الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب التفليس
التفليس: النداء على المفلس، وإشهاره بصفة الإفلاس، قاله الرافعي.
وقال الغزالي: هو أن يجعل من عليه الدين مفلساً ببيع ماله.
ولفظ التفليس والفَلس والإفلاس، مأخوذ من الفلوس التي هي أخس الأموال؛ فإنه إذا حجر عليه منع التصرف في ماله إلا في شيء تافه لا يعيش إلا به، وهو مؤنته ومؤنة عياله.
وقيل: لأنه صار ماله كالفلوس؛ لقلته بالنسبة إلى ما عليه من الديون.
وقيل: لأنه فني خيار ماله وجيده، وبقي معه الفلوس.
قال المحاملي: وبعض أصحابنا يقول: إنما اشتق من الفلوس؛ لأنه ذهب ماله حتى الفلوس. وهذا بضد ما قاله أهل اللغة.
ويقال: أفلس، إذا أعدم، أو: صار ذا فلوس؛ كما يقال: أيسر، إذا صار ذا يسار، وهكذا يقدر في قولهم: مفلس؛ كقولهم: مُفِضّ، أي: ذو فضة.
وتفالس؛ أي: ادعى الإفلاس.
قال الماوردي: وكره بعض أصحابنا أن يقال في هذا الباب: باب الإفلاس؛ لأن الإفلاس مستعمل في إعسار بعد اليسار، والتفليس مستعمل في حجر الحاكم على المديون؛ فكان أليق بالحال.
وقد فسر الأصحاب المفلس في الشرع بمن ركبته الديون، وماله لا يفي بها، ويتجه أن يضاف إليه حجر الحاكم؛ أخذاً مما قاله الماوردي - كما ذكرناه - والبندنيجي، والمحاملي، حيث قالا: قال: فلَّسه الحاكم، إذا حجر عليه، ومنعه من التصرف في ماله.
قال: إذا حصلت على رجل ديون، فإن كانت مؤجلة لم يطالب بها - أي: قبل حلولها - لأنه لو جوز الطلب بها سقطت فائدة التأجيل.
قال: وإن أراد السفر - أي: أي سفر كان - لم يمنع منه؛ لسقوط المطالبة عنه قبل الحلول، ولرب الدين المسافرة معه ليطالبه عند حلوله؛ بشرط ألا يلازمه ملازمة الرقيب.
قال: وقيل: يمنع من سفر الجهاد – أي: إلا أن يقوم بالدين أو يَكْتَفِل به – لأن ذلك مظنة الهلاك؛ فإن المجاهد قد يطمع في الجنة فيحرص على طلب الشهادة، وذلك مضيع للدين. روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في معركة القتال يوماً:"مَنْ وَضَعَ سَيْفَهُ فِي هَؤُلَاءِ مُقْبِلاً غَيْرَ مُدْبِرٍ حَتَّى قُتِلَ فَلَهُ الجَنَّةُ، فَقَالَ بَعْضُ الأَنْصَارِ – وَكَانَ بِيَدِهِ تَمَرَاتٌ يَاكُلُهَا -: ليس بيني وبين الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء؟ ورمى بالتمرات واخترط سيفه وكسر غمده في العدو، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فعاد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِلَاّ أَنْ يَكُونَ عَلَيْكَ دَيْنٌ، فَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَعَادَ وَانْغَمَسَ حَتَّى قُتِلَ"، وهذا ما نسب إلى الإصطخري، وحكى الرافعي في السير أن الروياني صححه، وقد حكى القاضي ها الوجه في غير سفر الجهاد، في أي سفر كان في كتاب السير، ووجهه بأنه ربما حل الحق؛ فلا يمكنه المطالبة به.
وقيل في سفر الجهاد: إن خلف وفاءً بالدين فلا منع منه، وألا منع.
وقيل: إن كان من المرتزقة لم يمنع، وإلا منع، وفي كتاب القاضي ابن كجٍّ: أن الأجل إن كان يدوم إلى أن يرجع فلا منع، وإن كان يحل قبل أن يرجع ففيه الخلاف.
والأضعف على ما حكاه الإمام – المنع مطلقاً، والمذهب الأول، وخوف الهلاك موجود في الإقامة.
والحديث دال على منع جهاد من عليه دين، لا على منع السفر له، ومنع الجهاد مذكور في آخر الكتاب، وتجري الوجوه الثلاثة الأوَل في كل سفر مخوف مثل سفر البحر، [وفي "تتمة التتمة": أنها لا تجري فيه؛ فإن راكب البحر يسعى في السلامة، والغازي من يعرض نفسه للشهادة].
وعلى المذهب: لا يجب على المديون القيام لمستحق الدين عند طلبه الكفيل أو الراهن، أو أن يشهد [له] ذلك، وقد حكى عن صاحب "التقريب" رواية وجه في وجوب الإشهاد، واختار الروياني في زمانه وجوب القيام بالكفيل في السفر البعيد المخوف عند قرب الأجل؛ لخبث أهل الزمان.
قال: وإن كانت حالة وله مال يفي بها طولب بقضائها؛ [أي]: وإن لم يرد
سفراً؛ لقوله تعالى: - وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]؛ فدل على أنه إذا لم يكن ذا عسرة أنه لا يجب إنظاره، [ويجب عليه القيام به]، ولأن ذلك فائدة الحلول.
وما أطلقه الأصحاب من أن الدين إذا كان حالاًّ فله منعه من السفر حتى يُقْبِضه، أرادوا: برفعه إلى مجلس القاضي ومطالبته به، ومن هذا يظهر أنه ليس له منع المعسر من السفر، إلا أن يكون سفر جهاد على رأي، وقد صرح الرافعي به في السير؛ حيث حكى أن القاضي ابن كجٍّ قال- فيما إذا أراد من عليه دين حال وهو معسر سفر الجهاد-: المذهب أنه ليس له منعه، وأن أبا إسحاق قال: له منعه؛ لأنه يرجو أن يوسر فيؤدي، وفي الجهاد خطر الهلاك، وهذا يدل على أن المنع يكون بغير الحبس عند المنع منه في الدين المؤجل.
فرع: إذا لم يطالبه صاحب الدين الحال به، وهو قادر عليه، هل يجب عليه أداؤه على الفور؟ أو على التراخي؟ قال في "البحر" في آخر كتاب الغصب: يحتمل أن يقال: إن كان وجوبه يرضي المالك فهو على التراخي، ويتعين أداؤه بالمطالبة، أو لخوف منه على ماله فيفوت قضاؤه، وإن كان وجوبه بغير رضا المالك [فالقضاء على الفور؛ لأن صاحبه لم يرض وجوبه في ذمته، وهذا لأنه إذا كان يرضى المالك،] فصاحب الدين مندوب إلى ألا يطالب الدين، ولو كان وجوب القضاء على الفور لكان مندوباً إلى المطالبة؛ ليخرج من عليه الدين من العصيان بتأخير القضاء.
ويحتمل أن يقال: إذا كان الوجوب بغير رضاه ينظر: فإن كان صاحب الحق لا يعلم به كان على الفور، [وإن كان عالماً به، فإن وجب بتعدٍّ منه كان على الفور]، وإن كان بغير تعد فعلى التراخي.
قلت: ومقتضى ما قاله أخيراً أنه يجب عليه عند عدم العلم في صورة غير التعدي أحد أمرين: إما الوفاء، أو إعلامه بالدين.
وقال الإمام في كتاب [الزكاة عند الكلام في أن التمكن شرط الضمان: إن من
عليه دين وهو غير ممتنع من أدائه، ومستحقه غير مطالب به، فالدين الثابت، ولكن لا يتعين أداؤه ما لم يطالبه مستحقه، وقال في كتاب] القضاء بعد قوله:"إن الأداء لا يلزم إلا مع الطلب": وقد يقول الفقيه: من عليه دين حال يلزمه أداؤه، وإن لم يطالبه صاحبه، وإنما يسقط وجوب الأداء برضا مستحق الحق بتأخيره.
قال: فإن امتنع؛ أي: من القضاء بعد أمر الحاكم به، باع الحاكم ماله- أي: إن رأى ذلك [وقضى دينه]؛ لما روي عن عمر – رضي الله عنه – أنه قال: ألا إن الأسَيْفِعَ – أسيفعَ جُهَيْنَةَ – رضي من دِينِه وأمانته بأن يقال: سبق الحاج، ويقال: سابق الحاج، فادَّان معرضاً – أي: عن الوفاء، [وقيل: أعرض الناس فادان منهم – فأصبح] قدرِينَ بِهِ فمن كان له عليه دين فليحضر غداً؛ فإنا بائعوا ماله، وقاسموه بين غرمائه. ولم يخالفه أحد من الصحابة؛ فكان إجماعاً.
وإن رأى ألا يبيعه ويجبره على البيع بنفسه بالحبس والتعزير فله ذلك، صرح به الشيخ أبو حامد، وحكاه القاضي أبو الطيب.
وفي "التتمة" حكاية وجه: أنه لا يحبسه؛ لأنه ربما يقعد في الحبس ولايبيع المال؛ فيتضمن ذلك تأخير حقوق الغرماء، وهذا ما حكاه في "الذخائر" عن الأصحاب وصاحب "الاستقصاء" عن سليم الرازي ونصر المقدسي، وهل للحاكم أن يحجر عليه إذا التمسه الغرماء [عند امتناعه]؛ خشية من إتلاف أمواله؟ فيه وجهان:
أصحهما: نعم؛ لما ذكرناه، وهو الذي حكاه في "التتمة" عن الشيخ أبي حامد.
ووجه مقابله: أن عمر رضي الله عنه لم يحجر على الأسيفع، كذا قال المتولي والرافعي.
واعلم أن الحاكم إذا رأى بيع المال فلا يتولاه، إلا أن يثبت عنده أن ذلك ملكه بالبينة، كما صرح به الماوردي هنا، [والقاضي الحسين في كتاب الأقضية؛ حيث قال: إذا ادعى الخصم أن للمديون عقاراً في موضع كذا، فأقر به، وامتنع من بيعه - لا يبيعه القاضي حتى يقيم المدعي بينةً بأنه للمدعي عليه؛ لأنه ربما يكون لغيره، وبيع القاضي إياه يكون حكماً بأنه له]، وكلام الإمام في مسألة الظفر يدل عليه؛ فإن ضعف قول من قال: لا يبيعه بنفسه، بأنه إذا رفع الأمر إلى القاضي قد لا يجد بينة على إثبات دينه، وإن وجدها فقد يعجز عن إثبات كون هذه العين ملكاً لمن عليه الدين، وكلام صاحب "الإشراف" يدل على ذلك، وشيء آخر فإنه قال: القاضي يبيع الرهن بعد ثبوت الدين وصحة الرهن وملك الراهن أو يده يوم الإقباض، ثم قال: قال القاضي: هكذا ذكر المصنف، وهو في كتب أصحابنا بالعراق، إلا أنه قول أبي حنيفة، وعندنا مجرد اليد لا يدل على الملك، بل يشترط مع اليد قرينة التصرف، وامتداد المدة، وعدم المنازع، ويشترط في بيع التركة ثبوت الدين والملك والموت، والشهادة على أنه ملك الميت إلى أن مات، أو في يده وتصرفه تصرف الملاك.
قلت: وما ادعى القاضي أنه في كتب العراقيين من الاكتفاء باليد، يتجه جريانه هنا لأجل الحاجة، وقد يؤخذ من قول الشيخ في مسألة الظفر.
وقيل: يواطئ من يقر له بحق .. إلى آخره، وكلام ابن الصباغ ثم أدل عليه؛ فإنه ذكر أن أبا علي بن أبي هريرة، قال: لا يبيعه بنفسه، بل يواطئ رجلاً يدعي عليه ديناً عند الحاكم فيقر له، [ويقر له] بملك الشيء [الذي أخذه، فيمتنع من عليه الدعوى من قضاء الدين؛ يبيع الحاكم الشيء] المأخوذ، ويدفعه إليه.
وعلى الأول: يتجه أن يتعين الحبس إلى أن يتولى الممتنع من الوفاء البيع بنفسه؛ فإنه لا معترض عليه - كما قال الماوردي - ويوفي الدين.
تنبيه يحتاج إليه في ألفاظ عمر – رضي الله عنه: الأسيفع: بضم الهمزة وفتح السين بلا نقط، والياء منقوطة بثنتين من تحتها.
فادَّان: بتشديد الدال بلا نقط.
رين به: بكسر الراء بلا نقط، والياء آخر الحروف، يقال: رين بالرجل رَيْناً، إذا وقع فيما لا يستطيع الخروج منه، ولا قبل له به، ويقال: رين به: انقطع به، وهو راجع إلى الأول، ومنه قوله تعالى: - كَلَاّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [المطففين: 14]، قيل: هو الذنب على الذنب حتى يسودَّ القلب.
قال: فإن لم يكن هناك مال، وادعى الإعسار: فإن كان قد عرف له قبل ذلك مال – أي: قبل دعوى الإعسار – سواء كان مبيعاً الدين ثمنه، أو قرضاً الدين عوضه، أو غير ذلك.
قال: حبس؛ أي: إذا طلب الغريم ذلك [ولم يكن ولداً لمن عليه الدين]؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"لِصَاحِبِ الْحَقِّ الْيَدُ وَاللِّسَانُ".
وأراد باليد: الملازمة والحبس، وباللسان: الاقتضاء والمطالبة، ولأن الحبس يتوصل به إلى استيفاء الحق؛ فكان واجباً؛ لأن ما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب: كالملازمة، كذا قاس الماوردي، فظاهره يقتضي أن عمر بن عبد العزيز والليث بن سعد – اللذين خالفا في جواز الحبس – توافقا على الملازمة، وإلا لما حسن منه القياس عليها.
أما إذا كان ولداً له، أو ولدَ ولدٍ وإن سفل، فهل يحبس في حقه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأن الحبس نوع عقوبة، وليس للابن أن يوجه العقوبة إلى أبيه، وهذا ما صححه البغوي.
وقال القاضي الحسين في كتاب الإجارة: إنه قول العراقيين، وقال الإمام قبيل كتاب الدعاوى: إنه الذي ذهب إليه معظم أئمتنا.
والثاني: يحبس، وإلا أقر وامتنع عن الأداء، وحينئذ يعجز الابن عن الاستيفاء، ويضيع حقه، وهذا ما نسبه القاضي إلى القفال، والإمام إلى أبي زيد المروزي من أصحابنا، وقال: إنه القياس عندي، ولأجل ذلك صححه الغزالي في هذا الكتاب.
[قال الإمام:] وذكر بعض أصحابنا وجهاً ثالثاً – وهو اختيار صاحب "التلخيص" -: أنه يحبس في نفقة ولده إذا امتنع من الإنفاق عليه، ولا يحبس في غيره من الديون.
[والأمهات والجدات من الجهتين؛ كالأب والأجداد فيما ذكرناه].
وإذا حبس لا يلزم إخراجه إلى الجُمَع والجماعات، ولا يعصي بتأخره عنها إذا كان معسراً، ولا يلزمه الاستئذان للخروج إلى الجمعة إذا علم بشاهد الحال وغالب العادة أنه لا يأذن له، ولا يمنع من عمل صنعته في الحبس على أصح الوجهين.
ولو دعا المحبوس أمته أو زوجته إلى فراشه لم يمنع إن كان في الحبس موضعٌ خالٍ، فإن امتنعت أجبرت الأمة، ولا تجبر الزوجة الحرة؛ لأنه لا يصلح للسكنى، وإنما هو حبس ولا حبس عليها، والزوجة الأمة تجبر إن رضي سيدها.
[قال الرافعي في كتاب القضية: وكان يجوز أن يقال: الحبس وزجر وتأديب.
وإن اقتضى الحال أن تمتنع منه زوجته أو أمته فعل]، ولو كانت امرأة لم تمنع من إرضاع ولدها في الحبس ما لم يوجد منه بدٌّ، ويمنع الزوج منها.
ونفقة المحبوس في ماله على الأصح، وقيل: على الغريم.
قال الماوردي: وهذا مذهب مُطَّرَح، ولا يضاف إلى حبسه تعزير آخر إذا أصر على دعوى الإعسار، بخلاف ما إذا امتنع من وفاء ما أقر به، مع اعترافه بالمَلاءة؛ فإنه يضاف إلى الحبس التعزير، ويكرر عليه الوقت بعد الوقت فيروه من الأولى، وإن انتهى مجموع ذلك إلى قدر الحد، ويجوز للغريم أن يقول له في هذه الحالة: يا
ظالم، يا مماطل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ"، [خرجه النسائي].
والليُّ: المطل، وعرضه: ما ذكرناه، والعقوبة: التعزير والحبس.
ولو امتنع من وفاء ما ثبت عيه بالبينة مع إقراره باليسار، وتعريفنا إياه بما يترتب على ذلك - قال الإمام في باب نكاح المشركات: الظاهر عندنا امتناع التعزير، وفي الحبس مَقْنَعٌ، وفي كلام الأصحاب ما يدل على أن للقاضي أن يعزره.
فرع: لو أراد الغريم ملازمته حيث يجوز حبسه مكن منها؛ لأنها أخف.
قال [الرافعي في كتاب الأقضية: إلا أن يقول المحبوس للقاضي: إنه يشق عليّ الطهارة والصلاة بسبب ملازمته؛ فامنعه من الملازمة واحسبني؛ فإنه يرده إلى الحبس.
ولو استشعر القاضي من المديون بعد [ما حبسه] الفرار من حبسه، فله نقله إلى حبس الجرائم، كذا حكاه الرافعي في كتاب الأقضية، عن أبي العباس بن القاص.
قال]: إلى أن يقيم البينة على إعساره؛ لأن الأصل بقاء ذلك المال، ولا فرق في ذلك - على ما حاكه الإمام - بين أن تكون البينة معدلة أم لا، وقد شرع في طلب الاستزكاء؛ لأن الحبس على الجملة من بعض العقوبات، وللمديون طلب يمين
الغريم إنه لا يعلم إعساره بعد الدعوى عليه بذلك: فإن حلف سقطت دعواه فإن عاد وادعى تجدد علمه بذلك سمع منه، وكان له تحليفه، وهكذا إلى أن يعلم القاضي تعنُّتَهُ.
وإن نكل الغريم عن اليمين حلف المديون، وثبت إعساره، ولم يكن للغريم ملازمته؛ لما سنذكره، وإن لم يحلف حبس.
تنبيه: إذا ظهر من كلام الشيخ امتناع الحبس بإقامة البينة على الإعسار مع احتمال أن يكون مستنداً لبينة الوقوف على تلف المال، كما حمل الصيدلاني الشهادة عليه، أو أنه لو كان باقياً مع مخالطتها له لاطلعت عليه – ظهر لك من طريق الأولى أن الحبس يمتنع إذاشهدت بالوقوف على المال، كما صرح به العراقيون.
قال: ولا يقبل في ذلك إلا شهادة شاهدين من أهل الخبرة بحاله؛ لما روى مسلم عن قبيصة بن مخارق الهلالي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ إِلَاّ لأَحَدِ ثَلَاثَة – وعد منهم -: "رجل أصابته فاقة حتى يقولَ ثلاثة من ذوي الحجي من قومه: لقد أصابت فلاناً فاقة؛ فحلت له المسألة، حتى يصب قِوَاماً من عيش، قال: أو قال سداداً من عيش"، والحجي: العقل.
ولأن الإعسار يخفى عمن لا يطلع على باطن الأحوال، ويكفي علم القاضي بأن
الشاهد من أهل الخبرة بحاله، فإن لم يعرف ذلك اكتفى بقول الشاهد إذا كان عدلاً رضاً – كما قال الإمام -: فإن لم يذكر الشاهد ذلك ولم يعرفه القاضي توقفت الشهادة. [وقد يقال – على رأي الصيدلاني –في حمل الشهادة بالإعسار على وقوف البينة على التلف: إنه لا يشترط أن يكون الشاهد من أهل الخبرة – [كما صرح به الأصحاب – فيما إذا شهدت البينة بتلف المال، وقد يجاب بأنا وإن قدرنا ذلك فخلافه مظنون؛ فاعتبرنا أن يكون من أهل الخبرة]؛ ليتحقق الشرط على كل حال].
ووراء ما ذكره الشيخ أمران:
أحدهما: الجزم في "الإبانة" و"التتمة" بأنه لا يقبل في هذه الشهادة إلا ثلاثة؛ للخبر المذكور، ولأن عسرة الإنسان وإعدامه أمر تغمض معرفته، ويشق الوقوف عليه؛ فيشترط يه زيادة في العدد كشهود الزنى.
قال الإمام: وهذا خُرْق عظيم وخروج عن الضبط.
وأبعد منه الثاني – وهو ما حكاه ابن أبي الدم في "أدب القضاء" له عن الشيخ أبي علي -: أنه يكتفي في هذه الشهادة برجل وامرأتين، أو برجل ويمين المدعي، كما في الأجل والخيار على رأي.
فيحصل في المسألة ثلاثة أوجه، والمذهب منها: الأول، وحمل الأصحاب الثلاثة في الحديث على الاستظهار والاحتياط.
ويجوز إقامة البينة بالإعسار قبل الحبس وبعده، طال زمانه أو قصر، وكيفية الشهادة فيه أن يقول: أشهد إنه معسر لا يملك إلا قوت يومه وثياب بدنه، ولا يشترط أن يقول: وهو ممن تحل له الصدقة.
قال في "التتمة": ولا يقتصر على أنْ لا ملَك له، حتى تتضمن شهادته النفي لفظاً ومعنىً.
وفي "الجيلي" أنه قيل: إنه يشهد على نفي العلم، فيقول: لا أعلم له مالاً، ولا عرضاً، ولا عقاراً، ولا عيناً.
قال: فإن قال الغريم: أحلفوه إنه لا مال له في الباطن، [أي: بعد دعواه أن له مالاً في الباطن]، وقد أخفاه – حلف في أحد القولين، أي: وجوباً؛ لأنه يجوز أن يكون له مال لم تقف عليه بينة الإعسار، فإذا ادعى ذلك حلف، وهذا ما صححه الرافعي وغيره، وهو المنصوص في "حرملة"، وظاهر نصه في "المختصر". فإن امتنع من اليمين، حكى الماوردي عن [ابن] أبي هريرة: أنه يحبس إلى أن يحلف.
والقول الثاني: أنه لا يحلف وجوباً؛ لأن في ذلك قدحاً في الشهادة فلم يعرض كما إذا شهد عليه بأنه أقر، فسأل إحلاف المدعي على أنه أقر له، وللحاكم أن يستحلفه استحباباً واستظهاراً، وهذا ما حكاه في "الأم"، وهو ظاهر نصه في "الإملاء"، وهو الذي صححه الشيخ أبو حامد، والقائلون بالأول فرقوا بأن في المسألة المستشهد بها: الشهادة وقعت بأمر معلوم؛ فكان في التحليف عليه قدح في الشهود، وفي مسألتنا:[الشهادة] اعتمدت الظن؛ فلا يخالفه وقوع خلافه.
نعم، لو شهدت البينة بتلف المال لم يحلف وجهاً واحداً، وهو نظير المسألة المستشهد بها، وقد رجع حاصل القولين إلى أنه يحلف، لكن وجوباً أو استحباباً؟ فيه القولان، وعلى ذلك جرى البندنيجي والمحاملي وابن الصباغ وغيرهم، وحكى في "الاستقصاء" طريقة أخرى، وصدر بها كلامه: أن في جواز تحليفه قولين.
[وإذا قلنا: يحلف، فهل واجباً أو مستحباً؟ فيه قولان].
ولا نزاع في أن رب الدين إذا قنع بالشهادة، ورضي بعدم اليمين أنه لا يحلف، ولو لم يصدر منه طلب اليمين ولا الرضا بتركها، فهل للحاكم تحليفه، ويكون من أدب القضاء؛ فيجب عليه حتماً؟ فيه وجهان، أظهرهما: لا.
تنبيه: الغريم: هو الذي عليه الدين وغيره من الحقوق، ويطلق في اللغة – أيضاً – على صاحب الحق، والغَرَامة والغُرَم والمَغْرَم: ما وجب أداؤه، وقد غَرِم الرجل، وغَرَّمته، وأغرمته.
وأصله من: الغرام، وهو الدائم؛ ومنه قوله تعالى: - إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} [الفرقان: 65]، فسمي الغريم: غريماً؛ لملازمته المَدِين ودوامه.
أحلفوه: لغة، وحَلَّفوه: أخرى.
قال: وإن لم يعرف له مال حلف إنه لا مال له؛ لأن الأصل عدم ملكه المال، وخلّي سبيله؛ لأنه إذا حلف ثبت إعساره، والمعسر لا يحل حبسه؛ قال الله تعالى: - وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]، وكما لا يجوز حبسه لا يجوز ملازمته؛ لما روى مسلم عن أبي سعيد الخدري، قال: أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمارٍ ابتاعها، فكثر دينه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ"؛ فتصدقوا عليه، فلم يبلغ ذلك وفاء دينه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لغرمائه:"خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ"؛ وليس لكم إلا ذلك"، وهذا ما حكاه العراقيون، وهو الصحيح عند المراوزة، ووراءه لهم ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه يحبس إلى أن يقيم البينة على الإعسار.
قال الرافعي: لأن الظاهر من حال الحر أنه يملك شيئاً قل أو كثر.
والثاني: أن الدين إن لزمه باختياره كالضمان والصداق، فلابد من البينة، وإن لزمه بغير اختياره كإتلاف المال خطأ، فالقول قوله من غير بينة؛ لأن الظاهر أنه لا يشغل ذمته ولا يلزم ما لا يقدر عليه.
والثالث: إن كان الدين لزمه بمعاوضة، فلابد من البينة، وإن لزمه بغير معاوضة،
فلا يحتاج إليها، كذا حكاه القاضي الحسين وغيره، وهذا قد اعترض على قائله بأنه إذا كان عن معاوضة فقد عُرِف له مال؛ فكأنك قد أعدت ذكر المذهب؛ فإنه إذا عرف له مال لا يقبل قوله إلا بالبينة، إن لم يعرف له مال قبل قوله بيمينه.
قلت: يجوز أن يريد هذا القائل المعاوضة التي ليست محضة كالنكاح ونحوه، [وكذا شراء القريب والإجارة]، دون الضمان ونحوه؛ فإن الظاهر أن الإنسان لا يقدم على تملك حق الغير إلا مع قدرته على مقابله؛ لأن الإبقاء واجب عليه حتماً، بخلاف الضمان؛ فإنه قد لا يطالب به فيتساهل فيه لذلك.
وقال الإمام: قد يخطر للفقيه حمل هذا الوجه على دين ثبت عوضاً، وكان ملتزمه يدعي أنه لم يقبض العوض، لا على أنه قبض المعوض، وادعى تلفه، لكنه ضعيف؛ فإنه إذا ثبت الملك في حق المعوض، فالظاهر قبضه، ونحن إنما لا نقبل قول من سبق له يسار بتأويل ادعاء زواله من جهة أن قوله يظهر الحلف، وزوال اليسار ممكن؛ فعدم قبض المبيع بهذه المثابة.
واعلم أن الرافعي سوى في جريان الوجوه الثلاثة الأُوَل [في الحكم والتعليل] بين ما ذكرناه، وبين ما إذا كان مع المحجور عليه مال، وقسم على الغرماء وبقي بعض الدين، وفي جريان الثاني منها في مسألة المحجور نظر؛ فإنه علله بأن الظاهر من حال الحر أنه يملك شيئاً قل أو كثر، وقد عمل هذا الظاهر، وتحقق بما قسم، وليس الظاهر أن الحر يملك مالاً كثيراً، [حتى يقال: يفي منه].
ثم حيث جرى الخلاف فيما ذكره، فيتجه على قياسه أن يجري فيما عرف له مال لا يفي بديونه، وشهدت البينة بتلف ذلك المال، وحينئذ لا ينتفي رفع الخلاف بشهادة تلف المال، إلا بأن يشهد من هو من أهل الخبرة بحاله بتلف جميع أمواله.
ثم على المذهب: إذا قبلنا قوله باليمين، قال الإمام: لست أرى قبول ذلك بداراً، بل يظهر عندي تَأَنْي القاضي في إطلاقه مع البحث الممكن عن أحواله، [والمذهب:
القبول في الحال]، وحيث قلنا، لا يقبل قوله باليمين، فلو كان غريبا ًلا يتأتى له إقامة البينة، قال الرافعي: فينبغي للقاضي أن يوكل [به] من يبحث عن منشئه ومن قلبه، ويفحص عن أحواله بحسب الطاقة، وإذا غلب على ظنه إفلاسه شهد به عند القاضي؛ كي لا تتخلد عليه عقوبة الحبس، وهذا ما أبداه الإمام فقهاً لنفسه.
فرع: إذا عاد الغريم بعد ثبوت الإعسار، وادعى أنه استفاد مالاً، وأنكر المديون – فالقول قوله مع يمينه، وعلى رب الدين البينة، فإن أتى بشاهدين شهدا بيساره لم تسمع هذه الشهادة حتى يبينا ما أيسر به، فإن قالا: رأينا في يده كذا، وهو ملكه – وفينا منه دينه عند امتناعه من الوفاء، ولا يستفسره، وإن قالا: رأينا في يده كذا، وهو ملكه – وفينا منه دينه عند امتناعه من الوفاء، ولا يستفسره، وإن قالا: رأينا في يده مالاً يتصرف فيه، وعيناه – ففي "الحاوي": أنا لا نتصرف فيه حتى نستفسره عنه، كما سنذكره. وفي "الرافعي": أنا نأخذه لرب الدين، فإن قال: هو لفلان وديعة أو مضاربة، وصدقه المقر له – فهو له. وفي "الذخائر" حكاية وجه: أنا لا نقبل إقراره إلا بالبينة، ونوفي منه الدين، [وقد حكاه في "المهذب" [و] أبو الطيب وغيره في كتاب الأقضية فيما إذا قامت بينة على أنه ملك [للغريم، فادعى الغريم أنه ملك] لغيره، وهو ما اختاره في "المرشد" ثَمَّ، وقال البندنيجي: إنه أصح].
وعلى هذا: للمقر له تحليف رب الدين، فإن نكل حلف المقر له، قاله في "الاستقصاء".
وعلى المذهب: هل لرب الدين تحليف المديون إنه لم يواطئ المقر له؟ فيه وجهانا، أصحهما: المنع، وبه جزم الإمام، وعلى مقابله: إذا امتنع من اليمين حبس إلى أن يسلم المال أو يحلف، قاله ابن الصباغ. ولرب الدين تحليف المقر له، كما حكاه في "الاستقصاء" عن "الإيضاح".
وإذا نكل حلف رب الدين، وقضى له ببيعه، وتحليف المقر له، أبداه ابن الصباغ اعتمالاً لنفسه، فإن كذبه المقر له صرف إلى رب الدين، ولا يلتفت إلى إقراره لإنسان آخر، وإن كان المقَر له غائباً، قال المحاملي والرافعي: وُقِفَ حتى يحضر الغائب، فإن صدقه أخذه، وإلا أخذه رب الدين.
وفي "الشامل" و"الاستقصاء": أن القول قوله مع اليمين، وسقطت المطالبة.
قال الإمام: وهذا من مَغاصات كتاب الدعاوى: أن يحلف في [حال] غيبة المقر له، ولا يحلف في [حال] حضوره، فلو نكل عن اليمين.
قال الماوردي: ردت اليمين على الغرماء، فإن حلفوا لم يستحقوا المال، ولكن يحبس لهم المديون حتى يستكشف أمره، ولو لم [يقر ما] في يده إلى أحد حلف الغرماء، واستحقوا حبسه دون المال، واستكشف القاضي عن أمره حتى يتبين، قاله الماوردي.
قال: وإن كان ماله لا يفي بديونه – أي: الثابتة عند الحاكم بالبينة، أو بإقراره – وسأل الغرماء الحاكم الحجر [عليه]، حجر عليه – أي: وجوباً – لما روى أبو داود عن عبد الرحمن بن كعب بن دينار: أن معاذ بن جبل لم يزل يدَّانُ حتى غَلِقَ ماله كله، فأتى غرماؤه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فطلب معاذ [إلى النبي صلى الله عليه وسلم] أن يسأل غرماءه أن يضعوا أو يؤخروا، فأبوا، فلو تُرِكَ لأحد من أجل أحد لترك لمعاذ من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فباع النبي صلى الله عليه وسلم ماله كله في دينه حتى قام معاذ بغير شيئ.
قال عبد الحق: وهذا وإن كان مرسلاً فهو أصح مما أسند فيه.
وفي "الرافعي" و"المهذب": أن كعب بن مالك روى أن النبي صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ، وباع عليه ماله.
ولأن في الحجر مصلحة للغرماء؛ فإنه قد يخص بعضهم بالوفاء فيتضرر الباقون، وقد يتصرف فيه فيضيع حق الجميع، ومن هذه العلة يستنبط أن المال لو كان مرهوناً امتنع الحجر، اللهم إلا أن يكون فيه رقيق، ونقول بنفوذ عتق الراهن، وهذا ما ظهر لي فقهاً، ولم أقف عليه منقولاً.
وإنما اعتبرنا سؤال الغرماء؛ لأن الحجر لحقِّهم، وهم أهل رشد، نعم، لو كانت الديون لمحجور عليهم، حجر الحاكم عليه من غير التماس؛ كما له استيفاء ديونهم، ولو كانت لغُيَّب لم يحجر؛ لأنه لا يستوفي ما لهم في الذمم.
ثم كيفية اللفظ الذي يقع به الحجر من القاضي، اختلف فيه أصحابنا.
فذهب البغداديون [منهم] إلى أنه يقول: وقفت مالك، ومنعتك من التصرف فيه.
وقال البصريون: يقول له: حجرت عليه بالفلس؛ لأن الحجر يتنوع، والمنع من التصرف ووقف المال من أحكام الحجر؛ فلا يقع به الحجر، وهذا يشابه عدم انعقاد البيع بلفظ التمليك.
واعلم أن الشيخ ذكر صريحاً شرطين من شرائط الحجر، والثالث – وهو أن تكون الديون حالة – يقتضيه مساق كلامه من أول الباب، على أن في "النهاية" حكاية وجه: أنا إذا قلنا: تحل الديون بالإفلاس، أنه يجوز أن يحجر عليه بسببها.
ووراء ما ذكره الشيخ أمور:
منها: إذا كانت الديون مساوية لماله، والرجل غير كسوب، أو لا يفي كسبه بنفقته، ونفقة عياله، أو فيه ...... فهذا قد ظهرت عليه أمارات الفلس، وفي جواز الحجر عليه وجهان:
أصحهما عند العراقيين، كما حكاه الرافعي، واختاره في "المرشد": أنه لا حجر في الحال.
ومقابله – ذكر الماوردي أنه مأخوذ من نص الشافعي، فيما إذا تسلم المشتري المبيع، [وكان الثمن معه في البلد-: أنه [يحجر] عليه [في] المبيع، وجميع ماله، مع أن فيه وفاء بالثمن].
[وفي جواز الحجر عليه وجهان].
وقال الإمام: إنه المختار عند الأئمة.
قلت: ويظهر أن تكون مادة الخلاف أن المشرف على الزوال كالزائل كما تقدم، وقد أجرى العراقيون – مثل أبي الطيب وغيره – الخلاف فيما إذا كانت الديون أقل، وكان يغلب على الظن انتهاؤها إلى المساواة، ثم الزيادة على قرب بسبب كثرة الإنفاق، ورتبه الإمام وقال: هذا أولى بالمنع، ولا خلاف أن دَخْله إذا وفي بَخْرجه لا يَخْرجه لا يحجر عليه، اللهم إلا أن يمتنع من الوفاء، ففيه الخلاف السابق في أول الباب.
ومنها: إذا سأل بعض الغرماء الحجر، فينظر: إن كان دينه لو انفرد اقتضى الحجر أجيب إليه، ولا يكون قاصراً عليه، بل يتعدى في حق سائر الغرماء، وإن كان لو انفرد لا يحجر عليه به، فوجهان:
الأظهر منهما: المنع.
واختيار الشيخ أبي محمد، وهو الذي يقتضيه إطلاق العراقيين: أنه يحجر عليه؛
كي لا يضيع حقه بتكاسل غيره، وفي "الجيلي" حكاية وجه: أن للحاكم الحجر عليه من غير طلب [والتماس].
ومنها: إذا لم يطلب الغرماء الحجر، وطلبه المديون، ففي إجابته وجهان، أظهرهما في الرافعي، وادعى الإمام أن عليه الأكثرين: أنه يجاب، لأن له فيه غرضاً ظاهراً، وقد رأى العلماء أن الحجر على معاذ كان بالتماسه دون الغرماء، ورأى الإمام أنه كان بسؤال الغرماء، وقال في "الاستقصاء": إن هذا الوجه ليس بشيء.
تنبيه: إذا كان من جملة مال المديون مبيع لم يقبض ثمنه، ولو قوم مع ماله وحسب ثمنه مع الديون، اقتضى ذلك ألا يحجر عليه.
ولو أخرج عن التقويم وثمنه عن الديون اقتضى ذلك الحجر – فهل يدخل في التقويم أم لا؟ فيه وجهان في "الحاوي" وغيره، وأصحهما عند العراقيين: الإدخال، وقد بناهما المتولي مع قولنا بالحجر عند مساواة المال الدينَ، على أنه هل يرجع البائع في عين ماله [والحالة] هذه أم لا؟ فإن قلنا: يرجع فيها، لم تدخل، وإلا أدخلت.
قال: والمستحب أن يشهد على الحجر – أي: وينادي عليه – ليتسير إثباته عند من بعده من الحكام، ولتعرف الناس حاله، فإن عاملوه كانوا على بصيرة، وليس مع من [له] عليه دين ممن لم يسأل فيحضر، وهذا ما ذهب إليه البغداديون من أصحابنا.
وحكى الماوردي أن البصريين من أصحابنا قالوا: من شرط ثبوت الحجر الإشهاد؛ لأن المقصود بهذا الحجر الشهرة، وإظهار الأمر فيه، ولا يكون مشهوراً إلا بالإشهاد، وأجرى مجرى اللعان الذي قصد به الشهرة.
قال: وإذا حجر عليه لم ينفذ تصرفه في المال – أي: الموجود – بما يبطل به حق الغرماء من البيع، والرهن، والهبة، ونحو ذلك؛ [وذلك] لتعلق حق الغرماء به كتعلق حق المرتهن، ولأنه محجور عليه بحكم الحاكم؛ فلا يصح تصرفه على
مراغمة مقصود الحجر كالسفيه.
وقد يفهم من العلة الثانية: أن الحجر يتعدى لنفسه، حتى لا يصح منه بيع شيء في ذمته سلماً، ولا شراؤه لشيء بثمن في ذمته كالسفيه، وهو قول حكاه الإمام. ومن العلة الأولى: أن الحجر لا يتعدى إلى ما يتجدد له من الملك بعد الحجر بسبب البيع، والشراء، والاحتطاب، والاحتشاش، وغير ذلك، بل يتصرف فيه كيف شاء، [وهو وجه رواه المراوزة]، وأنه إذا باع ما وقع عليه الحجر، أو وهبه بإذن الغرماء نفذ تصرفه كما في المرهون، وهو في البيع احتمال أبداه الإمام، وجعله الغزالي أظهر الوجهين، وفي الهبة قول حكاه الشاشي عن الماوردي؛ قياساً على هبة العبد بإذن سيده، والصحيح - وبه جزم العراقيون - صحة بيعه وشرائه بثمن في الذمة، وتعدي الحجر إلى ما يتجدد له من ملك.
ولنا قول آخر في أصل المسألة، [في المذهب الجديد، كما حكاه الإمام في كتاب الإقرار]: أن تصرفه موقوف كتصرف المريض: فإن وفي ماله بديونه بسبب ارتفاع الأسواق، أو استفادة مال، أو إبراء بعض الغرماء - نفذ تصرفه، وإلا فسخ الأضعف فالأضعف، والأضعف الهبة، ثم البيع، ثم الوقف والكتابة والعتق.
قال الشيخ في "المهذب": ويحتمل عندي أن يفسخ الآخِر فالآخِر، كما في تبرعات المريض. وفي "الحاوي": أنه يبدأ من تصرفاته بنقض ما ليس في مقابلته عوض كالهبة والعتق، فإن لم يَفِ فسخت الكتابة قبل البيع، فإن لم يَفِ المكاتب نظر في البيع: فإن كان بدون ثمن المثل نقض، وإن كان بأكثر [من ثمن المثل]، والثمن باقٍ أجيز العقد ولا ينقض.
وإن كان ثمنه قد أتلفه المشتري فسخ؛ لأن العين ترجع إلى الغرماء، ويبقى الثمن في ذمة المفلس، وإن كان قد باعه بثمن المثل، والثمن مقبوض تالف فسخ؛ لما ذكرناه.
وإن كان باقياً نظر: إن زادت قيمة الثمن، أو نقص سعر المبيع لم ينقض، وإن كان
الآخر باقياً بحاله، فظاهر إطلاق الشافعي وأصحابه يقتضي أن يفسخ عليه، والصحيح عندي أنه لا يفسخ، وهذا ما حكاه صاحب "الاستقصاء" عن "الإيضاح"، وطرده يما إذا وهب شيئاً، وكوفئ بمثله في أن الهبة لا تنقض، ولو لم يوجد من يشتري إلا ما أجزنا التصرف فيه وحث الغرماء على البيع، قال الإمام: فيه احتمال. والظاهر أن الغرماء يجابون فيباع، والمذهب القول الأول، وهو اختيار المزني، والفرق بين المفلس والمريض: أن المريض لا يتعلق بماله في الحال حق؛ بدليل أنه يجوز صرفه في شهواته وملاذِّه، ولا كذلك المفلس، على القولين يجوز له الوصية به، وتدبير ما في ماله من العبيد، صرح به صاحب "الاستقصاء"، وألحق بهما [في] الصحة بيعه جميع ماله من جميع الغرماء جملة ديونهم، وإن كان بغير إذن الحاكم على الأصح.
وحكى [أن] مقابله وجه ضعيف، وهو الذي نسبه الرافعي وغيره إلى أبي زيد، وقال: إنه الأظهر، وهو مبني على أن الديون إذا قضيت [لا يرتفع] الحجر بنفسه، والأول مبني على أنه يرتفع.
قال الرافعي: ولك أن تقول: وجب ألا يجزم بصحة البيع، وإن قلنا بسقوط الدين يسقط الحجر؛ لأن صحة البيع إما أن تفتقر إلى تقدم ارتفاع الحجر أو لا، فإن كان الأول وجب أن يجزم بعدم الصحة؛ للدَّوْر؛ فنه لا يصح البيع ما لم يرتفع الجحر، [ولا يرتفع الحجر] ما لم يصح البيع، وإن لم يفتقر فليخرج على الخلاف فيما إذا قال: كلما ولدتِ ولداً فأنتِ طالق، فولدت ولداً بعد ولد: هل تطلق بالثاني؟ واستيلاد المفلس هل ينفذ؟
مقتضى ما قاله الأصحاب من عدم نفوذ عتقه في الحال على القولين، أن يكون كذلك إذا قلنا: إن استيلاد الراهن كعتقه، أو قلنا: إنه مرتب عليه، وأولى بألا ينفذ، وإن قلنا: أولى بأن ينفذ، ففيه هاهنا نظر.
مقتضى ما حكاه الماوردي من القولين في أن هذا الحجر حجر سفه أو حجر
مرض: أن ينفذ في الحال وجهاً واحداً؛ لأن المريض ينفذ استيلاده من رأس المال، وكذا السفيه، والله أعلم.
فرع: لو اشترى شيئاً بشرط الخيار، أو وباعه، ثم حجر عليه، فهل له الفسخ والإجازة؟ ينظر: إن كان له الحظ في أحدها ففعله نفذ، وإن كان الحظ في خلافه فثلاثة طرق:
أظهرها – وهو ظاهر النص -: أن ذلك نافذ؛ لأنه ليس بتصرف مستجدٍّ، وإنما يمنع المفلس من التصرفات المنشأة.
والثاني: لا ينفذ كما في الرد بالعيب، وهذا ما ذهب إليه ابن أبي هريرة [وأبو إسحاق، كما نقله في "المهذب"،] واختاره في "المرشد"، وقال الماوردي: إنه لا وجه له، والقائل الأول فرق بأن الملك في زمن الخيار ضعيف، بخلاف العيب.
والثالث: أن ذلك ينبني على أقوال الملك، فإن قلنا: لا ملك [له]، نفذ فسخه [إن كان مشترياً]، وإجابته [إن كان بائعاً]، وإن قلنا: الملك له، نفذ منه ما يقتضي استدامة ملكه دون ما يزيله.
تنبيه: احترز الشيخ بقوله: لم ينفذ تصرفه في المال، عن نفوذ تصرفه في النكاح والطلاق، واستيفاء القصاص والعفو عنه، واستلحاق النسب ونفيهن وكذا إقراره بالمال، لكن فيه تفصيل: فإذا أقر بمال لزمه قبل الحجر، وأخذناه به بعد فك الحجر، وهل يشارك المقر له به الغرماء؟ فيه قولان منصوصان في "المختصر"، وهما يجريان فيما لو أقر بعين في يده أنه غصبها أو استودعها، أو استعارها، أو استؤجر على العمل فيها وكان صباغاً أو صائغاً، والأصح القبول.
وجعل الإمام الخلاف في الإقرار بالعين محكيًّا عن القديم، وأن الأئمة ألحقوا الإقرار بالدين [المرسل] بالعين، وتبعه الغزالي في ذلك.
[فإن قبلنا إقراره بالعين سلمت إلى المقر له، وإن لم نقبله وفضلت سلمت إليه
أيضاً، وإلا فالغرم في ذمته، كذا قاله الرافعي وغيره هنا.
وفي "النهاية" و"تعليق" القاضي الحسين في كتاب الإقرار: أنه إذا أقر بالعين، فإقراره غير مقبول على الغرماء، حتى لو مست الحاجة إلى صرف تلك العين إلى الديون صرفناها.
نعم، إذا فضلت بعد فك الحجر، هل تسلم للمقر له؟ فيه قولان. انتهى.
وعلى قياس هذا يتجه أن يجيئا في الغرم – أيضاً – وفي الدين، وبذلك يحصل في المسألة طريقان].
وإن أسند الدين إلى ما بعد الحجر: فإن كان عن معاملة فلا يضارب الغرماء. كذا قاله الأصحاب، وفيه [نظر] يظهر لك من بعد. وإن كان عن إتلاف أو خيانة، فأصح الطريقين: أنه كما لو أسنده إلى ما قبل الحجر، والثاني: أنه كما لو قال: عن معاملة، [وهذا ما حكاه الماوردي].
[قلت: ويشبه أن يكون الخلاف مبنيًّا على ما لو ثبت ذلك بالبينة، ومذهب العراقيين: المشاركة، والمحكي عن القاضي الحسين عدم المشاركة، [وهو ما ادعى الإمام في كتاب الإقرار: أنه المذهب، والقاضي: أنه أقيس الوجهين]. فالطريقة الأولى ماشية على ما ذهب إليه العراقيون، والثانية على ما حكى عن القاضي.
ولو أقر بما يوجب القصاص، فعفا المستحق على مال – قال في "التهذيب": هو
كما لو أقر بدين جناية. وقطع بعض شارحي "المختصر" بالقبول].
قلت: وقد تقدم لنا كلام فيما إذا أقر العبد المرهون بما يوجب القصاص، وعُفِي عنه على مال، ويتجه أنا يجيء مثله هاهنا.
فرع: لو ادعى على المفلس بمال لزمه قبل الحجر، فأنكر ولم يحلف، حلف المدعي، وشارك الغرماء إن قلنا: إن اليمين مع النكول بمنزلة البينة، وإن قلنا: كالإقرار، ففي المشاركة القولان. هكذا حكاه معظم الأئمة هنا، وسيأتي في كتاب الأقضية – إن شاء الله تعالى – أنا إذا قلنا: إن يمين المدعي مع نكول الخصم كالبينة، فذاك إذا لم يتعدَّ الثالث، أما إذا تعدى فالأصح أنا لا نعاملها معاملة البينة في حقه، وقد حكى المتولي هذا وجهاً هنا.
قال: فإن لم يكن له كسب أنفق عليه وعلى عياله – أي: من زوجاته، و [أم] ولده، وقريب تلزمه نفقته، إلى أن ينفك عنه الحجر:
أما الإنفاق عليه؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: "ابْدَا بِنَفْسِكَ، ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ"، وممن يعول: الزوجة، ونفقتها دين ثابت في الذمة، وقد قدم نفقته عليها، دل على تقدمها على الديون، ولأنه إذا لم يكن ذا مال وجبت نقته على كافة المسلمين؛ فوجب إذا كان له مال أن يقدم بالإنفاق منه [بطريق] الأولى.
وأما الإنفاق على الأقارب؛ لأنهم يجرون مجراه في وجوب الإنفاق قبل الحجر، وعتقهم إذا ملكهم؛ كما يعتق إذا ملك نفسه؛ فوجب أن يقدم نفقتهم بعد الحجر كما يقدم نفقته، ووجه الرافعي ذلك بأن المفلس موسر بالمال قبل القسمة، وإذا ثبت تقديم نفقة الأقارب على وفاء الدين كان تقديم نفقة الزوجات أولى؛ لأنها تقدم على نفقة الأقارب مع أنها دين.
والمراد بالنفقة: قوت مثله الذي لا يستغني عنه، ولا يعتبر في ذلك شهواته وملاذُّه. وما الواجب من نفقة الزوجات؟ قال الإمام: نفقة المعسرين. قال الرافعي: وفي التجريد للقاضي الروياني: أنه ينفق عليهن نفقة الموسرين، وهذا قياس الباب، ولو كان ينفق نفقة المعسرين لما أنفق على الأقارب.
قلت: ما ذكره الإمام هو الحق، وعليه ينطبق [أكثر ما قيل في] حد المعسر [في النفقات]، بل كله كما ستقف عليه.
ووجوب نفقة القريب قد حكى الزبيلي من أصحابنا في "أدب القضاء" له: أنه لا ينفق على ولده، والدين أولى منه؛ لأن نفقة الولد مواساة والدين لازم، وعلى تقدير تسليم الحكم – كما ادعى الإمام اتفاق الأصحاب عليه – فهو مشكل.
تنبيه: محل وجوب الإنفاق على الزوجة إذا كانت في العصمة قبل الحجر، أما إذا تزوجها بعد الحجر فلا ينفق عليها من المال، صرح به المتولي والرافعي في كتاب النكاح، والفرق: أن القياس يقتضي أن ما عدا نفقة يوم الحجر لا يجب للزوجة على الجديد، ولا للقريب [فيه]؛ لأنها تجب يوماً فيوماً، والحال الذي يجب فيه المال قد سبق تعلق حقوق الغرماء به؛ فأشبه ما إذا كان مرهوناً خالصاً.
ذلك فيما إذا كانت الزوجة متقدمة؛ لأنها سبب الوجوب، فأقمناها مقامه، وكذلك القرابة، وذلك منتفٍ فيما إذا تأخرت الزوجية؛ فأعملنا القياس.
فإن قيل: مقتضى ما ذكرت ألا تجب نفقة قريب تجدد بعد الحجر.
قلت: تجدده كالأرش [يتقاعد عن] جناية صدرت [من عند المفلس] بعد تعلق حق الغرماء به، ومع هذا يقدم عليهم؛ كي لا يضيع حقه؛ فكذلك هنا.
ثم وجوب الإنفاق على الأقارب لك أن تستنبط منه أن سكنى المفلس وملبسه، وما ينام عليه ويستعمله في وضوئه وأكله وشربه – مما لا غنى لمثله عنه – يخرج من المال
أيضاً؛ لأنه إنما يجب على القريب إذا فضل عن ذلك، كما ستقف عليه في النفقات.
وقد صرح الأصحاب بوجوب الكسوة، وحكى المتولي – وتابعه الرافعي – أنه لا يترك له الفُرُش والبُسُط، ويسامح باللبد والحصير القليل القيمة. ثم الكسورة لا يتصر فيها على زمن الحجر ويوم القسمة كما يفعل في النفقة، بل يعطي إن كان في فصل الصيف كسوة الصيف: قميص وسراويل، ومنديل، ومكِعْب، ودُرَّاعة [يلبسها فوق القميص]، وطيلسان، وخف، إن كان عادته ذلك.
وإن كان [في فصل الشتاء]، أعطى [مع] ما ذكرناه: جبة أو ما يليق به من فرو وغيره، وتوقف الإمام في الخف والطيلسان، وقال: إن تركهما لا يخرم المروءة، وذكر أن الاعتبار بما يليق بحاله في إفلاسه، لا في بسطته وثروته.
قال الرافعي: لكن المفهوم من كلام الأصحاب أنهم لا يساعدونه عليه، ويمنعون قوله: إن تركهما لا يخرم المروءة.
ولا يجمع له بين كسوة فصلين في وقت واحد. وحكم العائلة فيما ذكرناه حكمه، وكذا حكم كفنه وكفن قريبه، وأم ولده وزوجته [على رأي – يخرج من المال، وفي قدر المخرج ثلاثة أوجه:
أضعفها – وهو ما رواه الإمام عن أبي إسحاق]-: ما يستر العورة.
وثانيها: ثوب واحد.
وثالثها: ثلاثة أثواب كما في حال الحياة، وهو الأصح.
فرع: إذا كان على المفلس ثياب فوق ما صلح لمثله بيعت، وأعطي ما يليق بمثله، وكذا الحكم في أم ولده؛ لأن ذلك ملكه، بخلاف الزوجة والقريب إذا كساهم قبل الحجر ذلك وبقي؛ لأنهما ملكاً ذلك قبل الحجر. ولو كان من عادة
المفلس أن يلبس قبل الإفلاس دون ما يليق به تتيراً، لم يزد عليه في حال الحجر، ولا خلاف على المذهب: أنه لا يترك له رأس [مال] يكتسب به، وإن كان جهة اكتسابه التجارة، وحكى الإمام في كتاب الحجر: أن العراقيين حكوا عن ابن سريج أنه يخلف عليه رأس ماله الذي بالتجارة فيه يتبلغ ويتوصل إلى تحصيل قوته في مستقبل الزمان إذا كان لا يحسن الاكتساب إلا من هذه الجهة؛ كما يخلف له دست وبل يليق بمنصبه، وأنهم غلَّطوه وزَّيفوه، وإن الأمر على ما ذكروه.
[فرع: في "فتاوى" العبادي: إذا كانت له كتب علم، وهو عالم، وللكتب قيمة – أنها لا تباع في الدين، وتباع المصاحف فيه؛ لأن كتب العلم علم، ويحتاج إليها الناس].
واعلم أن ما ذكروه ظاهر فيما إذا كان بعض ماله لم يتعلق به حق لمعين، أما إذا تعلق بجميع ماله حق معين: إما بسبب الحجر، أو بغيره، أو بهما كالأعيان المبيعة التي لم تقبض أثمانها، والرهون، والرقاب التي تعلقت بها أروش الجنايات – ففي "النهاية":[أنه] إذا لم يكن له سوى المرهون، لا ينفق عليه وعلى عياله منه، وغير المرهون لم أقف فيه على نقل، والقياس: أن يلحق بالمرهون في ذلك، ويؤيده قول جمهور أصحابنا في مؤنة تجهيز الميت ودفنه: إنها لا تخرج من عبده الجاني أو
المرهون، أو الذي اشتراه ولم يوفِّ ثمنه، وقد مات مفلساً. وقد حكى الشيخ أبو محمد في "الجمع والفرق" عن بعض مشايخنا: أن الميت يقدم على حق المجني عليه، وحق المرتهن، وإن لم يخلف مالاً سواه. ويظهر جريان مثله هاهنا؛ لأن الميت أحوج إلى براءة الذمة من الحي، وكذلك في الصورة الثالثة؛ لأنه إذا قدم على من يقدم حقه، فأولى أن يتقدم على من تساوى معه في ثبوت الحق، والله أعلم.
وأما إذا كان له كسب يفي بنفقتهن ونفقة عياله، واكتسب - صرف ذلك إليهم، فإن لم يَف بالنفقة كمل من المال، وإن لم يكتسب.
قال في "التتمة": لا ينفق عليه من المال حتى يكتسب.
قلت: والذي يظهر [أن مراده] أن حكمه حكم من لم يكن له مال، وستقف على ما قيل في تكليفه الاكتساب للنفقة في النفقات، فإن لم نوجبه عليه؛ اتجه أن ينفق من المال.
قال: وإذا أراد الحاكم بيع ماله أحضره، أو وكيله، وأحضر الغرماء -أي: استحباباً - لأن ذلك أنفى للتهمة، والمالك أخبر بثمن أمواله وصفاته، فإذا أحضر أخبر بذلك، وكنا سبباً لزيادة في الأثمان، وقد يطلع فيه على عيب فيخبر به؛ حتى لا يقع البيع متعرضاً للفسخ، وإحضار الغرماء؛ لاحتمال أن يرغب أحدهم في شراء شيء فيكثر طلابه، وذلك يزيد في الثمن.
قال الماوردي: والأولى أن يتولى المفلس البيع أو وكيله بإذن الحاكم؛ ليقع الإشهاد عليه، وتطيب نفس المشتري والبائع، ولا يحتاج إلى إقامة البينة على أن ما يبيعه ملك له، بخلاف ما إذا باع الحاكم، أو أذن لمن يبيع؛ فإن شرطه أن يثبت
عنده أنه ملك للمفلس بالبينة، كما حكيناه عنه من قبل.
قال: وباع كل شيء في سوقه؛ لأن أهل سوقه؛ لأن أهل سوقه فيه أرغب، والمشتري هناك أكثر، والتهمة منه أبعد، وهذا إذا لم يكن في نقله كبير مؤنة، أما إذا احتاج إلى مؤنة كبيرة في نقله، ورأى الحاكم من المصلحة ألا يحمله إلى سوقه، ويستدعي أهل السوق إليه - فعل، قال الماوردي.
ولو باع الشيء في غير سوقه جاز، كما صرح به القاضي أبو الطيب والمتولي، لكن بثمن المثل؛ إذ هو الشرط في بي مال المفلس، وكذا كونه حالاًّ، ومن نقد البلد، وإن لم يكن ما على المفلس من جنسه، ويشتري لهم من جنسه.
قال المتولي: وإن وجد الرضا من المفلس والغرماء [بالبيع]، بغير نقد البلد، [جاز، وحكى الرافعي في كتاب الوكالة: أن الحاكم لو رأى المصلحة في البيع بمثل حقوقهم جاز، وأن حكم بيع الحاكم المال المرهون هكذا]، ولا يسلم المبيع إلا حقوقهم جاز، وأن حكم بيع الحاكم المال المرهون هكذا]، ولا يسلم المبيع إلا بعد قبض الثمن، ويجبر المشتري عليه على النص، ووراءه شيء آخر مذكور في آخر باب اختلاف المتبايعين.
قال: فإن لم يوجد من يتطوع بالنداء، استؤجر من خمس الخمس من ينادي؛ لأنه من المصالح، وهل يجوز أن يؤخذ من أربعة أخماس الفيء، فيه قولان في "الحاوي".
قال: فإن لم يكن - أي: خمس الخمس - أو كان ولكن ثم ما هو أهم من ذلك، أو منع منه استؤجر من مال المفلس؛ لأن ذلك واجب عليه وهو - أيضاً - من مصلحة ملكه؛ فهو كنفقة العبد والدور قبل أن تباع، ومقدم بذلك على سائر الغرماء، وإن كان وجوبه حادثاً بعد الحجر؛ لأجل المصلحة، وهكذا يفعل في أجرة الكيال، والوزَّان، وكراء البيت الذي يحفظ فيه المتاع، والأولى أن يكون تقدير الأجرة من الغرماء، كما قال المتولي؛ لأن ذلك ينقص حقوقهم، فإن أبوا دفع الحاكم أجرة المثل.
قال الماوردي: ولو رأى الحاكم ألا يستأجر، ويجعل للمنادي جُعْلاً مشروطاً، أو أجرة المثل جاز، وهذا هوا لمشهور، وفي "تعليق" القاضي أبي الطيب: أن المنادي
يعطي من خمس الخمس كأجرة الكيال والدلَاّل، فإن لم يكن طلبنا من تبرع، فإن لم نجد كان من مال المفلس.
قال: وبدأ بما يسرع إليه الفساد – [أي]: كالطعام الرطب، والفواكه، والبقول ونحو ذلك – حراسة له عن الهلاك، ثم بالحيوان؛ لأنه يحتاج إلى مؤنة مع تعرضه للتلف، ثم بالعقار – أي: إن لم يكن ثم غيره من الأثاث – لأنه لا يخشى عليه الهلاك كغيره، ويؤمن من سرقته، ولأن العقار ليس له سوق يباع فيه، ويحتاج إلى التأنِّي في بيعه حتى ينتشر في الناس بيعه؛ فيتوفر طلابه، وذلك سبب في زيادة ثمنه، ولا يزاد في التأني على ثلاثة أيام، ولا ينادي عليه، بل يعرض.
قال الشافعي: وإن كان بقرب البلد الذي فيه العقار بلد يرغب أهله في شراء العقار، أنفذ إليهم وأعلمهم ليحضروا ويشتروا، كذا حكاه المحاملي، وفي التتمة: أن الحاكم إذا رأى أن ينادي عليه فعل.
أما إذا كان ثم غير العقار من المنقولات قدم بيعه عليه، ويقدم بيع الثياب على بيع النحاس والصفر، وإن كان مع العقار أرضون قدم بيع العقار عليها؛ لأن العقار قد يخاف عليه من هدم أو حريق. قاله الماوردي.
ووراء ذلك أمور:
أحدها: حكى المتولي أن المرهون من الأموال يباع أولاً، ثم ما يسرع إليه الفساد.
الثاني: حكى الإمام أن الحيوان يبدأ ببيعه، ثم بما يسرع إليه الفساد.
الثالث: حكى الماوردي، والمحاملي، وغيرهما في موضع: أن أول ما يباع المرهون، ثم العبد الجاني، وسكتوا عن الذي يليهما، ثم قالوا في موضع آخر: أول ما يباع ما يسرع إليه الفساد، كما ذكرنا.
وأحسن القاضي أبو الطيب في "تعليقه" إذ بين ذلك فقال: قد ذكرنا أنه يبدأ ببيع المرهون، والعبد الجاني، إذا لم يكن في ماله ما يخاف هلاكه، أما إذا كان فيقدم بيعه، ثم المرهون والعبد الجاني، ثم الحيوان.
ولا فرق في العقار بين أن يكون معدًّا لسكنه – وهو سكن مثله – أو لا، وكذا لا
فرق في الرقيق بين أن يكون المفلس محتاجاً إليه للخدمة؛ بسبب منصبه أو زمَانته أولا، وبهذا جزم العراقيون، وحكى المراوزة أنه خُرِّج قولٌ في مسكنه وخادمه: نهما لا يباعان، [من نصه على أنهما لا يباعان] في الكفارة، كما خُرِّجَ منهما قولٌ: أنهما يباعان في الكفارة، والمذهب: تقرير النصين، والفرق أن للكفارة بدلاً ينتقل إليه، وهو الصوم، والدين بخلافه.
قال الإمام: والمسكن أولى بالإبقاء من الخادم؛ فينتظم أن يترتب، ويقال: فيهما ثلاثة أوجه، ثالثها: يبقى المسكن دون الخادم.
وإذا قلنا بإبقاء ذلك له، فلو لم يكن في ملكه اشترى له على أصح الوجهين.
فرع: إذا كان له أم ولد، وضيعة موقوفة عليه، فهل تؤاجر؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا؛ كما لا يؤجر المفلس إذا كان مكتسباً، بلا خلاف في المذهب.
والثاني-: وهو الصحيح في "الاستقصاء"، والذي حكاه القاضي أبو الطيب في أم الولد عند الكلام في أن المفلس لا يؤجر -: نعم؛ كما لو استأجر داراً بأجرة معجلة، ثم أفلس؛ فإنها تؤجر عليه.
قال: وقسم – أي: الثمن – بين الغرماء على قدر ديونهم؛ توخيًّا لإنصافهم، ولا يكلف الغرماء إقامة البينة على أن لا غريم سواهم. قال صاحب "التقريب": بخلاف الورثة؛ فإنا قد نقول: لا يقسم الحاكم التركة بينهم حتى يقيم بينة خبيرة بباطن أمر المتوفى: أنهم لا يعرفون له وارثاً سواهم؛ لأن الحجر يشتهر أمره؛ فيغلب على الظن أن لو كان غريمٌ لظهر، [وفرق الماوردي بأن الغريم تعذر أن يستحق جميع المال، وإن كان ثم غريم غائب بإبراء الغائب أو عفوه عن حقه، وليس كذلك الوارث؛ فإن الغائب لو أراد إسقاط حقه لم يسقط [حقه]].
قال الإمام: وما ذكره [صاحب "التقريب"] حسن، ولكن لا فرق عندنا بين القسمة على الغرماء، والقسمة على الورثة؛ فحيث نقول: لابد من إقامة البينة على أن لا وارث، فلابد من مثله في القسمة على الغرماء. وكيفية القسمة: أنه إذا كان
لأحدهم عشرة، ولآخر عشرون، ولآخر ثلاثون – دفع لصاحب الثلاثين النصف من المتحصل، ولصاحب العشرين الثلث، ولصاحب العشرين السدس، وهكذا يفعل فيما إذا كانت ديونهم من غير النقدين، وتقسم على قدر القيم.
ثم اليون التي يقسم المال عليها هي الثابتة عند الحجر، أو المتجددة بسبب إتلاف أو جناية، كما ذكرناه، أما ما تجدد عن قرض أو ثمن مبيع، فلا يقسم عليه شيء من المال الذي تناوله الحجر، وهل يقسم المبيع بين البائع وبين الغرماء [إذا طرد الحجر إليه]؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه لا يشاركهم فيه أيضاً؛ بل حقه في ذمتهم إلى يساره؛ لرضاه بذلك أو تقصيره، وهذا ما يفهم من كلام العراقيين.
والثاني: أنه يشاركهم فيه، كذا حكاه الإمام والغزالي في "البسيط"، وكلامه في "الوسيط" و"الوجيز" يفهم المشاركة في جميع المال على وجه؛ فإنه قال: والثاني يضارب؛ لأنه أدخل في ملكه شيئاً جديداً بدينه الجديد، وعلى ذلك جرى الرافعي.
فإن قلنا به، اتجه أن يكون في قبول إقرار المفلس بدين مُسْنَدٍ إلى ما بعد الحجر – بسبب مبيع في يده – القولان السابقان، وهذا ما أشرت إليه من قبل.
ولو تجدد دين بسبب خروج بعض ما أبيع مستحقًّا، وقد تلف ثمنه في يد الحاكم- فإنه من ضمان المفلس؛ ففيه طرق:
إحداها: [حكاية قولين:
أحدهما – وهو ظاهر نصه في "المختصر"، وفي "حرملة" على ما حكاه المحاملي -: أنه يقدم به على سائر الغرماء.
والثاني: أنه يشاركهم [فيه] كما في أرش الجناية، وهذا ما حكاه الربيع، وحرملة على ما حكاه البندنيجي وغيره، [في كتاب الرهن، وصححه، وكذا هو] الأصح في "مجموع" المحاملي، والأظهر عند عامة الأصحاب.
والثانية: القطع بالقول الأول، وبها جزم في "الوسيط".
والثالثة - حكاها العراقيون -: أن المسألة على حالين: فمن قال بالتقديم محل قوله إذا لم يكن الحجر [قد فُكَّ، ومن قال بالمضاربة محل قوله إذا كان] قد فك عنه الحجر، وليس له في الحال مال فيثبت حقه في ذمته، فإذا استفاد مالاً، وحجر عله، كان صاحب الثمن أسوة الغرماء، ونظير طريقة القولين: ما إذا باع شيئاً قبل الحجر، ثم رد بعد الحجر؛ بسبب عيب.
ولو استأجر منه داراً بأجرة معجلة، وانهدمت بعد الحجر في أثناء المدة - فللمستأجر أجرة ما بقي من المدة، وهل يضارب بها؟ ينظر: إن كان الانهدام قبل القسمة ضارب، وإن كان بعدها فوجهان، أصحهما في "مجموع" المحاملي: المضاربة.
واعلم أن وقت القسمة حين يجاز بيع الأموال وحيازة أثمانها إن رضي الغرماء بالتأخير إلى ذلك الوقت، أو لم يمكن قسمة ما يتحصل أولاً فأول، أما إذا أمكن، وامتنع الغرماء من التأخير، أطلق القاضي أبو الطيب والمحاملي والإمام وغيرهم القول بإجابتهم.
وفي "الحاوي" أنهم لا يجابون؛ لاحتمال أن يظهر غريم لم يطلع عليه، وهذا ما قال الرافعي: إنه الظاهر.
ولا نزاع في أن الغريم لو كان واحداً سلم إليه ما يتحصل أولاً فأول؛ لأنا حيث
احتجنا إلى التأخير، وقدرنا على [إقراض ما يتحصل مليًّا وفيًّا] لا يودعه، حتى لو أودع، فتلف – ضمنه المودع، فدفعه لمن يستحقه أولى. وإذا احتجنا لإيداع ما يحصل إلى وقت القسمة، لا يودع إلا عند عدل، وإن رضي الغرماء والمفلس بغير عدل؛ لأن الحق هاهنا قد يتجاوزهم إلى غائب، بخلاف المرهون، والأولى أن يعين الغرماء والمفلس والعدل، فإن اختلفوا في التعيين، وتساوت صفات من عين حتى في عدم طلب أجرة على الحفظ، وقدر على ضم أحدهما إلى الآخر فعل، وألا عين الحاكم واحداً.
فروع:
لو كان بعض الغرماء غائباً، فإن عرف قدر ما لَهُ قسم عليه، وإن لم يعرف ولم يمكن مراجعته، ولا هو ممن يرجى حضوره – رجعنا إلى قول المفلس فيما لَهُ وقسم عليه: فإن حضر وظهر له زيادة على ما اعترف به المفلس، فذلك بمنزلة ظهور غريم آخر. وإن أمكن حضوره وعرف موضعه، قال المتولي: لا يقسم حتى يرسل إليه، [و] إذا ظهر غريم [آخر] بعد القسمة لا ينقض على الصحيح، وبه جزم المتولي، وحكاه الماوردي عن ظاهر منصوصه في القسمة؛ فيسترجع من كل من الغرماء نسبة ما يستحقه الذي ظهر لو كان حاضراً، مثاله: إذا كان الحضور الثلاثة، ودين أحدهم ألفٌ، والآخر ألفان، [والآخر ثلاثة آلاف]، والمال المقسوم ثلاثة آلاف، ودين الذي ظهر ثلاثة آلاف – استرد من كل من الحضور ثلث ما أخذه، وفيه وجه: أن القسمة الأولى تنقض، ثم يستأنفها الحاكم بعد دخول الظاهر فيها.
وعلى الأول: لو أتلف اثنان من الحضور الذي قبضاه وهما معسران حالة قدوم الغائب، فهل يجعل ما قبضه الآخر كأنه جميع الموجود، ولا غريم سواهما حتى يسترد منه على حساب ذلك، أو لا يسترد منه أكثر مما كان يسترده عند يسار الجميع؟ فيه وجهان، أصحهما، وبه جزم المتولي: الأول.
ولو لم يظهر الغريم إلا بعد أن ظهر للمفلس مال قديم، أو حادث بعد الحجر؛ صرف منه إلى الذي ظهر بقسط ما أخذه الأولون.
إذا أفرز الحاكم نصيب غائب من الغرماء، فتلف في دية بعد تسليم الحاضرين ما خصهم.
قال في "التتمة": ذكر القاضي أن الغائب لا يزاحم من قبض، وكذلك لو لم يكن قد سلم إلى أحد من الحضور شيئاً من المال، ولكنه أفرز لكل واحد شيئاً، فهلكت حصة أحدهم – لم يزاحم الباقين، وذكر بعض أصحابنا أن من لم يسلم له نصيبه يزاحمهم ثانياً.
فائدة: لا خلاف بعد قسمة مال المفلس، واعتراف الغرماء: أنه لا مال له – أنه لا يدام عليه الحجر، ولكن هل ينفك بتفرقة المال الموجود، أم لابد من فك الحاكم؟ فيه وجهان محكيان في الطريقين:
أظهرهما في "الرافعي": الثاني.
وفي تعليق القاضي الحسين: الأصح: الأول، وبه جزم في "التهذيب" و"الإبانة" في كتاب الحجر.
وتطابق الغرماء على الفك هل يقوم مقام فك الحاكم؟ فيه وجهان في "الوسيط"، ولو ظهر له بعد فك الحجر مال لم يشعر به، فلا ينفذ تصرفه فيه، ويصرف إلى الغرماء، [ولا تنقض القسمة، ولا تسترد الأعيان التي رجع فيها بائعوها.
قال المتولي: لأن الفسخ عند الامتناع مجتهد فيه، فإذا أصابه حكم الحاكم بالإفلاس فقد صح.
قال الرافعي: وقد يتوقف فيه؛ لأن القاضي ربما لا يعتقد جواز الرجوع بالامتناع، فكيف يجعل حكمه – [هنا] – بناءً على ظن آخر حكماً بالرجوع بالامتناع، وما نقله الشيخ في "مهذبه" من نقض القسمة المراد به ما ذكرناه، إلا انه يسترجع من كل من الغرماء ما أخذه، ثم يقسم، وإنما ذكر ذلك؛ ليظهر أن مذهبنا مخالف لمذهب من قال: إن الغرماء يفوزون بما قبضوه، ولا يسترد منهم شيء، وقد نبه على ذلك في
"الاستقصاء"، والله أعلم].
قال: وإن كان فبهم من له دين مؤجل، لم يقض دينه في أصح القولين، [[وفيه] قول آخر: أنه بالإفلاس تحل ديونه، أي: فتقضي].
إذا حجر على المديون بسبب الفلس، وعيه ديون مؤجلة فهل تحل؟ فيه قولان: أصحهما، وهو مذهب المزني: لا؛ لأنه معنى لا يقطع تصرفه في ذمته، فلم تحل به الديون؛ قياساً على نفس الإفلاس قبل الحجر.
والثاني: أنها تحل؛ لأنه حدثت [به] حالة عَلِقَتْ حقوق غرمائه بعين أمواله؛ فوجب أن تحل بها ديونه المؤجلة كما لو مات.
وهذا بناه الماوردي على [أن] حجر الفلس حجر السفه، والأول بناه على أنه حجر مرض.
وقد حكى الإمام هذا الخلاف في طرآن الجنون المستمر، وأن الشيخ أبا محمد قال: حلوله بالجنون أولى؛ لأن المجنون لا استقلال له كالميت، والأجل إنما جعل رفقاً لمن عليه الدين، وقد فات، والقيم ينوب عنه كما ينوب الوارث، ورأى الإمام الترتيب بالعكس أولى؛ لأن قيم المجنون له أن يبتاع له بثمن مؤجل عند ظهور المصلحة، فإذا لم يمنع الجنون التأجيل ابتداءً فَلأَلأَ يقطع الأجل دواماً كان أولى.
إذا عرفت ذلك، عرفت أن القول الأول مبني على عدم الحلول، وأن على القول بالحلول تقسم الديون المؤجلة، كما تقسم الديون الحالة، وتسلم إلى أربابها. وحكى الماوردي عن أبي إسحاق وابن أبي هريرة: أنا نقسم على الديون المؤجلة كالحالة، وما يخص المؤجلة يبقى على ملك المفلس، ولا يدفع إلى أرباب الديون المؤجلة حتى تحل، وأطلق الإمام حكاية هذا وجهاً، ثم قال: وهو مزَّيف لا أعده من المذهب.
قال: وإن كان فيهم من له رهن خص بثمنه لسبق حقه، فإن فضل له بعد ذلك شيء، ضارب به مع الغرماء، وإن فضل من ثمنه شيء، رد إلى الغرماء.
قال: وإن كان له عبد في رقبته أرش جناية – أي: وإن وجدت بعد الحجر – قدم
حق المجني عليه؛ لأنه يقدم على حق المرتهن، وحق المرتهن يتقدم على حقوق الغرماء، [فكان هذا أولى، فإن فضل من ثمنه شيء عن أرش الجناية فُضَّ على الغرماء، وإن لم يوف بأرش الجناية فلا شيء له مع الغرماء].
قال: وإن كان فيهم من له عين مال باعها منه – أي: قبل الفلس – بثمن حال لم يقبض منه شيء، وهي باقية، ولم تخرج عن ملكه، ولا تغيرت، ولا تعلق بها حق الغير، والراجع من أهل تملُّك [تلك] العين.
قال: فهو بالخيار بين أن يضرب مع الغرماء، وبين أن يفسخ البيع ويرجع فيها.
الأصل في ذلك ما روى مسلم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَدْرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أَفْلَسَ، أَوْ إِنْسَانٍ قَدْ أَفْلَسَ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ"، [وما روى] الشافعي بسنده عن خلدة – أو ابن خلدة – قاضي المدينة أنه قال: أتينا أبا هريرة في صاحب لنا قد أفلس، فقال: هذا الذي قضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا رَجُلٍ مَاتَ أَوْ أَفْلَسَ، فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أَحَقُّ بِالْمَتَاعِ إِذَا وَجَدَهُ بِعَيْنِهِ"، وخلدة وابن خلدة ثقتان؛ فلا يضر الشك فيهما.
وقد رواه أبو داود عن ابن خلدة عن أبي هريرة، [ولفظ أبي هريرة:] "لأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمْ بِقَضَاءِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَفْلَسَ أَوْ مَاتَ فَوَجَدَ رَجُلٌ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ".
ومن جهة المعنى: أنه أحد عوضي العقد القابل للفسخ بالإقالة؛ فثبت حق الفسخ بتعذره كإباق العبد، وانقطاع المُسْلَم فيه.
وحكى الماوردي عن أبي عبيد بن حربويه من أصحابنا، أنه قال:"إنما يكون البائع أحق بعين ماله؛ ليستوفي حقه من ثمنه، ويمنع الغرماء من مشاركته فيه، كالرهن"، ثم قال: وهذا خالف به الإجماع.
وعلى المذهب [هل يتوقف فسخه على إذن الحاكم أم لا؟]
قال في "الحاوي" قبيل [باب] شهادة النساء: لابد أن يحكم الحاكم بجواز الرجوع بالأعيان المبيعة، وبعد ذلك وجهان:
أحدهما: لا يرجع به البائع إلا أن يحكم له الحاكم برده عليه.
والثاني: يجوز أن يرجع، وإن لم يحكم له بالرد.
وغيره قال: بعد ثبوت الفلس، هل يتوقف فسخه على إذن الحاكم أم لا؟ فيه وجهان:
المذكور منهما في "الحاوي"[هنا:] الأول، وهو الذي اختاره في "المرشد".
وفي "الرافعي": الشبه مقابله.
[وهل هذا الخيار على الفور أو على التراخي ما لم يعزم الحاكم على بيع ماله كما قيده الماوردي؟] فيه وجهان:
أصحهما في "الرافعي"، و"تعليق" أبي الطيب: الأول.
وعن القاضي الحسين: أنه لا يمتنع تأقيته بثلاثة أيام.
[وعلى الصحيح: لو ترك حق الفسخ على مال لم يثبت، وسقط خياره مع العلم، ومع الجهل وجهان، كما ذكرنا في الرد بالعيب، وإذا اختار عين ماله لزمه، ولا خيار له، وروى القاضي ابن كجٍّ: أن أبا الحسين حكى وجهاً أنه بالخيار ما دام في المجلس].
ولا نزاع في جواز الفسخ باللفظ الصريح كقوله: فسخت البيع، ونقضته، ورفعته، ولو قال: رددت الثمن، فوجهان، أصحهما: الاكتفاء به، وهل يجوز بالفعل كما في خيار المجلس؟ فيه وجهان:
أصحهما في "الحاوي": المنع.
ولو حكم حاكم بمنع الرجوع، قال الإصطخري: نقض حكمه. واختار الشيخ في "المهذب" لنفسه أنه لا ينقض، وهو ما حكاه في "المرشد".
أما إذا كان البيع صدر بعد فلسه، ففي ثبوت خيار الرجوع [فيه] وجهان:
أحدهما: نعم؛ لأنه باعه قبل وقت الفسخ، فلم يسقط حقه من الفسخ؛ كما لو تزوجت المرأة بمعسر بالنفقة.
والثاني: لا؛ لأنه باعه مع العلم بخراب الذمة؛ فسقط خياره، كما لو اشترى سلعة يعلم بعيبها.
هكذا عللهما في "المهذب".
وقد تفهم علة الأول: أن محل الخلاف ما إذا باع منه قبل الحجر وبعد الفلس؛ لأن بالحجر يثبت حق الرجوع، أما إذا كان بعد الحجر فلا رجوع وجهاً واحداً؛ لأن البيع جرى بعد وقت الفسخ، وعلى ذلك جرى مجلي، وليس كذلك، بل الخلافُ جارٍ وإن وقع البيع بعد الحجر، صرح به الإمام والرافعي وغيرهما، وقد بين صاحب "الاستقصاء" قوله: لأنه باعه قبل الفسخ [بأن الفسخ يثبت لأجل تعذر الثمن، وهو لا يستحق الثمن إلا بالبيع؛ فلم يسقط حقه من الفسخ قبل وقت الفسخ.
وعلة الثاني: أنه إذا كان جاهلاً بفلسه، أن له الخيار وجهاً واحداً، كما صرح به في "الاستقصاء"، وليس كذلك؛ بل قد أجرى الإمام وغيره الخلاف فيه، والظاهر من المذهب: أنه يثبت؛ كما أن الظاهر عند العلم عدم الثبوت]، وهو الذي يقتضيه قياس ما جزم به ابن الصباغ وغيره فيما إذا باع عبدٌ شيئاً بغير إذن سيده، وصححناه: أن له أن يرجع في المبيع قبل أن ينزعه السيد منه، وفي "التتمة" ما يقتضي أن الظاهر في حال الجهل عدم الثبوت، فإنه حصل أصل الخلاف في هذه الصورة الخلافُ
المذكور في جواز الفسخ؛ بسبب تعذر الثمن من غير إفلاس، من جهة أن الشراء في الذمة لم يدخل تحت الحجر، وقد تعذر عليه الوصول إلى حقه، والصحيح في هذه المسألة: أنه لايفسخ، وإذا كان كذلك لزم منه ما قلناه.
وقد انتظم من مجموع ما ذكرناه ثلاثة أوجه، وقد حكى العمراني في "الزوائد" في باب الخيار في النكاح عن صاحب "الفروع" الوجهين الأولين قولين، وأن الجديد: الثبوت.
ولو كان الثمن مؤجلاً فلا رجوع له في العين على وجه، وإن حل قبل الحجر عليه، والمذهب: أن الأجل إن انقضى قبل الحجر كان له الرجوع في العين، وإن لم ينقض، فينبني على أن الحجر يحل به الدين أم لا؟
فإن قلنا: إنه يحل به، ثبت له الرجوع عند الشيخ أبي حامد.
وحكى الماوردي عن أبي إسحاق وابن أبي هريرة: أنه لا رجوع له.
وفائدة القول بالحلول: أنها لاتباع في حقوق الغرماء؛ بل تبقى محفوظة لبائعها إلى مضي المدة، فإن وجد المفلس وفاءً فذاك، وإلا فحينئذ يفسخ.
قال القاضي أبو الطيب: وهذا ليس بصحيح؛ لأن الدين إذا حل فلا معنى لحبس العين على الأجل.
وإن قلنا بعد الحلول فهل تباع ويصرف ثمنها لأرباب الديون الحالة، أو لا تباع وتجعل كالمرهونة بحق بائعها؟ فيه وجهان حكاهما الشيخ أبو حامد، وأصحهما الأول، وبه قطع القاضي أبو الطيب.
فإن قلنا به، فلو لم يتفق بيعها حتى حل الأجل ففي جواز الفسخ الآن وجهان.
وإن قلنا بمقابله، وهو ما أشار إليه الشافعي في "الإملاء"، كما قال في "الاستقصاء"، واختاره في "المرشد"، وقال الإمام: إن المحققين زَّيفوه – فإن انقضى الأجل والحجر باقٍ ثبت حق الفسخ، وإن كان قد أطلق، ووفاه الثمن فذاك، وإن لم يوفه كان له حق الفسخ من غير تجديد حجر.
وفي "النهاية" حكاية وجه: أنه لابد من تجديد الحجر، وإنه بعيد غير سديد.
ومن هذا الكلام يظهر لك أن الجحر لا يدام على المفلس؛ بسبب الدين المؤجل، ولو قبض بعض الثمن فالقديم: أنه لا رجوع له في العين، ويضارب مع الغرماء سواءٌ كان المبيع شيئاً واحداً أو متعدداً.
واستدل له بحديث رواه مالك، عن الزهري، وهو مرسل.
والجديد: أن له خيار الرجوع بقدر ما بقي له من الثمن؛ لأن الإفلاس سبب يعود به كل العين إليه، فجاز أن يعود [به] بعضه إليه؛ كالفرقة قبلا لدخول يرتد بها جميع الصداق إلى الزوج تارة بالردة، وبعضه [تارة] أخرى بالطلاق. فعلى هذا: إن كان المبيع عبداً واحداً أو عبدين، وقد قبض نصف الثمن – رجع في النصف مشاعاً، ولو تلف المعقود عليه فلا مضاربة إلا بالثمن، وعن رواية الشيخ أبي محمد وغيره وجه: أن له المضاربة بالقيمة إذا كانت أكثر؛ ليزداد ما يأخذه.
ولو كان المبيع عبدين، فتلف أحدهما، ولم يقبض من الثمن شيئاً – فله أن يأخذ الباقي [بحصته من الثمن]، ويضارب بحصة ثمن التالف، بل لو بقي العبدان، وأراد أن يرجع في أحدهما، مُكِّن منه؛ كما لو رجع الأب في نصف ما وهبه. ولا فرق في ذلك بين أن يكون التلف بآفة سماوية، أوب فعل المشتري، أو بفعل أجنبي، كما صرح به في "التهذيب".
والقيمة التي يوزع عليها الثمن أقل قيمة من حين العقد إلى حين القبض، صرح بذلك في "الاستقصاء".
وعن القاضي أبي حامد، وأبي الحسين، وصاحب "التقريب": أن من الأصحاب من ذكر قولاً: أنه مخير بين أن يأخذ الباقي بجميع الثمن، أو يدع، وزُيِّفَ.
ولو كان قد قبض نصف الثمن والصورة هذه، فالقديم: أنه لا رجوع له.
وقد نص في الجديد على: أنه يرجع في الباقي إذا كانت قيمته مثل قيمة التالف،
ونص فيما إذا أصدق زوجته أربعين من الغنم، فأدت زكاتها شاة، ثم طلقها قبل الدخول – على قولين مع قول ثالث حكاه ابن الصباغ:
أحد القولين: أنه يرجع في عشرين شاة، قال الأصحاب: وهو موافق لنصه في المفلس.
والثاني: أنه يأخذ نصف الموجود ونصف قيمة الشاة المخرجة.
فمن الأصحاب من خرج من هذا قولاً إلى المفلس، وجعل مسألته على قولين: وأظهرهما: أن يأخذ الباقي بماله في مثالنا.
والثاني – وهو اختيار المزني -: أنه يأخذ نصف العبد الباقي بنصف الباقي من الثمن، ويضارب الغرماء بنصفه.
ومنه من قطع بالنص، وفرق: بأن الزوج إذا لم يرجع إلى عين الصداق، أخذ القيمة بتمامها، والبائع لا يأخذ الثمن؛ بل يحتاج إلى المضاربة، وزوال ملك المفلس الذي لا يتسلط على استرجاعه بمنزلة التلف فيما ذكرناه، وحيث يتسلط على استرجاعه، كما في القرض إذا كان باقياً في يد المقترض، أو في يد المشتري في زمن الخيار إذا قلنا بزوال الملك – يجوز للبائع استرجاعه كما هو للمفلس. قاله الماوردي.
ولو عاد الملك بعد الزوال على وجه اللزوم، فإن كان بعد الحجر ففي "الاستقصاء" حكاية عن الصيمري في "الإيضاح" أنه: لا رجوع له. وغيره أطلق حكاية وجهين في جواز الرجوع، وأجراهما فيما لو خرج الموهوب عن ملك الولد ثم عاد، والصداق عن ملك الزوجة ثم عاد قبل الطلاق.
لكن الأصح في مسألة الصداق عند الأكثرين: أن حق الزوج يتعلق به، [وبه] جزم في "المهذب" و"الشامل"، بخالف الهبة؛ لأن الرجوع في الهبة يختص بالعين، فاختص بذلك الملك، ورجوع الزوج لا يختص بالعين، بل يتعلق بالبدل، والعين العائدة أولى من بدل الفائت، ومقتضى هذا أن يكون الصحيح في مسألتنا عدم الرجوع كما في الهبة، وهو الذي اختاره في "المرشد"، وقد بنى الشيخ أبو محمد في
"السلسلة" الخلاف في هذه المسألة على الوجهين في رجوع [الواهب، والوجهين في رجوع الواهب على الوجهين في رجوع] الصداق إلى الزوج، والوجهين في الصداق على القولين فيما إذا قال لعبده: إن دخلت الدار فأنت حر، فباعه ثم اشتراه، ودخل الدار.
قال الرافعي: ولك أن تقول: بناء الوجهين على القولين المنصوصين معقول، وأما بناء صورة من صورة الوجهين على أخرى مع استوائهما في المعنى، فليس بأولى من القلب والعكس.
قلت: ليس ما ذكر مستوياً في المعنى؛ لأن في مسألة الصداق والهبة، [الفرق] بينهما ما ذكر، وفي مسألة الهبة والفلس – وإن تساويا في إثبات حَقِّ – الرجوعُ في العين لا غير، لكن البائع إذا منعناه من الرجوع ضارب بالثمن؛ [فلا يفوت مقصوده بالكلية، والواهب إذا منعناه من الرجوع] لم يرجع إلى شيء. ثم على القول بالرجوع: لو كان عوده إلى المفلس بسبب بيع يأتي، ولم يوف فيه الثمن أيضاً –ففي "الحاوي": أن البائع الثاني أولى، فإن ترك فهل للأول الرجوع؟ فيه وجهان، وفي طريقة المراوزة في المسألة ثلاثة أوجه:
أحدها – وهو الصحيح -: أن الحكم كما ذكرناه عن "الحاوي".
والثاني: أن الأول أولى، مع عدم ترك الثاني.
والثالث: أنهما يشتركان فيه نصفين.
وعلى الصحيح: لو كان المفلس قد باعه، ثم اشتراه من ثالث، ولم يَنْقُدْه الثمن أيضاً – فالحق للثالث، فإن تركن فثلاثة أوجه:
أحدها: أنه لا حق لغيره.
والثاني: أن الحق للثاني.
والثالث: أن الأول والثاني يشتركان، ويكون بينهما نصفين.
ولو كان البائعون أربعة، فالحق للرابع، فإن ترك فعلى الوجه: الأول لا حق لغيره،
وعلى الثاني: يكون الحق للثالث، فإن ترك فالحكم كما لو كان البائعون ثلاثة، وعلى الثالث: تكون بين الثلاثة أثلاثاً. قاله الماوردي، وصاحب "الاستقصاء".
ولو كان المبيع صيداً، والبائع في حال الحجر مُحْرماً أو كافراً، والمبيع عبداً مسلماً، وقلنا: الكافر لا يشتري المسلم – لم يكن له الرجوع إلى عين المبيع، وضارب مع الغرماء بالثمن. كذا قاله مجلي.
وقد يقال: حكيتم فيما إذا باع الكافر العبد المسلم بثوب، ثم اطلع على عيب به، هل له رد الثوب ليرجع إليه العبد المسلم؟ فيه وجهان؛ فكان يتجه أن يجريا هاهنا؛ لأن نقص الثمن أقمتموه مقام العيب، خصوصاً إذا قلنا:[إن] الخيار على الفور، وكذا الخلاف المحكي في صحة شراء المحرم الصيد، يتجه أن يجيء مثله هاهنا، فإن جوزنا الشراء جاز الرجوع، وإن لم نجوزه اتجه أن يتخرج على الوجهين – أيضاً – في رد الكافر بدل العبد المسلم بالعيب.
قال: إلا أن يكون قد استحق بشفعة، أو رهن، أو جناية – أي: تعلقت برقبته، أو خلطه بما هو أجود منه – أي: مثل: أن [خلط صاع] حنطة قيمته درهم بصاع حنطة قيمته درهمان، أو مكيلة زيت قيمتها درهم بمكيلة زيت قيمتها درهمان، ونحو ذلك مما يجري فيه الربا، وهو من ذوات الأمثال، والدليل على امتناع الرجوع في الثلاثة الأُوَل: سبق تعلق حق الغرماء بها، وفي الرابعة: أنه تعذر عليه الرجوع إليها حقيقة وحكماً: أما حقيقة؛ فللاختلاط، وأما حكماً؛ فلأنه لو استرجع مكلة منه استفضل زيادة غير مستحقة، وأدخل بها على الغرماء مضرة، وإن أخذ من المكيلة بقدر ما يخصه بالقيمة، صار معاوضاً في مثالنا صاعاً بثلثي صاع، وذلك ربا، وإذا تعذر الرجوع إلى العين بطل حق البائع منها، وهذا هو الصحيح في المسائل كلها، وفي المسألة الأولى وجهان آخران:
أحدهما: أن البائع أولى؛ فلا يتسلط الشفيع على الأخذ.
والثاني: أن الشفيع يأخذ، ويخص البائع بالثمن.
ثم هذا إذا حضر البائع والشفيع، وتزاحما على الأخذ، أما إذا لم يحضرا، وأخذ
البائع العين، فهل يستقر أخذه، أو للشفيع الانتزاع منه؛ تفريعاً على أنه أولى في نظير ذلك من الصداق؟ وجهان، ويتجه جريانهما هنا أيضاً.
وفي المسألة الثانية: إذا كان بعض المرهون يوفي بما هو مرتهن به بيع منه بقدره، وثبت للبائع بعد فك الرهن في الباقي الرجوع فيه، وهكذا الحكم في العبد الجاني.
ولو سقط الرهن، وأرش الجناية، ثبت للبائع حق الرجوع في الجميع صرح به الرافعي.
وفي "الحاوي" حكاية وجه: أنه لا رجوع له في المرهون، ولا في العبد الجاني، وهو يشابه وجهاً محكيًّا في الهبة:[أنه لا رجوع للواهب فيما وهبه، إذا كان الموهوب له قد رهنه، ثم زال الرهن، ويتجه أن يجيء الوجه الذي حكاه مجملي في الهبة] أيضاً: أنه يجوز له الرجوع في حال الرهن، ويكون موقوفاً، لكن مع التقييد بما إذا أبرأ البائع المفلس من ضمان العين لو تلفت، وصححنا هذا الإبراء، كما هو وجه محكي على هذا النعت في "الوسيط" وغيره، فيما إذا طلق الزوج قبل الدخول، وكان الصداق مرهوناً.
وفي المسألة الرابعة قول: أن للبائع حق الرجوع، واختاره المزني، لكن في كيفية الرجوع قولان.
وقيل: وجهان:
أصحهما: أن ذلك يباع، ويأخذ البائع في مثالنا ثلث الثمن، ويقسم على الغرماء الثلثان، وهذا ظاهر ما نقله المزني، على ما حكاه ابن الصباغ.
والثاني: أنه يعطي من المختلط ثلثه.
قال الماوردي: وهذا ظاهر كلام الشافعي، وهو في "الرافعي" محكي عن رواية الربيع والبويطي، ثم قال: وربما يخرج هذا الخلاف على أن القسمة بيع أو إقرار؟ إن قلنا بالأول لم يقسم عين ذلك، وإن قلنا بالثاني فيجوز. [وما ذكره فيه نظر؛ لأن المبيع كان إردبًّا فيستحيل أن نقول: تبينًّا بالقسمة أنه كان ثلثي إردب، والله أعلم].
تنبيه: تقييد الشيخ امتناع الرجوع في مسألة الخلط بما إذا كان خلطه بالأجود يفهم انه إذا خلطه بمثله أو بما [هو] دونه: أن الرجوع لا يمتنع، وهو كذلك على الصحيح، وادعى ابن الصباغ أن المذهب لا يختلف فيه؛ لأن عين ماله موجودة من جهة الحكم، بخلاف ما إذا خلط بالأجود. لكنه إذا خلط بالمثل قسم المال بينهما بالسوية، فإن لم يطلب القسمة، ولكن طلب البائع البيع، فهل يجبر عليه المفلس؟ فيه وجهان. وإذا خلط بالأردأ إن رضي البائع بأخذ مكيلته منه، فلا كلام، وإن لم يرضَ فوجهان:
أحدهما – وهو الصحيح -: أنه ليس له إلا ذلك إن رجع، وله المطالبة بالبيع وجهاً واحداً، كما هو في "الشامل" و"الحاوي".
والثاني: أن ذلك يباع، فإذا كانت قيمة المبيع درهمين، وقيمةُ المخلوط به درهمٌ؛ دُفِعَ للبائع الثلثان من الثمن، وهذا قول أبي إسحاق، وقد خرج بعض الأصحاب فيما إذا خلط المبيع بمثله أو بما دونه قولاً مما إذا خلطه بالأجود: أنه لا يثبت للبائع حق الرجوع، وأيد بأن الحنطة المبيعة إذا انثالت عليها حنطة أخرى قبل القبض انفسخ العقد على قولٍ؛ تنزيلاً له منزلة التلف، والقائلون بالصحيح قالوا: الملك قبل القبض غير مستقر؛ فلا يمتنع تأثره بما لا يتأثر به الملك المستقر.
قلت: والظاهر صحة التخريج [عند الخلط بالمثل]، ويؤيده أن الصحيح عند أبي الطيب الطبري، والظاهر من نص الشافعي فيما إذا خلط المغصوب بالمثل: أن الغاصب مخير بين أن يدفع إليه منه أو من غيره، ولولا [أنه] كالمفقود لما خيره.
ولو خلط الزيت بالشريج، ودقيق القمح بالشعير ونحو ذلك؛ فلا رجوع له في عين المبيع، وهل يسقط حقه من ثمنه بعد اختلاطه؟ على وجهين، أحدهما – وهو قول أبي علي بن أبي هريرة -: أن حق البائع لا يبطل فيباع الجميع، ويدفع للبائع ما قابل ثمن [الزيت، وإلى غرماء المفلس ما قابل ثمن] المخالط، كذا قال الماوردي. وأبدى الإمام احتمالاً في جواز الرجوع، قال: سيما على قولنا: إن فائدة الرجوع فيما إذا
خلط بجنسه بيع المخلوط، وقسمة الثمن.
فروع:
لو كاتب المشتري المبيعَ امتنع على البائع الرجوع، وإن أجره لم يمتنع. كذا قال الرافعي وغيره، وهو في الإجارة جواب على جواز بيع المستأجر، وألا فهو كالمرهون، كما صرح به المتولي، وكذا يظهر أن يكون ما قيل من منع الرجوع في المكاتب جواباً على منع بيع المكاتب، أما إذا قيل بجواز بيعه فيظهر جواز الرجوع، كما قال الأصحاب في أن الواهب يمتنع رجوعه في الموهوب إذا كاتبه الموهوب له، وقلنا بعدم جواز بيعه، وبصحة الرجوع إذا جوزنا البيع، لكنهم قالوا في البيع: يبقى مكاتباً في حق المشتري إذا جوزنا البيع على الصحيح حتى يعتق بأداء النجوم إليه، كما ذكرناه في باب: ما يجوز بيعه، ومثل هذا في الرجوع فيه احتمال؛ من حيث إن الرجوع يعتمد رقبة العبد؛ فيكاد أن يكون رجوعاً في نجومه؛ فلذلك جزموا بعدم الرجوع.
ويشهد لما ذكره المتولي في الإجارة أن الإمام حكى عن شيخه أن الطلاق إذا وقع قبل الدخول، والصداق مستأجر: أنه لا يرجع إلى عينه إذا منعنا بيع المستأجر، واختاره.
وكذلك قال الأصحاب فيما إذا وقع التحالف والعين المبيعة مستأجرة.
ثم على المذهب في المكاتب: لو انفسخت الكتابة، فهل له الرجوع فيه؟ فيه طريقان:
أحدهما: إجراء القولين في زوال الملك وعوده.
والثاني: القطع بجواز الرجوع، وهذا [هو] الذي يتجه الجزم به فيما إذا رجع في العين المستأجرة.
وإذا رجع في العين المستأجرة قال الأصحاب: لم تنفسخ الإجارة، والأجرة للمفلس تقسم على الغرماء. وسكتوا عن رجوع البائع على المفلس بها، وكذلك في مسألة الصداق، وقالوا في مسألة التحالف: إن البائع يرجع على المشتري بأجرة المثل لما بقي من المدة، والذي يظهر: عدم جريان مثل ذلك في مسألتنا وفي الصداق؛ من حيث إن الإجارة عيب جرى في يد المشتري والزوجة، ولهما مندوحة عنه بالرجوع في الصداق إلى القيمة، وفي مسألتنا إلى الثمن، وفي مسألة التحالف تعين حقه في العين؛ فلذلك طالب بالأجرة.
واعلم أنه لا فرق فيما ذكرناه بين ألا يرضى الغرماء بتقديم صاحب العين بثمنها، أو يرضوا؛ لاحتمال ظهور غريم آخر، وما في ذلك من المنة على البائع، ويشبه أن يكون الخلاف المذكور في جواز الرجوع في العين عند مساواة الديون المال حيث جوزنا الحجر، وفيما إذا ضمن له الثمن ضامن بغير إذن المفلس، وفيما إذا أعير منه شيء؛ ليرهنه بالدين، فرهنه – مأخذُهُ ما ذكرناه.
فعلى العلة الأولى: يكون له الرجوع عند مساواة الديون المال، ولا رجوع له عند وجود الضامن والرهن.
وعلى الثانية: ينعكس الحال؟
ولو كان الضامن قد ضمن بإذن المفلس.
قال في "التتمة": ليس له الرجوع.
وقد حكى الرافعي فيما إذا قدم الغرماء البائعَ بالثمن وجهاً: أنه يمتنع عليه الرجوع.
قال: وإن نقصت العين – أي: عن الحالة التي وقع عليها العقد – بفعل
مضمون – أي: مثل أن جنى عليها أجنبي، أو البائع – رجع فيها، وضرب مع الغرماء بقدر أرش النقص [من الثمن – أي: إن شاء، ويكون [أرش] النقص] للمفلس، مقدراً كان أو غير مقدر، وإن شاء ضرب مع الغرماء بالثمن:
أما وجه جواز رجوعه في العين فما ذكرناه.
وأما وجه [جواز] رجوعه بالأرش؛ فلأن المشتري أخذ بدل النقصان الذي كان البائع يستحقه لو بقي؛ فلا يحسن تضييعه عليه.
وأما وجه اعتبار ذلك من الثمن لا من القيمة: لأن الكل لو ذهب لم يضارب إلا بالثمن؛ لكون التالف تلف في ملك المفلس؛ فكذلك النقص. هذا هو المشهور.
وفي "الحاوي": أن محل مضاربة البائع بقدر أرش النقص إذا كان المفلس قد قبضه، وتلف في يده، فلو لم يقبضه، وكان باقياً في ذمة الجاني – فلا يأخذه المشتري، وللبائع أن يختص بأخذه، ولا يشاركه الغرماء فيه؛ لأنه بدل من عين ماله الذي تفرد باسترجاعها.
أما إذا نقصت العين بآفة سماوية نظر:
إن كان نقصان صفة، وهو نقص ما لا يمكن إفراده بالعقد: كاليد، والرجل، والحرفة، ونحو ذلك – فليس للبائع إلا الرجوع في العين من غير أرش، أو المضاربة بكل الثمن.
وفي كتاب القاضي ابن كجٍّ: أن من أصحابنا من أثبت قولاً: أنه كالنقص بالفعل المضمون.
وإن كان نقصان جزء، وهو نقص ما يمكن إفراده بالعقد، وقد وقع عليه العقد مقصوداً. كأخذ الثوبين والعبدين –فقد تقدم الكلام فيه، وما دخل في العقد ضمناً كالثمرة غير المؤبرة، هل يلحق بالجزء، حتى إذا تلفت بالآفة السماوية ضارب بقسطه أم لا؟ فيه وجهان في الحاوي وغيره، مع الجزم بأن المشتري إذا أتلفها ضارب البائع
بقسطها، وقال المحاملي: إن أصل الوجهين أن الثمرة غير المؤبرة هل يقابلها قسط من الثمن أم لا؟
ولو نقصت العين بفعل المشتري نقصان صفة، فطريقان:
أصحهما عند الإمام: أن ذلك بمنزلة فعل الأجنبي.
والثاني – وهو ما حكاه الماوردي -: أن فيه وجهين، وغيره قال: فيه قولان:
أحدهما: ما حكيناه أولاً.
وأصحهما – وهو المذكور في "الشامل"، وغيره من كتب العراقيين، وفي "التهذيب" -: أنه كالآفة السماوية.
فروع:
انهدام الدار، وغرق بعض الأرض، حكى الماوردي فيه ثلاث طرق:
إحداها: أن في ذلك قولين:
أحدهما: أنه نقص صفة.
والثاني: أنه نقص جزء.
وهذه طريقة أبي الطيب بن سلمة، وأبي حفص بن الوكيل.
والثانية: القطع بالقول الأول.
والثالثة – وهي طريقة أبي إسحاق المروزي -: حمل اختلاف ما روي عن الشافعي على حالين:
فرواية المزني وحرملة: أنه يأخذه بكل الثمن إذا كانت الآلة بعد الهدم باقية.
ورواية الربيع والبويطي: أنه يأخذه بحسابه وقسطه من الثمن إذا كانت بعد الهدم تالفة، وهذا يدل على إجراء الخلاف [المذكور أولاً] فيما إذا ذهب بعض النقص، [أو لم] يذهب منه شيء، وقد جزم الرافعي فيما إذا لم يهذب من النقص شيء أنه نقصان صفة، وأن الأصحاب ألحقوا به إحراق سقف الدار. [وإن لك أن تقول: وجب أن يطردوا الخلاف المذكور في تلف سقف الدار] المبيعة قبل القبض أنه كالعيب، أو كتلف أحد العبدين.
نقصانُ الزيت بالعرض على النار، وكذا العصير مثل أن كان أربعة أرطال فعاد إلى ثلاثة – نقصان جزء أو صفة؟ فيه وجهان:
أصحهما في الزيت: الأول؛ فيضارب في مثالنا بربع الثمن.
وإذا قلنا بمقابله، وكانت قيمة العصير ثلاثة دراهم، فعادت بعد النقص إلى درهمين، كان له أن يرجع فيه، ولا شيء له، وإن بقيت قيمته بعد ذلك أربعة دراهم فله الرجوع، والقدر الزائد هل يفوز به؟ ينبني على أن الزيادة بالصفة عين أم أثر؟ إن قلنا بالثاني فاز بها، وكذا إن قلنا بالأول عند القفال، وعند غيره: يصير المفلس شريكاً للبائع بقدر الزيادة، وهو الربع في مثالنا.
ولو كانت القيمة بعد النقص ثلاثة دراهم، وقلنا: إن الزيادة عين، فعند القفال: هي للبائع، وعند غيره: يصير المفلس شريكاً له بثلاثة أرباع درهم؛ لأن هذا القدر هو قسط الرطل الذاهب، وهو الذي زاد بالطبخ في الثاني.
فائدة: حكى الإمام عن صاحب "التلخيص" فيما إذا كان وزن العصير عشرة، فاشتراه بعشرة، وهو يساويها، ثم صار ونزه بعد الغلي ثمانية، وقيمته سبعة – أنه يرجع في العين، ويضارب الغرماء بقدر نقصان القيمة، وقدر النقصان ثلاثة، وأنه علله بأن قال: ليس ما حدث مجرد نقصان صفة؛ بل انضم إليه نقصان العين. ثم قال: وهو خطأ.
والصواب أن يقول: قد نقص بالنار خمس المبيع؛ فهو كما لو نقص بانصباب أو غيره من أسباب الضياع، فرجع [في الرُّبِّ إن شاء]، وإلا حُط له في مقابلة الدرهم الناقص من القيمة؛ فإن العين باقية في الأربعة الأخماس وزناً وقدراً، ويضارب بخمس الثمن، وهو درهمان.
قلت: وما قاله صاحب "التلخيص" تظهر صحته؛ لأن درهمين من النقص حصلا بسبب نقصان الجِرْم، كما ذكره الإمام، وهو يفهم من كلام صاحب
"التلخيص" –أيضاً – والدرهم الآخر، [كلام صاحب "التلخيص" يرشد إلى أنه بسبب نقصان الصفة]؛ فإن صفة العصير تغيرت بالعرض على النار.
وقد تقدم أن الأصح عند الإمام فيما إذا حصل نقصان الصفة بفعل المشتري أنه كالحصول بفعل الأجنبي، ولو حصل نقصان الصفة بفعل أجنبي ضارب به البائع قولاً واحداً؛ فكذلك في هذه الصورة؛ لأن النقص حصل بفعل المشتري، والله أعلم.
قال: وإن زادت زيادة متميزة كالولد والثمرة – أي: إذا حدث ذلك، وانفصل في ملك المفلس، رجع فيها دون الزيادة؛ لأن الزيادة حدثت على ملك المفلس، فسلمت له، كما في الرد بالعيب؛ ولأنها غير مبيعة والبائع إنما يثبت له الرجوع في المبيع. ثم لا فرق في جواز الرجوع في الأم دون الولد بين أن يكون آدميًّا في سن يجوز التفريق فيه بينه وبين أمه أو لا، نعم إذا كان في سن لا يجوز فيه التفريق حكى العراقيون وجهين:
أحدهما: أن الجارية تباع مع الولد، ويفوز البائع بثمنها، وهذا هو الأصح في الشامل، وغيره.
والثاني: أنه لو بذل قيمة الولد كان له الرجوع فيها وسلِّما له، وألا فلا حق له في الرجوع.
وأبدى الرافعي في هذه المسألة مباحثة، وهي أنا ذكرنا وجهين فيما إذا وجد الأم معيبة، وهناك ولد صغير: أنه يترك الرد، وينتقل إلى الأرش، أو يحتمل التفريق للضرورة، وفيما إذا رهن الأم دون الولد: أنهما يباعان معاً، أو يحتمل التفريق، ولم يذكروا فيما نحن فيه احتمال التفريق، وإنما احتالوا في دفعه؛ فيجوز أن يقال: يجيء وجه التفريق أيضاً هنا، لكنهم لم يذكروه اقتصاراً على الأصح. ويجوز أن يفرق بأن مالا لمفلس مبيع كله، مصروف إلى الغرماء؛ فلا وجه لاحتمال التفريق، مع إمكان المحافظة على جانب الرجوع، وكون ملك المفلس مزلزلاً.
وما قاله من أن الوجه المذكور في الرهن لم يذكره أحد هنا قد حكاه الماوردي حيث قال: من أصحابنا من جوز التفرقة بينهما للضرورة، مثل ما قيل في التفرقة
بينهما في الرهن، وقد أشار إليه الإمام – أيضاً – في كتاب السير بقوله: إنهم جوزوا الرجوع في الأم للضرورة، وصرح به الشاشي في "حليته"، وابن يونس في شرح هذا الكتاب، أما إذا اشتراها وهي حامل، ثم وضعت قبل الفلس، أو اشترى النخل والثمرة غير مؤبَّرة، ثم آبِّرت قبل الفلس – فله الرجوع في الجارية والنخل، وهل له الرجوع في الولد والثمرة إذا كانا موجودين؟ فيه قولان، لكن القولان في جواز الرجوع في الثمرة مرتبان على القولين في الولد، وأولى بالرجوع؛ لأنها مقصودة في نفسها، بدليل جواز إفرادها بالبيع على المذهب، بخلاف الحمل.
وقد وجه الإمام وجه الرجوع في الولد بأنه كان موجوداً عند البيع؛ فأشبه الأم، ومقابله: بأنه كان صفة عند العقد غير موثوق بها، وهو الآن عبد مملوك مستقل بنفسه؛ فقدرنا كأنه وجد جديداً بعد البيع. ثم قال: وقد بنى الأصحاب الخلاف على أن الحمل [هل يعرف أم لا؟ وما ذكرته مع ضعفه أولى من كون الحمل] مجهولاً؛ فإنا إن شككنا في الحمل حالة اجتنانه، فإذا انفصل لما دون ستة أشهر، لم نشك بعد انفصاله في كونه موجوداً عند العقد.
وحيث قلنا بجواز الرجوع في الولد والثمرة عند الوجود، فلو كانا مفقودين فالذي حكاه الماوردي في الولد: أن البائع يضارب بقيمته حملاً في بطن أمه حين القبض؛ لأنه بعد الولادة أكثر ثمناً، وكثرة ثمنه حادثة في ملك المشتري؛ فتقوَّم الأم حاملاً؛ فإنا إن شككنا في الحمل حالة اجتنانه، فإذا انفصل لما دون ستة أشهر، لم نشك بعد انفصاله في كونه موجوداً عند العقد.
وحيث قلنا بجواز الرجوع في الولد والثمرة عند الوجود، فلو كانا مفقودين فالذي حكاه الماوردي في الولد: أن البائع يضارب بقيمته حملاً في بطن أمه حين القبض؛ لأنه بعد الولادة أكثر ثمناً، وكثرة ثمنه حادثة في ملك المشتري؛ فتقوَّم الأم حاملاً، ثم حائلاً، وما بينهما يعطي للبائع من الثمن.
ولو كانت الزيادة غير متميزة: كسمن الجارية، وطول النخلة، وطيب الثمرة، فلا خلاف في جواز الرجوع فيها، بخلاف الصداق، [وستقف على ما قيل بينهما من الفرق في كتاب الصداق].
ولو كان المبيع بذراً فزرعه، فصار حبًّا، أو بيضاً فصارت فرخاً، أو عصيراً فصار خمراً، ثم خلاًّ، فهل له الرجوع فيه؟ [فيه] وجهان:
أصحهما عند العراقيين وصاحب "التهذيب": أن له الرجوع.
وعند القاضي أبي الطيب، وابن كجٍّ، والغزالي: مقابله، وهو الذي جعله المتولي المذهب.
ولو اشترى زرعاً أخضر مع الأرض، ثم أفلس وقد اشتد الحب – حكى العراقيون ترتيبه على الخلاف السابق، وأنه أولى بالرجوع، وقد حكى الرافعي فيها طريقين:
أحدهما: القطع بالرجوع.
والثاني: طرد القولين، وهما يؤخذان مما ذكرناه.
قال: وإن كانت الزيادة طلعاً غير مؤبرة، ففيه قولان:
أحدهما: يرجع فيها مع الطلع؛ لأنه يتبع الأصل [في البيع]، فيتبعه في الفسخ كالسمن والكبر، وهذا ما رواه المزني وحرملة، وقال الإمام: إنه الظاهر.
والثاني: يرجع فيها دون الطلع؛ لأن الطلع ليس عين ماله، فلم يرجع فيه، وهذا ما رواه الربيع، وقد روى الرافعي طريقة جازمة به، وهي تؤخذ مما قاله الإمام أن هذا الخلاف مرتب على الخلاف الآتي في مسألة الحمل، وأولى بألا يرجع فيه، وحكم غير النخل من الأشجار إذا رجع فيها البائع وقد أثمرت في يد المشتري، يظهر لك من باب بيع الأصول والثمار، كما صرح به الأصحاب.
فرع: إذا جوزنا الرجوع في الطلع، فلم يتفق حتى أبر، سُلِّم للمفلس وفاقاً، ولو رجع البائع ووجد الطلع مؤبراً، واختلف في أنه أبر قبل الرجوع أو بعده، نظر:
إن ادعى المشتري أنه رجع بعد التأبير، وأن الثمرة التي هي الطلع غير تابعة، وصدقه الغرماء – فالقول قوله مع يمينه؛ فيحلف: إنه لا يعلم أن البائع رجع قبل التأبير، قال الإمام: ولا يتأتى تحليفه ما لم يدع عليه العلم بتقدم رجوعه على وقوع التأبير، فلو صدقه البائع على عدم العلم [بذلك لم يحلف، وحكى عن المسعودي تخريج قول: أن المفلس لا يحلف، وإن لم يصدقه البائع على عدم العلم]؛ بناءً على أن النكول وردَّ اليمين كالإقرار، وأنه لو أقر لما قبل إقراره، وعن أبي الحسين أن بعضهم ذكر قولاً: أن القول قول البائع، لأنه أعرف بتصرفه، وعلى المذهب لو نكل المفلس عن اليمين، فهل يحلف الغرماء، أو ترد على البائع؟ فيه طريقان، يأتي
مثلهما في المسألة التي في آخر الباب.
فإن قلنا: إنهم يحلفون، فحلفوا، قسم ذلك بينهم.
وإن نكلوا، أو قلنا: إنهم لا يحلفون، فيحلف البائع: فإن نكل فهو كحلف المفلس، وإن حلف، قال الإمام والرافعي: انبنى ذلك على أن يمين الرد مع الحلف بمنزلة الإقرار أو البينة؟ إن قلنا بالثاني استحق، وإن قلنا بالأول؛ ففي استحقاقه قولان؛ كما لو أقر له المفلس ابتداءً، وأنكر الغرماء، فإن لم يسلمها له كانت فائدة يمينه أنها لو فصلت سلمت إليه. وما قالاه ظاهر فيما إذا قلنا: إن الغرماء لا يحلفون، أما إذا قلنا: إنهم يحلفون، فنكلوا، فالذي يجب القطع به: استحققا البائع للثمرة، كما صرح به الماوردي وغيره؛ لأنا إذا قلنا: إن ذلك بمنزلة الإقرار، فالمفلس والغرماء لو أقروا سلمت الثمرة له بلا خلاف.
ثم إذا لم تسلم الثمرة للبائع بيمينه بعد نكول المفلس، وقولنا: إن الغرماء لا يحلفون – فهل للبائع طلب يمينهم على عدم العلم برجوعه قبل التأبير؟ فيه طريقان:
أحدهما: القطع بأنهم يحلفون.
والثاني: في المسألة قولان:
فإن حلفوا سلمت الثمرة إليهم.
وإن نكلوا ردت اليمين على البائع مرة أخرى، وحلف واستحق.
ولو حلف بعض الغرماء، ونكل البعض استحق الحالف بيمينه بقسط دينه من الثمرة، واختص به دون من لم يحلف، وحلف البائع على الباقي واستحقه، ولو صدق المفلس البائع في رجوعه قبل التأبير، وكذبه الغرماء، فهل القول قول المفلس أو الغرماء؟ فيه قولان:
فإن قلنا: قول المفلس، لم يحلفه، صرح بذلك الماوردي.
وكان يتجه أن يتخرج حلفه على الخلاف في تحيف الراهن إذا أقر بجناية العبد المرهون.
وإن لم يقبل قول المفلس، قال ابن الصباغ: فهو كالناكل؛ فيحلف الغرماء على أحد القولين، وبه قطع بعضهم، وهو الذي جزم به الماوردي، فإذا حلفوا قسمت
بينهم، وثبتت في ذمة المفلس للبائع، وعلى القول الآخر يحلف البائع.
ولو صدق الغرماء البائع، وكذبه المفلس، فالقول قوله أيضاً، وليس للغرماء بعد حلفه طلب توفية الثمرة في ديونهم.
قال الرافعي: وليس للمفلس التصرف فيها؛ لمكان الحجر، واحتمال أن يكون له غريم آخر، وللمفلس إجبارهم على قبول الثمرة عن حوقهم إن كانت من جنس حقوقهم، أو الإبراء، كذا أطلقه الماوردي.
وفي "النهاية": أن هذا فيما إذا قالوا: له مال آخر، وأبوا فك الحجر عنه، وأنهم إذا أجابوا إلى فك الحجر، أو اعترفوا أنه لا مال له سوى ما قسم بينهم، ففي الإجبار الخلافُ المذكور في الدين الحال، وقد ذكرته في السلم.
وفي "المشاكل" أطلق حكاية الخلاف عن الأصحاب في الإجبار، والظاهر – كما حكاه غيره -: الإجبار.
وإذا قبضوا الثمار وجب عليهم ردها إلى البائع، بخلاف ما لو كانت من غير جنس حقوقهم وبيعت، وصرف ثمنها إليهم؛ فإنه لا يجب عليهم رده إلى البائع، وعليهم رده على المشتري، فإن لم يأخذه فهو مال ضائع، وفي "الحاوي" حكاية وجه: أن الغرماء إذا قبضوا ثمن الثمرة [وجب عليهم رده إلى البائع صاحب النخل.
ولو امتنع الغرماء من قبض ثمن الثمرة]، قال المتولي: الحكم فيهم كالحكم في الذمي إذا باع الخمر والخنزير، وجاء بثمنه إلى مسلم ليقضيه دينه، [والنقل في هذه المسألة] – كما صرح به هو وابن الصباغ وغيرهما في كتاب الرهن –حكاية وجهين، وعللا وجه الإجبار على القبض أو الإبراء: بأن أهل الذمة إذا تقابضوا في العقود الفاسدة جرى مجرى الصحيحة، وفي "الوسيط" في كتاب الشفعة: أن الذمي إذا أحضر إلينا ثمن خمر شاهدناه عن الجزية لم نقبلها منه. وإن لم نره واعترف به؛ ففيه وجهان، وجه الجواز: أنه لا اعتماد على قولهم.
ولم يظهر لي فرق بين المسألتين؛ فينبغي أن يكون الحكم فيهما واحداً عن مسألة
الدين ومسألة الجزية، وأما مسألتنا: فعندي إلحاقها بما إذا أقر المرتهن بجناية العبد المرهون، وأنكر الراهن وباع العبد، وأراد إجبار المرتهن على قبض حقه منه أو الإبراء – أشبه، والحكم في هذه الصورة كما ذكره المتولي: الإجبار.
ووجه الشبه: أن الشرع يحكم بصحة التصرف ظاهراً في الموضعين، والله أعلم.
ولا نزاع في أن للغرماء أن يشهدوا للبائع، وليس لهم أن يشهدوا للمفلس.
قال الرافعي: وأحسن بعض الشارحين حيث حمل شهادتهم للبائع على ما إذا شهدوا قبل تصديقه، ولو صدق المفلسَ بعضُ الغرماء والبائع البعض، فللمفلس تخصيص مصدِّقه بالثمار. ولو أراد قسمتها على الكل فوجهان:
قال أبو إسحاق: له ذلك.
قال أبو إسحاق: له ذلك.
وقال الأكثرون: لا، كذا حكاه الماوردي وابن الصباغ والرافعي، وفيه نظر؛ من حيث إن الذي يتولى القسمة الحاكم، وكذلك فرض الإمام الكلام فيه.
ولو لم يفِ ما حصل للمصدقين بديونهم، فيضاربوا سائر الغرماء ببقية ديونهم؛ مؤاخذة لهم بزعمهم، أو بجميع ديونهم؟ فيه وجهان، أصحهما – وهو المنصوص – الأول.
قال: وإن كانت الزيادة حملاً لم ينفصل، ففيه قولان:
أصحهما: أنه يرجع فيها مع الحمل.
والثاني: يرجع فيها دون الحمل.
وتوجيههما ما ذكرناه، وقد بناهما الماوردي وغيره على أن الحمل هل يقابل بالثمن أم لا؟
إن قلنا: لا، أخذها حاملاً.
وإن قلنا: نعم، كان له الرجوع في الأم، ولا حق له في الولد.
وفي الرافعي على هذا حكاية وجه: أنه يرجع فيه أيضاً. ثم قال: وقضية هذا البناء أن يكون الصحيح القول الثاني، وكذلك ذكر بعض شارحي "المفتاح"،
والأكثرون على ترجيح القول الأول.
واعلم: أن كلام الشيخ مصرح بجواز الرجوع في الجارية في الحال على القولين، وهو قول الشيخ أبي حامد، فتوضع الجارية على يد عدل إذا قلنا: إنه لا يرجع في الحمل، وتكون نفقتها على البائع مالك الأم دن المفلس مالك الحمل، سواء قلنا: إن النفقة تجب لها، أو للحامل، كذا قال الماوردي، وفي "الشامل" أنا إذا قلنا: إن الحمل يسلم للمفلس؛ لم يكن له الرجوع في الأمة؛ لأن الولد كالزيادة المنفصلة؛ فلا يمكن الرجوع فيها، ولا يمكن الرجوع في الأصول دون الحمل. وظاهر هذا يقتضي منع الرجوع مطلقاً، وقال الصيدلاني وغيره، -وهو المحكي [في "التتمة"]-: إن البائع على هذا القول يصير إلى انفصال الولد، ولا يرجع في الحال.
ثم الاحتراز من التفريق بين الأم والولد بعد الوضع طريقُهُ ما مر، وقد ذكرت طرقاً فيما يستتبع الحم والثمرة من العقود والفسوخ جزماً، وما هو مختلف فيه في باب ما يجوز بيعه فليطلب منه.
قال: وإن زادت قيمة العين بِقصَارةٍ أو طحن رجع في العين - أي: إن اختار - لما ذكرناه، وكنت الزيادة للمشتري؛ لأنها حصلت بفعل متقوم فجزم بجواز إفراده بعقد الإجارة؛ فجرت مجرى الأعيان.
ونقل عن الشافعي قول آخر، واختاره المزني: أن الزيادة للبائع؛ لأنها لا تتميز فأشبهت السمن، ولان القصارة تزيل وسخ الثوب، وتكشف عما فيه من البياض، والطحن تفريق أجزاء مجتمعة فأشبه كسر الجوز.
وهذا الخلاف يعبر عنه الفقهاء بأن القصارة والطحن يسلك بهما مسلك العين [أو الأثر، والصحيح أنها كالعين] كما حكاه الشيخ.
التفريع:
إن قلنا بما رجحه المزني كان للبائع حق الرجوع، زادت القيمة أو نقصت، ولا شيء له عند النقص بسبب ذلك؛ كما لا يغرم شيئاً عند الزيادة، وتكون أجرة الصانع
في مال المفلس، وعن صاحب "التلخيص": أن على البائع أجرة القصار، وغلطه الأصحاب.
ولك أن تقول: قد قدمتم حكاية خلاف فيما إذا حصل في العين نقصان صفة بفعل المشتري أن ذلك يلحق بالآفة السماوية أو بالفعل المضمون؛ فيتجه أن يجيء مثله هنا إذا نقصت القيمة.
وإن قلنا بالثاني – كما حكاه الشيخ – فإذا كانت قيمة العين قبل العمل عشرة، وبعده خمسة عشر بسبب العمل، لا لارتفاع الأسواق – فقد صار المفلس شريكاً للبائع إذا رجع بثلث العين، ولا تسلم إلى واحد منهما، بل توضع على يد عدل حتى تباع، ثم ينظر: فإن كان المفلس هوا لذي قصر الثوب وطحن الحب بيعت العين، وسلم للبائع ثلثا الثمن، ولغرماء المفلس الثلث.
وإن كان الذي قصر وطحن أجيراً؛ نظر:
فإن كانت الأجرة قدر الزيادة رجع فيها الأجير، وصار شريكاً للبائع في العين في ثلث ثمنها.
وإن كانت الأجرة أكثر من الزيادة، مثل أن كانت عشرة، كان الأجير شريكاً للبائع في العين في ثلث ثمنها، ويضارب بما بقي له من الأجرة، وهو خمسة، وللبائع الثلثان.
وإن كانت الأجرة أقل من الزيادة، مثل أن كانت درهمين ونصفاً صار الأجير شريكاً للبائع في الثمن بالسدس، وللبائع الثلثان، وللمفلس السدس يقسم على غرمائه.
وهذا ملخص ما قاله الماوردي والإمام.
وفي "الشامل" و"التهذيب": أن للبائع أن يمسك المبيع، ويمتنع من بيعه، ويبذل للمفلس ما زاد فيه بسبب العمل.
ومنع المتولي منه؛ لأن الصفة [لا] تقابل بعوض.
فإن قيل: إن جعلتم الأجير كالواجد لعين عمله حتى يقدَّم بما يقابله عند تساوي
الزيادة والأجرة على الغرماء؛ فينبغي أن يعطي ذلك إذا كان زائداً، ولا يضارب مع الغرماء بتمام أجرته عند نقص الزيادة عنها.
قلت: قد حكى الغزالي أن بعض الأصحاب [قال به، وطرد القياس، لكن المنصوص الأول.
وقد ادعى الرافعي أن ما حكاه الغزالي عن بعض الأصحاب] لم يعثر عليه لغيره، لكن ذكر ابن كج أن أبا الحسين خرَّج وجهين في أنه لو قال الغرماء للقصار: خذ أجرتك، ودعنا نكون شركاء صاحب هذا الثوب – هل يجبر عليه؟ وأن الأصح: الإجبار، وعلى هذا القياس على البائع إذا قدمه الغرماء بالثمن.
وقد أجاب الماوردي عن عدم أخذه الزيادة: بأنه أسقط حقه منها؛ حيث رضي بالأجرة المقررة. وعن كونه يضارب بما نقص: بأنه لما لم يستحق الزيادة، وجب ألا يحسب عليه النقصان.
والذي أجاب به الإمام: أنه جعل حق المستأجر من العين كحق المرتهن من الرهن، وقد سبق أن الحكم في المرهون على هذا النحو. وما قاله ظاهر إذا كانت العين في [يد المستأجر]؛ بناءً على أن للبائع حق الحبس، أما إذا كان قد سلم العين إلى المفلس ففي جعله كالمرهون نظر، وإلى ما حكاه الإمام أشار الغزالي بقوله: فله حق حبس الثوب. يريد: على سبيل الوثيقة.
وقد فهم الرافعي من ذلك أن المراد به: إذا كان الثوب في يد القصار كان له حبسه إلى استيفاء الأجرة؛ فلأجل ذلك قال: ولا تعلق له بالمفلس.
وقد حكى الإمام بعد ما حكيناه أن في هذه المسألة غلطتين للأصحاب:
أحداهما: أن شيخه قال: إذا كانت قيمة الثوب عشرة، والأجرة درهماً، والثوب بعد القصارة يساوي خمسة عشر، فاشتراه راغبٌ بثلاثين- أن للبائع عشرين، وللقصار درهمين، وللمفلس ثمانية. فإن مقتضى ما ذكر من تشبيه تعلق [حق] القصار بالثوب بالمرتهن ألا يعطي القصار إلا درهماً، وأن الوجه القطع به.
والغلطة الثانية: أن الأصحاب قالوا في التفريع على أن القصارة عين: يفسخ
القصار العقد، ويرجع إلى القصارة، ثم فصلوا المذهب كما ذكرناه. ولو كان الأمر كما ذكروا لاستحق القصار [الأجرة] بكمالها بالغة ما بلغت.
قلت: ولعل ما حكاه الغزالي عن بعض الأصحاب أخذه من هاهنا.
واعلم: أن الحكم في الخياطة بخيط من نفس الثوب، والصباغة، والنجارة، والبناية، وذبح الشاة، وشي اللحم، وخبز العجين، ونسج الثوب – ملحق بما ذكرناه، وقد الحق ابن سريج، وصاحب "التلخيص" وأبو محمد به – أيضاً – تعليم العبد الحرفة، والقرآن، والكتابة، والشعر المباح، ورياضة الدابة.
[وذهب] أبو إسحاق، وابن أبي هريرة، وابن القطان إلى أن هذه الأشياء لا تجري مجرى الأعيان قطعاً؛ لأنه ليس بيد المعلم والفرائض إلا التعليم، وقد يجتهد فيه فلا يحصل الغرض؛ فكان كالسمن، وهذا ما حكاه في "الاستقصاء".
وقال الرافعي: الأصح الأول، والضابط عليه أن يصنع في المبيع ما يجوز الاستئجار عليه، ويظهر أثره فيه، واحترز بظهور الأثر عن حفظ الدابة وسياستها.
تنبيهان:
أحدهما: قول الشيخ: زادت قيمة العين بقصارة أو طحن، فيه إشارة إلى أن الزيادة لو حصلت عند القصارة والطحن؛ بسبب ارتفاع السوق، لا بسبب القصارة والطحن – أن الحكم لا يكون كذلك، وهو صحيح؛ لأن للبائع أن يرجع في العين، ولا شيء لغيره معه.
الثاني: القصارة: بكسر القاف، يقال: قصره يقصره- بضم الصاد – قصراً: إذا بيَّضه ودقه.
قال الزجاجي والواحدي: كل ما اشتمل على شيء فهو فِعالة – بالكسر – نحو: الغِشاوة والعمامة، والقلادة، والعصابة، وكذا أسماء الصنائع لا تشتمل كلها فيها: كالخياطة والقصارة، وكذا من استولى على شيء فاسم ما استولى عليه: الفِعَالة: كالخلافة، والإمارة.
قال: وإن اشترى ثوباً، وصبغاً فصبغ به الثوب – أي: بنفسه – فإن لم تزد
قيمتهما [أو لم تنقص] –أي: مثل أن كانت قيمة الثوب عشرة والصبغ خمسة، فصارت قيمة الثوب مصبوغاً خمسة عشر، قال: رجع كل واحد منهما في ماله؛ لأنه وجده، ويكونان شريكين في ذلك. ثم ما كيفية الشركة؟ حكى البغوي والطبري عن رواية الشيخ أبي علي في "الشرح" فيما إذا كان المشتري قد صبغ الثوب بصبغ من عنده، ورجع بائع الثوب فيه [وجهين] في كيفية الشركة في هذه الصورة:
أحدهما: أن يكون لصاحب الثوب ثلثا الثوب وثلثا الصبغ، ولصاحب الصبغ ثلث الصبغ وثلث الثوب؛ لأن مال كل واد منهما لا يتميز عن مال الآخر؛ فصار كما لو اشترى زيتاً فخلطه بمثله.
والثاني: أن جميع الثوب يكون لبائعه، وجميع الصبغ لصاحبه؛ كما لو اشترى أرضاً، وبنى فيها وغرس.
قلت: ويتجه جريانهما في مسألتنا؛ إذ لا فرق بينهما، والمشهور فيها: أن الثوب يباع، وتقسيم الثمن في مثالنا: الثلثان، والثلث.
وقد تظهر ثمرة الخلاف في كيفية الشركة، فيما لو أراد صاحب الثوب قلع الصبغ، أو المفلس والغرماء؛ فإن قلنا بالأول فلا يمكنوا، وإن قلنا بالثاني كان الحكم كما سنذكر في مسألة الأرض إذا غرست، وهو المنقول في "الرافعي"؛ حيث قال فيما إذا طلب صاحب الثوب قلع الصبغ: إنه كما لو طلب صاحب الأرض التي بنى فيها المفلس [وغرس، قلع البناء والغراس، وفيما إذا طلب المفلس] والغرماء قلع الصبغ: يغرمون نقصان الثوب.
[وعن الأصحاب]: أن القاضي ابن كج قال لهم ذلك.
ولا فرق فيما ذكرناه عن الأصحاب من الشركة بين أن يكون الصبغ يمكن فهي التمييز والاستخلاص أم لا.
وعن القاضي أبي حامد وجه: أنه ينزل منزلة القصارة والطحن إذا كان لا يمكن تمييزه واستخلاصه؛ حتى يكون تبعاً للثوب على أحد القولين.
قال: وإن زادت قيمتهما -أي: بسبب الاجتماع لا بسبب ارتفاع الأسواق - مثل أن صارت قيمة الثوب مصبوغاً عشرين - قال: رجع كل واحد منهما في ماله؛ لما ذكرناه، وتكون الزيادة للمشتري؛ لأنها حصلت بفعله.
وهذا من الشيخ جواب على ما جزم به أولاً من أن الصنعة كالعين؛ فيكون لبائع الثوب النصف من الثمن، ولبائع الصبغ ربعه، وللمفلس الربع، وعلى القول الذي اختاره المزني: أن الصنعة أثر؛ فتكون الخمسة الزيادة بين صاحب الصبغ وبين صاحب الثوب بالقسط، ولا شيء للمفلس.
وفي "النهاية" فيما إذا كان المفلس قد صبغ الثوب بما ليس يمتنع: أن الشيخ أبا على ذكر في "الشرح" أن بائع الثوب يفوز بالزيادة إذا قلنا: إن الصنعة أثر، ثم قال: وكنت أود أن نقص الصنعة على الثوب والصبغ.
وما ودَّهُ هو الذي أورده الشيخ أبو علي في "شرح الفروع"، وصاحب "التهذيب"، والأكثرون على نحو ما قلنا هنا.
وفي كتاب القاضي ابن كج نقل الوجهين معاً، كذا حكاه الرافعي، وقال بعده: إن ما ذكره في هذه المسألة يجري فيما إذا كان الصبغ مشترًى؛ فيجيء مع ما ذكرناه فيها وجه آخر: أن لبائع الثوب النصف والربع، ولبائع الصبغ الربع.
أما إذا كان سبب الزيادة ارتفاع الأسواق لا حصول الصنعة، نظر: إن كانت الزيادة في قيمة الثوب لا غير كانت بائعه، وإن كانت في قيمة الصبغ كانت لبائعه، وإن كانت فيهما وزعت عليهما بالنسبة، كذا صرح بمثله ابن الصباغ في مسائل الغصب، كما سنذكره إن شاء الله تعالى.
قال: وإن نقصت - أي: مثل أن صارت قيمة الثوب مصبوغاً اثني عشر، وسعر الثوب باقٍ على حاله - قال: حسب النقصان [على صاحب] الصبغ؛ لأن أجزاءه تتفرق وتنقص، والثوب موجود بحاله، ولأن الثوب لو كان قيمته مصبوغاً كما كانت قبل الصبغ، أو أنص، لا بسبب نقصٍ في قيمة الثوب - لم يكن لصاحب الصبغ فيه
حق؛ فأولى أن يحسب النقص عليه.
قال: ويرجع صاحب الثوب بمالَهُ؛ لأنه وجده، يكون له من ثمن ذلك عشرة، صاحب الصبغ بالخيار: إن شاء رجع فيه ناقصاً – أي: يعطي من الثمن درهمان، ولا شيء له غير ذلك، وإن شاء ضرب مع الغرماء – أي: بالثمن – كما لو نقص الصبغ من غير أن يصبغ به.
وقد وافق الشيخ في هذا الماوردي، وهو قول الشيخ أبي حامد، وفي "الشامل" و"المهذب" وغيرهما: أن لصاحب الصبغ إذا رجع فيه أن يضارب مع الغرماء بما نقص من قيمته. قال ابن الصباغ: لان النقصان تلف جزءٍ من الصبغ.
وفي "الجيلي" تأويل قول الشيخ: إن شاء رجع فيه ناقصاً – أي: ويضارب بقدر أرش النقص من الثمن؛ حملاً على ما قاله ابن الصباغ. وفي "المهذب": وإن أحداً من المصنفين لم يذكر أنه مع الرجوع في الصبغ لا يضارب بما نقص، وقد علمت ما حكيناه فيه.
قلت: والتحقيق في هذه المسألة أن يقال: إن كان النقصان بسبب نقصان صفة الصبغ لا غير، كما إذا كانت زنة الثوب خمسة أرطال، وزنة الصبغ رطلاً، وزنة الثوب مصبوغاً ستة – فلا يرجع بائع الصبغ إذا اختاره بغيره، كما قاله الشيخ؛ لما تقدم ان المبيع إذا نقص بفعل المشتري نقصان صفة كان كالنقص بالآفة السماوية عند العراقيين، وإن كان النقص بسبب نقصان جزء من الصبغ، وذهابه في الثوب – كما قال ابن الصباغ في التعليل: وكلام الشيخ في "المهذب" يوافقه – كان لبائع الصبغ الرجوع في الدرهمين، والمضاربة بما بقى [له] من الثمن، وهو ثلاثة في مثالنا، كما حكاه في "المهذب" و"الشامل"؛ لما تقرر أن نقصان الجزء لافرق فيه بين أن يكون بفعل أجنبي أو بآفة سماوية أو المشترى، لكن بشرط أن يكون الثمن الذي اشترى المفلس به الصبغ مساوياً لقيمته، ولو احتل أن يكون نقصان [الثمن؛ بسبب نقصان الصفة أونقصان] جزء، وبنينا الأمر على أنه نقصان جزء؛ فيضارب بائع الصبغ بعد الرجوع في الدرهمين بثلاثة دراهم؛ لأن جملة الثمن قبل الفسخ ثابتة في ذمة
المفلس، وعند الفسخ يسقط منه ما قابل الذي استرجعه البائع، ونحن نشك في أن الدراهم الثلاثة برئت منها ذمة المفلس أم لا؟ والأصل بقاؤها في الذمة، والله أعلم.
والحكم فيما لو كان المشتري قد صبغ الثوب بصبغ من عنده، ثم أفلس كالحكم فيما إذا كان قد اشتراه، وصبغ به، إلا أن في هذه الصورة لبائع الثوب أن يبذل ما يستحقه المفلس من الصبغ ليخلص له مصبوغاً، وفيه مَنْع صاحب "التتمة" الذي حكيناه في الفصل قبله، وصرح بأن له أن يقلع الصبغ، ويغرم للمفلس نقصان الصبغ، ولو كان الصبغ مبتاعاً من بائع الثوب، فالحكم كما ذكرناه عند الجمهور. وفي "الحاوي" في هذه الصورة: أن قيمة الثوب إذا كانت عشرة، وقيمة الصبغ عشرة، فصارت قيمتهما بعد الصبغ خمسة عشر – أن البائع بالخيار بين أن يرجع فيهما ولا شيء له، أو ضرب مع الغرماء بالعشرين؛ لأن العمل قد ضاع، وصار مستهلكاً، وقد نقص الثوب والصبغ نقصاناً لا يتميز. ولا يخفى عليك ما فيه من النظر.
فرع: لو كان المبيع أرضاً، وقد بنى فيها المشتري وغرس، ثم أفلس، وحجر
عليه، والبناء والغاس قائم في الأرض [-نُظِر:] إن توافق الغرماء والمفلس على قلع ذلك فهو لهم، ولبائع الأرض أن يرجع فيها بيضاء، فإن قلع بعد رجوعه، ونقصت الأرض بالقلع: فإن أمكن إزالة النقص بتسوية الأرض كان عليهم ذلك، وإن لم يمكن به فعليهم غرم ما نقصت به الأرض، ويقدم بذلك على الغرماء، كما صرح به الماوردي، والشيخ في "المهذب"، وصاحب "التهذيب"، وغيرهم.
وفي "الرافعي" أن الشيخ أبا حامد ذكر أنه يضارب بها مع الغرماء.
قلت: والظاهر أن ما ذكره أبو حامد في الحالة الثالثة لهذه؛ فإن راويَيْه: البندنيجي والمحاملي قد قالا في هذه الصورة مثل ما حكيته عن الماوردي وغيره.
وإن قلع قبل رجوه فهل على المشتري غرم نقص الأرض؟ فيه وجهان في "الحاوي"، فإن رجع به ضارب به الغرماء، وليس لبائع الأرض في الحالة الأولى أن يجبرهم على أخذ قيمة البناء والغراس ليتملكها.
ولو رضي المفلس بالقلع، وقال الغرماء: نأخذ القيمة من البائع ليتملك البناء والغراس، أو كان الأمر بالعكس، أو وقع هذا الاختلاف بين الغرماء – قال ابن كج: يجاب من في قوله المصلحة.
وإن امتنع الغرماء والمفلس من القلع، فإن بذل بائع الأرض قيمتهما قائمين كان له الرجوع في أرضه، ويجبر المفلس والغرماء على أخذ قيمة ذلك أو قلعه مجاناً، كما صرح به الماوردي، وإن كان لفظ الرافعي يوهم تعين أخذ القيمة.
وفي "تعليق" القاضي الحسين أن من أصحابنا من قال: لا يقلع ذلك مجاناً بال، بخلاف بناء المستعير وغراسه.
ولو لم يبذل بائع الأرض قيمة البناء والغراس، ولكن ألزم أرش نصهما إذا قلعا – كان له الرجوع في الأرض، وإجبارهما على القلع، قال القاضي الحسين في
تعليقه: بلا خلاف.
ولو لم يبذل البائع قيمة البناء والغراس، ولا ألزم أرش نقصهما فهل له الرجوع في أرضه؟ فيه طريقان:
إحداهما – وهي طريقة المزني، وابن سريج وأبي إسحاق – حكاية قولين [فيه]:
أحدهما – وهو اختيار المزني -: أن له ذلك ما في مسألة الصبغ.
والثاني – وهو الأصح -: لا، ويضرب البائع مع الغرماء بالثمن؛ لما في ذلك من الإضرار بالمفلس، وضرره من وجهين:
أحدهما: زوال منفعة البناء بزوال الانتفاع بالأرض، وفي الأشجار عدم إمكان الاستطراق إليها، وبهذا فارق مسألة الصبغ؛ فإنه لا ضرر على مالك الصبغ بالرجوع في الثوب.
والثاني: نقصان قيمة ذلك بسبب تسلط الغير على نقصه، وقد قاس ابن الصباغ هذا القول [على] ما إذا باعه مسامير فسمَّوها في خشبة.
والطريقة الثانية: [حمل] ما نقل عن الشافعي من القولين على حالين، وقد اختلف الأصحاب في الحالين على أربعة أوجه:
[أحدها] – وهو ما حكاه الماوردي – رحمه الله – مع طريقة القولين لا غير، وأن أبا الفياض البصري وأكثر البصريين ذهبوا إليه -: أن القول الأول محمول على ما إذا كان البناء والغراس يسيراً، وأكثر منافع الأرض [إذا استُرْجِعَتْ باقياً، والقول الثاني محمول على ما إذا كان البناء والغراس كثيراً، وأكثر منافع الأرض] مشغولاً؛ لفوات المقصود منها؛ فتصير مستهلكة.
والوجه الثاني – وهو ما حكاه ابن الصباغ مع طريقة القولين لا غير -: أن القول الأول محمول على ما إذا كانت قيمة الأرض أكثر وقيمة الغراس والبناء قليلة، والقول الثاني: محمول على ما إذا كانت قيمة الأرض قليلة. وهذه عبارة البندنيجي
والمحاملي وغيرهما، وبينها وبين عبارة الماوردي فرق يظهر لك في باب المزارعة، إن شاء الله تعالى.
والوجه الثالث – وهو ما حكاه القاضي الحسين مع طريقة القولين لا غير -: أن القول الأول محمول على ما إذا رجع في البياض المتخلل بين الأبنية والأشجار، ورضي بمضاربة الغرماء بقسط الباقي من الثمن.
والقول الثاني محمول على ما إذا أراد أن يرجع في جميع الأرض وما تحت الأشجار، والأبنية، وغيره.
والوجه الرابع – وهو محكي في "الاستقصاء" بدلاً من الوجه الذي قبله -: أن القول الأول محمول على ما إذا رجع في الأرض وحدها: لأنها عين ماله، والقول الثاني محمول على ما إذا أراد أن يرجع بالأرض مع الغراس والبناء؛ لأن ذلك عين مال المشتري أودعها في الأرض، لا أنه نماء للمبيع؛ فلا يملك الرجوع في الأرض معه.
والصحيح من الطريقين في "التتمة" وغيرها: الأولى، قال القاضي أبو الطيب: لأن ما اعتبر أن تكون قيمة الأرض أقل من قيمة البناء في سقوط الرجوع يلزمه أن يقول: إذا بذل البائع قيمة الغراس والبناء لا يكون له الرجوع في الأرض؛ لأنها تبع للبناء والغراس؛ لأن قيمتهما قليلة معه.
التفريع:
حيث قلنا: لا رجوع له في الأرض، ضارب بالثمن مع الغرماء. صرح به القاضي الحسين، وفي "مجموع" المحاملي و"تعليق" البندنيجي و"الرافعي": أن له مضاربة الغرماء بالثمن، [أو يعود] إلى بذل قيمة الغراس والبناء، أو أرش نقصانهما بعد القلع.
وحيث قلنا: الرجوع له، فرجع قال المحاملي: كان له الخيارات الثلاثة؛ كما نقول في المعير والشفيع.
وقال القاضي الحسين: إنه الظاهر. ثم قال: فإن اختار أحدها، وامتنعوا قلع مجاناً.
وحكى عن بعض أصحابنا ما حكيته من قبل. ولو أراد البائع والمفلس والغرماء بيع الأرض وما فيها من الغراس والبناء، بيعت، ودفع لبائع الأرض ما قابل ثمنها، وإلى الغرماء ما قابل ثمن البناء والغراس، لكن هل يدفع إلى البائع ما قابل ثمن الأرض بيضاء، أو ما قابل ثمنها وهي ذات بناء وغراس؟
فيه وجهان حكاهما ابن أبي هريرة، أصحهما في "الحاوي"، وبه جزم البندنيجي: الثاني؛ كما أن النقص في الثوب المصبوغ يحسب على صاحب الصبغ، فيقال على هذا: كم قيمة الأرض [مع البناء والغراس؟ فإذا قيل مائة، قيل: وكم [قيمة] الأرض] ذات بناء وغراس دونهما، فإذا قيل: تسعون، وجب لبائع الأرض تسعة أعشار الثمن، وفي "الرافعي" وغيره إحالة كيفية التقسيط على ما هو مذكور في كتاب الرهن.
ولو امتنع البائع من بيع الأرض مع البناء والغراس، فهل يجبر عليه.
المنصوص – وهو [الأصح في "الحاوي" وغيره -: لا.
وحكى ابن سريج قولاً آخر: أنه يجبر كما يجبر على بيع الجارية مع ولدها وعلى] بيع الثوب مع صبغه، والقائلون بالأول فرقوا بأن البناء والشجر يمكن إفراده بالبيع دون ما قيس عليه، وحكى المحاملي في "المجموع" مع القولين أن من أصحابنا من قال: إن الأرض والبناء والغراس تؤاجر وتدفع إلى البائع أجرة الأرض، ويكون للمفلس أجرة البناء والغراس تصرف على الغرماء. ثم قال: وهذا لا يصح في الغراس؛ لأنه لا أجرة له.
هذا ما أورده الجمهور في الفرع المذكور، وفي "النهاية" ما يجتمع منه أربعة أقوال فيه:
أحدها: أن بائع الأرض فاقد عين ماله؛ فلا يرجع بحال.
والثاني: أن الأرض والبناء والغراس يباعان معاً كما يفعل في الثوب المصبوغ.
والثالث: أنه يرجع في الأرض، ويتخير بين ثلاثة أشياء، كما في حق المستعير، وإذا عين خصلة من الثلاثة، فاختار المختارَ المفلسُ، والغرماء غيرها، أو امتنعوا من الكل – فوجهان في أنه يرجع في الأرض ويقلعهما مجاناً، أو يجبرون على ما عينه.
والرابع – حكاه عن العراقيين –أنه إن كانت قيمة الأرض أكثر فهو واجد، وإن كانت قيمة البناء أكثر فهو فاقد، وأن الحكم فيما لو وهب لولده أرضاً، فبنى فيها الولد وغرس، ورام الوالد الرجوع فيها – كالحكم في الأرض المبيعة؛ فتجري فيها الأقوال.
قال الرافعي: وأنت إذا تأملت هذا الكلام بعد وقوفك على المذهب المعتم، وتصفحك عن كتب علمائنا، ورأيت ما بينهما من المخالفة الصريحة – قضيت العجب منه، وقلت: ليت شعري من أين أخذت هذه الأقوال؟!
فرع: لو كان الغراس أيضاً مبتاعاً من آخر، فلكل واحد من البائعين الرجوع فيما باعه، ولبائع الغراس قلعه، ويغرم ما نقص من الأرض بسببه، فإن امتنع من قلعه، وبذل له صاحب الأرض قيمته [قائماً لم يكن لصاحب الغراس إبقاؤه، وقيل له: أنت مخير بني قلع غراسك أو أخذ قيمته]. ولو امتنع صاحب الأرض من بذل قيمة الغراس وطلب القلع: فإن التزم [أرش نقص] الغراس بالقلع أجيب، وإن امتنع من التزام الأرش، وامتنع صاحب الغراس من قلعه: فهل [يجبر على] القلع؟ فيه وجهان: أحدهما:
لا؛ كالمفلس، وهذا هو الأصح في "حلية" الشاشي.
والثاني: نعم، والفرق: أنه باع الغراس مقلوعاً، [فإذا أخذه مقلوعاً] لم يلحقه ضرر، بخلاف المفلس؛ فإنه قد استقر ملكه على غراس نامٍ، وقلعه يزيل النماء؛ فيلحقه به الضرر.
فرع: لو زرع المشتري الأرض المبيعة، ثم أفلس واختار البائع الرجوع في الأرض جاز؛ لأنه وجد المبيع مشغولاً بما ينقل؛ فلم يمتنع عليه الرجوع؛ كما لو وجد بائع الدار الدارَ مشغولة بأمتعة.
وإذا رجع فيها: فإن كان الزرع قد استحصد وجب نقله، وإلا فيبقى إلى أوان الحصاد بغير أجرة، فإن طلب المفلس القطع في الحال، وامتنع الغرماء منه أو العكس – قدم من طلب القطع.
وقال أبو إسحاق: يقدم من طلب الأحظ من الأمرين:
قال: وإن كان للمفلس دين وله به شاهد – أي: وقد أدى بإذن المفلس، ولم يحلف فهل يحلف الغرماء؟ فيه قولان:
هذه المسألة اختلف أئمة المذهب في نقل القولين فيها:
فالقاضي أبو الطيب والماوردي حكياهما عن القديم والجديد، وكذلك ابن الصباغ حكاه عن الشرح:
أحدهما- وهو الذي قاله في القديم -: أنهم يحلفون؛ لأن المال إذا ثبت استحقوه؛ فكان لهم الحلف على إثباته كالورثة، ولأن الوكيل إذا اختلف مع البائع في قدر الثمن حلف، وق الغرماء في مال المفلس أثبت من حق الوكيل [في مال الموكِّل، وإذ قد حلف الوكيل] فالغرماء أولى.
والثاني – وهو الجديد والصحيح – أنهم لا يحلفون؛ لأنهم يحلفون لإثبات المال لغيرهم فلا يجوز؛ كما لا يجوز للزوجة أن تحلف لإثبات مال زوجها، وإن كان إذا ثبت تعلقت به نفقتها، وكذلك المستأجر والمرتهن إذا غصبت العين منه، وأراد أن يحلف على إثبات غصبها، ويخالف الورثة؛ فإنهم يثبتون الملك لأنفسهم، والوكيل إن سلم الحكم إليه، فإنه يثبت بيمينه فعل نفسه الذي باشره، ولا يثبت حقًّا لغيره، يدل على ذلك أن الموكل لا يجوز له أن يحلف على ذلك، بخلاف المفلس، والشيخ أبو حامد وراوياه المحاملي والبندنيجي، والإمام والقاضي الحسين نقلوا قول المنع منصوصاً عليه هاهنا، وأنه نص فيما إذا مات من عليه دين وله دين، وامتنع وارثه من
الحلف لإثباته – على قولين في القديم، وأن من الأصحاب من خرج من غرماء الميت قولاً إلى غرماء المفلس، وجعل في حلفهم قولين، ومنهم من أجرى النصين على ظاهرهما، وفرق بفرقين:
أحدهما: أن الحق للمفلس؛ فامتناعه عن اليمين يورث ريبة ظاهرة، وفي غرماء الميت الحق كان للميت، وإنما حلف الورثة بناء على معرفتهم بشأن الميت، وقد يكون الغرماء أعرف به.
والثاني: أن غرماء الميت أيسوا من حلفه؛ [فمكنوا من اليمين كي لا يضيع الحق، وغرماء المفلس غير آيسين من حلفه]، وهذه الطريقة أصح عند الإمام.
وقال ابن الصباغ حكاية عن الشيخ أبي حامد، قال: والمذهب أنها على قولين، والطريقان يجريان يما لو كان المدعى عيناً، وفيما لو لم يكن للمفلس [شاهد ولكنه ادعى، ونكل المدعى عليه عن اليمين، وامتنع المفلس من الحلف.
أما إذا لم يدع المفلس] بالحق، وكذا الوارث فليس للغرماء أن يدعوا، وإذا انتفت الدعوى انتفى طلب استحلاف الخصم وإقامة البينة عليه، وفي "الإشراف" حكاية وجه: أن لهم أن يدعوا ويطلبوا يمين الخصم ويقيموا البينة، وهذا ما حكاه الإمام عن شيخه.
وقال القاضي حسين في كتاب القسامة: إنه يؤخذ من قول الشافعي: ولو لم يقسم الورثة لم يكن لهم ولا هلا إلا أيمان المدعى عليهم. والضمير في "لهم" يعود إلى غرماء الميت، وفي "لها" يعود على أم الولد إذا أوصى لها سيدها بقيمة عبد فقتل، واللَّوثْ موجود.
فرعان:
على قولنا: إن الغرماء يحلفون:
[أحدهما:] لو حلف بعضهم دون البعض استحق الحالفون بالقسط؛ كما لو حلف بعض الورثة على دينٍ لمورثهم. صرح به الماوردي، وابن كج.
الثاني: لو حلفوا، ثم أبرءوا عن ديونهم، فالمحلوف عليه يكون لهم ويلغو الإبراء، أو يكون للمفلس، أو يبقى على المدعي [عليه]، ولا يستوفي أصلاً؟ فيه ثلاثة أوجه، صرح بها ابن كج، والثالث منها هو المذكرو في "زوائد العمراني" في كتاب الشهادات في غرماء الميت.
واعلم أن ما ذكرناه من الأحكام في رجوع البائع في المبيع يجري في رجوع المستأجر شخصاً على عمل في الذمة، إذا كانت الأجرة باقية، وكذا الأجير عند فلس المستأجر بالأجرة قبل انقضاء مدة الإجارة على الأصح، وله بعد الرجوع في المبيع إذا كان أرضاً – وهي مشغولة بزرع المفلس – أجر مثل ما بقي من المدة مقدماً به إن رضي الغرماء بذلك، وإلا فله قلعه مجاناً، وليس له القلع مع الرضا، [وكذا للمسلم عند فلس المسلم إليه وبقاء رأس المال: الفسخ والرجوع إلى رأس المال، وكذا عند تلفه عند أبي إسحاق والصيدلاني وابن سريج، ولكنه يضارب برأس المال، وينزل ذلك منزلة انقطاع المسلم فيه.
[وعلى هذا: فهل يجيء قولٌ بانفساخ المسلم فيه؟ فيه وجهان:]
والأصح خلاف ما قاله أبو إسحاق وغيره؛ بل يتعين حقه في المضاربة: فإن كان ما يخصه من الموجود من جنس حقه سلم إليه، وإلا اشتري لهن ودفع إليه.
وهذا إذا لم يكن المسلم] فيه منقطعاً، أما إذا كان فعلى وجهٍ: ليس للمسلم الفسخ أيضاً؛ لأنه لابد من المضاربة فَسَخَ أو لم يفسخ بالإفلاس، والإفلاس إنما يفسخ به حيث يتخلص عن المضاربة، والأصح: أن له الفسخ.
وفائدته تسليم ما يحصل له من رأس المال إليه، بخلاف ما إذا ضارب بقيمة المسلم فيه؛ فإنه يحفظ له حتى يشتري له به من جنس حقه.
وحكم غرماء الميت إذا مات مفلساً حكم غرماء المفلس بعد الحجر، لكنا ذكرنا في جواز الحجر عليه إذا كانت أمواله تساوي ديونه وجهين خشية من تبذيره، وهاهنا هذا المعنى مفقود، مع أن الورثة ممنوعون من التصرف في التركة [حتى يوفى
الدين]؛ فيكون حكمه في هذه الحالة حكم الموسرين فلا يتمكن من باع منه عيناً، ولم يقبض ثمنها وهي باقية أن يرجع فيها.
وقد ذهب الإصطخري إلى أنه إذا مات موسراً أن للبائع أن يرجع في عين ماله؛ تمسكاً بظاهر الخبر، وقوله يجري هنا.
ولو قال الوارث للبائع – في الصورة التي يجوز له الرجوع في المبيع -: أنا أعطيك الثمن من مالي، فهل يمتنع عليه بذلك الرجوع؟ يه وجهان، أصحهما – وبه جزم أكثرهم -: أنه لا يمتنع، والله أعلم.