلك أشار المحاملي أيضاً بقوله: تعود الشجرة والثمرة إلى ملك البائع. وفي كلام البغوي ما يخالفه، كما سنذكره.

وكأن حاصل ما قالوه يرجع إلى أن هذا العقد ينفسخ من أصله أو من حينه: فكلام المتولي والمحاملي يقتضي أنه من أصله، وكلام البغوي يقتضي أنه من حينه.

قال: "والثاني: لا ينفسخ"؛ لأن المبيع وهو الشجرة باقٍ، وكذلك المقصود منها، والتصحيح ممكن بما ذكره، فيقال للبائع: إن سلمت الجميع أُجبر المشتري على قبوله؛ لأنه دفع إليه حقه بزيادة لا تتميز عنه، فأجبر عليها؛ كما لو أسلم في طعام فأتاه بأجود منه.

قال: "فإن امتنع" – أي: البائع – من البدل، قيل للمشتري:"إن سلمت الجميع أجبر البائع على قبوله" لما ذكرناه؛ فلا وجه للحكم بالانفساخ في الحال.

قال: "فإن تشاحا" – أي: تباخلا ولم يرض أحدهما ببدل ما لَهُ- "فسخ العقد"؛ لتعذر الوصول إلى المقصود حينئذ، وهذا الخلاف حكاه المزني وغيره عن "الأم" أيضاً، وبه قال أكثر أصحابنا، على ما حكاه أبو الطيب في "تعليقه" وغيره.

ص: 190

قال: "وقيل: لا ينفسخ قولاً واحداً"؛ لأن المبيع لم يختلط بغيره فلم ينفسخ العقد؛ كما لو اشترى داراً فيها طعام له وللبائع واختلطا، وهذا ما صححه القاضي أبو الطيب في باب الوقت الذي يحل فيه بيع الثمار.

ومن قال بالأول فرق بما أشرنا إليه في علة القول الأول: من أن الثمرة هي المقصودة بالعقد؛ لأنها نماء المبيع وليس الطعام مقصوداً من بيع الدار، لوا هو من نمائها؛ فلذلك لم يؤثر اختلاطه في فساد العقد.

ووجَّه البغوي هذا القول: بأنه لا فائدة في الفسخ؛ فإنه لا يفيد قطع النزاع؛ فإنَّ الثمرة الحادثة لا تعود إلى البائع، وهذا ما أشرنا إليه من قبل، وهذا الطريق قال به أبو علي بن خيران والطبري في "الإفصاح" وقالا: محل القولين اللذين نقلا في "الأم" في مسألة بيع الطعام، والمزني نقلها من "الأم"، والغلط وقع في النقل.

قال الإمام: "وهذا هو القياس الذي لا يسوغ غيره".

وقال الماوردي: الصحيح ما قالاه جواباً وتعليلاً، وإن كان نقل المزني صحيحاً، والإذعان للحق أولى من نصرة ما سواه.

فعلى هذا: إن رضي أحدهما بترك حقه لصاحبه أجبر عليه، وإلَاّ كان القول قول من في يده الثمرة في قدر حق صاحبه، كذا قاله المحاملي والماوردي والبغوي وغيرهم.

وفي "الشامل""وتعليق أبي الطيب": أنهما إذا تشاحا فسخ، وهو الذي يقتضيه ظاهر كلام الشيخ.

تنبيه: الشجرة التي تحمل حملين، قال المتولي: إنما يتصور في التين؛ لأنه يخرج مرة بعد مرة.

وقوله مستمد مما حكاه عن الشيخ أبي حامد أنه قال: لا أعلم ذلك إلَاّ في التين. وقد قيل: إن النارنج والأترج والباذنجان كذلك، ومحل الخلاف في المسألة: ما إذا لم يعلم وقوع هذا الاختلاط غالباً، بل وقع لتأخر القطاف، أو كان غالباً، وشرط في حال العقد قطع الثمرة عند خوف الاحتلاط، فلم يتفق حتى حدثت الأخرى، أمَّا إذا كان الاختلاط غالباً، ولم يشترط القطع فالعقد باطل.

ص: 191

قال الرافعيُّ: "ويجيء فيه الخلاف فيما إذا كان المبيع ثمرة، وسنذكره.

قال: "ولا يجوز بيع الثمار" – أي: منفردة على أصولها النامية "حتى يبدو صلاحها، إلَاّ بشرط القطع" – أي: سواء كانت مما تُجَذُّ أو تُقْطَفُ أو تُجْمَعُ كالبِطِّيخ والخيار ونحوه.

والأصل في ذلك: ما روى مسلم عن ابن عمر أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، نهى البائع (والمبتاع).

وروى الشافعيُّ عن مالك عن حميد عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم "نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تُزْهِيَ"، قيل: يا رسول الله، ما تزهى؟ قال:"حَتَّى تَحْمَرَّ وَتَصْفَرَّ"، وروى:"تَحْمَارُّ وَتَصْفَارُّ" وغير ذلك من الأحاديث المتوافقة في المعنى، وذلك يدل على منع البيع مطلقاً، سواء اشترط بقاؤها إلى أوان الجذاذ أو قطعها، أو أطلق العقد فاستثنى منه ما قام الإجماع على جوازه وهوا لبيع بشرط القطع، وبقي على عمومه فيما عداه.

واختلف أصحابنا في تعليل المنع:

فمنهم من علله: بأن العقد عند الإطلاق يقتضي البقاء على الأصل إلى أوان الجذاذ والقطاف؛ لأن تسليم كل شيءٍ على حسب ما جرت العادة به كما قررناه، والعادة جارية في بيع الثمار كذلك، وإذا اقتضى العقد ذلك، أو كان مشروطاً في العقد فلا يوثق بالقدرة على التسليم، التي هي شرط الصحة؛ لأن الثمار قبل بدوٍّ

ص: 192

الصلاح ضعيفة متعرضة للعاهات، وقد أشار – عليه السلام – إلى ذلك بنهيه عن بيع الثمار حتى تنجو من العاهة.

ومنهم من علله بأنها قبل بدو الصلاح تكبر أجزاؤها كِبَراً ظاهراً، وتلك الأجزاء من أجزاء الشجرة بامتصاصها رطوبتها؛ فتعذر الإبقاء لذلك كما يتعذر البيع بشرط أن يأكل العبد المبيع من مال البائع.

ومقتضى ما ذكر من المعنى الألو: أنه إذا باع الثمرة مطلقاً، وكان في موضع جرت العادة فيه بقطعها قبل بدو صلاحها أن يصح وينزل على المعتاد، وقد قال به القفال؛ تنزيلاً للعادة الخاصة منزلة العادة العامة، وامتنع الأكثرون من ذلك، ولم يروا تواطؤ قوم مخصوصين بمثابة العادات العامة، وأجرى هذا الخلاف فيما لو جرت عادة قوم بانتفاع المرتهن بالمرهون حتى تنزل عادتهم على رأي بمنزلة شرط الانتفاع، ويحكم بفساد الرهن، وأشار إمام الحرمين إلى تخريج الخلاف على مسألة السر اولعلانية، وعلى المعنى الثاني يخرج اشتراط القطع فيما إذا باع النخل وعليها ثمرة غير مؤبرة واستثناها، ولا يرد علينا كون الثمرة للبائع إذا وقع العقد بعد التأبير، وإن كان لا يصح البيع في هذه الحالة إلَاّ بشرط القطع نظراً لهذه العلة؛ لانَّ هذا استثناء بالشرع، فلا يسلك به مسلك الاستثناء باللفظ؛ ألا ترى أنه لو باع الجارية المزوجة صحّ، ولو باع جارية واستثنى منفعة الزوج لم يصح؟!

ثم حيث صححنا العقد بشرط القطع، فذاك على ما حكاه المتولي فيما يمكن الانتفاع به كاللوز وما في معناه، أما ما لا يمكن الانتفاع به فلا يجوز، وإن شرط القطع، وهذا مأخوذ من القواعد السابقة. ثم إذا صحّ العقد فيما يشترط فيه القطع بشرطه فللبائع المسامحة بالتبقية إلى بدوّ الصلاح، وله إجباره على قطعه، صرح به الماوردي وغيره، وله إجباره على القطع بعد بدو الصلاح أيضاً ما لم تبلغ الثمرة خمسة أوسق، أمَّا إذا بلغت [ذلك] فقد قال الماوردي في كتاب الزكاة: "إن البائع إن رضي بإبقائها إلى أوان الجذاذ ورضي المشتري بدفع زكاتها، ثَمَّ البيع، وإن امتنع البائع من إبقائها، وتأبىَّ المشتري من دفع الزكاة من ثمرته فالواجب أن يفسخ

ص: 193

البيع، إذا فسخ لم تجب الزكاة على المشتري؛ لأمرين:

أحدهما: أنه دخل في ابتياعها على أنه لا زكاة عليه.

والثاني: أن فسخ البائع غير منسوب إليه.

وفي استحقاق زكاتها على البائع وجهان:

أصحهما: أنها واجبة عليه؛ لأنَّ امتناعه من الترك سبب لفسخ البيع فلم يجز أن يكون سبباً لإسقاط الزكاة.

ولو رضي المشتري بدفع زكاتها، وامتنع البائع من تركها فسخ البيع، وترد الثمرة على البائع، وتؤخذ منه الزكاة وجهاً واحداً.

ولو رضي البائع بتركها، وتمنَّع المشتري من [أداء زكاتها] فقولان:

أحدهما –وهو اختيار المزني -: ينفسخ البيع؛ لأنَّ للبائع الرجوع بعد الرضا يكون المشتري بدفع الزكاة مغرراً.

والثاني: أن البيع لا ينفسخ، وتؤخذ الزكاة من المشتري.

وفي "زوائد" العمراني في كتاب الزكاة: أنه لو لم يتفق القطع حتى بدا صلاحها حكاية قولين:

أحدهما –رواه القفال عن الشافعي -: أن البيع يبطل؛ لأن تسليم المبيع قد تعذر بوجوب الزكاة فيه؛ لكما لو اشترى حنطة فانثالت عليها صبرة أخرى، فإن البيع يبطل.

والثاني – ولم يذكر الشيخ أبو حامد سواه -: أنه لا يبطل، فعلى هذا إن طالب البائع المشتري بالقطع فقولان:

أحدهما: ينسخ البيع؛ لأن البائع يطالبه بما اشترطه، ويتعذر ذلك لحق المساكين فبطل.

والثاني: لا ينفسخ، والزكاة على المشتري، ويلزمه أن يقطع ويؤخذ منه عشر ثمرته مقطوعاً.

وإن رضي البائع بتركها، وطالب المشتري بقطعها، ففي هذه الحالة أيضاً قولان: أحدهما: ليس له، وهو الصحيح؛ لأن القطع لحق البائع وقد رضي؛ فلا يجوز لأجل المساكين.

ص: 194

والثاني: له؛ لأنه اشتراها بهذا الشرط فلعل له غرضاً.

أمَّا إذا أُبيعت الثمار مع أصولها، فإنه يصح البيع من غير شرط؛ لقوله عليه السلام:"مَنْ بَاعَ نَخْلاً قَدْ أُبْرَتْ فَثَمَرتُهَا لِلْبَائِعِ إِلَاّ أَنْ يَشْتِرطَهَا الْمُبْتَاعُ"، ثبت النخل بالنص، وقيس ما في معناه عليه؛ لأنها أصول يتكرر حكمها، فجاز بيعها كالنخل.

وبيعُ البطيخ والقثاء والباذنجان مع الأصول لا يكفي عند الغزالي وإمامه، وخرج الرافعي وجهاً في الاكتفاء به عن شرط القطع.

ولو باع الثمرة وحدها على أصولها بعد قطع الأصول جاز من غير شرط القطع.

فروع:

إذا باع بعض الثمرة مشاعاً على رءوس الأشجار قبل بدوّ الصلاح لم يصح؛ بناءً على امتناع القسمة في ذلك، أمَّا إذا جوزنا القسمة جاز، ولو باع نصفها مع نصف النخل جاز.

ولو كانت الثمرة والشجرة بين شخصين، فباع أحدهما نصيبه من الثمرة لصاحبه بنصيبه من الشجرة - لم يجز مطلقاً، ويجوز بشرط القطع، ومثل هذا [الخلاف] يجري في الأرض المزروعة.

قال الإمام في أواخر كتاب "الصلح": "قال الأصحاب: ولا يتصور شراء نصف زرع بشرط القطع، إلا في صورة واحدة، وهي كما ذكرنا في الثمرة". ثم قال: "وهذا فيه نظرٌ، وقد منع طائفة من المحققين البيع في هذه الصورة أيضاً؛ فإن تفريغ الأرض من الزرع لا يجب بقطعه كذا، وإذا شرطه لا يجب الوفاء به؛ فيبقى بقدر استحقاق القطع، ثم الذين قالوا بالصحة بناءً على تفريغ الأرض، فلست أري ما قولهم في أن شرط التفريغ هل يجب الوفاء به أم لا؟ هذا محتمل من جهة أن هذا ليس في المعقود عليه من الزرع، وإنما هو في بيع حصته من الأرض".

قلت: وما ذكره في الزرع بعينه يتجه جريانه في الثمرة.

قال: "فإن بدا صلاحها جاز بيعها مطلقاً"، وبشرط القطع، وبشرط التبقية"، أمَّا

ص: 195

إذا باع بشرط القطع فدليل جوازه الإجماع، وأمَّا في الباقي؛ فلأنه – عليه السلام – في حديث ابن عمر جعل غاية النهي بدوّ الصلاح، والحكم بعد الغاية مخالف لما قبلها، فلمَّا امتنع ذلك قبل بدوّ الصلاح [تعين جوازه] بعده.

قال الرافعي: "ولا فرق في ذلك بين أن تكون الأصول للبائع، أو للمشتري، أو لغيرهما".

قلت: وفيما إذا كانت الأصول للمشتري وباع بشرط القطع، نظرٌ يظهر لك فيما إذا باع ما لم يَبْدُ صلاحه من صاحب الأصل.

قال: وبدوّ الصلاح أن يطيب أكله – أي: المعتاد [فيأخذ الناس منه]، فثمرة النخل وإن كان أكلها طلعاً، وبلحاً [واقعاً] فلا عبرة به، [بل لابد من احمرارها واصفرارها، وثمرة الكرم وإن كانت تؤكل حِصْرِماً فلا عبرة به]، بل لابد من تموُّه الأبيض منها بالحلاوة، وشروع ما يسوّد منها أو يحمر في التلون.

والخيار والقثاء ونحوه، وكذا الباذنجان، وإن طاب أكله في حال صغره، فلابد من أن ينتهي إلى حالة يأخذ الناس في أكله.

ولو قيل في حَدّ بدوّ الصلاح: صيرورته إلى الصفة التي تطلب غالباً لكونها على تلك الصفة؛ حتى يدخل فيه ما قاله البغوي: إنَّه لا يجوز بيع ورق التوت قبل تناهيه إلَاّ بشرط القطع – لكان أشمل. وقد جعل الماوردي بدو الصلاح ثمانية أقسام:

أحدها: اللون، وذلك في النخل بالاحمرار والاصفرار، وفي الكرم بالحمرة، أو السواد، أو الصفار والبياض، وفي المشمش بالصفرة، وفي العناب بالحمرة، وفي الإجَّاص بالسواد، وفي التفاح بالبياض، وأمثال ذلك.

الثاني: بالطعم، ومنه ما يكون بالحلاوة كقصب السكر، ومنه ما يكون بالحموضة كالرمان.

الثالث: بالنضج واللبن كالتين والبطيخ.

الرابع: بالقوة والاشتداد كالبر والشعير.

الخامس: بالطول والامتلاء كالعلف والبقول والقصب.

ص: 196

السادس: بالعِظَم والكِبَر كالقثاء والخيار والباذنجان.

السابع: بانشقاق كِمَامِهِ كالقطن والجوز، فإذا تشقق كمام القطن، وسقطت القشرة العليا عن جوز الأكل فقد بدا صلاحه.

الثامن: بانفتاحه، وانتشاره كالورد والنيلوفر وورق التوت بدو صلاحه أن يصير كأرجل البط.

ثم قال: هكذا قال عطاء والنخعي.

والأصل في اعتبار ما أشرنا إليه: ما روى البخاري عن جابر بن عبد الله قال: "نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ تُبَاعَ الثَّمَرَةُ حَتَّى تُشْقِحَ، قِيلَ: وَمَا تُشْقِح؟ قَالَ: تَحْمَارُّ، وَتَصْفَارُّ، وَيُؤْكَلُ مِنْهَا".

وما روى أبو داود عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العنب حتى يسودّ، وعن بيع الحب حتى يشتد، فأشار عليه السلام إلى ذلك في هذه الأنواع؛ لعمومها عندهم في ذلك الوقت، وفيه تنبيه على ما عداها.

قال: وإذا وجد ذلك في بعض الجنس في البستان -أي: ولو في ثمرة واحدة، كما قاله في "المرشد" - "جاز بيع جميع ما في البستان من ذلك الجنس" دفعاً للضرر؛ فإنا لو اعتبرنا بدو صلاح الجميع أدى إلى تلف السابق، ولو شرط بيعه أولاً فأولاً أدى إلى أن يباع رطبه برطبه؛ فإن الله - تعالى - جعل كمال التفكه به عدم طِيبِه جملة واحة.

ثم كلام الشيخ يقتضي أنه لا فرق في ذلك بين أن يكون ما لم يبد صلاحه من نوع ما بدا صلاحه، أو من غير نوعه، اشتمل العقد على الجميع أو على ما بدا صلاحه أو غيره، اتحد مالك البستان أو اختلف، والحكم في ذلك - وفاقاً وخلافاً - كالحكم الذي ذكرناه في التأبير سواءٌ، صرح بذلك الرافعي والماوردي وغيرهما.

لكن حكينا ثَمَّ فيما إذا اختلف النوع أن الصحيح في "تعليق" أبي الطيب: أنه كالنوع الواحد، وحكينا عن ابن خيران أنه كاختلاف الجنس، والمحكي في "تعليق"

ص: 197

أبي الطيب هنا أن المذهب الصحيح – وهو الذي ذكره القاضي أبو حامد في "الجامع"، ونصَّ عليه الشافعيّ في البويطي -: أن بدو الصلاح في نوع لا يكون بدو الصلاح في النوع الآخر، وأن أبا علي بن خيران، والطبري قالا:"إنه يكون بدو الصلاح [في سائر الأنواع]؛ كما يضم أحدهما إلى الآخر في الزكاة"، ثم نقض [ما عللا به] بأن الشافعي نص على أن بدوَّ الصلاح [في الثمرة الصيفيَّة لا يكون بدوًّا] في الثمرة الشتوية، وإن كانت تضم إليها في الزكاة، ولا يمكن حمل ما قاله القاضي أبو الطيب هنا عن المذهب على ما إذا أفردها بالعقد؛ فإن الصحيح في نظيره من التأبير أنه لا يصح أيضاً؛ لأنه حكى [ذلك] في فصل بعده، وحكى فيه وجهين، وأنَّ أصحهما: أنه لا يجوز أيضاً.

قال: "ولا يجوز بيع الزرع الأخضر إلا بشرط القطع"؛ لما روى مسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نَهَى عَنْ بَيْع النَّخْلِ حَتَّى يَزْهُوَ، وَعَنِ السُّنْبُلِ حَتَّى يَبْيَضَّ، وَيَامَنَ الْعَاهَةَ، نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِيَ".

وهذا فيه إشارة إلى العلة المجوِّزة لبيعه بشرط القطع؛ فإن معه [قد أمن من العاهة].

أمَّا إذا زالت الخضرة عنه، وبدا صلاحه كما ذكرناه فيجوز بيعه مطلقاً، ويشترط القطع بشرط التبقية إلى أوان الحصاد؛ لِمَا دلَّ عليه خبر أنس أنه – عليه السلام:"نَهَى عَنْ بَيْعِ الْعِنَبِ حَتَّى يَسْوَدَّ، وَعَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ".

وحكم أصول البطيخ والباذنجان ونحوهما عند الغزالي حكم الزرع؛ فلا يجوز إلا

ص: 198

بشرط القلع إذا بيعت دون الأرض، والذي ذكره العراقيون وغيرهم: أنه يجوز، ولا حاجة إلى شرط القلع إذا لم يخف اختلاط ثماره، على ما حكاه الرافعي.

قال: فإن باع الثمرة قبل بدو الصلاح من صاحب الأصل، أو الزرع الأخضر من صاحب الأرض – جاز من غير شرط القطع؛ كما لو باع الأصل، وعليه الثمرة، أو الأرض بزرعها، وفيه وجهٌ: أنه لا يصح؛ لعموم النهي، وبالقياس على ما لو باع ذلك من غيرهما، وإنما جاز بيعهما جميعاً للتبعية، كما قلنا في عروق الأشجار وأساس الحيطان، ولا تبعية هاهنا، وهذا ما اختاره ابن أبي عصرون، وصححه في النخل القاضي أبو الطيب والمحاملي، والجمهور على ما حكاه الرافعي، وفي الزرع القاضي أبو الطيب في كتاب "الصلح"، وفي شرح ابن التلمساني:[أن] الأكثرين على ترجيح الأول؛ لانتفاء الغَرَرِ وتمام التسليم فيه، وأنهم ضعفوا الثاني بأنه لو شرط القطع لم يجب عليه أن يقطع ثمار نفسه عن أشجاره.

فروع:

لو باع نصف الثمرة من نصف الشجرة هل يجوز؟ فيه وجهان ينبنيان على اشتراط القطع، ويلاحظ فيه أيضاً امتناع القسمة.

آخر: لو باع الزرع قَصْلاً بشرط القطع، ثم باع الأرض منه قبل القطع، فهل يسقط عنه القطع؟ فيه وجهان في "تعليق" القاضي الحسين في باب "بيع الطعام".

قال: "ولا يجوز بيع الباقلاء الأخضر في قشرته، ولا الجَوْز واللَّوز في قشرته" –أي: رطباً كان أو يابساً – على أصوله أو على الأرض؛ لاستتار المقصود

ص: 199

من ذلك بما ليس من صلاحه، وفي الباقلاء واللوز قولٌ أنه يجوز [بيعهما في قشرهما ما داما رطبين؛ لتعليق الصالح به] من حيث إن القشر الأعلى يصون الأسفل، ويحفظ رطوبة اللب، وهذا ما حكاه القاضي أبو الطيب عن ابن القاص والإصطخري، والماورديُّ عن البصريين. وقد ألحق غيرهم الجوز الأخضر بهما، وأجرى هذا القول فيه، وادعى الإمام أنَّه الأظهر في الباقلاء؛ لأنَّ الشافعيَّ أمر بعض أعوانه بأن يشتري الباقلاء الرطب والعون هو الربيع وكان الثمن كِسْرة على ما حكاه القاضي الحسين، وجزم به في اللَّوز، وجعله المذهب في الباقلاء.

ويجري الخلاف المذكور في الرانج الذي عليه قشران، ولو بيع اللوز في القشرة العليا قبل انعقاد السفلى جاز؛ لأنه مأكول كله كالتفاح، ولا نزاع في جواز بيع الجميع في القشر الأسفل، وكذا كل ما عليه كمام لا يزال إلَاّ عند أكله كالرمان [والموز ونحوهما؛ لأن قشره من مصلحته، وألحق به العلس في قشرته، ولا نزاع في امتناع بيع الجوز واللوز] والباقلاء فيحال الجفاف في قشرته، وحكى القاضي الحسين في "التعليق" في الجوز واللوز قولاً مخرجاً من الحنطة: أنه يجوز، وفي "التتمة" تخريج ذلك على بيع الغائب.

وعلى المذهب، إذا قيل: الجوز واللوز المقصود منهما وهو اللب مستتر بالقشرة السفلى لا يظهر منها، وقد جوزتم البيع، فوجب أن يجوز في القشرين؛ إذ ليس فيه أكثر من المنع من المشاهدة، وما لم تكن رؤيته شرطاً لم يقع الفرق فيه بين أن يكون مستوراً بحائل أو حائلين كالمنكوحة.

فجوابه – ما حكاه الماوردي -: أن القشر الأسفل من مصلحته، وفي رؤيته تنبيهٌ على جودته ورداءته، بخلاف الأعلى فإنه بمنزلة نور حائل.

ص: 200

قال: "ويجوز بيع الشعير في سنبله" – أي: مع سنبله – سواءً كان بعد الحصاد أو قبله؛ لأن الحبات ظاهرة في السنبلة، وهكذا الحكم في السلت والذرة، وفي "التهذيب" إلحاق الذرة بالقمح.

قال: وفي بيع الحنطة في سنبلها – [أي: مع السنبل] قولان:

أصحهما: أنه لا يجوز، وهو الجديد؛ لما روي أنه – عليه السلام – نهى [عن بيع الغرر، وبيع ذلك في سنبله غرر؛ لأنه يرتدد بين الجودة والرداءة، وروى أنه – عليه السلام – نهى] عن بيع الطعام حتى يفرَكَ.

يعني: بفتح الراء.

ومعنى الفرك: التصفية، ولأن المقصود مستتر بما لا يتعلق به الصلاح؛ فلم يصح بيعه كالذهب في تراب المعدن، أو الحنطة في التبن بعد الدِّياس، وقبل التصفية.

والقديم: أنه يجوز؛ لما روي أنه – عليه السلا – نهى عن بيع الحب حتى يشتد، وقد اشتدَّ؛ ولأنّ بقاءه فيه من مصلحته، وإليه يرشد قوله تعالى في قصة يوسف – على نبينا وعليه السلام -: - فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ} [يوسف: 47]، والقائلون بالأول أجابوا عن الحديث بأنه محمولٌ على الحب الذي يخرج بارزاً كالشعير ونحوه، على أنه معارضٌ بنهيه – عليه السلام – عن بيع الغرر.

والعدس والسمسم ونحو ذلك: ملحقٌ بالحنطة، وكذا الأرز عند الشيخ أبي حامد، وهو ما جزم به النبدنيجي، واختاره القاضي أبو الطب في باب "السلم" بعد أن حكاه عن النص، والصحيح –وبه قال ابن القاص، وأبو عليّ الطبري، وجزم به في "التهذيب" -: أنه ملحق بالشعير، وكان يتجه أن يلحق العلس بالأرز في جواز البيع،

ص: 201

وقد جزم القاضي أبو الطيب فيه بالمنع في باب "السلم".

أمَّا إذا بيع القمح وما في معناه في السنبل دون السنبل فلا يجوز على الصحيح من المذهب في "تعليق" القاضي الحسين، وادّعى المحاملي فيه الإجماع، ثم قول المنع فيما ذكرناه مفرع على منع بيع الغائب أو هو جائز وإن جوزنا بيع الغائب؟

الذي ذكره الإمام: أنا إن جوزنا بيع الغائب جاز هذا، وإن منعناه فهو محل التردد؛ لاضطراب النظر في اشتداد الحاجة إلى احتمال الاستتار، وتنزيله منزلة القشر الصوان، وإلى ذلك أشار المتولي أيضاً.

وفي "الإبانة" حكاية طريقة: أنه لا يجوز قولاً واحداً، وإن جوزنا بيع الغائب، وقد قيل بجريان الخلاف في تراب الصاغة، والحنطة في التبن، ثم الخلاف في بيع الحنطة وما في معناها إذا بيعت دون الأرض، أمَّا إذا أُبيعت مع الأرض ففي "الحاوي" هنا في كتاب "التفليس": أنَّ إن جوزنا البيع عندالإفراد فكذلك عند الاجتماع، وإلَاّ ففي الجواز وجهان: فإن منعنا بطل فيها، وفي الأرض قولَا تفريقِ الصفقة، وقيل: يبطل فيها قولاً واحداً.

قال: "وإذا باع الثمرة أو الزرع"- أي: مطلقاً بعد بُدُوِّ الصلاح - لم "يكلف المشتري نقله إلى أوان الجداد والحصاد"؛ لأن العادة [العامة] كذلك، فينزل العقد عليها كما تنزل الدراهم المطلقة في العقد على النقد الغالب، والإجارة المطلقةعلى المنازل المعهودة في الطريق، أمَّا إذا شرط البقاء فقد تظافر على استحقاق التبقية العرف والشرط، وإن شرط القطع فلا يخفى حكمه.

تنبيه: [في قول الشيخ: لم يكلف المشتري نقله، ما يعرف أن القبض في بيعهما التخلية دون النقل؛ فإنه جعل النقل على المشتري بعدَ أوان الجداد والحصاد، وذلك

ص: 202

يمنع أن يكون على البائع، وقد صرح به في مسألة الزرع ابن الصباغ، والقاضي الحسين في مسألة بيع الزرع بشرط أن يكون على البائع حصاده، وفي مسألة الثمرة حكاه القاضي الحسين في الموضع المذكور عن نصِّ الشافعيّ حيث قال: لو اشترى ثمرة، وشرط على البائع قطعها – بطل به العقد؛ لأن البائع لا يجب عليه إلَاّ التخلية، وقد حكى الغزالي في الفصل الأول من الباب الأول في استيفاء القصاص تردداً في أنَّ مؤنة جذاد الثمار على البائع أوعلى المشتري، وسيأتي في كلام القاضي الحسين إشارة إليهما].

قال: "وإن احتاج إلى سقي لزم البائع السقي" –أي: ومؤنته عليه؛ لأنه من ضرورات تسليمها الواجب عليه عند الجداد والحصاد، فلو شرط أن تكون على المشتري بطل العقد.

قال: "فإن كان عليه ضررٌ في السقي"[أي: يعود إلى الأشجار -]"وتشاحاًّ فسخ العقد"؛ لتعارض الحق من الجانبين، وهذا يشابه ما حكيناه من قبل عن أبي إسحاق فيما إذا كانت الثمرة للبائع، وإن كان السقي يضر بالثمرة، وينفع الشجرة المبيعة، وقد قيل هاهنا: إنه يجبر الممتنع؛ لأنه دخل في العقد مع علمه أنه لابد من السقي، فيكون راضياً به. وهذا يشابه ما حكيناه ثَمَّ عن ابن أبي هريرة، وهو ماصححه ابن أبي عصرون ثمّ، وتظهر صحته هنا أيضاً، وأن يجيء الوجه الثالث – الذي حكيناه ثمَّ – وغيرُهُ هاهنا أيضاً.

قال: وإن اشترى ثمرة، فلم يأخذها حتى حَدَثَتْ ثمرة أخرى – أي: واختلطت ولم تتميز كالتين والموجود على شجرِهِ، والباذنجان، والبطيخ، والخيار، ونحو ذلك.

قال: أو جزَّةٌ من الرطبة فلم يأخذها حتى طالت، أو طعاماً – أي: غير معلوم القدر- فلم يأخذه حتى اختلط به غيره – أي: ولم يتميز- سواء كان مثله أو دونه أو أعلى منه كما ذكره الإمام في باب "الوصية" – ففيه قولان: أحدهما: ينفسخ البيع"؛ لأنه قد تعذر تسليم المبيع فانفسخ العقد؛ كما لو كان جوهرة فألقيت في بحر عظيم، وهذا ما اختاره ابن أبي عصرون وصححه أبو الطيب.

قال:"والثاني: لا ينفسخ، بل يقال للبائع: إن تركت حقك أقر العقد، وإن لم

ص: 203

تترك فسخ"؛ لإمكان تصحيحه بهذا الطريق وتقريره مع تمام تصويره مذكور فيما تقدم، وهذا ما اختاره المزني.

ولا يجيء – هاهنا- تخيير المشتري بين ترك حقه وفسخ العقد؛ لأنه لو ترك حقه فاز البائع بالعِوَض والمعوَّض.

وحكى المحاملي عن بعضهم القطع بهذا القول في مسألة الرطبة، وحكى الماوردي فيها طريقة: أنه لا ينفسخ العقد قولاً واحداً، وتكون الزيادة للمشتري، ككبر الثمرة.

والذي صححه الماوردي، وعليه أبو إسحاق وجمهور الأصحاب: طرد القولين فيها كما حكاه الشيخ، والفاسخ للعقد عند امتناع البائع من ترك حقه الحاكمُ، صرح به الماوردي والقاضي أبو الطيب، وفي "النهاية" تفريعاً على قول عدم الانفساخ في مسألة الثمرة، ويجري فيما عداها: أن المشتري [يثبت له الخيار في فسخ البيع، لكن البائع إذا ترك حقه للمشتري، قال الأصحاب: على المشتري أن] يقبل ذلك، ويمتنع عليه السخ، وشبهوا ذلك بمسألةالنعل، وهي ليست خالية عن خلاف، والذي نحن فيها أولى به منها.

وقال في باب "الخراج بالضمان": "إن الأقيس عندي في مسألة الثمرة أنه لا يجبر على القبول؛ فإن تطرق الإنسان إلى أمر مقصود ليدفع به حقًّا ثابتاً يعتد من الجواز.

فعلى قول الأصحاب، إذا ترك هل يكون هبة أو إعراضاً؟ فيه خلاف كما في [مسألة] النعل، صرح به الإمام ثَمَّ.

ص: 204

وإذا لم يترك حقه، ولم يفسخ المشتري، واختلفا في قدر المبيع –فالقول قول صاحب اليد ومن هو في الثمرة؟ قيل: للبائع، وقيل: للمشتري، وقيل: إنها في يدهما جميعاً، وفي صورة الحنطة صاحب اليد البائع.

ثم هذا – كما قال الإمام – إذا لم يقع تعرض إلى كيفية العقد؛ حتى لا تجيء قاعدة التحالف، هذا هو المشهور في المذهب، وحكى صاحب "التقريب" في أصل مسألة الثمرة قولاً ثالثاً: أن العقد لا ينفسخ، ولا خيار، ولكنهما مِلْكان اختلطا فصارا كصبرة حنطة انثالت عليها حنطة الغير.

أما إذا كان الطعام معلوما لقدر بأن كان كله إردبًّا مثلاً، أو مجهولاً؛ وكان المخالط له إردبًّا مثلاً؛ فإنه يعلم به الباقي – لم ينفسخ العقد، لكن يثبت للمشتري الخيار، فإنأجاز صارا شريكين فيه، صرح به الماوردي. ولو كان الطعام قد قبض، ثم [حصل] الاختلاط بعده لم ينفسخ العقد قولاً واحداً، ولكن يقتسمانه، فإن اختلفا في قدره قال الماوردي:"فالقول قول من انثال الطعام على صبرته في قدر الذي انثال".

ص: 205

فرع: لو كان المبيع شاة أو ثوباً، فاختلط بمثله ولم يتميز، قال في "التتمة": "المذهب انفساخ البيع، بخلاف الحنطة؛ فإن غاية الأمر يها لزوم الإشاعة، وذلك غير مانع.

وفيه وجه: [أنه] لا ينفسخ؛ لإمكان تسليمه بتسليم الكل.

تنبيه: محل الكلام في الثمار التي تتلاحق إذا بيعت بشرط القطع، وكذلك في الجزة، أو كانت الثمار مما يبدو تلاحقها، سواء علم عدم الاختلاط، أو لم يعلم كيفية الحال، أمَّا إذا بيعت الثمار لا بشرط القطع، وكان الاختلاط معلوم الوجود – فالبيع باطلٌ، وفيه قولٌ أو وجه: أنه موقوف: إن سمح البائع بما حدث تبين انعقاد البيع، وإلَاّ تبين أنه لم ينعقد.

تنبيه آخر: قول الشيخ في الثمرة: فلم "يأخذها"، يعرفك أنه لا فرق في ذلك [بين] أن يكون قبل التخلية أو بعدها، وإن كانت قبضاً لبقاء عُلْقة البائع، ومن الأصحاب من جزم بأن التلاحق بعد التخلية لا يفسخ العقد قولاً واحداً، وجعل الإمام والغزالي هذه الطريقة مبنية على أن الثمرة بعد التخلية من ضمان المشتري، والأّوْلى على أنها من ضمان البائع.

قال الرافعيّ: ومقتضى هذا البناء أن يكون الصحيح طريقة القطع، وعامة الأصحاب على تصحيح طريقة القولين.

قال: "وإن تلفت الثمرة بعد التخلية" – أي: على رءوس الأشجار – "ففيه قولان:

أحدهما: أنها تتلف من ضمان البائع" – وهو القديم – لما روى مسلم ان النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح، ولأن الثمرة لا يتم قبضها إلَاّ بجذها من نخلها، بدليل أنها لو عطشت وأضرّ [ذلك] بها كان للمشتري الخيار، ولو تمّ القبض بها لما كان له كما بعد النقل.

[قال:] الثاني – وهو الأصح -:أنها تتلف من ضمان المشتري"، وهو الجديد؛ لما روى الشافعي عن مالك عن حميد عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم "نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تُزْهِيَ، قِيلَ: وَمَا تُزْهِي؟ قَالَ: حَتَّى تَحْمَرَّ"، وقال – عليه السلام:

ص: 206

"أَرَأَيْتَ إِنْ مَنَعَ اللهُ الثَّمَرَةَ، فِيمَ يَاخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ؟ ".

وموضع الدلالة: أن الجائحة لو كانت مضمونة على البائع لما استضرَّ المشتري بالجائحة قبل بدو الصلاح، ولما كان لنهيه عنه حفظاً لمال المشتري وجه؛ لأنه حفوظ إن تلف [في الحالين] بالرجوع على البائع؛ فلما نهى عن البيع في الحال التيي يخاف من الجائحة فيها علم ان الجائحة لا تكون مضمونة على البائع، وأنها مضمونة يما صحّ بيعه على المشتري، ولأن التخلية تسليمعين يستفيد به المشتري التصرف في الثمرة؛ فأِبهت النقل فيما ينقل.

واحترزنا بقولنا: تسلم عين، عن تسليم المنافع؛ فإنه وإن جاز التصرف فيها بعد التخلية، لكن إذا تلفت الدار انفسخ العقد، وأمَّا الخبر فمحمول على الاستحباب، ويشعر به ما روت عمرة بنت عبد الرحمن – تارة مرسلاً، وتارة مسنداً – عن: أنَّ رجلاً من الأنصار ابتاع من رجل ثمرة فأصيب فيها، فسأل البائع أن يحطَّ شيئاً، فحلف بالله ألَاّ يفعل، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: وتألَّي فُلانٌ أَلَاّ يَفْعَلَ خَيْراً"، وبعضهم حمله على وضع الجوائح عن البائع دون المشتري.

وما رواه مسلم [من] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لَوْ بِعْتَ مِنْ أَخِيكَ ثَمَراً، فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ، فَلَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَاخُذَ مِنْهُ شَيْئاً، بِمَ تَاخُذُ مَالَ أَخِيكِ بِغَيْرِ حَقٍّ" فهو

ص: 207

محمول أيضاً على ما لم يبد صلاحه إذا بيع بغير شرط القطع، أو على ما قبل التسليم، كما ذكره الطحاوي.

وأمَّا الجواب عن ثبوت الخيار للمشتري فمن وجهين:

أحدهما: منع الحكم، قود قال به أبو علي الطبري، وعلى تقدير التسليم بجريانه على القولين معاً – كما صار إليه أبو إسحاق – فذاك لا يدل على تمام القبض، قال ابن أبي هريرة:"ألا ترى أن المقبوض في خيار الثلاث يستحق رده بما حدث من العيوب في زمن الخيار، وإن كان القبض تامَّا؟! فكذا الثمرة".

والثاني: أن خيار العطش إنما يستحقه المشتري؛ لوجوب السقي على البائع، ولم يكن له بالتلف رجوع؛ لأن الحفظ لا يجب على البائع.

قال القاضي الحسين: "وحقيقة القولين تتلقى من أصلن وهو أن قبض الثمرة إذا بيعت على رءوس النخل هل تحصل بالتخلية أوْ لا؟ وفيه قولان:

القديم: أنه لا تحصل، ولابد فيه من النقل؛ لأنه منقول.

وقال في الجديد: تحصل بالتخلية.

وعلىهذا الخلاف ينطبق ما حكيناه من التردد في أن مؤنة الجداد على من؟

واعلم أن محل القول الجديد بالاتفاق: ما إذا كان التلف بآفة سماوية مثل البرد، والحر، والثلثج، ونظير ذلك، ولم يكن للبائع فيها تسبب [من] ترك السقي، أمَّا إذا كان التلف بسبب العطش:

فأصح الطريقين أنه لا يجزئ، ويكون من ضمان البائع.

والثاني: أنه يجزئ. وهو قول أبي علي الطبري، وعلى هذا يجب على البائع ضمان القيمة أو المثل.

ومحل القول القديم بالاتفاق: ما إذا تلفت قبل أوان الجداد بآفة سماوية، بويعت منفردة، وأما إذاتلفت بعد أوان الجداد، [وإمكان النقل، وطول المدة] بحيث يُعد مقصِّراً ومضيِّعاً، أو كانت قد بيعت مع الشجر- فلا يجزئ وجهاً واحداً، بل يكون من ضمان المشتري، وهل يجزئ بعد أوان الجاد إذا قصرت المدة بحيث لا يعد مضيِّعاً؟ فيه قولان في "الشامل":

ص: 208

أصحهما - وهو ما جزم به الماوردي والطبري في "العدة"، والشيخ في "المهذب" -: أنه لا يجزئ [، وكذا الخلاف - لكنه وجهان - في أنه: هل يجزئ فيما إذا سرقت أو غصبت؟ والذي أورده العراقيون منهام: "أنه يجزئ"].

ومقابله هو الأصح عند الأكثرين، وهذا الخلاف حكى القاضي الحسين في "تعليقه" عن القفال: أنه يحتمل أن ينبني على أن الجوائح إلى متى توضع؟ إن قلنا: إلى أن تجد الثمرة، فهاهنا تكون من ضمان البائع، وإن قلنا: إلى أن تستجد الثمرة، فها هنا تكون من ضمان المشتري.

تنبيه: الألف واللام في "الثمرة" يجوز أن يكونا للعموم؛ فيشمل الخلافُ الثمرةَ التي بدا صلاحها، وما لم يبد إذا بيعت بشرط القطع، وهو أظهر الطرق في الرافعي، ولم يحك ابن الصباغ غيره.

ويجوز أن يكونا للعهد، وهي الثمرة التي تستحق تبقيتها إلى أوان الجداد فيجري فيها الخلاف، أمَّا الثمرة التي أبيعت بشرط القطع فلا يجري فيها القولان، وما حكمها؟ فيه طريقان في المذهب:

أحدهما: القطع بأنها من ضمان المشتري؛ لأنه مفرِّط بترك القطع مع عدم العُلْقة بالبائع؛ فإنه لا يجب عليه السقي والحالة هذه، وهذا ما حكاه الطبري عن القفال، ولم يحك الإمام سواه، وكذلك القاضي أبو الطيب الطبري فيما إذا باع الزرع الأخضر بشرط القطع، على ما حكاه في كتاب "الصلح".

والثاني: القطع بأنها من ضمان البائع؛ لأنه إذا شرط القطع كان القبض فيه بالقطع والنقل، ولم يوجد.

فرع: لو تعيبت الثمار بعد التخلية، حيث جعلناها من ضمان البائع ثبت للمشتري الخيار في فسخ العقد، وحيث جعلناها من ضمان المشتري فلا خيار له إلَاّ أن يكون سببه ترك السقي.

قال الإمام: "لأن الشرع ألزم البائع بالسقي، والتعيب الحادث بترك السقي كالعيب

ص: 209

المتقدم على القبض، ولو أفضى التعيب إلى التلف نظر: إن لم يشعر به المشتري حتى تلف عاد الخلاف في الانفساخ ولزوم الضمان على البائع.

فإن قلنا بعدم الانفساخ فلا خيار بعد التلف. قاله الإمام، وإن شعر به ولم يفسخ حتى تلف فيغرم البائع في وجه؛ لعدوانه، ولا يغرم في وجه لتقصيره، والله أعلم.

ولنختم الباب بذكر مسائل تتعلق به:

إذا باع العبد، وقد ملَّكه مالاً، وقلنا: إنه يملكه – فإن شرط المال لنفسه فلا يتبع، وكذا إن أطلق الحديث، ولو باعه مع المال فقد نصّ في القديم على قولين:

أحدهما: أنه لابدَّ من رعاية شرائط العقد فيهما.

والثاني: أنَّ المال ينتقل إلى المشتري مع العبد، وأنه لا بأٍ بكونه مجهولاً وغائباً.

ولم يحتمل ذلك؟ قال أبو سعد: "لأن المال تابع، وقد يحتمل في التابع ما لا يحتمل في الأصل؛ بدليل الحمل واللبن وحقوق الدار"، وقال ابن سريج وأبو إسحاق:"المال ليس بمبيع [لا] أصلاً ولا تبعاً، ولكن شرطه للمبتاع تبقية له على العبد كما كان؛ فللمشتري انتزاعه منه كما كان للبائع. فعلى هذا: لو كان المار ربوياًّ والثمن من نجسه، فلا بأس، وعلى الأول لا يجوز ذلك، ولايحتمل الربا في التابع، وأصح المعنيين عند الأصحاب: الثاني. قال الإمام: "ومحل هذا الخلاف ما إذا قال: بعتك العبد بماله، أمَّا لو قال: وماله، فهذا يتضمن قطع ملك العبد، ويثبت ملك المشتري.

وإن قلنا: إن العبد لا يملك فإدخال المال في البيع يكون كما إذا باع عبداً ومالاً، ولا يخفى حكمهما مما تقدمز

فرع: لو اكن العبد مأذوناً، وقد باعه مع ماله، فهل يحتاج إلى إذن جديد من المشتري، أم

ص: 210

يبقى على ما كان عليه؟ فيه وجهان، أظهرهما في "النهاية": الثاني، إلَاّ أن ينهاه.

إذا باع العبد هل يستتبع ثيابه؟ فيه وجهان:

أحدهما: لا؛ كما لا يستتبع بيع الدابة السرج.

والثاني: نعم، فعلى هذا وجهان:

أحدهما: المستتبع ما عليه من الثياب.

والثاني: ساتر العورة.

والصحيح عند صاحب "التهذيب": وغيره وجه عدم الدخول، وكذا قالوا في عِذَار الدابة، وأمَّا نعلها فيدخل، وكذا بُرّة الناقة إلا ان تكون من ذهب أو فضة، كذا قاله الرافعي، و [في كلام] الإمام في باب "الرد بالعيب" إشارة إلى ترددٍ للأصحاب في أن نعل الدابة هل يدخل؟ ويعضده جريان الخلاف في الرفوف والسلالم المسمَّرة، والله أعلم.

ص: 211