الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بنفسه عند درها .. ولا يتجاوزه الى ما ليس له .. لا يتعدى دوره .. هذا هو الذي عرف نفسه .. فتيقن أنه لله ومن الله وبالله .. فالله هو المانّ به ابتداء وإدامة .. بلا سبب من العبد ولا استحقاق منه.
قال تعالى: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} [الطور: 35].
{ما أشهدتم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا} [الكهف: 51]
{هل أتى على الانسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا* إنّا خلقنا الانسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سكيعا بصيرا} [الانسان: 1 - 2].
إنك لم تكن شيئا .. من نطفة أوجدك .. بدون استحقاق منك .. بل محض كرم وجود منه سبحانه وتعالى.
انتبه
..
إذا علم العبد هذا وتيقنه .. فعلم أن الله هو المان به ابتداءا وإدامة .. بلا استحقاق من العبد .. وبلا سبب منه .. حينذاك تذله نعم الله عليه .. فعندئذ يرى أن الفضل كله لله .. وأنه من عليه دون أن يستحق أي نعمة .. فيذل لله .. وكلما زاده الله نعمة .. ازداد بها ذلا .. حتى يصير أذل الناس لله .. وهذه أعلى درجة من درجات العبودية .. فتذله نعم الله عليه .. وتكسره .. كسرة من لا يرى لنفسه ولا فيها ولا منها خيرا البتة .. فلا يرى فيها خيرا أبدا .. وأن الخير الذي وصل اليه فهو لله وبالله ومن الله.
وهذه نتيجة علمين شريفين .. علمه بربه .. وعلمه بنفسه ..
علمه بربه .. وبره وغناه .. وجوده وإحسانه ورحمته .. وأن الخير كله في يديه .. وهو في ملكه يؤتي منه من يشاء ما يشاء .. ويمنع منه من يشاء ما يشاء.
ثم علمه بنفسه .. ووقوفه على حدها .. وقدرها .. ونقصها وظلمها .. فالعبد دائم التذكر لهذين الأمرين .. لا ينسب لنفسه فضلا قط .. إذا قرأ القرآن فمن الله .. إذا صام النهار فمحض فضل من الله .. يعني توفيق وإعانة وقبول .. إذا قام الليل فبتوفيق الله .. وانظر لعله هناك من هو أعقل منك ولم يهده الله فلم يهتد ..
فاحمد الله .. قال تعالى: {من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا} [الكهف: 17].
يقول ابن القيّم:
فإذا صار هذان العلمان .. ألا وهما: معرفة نفسك ومعرفة ربك صبغة لها لا صبغة على لسانها.
فكثير منا يقول بلسانه: والله أنا مقصر .. مذنب .. عاص .. ادع الله أن يهديني .. أنا أريد أن أتعلم .. أريد أن أقوم الليل .. هذه صبغة اللسان .. أما صبغة القلب فعلمه بنفسه وعلمه بربه .. فإذا صار هذان العلمان صبغة لها لا صبغة على لسانها .. علمت حينذاك أن الحمد كله لله .. والأمر كله لله .. والخير كله لله .. وأنه هو المستحق للحمد والثناء دونها ـ أي دون نفسه ـ وأن نفسه هي أولى بالذم والعيب اللوم .. ومن فاته التحقق بهذين العلمين تلونت به أقواله وأعماله .. فإيصال العبد الى الله بتحقيق هاتين المعرفتين علما
وعملا .. وانقطاع العبد عن الله بفوات هذين العلمين علما وعملا .. وهذا معنى قولهم: من عرف نفسه عرف ربه .. فمن عرف نفسه بالجهل عرف الله بالعلم .. ومن عرف نفسه بالظلم عرف الله بالعدل .. ومن عرف نفسه بالعيب عرف ربه بالعز والجمال والكمال .. ومن عرف نفسه بالنقص عرف ربه بالعطاء والكمال .. ومن عرف نفسه بالذل عرف ربه بالعز .. ومن عرف نفسه بالحاجة عرف ربه بالغنى .. ومن عرف نفسه بالمسكنة عرف ربه بالقوة والملك .. ومن عرف نفسه بالعدم عرف ربه بالجبروت.
وهكذا تعرف نفسك وتعرف ربك .. فإذا عرف نفسه وعرف ربه كان الله أحب شيئ اليه .. وأخوف شيء عنده .. وأرجاه له .. وهذه هي حقيقة الايمان العبودية.
يقول ابن الجوزي:
"والله لقد بكيت الليلة مما جنيته على نفسي بيد مفسي" نعوذ بالله من أنفسنا .. واها لك يا نفس .. النفس وما أدراك ما النفس .. أمّارة بالسوء .. ظلومة جهولة .. الإنسان وهذه نفسه .. إذا مسّه الشر جزوعا .. وإذا مسّه الخير منوعا.
الإنسان .. {وكان الانسان عجولا} [الاسراء:11]{وكان الانسان قتورا} [الاسراء:10]{وكان الانسان أكثر شيء جدلا} [الكهف 54] هذه نفسك .. جهول .. قتور .. حين ترى نفسك هكذا لا تعينك على عمل صالح
أبدا .. تميل الى البطالة والكسل .. تميل مع الهوى وطول الأمل .. ترجو من الدنيا وتنسى الآخرة .. هذه نفوسنا والله .. إذا عملنا بعد أن جاهدنا تستأثر نفوسنا بأعمالنا .. فنعملها رياء وسمعة .. نعوذ بك اللهم من شرور أنفسنا .. فإذا عرفت نفسك أنها الحاملة على كل ذنب .. وأنها الدافعة الى كل معصية .. وأنها المانع في كل خير وعطية .. استعذت بالله من شرها .. وعرفت أن الخير بيد الله .. يؤتيه من يشاء .. وهو العزيز الحكيم ..
نفسك إذا عرفتها. عرفت نفسك وعرفت الله .. عظمت المخالفة عندك .. نفسك انفرد بها لتوبخها.
يقول ابن القيّم:
واأسفاه من حياة على غرور .. وموت على غفلة .. ومنقلب الى حسرة .. ووقوف يوم الحساب بلا حجة .. واأسفاه .. واحسرتاه ..
ثالثا: تصديق الوعيد:
اخي التائب ..
مثل نفسك في زاوية من زوايا جهنّم ـ اللهم قنا عذاب جهنم وأنت تبكي أبدا .. أبوابها مغلقة .. وسقوفها مطبقة .. وهي سوداء مظلمة .. لا رفيق يستأنس به .. ولا صديق تشكو اليه .. لا نوم يريح .. ولا نفس .. ولا موت يقضي على العذاب ..
قال كعب: والله إن أهل النار يأكلون أيديهم الى المناكب من الندامة.
قال الله تعالى: {ويوم يعضّ الظالم على يديه} [الفرقان: 27] يعني من الندامة على تفريطهم وما يشعرون بذلك.
يا مطرودا عن الباب .. يا مضروبا بسوط الحجاب .. لو وفيت بعهودنا ما رميناك بصدودنا. لو كاتبتنا بدموع الأسف لعفونا لك عن كل ما سلف ..
انظر الى وعيد ربك .. توعد الله أعظم الوعيد لمن رضي بالحياة واطمأن بها .. وغفل عن آياته .. ولم يرج لقاءه.
فقال الله جل جلاله: {إنّ الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون* أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون} {يونس: 7 - 8].
وفي اليقين من الوعيد:
يقول ابن القيّم:
"ومدار السعادة وقطب رحاها على التصديق بالوعيد
…
فإذا تعطل من قلبه التصديق بالوعيد خرب خرابا لا يرجى معه فلاح البتة"
اليقين إذا عمر به القلب وامتلأ به .. استنار القلب فيرى ويبصر وبذلك يعيش .. إن أشد ما يعانيه أهل عصرنا عمى القلب .. ـ إي والله ـ .. إن أدنا إذا ضعف بصره شيئا .. حزن حزنا شديدا .. ويهرع لمن يصنع له نظارة .. تكمل ما افتقد
من بصره .. وأكثرنا إلا من رحم الله فقد عمي قلبه .. وهو لا يعلم .. فلا يعمل على أني يعيد بصيرة قلبه .. اللهم ارزقنا بصيرة في قلوبنا يا رب.
المقصود أيها الاخوة .. أن معنى التصديق بالوعيد حصول اليقين أن يصير هناك يقين في القلب .. فإذا خلا القلب من التصديق بالوعيد .. خرب خرابا لا يرجى معه فلاح البتة.
إن الآيات والنذر تنفع من صدق بالوعيد وخاف عذاب الآخرة .. هؤلاء هم المصدقون بالإنذار المنتفعون بالآيات دون من عداهم.
قال تعالى: {إنّ في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة} [هود: 103].
وقال تعالى: {إنما أنت منذر من يخشاها} [النازعات: 45].
وقال تعالى: {فذكر بالقرآن من يخاف وعيد} [ق: 45].
فأخبر سبحانه أن أهل النجاة في الدنيا والآخرة. هم المصدقون بالوعيد .. الخائفون .. كما أنهم الممكنون في الأرض.
قال تعالى: {ولنسكننّكم الأرض من بعدهم، ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد} [إبراهيم 14].
فإن الله تعالى تهدد وتوعد {ليس بأمانيّكم ولا أمانيّ أهل الكتاب، من يعمل سوءا يجزى به لا يجد له من دون الله وليّا ولا نصيرا} [النساء: 123] وإنّ هذه الثلاثة تثمر الندم على ما فات.