المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب اختلاف المتبايعين - كفاية النبيه في شرح التنبيه - جـ ٩

[ابن الرفعة]

الفصل: ‌باب اختلاف المتبايعين

‌باب اختلاف المتبايعين

قال: "إذا اختلف المتبايعان في ثمن السلعة، أو في شرط الخيار أو الأجل أو قدرهما، ولم يكن لهما بينة - تحالفا".

والأصل في قاعدة التحالف قوله صلى الله عليه وسلم:"إِذَا اخْتَلَفَ الْبَيِّعَانِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ وَالْمُبْتَاعُ بِالْخِيَارِ".

ص: 287

رواه الترمذي عن ابن مسعود.

ص: 288

ومعناه: أن المبتاع بالخيار بين إمساكه بما حلف عليه البائع، وبين أن يحلف على ما يقوله، تفسيره الرواية الأخرى:"إِذَا اخْتَلَفَ الْمتَبَايِعَانِ تَحَالَفَا، وقوله صلى الله عليه وسلم: "البَيِّنَةُ عَلَى المُدَّعِي، واليَمينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ"، وكل من المتبايعين منكر ومدعٍ؛ ولأن البائع يدعي الزيادة في الثمن وينكر النقصان، والمشتري يدعي تملك العين بالثمن الأول، وينكر الزيادة، ويوضح ذلك أن لكل منهما إقامة البينة ابتداءً على ما ادّعاه، والبينة إنما تسمع من المدعي على مُنْكرٍ.

وكان قياس الخصومات يقتضي أن يكون القول قول المشتري [إذا كان الاختلاف في الثمن؛] كما صار إليه أبو ثور؛ لأنّ الملك مسلم إليه، وقد ادّعى عليه الزيادة، وهو ينكرها. ولكن صرفنا عنه ما ذكرناه من الأحاديث.

والمعنى: أنه لَمَّا كثر الاختلاف في العقود، ومَبْنَى المعاوضات على تساوي المتعاوضين، ففي تصديق أحدهما إضرار بالآخر.

ولا فرق في ذلك بين أن تكون السلعة قائمة أو تالفة، ولا بين أن يكون بعد لزوم العقد أو قبله، خلافاً للقاضي الحسين؛ فإنه قال:"لا تجزئ في زمن الخيار؛ لإمكان الفسخ بغيره"، وهو ما حكاه الماوردي في كتاب "السلم" فيما إذا اختلفا في الأجل قبل التفريق، وزاد أنه ال قد بينهما، وقد أبطل ما قاله القاضي بأنه وافق على جواز التحالف في القراض مع جوازه، وقد نصّ الشافعيُّ على التحالف في الكتابة مع

ص: 289

جوازها من جانب المكاتب، وللقاضي أن ينفصل عن القراض بأن محله بعد الخوض في العمل؛ فإن الاختلاف قبل الخوض فيه لا معنى له، مع أنه يعرض له ان يجعل نفس التناكر تفاسخاً، وإذا كان كذلك فللتحالف فائدة لا يفيدها الفسخ، بخلاف فسخ البيع في زمن الخيار؛ فإنه لا يبقى شيئاً يزيله التحالف. ثم الاختلاف في الثمن يكون من ثلاثة أوجه:

أحدها: في قدره، كما إذاقال: بعتك بألف، فقال: بل بخمسمائة.

والثاني: في جنسه، كما إذا قال: بعتك بالدنانير فقال: بل بالدراهم.

والثالث: في نوعه، كما إذا قال: بعتك بقاساني، فقال: بل بنيسابوري، وأمثال ذلك.

والاختلاف في شرط الخيار والأجل يكون من وجهين، كما ذكره الشيخ:

أحدهما: في أصله، بأن يقول أحدهما: تبايعنا بشرط الخيار أو الأجل، فينكر الآخر.

والثاني: في قدره، بأن يقول أحدهما: شرطنا الخيار ثلاثةأيام، والأجل شهراً، فيقول الآخر: بل يومين وعشرة أيام، مثلاً.

وعدول الشيخ عن قوله: "أو قدرها"؛ أعني للثمن والخيار والأجل إلى قوله:"أو قدرهما" لدلالة ذلك على جوا زالتحالف عند الاختلاف في قدر الثمن من طريق الأولى؛ لأن أثر طول الأجل [والخيار] وقصرهما يظهر في الثمن؛ إذ هو يزيد بزيادتهما ويقل بقصرهما، أو لأنّ التثنية لا تعود إلى الخيار والأجل، بل إلى النوعين اللذين ذكرهما، فالأول ما لابدّ منه، وهو الثمن، والثاني ما منه بد، وهو ما يصح اشتراطه من خيار وأجل، والله أعلم.

ولو وقع الاختلاف في انقضاء الأجل، مع الاتفاق على قدره فلا تحالف، والقول قول من عليه الأجل، وحكم المبيع إذا وقع الاختلاف فيه، وكان الثمن معيناً – حكم الثمن، وإن كان في الذمة فينظر: إن وقع الاتفاق على شيء من المبيع، والاختلاف في ضميمةٍ إليه، مثل أن يقول: بعتك هذا العبد بألف، فيقول: بل هو وهذه الجارية بألف – فجيري التحالف أيضاً، صرح به المحاملي، والماوردي، وابن الصباغ، والمتولي، وغيرهم.

ص: 290

وإن لم يقع الاتفاق على شيء من المبيع، بأن يقال: بعتك هذا العبد بألف فقال: بل هذه الجارية - فسيأتي الكلام فيه.

وحكم الاختلاط في شرط الرهن والضمين وفي قدرهما حكمه في الأجل، وهو جار في كل ما يجوز شرطه، من كون المبيع كاتباً أو خياطاً ونحو ذلك، وكذا [في] البراءة من العيوب، إذا صححنا هذا الشرط، كما صرح به القاضي الحسين في "التعليق"، وحكى اختلاف الأصحاب في حد ما يشرع التحالف فيه، فقال: منهم من قال: أن يتنازعا على وجه بعد اعترافهما بالانعقاد، لو تنازعا على ذلك الوجه حالة العقد امتنع به الانعقاد؛ لأجل المخالفة.

ومنهم من قال: أن يتنازعا على وجه تُسمع بينة كل واحد منهما، ولو أقاما جميعاً البينة تعارض بينهما. ومنهم من قال: أن يتنازعا في مقصود في العقد أو مشروط فيه، لو أقام كل واحد منهما [عليه] البينة سمعت.

وقال: القياس في شرط الكتابة والبراءة أن لا تحلف، والقول قول البائع، وهذا قد صرح به المتولي في شرط الكتابة حكايةً عن بعض الأصحاب، وهو قضية ما حكاه في "الإشراف" عن ابن سريج في أن التحالف لا يجري في الاختلاف في الخيار والأجل، وضبط الإمام ما يجري التحالف فيه بكل عقد يشتمل على عوض.

أمّا إذا كانت لهما بينة، وقلنا: يستعملان - ففي الرافعيّ و"التتمة": أنه يتوقف على ظهور الحال.

وفي "شرح" ابن التلمساني: أنه لا تجيء القسمة، وفي القرعة والوقف وجهان، والمذكور في "الحاوي" وجه القرعة.

تنبيه: كلام الشيخ يشمل ما إذا كان المتبايعان وكيلين، أو مالكين، أو أحدهما وكيلاً والآخر مالكاً، وقد حُكي في خلف الوكيل وجه آخر: أنه لا يجوز، ويحلف موكله، وهو المحكي في "المرشد"، ولا نزاع في أنّ الوارث يقوم مقام مورثه في التحالف.

فرع: لو قال: بعتك هذا العبد بهذا الثوب وثوب آخر تلف في يدك، وقال

ص: 291

المشتري: إنما اشتريته بهذا الثوب لا غير.

قال القاضي الحسين في "تعليقه": هذا ينبني على تفريق الصفقة، وقدر ما يخبر به العقد.

فإن قلنا: لا تفرق الصفقة في الانتهاء، وينفسخ العقد في القائم أيضاً.

وإن قلنا: تفرق ويأخذ القائم بجميع الثمن، فلا معنى للتحالف؛ لأنه في الأولى لا يدعي بقاء عقد في الحال حتى يرد عليه التحالف، وفي الثانية يلزمه جميع العبد في مقابلة الثوب الذي في يد المشتري، وإن قلنا: يأخذه بالحصة، فيتحالفان؛ لأنه نزاع في قدر ما يلزم تسليمه من العبد المُشْتَرَى.

قال الإمام: وهذا الذي ذكره حسنٌ سديدٌ، ولكن يتطرق الكلام إليه في شيءٍ، وهو إذا قلنا: البدل في مقابلة الباقي، فهذه الحالة لو جرت تضمنت خيار البائع، والمشتري ينكره؛ فقد أدى التنازع إلى تناكر في الخيار، وهو مستند إلى نزاع في المعقود عليه؛ فيتجه التحالف كما لو تنازعا في شرط الخيار، ثم قال: هذا نظرنا الآن، والرأي بعد ذلك مشترك بين الفقهاء.

قلت: ويتجه أن يقال: الاختلاف الذي يقتضي التحالف ما ينقص به الثمن أو يزيد، كما صرح به الأصحاب آنفاً، وذلك في أمر يقترن بالعقد أو ما في معنى الاقتران؛ إذ هو حالة المقابلة، وإذا كان كذلك فهذا الخيار المختلف فيه بعد ذلك يثبت؛ فلا يقتضي زيادة في الثمن ولا نقصانا، ويصح ما قاله القاضي، والله أعلم.

قال: "فيبدأ البائع؛ لما روى النسائي عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر البائع أن يحلف، ثم يختار المبتاع، فإن شاء أخذ، وإن شاء ترك، ولأن جنبته أقوى بعد التحالف؛ إذ المبيع يرجع إلى ملكه، والأصل في اليمين أن يكون من طرف مَنْ جانبه أقوى، ولأن البائع يأتي بصدر العقد؛ فكان أولى بالبداية، وهذا نصه هاهنا، ويوافقه نصه في السلم أنه يبدأ بالمسلم إليه، وفي الكتابة بالسيد، ويخالفه نصه في الصداق على أنه يبدأ بالزوج، وهو في رتبة المشتري، ولأجله خرج بعض الأصحاب منه قولاً

ص: 292

إلى هاهنا: أنه يبدأ بيمين المشتري.

ووجهه بأنه أقوى جنبة؛ لكون المبيع وقت التحالف على ملكه، وقد خرج بعضهم من نصه في كتاب "الدعاوى والبينات" على أنه إن بدأ البائع باليمين خُير المشتري، وإن بدأ بها المشتري خيرّ البائع – قولاً ثالثاً: أنهما يستويان، ووجهه أن كلاًّ منهما مدعٍومدعّى عليه، وقد حكى أن الشيخ أبا حامد قال:"إنه الأقيس".

فعلى هذا يتخير الحاكم في البداية بأيهما، وهو ما جزم به الماوردي والمحاملي وابن الصباغ وغيرهم.

وقيل: يقرع بينهما، ورجحخ الإمام، والصحيح ما قاله الشيخ، وبه جزم بعضهم، وفرق بين البائع والزوج بأن أثر التحالف في النكاح يظهر في الصداق، والزوج في رتبة بائع له، ولأن جانبه أقوى بعد التحالف؛ فإن النكاح يبقى له، فهو بمنزلة البائع، وحمل نصه في العاوى على حكاية مذهب الغير، وبعضهم حمله على أنَّ ذلك راجع إلى الاجتهاد؛ فإن للاجتهاد مساغاً فيها، وحل هذا الخلاف – على ما حكاه الإمام – فيما إذا باع عرضاص بثمن في الذمة.

أمَّا إذا تبادلا عرضاً بعرض فلا تتجه إلَاّ التسوية.

قال الرافعي: وينبغي أن يتخرج ذلك [الخلاف] على أن الثمن ماذا؟ وهل هذا الخلاف في الاستحباب أو الاستحقاق؟ فيه وجهان في "الحاوي": أظهرهما: الأول، والذي نقله الإمام: الثاني.

واعلم أن ما ذكرناه من تقديم البائع [أو المشتري] يجري في كل من حلّ محلهما من: مسلم ومسلم إليه، ومساقٍ ومساقّي، ومُقَارِضٍ ومُقَارَضٍ، ومُسْتَاجِر

ص: 293

وآجِر، ومُكَاتِب ومُكَاتَب، وزوج وزوجة في صداق او عوض خلع، وغير ذلك على ما صرح به الإمام.

قال: فيحلف إنه ما باع بكذا، ولقد باع بكذا، ويحلف المشتري: إنه ما اشترى بكذا، ولقد اشترى بكذا، أي: بعد أن يعرض علهي ما حلف عليه البائع فينكر؛ كما صرح به المحاملي.

والدليل على أنَّ كلاًّ منهما يأتي بالنفي والإثبات: أنه مدعٍ؛ فيحتاج في إثبات ما يدعيه إلى اليمين على الإثبات، ومدعى عليه؛ فيحتاج في نفي ما ادّعاه عليه به إلى يمين النفي.

ووجه تقدي النفي على الإثبات: أن الأصل يمين المدعّي عليه، ولأجل ذلك سمعت يمين الإثبات قبل النكول؛ تبعاً لما هو الأصل.

ووجه الجمع بينهما في يمين واحدة: أن ذلك أقرب إلى فصل القضاء، وهذا هو الصحيح في الطرق، ووراءه وجوه أخر:

أحدها: أنه يكتفي بيمين النفي؛ قياساً على سائر الخصومات، وهو مخرج من نصه فيما إذا كان في يد رَجُلَيْن دارٌ، فادّعى كل منهما [أن] جميعها له؛ فإنه قال: يحلف كل منهما على مجرد نفي استحقاق صاحبه ما في يده، فإن حلف أحدهما ونكل الآخر، فالآخر يحلف يميناً أخرى على الإثبات.

ص: 294

قال ابن يونس: قال القاضي أبو الطيب: وهذا هو الصحيح.

وقد فرق القائل الأول: بأن المثبت في مسألة الدار متميز عن المنفي؛ ولهذا إذا حلفا سلم لكل واحد ما في يده، وهاهنا المثبت لا يتميز عن المنفي؛ ولهذا إذا تحالفا لاي بقى حق أحدهما في العقد الذي أثبته، وإذا لم يتميز أحدهما عن الآخر كان المدعي شيئاً واحداً يتضمن النفي والإثبات، وهو صفة العقد؛ فجمعنا بين الأمرين كذلك.

وقد خرج الأكثرون قولاً إلى مسألة الدعوى في الدار من مسألتنا: أنه يكتفي فيها بيمين واحدة جامعة بين النفي والإثبات.

وحكى الإمام والغزالي ذلك في "الدعاوى والبينات"، وقال هاهنا: إن مسألة الدار لا خلاف فيها، وليس هذا مما ينتقل فيه الجواب إلى الجانب الآخر حتى يفرض جريان القولين في الجانبين نقلاً وتخريجاً، لكن مسألة الدار متفق عليها.

واقتصر في "الوسيط" من هذا اللفظ في هذا الموضع على لفظ الاتفاق وقد ساعدهما على ذلك أبو حامد والمحاملي.

قال الرافعي: "وهذا [هو] الحق؛ لأن كل واحد منهما لا يحتاج فيما في يده إلى الإثبات، واليمين على الإثبات يمين الرد، فكيف يحلف الأول يمين الرد، وصاحبه لم

ص: 295

ينكل بعد؟ وكيف يحلفها الثاني، وقد حلف صاحبه؟

[الثاني]: ذهب أبو سعيد الإصطخري إلى تقديم الإثبات على النفي؛ [قياساً على اللعان].

قال أصحابنا: وليس بشيء؛ لأن اللعان لا نفي فيه؛ فإنه لا فرق بين أن يقول: إنه لمن الصادقين، وبين أن يقول: ليس من الكاذبين؛ فإنه مثبت للصدق في الحالين.

[ومحل خلاف الإصطخري إذا اكتفينا بيمين واحدة جامعة بن النفي والإثبات، أمَّا إذا قلنا: لابد من يمينين، قال الماوردي: لا خلاف بينهم أنه يبدأ في اليمن الأولى بالنفي.

وفي "الشامل" إعادة خلاف الإصطخري على القولين، وكذلك في "مجموع" المحاملي].

والثالث – حكاه في "الإشراف" عن أبي الحسين بن القطان -: أنه لا ترتيب بين النفي والإثبات، فإن بدأ أحدهما بالنفي، حلف الثاني على الإثبات؛ ليكون ضده، وإن بدأ بالإثبات، حلف الثاني على النفي؛ ليكون ضده.

الرابع: نقل القاضي أبو حامد في "جامعه": أن من أصحابنا من قال: يحلف كل منهما يمينين، فيقول البائع: والله ما بعت بكذا، ويقول المشتري: والله ما اشتريت بكذا، ثم يقول البائع: والله لقد بعته بكذا، ويقول المشتري: والله قد اشتريته بكذا. قال: وهو الأقيس، وبه أجاب في "المرشد".

وقال القاضي أبو الطيب في "تعليقه" عقيب هذا: اليمينان أصح عندي؛ لأن المنفي غير المثبت، وقد تقدم ما يمنع ذلك.

وعلى هذا القول قال الماوردي: لا يعرض الحاكم على المشتري قبول العقد بما

ص: 296

حلف عليه البائع يمين النفي، وإنما يعرض عليه ذلك بعد أن يحلف البائع يمين الإثبات.

ثم هذا التصوير مفرع على القول بأنّ البداية بالبائع، أمَّا إذا قلنا: البداية بالمشتري، فتنعكس الحال.

ولو قيل: يبدأ بنفي من ادّعى عليه الزيادة من بائع أو مشترٍ؛ لأنه الأصل – لكان أولى، وفحوى كلام الأصحاب يدل على أن الاختلاف السابق فيمن يبدأ به إذا كان الاختلاف في غير المبيع.

والخامس –عكس الرابع من جهة الاختصار -: أن البائع يقول: والله ما بعت إلَاّ بكذا، ويقول المشتري: والله ما اشتريت إلا بكذا.

التفريع:

إذا اكتفينا بيمين واحدةجامعة بين النفي والإثبات، فإذا حلف أحدهما، ونكل الآخر عن النفي والإثبات – قضى للحالف.

وإن قلنا: يحلف كل واحد يمينين، فإذا حلف الأول على النفي ونكل الثاني عنه، عرضت على الأول يمين الإثبات، [فن حلف قضى له، وإن نكل لم يقض له؛ لاحتمال صدقه في نفي ما يدعيه صاحبه، وكذبه فيما يدعيه.

وعن الشيخ أبي محمد: أنه كما لو تحالفا.

ولو نكل الأول عن يمين الني حلف الثاني يمين النفي والإثبات] وقضى له.

ولو حلفا على الني فوجهان:

ص: 297

أصحهما –وبه قال الشيخ أبو محمد -: أنه يكفي ذلك، ولا حاجة بعده إلى اليمين الإثبات؛ لأن المحوج إلى الفسخ جهالة الثمن، وقد حصلت، وهذا يظهر أنه عين القول المخرج، من مسألة الدار، إلَاّ أن يقال: إنه لا ينفسخ العقد على ذلك [القول]، ويكون كما إذا قال: بعتك هذا العبد، فقال: بل هذه الجارية؛ فحينئذ يكون غيره.

والثاني: يعرض يمين الإثبات عليهما، فإن حلفا تم التحالف، وإن نكل أحدهما قضى للحالف – وهذا ما حكاه ابن الصباغ – ولو نكلا جميعاً فوجهان:

أحدهما: أن ذلك بمنزلة حلفهما.

والثاني: يوقف الأمر.

وأبدى الإمام إشكالاً فيما إذا حلفا يمين النفي، وحلف الأول يمين الإثبات، ونكل عنها الآخر من حيث إن يمين الإثبات من الأول عارضتها يمين النفي من الثاني فكيف يقضي بها؟

وأجيب عنه بأنهما صارا كاليمين الواحدة، والنكول عن بعض اليمين بمنزلة النكول عن جميعها؛ فلا معارضة.

فرع: لو كان المبيع جارية، ووقع الاختلاف في ثمنها، فهل يحل للمشتري وطؤها قبل التحالف؟ فيه وجهان، ولو جرى التحالف، وأراد الوطء قبل الفسخ فوجهان مرتبان، وأولى بالتحريم.

قال: "فإذا حلفا لم ينفسخ العقد حتى يفسخ على المنصوص، أي: في الكتب الجديدة، والقديمة على ما حكاه القاضي أبو حامد، وهو الصحيح؛ لأن كلاًّ منهما يقصد بيمينه إثبات الملك؛ فلم يجز أن تكون موجبة لسخ الملك؛ لأنهما ضدان، ولأن البينة أقوى من اليمين.

ص: 298

ولو أقام كل منهما بينة على ما يقوله لا ينفسخ العقد؛ فباليمين أولى [ألا ينفسخ]، ولأن العقد وقع صحيحاً باتفاقهما؛ فلا ينفسخ إلَاّ بالفسخ، قياساً على سائر العقود.

قال: "فإن رضيا بأحد اليمينين – أي: على البدل بأن يقنع البائع بما قاله المشتري، أو المشتري بما قاله البائع – "أقر العقد"؛ لأن الآخر مقرٌّ بوقوع البيع كذلك، فيجبر عليه إن لم يرض بعد".

قال:"وإن لم يرضيا فسخاً" – أي: بأنفسهما- من غير احتياج إلى إذن الحاكم [فيه]، بعد جريان التحالف عنده؛ إذ هو شرطه؛ لأنه فسخ لاستدراك الظلامة في المبيع، فأشبه الرد بالعيب، وهذا هو الأظهر في الرافعي، والأقيس في "الوسيط" – وقال -: إذ قطعوا بأن البائع يفسخ بإفلاس المشتري، والمرأة تفسخ بإعسار الزوج بالنفقة.

وفي "الشامل": "أن هذا لا يصح؛ لأنا لا نعلم أيّهما يستدرك ظلامته؛ لأن أحدهما ظالم" وهذا منه يدل على أنه لا يشترط على هذا الوجه أن يتوافقا على [هذا] الفسخ، بل أيهما فسخ كفى، كما صرح به البندنيجي، فيكون قول الشيخ "فسخاً" – [أي]: على البدل، وقد وافق الشاشيُّ ابن الصباغ على تضعيف هذا الوجه في "الحلية"، وحمله على حالة اجتماعهما على الفسخ، وكذلك صاحب "الإشراف"، وأورد على نفسه أن الفسخ الواقع منهما لا يختص بحالة التحالف؛ فإنهها لو تقايلا أو الحالة هذه أجاز التقايل، ثم أجاب بأن معناه: أن القاضي لا يدعهما يتنازعان ويتبايعان الحق، بل يقول لهما: إمَّا أن ترضيا بأحد اليمينين، وإمَّا أن أحملكما على الفسخ بالإجبار، ونظيره المُولِي إذا امتنع عن الفيئة أجبره القاضي على الإطلاق.

قال:"وقيل: لا ينفسخ إلا بالحاكم"؛ لأنه فسخٌ مجتهد فيه، فافتقر إلى الحاكم كالفسخ بالعنّة والإعسار.

ص: 299

وهذا ما حكاه القاضي أبو الطيب، وميل ابن الصباغ إلى ترجيحه، وبه أجاب في "المرشد"، ثم ظاهر كلام الأئمة هاهنا: أن القاضي يتعاطى الفسخ بنفسه.

ويؤيده أن صاحب "الإشراف" قال: إن هذا قول من قال: إن القاضي يُطَلِّق على المُولِي. ويظهر أن يكون الأمر على هذا القول كما قاله الأصحاب في الفسخ بعيوب النكاح: أنّ للمرأة أن تفسخ بإذن الحاكم، أو يفسخ الحاكم بنفسه، والخيرة إليه على ما حكاه ابن الصباغ، وأن الخيرة إلى المرأة بعد الرفع إلى الحاكم بين أن تفسخ بنفسها وبين أن يفسخ بإذنها؛ كما قال القفال.

ويؤيده: أنهم قاسوا هذا القول على ما ذكرناه، لكن في "الوسيط":[أنهم قطعوا بأن القاضي هو الذي يفسخ بعذر العنة، وإن كان المحكي في "الوسيط"] في أحكام العنة موافقاً لما ذكرناه، فإنه قال: إذا قضى القاضي بالعنة فسخت كما في الجب وسائر العيوب.

وفيه وجه: أن القاضي هو الذي يتعاطى الفسخ [انتهى].

ثم على هذا القول، لا يتقوف فسخ القاضي على طلبهما الفسخ.

قال في "الإشراف": وقد غلط من ظن من أصحابنا أن الفسخ من القاضي يقف على طلب المتبايعين الفسخ، أو طلب أحدهما؛ لأن القاضي لا يتركهما يتماديان في الخصومة، كما في مسألة الشقاق.

وفي المسألة قولٌ مقابل للمنصوص: أن العقد ينفسخ بنفس التحالف، وهو قول المزني في "المنثور" كما حكاه في "الإشراف".

ووجهه: ما روى أنه – عليه السلام – قال: "إِذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ تَحَالَفَا وَتَرَادًّ". وبالقياس على فسخ النكاح؛ باللعان، فإنه ينفسخ به، فعلى هذا: لو رضيا

ص: 300

بأحد الثمنين لم يقر العقد، واحتاجا إلى عقد جديد، وهل هذا الفسخ يرفع العقد من أصله أو من حينه؟ فيه وجهان، أَوْلَاهُمَا: الثاني وهو ما جزم به القاضي الحسين في التعليق، ونفي سواه، ويحكي الأول عن أبي بكر الفارسي، وعليه ينبني رد الزوائد والفوائد، وبنى عليه أيضاً الشيخ أبو علي تتبع التصرفات بالنقض، وهو بعيد، ثم على قول الفسخ أو الانفساخ لا شك في النفوذ ظاهراً، وهل ينفذ باطناً؟

حكى [الماوردي وغيره من] العراقيين فيه ثلاثة أوجه:

ثالثها: إن كان البائع صادقاً فنعم؛ لتعذر وصوله إلى حقه، كما لو فسخ بالإفلاس، وإن كان كاذباً فلا، لتمكنه من الوصول إلى ما ثبت له، واختار ابن أبي عصرون في "المرشد" عدم الانفساخ.

وهذه الوجوه تنتظم من طريقين حكاهما الإمام فيما إذا قلنا: لا ينفسخ بنفسه، وجزم بانفساخه باطناً إذا قلنا بقول الانفساخ، وكذلك هو موجود في "تعليق" القاضي الحسين أيضاً.

وقال المحاملي [في] هذه الوجوه: "ترجع إلى وجهين؛ لأن البائع لابد أن يكون ظالماً أو مظلوماً"، وسلك الغزالي طريقاً آخر فقال: فوضنا الأمر إلى القاضي، فالظاهر أنه ينفسخ في الباطن، وإن جوزناه للمتعاقدين، فإن تطابقا على الفسخ انفسخ باطناً؛ كما لو تقايلا، وإن أقدم عليه من هو صادق فكمثل، وإن بادر الكاذب فلا ينفسخ، فطريق الصادق أن ينشأ الفسخ إن أراد.

وتظهر ثمرة الاختلاف في جواز تصرف البائع في المبيع بعد عوده إليه؛ فإنه لا

ص: 301

نزاع في أن يعود إليه، فإن قلنا: إنه ينفسخ في الباطن [حلّ له وطء الجارية المبيعة، والتصرف في المبيعة كيف شاء، وإن قلنا: لا ينفسخ في الباطن]، فلا، نعم، إن كان مظلوماً كان بمنزلة من كان له على شخص دين، وظفر بغير جنس حقه.

فرع: لو قال البائع: لم أعلم كوني كاذباً، ولا صدقاً، حلّ له أن يمسك المبيع؛ بناءً على أن الظاهر أنه لا يكذب، قاله القاضي الحسين.

فرع آخر: إذا انفسخ العقد بالتحالف، وكانت العين المبيعة تالفة – وجب مثلها إن كانت من ذوات الأمثال.

وفي "الحاوي": أن الأصح من الوجهين أنه يرد قيمتها؛ لأنه لم يضمنها وقت العقد بالمثل، وإنما ضمنها بالعوض، بخلاف الغصب، وإن كانت من ذوات القيم ضمن قيمتها، سوا ءكانت قدر الثمن او أقل أو أكثر.

وقال ابن خيران: "لا يستحق ما زاد على الثمن الذي يدعيه". صرح به في "الحلية"، وهو نازع إلى أن الفسخ لا ينفذ في الباطن، وأي قيمة تعتبر فيه؟ أربعة أوجه:

أصحها عند الغزالي: قيمة يوم التلف؛ لأن مورد الفسخ العين [لو بقيت،] والقيمة خَلَفٌ عنها.

والثاني: أقصى القيم من وقت القبض إلى وقت التلف؛ لأن يده يد ضمان، فتعتبر أقصى القيم، وهما الموجودان في طريقة العراق، وفي "التهذيب".

والثالث: قيمة وقت القبض؛ لأنه وقت الدخول في الضمان، وما حصل من زيادة أو نقصان؛ فهو في ملكه.

والرابع: أقل قِيَمِهِ من وقت العقد إلى وقت القبض؛ لأنها إن كانت يوم القبض أقل فالنقص حصل في يد البائع؛ فلا يغرمه المشتري، وإن كانت القيمة يوم العقد أقل فالزيادة حصلت في ملكه، وهذا ما حكاه القاضي الحسين في "تعليقه"، وقال الإمام:"إنه أضعفها".

قال الشيخ أبو علي: هذا الخلاف ناظر إلى أن العقد يرتفع من أصله أو من حيته؟ إن قلنا بالأول لزمه أقصى القيم، وإن قلنا بالثاني اعتبرنا قيمته يوم التلف.

ص: 302

وقال المتولي: إن قلنا بالأول فهو كالمستام، أي: فتأتي فيه الأقوال الثلاثة التي ذكرناها في ضمان البيع الفاسد، وإن قلنا بالثاني فيجيء الوجه الذي حكيناه عن القاضي الحسين.

ومحل هذا الخلاف [ما حكاه في "الإشراف"]: إذا قلنا: إن الفسخ يقع في الباطن.

ولو كانت العين المبيعة باقية بحالها لم يتعلق بها حقٌ ثالث، ردّها، وكذا لو اكنت زائدة، وإن كانت ناقصة ردّها مع الأرش، وهو قدر ما نقص من القيمة.

قال الشيخ أبو علي: وهذا أصل مطّرد في المسائل: أن كل موضع لو تلف الكل كان مضموناً على الشخص بالقيمة، فإذا تلف البعض كان مضموناً عليه ببعض القيمة [الأولى]، إلا في تعيُّب الزكاة المعجلة في يد الفقير؛ فإنها لو تلفت ثم تلف المال، رجع عليه بقيمتها، ولو كانت قد تعيبت ففي الرجوع عليه بالأرش وجهان، وكذلك حكاه الإمام، وادعى انعكاسه بأن كل من لا يضمن القيمة إذا تلفت العين في يده، لا يضمن الجزء إذا تلف، كالبائع يتعيب المبيع في يده قبل القبض.

قلت: وهذا الأصل يستثني منه مسائل، منها: المسألة التي نحن فيها؛ فإن الإمام حكى في آخر "النهاية" عن الشيخ أبي علي أنه تشبث بإجراء الخلاف فيها بعد أن قال: إن صاحب الوجه بعدم الرجوع بالأرش [إن طرده فيها] كان قريباً من خرق الإجماع.

ومنها: لو تعيب الصداق في يد الزوجة قبل الطلاق، وعاد الشطر إليه، لم تغرم الزوجة الأرش، إذا اختار الزوج الرجوع إلى الشطر، ولو تلف لغرمت نصف القيمة على ما حكاه الغزالي.

ومنها: لو ردّ المبيع بعيب، فوجد الثمن قد تعيب في يد البائع - كان المشتري مخيراً بين أن يقنع به ولا أرش له، وبين أن يأخذ القيمة على أحد الوجهين، كما حكيناه من قبل.

ومنها: اللقطة إذا حضر مالكها، وقد تعيبت في يد الملتقط، فإنه يجري فيها مثل هذا الخلاف، مع أن ذلك لو تلف لرجع بالقيمة.

ص: 303

ومنها: القرض إذا تعيب في يد المقترض، ثم رجع المقرض فإنه مخيرٌ: إن شاء رجع فيه ناقصاً ولا أرش له، وإن شاء رجع بمثله إن كان من ذوات الأمثال، كما حكاه الماوردي، ولم يحك سواه، وخحكى فيما إذا كان الواجب رد القيمة خلاف ذلك.

ويقرب مما ذكرناه مما حكاه الغزالي عن نصّ الشافعي فيما إذا تعيبت العين المغصوبة في يد المشتري من الغاصب، وغرم أرشها: أنه يرجع بالأرش على الغاصب، ولو تلفت العين، وغرم قيمتها لم يرجع بها، والله أعلم.

وعتق المبيع، ووقفه، وبيعه وهبته مع القبض كتلفه، وتزويج الجارية [والعبد] عيبٌ حادث، وكذا إباق العبد، ولا يمتنع بسببه الفسخ؛ فإنه لا يزيد على التلف، ويغرم المشتري قيمته؛ لتعذر الوصول إليه، لكن الفسخ يرد على القيمة حتى يبقى العبد ملكاً للمشتري لو عاد، أو على عين العبد، وما يؤخذ للحيلولة، حتى يجب ردّه بعد العود؟ فيه وجهان:

أصحهما: الثاني.

والكتابة الصحيحة حكمها حكم الإباق فيما ذكرناه، وفيها طريقة قاطعة [للشيخ أبي محمد]، ببقاء الملك فيه للمشتري، ولو رهن المبيع، [قال الرافعيُّ:] "يخير البائع بين أخذ القيمة والصبر إلى [انفكاك الرهن]، فإن أخذ القيمة كان فيما يرد عليه الفسخ الطريقان في المكاتب.

وأيّد الإمام طريقة شيخه بأن الرهن إذا لم ينفك تعين أن يبقى مملوكاً حال نفوذ الفسخ.

[وإذا بقى مملوكاً حال نفوذ الفسخ فيستحيل أن يتغير هذا بعد الفسخ].

قلت: وما قاله الرافعيّ من أن البائع يتخير فيه نظر؛ فإن الغزالي حكى فيما إذا طلق الرجل زوجته قبل الدخول، وكان الصداق مرهوناً، [لو قال الزوج]: "أنظر الفكاك

ص: 304

للرجوع"؛ فلها إجباره على قبول القيمة خِيفةً من غرر الضمان، إن قلنا: إن الصداق مضمون في يدها، وإن قلنا: لا ضمان، أو بدأها عن الضمان حيث صححنا الإبراء عما لم يجب، فهل تلزمه الإجابة؟ فيه وجهان.

ومنشأ هذا الخلاف أنه وعد وربما يبدو له المطالبة بالقيمة، وتخلو يدها في ذلك الوقت عن النقدِ، وما ذكره من المعنى موجود في مسألتنا، وقد حكى ذلك المتولي. نعم، لو لم تتفق المطالبة تى انفك الرهن تفريعاً على عدم الإجبار، فهل يتعلق حقه بالعين أو القيمة؟ يتجه جريان الطريقين فيه، كما أجرى الغزالي الخلاف في نظيره في الصداق، وقد أشار الإمام إلى أنّا إن قلنا: إن الفسخ يرد على العين، كان له ذلك، وإن قلنا: يرد على القيمة، كان حكمه كما في الإجبار على قبض الدين الحال.

وفي "الحاوي": أن البائع: هل له أن يأخذ المشتري بفكاك الرهن قبل محله؟ فيه وجهان، كمن أذن لغيره في رهن عبده، فإن بيع في الدين رجع بالقيمة.

ولو أجر المبيع، فالرجوع ينبني على جواز بيع المستأجر: فإن منعناه كان كالمرهون، وإن جوزناه فللبائع أخذه، ولكنه يترك عند المستأجر إلى انقضاء المدة، والأجرة المسماة للمشتري، وعليه للبائع أجرة مثل المدة الباقية.

وهل الفسخ على قول منع الرجوع ملحق بالفسخ الوارد على المكاتب أو الآبق؛ لأن حق المستاجر لا يتعلق بمورد البيع والفسخ، وهو الرقبة؟ فيه احتمالان للإمام.

قال: وإن اختلفا في [عين] المبيع، فقال البائع: بعتك هذه الجارية –أي:

ص: 305

بألف في ذمتك – وقال المشتري: بل يعتني هذا العبد- أي: بالألف –لم يتحالفا؛ لأن ما في الذمة لا يتعين إلَاّ بالقبض، ولم يتفقا على مبيع معين، فقدمت قاعدة التحالف، وهي أن يتفقا على بيع ومبيع معين، وهذا ما حكاه الشيخ أبو حامد والمحاملي والبندنيجي، واختاره الإمام.

قال: "بل يحلف البائع: إنه ما باعه العبد، ويحلف المشتري: إنه ما ابتاع الجارية، كما تقدم في سائر الخصومات.

وحكى القاضي أبو الطيب أن التحالف يجري في هذه الصورة أيضاً، واختاره ابن الصباغ، واستدل له [القاضي] بأن ابن الحداد قال: إذا اختلف الزوجان فقال: مهرتك أباك، وقالت: بل مهرتني أمي – تحالفا: وكذلك إذا قال: مهرتك أباك ونصف أمك وقالت: بل أبي وأمي، ولم يختلف أصحابنا في ذلك، وذلك يسقط ما قاله أبو حامد.

قلت: ليس هذا [نظير المسألة التي خالف فيها الشيخ أبو حامد؛ لأن المختلف

ص: 306

فيه في مسألتي ابن الحداد أخذ العوضين، والعوض الآخر معين؛ فهو نظير ما إذا قال:[بعتك هذا العبد بهذا الألف، فقال: بل [بعتني هذه الجارية] بالألف المشار إليه؛ فإنهما يتحالفان، كما حكيناه، وفي مسألتنا كل من العوضين غير متعين: أمَّا البيع فلم يتفقا عليه، وأمَّا الألف الذي في الذمة، فغير متعين إلا بالقبض؛ فإن الذمة قابلة لآلاف، وبذلك يظهر اندفاع ما أبداه القاضي.

وخرج الإمام الخلاف في المسألة على الخلاف فيما إذا أقر إنسانٌ لإنسانٍ بألف من ثمن مبيع، فقال: بل عن قرض، في أنه هل يملك المطالبة به؟

فإن قلنا: إنه يملك المطالبة به، صار كالمعين؛ فإنه لو قيل مثل ذلك في العين ملك المطالبة بها وجهاً واحداً.

وإن قلنا: لا يملك المطالبة بها، فلا تحالف، ويبقى العبد في يد البائع، يتصرف فيه، وأمَّا الجارية فينظر:

إن كانت في يد المشتري، فلا يجوز للبائع المطالبة بها؛ لأنه لا يدعيهاز

قال في "المرشد": إلَاّ أن يكون البائع لم يقر بقبض الثمن، فله المطالبة بها.

وإن كانت في يد البائع، فلا يجوز له التصرف فيها؛ لأنه معترفٌ بأنها للمشتري، [و] لكن ثمنها في ذمته، فيتلطف القاضي به، ويقول له:"قل: فسخت البيع إن كنت شريتها"، ويقول للبائع:" [قل]: قد قبلت الفسخ".

كما نصّ عليه الشافعيُّ، ويكفي ذلك.

قال في "الإشراف": وفي هذا النص إشكالٌ؛ لأن الفسخ معلق بالصفة، وتعليق الفسخ بالصفة لا يجوز، إلا أن الجواب عن هذا أن يقال: الفسخ معلق بصفة هي من ضرورة الفسخ؛ لأن الفسخ إنما يصح بعد الشراء فلا يضر هذا التعليق؛ كما لو قال: بعتك هذا إن شئت؛ فإن البيع ينعقد على أصح الوجهين؛ لأن المشيئة من ضرورة البيع، وقد حكى الغزالي في "الوكالة" فيما إذا اختلف الوكيل والموكل في الثمن المأذون في الشراء به أن الموكل لو قال للوكيل: إن كنت أذنت لك في الشراء

ص: 307

بكذا فقد بعتكه بكذا وجهين في الصحة، وأصحهما: الصحة، ويتجه جريان مثلهما هاهنا.

ولو أبى المشتري أن يقول ذلك قال الشافعيُّ: "فإن ذهب ذاهب إلى أنه يصير ملكاً للبائع بالجحود والحلف كان مذهباً"، وحكاه صاحب "الإشراف"، قولاً ولم يحك الجيلي سواه، ونفي غيره. وكانيتجه أن يجيء وجه آخر: أنه يحتاج إلى إنشاء الفسخ، ويجعل تعذر الثمن بهذا السبب كالتعذر بالفلس، كما سيأتي مثله في المسألة التالية لهذه.

وفي الرافعي: أنه لا يتعلق بثمنيهما فسخ ولا انفساخ، فعلىهذا يكون بمنزلة الظفر بغير جنس الحق، ويظهر تأكد قول الجواز هنا، بل القطع به؛ لأن مَنْ له الجارية لا يدعيها لنفسه، بخلاف ما إذا ظفر بغير جنس حقه وهذا مادة ما قاله أبو إسحاق في مسألة إنكار الموكل الإذن في الشراء بقدر معلوم، وقد اشترى الوكيل به؛ فإنه صار إلى ذلك فيه، ولو أقام البائع بينةً على ذلك قضى على المشتري بالثمن، وهل يجبر على قبض الجارية؟ فيه وجهان، وإن قلنا: لا يجبر؛ قبضها الحاكم، وحفظها إل أن يتكشف الحال، وله بيعها واستكسابها لأجل النفقة إذا رأى المصلحة في ذلك.

قال: "وإن قال: بعتك هذه الجارية –أي: بألف- وقال: بل زوجتنيها، حلف كل واحد منهما على نفي ما يدعي عليه" – أي: لا غير – لما تقدم، واستدل صاحب "التقريب" وقال:"من يدعي أنه باع، فهو يطالب بالثمن؛ فله التحليف على نفي الشراء، أمَّا من يدعي التزويج على الآخر، وهو قد قال: بعت، فقد أنكر ملك نفسه في الجارية، فلو أقرَّ لكان لا يقبل إقراره، فأي فائدة في تحليفه؟! " ثم قال: "إلَاّ أن ينبني على أن يمين الرد كالبينة؛ ففائدته النكول".

قال الغزالي: واستدراكه على وجهه.

وعلى الأول: إذا حلفا، رجعت الجارية إلى سيدها إن لم يكن قد استولدها، وعلى أي وجه ترجع؟ فيه وجهان:

ص: 308

أحدهما: أن ذلك بمنزلة الرجوع بسبب تعذر استيفاء الثمن بالفلس؛ فيحل له وطؤها، وسائر التصرفات فيها.

والثاني: ترجع إليه رجوع مال من عليه دين ولا يقضيه.

وعلى كلا الوجهين: لا مهر للسيد إن كان قد وطئها المشتري، ولو أحبلها السيد معترف بأنها أم ولد للواطئ، وأن ولده حرٌّ؛ فيلزمه حكم إقراره، وهل يرجع على الواطئ بأقل الأمرين من الثمن وصداقها، أو لايرجع بشيء؟ فيه وجهان في "التتمة" وغيرها.

وهل يحل لمن ادعى الزوجية وطؤها؟

قال الغزالي: ينظر: إن كان صادقاً حلّ له باطناً، وفي الظاهر وجهان:

وجه المنع: الاختلاف في الجهة.

ومنهم من شبهه بمن اشترى زوجته بشرط الخيار، وقد قال الشافعيّ: لا يطؤها في مدة الخيار؛ فإنه لا يدري أيطأ زوجته أو مملوكته، مع أنه كيفما كان فهو حلال.

قلت: التعليل باختلاف الجهة لا يحسن؛ فإنه إنما يجري فيما في الذمة، أمَّا في المعين فلا أثر له كما حكيناه عن "النهاية" من قبل، والجارية هاهنا معينة؛ فلا معنى لاختلاف الجهة فيها.

ويعضده أن الإمام في هذا الباب حكى أنه لو ملك جارية، وقطع بالملك فيها، وأشكل عليه فلم يدر انه اتهبها أو ورثها أو اشتراها فالوطء حلال بلا خلاف.

والتعليل الثاني أيضاً فيه نظر؛ لأن الشافعي حيث من من وطء الزوجة المشتراة في زمن الخيار، علله بأنه لا يدري أيطأ زوجته أو مملوكته، وهذا يدري أنه يطأ زوجته، وعلى تقدير أن يكون البائع صادقاً، فملك المشتري قوى يحل به الوطء، والله أعلم.

ولو أتت بولد فنفقته على الواطئ، ونفقة المستولدة على المستولد، إن قلنا: يحل

ص: 309

له وطؤها، وإن قلنا: لا يحل له، فوجهان:

أحدهما: أنها على البائع؛ إذ يقبل قوله في زوال ملكه، لا فيما على غيره، وهو سقوط النفقة.

والثاني: أنها تأكل من كسبها، فإن لم يكن فمن بيت المال.

وحكى العجلي عن "النهاية": أنه لا صائر إلى إيجابها على المستولد على وجه التحريم؛ لأنه لا يدعي الملك، ولم يثبت ملكه، ولا حلها لهن والحيلولة إذا وقعت على وجه لا ترتفع؛ فلا تتقاصر على النشور.

فرع: لو قال: بعتك هذه الجارية فقال: بل وهبتنيها [-فالذي حكاه القاضي حسين هنا والعراقيون في كتاب "العارية": أن القول قول المالك، وحكى الغزالي في كتاب "الهبة" في المسألة قولين:

أحدهما: أن القول قول الآخذ؛ لأنه وافقه صاحبه على الملك، ويعي عليه عوضاً الأصلُ عدمه.

والثاني: أنهما يتحالفان لتساويهما؛ إذ هذا يعارضه أن الرجوع في وجه الزوال إلى المزيل.

قال الإمام: وما أطلقه هذا القائل من التحالف ليس على قياس التحالف المذكور في اختلاف المتبايعين، بل يحلف كل واحد منهما على نفي ما يدعيه صاحبه، فإذا حلف المقبض على نفي الهبة، وحلف القابض على نفي الثمن، كان سبيل رد العين على المقبض – بعد إقراره بأنه قد ملك القابض العينَ – قريباً من استرداد المبيع ممن قبضه؛ تفريعاً على أن البائع مأمور بتسليم المبيع، أو لا إذا امتنع عن تأدية الثمن؟ ولعل الظاهر أنه يعود المسترد في مسألتنا بفسخ البيع، وإذا كان كذلك لم يتعرض له ولم يقل له: افسخ، أوْ لا إذا كان الفسخ مما ينفرد به؛ فيتول ذلك إلى الحكم الواقع بين العبد روبه.

ص: 310

وهذا حكمنا على الظاهر، ولا يخفى الحكم على الباطن].

وقال المتولي: [على طريقة الشيخ أبي حامد] لا يثبت التحالف، وعلى الصحيح من المذهب يثبت التحالف.

والعلة: أن كل واحد منهما يدعي انتقال الملك بجهة صحيحة غير الجهة التي يدعيها صاحبه، ولو قدرنا هذا الاختلاف حالة العقد امتنع الانعقاد؛ فصار كما لو اختلفا في قدر المبيع.

قال: "وإن اختلفا في شرط يفسد العقد" أي: إمَّا ثبوته كما إذا ادعى أحدهما أن العقد جرى بشرط خيار أربعة أيام، وقال الآخر: بل يومين، ونحو ذلك، وإمَّا نفيه، كما إذا ادعى أحدهام وقوع البيع بثمن مجهول، وقال الآخر: بل بثمن معلوم، ونحو ذلك على ما حكاه أبو الطيب.

قال: "فالقول قول من يدعي الشرط في أحد القولين"؛ لأن الأصل عدم العقد، ومدعي الفساد يدعي ما يمنع صحة العقد؛ فهو متمسك بالأصل، وهذا ما قال به صاحب "التقريب"، واختاره في "المرشد" و"التهذيب".

قال: والقول قول من ينكر ذلك في [القول] الآخر"؛ لأن الأصل في العقود والظاهر من حالها الصحة، وهذا ما رواه البويطي في "مختصره" فيمن أسلم إلى رجل في طعام واختلفا: فادّعى المسلَم إليه أنه شرط فيه الخيار، وأنكر المسلم ذلك، وبه جزم المحاملي في "المجموع" في المثال الثاني، واختاره ابن الصباغ.

وقال القفال: "القولان ينبنيان على القولني في تعقيب الإقرار بما يرفعه".

قال القاضي الحسين في "تعليقه": "وهذا يطرد إلَاّ في مسألة، وهي: إذا قال البائع: بعت بألف، وقال المشتري: اشتريت بزق خمر – فعلى مذهب من يبعّض الإقرار، لا يمكننا أن نجعل القول قول البائع، لكن الوجه أن يقال: يحبس المشتري حتى يبين ما يكون ثمناً.

وحكى المتولي في هذه الصورة أننا ننظر: فإن اتفقا على أن إيجاب البائع سبق،

ص: 311

فنحكم بصحة العقد؛ لأنه إذا سقط تسمية الخمر يبقى قوله: اشتريت، وهو مرتب على إيجاب البائع.

وإن اتفقا على ان لفظ المشتري سبق، فلا يصح العقد؛ لأن قوله: اشتريت، لا يوجب حكماً ما لم يكن معه ذكر ثمن.

وإن اختلفا في السابق منهما فالمسألة على وجهين:

أحدهما: القول قول من يدعي الصحة.

والثاني: القول قول من يدعي الفساد، وهذا فيه نظرٌ؛ لأن التفريع على أن القول قول مدعى الصحية.

وجوابه: أن القائل بهذا القول يوافق مدعي الفساد في هذه الصورة.

وروى القاضي أبو الطيب الخلاف في أصل المسألة وجهين عن حكاية الشيخ أبي علي في "الإفصاح"، ثم قال: وقد نص الشافعي على ما يدل عليهما، وهو إذا ادّعى الكفيل أنه يكفل بشرط الخيار ثلاثاً، وأنكر المكفول له ذلك – فإن فيمن المصدق منهما قولين، والوجهان يجريان فيما لو اختلفا [في التسليم] بعد التفرق: هل فسخ العقد قبله أو تفرقا عن تراض؟

قال: "وإن اختلفا في التسليم، فقال البائع" – أي: لملك نفسه -: لا أسلم المبيع حتى أقبض الثمن، وقال المشتري – أي: لنفسه -: "لا أسلم الثمن حتى أقبض المبيع" – أي: وكان الثمن في الذمة – "أجبر البائع على ظاهر المذهب"؛ لأن العقد يستقر به ويؤمن الانفساخ، والبائع يقدر على التصرف في الثمن قبل قبضه بالحوالة وغيرها، والمشتري لا يقدر على ذلك في المبيع إلَاّ بقبضه، فأجبر البائع عليه؛ ليتساويا فيه، ولأن المبيع معين، والثمن غير معين، وما تعلق بالأعيان احق بالتقديم مما يثبت في الذمم كالرهن في أموال المفلس، وهذا هو الأصح، وبه جزم بعضهم، ووراءه قولان، وآخر مخرج من نصه في الصداق.

فأحد القولين: أنهما يجبران؛ لأنَّ كل واحد منهما قد استحق القبض على صاحبه، فأجبر كل واحد منهما على إياء صاحبه حقَّهُ، فعلى هذا يأمرهما الحاكم

ص: 312

بإحضار المبيع والثمن، إذا أمكن إحضارهام، وسلم لكل منهما ما يستحقه، ولا يبالي بأيهما بدأ، أو يأمرهما أن يسلما ذلك إلى عدل، فيفعل مثل ذلك، وجعلالماوردي الثاني مع الأول قولين، ولم أفهم لهذا الاختلاف معنى، ولا جرم أن حكى عن أبي إسحاق أنهما حالة واحدة، واستضعفه، وقال: الأكثرون على أنهما قولان.

والثاني: لا يجبران، بل أيهما بدأ بالتسليم أجبر الآخر عليهن ويمنعان من التخاصم؛ لأن كل واحد منهما قد وجب عليه حق بإزاء حق له؛ فلم يجبر على إبقاء ما عليه دون ما لَهُ.

والقول المخرّج: أن المشتري يجبر؛ لأن حقه متعين في المبيع، وحق البائع غير متعين في الثمن؛ فيؤمر بالتعيين للتساوي.

أمَّا إذا كان الثمن معيناً، فلا يجيء إلا قول الإجبار وعدمه، صرح به المحاملي والإمام والبغوي وغيرهم. وفي كلام الرافعي ما يدل على انه لا يسقط في هذه الصورة من الأقوال الأربعة إلَاّ المخرج؛ فإنه قال: إذا اكنت الصورة كما ذكرناه يسقط القول الثالث، وإن تبايعا عرضاً بعرض سقط الرابع أيضاً؛ فيبقى قولان.

ولا وجه لما قاله، ثم كلامه فيما إذا تبايعا عرضاً بعرض، إنما يتجه إذا قلنا: لا ثمن إلا النقدين، أما إذا قلنا: الثمن ما اتصل به باء الثَمَيِنَّةَ، فيكون كالنقد نائباً عن الغير [أو للغير في المبيع حق كالمرتهن وغرماء المفلس، فلا يجيء ظاهر المذهب، ولا أنهما لا يجبران.

وقد حكى عن أبي الحسين بن القطان في بيع مال المفلس أنه يجبر المشتري بلا خلاف.

وحكى الماوردي أن قول إجبار البائع يجيء فيه أيضاً عن رأي البغداديين من أصحابنا كما حكاه في كتاب "التفليس".

ص: 313

وإذا كان المشتري نائباً عن الغير] فلا يجيء القول المخرج، [ولا قول عدم إجبارهما]، ولو كانا نائبين فلايجيء إلَاّ قول الإجبار، صرح به الإمام في كتاب "الفلس"، [ويجيء فيها ما حكاه الماوردي أيضاً].

قال: "فإن كان الثمن حاضراً – أي: في المجلس – "أجبر المشتري على تسليمه"-أي: بعد تسليمه المبيع؛ لأنه مستحقٌّ عليه، ولا مانع منه، فلو أصر على الامتناع [فهل يثبت للبائع فسخ البيع؟ فيه وجهان.

أصحهما في "الإشراف": أنه لا يثبت، [وجعله الإمام في كتاب "الفلس" ظاهر المذهب].

واعلم أن مراد الشيخ بحضور الثمن: حضور نوعه؛ لأنّ هذا تفريعٌ على إجبار البائع على ظاهر المذهب، وقد ذكرنا أن محله إذا كان الثمن في الذمة، وإذا كان كذلك تعين ما ذكرناه.

قال: وإن لم يكن حاضراً، ولكنه معه في البلد، حجر على المشتري في السلعة وجميع ماله حتى يحضر الثمن؛ كي لا يتصرف في أملاكه التي يجب الوفاء منها بما يفوت حق البائع. وهذا حجر غريب رآه الشافعي.

وفي "الوسيط" حكاية وجه: أنه لا يحجر عليه، بل يمهل إلى أن يأتي بالثمن.

ال الرافعي: ولم أر لغيره نقل هذا الوجه على الإطلاق.

قلت: الغزالي لم يطلقه، بل حكاه فيما إذا كان غنيًّا بعد أن حكى أنه إذا تحقق إفلاسه، ولم يكن معه سوى المبيع، أو كان وزادت الديون عليه؛ فتعين أن مراده بالغنى من ساوى مالُهُ ديونه، أو زاد عليها، وإذا كان كذلك فهذا الوجه منقول في "النهاية" عن رواية الشيخ أبي محمد، وبه جزم القاضي الحسين في "التعليق"، وقائله يراعي فيه قياس حجر الفلس [حتى لو كان ماله لا يفي بما عليه إلَاّ بالمبيع أو بعضه، فهل يحجر عليه؟ فيه خلاف كما في المفلس،] وإذا حجر عليه كان للبائع الفسخ.

نعم، في "التهذيب": أنه يحجر عليه في المبيع، وفيما عدا المبيع لا حجر إذا كان

ص: 314

ماله مع المبيع يفي بما عليه، وإلا فيحجر عليه فيه أيضاً.

قال:"وإن كان في بلد آخر بيعت السلعة في الثمن" – أي: ولا يثبت للبائع خيار؛ لأنه يمكن إبقاء حقه، فإذا بيعت وازد ثمنها على حقه كان الفاضل للمشتري.

تنبيه: قد يفهم من كلام الشيخ أنه لا يححر عليه في هذه الحالة، وليس كذلك؛ فإنه إذا حجر عليه في حضور المال في البلد، وقرب مسافة الحضور، فمع البعد أولى، ولفظ الشافعيّ دالٌ عليه؛ فإنه قال: فإن غاب ماله أشهد على وقف ماله وعلى قف السلعة، فإذا دفع أطلق [عنه الوقف.

وإطلاق الشيخ هذا الحكم يقتضي أنه لا فرق في البلد الآخر أن يكون على مسافة القصر أو دونها، وهو وجهٌ ينتظم من مجموع كلام الأصحاب، على ما سنذكره.

ويظهر أن الحامل للشيخ على ترجيحه ما حكاه البندنيجي والبغوي فيما إذا باع عبداً وهرب المشتري قبل قبضه، ولم يكن المشتري محجوراً عليه بفلس، ولا مال له في البلد -: أن الحاكم يبيع العبد، فإن كان ثمنه مثل الثمن الأول وفّاه للبائع، وإن كان أكثر فالفاضل للمشتري، وإن كان أقل بقى الباقي على المشتري.

وإطلاق الأصحاب ذلك يدل على أنه لا فرق بين أن يكون هربه إلى موضع قريب أو بعيد، وإذا كان كذلك في ال غيبة الغريم، فحضوره لا يظهر أن له تأثيراً في تغيير هذا الحكم بثبوت حق الفسخ، على أن في "الشامل" في كتاب "النفقات": أن الأصحاب قالوا في هذه الصورة: للبائع الفسخ.

وقريب منه ما حكاه المتولي في كتاب "الفلس"، فيما إذا اشترى عيناً وأقبض الثمن، ثم هرب البائع أو امتنع من إقباضه: أن للمشتري الفسخ على وجه، والذي حكاه الأصحاب في مسألة الكتاب أنَّ ننظر: إن كان بين البلدين مسافة القصر فوجهان حكاهما المحاملي وغيره:

أحدهما: ما ذكره وهو الأصح في "التهذيب".

ص: 315

وأظهرهما عند الأكثرين، وبه جزم أبو الطيب والبندنيجي: أن له أن يفسخ البيع؛ لتعذر تحصيل الثمن، كما لو أفلس بالثمن، فإن فسخ فذاك، وإن صبر إلى الإحضار فالحجر كما سبق.

قال الرافعي عقيب هذا الكلام: وحكى الإمام عن ابن سريج أنه لا يفسخ، ولكن يرد المبيع إلى البائع، ويحجر على المشتري؛ ويمهل إلى الإحضار.

وادّعى في "الوسيط" أن الصحيح وإن كان بينهما دون مسافة القصر، فهو كما لو كان في البلد، أما لو كان على مسافة القصر، ففيه وجهان.

هذا آخر كلامه، ومقتضاه: أن خلاف ابن سريج فيما إذا كان المال في مسافة القصر، والذي رأيته فيما وقفت عليه من "النهاية" أنَّ ابن سريج قال: إن كان ماله في البلد غائباً عن المجلس فيمهل المشتري إلى تحصيل الثمن، ولا يحجر عليه، ويرد المبيع إلى البائع إلى أن يتوفر عليه الثمن.

وإذا انتهى الأمر إلى الامتناع إلى الوصول إلى الثمن بغيبة شاسعة يعد مثلها امتناعاً ثبت له الفسخ.

ص: 316

ويقرب مما قاله ابن سريج من بعض الوجوه ما حكاه الماوردي، حيث قال: إن كان بينهما أقل من يوم وليلة، فهو في حكم الحاضر، وإن كان بينهما ثلاثة أيام فصاعداً فلا يلزم انتظار ماله؛ لبعده عنه، وأنه في حكم المعسر والحكم في المعسر – كما حكاه غيره – أنَّ له الفسخ على المنصوص.

وقيل: تباع السلعة في الثمن، وإن كان بينهما أكثر من يوم وليلة وأقل من ثلاثة أيام فعلى وجهين:

أحدهما: حكم ما دون اليوم والليلة.

والثاني: حكمه حكم الثلاث فما فوقها.

فعلى هذا: هل له الفسخ أو تباع السلعة [فيه] في الثمن؟ فيه وجهان.

وحكم الاختلاف الجاري بين المكري والمكنزي في الباية بالتسليم حكم البائع والمشتري فيما ذكرناه.

ولو بدأ المشتري بتسليم الثمن أجبر البائع على تسليم المبيع، فلو كان عبداً وقد أبق في يد البائع، ولم يتمكن من رده – لم يسترد الثمن، وللمشتري الخيار.

وفي "تعليق" القاضي الحسين حكاية وجه: أن له استرداد الثمن قبل فسخ العقد.

ووجه آخر: إن تسلم الثمن بأن وقع بعد الإباق لم يستحق رده؛ لأن التسليم كان واجباً.

واعلم أن الرافعيَّ ذكر هاهنا مهمًّا لابد من ذكره، وهو أنَّ طائفة توهمت أن الخلاف في البداية في التسليم خلاف في أن البائع: هل له حق الحبس أم لا؟

فإن قلنا: البداية بالبائع، فليس له حبس المبيع إلى استيفاء الثمن، وإلا فله ذلك،

ص: 317

ونازع الأكثرون فيه، وقالوا: هذا الخلاف مفروض فيما إذا تنازعا في مجرد البداية، وكان كل واحد يبذل ما عليه، ولا يخاف فوت طعن صاحبه، فأمَّا إذا لم يبذل البائع المبيع، وأراد حبسه، خوفاً من تعذر تحصيل الثمن، فله ذلك بلا خلاف، وكذلك للمشتري حق حبس الثمن؛ خوفاً من تعذر تحصيل المبيع، نصّ على ذلك الشيخ أبو حامد، وأقضى القضاة الماوردي قال: ما قاله الأولون، هو ما أشار إليه الإمام في كتاب الرهن عقيب الكلام في رهن المبيع بثمنه، والغزالي في مواضع منها عند الكلام في انفساخ العقد قبل القبض: هل يكون من أصله، أو من حينه وهو الذي يقتضيه إطلاق الأئمة الذي نقل عنهم؛ فإنهم فصلوا بعد إجبار البائع علىتسلمي المبيع بين أن يكون الثمن حاضراً في المجلس، أو غائباً عنه في البلد أو بلد آخر، ولو كانت الصورة يما إذا بذل كل واحد منهما ما عليه لم تعقل غيبة الثمن عن املجلس أو البلد؛ إذ لا بذل إلا مع الحضور، اللهم إلَاّ أن تحمل هذه الصورة على ما إذا أظهر البذل، ثم ظهر أنه لا شيء معه.

ويؤيد ذلك أن] القاضي الحسين في "التعليق" حكى أنه إذا لم يكن ماله في البلد لم يجبر البائع على التسليم، وإن كان له مال غائب خصوصاً إذا كان منهما على مسافة القصر، بل لا يجب على البائع الإنظار وله الفسخ، وإن كان دون مسافة القصر فوجهان، والله أعلم.

وحيث تكلمنا في حق الحبس فنكمل ما قيل يه؛ إذ هذا محله، فنقول: ليس للبائع حق الحبس إذا كان الثمن مؤجلاً، ولو حلَّ قبل التسليم؛ إذ العقد لا يقتضيه، وقيل: إنه له حق الحبس إذا حل قبل التسليم، حكاه القاضي أبو الطيب في كتاب "الصداق" عن رواية المزني في "المنثور".

ولو تبرع البائع بالتسليم عند حلول الثمن، فليس له رده إلى حبسه.

وكذا لو أعاره من المشتري في أصح الوجهين.

ولو أودعه إياه قال الرافعيُّ: لم يبطل حق الحبس.

وفي "النهاية" في باب "الرهن" و"الحميل": أن في بطلانه وجهين مرتبين على

ص: 318

الوجهين في العارية.

ومنهم من يقول: الإيداع أولى بالبطلان من جهة أنه يبعد أنا يحفظ المالك ملكه لغيره.

ومنهم من جعل ايداع أولى بألا يبطل؛ فإنه ليس فيه تسليط أصلاً، وفي الإعارة تسليطٌ.

ولو وجدنا المبيع في يد المشتري قبل توفية الثمن الحال، فقال البائع: غصبته، وقال المشتري: بل سلمته إليَّ - فالقول قول البائع، على الأصح.

ولو قال البائع: أعرتكه أو أودعتكه، وقلنا: لا يبطل حق الحبس بذلك، وقال المشتري: بل سلمته إليَّ - فَمَنِ المصدق منهما؟ فيه وجهان، كما في نظيره في الرهن إذا ادّعى المرتهن أن الراهن أقبضه العين عن جهة الرهن، وقال: بل عارية أو وديعة، حكاه الإمام في كتاب الرهن أيضاً.

ولو سلم إليه بعض الثمن، فهل يجب عليه تسليم بعض المبيع؟ نظر: إن كان مما لا ينقسم فلا، وإن كان مماي نقسم كالحنطة - مثلاً - فوجهان:

أظهرهما: لا، هكذا حكاه الغزالي، [وجعل الإمام في كتاب الرهن مقابله رديئاً غير معتد به]، وأطلق الماوردي حكاية الوهين عن ابن سريج من غير تفصيل.

وهل يستكسب المبيع في يد البائع لحق المشتري كما يستكسب المرهون في يد المرتهن لحق الراهن؟ فيه وجهان في "النهاية" في باب "الزيادةفي الرهن"].

ولو باع ثوباً بدينار في الذمة، وقبض ديناراً عنه، وسلم الثوب، ثم خرج الدينار زيوفاً - رده عليه، ويعود حقه في الحبس.

ولو أخرج رديء الجوهر بحيث لو رضي به جاز ورد عليه، فهل يعود حق الحبس؟ يه وجهان ينبنيان على القولين في جواز الاستبدال في مسألة الصرف على النعت الذي ذكرناه، كذا قال القاضي الحسين في "باب بيع الطعام قبل أن يستوفي".

ولو أتلف البائع المبيع قبل القبض أو المشتري أو أجنبي، فهل يبطل حق الحبس؟ قد تقدم الكلام فيه في أول البيع، وهل للبائع حبس زوائد المبيع؟ قال الغزالي في

ص: 319

"الوسيط" عند الكلام في حقيقة الرد: "والفسخ إن قلنا: إنها تنقلب بالفسخ إلى البائع فله حبسها للثمن إذا قلنا: له حبس المبيع؛ لأنه يتوقع التعلق بها، وإن قلنا: يسلم للمشتري، فليس له حق الحبس"، وفيما قاله نظرٌ؛ لأن الزوائد الحادثة بعد العقد لم يقتض العقد حبسها للثمن، كما قلنا فيما إذا كان الثمن مؤجلاً، ثم حلّ قبل التسليم، وقد صرح الإمام بذلك، بل حبسها على ما اقتضاه التفريع؛ لجواز اكونها تسلم له، فيكون صواب الكلام: فإن قلنا: إنها تنقلب بالفسخ إلى البائع، فله حبسها، لا لأجل الثمن.

ولو اشترى بوكالة اثنين شيئاً، ووفى نصف الثمن عن أحدهما-لم يجب على البائع تسليم النصف؛ بناءً على أن الاعتبار بالعاقد.

ولو باع بوكالة اثنين، فإذا أخذ نصيب أحدهما من الثمن فعليه تسليم النصف، هكذا ذكره في "التهذيب".

قال الرافعيُّ: وفيه كلامان:

أحدهما: أن العبد المشترك بين رجلين إذا باعاه، ففي انفراد أحدهما بأخذ نصيبه من الثمن وجهان، فأخذ الوكيل لأحدهما بمنزلة أخذ الموكل نفسه.

قلت: ويؤيده حكاة وجه مثله يأتي في نظير المسألة في الرهن.

والثاني: أنَّا إذا قلنا: الاعتبار في تعدد الصفقة واتحادها بالعاقد، فينبغي أن يكون تسليم النصف على الخلاف فيما إذا أخذ البائع بعض الثمن، والله أعلم.

ص: 320