المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌باب الربا "الربا" مقصور، وهو من: ربا يربو، فيكتب بالألف، وقد - كفاية النبيه في شرح التنبيه - جـ ٩

[ابن الرفعة]

الفصل: ‌ ‌باب الربا "الربا" مقصور، وهو من: ربا يربو، فيكتب بالألف، وقد

‌باب الربا

"الربا" مقصور، وهو من: ربا يربو، فيكتب بالألف، وقد كتبت في المصحف بالواو، فأنت مخير إذن في كَتُبِهِ بالألف، والواو، والياء، قال أهل الغلة:"والرَّماء بالميم والمد: الربا، والرُّبية - بالضم والتخفيف -: لغة في "الربا"، وأصل "الربا" في اللغة: الزيادة، قال تعالى: - فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [الحج: 5] أي: زادت ونمت. وقال تعالى: - يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276] أي: يضاعف ما يريد منها؛ ومنه قولهم: ربا الشيء: إذا زاد، ومنه قولهم: أربى فلان على فلان: إذا زاد عليه، وقولهم للمرتفع من الأرض: ربوة؛ لزيادته على ما جاوره.

وهو في الشرع: الزيادة في الذهب، والفضة، وسائر المطعومات.

وينقسم إلى ثلاثة أنواع:

ربا الفضل: وهو زيادة أحد العوضين على الآخر في القدر إذا كانا من جنس واحد.

ربا النسيئة: وهو أن يبيع مالاً بمالٍ نسيئة، سواء كان من جنسه أو من [جنس

ص: 124

غيره] – على ما سنذكره من بعد – وسُمِّي به لاختصاص أحد العوضين بزيادة الحلول.

والثالث: ربا اليد، وهو أن يقبض أحد العوضين دون الآخر.

وزاد في "التتمة" رابعاً: وهو ربا القرض، وبشرط جرِّ منفعة، قال ابن عمر:"كُلُّ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعةً، فَهُوَ وَجْهٌ مِنْ وُجُوهِ الرِّبَا".

والأصل في تحريمه – قبل الإجماع – من الكتاب آيات:

منها: - وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، وقوله تعالى: - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا} [البقرة: 278] وهي آخر آية نزلت في القرآن.

ومن السنة أخبار منها: ما روى الترمذي عن ابن مسعود أنه قال: "لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَهُ وَكَاتِبَهُ".

وروى مسلم عن جابر نحوه، وزاد: وقال: "هُمْ سَوَاءٌ".

وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عدَّ من الكبائر أكل الربا.

وقد قيل: إن الله تعالى ما أحلّ الربا [ولا الزنى] في شريعة قط، وهو معنى قوله

ص: 125

تعالى: - وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء:161] يعني: في الكتب السالفة.

وقد اختلف أصحابنا فيما جاء به الكتاب من تحريم الربا: هل هو مجمَل فسّرته السُّنَّة؟ أو يتناول معهود الجاهلية من ربا النسيئة وطلب الفضل بزيادة الأجل؟ على وجهين، والأخير اختيار أبي حامد المروزي.

قال: "ولا يحرم الربا إلَاّ في الذهب والفضة والمأكول والمشروب".

أمَّا التحريم في هذه الأشياء فالأصل فيه ما روى الشافعي بإسناده عن مسلم بن يسار ورجل آخر عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ، وَلَا الوَرِقَ بالوَرِقِ، وَلَا البُرَّ بالبُرِّ، وَلَا الشَّعِيرَ بِالشَّعِير، وَلَا التَّمْرَ بالتَّمر، وَلَا المِلْحَ بالمِلْح، إِلَاّ سَواءً بسَوَاءٍ، عَيْناً بِعَين، يَداً بيَدٍ، وَلَكن بِيعُوا الذَّهَبَ بِالْوَرِقِ، وَالوَرِقَ بِالذَّهَبِ، وَالبُرَّ بِالشَّعِيرِ، وَالشَّعِيرَ بِالبُرِّ، وَالتَّمْرَ بِالْمِلْحِ، وَالْمِلْحَ بِالتَّمْرِ كَيْفَ شِئْتُمْ".

قال: ونقص أحدهما: "التمر" أو "الملح"، وزاد الآخر:"فَمَنْ زَادَ، أَوِ اسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى"[انتهى]؛ فثبت التحريم في هذه الستة بالنص، وقسنا ما عدا الأربعة من المطعومات والمشروبات عليها؛ لما اشتركوا فيه من الطعم؛ إذ هو العلة فيها على ما سنذكره.

وصار القاضي أبو الطيب في تعليقه إلى أن عموم الألف واللام في قوله – عليه السلام: "لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ إِلَاّ مِثْلاً بِمِثْلٍ" متعينٍ القياس؛ لأنه عمم الحكم في كل مطعوم لفظاً. واختاره الإمام في الأساليب.

وأمَّا عدم تحريم الربا فيما عدا ذلك فهو ثابت فيما إذا اختلف الجنس بإجماع الأئمة – كما حكاه المحاملي – وإذا اتحد الجنس فقد قال أبو حنيفة بتحريم النَّساء من أي جنس كان.

ودليلنا عليه: ما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أجهز جشاً وليس عندنا ظهر، فابتعت البعير بالبعيرين وبالأبعرة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم

ص: 126

إلى خروج المُصَدِّقِ" خرَّج أبو داود معناه.

وروى أن عليَّ بن أبي طالب باع جملاً يُدعى "عصيفراً" بعشرين بعيراً إلى أجل. ولم يعرف لهما مخالف؛ فكان إجماعاً.

وأما من جهة القياس؛ فلأنهما عوضان، لا يحرم التفاضل في كل واحد منهما؛ فلا يحرم فيهام النَّساء؛ كما لو باع ثوباً من قطن بثوب من إبريسم، أو ثوباً هروياً بثوب مروي إلى أجل.

ثم الرجل الآخر الذي روى عنه الشافعي، قال بعض الشارحين: "هو عبد الله بن

ص: 127

عبيد الله بن هرمز".

وفي "الحاوي" أنه الأشعث الصنعَانيّ، وقد اختلف في قوله:"فمن زاد أو استزاد" على وجهين:

أحدهما: أن هذا شكٌ [آخرُ] من الشافعي.

والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم تلفظ بهما جميعاً، وأراد بقوله:"زاد": أعطى الزيادة، و [بقوله]:"استزاد": أخذ الزيادة [أو طلبها].

قال: "فأمَّا الذهب والفضة فإنه يحرم فيهما الربا لعلة واحدة وهي أنهما قيم الأشياء" أراد الشيخ بذلك التنبيه على مذهب أبي حنيفة وأحمد؛ فإن عندهما العلة فيهما كونهما موزونين من جنس واحد، فعدياها إلى الرصاص، والنحاس، والحديد، والقطن، والصوف، والكتان، وجميع ما يوزن في العادة.

ووجه ما ذكرناه: أن الذهب والفضة يجوز إسلامهما في جميع الموزونات، فلو كانت العلة فيهما وفي سائر الموزونات واحدة لم يجز إسلامهما في ذلك؛ لأن كل شيئين جمعتهما علة واحدة في الربا لا يجوز إسلام أحدهما في الآخر [كإسلام] الذهب [في الفضة] والعكس؛ والبر في الشعير والعكس؛ فدلّ على أن غيرهما لم يشاركهما في العلة.

واعلم أن القاضي أبا الطيب [اعترض على من جعل العلة في الذهب والفضة كونهما قيم الأشياء وقيم المتلفات، بأن غير المضروب من الذهب والفضة ليس بقيمة للأشياء، ولا ثمناً لها، والربا يجري فيهما، والعبارة الصحيحة: كونهما جنس الأثمان غالباً، وكأنه أراد بقوله:"غالباً" الاحتراز عن الفلوس إذا راجعت؛ فإنه لا ربا فيها عند العراقيين، وقد أجرى الغزالي فيها وجهاً.

قال: "وأمَّا المأكول والمشروب إنه يحرم فيهما الربا لعلة واحدة، وهو أنَّه مطعوم"، والدليل عليه: ما روى معمر بن عبد الله: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ إلَاّ مثلاً بمثلٍ"، فعلق المنع على الطعام، وهو اسم مشتق، وتعليق الحكم

ص: 128

على الاسم المشتق يدلُّ على التعليل [بما فيه من الاشتقاق] كقوله تعالى: - الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور: 2]- وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} [المائدة: 38]- إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] فإنه يدل على تعليل الجلد بالزنى، والقطع بالسرقة، والتثبُّت لأجل الفسق، كذلك هاهنا [يدل على التعليل بالطعم]؛ ولأن الحكم يوجد بوجود هذه العلة، ويزول بزوالها؛ ولذلك فإن الحبَّ يجري فيه الربا وهو مأكول، فإذا زرع صار قصيلاً غير مطعوم لم يكن فيه ربا، فإذا أَعْقَدَ الحبُّ فيه صار مطعوماً؛ فجرى فيه الربا، والدوران يفيد العِلِّية.

فإن قيل: لا نسلم أنه مشتق، ولا نسلم الاكتفاء في التعليل بمجرد التعليق على المشتق بدون المناسبة، وما ذكرتموه من الدوران فذلك لكونه مكيلاً في حال كونه حبًّا، فإذا صار قصيلاً لم يكن مكيلاً، فإذا انعقد الحبُّ صار مكيلاً فاندفع ما ذكرتموه.

قيل: أمَّا الاشتقاق فظاهر؛ فإنه يصح إطلاقه على كل مستطعم، بدليل قوله تعالى: - كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [آل عمران: 93] يعني: كل مطعوم. وقوله: - فَلْيَنْظُرْ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} [عبس: 24] ثم فسره بقوله: - فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً *وَعِنَباً) [عبس: 27، 28] إلى غير ذلك، وقوله: - وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] أي: ذبائحهم، وقال –عليه السلام – في "ماء زمزم":"إِنَّهُ طَعَامُ طُعْمٍ وَشِفَاءُ سُقْمٍ"، وقالت عائشة:"مَكَثْنَا دَهْراً مَا لَنَا طَعَامٌ إِلَاّ الأسْوَدَانِ التَّمْرُ والماءُ".

وأمَّا اشتراط المناسبة في الوصف المشتق المعلق عليه الحكم، فالجمهور على أن المناسب ليست بشرط، ومن زعم أنها شرط – كما صار إليه الإمام – فيجاب بأن وجه المناسبة حاصل؛ لأن الله تعالى قال: - وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] والعبادة متوقفة على البقاء، والبقاء متوقف على ما جعله الله سبباً له، وهو بتناول المأكول والمشروب، وفي تضييق باب الاتجار فيهما إظهار شرفهما

ص: 129

وتيسرهما، وهذا المعنى جارٍ في كل مطعوم، وهو جار في جوهري الأثمان اللذيْن يتوصل بهما إلى ذلك غالباً، وإلى سائر الحاجات، وهذا مناسبَ اقترن الحكم به؛ فيغلب على الظن أنه العلة، ولا يقال: "وجب أن يختص بالأقوات لشدة الحاجة إليها؛ لأنه – عليه السلام – نصَّ على أصناف مختلفة المقاصد، مع الاشتراك في أنها مطعومة؛ فدلّ على التعليل بالقدر المشترك فيها، فنصَّ على البر والشعير، والمقصود منهما القوت، فأُلحق بهما ما في معناهما كالأرز والذرة وغيرهما، ونصّ على التمر، والمقصود منه التأدُّم والتفكه، وقد يؤكل قوتاً؛ فالتحق به ما في معناه وهو الزبيب والبر وغيرهما، ونص على الملح، والمقصود منه الإصلاح؛ فالتحق به كلُّ ما يحتاج إليه من المطعومات للتداوي [والإصلاح].

وأمَّا قولهم: "إن الحبَّ إذا عقد صار مكيلاً فممنوع؛ لأنه ما دام في سنبله فليس بمكيل، وإنما يقف كيله على يبسه وحصاده ودَوْسه، وتلك صفة ليست بموجودة في الحال؛ فتقرر ما ذكرناه، وهو المذهب الجديد.

وفي القديم أن العلة مع الطعم التقدير في الجنس بالكيل أو الوزن؛ فلا يجري الربا فيما لا يوزن ولا يكال من المطعومان: كالسفرجل، والرمان، والبيض، والجوز، والأترج، والنارنج، وغير ذلك، ولو جفف منه شيء على ندور وجرى فيه الوزن، فكذلك الحكم عند القفال على ما حكاه الإمام – والد الإمام – قال الإمام: والظاهر (بخلاف هذا)، وقد أفسد القديم بما روى "أنه – عليه السلام – نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ إلَاّ مِثْلاً بِمِثْلٍ" ولم يفرق بين المطعوم المكيل والموزون والمعدود؛ فهو على عمومه، وعن القديم احترز الشيخ بقوله:"لعلة واحدة"، [وبقوله:] "وهو أنه مطعوم" عما حكى عن الأودني من أصحابنا أن العلةَ الجنسيّةُ لا غير، حتى لا يجوز بيع مال بجنسه متفاضلاً.

وقد اختلف الأصحاب على الجديد في مسائل، وهي: الماء، والأدهان المطيبة، وبزر الجزر، والبصل، والفجر، والسلجم، وكذا القرطم، وكذا حب الكتان ودهنه

ص: 130

- إن قلنا بجريانه في حبه – ودهن السمك – وصغار السمك – إن قلنا: يحل تناوله – والزعفران، قال مجل: ولا أعر بجريانه في الزعفران وجهاً إلا كونه يطيب به الطعام، فيلتحق بالملح، وهذا يلزم عليه غيره من الطيب كالمسك والكافور وغيرهما، وقد أجرى الخلاف أيضاً في ماء الورد، والسقمونيا، والصمغ، والزنجبيل، والمصطكي، والطين الذي يؤكل تفكهاً وسفهاً، كالطين الخراساني دون الأرمني، والمختوم؛ فإنه دواء، فيجري فيه الربا وجهاً واحداً. وقيل بجريان الخلاف فيه أيضاً، حكاه ابن التلمساني.

ويجري – أيضاً – في كل ما لم يكن أصله مأكولاً من الأدهان، وهو في نفسه مأكول كدهن الخروع وحب القرع، كما حكاه الماوردي، واختيار ابن [أبي] عصرون جريان الربا في الأدهان المطيبة ودهن السمك وبزر الكتان وغيره، وأنه لا يجري في الماء والطين الذي يؤكل سفهاً، والصحيح عند غيره جريان الربا في الماء إذا قلنا بصحة بيعه والزعفران والسقمونيا والمصطحي، والسمك الصغير، وأنه لا يجري في [دهن البزر.

وحكى الإمام عن العراقيين القطع به، وكذلك لا يجري في] ودك السمك المعدِّ للاستصباح وطلي السفن، ثم قال:"ويظهر في هذا جعله مال ربا؛ فإنه جزء من السمك"، ورجح في السمك الصغير القول بعدم جريان الربا فيه؛ لأنه لا يعد للأكل.

ولا نزاع في أنه يجري فيما عدا هذه الأشياء من الفواكه والحبوب والبقول والتوابل، وفيما يؤكل نادراً كالبلوط، وفيما لا يؤكل إلا مع غيره، قال في "التتمة":"ولا يجري في أطراف قضبان الكرم وإن كان يؤكل"، وكذلك لا يجري فيما هو مأكول للبهائم كالحشيش والتبن وغيرهما، ولو كان مما يأكله الآدميون والبهائم فالمعتبر فيه أغلب الحالين من أكل الآدميين والبهائم. ولو استوت حالتاه فكان اكل البهائم له كأكل الآدميين، قال الماوردي: قد اختلف أصحابنا فيه على وجهين:

أحدهما – وهو الصحيح -:جريان الربا فيه.

والثاني: لا ربا فيه؛ لأن الصفة لم تخلص.

ص: 131

قال: فمتى باع شيئاً من ذلك بجنسه حرم فيه التفاضل"؛ لقوله عليه السلام: "سَوَاءً بِسَوَاءٍ".

وأمَّا قوله عليه السلام:"إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ" فقد قال الشافعيُّ: "إنه جواب من النبي صلى الله عليه وسلم لسائل سأله عن التفاضل في جنسين مختلفين، فنقل الراوي جوابه عليه السلام -وأغفل سؤال السائل.

قال: "والنَّساء"؛ لقوله عليه السلام عَيْناً بِعَيْنٍ، والمعنى: بالعين الحاضرة، ويلزم ذلك الحلول؛ لأن النَّساء هو الأجل، والأجل إنما يثبت إذا كان في الذمة، والعين ليست في الذمة، وكل معين لا أجل فيه فيلزم من اشتراط التعيين والحضور نفي الأجل - وهو الحلول - ومما يدلُّ على ذلك قوله عليه السلام في إبدال الدراهم بالدنانير وبالعكس:"لَابَاسَ إِذَا تَفَرَّقْتُمَا وَلَيْسَ بَيْنَكُمَا شَيْء" والأجل يبقى

ص: 132

عُلْقةً بعد التفرق، والنساء – بالمد – التأجيل.

قال: "والتفرق قبل التقابض"؛ لقوله – عليه السلام: "يَداً بِيَدٍ"، ولا فرق بين النقدين بين المصوغ منهما وغير المصوغ، ولا بين التبر وغيره، ويدل عليه قوله – عليه السلام:"الذَّهبُ بِالذَّهَبِ تِبْرُهَا وَعَْنُهَا، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ تِبْرُهَا وَعَيْنُهَا". أخرجه أبو داود عن عبادة.

وروى الشافعي في القديم عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء [بن يسار] أن معاوية باع سقاية من ذهب أو وَرِقٍ بأكثر من وزنها، فاقل أبو الدرداء:"سمعت النبي صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ مِثْلِ هَذَا، إِلَاّ مِثْلاً بِمِثْلٍ"، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: مَا أَرَى بِهَذَا بَاساً، فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: مَنْ يَعْذُرُنِي مِنْ هَذَا؟! أُخْبِرُهُ عَنْ النَّبي صلى الله عليه وسلم وَيُخْبِرُنِي عَنْ رَايِهِّ، قدم على عمر فأخبره بذلك، فَكَتَب عُمَرُ إلَى مُعَاوِيَةَ:"ألا لَا تَبِعْ ذَلِكَ إِلَاّ وَزْناً بِوَزْنٍ مِثْلاً بِمِثْلٍ".

ولا فرق – فيما ذكرنا – بين أن يكون العقد وارداً على العين أو الذمة، وإن كان ظاهر الخبر قد يمنع إذا ورد العقد على ما في الذمة؛ لأنهما [إذا] عينا في المجلس صار عيناً بعين، كما إذا تقابضا في المجلس كان يداً بيد.

وفي "الرافعي" في كتاب "السلَم" حكاية وجه: أنه لا يجوز بيع الطعام بالطعام في الذمة، ويقوم مقامَ قبض العاقد قبضُ وكيله بحضرته في المجلس، وكذا وارثه إن قلنا: إن خيار المجلس لا يبطل بالموت، دون ما إذا فارق الموكل المجلس قبل القبض، أو قلنا: ببطلان خيار المجلس بالموت؛ فإنه يبطل العقد. قاله الإمام في آخر "الوكالة" والماوردي هنا.

ولو أحال أحدهما على صاحبه بما وجب له عليه، فإن قبض في المجلس جاز، إن قلنا إن الحوالة استيفاء؛ لأنها ليست باستيفاء حقيقة. قاله الماوردي وغيره.

ص: 133

والتخاير قبل التقابض هل يقوم مقام التفرق؟ فيه وجهان:

أصحهما – وهو ما حكاه في "المهذب" -: نعم؛ فيفسد العقد.

والثاني – وهو اختيار ابن سريج، وما حكاه الماوردي -: لا؛ فيصح العقد، ولا يلزم، ويكون وجود التخاير كعدمه.

وقال الشيخ أبو محمد: هل يبطل الخيار؟ فيه وجهان، فإن بطل بطل العقد، وإلا فلا.

فرع: لو ادعى أحدهما التفرق قبل التقابض، وأنكره الآخر، قال الماوردي: القول قول من ينكر القبض، ويكون الصرف باطلاً.

وفي "المرشد" – في باب اختلاف المتبايعين -: إن كان ما باعه كل منهما في يد صاحبه، فالقول قول من يدعي حصول القبض، وكذا لو كان المالان في يد أمين، أو في يد موضع التبايع. ويعضد ذلك ما حكاه ابن الصباغ في "السلم" فيما إذا اختلفا في قبض رأس المال قبل التفرق أو بعده، أن القول قول من يدعي الصحة، ولم يحك سواه، وطرده فيما إذا كان في يد المسلم، وادعى المسلم إليه أنه أوعه إياه أو غصبه.

قال: وإذا باع من غير جنسه، فإن كان مما يحرم فيهما الربا بعلة واحدة: كالذهب والفضة، والحنطة والشعير، جاز فيهما التفاضل، وحرم فيهما النَّساء والتفرقُ قبل التقابض؛ لقوله – عليه السلام:"إذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ يَداً بِيَدٍ"، وفي لفظ:"إذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَصْنَافْ"، [فشرط التقابض]، وهو يستلزم الحلول.

وقد روى أبو بكر النيسابوري في "الزيادات" عن عبادة أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الشَّعِيرُ بِالشََّعِيرٍ كَيْلاً بِكَيْلٍ، فَمَنْ زَادَ أَوِ ازْدَادَ فقَدْ أَرْبَى".

ص: 134

ولا بأس ببيع الشعير بالبر والشعير، أكثرهما يداً بيدٍ.

وفي هذا الحديث دليلٌ على من ادّعى أن الشعير والقمح جنس واحد.

قال: "وإن لم يحرم فيهما الربا لعلة واحدة كالذهب والحنطة، والفضة والشعير، جاز فيهما التفاضل والنَّساء والتفرق قبل التقابض".

قال في "المهذب": لإجماع الأمة على جواز إسلام الذهب والفضة في غيرهما من المكيلات والموزونات. وقد تقدم في صدر الباب ذكر الدليل على عدم جريان الربا فيما عدا ما ذكر.

قال: وكل شيئين جمعهما [اسم خاص]؛ كالتمر المعقلي والبرنيّ، وكذا الحنطة الصعيدية والبحرية، والزبيب الأبيض والأسود، والمشمش، وغير ذلك.

[قال:]"فهم جنس واحد" أي: فيحرم فيهما التفاضل والنساء والتفرق قبل التقابض؛ لعموم قوله – عليه السلام – في حديث عبادة: "وَلا التَّمْرَ بِالتَّمْرِ، وَلا الْبُرَّ بِالْبُرِّ"، وكل منهما طلق عليه اسم التمر والبر، ولما روى مسلم عن أبي سعيد الخدري قال:"جاء بلال بتمر برني، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مِنْ أَيْنَ هَذَا؟ " فقال بلال: "تمرٌ كان عندنا رديء، فبعت منه صاعين بصاع لمطعم النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله عند ذلك:"أَوَّه عَيْنُ الرِّبَا، لَا تَفْعَلْ، وَلَكِنْ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَشَترِيَ التَّمْرَ فَبِعْهُ بِبَيْعٍ آخَرَ ثَمَّ اشْتَرِ بهِ"، وقال في آخر:"لَا تَفْعَلُوا وَلَكِنْ مِثْلاً بِمِثْلٍ، أَوْ بِيعُوا هَذَا وَاشْتََرُوا بِثَمَنِهِ مِنْ هذَاَ".

وكذلك المُرّان والعَلس.

ص: 135

قال الشيخ: هو صنفٌ من الحنطة، والسلت جنس برأسه ليس بحنطة ولا شعير، والتمر الهندي جنس برأسه.

وقال ابن القطان: إنه من جنس التمر، وليس بشيء.

واحترز الشيخ بالاسم الخاص عن أن يجمعهما اسم عام كالفاكهة المقولة على التفاح والسفرجل وغيرهما، والحب القول على الحنطة والشعير والسلت.

وزاد في "المهذب" إلى ذلك أن يكون من أصل الخلقة؛ ليحترز به من الأَدِقَّة والأدهان، فإن الاسم يتحد بتفريق الأجزاء أو العصير.

قيل: ولا حاجة إلى زيادة هذا القيد كما أسقطه في "التتمة"؛ فإن الاسم الخاص فيها لا يكون إلا مع الإضافة كقوله: "دقيق بر، ودهن سمسم" ونحو ذلك.

تنبيه: المَعْقِلي – بفتح الميم وإسكان العين المهملة – نوع من التمر معروف بالعراق منسوب إلى معقل بن يسار الصَّحَابي، وإليه يُنسب نهر معقل بالبصرة.

والبرني: ضرب من التمر أصفر مدوَّر، واحدته: برنيَّة –قال صاحب "المحكم": "وهو أجود التمر".

وقد قال الشيخ في باب "السلم": "إن المعقلي أفضل".

قيل: وليس الأمر كذلك.

قال: "وما لا يجمعهما اسم خاص – كالحنطة والشعير، واللحم والشحم، والآلبة والكبد – فهما جنسان"، أي: فلا يحرم فيهام التفاضل؛ لقوله – عليه السلام – في حديث عبادة: "فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَجْنَاسُ" – وروى: هذه الأصناف – فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَداً بيَدٍ" فذكر ستة أشياء، وحرم فيها التفاضل إذا باع كل شيء بما يوافقه في الاسم، وأباح فيها التفاضل إذا باعه بما يخالفه في الاسم، وسماه اختلاف الجنسين، وهو موجود فيما ذكرناه؛ فعلى هذا: الشحم جنس، والكبد جنس، وكذا أبعاض الحيوان، وهل هو من سائر الحيوان جنس واحد أو أجناس؟ فيه قولان كما سيأتي في اللحوم.

وحكى الشاشي في "الحلية" وجهاً في أن الآلية من اللحم، وهو احتمال أبداه الإمام.

ص: 136

وحكى الماوردي وجهين في أن الألية مع [ما] حمله الظهر صنف من الشحم أم لا؟

أحدهما: أنهما مع الشحم صنف.

والثاني: أنهما أصناف مختلفة غير الشحم.

وحكى المراوزة في أبعاض الحيوان طريقين:

أحدهما: أنا إن قلنا: إن اللحوم أجناس، فهذه أولى؛ لاختلاف أسمائها وصفاتها، وإن قلنا: إنها جنس واحد، فوجهان.

والثاني – عن القفال-: أنا إن جعلنا اللحوم جنساً واحداً، فهذه الأشياء مجانسة لها، وإن جعلناها أجناساً فوجهان؛ لاتحاد الحيوان، فصار كشحم الظهر وبطنه، وعلى المذهب: القلبُ ملحق عند العراقيين بالكبد، وعند المراوزة باللحم والجلد، وشحم الظهر مع شحم البطن جنسان، وسنام البعير معهما جنس آخر، والرأس والأكارع من جنس اللحمن وفي الأكارع عند الإمام احتمال، والله أعلم.

قال: "وفي اللُّحْمان والألبان قولان، أصحهما: أنهما أجناس؛ فيباع لحم البقر بلحم الغنم متفاضلاً"؛ لأنها فروع لأصول هي أجناس؛ فوجب أن تكون الفروع أجناساً كالأدِقَّةِ والأدهان؛ فإن دقيق الحنطة جنسٌ، ودقيق الشعير جنسٌ، ودقيق الأرز جنسٌ، لأن الحبوب التي هي أصولها أجناس، وكذلك الأدهان أجناس؛ لأن أصولها من السمسم واللوز والجوز أجناس، ولم يعتبر اشتراكها في الاسم بعد ذلك؛ فكذلك اللحمان والألبان.

قال: "والثاني: أنهما جنس واحد"؛ لأنها اشتركت في الاسم الخاص في حال حدوث الربا فيها؛ لأن الجميع يُسمى لحماً ولبناً، وإنما يتميز بالإضافة، يقال: لحم بقر، ولحم إبل، ولبن بقر، ولبن إبل؛ كما يقال:"تمر" في الجميع، ثم يتميز بالإضافة فيقال:"تمر معقلي، وتمر برني، وتمرٌ طبرزدي".

وقد حُكي طرد هذا القول أيضاً في الأدقة عن رواية حرملة، وخرجه أبو علي بن أبي هريرة في الأدهان أيضاً.

ص: 137

وحكى ابن الصباغ طرده في الحلول.

قال الماورديُّ؛: وذهب سائر أصحابنا إلى فساد تخريج ابن أبي هريرة، والفرق بين التمر وبين اللحمان والألبان: أن الطلع شيءٌ واحدٌ، وبعضهم جزم في الألبان بالقول الأول؛ جرياً على ظاهر النص.

وفرق بينهما وبين اللحوم بأن الأصول التي حصل اللبن فيها باقية بحالها، وهي مختلفة؛ فَيُدَامُ حكمها على الفروع، بخلاف أصول اللحم.

وفي "الحاوي": أن القول الآخر فيه نصَّ عليه في القديم.

التفريع:

إن قلنا: "إنها جنس [واحد] فلا فرق بين لحوم الحيوانات البرية أَهْلِيِّها ووَحْشِيِّها، وكذا ألبانها، وكذا لحوم البحريات جنسٌ واحد، وفي لحوم البحريات مع البريات وجهان:

أحدهما – وبه قال أبو علي الطبري، والشيخ أبو حامد -: أنهما جنسان.

والثاني: أنهما جنس واحد؛ لشمول الاسم – وهو اختيار القاضي أبي الطيب وابن الصباغ، وهوا لذي أورده في "التهذيب" -.

وإن جعلناها أجناساً فحيوان البر مع حيوان البحر جنسان، ثم الأهليات من حيوان البر جنس، والوحشيات جنس، ثم لكل واحد من القسمين أجناس، فلحوم الإبل وألبانها على اختلاف أنواعها جنس، ولحوم البقر والجواميس وغيرها وألبانها جنس، ولحوم الغنم وألبانها ضَانها ومعزها جنسٌ، والبقر الوحشي جنسٌ، وفي الظبي مع الإبل تردد للشيخ أبي محمد، واستقر جوابه على أنها كالضأن والمعز، وقد صرح المتولي بحكاية [ذلك] وجهين عن الأصحاب، وأن وجه إلحاقهما [بالغنم] أنهما يقربان منها، والتفاوت الذي بين الظبي والمعز ليس بأكثر من التفاوت الذي بين المعز والضأن، والصحيح أنهما لا يلحقان بالغنم – كما في الزكاة – والطيور والعصافير على اختلاف أنواعها جنس، والبُطُوط جنس.

وعن الربيع: أن الحمام وكل ما عَبَ وهدر جنس، فيدخل فيه القُمري، والدّبسي، والفاخت، وهو اختيار الإمام والبغوي وجماعة، واستبعده العراقيون، وجعلوا كل

ص: 138

واحد منهما جنساً برأسه. والسُّموك من حيوان البحر جنسٌ، وفي غنم الماء وبقره وغيرهما مع السموك هكذا، وفي بعضها مع بعض قولان؛ أصحهما: أنها أجناس كحيوان البر.

وهل الجراد من جنس اللحوم؟ فيه وجهان: فإن قلنا: نعم فهو من البريات أو البحريات؟ [فيه] وجهان.

فروع:

دهن الورد والبنفسج والبانِ جنس [واحد]؛ لأن أصلها الشيرج، وإنما اكتسبت الروائح المجاورة لهذه الأشياء – قاله الماوردي وغيره-.

وزيت الفجل مغاير لزيت الزيتون؛ فهما جنسان.

وقال بعض الأصحاب: إنهما كالألبان. ولا يصح؛ لأن اشتراكهما في الاسم ليس اشتراكاً في أول دخولهما في الربا، بخلاف الألبان.

وعسل القصب والنحل، وعصير العنب والرطب أجناس، وكذا دبس العنب والرطب جنسان.

وفي "الرافعي" ما يقتضي جريان وجه في أن عصير العنب مع عصير الرطب جنس واحد، وفي عصير العنب مع خَلِّهِ وجهان، أظهرهما: أنهما جنسان.

والسكر والنبات جنس واحد، وفي السكر والفانيذ وهجان، واستبعد الإمام قول من اقل: إنهما جنس واحد، وأمَّا السكر الأحمر الذي هو عَكَرُ السكر الأبيض – وهو من قصبه – ففيه مع الأبيض تردد؛ من حيث إنه يخالف صفته مخالفة ظاهرة.

قال [الإمام]: ولعل الأظهر أنه منجنسه.

وبيض الطيور أجناسٌ إن جعلنا اللحوم أجناساً، وإن جعلناها جنساً واحداً فهي أجناسٌ أيضاً في أصح الوجهين.

والبقول كالهندبا والنعنع وغيرها أجناس إذا قلنا بجريان الربا فيها، وفي القثاء مع الخيار وجهان، وفي البطيخ المعروف مع الهندي وجهان.

تنبيه: اللُّحمان – بضم اللام – جمع: لحم، وتجمع أيضاً على: لُحُوم،

ص: 139

ولِحَام؛ كصَحْب وصِحاب.

قال: وإن اصطرف رجلان وتقابضا، ثم وجد أحدهما بما أخذ عيباً، أي: لا يخرجه عن الجنس، كالدراهم الخشنة، والصفرة في الذهب وغير ذلك.

قال: فإن وقع العقد على العين وردَّه انفسخ البيع ولم يجز أخذ البدل، أي: إلَاّ بعقد جديد؛ لأن الدراهم والدنانير عندنا تتعين إذا ورد العقد عليهما؛ ولا يجوز للبائع إبدالهما قبل القبض؛ كما في الصاع من الحنطة، والثوب والعبد إذا ورد العقد على عينه، وهذه الأشياء لو تلفت أو رُدَّت بعيب قبل التفرق أو بعده انفسخ العقد، ولم يجز أخذ البدل؛ فكذلك الدنانير والدراهم، وإنما قلنا: إن الدراهم والدنانير يتعينان بالتعيين كقوله عليه السلام في حديث عبادة: "عَيْناً بِعَيْنٍ"، وذلك يدل على أنهما يتعينان، ولو كانا لا يتعينان لما كان عيناً بعين، ولأنه عوض يتعين بالقبض؛ فجاز أن يتعين بالعقد أصله إذا عين ما ذكرناه، ومن قال بأنهما لا يتعينان بالتعين ويجوز للبائع إبدالهما، وإذا تلف لا ينفسخ العقد - وهو أبو حنيفة - متمسكاً فيه بأنه لا غرض في أعيانهما، وإنما الغرض في ماليتهما؛ فكان كتعين الميزان - فقد ناقض مذهبه في تعيينهما في الغصب، والوديعة، وهو يبطل بما [علل به]، على أنَّا نقول: قد يكون له فيهما غرض بأن نعلم أنهما من كسب حلال، ولا نعلم ذلك في غيرهما، ونقول: ما قاله يبطل أيضاً؛ بما إذا أورد العقد على صاع من صبرة، وتلف جميعها.

إذا فهم ذلك عرف فائدة قول الشيخ: "ولم يجز أخذ البدل"، ولا فرق فيما ذكرناه من تعيين الدراهم بين أن يكون في عقد الصرف أو غيره.

قال: "وإن كان على عوض في الذمة"، أي: بشرطه إمَّا بالوصف أو بالإطلاق، ولم يكن ثم نقد غير واحد، أو نقود وأحدها أغلب - "جاز أن يردّ ويطالب بالبدل قبل التفرق؛ لأن العقد وقع على ما في الذمة صحيحاً لا عيب فيه، فإذا قبض معيباً كان له أن يطالبه بما في ذمته مما تناوله العقد؛ كما إذا قبض المسلم فيه ثم وجد به عيباً، ويخالف ما إذا ورد العقد على عينه؛ فإنه لا يملك المطالبة بالبدل؛ لأن العقد غير متناول له؛ فلا يجوز المطالبة بما لم يتناوله العقد.

قال: "و [فيما] بعد التفرق قولان:

ص: 140

أحدهما: يرد، [ويطالب بالبدل]"؛ لأنه يجوز الإبدال فيه "قبل التفرق"؛ فوجب أن يجوز بعده إذا لم ينفسخ العقد بالتفرق؛ قياساً على المسلم فيه؛ فإن للمسلم إبداله إذا وجد به عيباً، سواء فارق مجلس القبض أو لم يفارقه، وهذا هو الأصح في الرافعي وغيره، لكن بشرط قبض البدل قبل التفرق من مجلس الرد.

"والثاني: أنه بالخيار إن شاء رضي به، وإن شاء ردّه، فإذا ردّ انفسخ البيع"؛ لأنّا لو جوزنا إبداله، لكان قبضه بعد التفرق من مجلس العقد، ولا يجوز قبض العوض في الصرف بعد التفرق [من مجلس العقد] ويخالف المسلم فيه؛ لأن قبضه لا يختص بالمجلس، وفي أي موضع قبض جاز، وبنى الإمام هذا الخلاف في كتاب "الكتابة" على أنْ الدين إذا قبض ناقصاً عن وصفه، وكان المقبوض من جنسه متى يملك؟ هل يملك بالقبض أو بالقبض مع الرضا؟ [و] فيه قولان: فإن قلنا: [إنه] يملك بالقبض صح إبداله، وإن قلنا: لا يملك إلَاّ بالرضا، فلا يجوز إبداله.

قلت: ومقتضى هذا البناء: أن يجري الخلاف فيما إذا رضي به بعد التفرق، ولأن الملك حصل بعد التفرق ولم أره، ولا يقال: إنا بالرد نتبين قول عدم الملك، أمَّا إذا جاز فلا يجيء هذا القول، بل يستمر الملك، وقد أشار الإمام إلى ذلك بقوله من قبل: "فإن رضي استمر الملك؛ لأنّا نقول: قد حكى من بعد أن الخيار بسبب هذا النقض هل هو على الفور؟ ينبني على الخلاف، فإن قلنا: لا يملك بالقبض ما لم يرض، فلا شك أن معنى الفور لا يتحقق، بل الملك موقوف على الرضا متى كان، وهذا يدلُّ على أن جريان الخلاف، وإن لم يجر بعد سخ.

فرع: لو كان العيب ببعض المعقود عليه وأثبتنا الخيار فيه: فإن رده بجملته فلا كلام، وإن أراد أن يرد المعيب خاصة فهل له ذلك؟ فيه قولَا تفريقِ الصفقة: فإن جوزنا ذلك فهل بقسطه من مقابله أو بكل المقابل؟ فيه قولان في "تعليق" القاضي أبي الطيب، وهذا إذا أورد الصرف على ذهب وفضة.

أمَّا إذا كان ذهباً بذهب، أو فضة بفضة- قال القاضي أبو الطيب: بطل العقد وجهاً واحداً؛ لكونه من قاعدة "مد عجوة"؛ كالدينار الصحيح والدينار القراضة

ص: 141

بدينارين صحيحين أو قراضة.

أمَّا إذا كان العيب يخرجه عن الجنس، بأن وجده رصاصاً أو نحاساً، فإن كان في الكل بطل العقد في الكل إذا ورد على العين، كما نصّ عليه الشافعيُّ في كتاب "الصرف".

وقال أبو علي في "الإفصاح": من أصحابنا من قال: البيع صحيحٌ ويخيّر فيهن ويجري هذا فيما إذا قال: بعتك هذه، فخرجت حماراً، وهذه نوع من البغال تشبه الحمير يكون بـ "طبرستان".

وفيما إذا باع ثوباً على أنّه قز، فخرج كتاناً؛ لأن الكتان الخام يشبه القز، وهذا الجوهر على أنه عقيق، فإذا هو بخلاف ما شرط.

ولو قال: بعتك هذا الحيوان، وهو حمار، أو هذا الشخص، وهو عبد، فإذا هو فرسٌ [أو جارية] – فإن كان المشتري عالماً بالحال انعقد البيع، وإن كان جاهلاً فهل ينعقد؟ فيه الخلاف، كذا قاله القاضي الحسين قبيل باب "بيع البراءة"، ويتجه طرد هذا التفصيل فيما ذكرناه.

وإن كان العيب في البعض بطل العقد فيه على النص، وفي الباقي قولَا تفريقِ الصفقة، فإن قلنا: تفرق، أخذ الباقي بحصته من الثمن.

قال الماوردي: قولاً واحداً.

وفي "تعليق" أبي الطيب تخريجه على التفصيل والخلاف السابق.

قال البندنيجي: فإن قلنا: إنه يأخذ السليم بكل الثمن، [لم يكن له رد المعيب وإمساك الصحيح، وإنما يقال له: إمَّا أن ترد الكل أو تمسك الكل، وأمَّا أن تمسك البعض بكل الثمن] فهذا سفه لا يقبل منك.

وفي [كلام القاضي والماوردي أيضاً إشارة إلى ذلك].

فائدة: كلام القاضي أبي الطيب [في "تعليقه"] مصرح بأن من حصل له البدل المعيب فيما إذا ورد العقد على ما في الذمة، واطلع على العيب بعد التفرق – يثبت له الخيار بين أخذه ورده واسترجاع ثمنه، وهل له المطالبة بالبدل؟ فيه الخلاف، وإلى ذلك

ص: 142

يرشد قول الشيخ: "جاز أن يرد ويطالبه بالبدل قبل التفرق، وبعد التفرق قولان"؛ وكان ينبغي إذا قلنا بجواز أخذ البدل ألَاّ يثبت له الخيار في رده واسترجاع الثمن؛ لأن المعقود عليه باقٍ في الذمة؛ كما في المسلم فيه إذا ردّ بسبب العيب.

وهذا قد صرح به المتولين وابن التلمساني في "شرحه"، لكن يشكل على بناء الإمام؛ فإنا إنما جوزنا الإبدال بناء على أنه ملك بالقبض، ومتى ملك المعيب بالقبض امتنع أن يكون حقه باقياً في الذمة.

فرع: إذا ورد الصرف على ما في الذمة، ثم عين في المجلس بالقبض - فهل يكون كالمعين في حال العقد؟ في نظيره في رأس مال السلم خلافٌ، ويتجه جريانه هاهنا، فإن جري فمن ثمرته أنه إذا ردّ العقد هل يجب على القابض ردّ ما أخذ أو يجوز له ردّ بدله؟ فيه خلاف، وأنه إذا باع ما له في ذمة زيد من نقد لزيد بعوض موصوف في الذمة، وعينه في المجلس، فهل يكفي أم لابد من قبضه؟

إن قلنا: إنه كالمعين في العقد، خرج على القولين في اشتراط القبض، وإلا فلابد من القبض، لكن يلزم على هذا التقرير أنه إذا وجد به عيباً وردّه في المجلس لا يجوز له أخذ البدل على وجهٍ؛ كما إذا ورد العقد على عينه، ولم أره.

[فرع] آخر: إذا طلع على العيب بعد التلف، وكان العوضان من جنس واحد - لم يكن له الرجوع بالأرش؛ لأنه يؤدي إلى التفاضل، ولكن يفسخ العقد، ويرد مثل التالف إن كان خالصاً، أو قيمته إن كان بَهْرَجاً، ويسترجع الثمن، وهذا ما أجاب به الماوردي والبندنيجي هنا وابن الصباغ والمتولي في مسألة الحلي إذا وجد به عيباً، وقد ذُكِرَ فيه وجه آخر: أنه يجوز أخذ الأرش، وهو الذي صححه في "التهذيب"، وهل يعتبر من جنس المعيب، أو بغير جنسه؟ فيه خلاف مذكور، ومثله يجري هاهنا؛ إذ لا يظهر بينهما فرق، ولو كانا من جنسين كالذهب بالفضة، فهل له أن يرجع بالأرش؟ فيه وجهان:

أحدهما: يجوز؛ اعتباراً بعيوب سائر المبيعات التالفة. قال الماوردي: "وهذا أقيس"؛ فعلى هذا يرجع بأرش الدينار من الدراهم، وبأرش الدراهم من المذهّب، ويتجه أن يجيء فيه الوجه الآخر - الذي تقدمت حكايته-.

ص: 143

والوجه الثاني – وهو قول الشيوخ من أصحابنا البصريين، والجمهور من غيرهم -: لا يجوز له الرجوع بالأرش؛ لأن الصرف أضيق حكماً من سائر البيوعات، فلم يتسع لدخول الأرش فيه؛ لأن الأرش يعتبر بالأثمان؛ فلم يجز أن يكون الأرش داخلاً في الأثمان، فعلى هذا ينفسخ العقد، ويرجع عليه بمثل التالف أو قيمته إن كان بهرجاً، وقد ورد العقد على عينه، وإن ورد على الذمة ثم قبض في المجلس: فيرد بدله إن كان له مثل، أو قيمته إن كان بهرجاً، وهل له أن يأخذ بدله؟ فيه القولان السابقان، كذا حكاه الماوردي، وفي بعضه تناقض؛ لما حكيناه عنه في الباب الأول من كتاب البيوع، ولا يخفى أن جميع ما ذكرناه في الصرف يجري مثله فيما إذا باع ما يحرم فيه الربا بعلة الطعم [بما يحرم فيه الربا بعلة الطعم].

قال: "وما حرم فيه التفاضل، فإن كان ما يكال لم يجز بيع بعضه ببعض حتى يتساويا في الكيل"، أي: في علم المتعاقدين حالة العقد، ولا يكفي تساويهما في الوزن، وإن كان أحصر لما روى أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال- في حديث عبادة -:"البُرّْ بالْبُرِّ مُدَّيْنِ بِمُدَّيْنِ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ مُدَّيْنِ بِمُدَّيْنِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ مُدَّيْنِ بِمُدَّيْنِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مُدَّيْنِ بِمُدَّيْنِ، فَمَنْ زَادَ أو ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى".

وروى أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لَا تضبِيعُوا الْبُرَّ بالْبُرِّ إِلَاّ كَيْلاً بِكَيْلٍ يَداً بِيَدٍ"، نصاً على التساوي بالكيل؛ فاقتضى ألا يعتبر التساوي فيه بالوزن؛ لأنه قد يخالف ما أمر به من الكيل. نعم، ولو علم تساوي صنف في الكيل والوزن هل يجوز بيع بعضه ببعض وزناً؟ [فيه وجهان محكيّان في "الحاوي".

وحكى عن الفوراني أنه جوز بيع ما يكال وزناً] دون عكسه، والذي كان يكال على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحبوب والأدهان، والألبان، والتمر والزبيب والملح.

وحكى أصحابنا فيه إذا كان قِطَعاً كباراً وجهين:

أحدهما: يُدق ويكال.

والثاني: يوزن. وهو الأظهر.

وفي كلام الإمام ما يدل على أن اللبن الخاثر يجوز كيله ووزنه، وألحق الأصحاب

ص: 144

العصير بما يكال، وكذا السمن والعسل عند أبي إسحاق، على ما حكاه الرافعيُّ عنه في السمن، والقاضي أبو الطيب وغيره في العسل.

وفي "الزوائد": أن أبا إسحاق قال في العسل: "إنه يباع كيلاً، بخلاف السمن" والمنصوص أنهما يوزنان، وتوسط صاحب "التهذيب" [في السمن] فقال: "إن كان ذائباً كان مما يكال، وإلَاّ فمما يوزن.

وقال الماوردي:"إن كان ذائباً فلا يباع إلا كيلاً، وإن كان جامداً فوجهان:

أحدهما: لا يجوز بيع بعضه ببعض؛ لأن أصله الكيل، وهو متعذر.

والثاني: يجوز وزناً".

قال: "فإن كان في أحدهما قليل تراب جاز"؛ لأنه يتخلل في المكيال، فلا يظهر أثره، وكذلك قليل التبن.

أمَّا ما يظهر له أثر في المكيال ككثير التراب والتبن، أو كان المخالط قصيلاً –وهو عقد التبن – أو زُواناً – وهو حب أسود قريب من خلقة الشعير – لم يجز؛ للعلم برجحان المقابل، ولو باع القمح بالقمح، وفي أحدهما قليل شعير لا يقصد مثله، أو شعيراً بشعير، وفيهما أو أحدهما قليل قمح لا يقصد مثله – لم يضر.

قال: "وإن كان مما يوزن لم يجز بيع بعضه ببعض حتى يتساويا في الوزن"،أي في علم المتعاقدين حالة العقد؛ لما روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَزْناً بِوَزْنٍ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَالْفِضَّةُ وَزْناً بِوَزْنٍ مِثْلاً بِمِثْلٍ، فَمَنْ زَادَ أَوِ اسْتَزَادَ فَهُوَ رِباً"، ولما ذكرناه من المعنى.

واستدل الماوردي وغيره على اعتبار الكيل فيما يكال بالحجاز في عصره صلى الله عليه وسلم، وإن كان يوزن في سائر البلاد، والوزن فيما يوزن بالحجاز في عصره – عليه السلام – وإن كان يكال في سائر البلاد – بما روى طاوس عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الْمِكْيَالُ مِكْيَالُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَالْوَزْنُ وَزْنُ أَهْلِ مَكَّةَ"، وليس هذا القول

ص: 145

إخباراً بانفراد أهل المدينة بالمكيال ومكة بالميزان؛ لأن مكيال غير المدينة، وميزان غير مكة يجوز التبايع به، واعتبار التماثل فيه؛ فعلم أن مراده عادة أهل المدينة فيما يكيلونه، وعادة أهل مكة فيما يزنونه.

وفي "النهاية" أنه يجوز أن يكون معنى الحديث: أن ما تعلق [بالوزن] من النُّصُب وأقدار الديات وغيرها فالاعتبار فيها بوزن مكة، وما تعلق بالكيل في زكاة الفطر والكفارات فالمعتبر ما يغلب في المدينة، وليس في الحديث تعرض لأمر الربا، واستدل المحاملي على ذلك بأن الشرع ورد باعتبار المماثلة والمساواة في البيع، ولم يبين الجهة التي يعتبر فيها التساوي، ولابد فيها من تحديد، ولا حدّ لها في اللغة ولا في الشرع؛ فرجع في تحديده إلى العرف والعادة، وأَوْلى العادات بالاعتبار العادةُ التي كانت في زمنه عليه السلام.

قال:"فإن كان في أحدهما قليل تراب لم يجز؛ لأن التراب يظهر في الوزن؛ فلا يعسر الاحتراز عنه في الموزونات، وصور الماوردي المسألة: بما إذا باع ما يوزن من الورق والذهب بعضه ببعض، وفيهما أو في أحدهما يسيرٌ من التراب.

فرع: إذا اتخذ مكيالاً لم يعهد في عصره صلى الله عليه وسلم، وكان يجري التماثلُ به - قال الإمام: الوجه القطع بجواز رعاية التماثل به؛ كما قطع أصحابنا بجواز بيع الدراهم بالدراهم إذا علمنا بالتساوي في كفتي الميزان، أمَّا إذا لم يجر العرف باستعماله بأن باع مِلْء قصعة بملئها ففيه تردد للقفال، والظاهر الجواز.

والوزن بالماء يتأتى بأن توضع دراهم في طرف، وتلقى على الماء، وينظر إلى مقدار غوصه، ثم يفعل مثل ذلك بمقابله، قال الإمام: ولكن الظاهر أنه لا يكتفي به؛ فإنه ليس وزناً شرعيًّا ولا عرفيًّا.

[فرع] آخر: لو قال: بعتك هذه الصُّبْرة على أن تكون كل صاع بصاع، وهما لا

ص: 146

يعرفان القدر، وتقابضا في المجلس جزافاً، ثم كالا بعد التفرق: فن خرجتا متفاوتتين فالزيادة لا تدخل في العقد، [وهل يصح العقد][في القدر] المتساوي؛ فيه وجهان، [ووجه المنع: أن الكيل في بي المكايلة من تمام التسليم ولم يوجدا، ولأنهما ماثلا الصبرة بالصبرة، وهما متفاوتتان، وعلى العلة يخرج ما لو خرجتا متساويتين؛ فيكون فيهما وجهان].

ولو قال: بعتك الصبرة بالصبرة على أن يكون الصاع بالصاع، وكالا في المجلس – فإن خرجتا متساويتين صح، وإلَاّ فوجهان:

أحدهما: أن البيع صحيح. ويقال لمن نقصت صبرته: أترضى بقدر صبرتك، وإلَاّ فُسخ العقد، ولا يقال لمن زادت صبرته: سلم الزيادة، وهذا ما اختاره ابن [أبي عصرون].

والثاني – وهو المذهب في "تعليق" البندنيجي -: أن العقد باطل.

قال: وإن كان مما لا يكال ولا يوزن، أي: بل العادة فيه أن يعد كالقثاء والبطيخ في بعض البلاد، والسفرجل والأترج، والجوز والبيض وأجناس ذلك – "ففيه قولان"، أي: تفريعاً على القول الجديد، وهو جريان الربا فيها:

"أحدهما: لا يجوز بيع بعضه ببعض"؛ لأنه لا سبيل إلى تجويز البيع عدداً؛ فإن فيه تساهلاً – لا يحتمل مثله في باب الربا –والوزن والكيل فيه غير معتاد في عصره – عليه السلام – وبعده، ولا يمكن إلحاقه بالمكيل ولا بالموزون؛ لأن القشر والرطوبة يمنعان العلم بالتساوي – الذي هو شرط العقد – فامتنع بيع بعضه ببعض، وهذا هوا لأصح عند الإمام وظاهر المذهب.

قال: "والثاني: يجوز إذا تساويا في الوزن"؛ لأن بقاء البيض والجوز والرمان في قشره من مصلحته، والقثاء والبطيخ والسفرجل هذه حالة كمالها؛ فلم يمنع ذلك صحة البيع، كبيع التمر بالتمر وفيه النواة، واللبن باللبن مع ما فيه من الرطوبة، واعتبر الوزن فيها؛ لأنه أحصر.

ويجري هذا الخلاف في الخضراوات مثل الجزر والفجل وغيرهما، والمنع فيها

ص: 147

منصوص عليه في "الأم"، وفي الجوز واللوز – حكاه ابن كجٍّ عن الشافعيّ، وألحق الرافعي البيض بهما، ورجح الجواز، وجعل المعيار في البيض الوزن، وكذلك في الجَوْز دون اللَّوز، وجزم المتولي في البيض والجوز إذا كانا صحيحين بجواز بيع بعضه ببعض، وبالمنع فيما إذا كان مكسوراً، أو البعض صحيحاً.

والمذكور في "الحاوي" في مسألة بيع الدجاجة وفي بطنها بيضٌ: أن بيع البيض بالبيض لا يجوز على قوله الجديد، وهو ما حكى الإمام في أواخر الباب بعد حكايته الخلاف الذي ذكرناه أولاً؛ لاتفاق الطرق عليه، وعلى منع بيع الجوز بالجوز.

وحكى قول الجواز وجهاً منسوباً إلى رواية صاحب "التقريب".

أمَّا ما يكال ويوزن في غير الحجاز، ولا يكال ولا يزن فيه وجهلنا الحال فيه – فيجوز بيع بعضه ببعض وجهاً واحداً، ولكن ما المعتبر فيه؟ [هل] الكيل أو الوزن؟ الذي حكاه العراقيون وجهان:

أحدهما: أنه يعتبر بالبلد التي فيها البيع؛ فإنه أقرب إليه.

والثاني: أنه يعتبر بأشبه الأشياء به في الحجاز: فإن كان يشبه مكيلاً لم يجز إلَاّ كيلاً، وإن كان يشبه موزوناً لم يجز إلَاّ وزناً، واختاره في "المرشد"، كما اعتبر ذلك في جزاء الصيد والحيوان الذي لا يعرف أن العرب تستطيبه أو تستحبه، فعلى هذا لو كان شبيهاً بهما فأيهما المعتبر؟ فيه وجهان حكاهما البندنيجي.

وزاد الشيخ أبو حامد في الأصل وجهاً ثالثاً، وقد حاكه ابن الصباغ والقاضي أبو الطيب بدل الوجه الأول: أنه يعتبر فيه عرف أهل الوقت في أغلب البلاد، وهو ما حكاه الماوردي، ولم يحكه غيره، ثم قال: وإن لم يكن للناس فيه عرف غالب، وكانت عادتهم تستوي في كيله ووزنه – فقد اختلف أصحابنا فيه على أربعة مذاهب:

أحدها: يباع وزناً؛ لأنه أحصر.

والثاني: كيلاً؛ لأن الكيل في المأكول نصٍّ.

والثالث: يعتبر بأشبه الأشياء به.

والرابع: أنه مخير بين الكيل والوزن.

وفي "التتمة": أنَّه إن كان أكبر جرماً من التمر، فالاعتبار فيه بالوزن، وإن كان مثله،

ص: 148

أو أصغر منه ففيه الوجهان المذكوران أولاً في "الحاوي".

وزاد الإمام عليهما وجه اعتبار العرف الغالب في موضع المعاملة، وعن شيخه وجه التخيير، واستبعده وقال:"لم أره لغيره".

وحكى عن شيخه وعن الصَّيْدلاني وجهاً آخر: أنه يتعين أن يتقدر بما يتقدر به أصله، ثم قال:"ولو منع مانع أصل البيع لاستبهام طريق التماثل لكان أقرب مما ذكرنا، ولكن لا قائل به من الأصحاب".

واعلم أن بعض الشارحين لهذا الكتاب قال: يمكن حمل كلام المصنف على القولين في أنَّ ما لا يكال ولا يُوزن هل يجري فيه الربا كما ذكرنا من قبل؟ وهذا لايعطيه كلام الشيخ؛ لأمرين:

أحدهما: أنه حكى قولاً في منع البيع مطلقاً، وذلك لا يُوجد في هذه الصورة.

الثاني: أنه قسم ما حرم فيه الربا إلى ثلاثة أقسام هذا ثالثها؛ فلا يحسن أن يكون الخلاف الذي ذكره في أنه هل يجري فيه الربا أم لا، والله أعلم.

قال: "وما حرم فيه التفاضل لا يجوز بيع حَبِّه بدقيقه"؛ لأن دقيق الحنطة مثلاً قمح تفرقت أجزاؤه، فهما جنس واحد كالدراهم المكسَّرة والصِّحاح، ولا يمكن اعتبار التساوي [بالوزن؛ لأن أصله الكيل، ولا يمكن اعتبار التساوي فيه بالكيل؛ لأن النظر إلى التساوي] في حال الكمال، كما أشار إليه – عليه السلام – بقوله:"أَيْنْقُضُ الرُّطَبُ إِذّا جَفَّ؟ " ورتب المنع – عليه كما سنذكره – وحالة الكمال كونه قمحاً؛

ص: 149

لأنه يُدخر كذلك، ويفسده إذا كان دقيقاً، والطحن يحدث بينهما تفاوتاً في الكيل، بحيث يعلم التفاضل بينهما، وذلك ممنوعٌ بالنصِّ؛ فيتعين القول بعدم الصحة، وهذه العلة تعلل جملة المسائل الآتية من هذا النوع وما يقرب منه؛ فيستغني عن إعادتها.

وحكى أبو الطيب بن سلمة وابن الوكيل عن رواية الكرابيسي عن الشافعي قولاً: "أنه يجوز بيع الحنطة بدقيقها كيلاً بكيل"، وجعل الإمام منقول الكرابيسي: أن الدقيق مع الحنطة جنسان، حتى يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلاً.

قال الرافعيُّ: "ويشبه أن يكون منفرداً بهذه الرواية".

قلت: قد وافقه عليها الماوردي، وحكى أنه مذهب أبي ثور؛ فلا انفراد.

وحكى الإمام أيضاً عن رواية ابن مقلاص أن الشافعيَّ جعل السويق مخالفاً لجنس الحنطة؛ لأنه يخالفها في المعنى، والدقيق مجانس للحنطة؛ فإنه حنطة متفرقة الأجزاء، والحنطة دقيق مكسَّر.

قال الإمام: وعلى هذا الخبر يخالف الحنطة، ويجب أن يخالف السويق الدقيق، والمذهب المشهور الذي نصَّ عليه في عامة كتبه: الأول.

ونفى بعضهم أن يكون ما ُحكي عن الكرابيسي منقولاً عن الشافعيّ؛ فنه لم يقل سوى: "قال أبو عبد الله، وأبو عبد الله يحتمل مالكاً، ويحتمل أحمدَ؛ فإنهما مخالفان في ذلك.

وعلى هذا فلا يجوز بيع الحنطة بشيء مما يُتخذ منها كالسويق، والخبز، والنّشا، ولا بما فيه شيءٌ مما يتخذ منها كالمصل؛ ففيه الدقيق والفالوذج وفيه النشا.

واعلم أن السويق الذي أطلقه العلماء هاهنا يكون على ضربين- كما حكاه القاضي أبو الطيب -:

أحدهما: نقيع، وهو أن يُبل بالماء، ثم يُنشر حتى يجفَّ، ثم يقلى ويجرش.

والثاني: مطبوخ، وهو أن يطبخ ثم يجفف، ثم يُقلى ويجرش.

وذلك غير ما نفهمه في بلادنا منه، وإذا كان كذلك فالمنع فيه يتأكد بدخول النار فيه.

ص: 150

قال: "ولا بيع دقيقه بدقيقه": أمَّا وزناً فَلِمَا قررناه، وأمَّا كيلاً فللجهل بالتماثل في حال الكمال، ولأن أحدهما قد يكون أنعم فينبسط في المكيال أكثر من الخشن، ويخالف بي الحنطة الصغيرة الحبة بالحنطة الكبيرة الحبة؛ فإنَّ أجزاء الحب ثَمَّ مجتمعة.

وحكى البويطي، والمزني في "المنثور"، وحرملة قولاً: "أنَّه يجوز [بيع الدقيق بالدقيق كيلاً، وإن امتنع] بيع الحنطة بالدقيق؛ كما يجوز بيع الدهن بالدهن، وإن امتنع بيعه بالسمسم؛ فعلى هذا: لا يجوز بيع ما يتخذ من القمح بما يُتخذ منه.

وحكى الشيخ أبو حامد والعراقيون قولاً عن رواية حرملة: أنَّه يجوز بيع الخبز اليابس المدقوق بمثله؛ لإمكان كيله وادخاره.

ورواه الشيخ أبو عاصم العبَّاديُّ وغيره عن رواية ابن مقلاص، واختاره ابن أبي عصرون، ورواه الماورديُّ وجهاً ثم قال:"ولولاه مشهوراً من قول أصحابنا لكان إغفاله أولى؛ لمخالفته النصَّ، [ومنافاته المذهب] ".

وبالجملة، فكل قول حكيناه غير ما حكاه الشيخ، قال الإمام: اتفق أئمة المذهب على أنه غير معدو من متن المذهب، وإنما هو من ترددات جرت في القديم، وهي مرجوع عنها.

وحكم السمسم وغيره من الحبوب التي يتخذ منها الأدهان مع طحينتها، وطحينتها مع طحينتها حكم الدقيق، [وكذا الحنطة] التي ينحَّى قشرها بالدق والتهريس بعد البل – حكم الدقيق. وأبدى الإمام فيها احتمالاً.

فرع: الحنطة المسوسة، أطلق الأئمة القول بجواز بيعها بعضاً ببعض، وقال الإمام: لعل ذلك قبل أن تتآكل، فأمَّا إذا تآكلت وخلت أجوافها ففيها نظرٌ عندنا، والقياس: القطعُ بالمنع كالحنطة المقلية بمثلها، والحنطة المبلولة بمثلها؛ لما في ذلك من التجافي في المكيال، الحكم في الحنطة المبلولة بعد الجفاف المنعُ أيضاً.

قال: [ولا] مطبوخِهِ بمطبوخِهِ كاللحم المشوي، والدبس، والقُطارة، عسل القصب، والقند، والسكر، والفانيذ، وكل ما تعقد النار أجزاءه مثل عصير الرمان،

ص: 151

والتفاح، والسفرجل؛ للجهل بالمماثلة، فإن النار قد تؤثر في أحدهما أكثر من الآخر، أمَّا ما دخلته النار للتمييز فلا يمتنع بيع بعضه ببعض كالذهب والفضة، وكذا السمن وعسل النحل إذا ميَّز منه الشمع بالنار، وظنَّ بعض الأصحاب أنَّ النار تعقد أجزاءه فمنع من بيع بعضه ببعض، كما امتنع بيع بعض الزيت ببعض، والذي عليه سائر الأصحاب الأوَّلُ، لكن بشرط ألَاّ ينقص من أجزائه شيءٌ، فإن نقص منع، حتى لو أغلى العسلَ المصفى على النار، امتنع بيع بعضه ببعض، وقد حكى الغزالي وغيره من العراقيين في القند، والسكر، والفانيذ واللِّبَأ وجهاً: أنه يجوز بيع بعض ببعض؛ لأنَّ لتأثير النار فيه غاية يعرفها أهل البصر، وهذا جعله البندنيجي [ظاهر المذهب في السكر].

وقال الماوردي: "السكر والفانيذ إن أُلقي فيهما دقيق أو غيره فلا يجوز بيع بعضه ببعض، وإلَاّ فينظر: إن أدخلت النار فيهما لتصفيتهما وتمييزهما من غيرهما جاز بيع بعضه ببعض، وإن أدخلت لاجتماع أجزائه وانعقادها فلا.

وكذلك دبس التمر ورُبُّ الفواكه، وقد أُلحق بهذا النوع مصل أقط.

فرع: العسل المصفى بالشمس يجوز بيع بعضه ببعض.

وذهب بعض أصحابنا إلى أنه إن صُفي بها في البلاد المعتدلة الحر لا يجوز بيعه بما صُفي بها في البلاد الشديدة الحر، قال مجلي:"وليس بشيءٍ".

قال: "ولا مطبوخِهِ بنِيِئِه".

النَّيء مكسور [النون] مخفف الياء بهمزة ممدودة.

قال: "ولا أصله بعصيره": كبيع العنب، والرطب، والسفرجل، والتفاح، والرمان بعصيره، وكذا بيع اللبن بالمصل، جعل الرافعيُّ المنع معللاً بدخول النار فيه، واختلاطه بالدقيق، ويجوز بيع العصير بالعصير، خلافاً للقاضي الحسين، ويجوز بيع خل العنب بعضه ببعض، إذا لم يكن فيه ماء، ولا يجوز بيع خل التمر بمثله، وكذا خل الزبيب بمثله؛ لأن الماء إما ربوي أو يجهل قدره فيهما، وهل يجوز بيع خل الزيت بخل التمر؟ فيه وجهان:

ص: 152

إن قلنا: إن الماء ربوي، امتنع، وإلا فلا، وهذا إذا قلنا: إن الخلول أجناسٌ.

أمَّا إذا قلنا: جنسٌ واحدٌ – كما خرجه [أبو] علي بن أبي هريرة قولاً – امتنع وجهاً واحداً.

ولا يجوز بيع الطحينة بالطحينة، وكذا لا يجوز بيع كسب الشيرج بمثله، وجوَّز أبو علي بن أبي هريرة بيع الكسب بالكسب وزناً، ووجه المنع: أن أصله الكيل، وفيه ماء وملح؛ فهو من قبيل ما يذكر من بعد. قاله الماوردي.

قال: "ولا خالصه بمشُوبه" أي: مثل الدراهم الخالصة بالمغشوشة والحنطة السالمة من الفصل والزُّوان بما فيه قصل أو زوان، والسمن بالزبد الذي فيه المخيض، وكلما لا يقصد المخالط فيه دون ما إذا كان المخالط مقصوداً؛ كبيع عسل النحل بشمعه بمثله؛ فإن المنع منه مأخوذٌ من قاعدة "مد عَجْوَة" لا من هذه القاعدة.

تنبيه: "المَشُوب" – بفتح الميم، وضم الشين -: المخلوط بغيره.

قال: "ولا مشوبه بمشوبه" أي: مثل العلس في قشرته أو قشره بمثله، أو بالحنطة، أو الأرز في شرته بمثله، دون ما إذا كان في قشره الأحمر على رأي أكثر أصحابنا، كما حكاه الماوردي، وكجميع ما ذكرناه من قبل.

وفي الجيلي عن "البحر": أن الصحيح جواز بيع الأرز بالأرز في قشرته العليا؛ لأن صلاحه فيها، وكذا الباقلاء في قشرته، ويلتحق بهذا القسم بيع الزبد بالزبد؛ إذ لا يخلو أحدهما عن قليل مخيض، وفيه وجهٌ: "أنَّه يجوز، وبه قال ابن أبي هريرة، وهو أصح عند الماوردي؛ لأنَّ ما فيه من بقايا اللبن يسيرٌ غيرُ مقصود، وهذا يليق بمذهب أبي إسحاق؛ حيث اعتبر فيه الكيل.

قال الرافعيُّ: "وعلى الأوَّل لا يجوز بيع الزبد بالسمن"، وهذا يفهم جواز بيعه به على الثاني، وليس كذلك.

ومن هذا القسم دهن البنفسج، والورد، ودهن الزيت، وهو دهن الياسمين إذا طُرح ذلك فيه بعد العصر، أمَّا إذا طيب الحب به، ثُمَّ أُزيل عنه وعصر فلا أثر لذلك.

وألحق أبو إسحاق بهذا القسم الشيرج بالشيرج؛ لما فيه من الملح والماء، وردّ الأصحاب عليه بأنَّ ذلك يخرج مع الكُسْب، وكذا ألحق به بيع اللحم باللحم وفيهما

ص: 153

العظم، ووافقه على ذلك المعظم.

وقال الإصطخري: "إن ذلك لا يضر كالنوى"، وهو ما حكاه الماوردي، والقاضي أبو الطيب في "تعليقه" في مسألة "بيع العسل بالعسل"؛ فعلى هذا يجوز بيع لحم الفخذ بالجنب، ولا نظر إلى تفاوت أقدار العظام؛ كَمَا لَا نظر لتفاوت النوى.

وألحق الماورديُّ باللحم الذي فيه العظم اللحم الذي عليه الجلد الرقيق كجلود الجِداء والدجاج، وحكى فيه الوجهين، وقال:"أمَّا الجلد الغليظ الذي لا يؤكل معه فممتنع بيعه باللحم، وبيع السمك المملوح بمثله ممتنع، وإن كان من سمكة واحدة".

فرع: لو نزع النوى من التمر فهل يجوز بيع بعضه ببعض؟ فيه وجهان، أصحهما المنع، وهو ما حكاه الماوردي في مسألة "بيع العسل بالعسل".

والمشمش والخوخ، منهم من ألحقهما بالتمرن فخرج بيعهما منزُوعَي النوى على الوجهين، ومنهم من ألحقهما باللحم؛ فجوز عند النزع، وأجرى الخلاف في صحة البيع مع البقاء.

قال: "ولا رَطْبه برطبه" أي: إذا كانت له حالة جفاف كالرُّطَب بالرطب، والبُسْر بالبسر، والبلح بالبلح، والعنب بالعنب، والحِصْرَم بالحصرم على الأرض، والخبز بالخبز، وجعل الغزالي المنع في الخبز من قاعدة مد عجوة"؛ لما فيه من الماء والملح، ومقتضى ذلك: أنه لا يجوز بيع بعضه ببعض بعد جفافه ودقه كما حكيناه من قبل، وهو ما نصَّ عليه الشافعيُّ في الصرف، وفي "شرح التلخيص" للقفال: [أن] بيع الرطب بالرطب – وكلاهما على وجه الأرض – يخرج على الخلاف فيما إذا كانا على رءوس النخل.

[وقد ألحق بعض الأصحاب بهذا القسم بيع اللحم الرطب باللحم الرطب، وجعل حاله كحاله إذا قُدِّد، ومنع البيع قبلها]، وبعضهم حكى فيه قولين، ومحلهما إذا لم يكن مملوحاً، أمَّا ما ليس له حالة جفاف، فإن كان كاللبن جاز بيع بعضه ببعض في حال رطوبته، ولا فرق فيه بين الحليب والذي تغير طعمه وحمض، إذا لم يكن فيه ماء، ولا بين أن يكون أحدهما حليباً والآخر حامضاً؛ فإنه يجوز، قال القاضي أبو الطيب: "كما يجوز بيع تمر طيب بتمر غير طيب وقد حمض، وحنطة طيبة بحنطة

ص: 154

تغير طعمها وعفنت".

ومال المتولي إلى منع بيع الحامض بالحامض؛ لأنه ليس على حالة الادخار، ولا على حالة كمال المنفعة؛ فليكن كبيع الدقيق بالدقيق.

وإن كان كالرُّطب الذي لا يُتْمِر، والعنب الذي لا يجيء منه زبيب، فهل يجوز بيع بعضه ببعض؟ ففيه القولان اللذان تقدم ذكرهما في الخضراوات، والمنصوص عليه منها في "الأم" قول المنع، وبه جزم بعضهم، واختيار ابن سريج- كما حكاه الماوردي -: الجواز.

وما تجفف على بذور كالخوخ والمشمش ونحوهما، هل يجوز بيع بعضه ببعض؟ حكى المراوزة فيه ثلاثة أوجه، ثالثها: المنع رطباً ويابساً، وبالمنع أجاب القاضي أبو الطيب في الخوخ في حالة الرطوبة، وهو الأصح في الجميع عند غيره.

قال الإمام: "ولم يجوِّز أحد من الأئمة بيعه رطباً ويمنع منه جافاً. نعم، حكى ذلك في الرطب الذي إذا جفف، لم يبق فيه انتفاع [يحتف به]؛ فتجتمع فيه أربعة أوجه: هذا، والأوجه الثلاثة المنقولة في المشمش والخوخ.

فرع: الجبن إذا يبس هل يجوز بيع بعضه ببعض؟ فيه قولان:

أحدهما - رواه حرملة -: أنه يجوز وزناً، وبه قال أبو إسحاق.

والثاني - رواه الربيع، وهو الصحيح -: أنه لا يجوز. واختلف في تعليله، فقال ابن سريج:["لأن أصله الكيل، وهو فيه متعذر"، وقال غيره: "لأن فيه إنفحة"، فعلى قول ابن سريج] لو دق حتى أمكن كيله يجوز، وعلى قول غيره لا، حكاه في "الحاوي".

قال: ولا رطبه بيابسه" كبيع الرطب، أو البسر، [أو البلح] بالتمر والعنب أو الحصرم بالزبيب.

وقد استدل لذلك بما روى الدارقطني بسنده عن ابن عمر قال: "نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَن بَيْعِ الرُّطَبِ بِالْيَابِسِ وفي سنده موسى وهو ضعيف [ورجل

ص: 155

صالح]، والذي رواه الشافعي عن سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الرطب بالتمر، فقال:"أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا جَفَّ؟ " قيل: نعم، قال: فَلَا إِذَنْ:".

وفي "تعليق" القاضي الحسين حكاية خلاف فيما إذا باع الرطب على الأرض بالتمر، وفي "الحاوي" أن بيع الطلع بالتمر هل يجوز؟ فيه ثلاثة أوجه، أصحها: ثالثها: وهو الجواز لطلع الفُحَّال دون طلع الإناث.

قال: "إلا في العرايا، وهو بيع الرطب على رءوس النخل بالتمر على وجه الأرض، والعنب في الكرم بالزبيب على وجه الأرض فيما دون خمسة أوسق خَرْصاً".

ص: 156

العرايا: جمع عَرِيَّة، والعَرِيَّة في اللغة: ما تفرد بذاته، وتميز عن غيره، وسمي ساحل البحر: العراء؛ لأنه قد خلا من النبات، وتميز عن غيره من الأرض؛ فكأن [بيع] العرايا في النخل والكرم أن يفرد عما سواه بالبيع أو الهبة أو الأكل حتى يصير مميزاً من الجملة.

وهي "فعيلة" بمعنى "فاعلة".

وقيل: بمعنى "مفعولة"، والمراد بها عند الشافعي ما ذكره.

والأصل في جواز ذلك: ما روي مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في بيع العرايا بخرصها دون خمسة أوسق، أو في خمسة. وذلك يشمل الرطب والعنب.

ويدلُّ على جوازه فيهما أيضاً: ما روى عن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم رَخَّص في العرايا.

والعرايا بيع الرطب بالتمرن والعنب بالزبيب، وهذا قول البصريين من أصحابنا، وذهب ابن أبي هريرة وطائفة من البغداديين إلى أن النص ورد في النخل، والكرم مقيسٌ عليه، وقد يستدل لهم بما روى الترمذي عن زيد بن ثابت أنَّ رجالاً [محتاجين] من الأنصار شكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن الرطب يأتي؛ فرخص لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر الذي كان بأيديهم.

ص: 157

[وعلى هذا يعرض إشكال في جوازه؛ لأنّ مسلماً روى عن ابن عمر أنه – عليه السلام – نهى عن المزاينة والمزابنة: بيع ثمر النخل بالتمر كيلاً، وبيع الزبيب بالعنب كيلاً، وعن كل تمر بخرصه، وهذا نص، والقياس في الرخص لا يجوز.

وجوابه: أن الصحيح من مذهب الشافعيّ جواز القياس في الرخص إذا عقل المعنى، وهو هنا معقول.

فإن قلت: قياس قوله: إن القياس في الرخص لا يجوز مطلقاً، أن يمتنع هاهنا بيع العنب بالعنب بناء على ما نحن فيه.

قلت: لعل الشافعي حيث كان يقول بذلك كان يقول: إن قول الصحابي حجةٌ، والصحابي فقد فسر الجواز العرية بالرطب والعنب، فلا جرم لم يختلف قوله في جواز بيع العنب بالعنب، والله أعلم].

قال: "وفي خمسة أوسق – قولان".

فأحد القولين: أنه يجوز، وهو المنصوص عليه في "الأم" والأظهر عند الغزالي؛ لما روي الشافعيُّ بسنده عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه "نَهَى عَنْ الْمُزَابَنَةِ"، والمزابنة: بيع التمر بالتمر، إلَاّ أنه أرخص في العرايا، وهذا الإطلاق يقتضي تعميم الجواز، لكنه خصّ فيما فوق الخمسة أوسق بالاتفاق؛ فبقي على إطلاقه فيما عداه.

ص: 158

وفي الجيلي حكاية وجه فيما زاد على خمسة أوسق: أنه يجوز.

والثاني – وهو المنصوص عليه في "الصرف"، والأظهر عند الجمهور -: أنه لا يجوز؛ لما روى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَا صَدَقَةَ فِي الْعَرِيَّة". والخمسة نصاب تجب فيها الصدقة؛ فلم يجز أن تكون من جملة العرية. كذا استدل الماوردي؛ ولأن النهي عن المزابنة معلوم محقق، والرخصة في قدر الخمسة أوسق مشكوك فيها من داود بن الحصين الراوي عن أبي هريرة؛ فرجعنا إلى الأصل.

وفي "تعليق" القاضي الحسين أنّ الشيخ كان يقول: "القولان في الخمسة أوسق حقيقتها أن تحريم المزابنة كان والنهي عنها ورد أوَّلاً واستقر، ثم وردت رخصة العرية، أو ورداً مقرونين معاً، وكان فيه احتمالان:

أحدهما – وهو الأظهر -: أن يكون ورد النهي أوَّلاً واستقر التحريم، ثم وردت رخصة [العرية، وسبب تعليق القول فيه شك الراوي؛ فعلى هذا لا يجوز البيع للشك في الرخصة] وتيقن التحريم.

والثاني: أن يكونا وردا معاً؛ فعلى هذا يجوز لوقوع الشك في قدر المحرم.

وهذا إذا ورد عليها العقد مع واحد، فإن عقدها مع رجلين، فيجوز فيما دون العشرة، ولا يجوز فيما فوق العشرة، وفي العشرة القولان، ول واشترى الواحد من رجلين أكثر من خمسة أوسق في عقد واحد وأقل من عشرة، فيه وجهان:

أحدهما: يجوز؛ لأنّ ذلك في حكم عقدين، فيصير كما لو اشترى من كل منهما في عقد دون خمسة أوسق؛ فإنه لا نزاع في جوازه، وهذا هو الأصح، ولم يحك الماوردي سواه.

والثاني – وهو اختيار صاحب "التلخيص" -: المنع؛ نظراً إلى كونه دخل في ملكه في الوقت الواحد أكثر من خمسة أوسق.

"تنبيه": إطلاق الشيخ جواز بيع العرايا من غير أن يفرق بين الغني والفقير يعرفك أنه لا فرق بينهما، وهو المذهب؛ لإطلاق الخبر، وفي الغني قول – ذكره في "لإملاء" و"اختلاف الحديث"، واختاره المزني -: أنه لا يجوز [له]؛ لخبر زيد،

ص: 159

ومن قال بالأوّل قال: هذه حكمة شرعية.

ثم قد يعم الحكم كما في الرَّمل والاضطباع في الطواف وغيرهما.

والمراد بـ"الخمسة أوسق" أن يكون الرطب المبيع إذا جفف بلغ خمسة أوسق، لا أن يكون في حال رطوبته خمسة أوسق.

قال الماوردي: ويكفي في التخريص واحد؛ لأنه قائم مقام الكيل، والكيل يكفي فيه واحد؛ فكذلك هذا، بخلافه في الزكاة على أحد الوجهين؛ فإنه لابد من اثنين.

ثم إطلاق الأئمة "ما دون خمسة أوسق" يشعر بأنه يكفي ما ينطلق عليه الاسم، ويؤيده قول الماوردي:"إنه يكفي نقصان ربع مد".

قلت: وكان لا يبعد أن يتخرج هذا على أن الخمسة أوسق في الزكاة تحديد أم تقريب؟ وفي ذلك خلاف، فإن قلنا: إنها تحديد، كفى في النقص عنها ما ينطلق عليه الاسم، وإن قلنا: إنها تقريب، فقد حكى مجلي عن العراقيين: أنه لا يضر نقصان خمسة أرطال، وعلى هذا فينبغي أن يكون النقص أكثر من خمسة أرطال، خصوصاً إذا عللنا بحديث أبي سعيد الخدري، والله أعلم.

ولا يخفى أن اشتراط التقابض شرط في هذا العقد، وهو في الرطب على رءوس النخل التخلية.

وقول الشيخ: إلَاّ في العرايا، وهو بيع الرطب على رءوس النخل فيه مناقشة؛ فإنه جزم بتحريم بيع الرطب باليابس إلَاّ في العرايا، وفسرها بما ذكر، وذلك يقتضي عدم جواز بيع ما سوى الرطب، وليس كذلك، بل حكم البسر الذي بدا صلاحه في هذا المعنى حكم الرطب، صرح به الماورديُّ، وكذا يجوز بيع الرطب على الأرض بالتمر؛ بناءً على أن الخرص أصلٌ، كما حكاه الإمام.

وهذا قد يجاب عنه: بأن الشيخ يرى عدم الصحة؛ اقتصاراً على مورد النص، كما حكاه الإمام أيضاً، وادعى المحاملي نفي الخلاف فيه.

واعلم أنه لابد مع ما ذكرناه [من] ملاحظة ما قيل فيما إذا باع ما تعلق للفقراء به حقٌّ، ومحله [في] كتاب الزكاة.

ص: 160

فروع:

بيع الرطب على رءوس النخل أو في الأرض بالرطب على رءوس النخل هل يجوز؟ فيه أربعة أوجه:

أحدها – وهو الذي قاله الماورديُّ: "إنه مذهب الشافعي".

وبه قال أبو سعيد الإصطخري -: أنه لا يجوز.

والثاني –وبه قال أبو علي بن خيران -:أنه يجوز، لكن الرطب الذي على رءوس النخل يخرص، والذي على الأرض يكال.

والثاث – وبه قال أبو إسحاق المروزي -: إن اختلف النوعان جاز، وإلَاّ فلا.

وحكى الماوردي وأبو حامد عنه: أنه لا يجوز بيع رطب على رءوس النخل برطب على الأرض، وأما بيع رطب على رءوس النخل: برطب على رؤوس النخل، فإن كانا نوعاً واحداً لم يجز، وإن كانا نوعين جاز.

والرابع – وبه قال أبو علي بن أبي هريرة -: يجوز بيع الرطب على الأرض بالرطب على رءوس النخل، وكذلك يجوز بيعه بما على رءوس النخل [أيضاً] إن كانا من نوعين، ولا يجوز إذا كانا من نوع واحد.

[الفرع] الثاني: إذا جفف الرطب [المبيع،] وظهرت زيادة على قدر الخرص – نظر: إن كان قدر ما يقع بين الكيلين لم يضر، وإن كان أكثر فالعقد باطل.

وفيه وجه: أنه يصح من الكثير بقدر القليل، ولمشتري الكثير الخيار.

والثالث: إذا باع بأكثر من خمسة أوسق بطل العقد.

قال الماوردي: "فإن قيل: هلا أبطلتموه فيما زاد على الخمسة، وجوزتموه في الخمسة" أي: بناءً على تفريق الصقة؟

قيل: لأنه بالزيادة على الخمسة قد صار مزابنة، والمزابنة كلها فاسدة.

قال: وفيما سوى الرطب والعنب من الثمار".

أي: التي تجفف كالمشمش والخوخ ونحوهما إذا منعنا بيع الرطب منها بالرطب "قولان":

أصحهما، وهو الذي ادّعى الماوردي أنه مذهب الشافعي -: أنه لا يجوز؛ لأنها

ص: 161

متفرقة مستورة بالأوراق؛ فلا يتأتي الخرص فيها، وثمرة النخل والكرم متدلية ظاهرة.

والقول الثاني - وهو ما أخذ من قول الشافعي في البيوع [الكبير من "الأم"]: ولو قال قائل: بجواز التحري فيها كان مذهباً -: أنه يجوز بالقياس على الكرم والنخل.

قال الماورديُّ: وامتنع بعضهم من تخريج القولين؛ لمباينتها النخل والكرم بما ذكرناه، ووجوب الزكاة، وحصول الاقتيتات.

قال: "وما حرم فيه الربا لا يباع الجنس الواحد بعضه ببعض، ومع أحد العوضين جنس آخر يخالفه في القيمة كمد عجوة ودرهم [مدَّيْ عجوة].

الأصل في تقرير هذه القاعدة: ما روى مسلم عن فضالة بن عبيد أنه قال: "أُتِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر بقلادة فيها خرز مغلَّفة بذهب ابتاعها رجل بسبعة دنانير أو بتسعة، فقال عليه السلام: "لَا، حَتَّى يُمَيِّز بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا"، فقال: إنما أردت الحجارة، فقال عليه السلام: "لَا، حَتَّى يُمَيِّزَ بَيْنَهُمَا" قال فضالة: فرده حتى ميز بينهما.

وعنه قال: اشتريت يوم خيبر قلادة باثني عشر ديناراً، فيها ذهب وخرز ففصلتها، فوجدت فيها أكثر من اثني عشر ديناراً، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لَا تُبَاعُ حَتَّى

ص: 162

تُفْصَل" زاد الدارقطني: قال: إنما أردت الحجارة، قال: "لَا حَتَّى تُمَيِّزَ بَيْنَهُمَا".

وفي رواية لأبي داود::"إِنَّمَا أَرَدْتُ التِّجَارَةَ"، وزاد: قال: ردّه حتى ميز بينهما.

وقد ورد حديث فضالة بألفاظ مختلفة، وما ذكرناه أوَّلاً هو عين المسألة.

والمعنى فيه: أن قضية العقد إذا اشتمل أحد طرفيه على حالين مختلفين وزع ما في الطرف الآخر عليهما باعتبار القيمة، يشهد لذلك مسألة: الشقص، والسيف، وتلف أحد العبدين قبل القبض، ورده بالعيب، وبيعه مرابحة، وإذا كان كذلك اقتضى التفاضل أو الجهل بالتماثل، وكل منهما مانع من صحة العقد.

ومثال ذلك: أن المد الذي مع الدراهم إذا كانت قيمته درهمين مثلاً، فيكون ثلثي ما في هذا الطرف، فيقابله ثلثا المدين من الطرف الآخر؛ فيصير كأنه باع مداً بمد وثلث؛ ولذلك إذا كانت قيمته نصف رهم مثلاً فهو ثلث ما في [هذا] الطرف فيقابله ثلث المدين من الطرف الآخر؛ فيكون كأنه قابل مدًّا بثلثي مُد.

وفي هاتين الصورتين حصلت المفاضلة، وإذا كانت قيمته درهماً فلا مفاضلة؛ لأن مقابله من الطرف الآخر مد، لكن التقويم حدس وتخمين قد يكون صواباً وقد يكون خطأً، وذلك هو الجهل بالمماثلة المعتبرة في مال الربا؛ فإنه راعى فيها اليقين، وهذه الحالة كلام الشيخ يفهم الصحة فيها، ولم أعثر فيه على نقل يوافقه، ثم هذه الطريقة مطردة فيما إذا باع مدًّا ودرهماً بدرهمين، لكن التفاضل أو الجهل بالتماثل يجيء من طرف الدراهم فيما إذا باع صاع حنطة وصاع شعير بصاعين من حنطة أو من شعير، وفيما إذا باع مد عجوة وثوباً بمدي عجوة، وغير ذلك، وفيما إذا باع مد عجوة ودرهماً بمد عجوة ودرهم؛ فإن قيمة الدين متى كانت متفاوتة حصل التفاضل، ومتى كانت متساوية حصل الجهل بالتماثل على النحو الذي ذكرناه؛ لأن غاية الأمر أن يكون المدان من نخلة واحدة، والدرهمان من صحكة [واحدة، وذلك قد يختلف أيضاً، وذهب بعض أصحابنا إلى أن المدين إذا كانا من نخلة واحدة، والدرهمين من صكة واحدة] أنه يجوز، وإليه ذهب القاضي أبو الطيب في "تعليقه"، وحكى عن القاضي

ص: 163

الحسين أيضاً، وقال الروياني في "البحر": إنه المذهب، وغلط من قال غيره. وقد أفهم أن عنه احترز الشيخ بقوله:"يخالفه في القيمة"؛ فإن مقتضاه في صورة الكتاب: أن الأمداد إذا كانت من نخلة واحدة أن العقد يصح، وأنت إذا تأملت ما ذكر علمت أنّ هذا ليس مقتضاه.

وحكى المتولي في مسألة الكتاب أن العقد يبطل في المد المضموم إلى الدرهم، وفيما يقابله من المدين، وفي الدرهم وفيما يقابله من المدين قولاً تفريقِ الصفقة، وعلى قياس هذا فيما لو باعهما بدرهمين يبطل العقد في الدرهم وما يقابله من الدرهمين، [وفي المد وما يقابله من الدرهمين] القولان.

فإن قيل في أصل المسألة - ما أبداه الإمام اعتراضاً -: العقد لا يقتضي في وضعه توزيعاً مفصلاً، بل مقتضاه مقابلة الجملة بالجملة، أو مقابلة الجزء الشائع مما في أحد الشقين بمثله مما في الشق الآخر، بأن يقال: ثلث ومدُّ، وثلث درهم يقابل ثلثي المدين، ولا ضرورة إلى تكلف توزيع يؤدي إلى التفاضل، وإنما يصار إلى التوزيع المفصل في مسألة الشفعة لضرورة الشفعة؛ فالوجه التعليل بعدم تحقق المماثلة فإنا تعبدنا بالمماثلة تحقيقاً.

قيل في جوابه: أليس قد ثبت أن التوزيع المفصّل في مسألة الشفعة يثبت للضرورة، ولولا كونه قضية العقد لكان ضم السيف إلى الشقص من الأسباب الدافعة لها؛ فإنها قد تندفع بأسباب وعوارض، وأيضاً فإنه لا ضرورة في مسألة المرابحة، وقد جاز توزيع الثمن عليهما بالقيمة.

تنبيه: العجوة نوع من التمر، قال الجَوْهَرِيُّ:"وهو من أجود تمر المدينة، ونخلها يسمى لِينةً".

قال الأزهري: "والصيحاني الذي يحمل من المدينة من العجوة".

واعلم أن عبارة الغزالي في ضبط هذه القاعدة قد نوقش فيها من حيث إنه قال: "إن الصفقة مهما اشتملت على مال الربا من الجانبين، واختلف الجنس من الجانبين، أو من أحدهما فالعقد باطل"، وليس كذلك؛ فإن الصفقة إذا اشتملت على ذهب

ص: 164

وفضة في جانب، وحنطة وشعير في جانب، أو على حنطة وشعير في جانب، وتمر في جانب، أو تمر وملح – كان ذلك جائزاً.

وطريق الجواب عنه: أنه أراد مال ربا الفضل؛ لقرينة السياق.

قال: ولا يباع نوعان مختلفا القيمة من جنس واحد بنوع واحد منه متفق القيمة كدينار قاساني ودينار سابوري بقاسانيَّيْنِ أو بسابوريَّبْن، وكدينار صحيح ودينار قراضة بدينارين صحيحين أو بدينارين قراضة؛ لما قررناه من مقتضى التوزيع؛ فإنه يفضي في هذين المثالين إلى تحقُّق المفاضلة.

وفي "البيان" و"الإبانة" حكاية وجه عن بعض أصحابنا موافق لمذهب أحمد: أنه يجوز في هذين المثالين، ولا يضر اختلاف النوع والصفة، كما في بيع التبر بالمصوغ، والجيدين بالرديئين، ووافقهما صاحب "التقريب" في بيع الصحاح أو المكسرة بالصحاح أو المكسرة، وجعل صاحب الصحاح مسامحاً بصفة الصحة؛ استدلالاً بأنَّ الناس لم يزالوا يبتاعون الدراهم بالدراهم، والدنانير وبالدنانير، وهي تشتمل على الصحاح والمكسرة، واختلاف الأنواع، ولم يتكلفوا تمييز بعضها عن بعض، وأجرى الفوراني الخلاف فيما إذا باع [ديناراً صحيحاً وديناراً مكسوراً بدينار صحيح وبدينار مكسور، وفيما إذا باع] رديئاًوجيداً برديء وجيد، وفيما إذا باع صيحانيًّا وبرنيًّا بصيحانيين أو برنيين، أبو بصيحاني وبرني، والمذهب الأول.

ومن هذا القبيل مسألة المراطلة، وهي إذا باع مائة دينار عتق ومائة دينار مروانية بمائتي دينار وسط؛ فإنه لا يصح العقد، كما نص عليه الشافعي.

قال الإمام: "وقياسي يقتضي القطع بصحة العقد، ولم أر أحداً من الأئمة يشير إلى خلاف فيها، وهو رأي رأيته، وهو خارج عن مذهب الشافعيّ وأصحابه وصاحب "التقريب"؛ حيث جعل صفة الصحة مسامحاً بها احترز عن هذه المسألة؛ لأن معنى المسامحة لا يتحقق فيها؛ لمقابلة الجيد والرديء بالوسط، وإذا لم يتحقق اقتضى العقد من الشقين طلب المغابنة، وهو يقتضي التوزيع المفضي إلى التفاضل لا محالة، وإلى هذا المعنى أشار الغزالي بقوله: "وكان إمام الحرمين يخالف المذهب في مسألة المراطلة، ويبطل التعليل بالتوزيع – أي فيها وفي غيرها – ويعلل [بالجهل

ص: 165

بالمماثلة]، وذلك يجري عند اختلاف الجنس، أي التعليل بالجهل بالمماثلة، أمَّا في هذه المسألة فلا؛ لأن المماثلة معلومة.

تنبيه: تقييد الشيخ المسألة باختلاف القيمة في النوعين، وكذلك ابن الصباغ – يظهر منه أن النوعين لو اتفقت قيمتهما صح العقد، وقد نظر أنه مستمد مما ذكرناه أولاً عن اختيار أبي الطيب، فإنه جعل وجه الصحة ثمَّ لكونه علم القيمة قبل العقد، وذلك بعينه موجود هنا، وأنه يظهر أن يجيء فيه قول عدم الصحة أيضاً، بل من طريق الأوْلى؛ لأن ثمر النخلة واحدة والصكة واحدة، وهنا النوعان مختلفان، وإن استوت قيمتهما فهي حدس، وفيه ما ذكرته، وتقييده النوع الأخير بكونه متفق القيمة؛ لدفع توهم يعرض من كونه قيد النوعين بالاختلاف، وألا فلا فرق بين أن يكون متفق القيمة أو مختلفها.

آخر: القاساني والسابوري – بسين مهملة فيهما – منسوبان إلى بلدين في العجم، و"قاسان" في لسان العجم "كاسان"، وهو قريب من "سَمَرْقَنْد"، والسابور معروف، ويقال له في لسان العجم:"نيسابور".

القُراضة: - بضم القاف – قطع الذهب والفضة.

وقوله: "قراضة" منصوب.

فروع:

لو باع صاعاً من رديءٍ وجيد، وكانا مخلوطين بمثله، أو بجيد، أو رديء – جاز؛ لأن التوزيع إنما يكون عند تمييز أحد العوضين عن الآخر، أمَّا إذا لم يتميز فهو كما لو باع صاعاً وسطاً بجيد أو ردئ، قاله الرافعي:

ولو ميز الصغار من الكبار [نوع واحد من التمر، فباع صاعاً من الصغار، وصاعاً من الكبار،] بصاع من الكبار وصاع من الصغار – كان كما لو باع مد عجوة ودرهماً بمد عجوة ودرهم، والدرهمان من صحكة واحدة، والمدان من نخلة واحدة.

وإذا لم يميز بين الصغار والكبار، ولكن أراد أن يبيع صاعين بصاعين – فلا شك أنه قد اشتمل كل عوض على الصغار والكبار، وقد اختلف أصحابنا فيه:

فمنهم من قال: إذا كان بين أحد العوضين تفاوت، فلا يصح العقد، وإن لم يكن

ص: 166

متميزاً، وهذا اختيار القاضي الحسين.

ومنهم من قال: ينظر في ذلك: فإن كانت الصغار ظاهرة فيما بين الكبار؛ بحيث يبين ذلك للناظر من غير تأمل، فلا يصح العقد، وإن لم يكن ظاهراً صح، وصار كما لو باع أرضاً [فيها] معدن ذهب بذهب إن كان المعدن ظاهراً لم يصح، وإن كان غير ظاهر صح.

وتظهر فائدة الاختلاف في الأصل فيما لو باع صاعين بدرهمين، ثم خرج أحد الصاعين مستحقاًّ – أنه لا يستحق درهماً بإزائه، وإنما سترد ما يقابله باعتبار القيمة، كذا حكاه ابن التلمساني في "شرحه".

وفي "التهذيب" حكاية وه فيما إذا ظهر في الأرض معدن ذهب، وقد باعها بالذهب: أنه لا يصح؛ كما لو باع بقرة بلبن بقرة، وكانت البقرة لبوناً؛ فإنه لا يصح إذا باع داراً مموهة بالذهب: فإن تحصل منه شيءٌ بالعرض على النار حرم، وإلاّ فيجوز.

قال: "ولا يجوز بيع اللبن" – أي: لبن شاة، أو ما يعمل منه – "بشاة في ضرعها لبن" أي: مقصود؛ لأن اللبن في الضرع يأخذ قسطاً من الثمن بدليل أنه – عليه السلام – أوجب في مقابلته في المصراة عند الرد صاعاً من التمر، وإذا أخذ قسطاً من الثمن كان من صور "مد عجوة".

وفي "الجيلي" حكاية وجه: أنه يجوز، ويمكن أن يكون مأخذه ما حكاه الغزالي في المصراة: أن اللبن في الضرع لا يقابله قسط من الثمن على رأي.

أما إذا كان اللبن لبن بقرة مثلاً، فإن قلنا: إن الألبان جنس واحد، فكذلك الحكم.

وإن قلنا: إنه أجناسٌ، وفرعنا على المذهب – فيتخرج على قوليْ تفريقِ الصفقة في الحكم؛ لأن ما يقابل اللبن الذي في الضرع من اللبن الذي في الإناء يشترط فيه التقابض، [وما يقابل الشاة من اللبن الذي في الإناء لا يشترط فيه التقابض].

ولو باع شاة في ضرعها لبن بشاة في ضرعها لبن لم يصح، خلافاً لأبي الطيب بن سلمة؛ فإنه جوز ذلك، كما في بيع السمسم [بالسمسم] وسلم الحكم في بيع اللبن بالشاة، وشبهه ببيع الدهن بالسمسم.

ص: 167

وفي "الوسيط" نسبة المنع في بيع الشاة وفي ضرعها لبن بمثلها إلى أبي الطيب بن سلمة، والصحيح عنه ما حكيناه، كما هو في "البسيط" و"الشامل" وغيرهما.

ولو باع داراً فيها بئر ماءٍ، وفيه الماء بمثلها، وقلنا: إنه يملك في البئر كما يملك إذا وضع في الإناء – كما ذهب إليه بعض أصحابنا، على ما حكاه الماوردي، وهو المنصوص في القديم، وحرملة، كما حكاه غيره – وأدخلا الماء في العقد، وكان معلوماً لهما، وله قيمة:

فإن قلنا: إن الماء غير ربوي، صح العقد.

وإن قلنا يجريان الربا فيه، لم يجز، قال الماوردي:"إلَاّ أن يكون مِلْحاً فيجوز؛ لأن الماء المِلْح غير مشروب، ولا ربا فيه".

وفي "الشامل": حكاية خلاف أبي الطيب بن سلمة فيه، وهو ما جزم به البغوي، وجعله تبعاً للدار، وهذا يدلُّ على أنه يندرج تحت مطلق البيع، وقد صرح به الغزالي وجهاً كالثمار غير المؤبرة، واختاره ابن أبي عصرون.

أمَّا إذا لم يدخلا الماء في العقد فهو باقٍ على ملك البائع إذا كانت له قيمته، قاله الشيخ والمتولي، فعلى هذا لا يصح العقد؛ لاختلاط المبيع بغيره،

وإذا قلنا: إنه لا يملك إلَاّ بالأخذ والإجارة، وإنما له حقُّ منع الغير من التصرف فيه، كما ذهب إليه جمهور الأصحاب، وهو ظاهر مذهب الشافعيّ في "الحاوي" – فهذا الحق قد انتقل إلى المشتري، والعقد صحيح.

فرع: لو باع دجاجة فيها بيض بيض، فإن قلنا: إن الحمل لا يقابله قسط من الثمن، لم يصح [البيع]؛ لأن بيع البيض بالبيض لا يجوز على الجديد، قاله الماورديُّ، والموجود في "تعليق" أبي الطيب الجزم بعدم الصحة من غير بناء.

قال: "ولا يجوز بيع اللحم بحيوان مأكول" أي: سواء كان من جنس اللحم، أو لا من جنسه، خلافاً للمزني.

ص: 168

لنا: ما روى أبو داود عن سعيد بن المسيب "أنَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ اللحْمِ بِالْحَيَوَانِ"، وهو عامُّ، يشمل ما هو من جنسه وغير جنسه.

فإن قيل: هذا مرسلٌ؛ فلا حجة فيه.

قيل: قد أسنده الترمذي عن رواية زيد بن سلمة الساعدي، والبزار عن رواية ابن عمر، لكن لفظه:"صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَان بِاللَّحْمِ"، على أنَّ الشافعيَّ رأي في القديم الاستدلال بمراسيله؛ لأنه قيل: إنه لم يرسل حديثاً قط [إلَاّ] يوجد من طريق غيره مسنداً، أو لأن رجاله الذين أخذ عنهم هم أكابر الصحابة، وليس كغيره الذي يأخذ عمن وجد، أو لأنها سُيِّرت فكانت مأخوذة عن أبي هريرة، وكان يرسلها؛ لما قد عرفه الناس من الأنس بينهما والوُصْلة؛ فإن سعيداً كان صهر أبي هريرة على ابنته؛ فصار إرساله كإسناده عن أبي هريرة.

وفي الجديد سوّى بين مراسيله ومراسيل غيره في عدم الاستدلال بها، إلَاّ أن

ص: 169

يوافقها أحد سبعة أشياء: إمَّا قياس، أو قول صحابي، أو فعله، وإمَّا أن يكون قول الأكثرين، وإمَّا أن يُنشر في الناس من غير دفاع له، وإمَّا أن يعمل به أهل العصر، وإمَّا ألَاّ توجد دلالة سِواه، وقد اتصل بهذا الخبر:

الأثر، وهو ما روي [عن] ابن عباس أن جزراً نحرت على عهد أبي بكر، فجاء رجل بعناق فقال: أعطوني جزءاً بهذا العناق، فقال أبو بكر:"لا يصلح هذا"، وكان قول أبي بكر مع انتشاره في الناس، وعدم معارض له.

والقياس؛ فإنه نوع فيه ربا بيع بأصله الذي فيه مثله؛ فوجب ألَاّ يجوز؛ كما إذا باع شيرجا بسمسم، والزيت بالزيتون، والشيرج والزيت مثل ما في السمسم والزيتون، أو أقل منه.

وحكى القاضي أبو الطيب والبندنيجي: أنَّا إذا قلنا: إن اللُّحْمان أجناسٌ، فباع لحم البقر بشاة – جاز على قولن وجعله الإمام أقيس، والصحيح الأول، ووجهه مجلي: بأنه لا خلاف أن الحيوان أجناسٌ، وإنما الخلاف فيما إذا صارت لحماً، وشملها اسم اللحم، وبه جزم البغوي، والمحاملي، والماوردي وحكى في جواز بيع اللحم بالسمك الحيّ وجهين، ووجه الجواز: أن حيَّ السمك في حكم مَيْتته، بخلاف الحيوان، وقال القاضي أبو الطيب: إن قلنا: إن السمك من جنس سائر اللحوم، لم يجز، وإلَاّ فقولان.

قال:"وفي بيعه بحيوان غير مأكول"- أي: كالعَيْر والحمار ونحوهما – قولان: أحدهما – وهو الأصح أيضاً والمنصوص في أكثر الكتب -: أنه لا يجوز؛ لعموم الخبر. قال الماوردي: وبهذا قال من أصحابنا من زعم أن دليل المسألة اتباع السنة.

والثاني: أنه يجوز، واختاره ابن أبي عصرون؛ لأنه حيوان ليس فيه لحم مأكول حتى يكون من باب بيع الشيء بأصله. قال الماوردي: وبهذا قال من أصحابنا من زعم أن دليل المسألة اتباع القياس.

وعلى المأخذين يخرج ما لو باع الشحم أو الكلية، أوالطَّحال بالحيوان: فمن راعى اتباع السنة جوّز، ومن راعى القياس منع.

وعلى الوجهين يجوز بيع الحيوان بالجلد والعظم [؛ لأن الجلد والعظم] مما

ص: 170

لا ربا فيه بخلاف اللحم، وكذا بيع البيض بالدجاج، واللبن بالحيوان.

وأجرى الرافعيُّ الخلاف في بيع الجلد بالحيوان إذا لم يكن مدبوغاً.

فروع تتعلق بالباب:

إذا كان بين شخصين من مال الربا ما يحرم بيع بعضه ببعضه، وأرادا قسمته – فذاك ينبني على أن القسمة إفراز حق أو بيع؟ فعلى الأول يجوز، وعلى الثاني – وهو المشهور – لا يجوز قسمته، ولكن الطريق في انفصال الشركة: أن يجعلا ذلك حصتين متميزتين، ثم يبيع أحدهما حقه من إحدى الحصتين على شريكه بدينار، ويبتاع حقه من الحصة الأخرى بدينار؛ فيصير لكل منهما حصة كاملة، ولكل منهما على الآخر دينار فيتقاصَّان الدينار بالدينار، ويكون هذا بيعاً يجري عليه جميع أحكام البيوع المشاعة.

وإن كان مما لا يحرم بيع بعضه ببعض.

فإن قلنا: إن القسمة بيع، روعي في ذلك شرائط المبيع، إلا أنه لا يشترط في القبض التحويل.

والفرق: أن المبيع مضمون على بائعه باليد؛ فاعتبر في قبضه التحول لترتفع اليد فيسقط الضمان، وليس في القسمة ضمان يسقط بالقبض، وإنما هي موضوعة للإجارة، وبالكيل يحصل ذلك، ويثبت فيه ما يثبت في البيع إلَاّ خيار المجلس؛ فإنه لا يثبت، ومن طريق الأوْلى خيار الشرط؛ لأن ذلك شرع لدفع الغَبِينة ولا غَبِينة.

وإن قلنا: إنها إفراز حق، جاز لهما أن يقتسما كلَّ جنس بينهما كيف شاءا، كيلاً ووزناً وجزافاً؛ فإن كان ذلك مما يختلف لم يجز لأحدهما أن ينفرد بأخذ شيء بحصته، وإن كان مما تتماثل أجزاؤه كالحبوب والأدهان جاز أن ينفرد أحدهما بأخذ حصته عن إذن شريكه، وهل يجوز من غير إذنه؟ فيه وجهان، وجه الجواز: أنه لو استأذنه لم يكن له أن يمنعه؛ فجاز إذا استوفى قدر حقه ألا يستأذنه، قاله الماوردي.

وفي "الشامل": "أنَّا إذا قلنا: إن القسمة بيع، واقتسم الشريكان بأنفسهما – ثبت فهيا الخياران، وكذا إذا كان فيها ردّ.

وحكى الغزالي في ثبوت خيار المجلس عند عدم الرد وجهين، وأن خيار الشرط لا يثبت – على الأصح – ما يشترط فيه التقابض إذا اشترى أحدهما بما وجب له منه

ص: 171

شيئاً آخر في المجلس قبل قبضه لم يصح، وإن قبض من صاحبه دراهم على وجه القرض ووفاها له في الثمن في المجلس، ففيه خلاف ينبني على أن القرض متى يملك؟

فإن قيل: بالتصرف، فلا يصح هاهنا، ولو قبض كل واحد منهما ما وجب له قبضه، ثم أودعه الآخر قبل التفرق، جاز ولم يبطل العقد، صرح بمثله الرافعي في رأس مال السلم. ولو أبرأ أحدهما صاحبه مما له عليه قبل التفرق كانت البراءة باطلة؛ لأنه إبراء مما لم يستقر ملكه عليه، قاله الماوردي.

ولو كان العقد ورد على معين فوهبه منه، فإن كان قبل قبضه لم يصح، وإن كان بعده فوجهان.

ص: 172