الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وخف من هول يوم قمطرير
…
تخوف شره ضنك عبوس
فمالك غير تقوى الله زاد
…
وفعلك حين تقبر من أنيس
فحسنه ليعرض مستقيما
…
ففي الإثنين يعرض والخميس
المجلس الثالث في ذكر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم
في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر فقال: "إن عبدا خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده" فاختار ما عنده فبكى أبو بكر وقال: يا رسول الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا قال: فعجبنا وقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عند الله وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير وكان أبو بكر هو أعلمنا به فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن من آمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر ولو اتخذت من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن إخوة الإسلام لا تبقى في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر رضي الله عنه" الموت مكتوب على كل حي الأنبياء والرسل وغيرهم قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] وقال: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الانبياء: 34، 35] وقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144] .
خلق الله تعالى آدم من تراب الأرض ونفخ فيه من روحه فكانت روحه في جسده وأرواح ذريته في أجسادهم في هذه الدار عارية وقضى عليه وعلى ذريته أنه لا بد من أن يسترد أرواحهم من هذه الأجساد ويعيد أجسادهم إلى ما خلقت منه وهو التراب ووعد أن يعيد الأجساد من الأرض مرة ثانية ثم يرد إليها الأرواح مرة ثانية تمليكا دائما لا رجعة فيه في دار البقاء قال الله تعالى: {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} [الأعراف:25] وقال: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا
نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه:55] وقال: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً*ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً} [نوح: 17، 18] وأرانا دليلا في هذه الدار على إعادة الأجساد من التراب بإنبات الزرع من الأرض وإحياء الأرض بعد موتها بالمطر ودليلا على إعادة الأرواح إلى أجسادها بعد المفارقة بقبض أرواح العباد في منامهم وردها إليهم في يقظتهم كما قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزمر:42] .
وفي مسند البزار عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم لما ناموا عن الصلاة: "إن هذه الأرواح عارية في أجساد العباد فيقبضها إذا شاء ويرسلها إذا شاء".
استعدي للموت يا نفس واسعي
…
للنجاة فالحازم المستعد
قد تيقنت أنه ليس للحي
…
خلود ولا من الموت بد
إنما أنت مستعيرة ما سوف
…
تردين والعواري ترد
* * *
فما أهل الحياة لنا بأهل
…
ولا دار الحياة لنا بدار
وما أموالنا والأهل فيها
…
ولا أولادنا إلا عواري
وأنفسنا إلى أجل قريب
…
سيأخذها المعير من المعار
مفارقة الجسد للروح لا تقع إلا بعد ألم عظيم تذوقه الروح والجسد جميعا فإن الروح قد تعلقت بهذا الجسد وألفته واشتدت إلفتها له وامتزاجها به ودخولها فيه حتى صارا كالشيء الواحد فلا يتفارقان إلا بجهد شديد وألم عظيم ولم يذق ابن آدم حياته ألما مثله وإلى ذلك الإشارة بقول الله عز وجل: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185] قال الربيع بن خثيم أكثروا ذكر هذا الموت فإنكم لم تذوقوا قبله مثله.
ويتزايد الألم بمعرفة المحتضر فإن جسده إذا فارقته الروح صار جيفة مستقذرة يأكله الهوام ويبليه التراب حتى يعود ترابا وإن الروح المارقة له لا تدري أين مستقرها هل هو في الجنة أو في النار فإن كان عاصيا مصرا على المعصية إلى الموت فربما غلب على ظنه أن روحه تصير إلى النار فتتضاعف بذلك حسرته وألمه وربما كشفت له مع ذلك عن مقعده من النار فرآه أو يبشر بذلك فيجتمع له مع كرب الموت وألمه العظيم معرفته بسوء مصيره وهذا المراد بقول الله عز وجل:
{وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة:29] على ما فسر به كثير من السلف فيجتمع عليه سكرة الموت مع حسرة الفوت فلا يسأل عن سوء حاله وقد سمى الله تعالى ذلك سكرة لأن ألم الموت مع ما ينضم إليه يسكر صاحبه فيغيب عقله غالبا قال الله تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [قّ: 19] .
ألا الموت كأس أي كأس
…
وأنت لكأسه لا بد حاسي
إلى كم والممات إلى قريب
…
تذكر بالممات وأنت ناسي
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكثرة ذكر الموت فقال: "أكثروا ذكر هادم اللذات الموت" وفي حديث مرسل أنه صلى الله عليه وسلم مر بمجلس قد استعلاه الضحك فقال "شوبوا مجلسكم بذكر مكدر اللذات الموت" وفي الإكثار من ذكر الموت فوائد منها: أنه يحث على الإستعداد له قبل نزوله ويقصر الأمل ويرضى بالقليل من الرزق ويزهد في الدنيا ويرغب في الآخرة ويهون مصائب الدنيا ويمنع من الأشر والبطر والتوسع في لذات الدنيا وفي حديث أبي ذر المرفوع الذي خرجه ابن حبان في صحيحه وغيره: " أن صحف موسى كانت عبرا كلها عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح عجبت لمن أيقن بالنار كيف يضحك عجبت لمن أيقن بالقدر كيف ينصب عجبت لمن رأى الدنيا وسرعة تقبلها كيف يطمئن إليها".
وقد رزي أن الكنز الذي كان للغلامين كان لوحا من ذهب مكتوب فيه هذا أيضا قال الحسن: إن هذا الموت قد أفسد على أهل النعيم نعيمهم فالتمسوا عيشا لا موت فيه وقال: فضح الموت الدنيا فلم يدع لذي لب بها فرحا وقال غيره: ذهب الموت بلذاذة كل عيش وسرور كل نعيم ثم بكى وقال: واها لدار لا موت فيها.
اذكر الموت هادم اللذات
…
وتهيأ لمصرع سوف يأتي
غيره:
"يا غافل القلب عن ذكر المنيات
…
عما قليل ستلقى بين أموات
فاذكر محلك من قبل الحلول به
…
وتب إلى الله من لهو ولذات
إن الحمام له وقت إلى أجل
…
فاذكر مصائب أيام وساعات
لا تطمئن إلى الدنيا وزينتها
…
قد آن للموت يا ذا اللب أن يأتي
قال بعض السلف: شيئان قطعا عني لذاذة الدنيا: ذكر الموت والوقوف بين يدي الله عز وجل.
كيف يلذ العيش من كان موقنا
…
بأن المنايا بغتة ستعاجله
وكيف يلذ العيش من كان موقنا
…
بأن إله الخلق لا بد سائله
قال أبو الدرداء: كفى بالموت واعظا وكفى بالدهر مفرقا اليوم في الدور وغدا في القبور.
اذكر الموت وداوم ذكره
…
إن في الموت لذي اللب عبر
وكفى بالموت فاعلم واعظا
…
لمن الموت عليه قد قدر
غفلة الإنسان عن الموت مع أنه لا بد له منه من العجب والموجب له طول الأمل.
كلنا في غفلة والمـ
…
ـوت يغدو ويروح
لبنى الدنيا من المـ
…
ـوت غبوق وصبوح
سيصير المرء يوما
…
جسدا ما فيه روح
بين عيني كل حي
…
علم الموت يلوح
نح على نفسك يا مسكـ
…
ـين إن كنت تنوح
لتموتن ولو عمـ
…
ـرت ما عمر نوح
لما كان الموت مكروها بالطبع لما فيه من الشدة والمشقة العظيمة لم يمت نبي من الأنبياء حتى يخير ولذلك وقع التردد فيه في حق المؤمن كما في حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "يقول الله عز وجل: وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه" كما رواه البخاري.
قال ابن أبي المليكة: "لما قبض إبراهيم عليه السلام قال الله عز وجل له: كيف وجدت الموت؟ قال: يا رب كأن نفسي تنزع بالبلى فقال: هذا وقد هونا عليك الموت" وقال أبو إسحاق: قيل لموسى عليه السلام: كيف وجدت طعم الموت قال: وجدته كسفود أدخل في صوف فاجتذب قال: هذا وقد هونا عليك الموت ويروى أن عيسى عليه السلام كان إذا ذكر الموت يقطر جلده دما وكان يقول للحواريين: ادعوا الله أن يخفف عني الموت فلقد خفت الموت خوفا أوقفني مخافة الموت على الموت.
كيف يطمع في البقاء وما من الأنبياء إلا من مات أم كيف يؤمن هجوم المنايا ولم يسلم الأصفياء والأحباء هيهات هيهات.
قد مات كل نبي
…
ومات كل بنيه
ومات كل شريف
…
وعاقل وسيفه
لا يوحشنك طريق
…
كل الخلائق فيه
أول ما أعلم النبي صلى الله عليه وسلم من انقضاء عمره باقتراب أجله بنزول سورة: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] وقيل لابن عباس رضي الله عنهما: هل كان يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم متى يموت؟ قال: نعم قيل: ومن أين؟ قال: إن الله تعالى جعل علامة موته هذه السورة: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] يعني فتح مكة {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً} [النصر:2] ذلك علامة موته وقد كان نعى نفسه إلى فاطمة عليها السلام فإن المراد من هذه السورة: أنك يا محمد إذا فتح الله عليك البلاد ودخل الناس في دينك الذي دعوتهم إليه أفواجا فقد اقترب أجلك فتهيأ للقائنا بالتحميد والإستغفار فإنه قد حصل منك مقصود ما أمرت به من أداء الرسالة والتبليغ وما عندنا خير لك من الدنيا فاستعد للنقلة إلينا قال ابن عباس: لما نزلت هذه السورة نعيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه فأخذ في أشد ما كان اجتهادا في أمر الآخرة وروي في حديث: "إنه تعبد حتى صار كالشن البالي" وكان يعرض القرآن كل عام على جبريل مرة فعرضه ذلك العام مرتين وكان يعتكف العشر الأواخر من رمضان كل عام فاعتكف فيه ذلك العام عشرين وأكثر من الذكر والإستغفار.
قالت أم سلمة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يذهب ولا يجيء إلا قال "سبحان الله وبحمده" فذكرت ذلك له فقال: "إني أمرت بذلك" وتلا هذه السورة وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول قبل موته: سبحان الله وبحمده استغفر الله وأتوب إليه فقلت له: إنك تدعو بدعاء لم تكن تدعو به قبل اليوم؟ قال: "إن ربي أخبرني أنني سأرى علما في أمتي وإني إذا رأيته أن أسبح بحمده وأستغفره وقد رأيته" ثم تلا هذه السورة إذا كان سيد المحسنين يؤمر بأن يختم أعماله بالحسنى فكيف يكون حال المذنب المسيء المتلوث بالذنوب المحتاج إلى التطهير من لم ينذره باقتراب أجله وحي أنذره الشيب وسلب أقرانه بالموت.
كفى مؤذنا باقتراب الأجل
…
شباب تولى وشيب نزل
وموت الأقران وهل بعده
…
بقاء يؤمله من عقل
إذا ارتحلت قرناء الفتى
…
على حكم ريب المنون ارتحل
قال وهب بن الورد: إم لله ملكا ينادي في السماء كل يوم وليلة أبناء الخمسين: زرع دنا حصاده أبناء الستين: هلموا إلى الحساب أبناء السبعين: ماذا قدمتم وماذا أخرتم أبناء الثمانين: لا عذر لكم وعن وهب قال: ينادي مناد: أبناء الستين: عدوا أنفسكم في الموتى.
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أعذر صلى الله عليه وسلم إلى من بلغه ستين من عمره وفي حديث آخر: "إذا كان يوم القيامة نودي أين أبناء الستين وهو العمر الذي قال الله فيه: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} [فاطر: 37] " وفي الترمذي عنه صلى الله عليه وسلم قال: "أعمار أمتي بين الستين إلى السبعين وأقلهم من يجوز ذلك" وفي حديث آخر: "معترك المنايا ما بين الستين إلى السبعين" وفي حديث آخر: "إن لكل شيء حصادا وحصاد أمتي ما بين الستين إلى السبعين" وفي هذا المعترك قبض النبي صلى الله عليه وسلم قال سفيان الثوري: من بلغ سن رسول الله صلى الله عليه وسلم فليتخذ لنفسه كفنا.
وإن أمر قد سار ستين حجة
…
إلى منهل من ورده لقريب
قال الفضيل لرجل: كم أتى عليك؟ قال: ستون سنة قال له: أنت من ستين سنة تسير إلى ربك يوشك أن تبلغ فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون فقال فضيل: من علم أنه لله عبد وأنه إليه راجع فليعلم أنه موقوف وأنه مسؤول فليعد للمسألة جوابا فقال له الرجل: فما الحيلة؟ قال: يسيرة قال: ماهي؟ قال: تحسن فيما بقي يغفر لك ما مضى فإنك إن أسأت فيما بقي أخذت بما مضى وما بقى.
خذ في جد فقد تولى العمر
…
كم ذا التفريط قد تدانى الأمر
أقبل فعسى يقبل منك العذر
…
كم تبنى كم تنقض كم ذا الغدر
وما زال صلى الله عليه وسلم يعرض باقتراب أجله في آخر عمره فإنه لما خطب في حجة الوداع قال للناس: "خذوا عني مناسككم فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا" وطفق يودع الناس فقالوا: هذه حجة الوداع فلما رجع من حجته إلى المدينة جمع الناس.
بماء يدعى خما في طريقه بين مكة والمدينة فخطبهم وقال: " أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب" ثم حض على التمسك بكتاب الله ووصى بأهل بيته ثم إنه لما بدأ به مرض الموت خير بين لقاء الله وبين زهرة الدنيا والبقاء فيها ما شاء الله فاختار لقاء الله وخطب الناس وأشار إليهم بذلك إشارة من غير تصريح.
وكان ابتداء مرضه في أواخر شهر صفر وكان مدة مرضه ثلاثة عشر يوما في المشهور وقيل: أربعة عشر يوما وقيل: اثنا عشر يوما وقيل: عشرة أيام وهو غريب وكانت خطبته التي خطب بها في حديث أبي سعيد هذا الذي نتكلم عليه ههنا في ابتداء مرض ففي المسند وصحيح ابن حبان عن أبي سعيد الخدري قال: خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه وهو معصوب الرأس فقام على المنبر فقال: "إن عبدا عرضت عليه الدنيا وزينتها فاختار الآخرة" قال: فلم يفطن لها أحد من القوم إلا أبو بكر فقال: بأبي وأمي بل نفديك بأموالنا وأنفسنا وأولادنا قال: ثم هبط عن المنبر فما رؤي عليه حتى الساعة.
وفي المسند عن أبي مويهبة: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ليلة إلى البقيع فاستغفر لأهل البقيع وقال: "ليهنكم ما أصبحتم فيه مما أصبح فيه الناس أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع بعضها بعضا يتبع آخرها أولها الآخرة شر من الأولى" ثم قال: يا أبا موهبة إني قد أعطيت خزائن الدنيا والخلد ثم الجنة فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي فاخترت لقاء ربي والجنة ثم انصرف فابتدأه وجعه الذي قبضه الله فيه.
لما قويت معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم بربه ازداد حبه له وشوقه إلى لقائه فلما خير بين البقاء في الدنيا وبين لقاء ربه اختار لقاءه على خزائن الدنيا والبقاء فيها سئل الشبلي هل يقنع المحب بشيء من حبيبه دون مشاهدته فأنشد:
والله لو أنك توجتني
…
بتاج كسرى ملك المشرق
ولو بأموال الورى جدت لي
…
أموال من باد ومن قد بقي
وقلت لي: لا نلتقي ساعة
…
اخترت يا مولاي أن نلتقي
لما عرض الرسول صلى الله عليه وسلم على المنبر باختياره اللقاء على البقاء ولم يصرح خفي المعنى على كثير ممن سمع ولم يفهم المقصود غير صاحبه الخصيص به {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة: 40] وكان أعلم الأمة بمقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم فلما فهم المقصود من هذه الإشارة بكى وقال: بل نفديك بأموالنا وأنفسنا وأولادنا.
فسكن الرسول صلى الله عليه وسلم جزعه وأخذ في مدحه والثناء عليه على المنبر ليعلم الناس كلهم فضله ولا يقع عليه اختلاف في خلافته فقال: "إن من أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر" وفي رواية أخرى أنه قال: "ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافأناه ما خلا أبو بكر فإن له عندنا يدا يكافئه الله يوم القيامة بها وما نفعني مال أحد قط ما نفعي مال أبي بكر" خرجه الترمذي ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن إخوة الإسلام" لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خليل الله لم يصلح له أن يخالل مخلوقا فإن الخليل من جرت محبة خليله منه مجرى الروح ولا يصلح هذا لبشر كما قيل:
قد تخللت مسلك الروح مني
…
وبذا سمي الخليل خليلا
ولهذا المعنى قيل: إن إبراهيم الخليل عليه السلام أمر بذبح ولده ولم يكن المقصود غراقة دم الولد بل تفريغ محل الخلة لمن لا يصلح أن يزاحمه فيها أحد.
أروح وقد ختمت على فؤادي
…
بحبك أن يحل به سواكا
فلو أني استطعت غضضت طرفي
…
فلم أنظر به حتى أراكا
ثم قال صلى الله عليه وسلم: "لا يبقين خوخة في المسجد إلا سدت إلا خوخة أبي بكر" وفي رواية: "سدوا هذه الأبواب الشارعة في المسجد إلا باب أبي بكر" وفي هذه الإشارة إلى أن أبا بكر هو الإمام بعده فإن الإمام يحتاج إلى سكنى المسجد والإستطراق فيه بخلاف غيره وذلك من مصالح المسلمين المصلين في المسجد ثم أكد هذا المعنى بأمره صريحا أن يصلي بالناس أبو بكر فروجع في ذلك فغضب وقال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس" فولاه إمامة الصلاة دون غيره وأبقى استطراقه من داره إلى مكان الصلاة وسد استطراق غيره وفي ذلك إشارة واضحة إلى استخلافه على الأمة دون غيره ولهذا قالت الصحابة عند بيعة أبي بكر: رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا فكيف لا نرضاه لدنيانا ولما قال أبو بكر: قد أقلتكم بيعتي قال علي: لا نقيلك ونستقيلك قدمك رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن ذا يؤخرك.
لما انطوى بساط النبوة من الأرض بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبق على وجه الأرض أكمل من درجة الصديقية وأبو بكر رأس الصديقين فلهذا استحق خلافة الرسول والقيام مقامه وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد عزم على أن يكتب لأبي بكر كتابا لئلا يختلف عليه ثم أعرض عن ذلك لعلمه أنه لا يقع غيره وقال: "يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر" وربما كان ترك ذلك لئلا يتوهم متوهم أن نصه على خلافته.
كانت مكافأة ليده التي كانت له والولايات كلها لا يقصد بها مصلحة المولى بل مصلحة المسلمين عامة.
وكان أول ما ابتدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من مرضه وجع رأسه ولهذا خطب وقد عصب رأسه بعصابة دسماء وكان صداع الرأس والشقيقة يعتريه كثيرا في حياته ويتألم منه أياما وصداع الرأس من علامات أهل الإيمان وأهل الجنة وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه وصف أهل النار فقال: "هم الذين لا يألمون رؤوسهم" ودخل عليه أعرابي فقال له: "يا أعرابي هل أخذك هذا الصداع"؟ فقال: وما الصداع؟ قال: "عروق تضرب على الإنسان في رأسه" فقال: ما وجدت هذا فلما ولى الأعرابي قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا" خرجه الإمام أحمد والنسائي.
وقال كعب: أجد في التوراة لولا أن يحزن عبدي المؤمن لعصبت الكافر بعصابة من حديد لا يصدع أبدا وفي المسند عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي بدأ فيه فقلت: وارأساه فقال: وددت أن ذلك كان وأنا حي فهيأتك ودفنتك فقلت: غيراء كأني بك في ذلك اليوم عروسا ببعض نسائك فقال: "أنا وارأساه ادعو لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابا فإني أخاف أن يقول قائل ويتمنى متمن ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر" وخرجه البخاري بمعناه ولفظه: أن عائشة رضي الله عنها قالت: وارأساه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذاك لو كان وأنا حي فأستغفر وأدعو لك قالت عائشة: واثكلاه والله إني لأظنك تحب موتي ولو كان ذلك لظللت آخر يومك معرسا ببعض أزواجك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بل أنا وارأساه" وذكر بقية الحديث.
وفي المسند أيضا عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر ببابي كثيرا ما يلقي الكلمة ينفع الله بها فمر ذات يوم فلم يقل شيئا مرتين أو ثلاثا قلت: يا جارية ضعي لي وسادة على الباب وعصبت رأسي فمر بي وقال: "يا عائشة ما شأنك"؟ فقلت: أشتكي رأسي فقال: أنا وارأساه فذهب فلم يلبث إلا يسيرا حتى جيء به محمولا في كساء فدخل علي فبعث إلى النساء وقال: "إني اشتكيت أني لا أستطيع أن أدور بينكن فأذن لي فلأكن عند عائشة" وفيه أيضا عنها قالت: رجع إلي النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم من جنازة بالبقيع وأنا أجد صداعا في رأسي وأنا أقول وارأساه ثم قال: "ما ضرك لو مت قبلي فغسلتك وكفنتك ثم صليت عليك ودفنتك" فقلت: لكأني بك والله لو فعلت ذلك لقد.
رجعت إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بدأ في وجعه الذي مات فيه.
فقد تبين أن أول مرضه كان صداع الرأس والظاهر أنه كان مع حمى فإن الحمى اشتدت به في مرضه فكان يجلس في مخضب ويصب عليه الماء من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن يتبرد بذلك وكان عليه قطيفة فكانت حرارة الحمى تصيب من وضع يده عليه من فوقها فقيل له في ذلك؟ فقال: "إنا كذلك يشدد علينا البلاء ويضاعف لنا الأجر وقال: إني أوعك كما يوعك رجلان منكم" ومن شدة وجعه كان يغمى عليه في مرضه ثم يفيق وحصل له ذلك غير مرة فأغمي عليه مرة وظنوا أن وجعه ذات الجنب فلدوه فلما أفاق أنكر ذلك وأمر أن يلد من ولده وقال: "إن الله لم يكن ليسلطها علي - يعني ذات الجنب- ولكنه من الأكلة التي أكلتها يوم خيبر" يعني: أنه نقض عليه سم الشاة التي أهدتها له اليهودية فأكل منها يومئذ فكان ذلك يثور عليه أحيانا فقال في مرض موته: "ما زالت أكلة خيبر تعاودني فيها أوان انقطاع أبهري" وكان ابن مسعود وغيره يقولون: إنه مات شهيدا من السم.
وقالت عائشة: ما رأيت أحدا كان أشد عليه الوجع من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عنده في مرضه سبعة دنانير فكان يأمرهم بالصدقة بها ثم يغمى عليه فيشتغلون بوجعه فدعا بها فوضعها في كفه يأمرهم بالصدقة بها ثم يغمى عليه فيشتغلون بوجعه فدعا بها فوضعها في كفه وقال: "ما ظن محمد بربه لو لقي الله وعنده هذه" ثم تصدق بها كلها فكيف يكون حال من لقي الله وعنده دماء المسلمين وأموالهم المحرمة وما ظنه بربه.
ولم يكن عندهم في مرضه دهن للمصباح يوقد فيه فلما اشتد وجعه ليلة الإثنين أرسلت عائشة بالمصباح إلى امرأة من النساء فقالت قطري لنا في مصباحنا من عكة السمن فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسى في جديد الموت وكان عند عائشة إزار غليظ مما صنع باليمن وكساء من الملبدة فكانت تقسم بالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض فيهما.
ودخلت عليه فاطمة عليها السلام في مرضه فسارها رسول الله بشيء فبكت ثم سارها فضحكت فسئلت عن ذلك؟ فقالت: لا أفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما توفي سئلت؟ فقالت: أخبرني أنه يموت في مرضه فبكيت ثم أخبرني أني أول أهله لحوقا به وأني سيدة نساء العالمين فضحكت فلما احتضر صلى الله عليه وسلم اشتد به الأمر فقالت عائشة: ما أغبط أحدا يهون عليه الموت بعد الذي رأيت من شدة موت.
رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: وكان عنده قدح من ماء فيدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه بالماء ويقول: "اللهم أعني على سكرات الموت" قالت: وجعل يقول: "لا إله إلا الله إن للموت لسكرات" وفي حديث مرسل أنه قال: "اللهم إنك تأخذ الروح من بين العصب والقصب والأنامل اللهم فأعني على الموت وهونه علي" ولما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم جعل يتغشاه الكرب قالت فاطمة عليها السلام: واكرب أبتاه فقال لها: "لا كرب على أبيك بعد اليوم" وفي حديث خرجه ابن ماجه: أنه صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة: "إنه قد حضر من أبيك ما ليس الله بتارك منه أحد الموافاة يوم القيامة".
ولم يقبض صلى الله عليه وسلم حتى خير مرة أخرى بين الدنيا والآخرة قالت عائشة كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إنه لم يقبض نبي حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخير" فلما نزل به ورأسه على فخذي غشي عليه ساعة ثم أفاق فأشخص بصره إلى سقف البيت ثم قال: "اللهم الرفيق الأعلى" فقلت: الآن لا يختارنا وعلمت أنه الحديث الذي كان يحدثناه وهو صحيح فكانت تلك آخر كلمة تكلم بها وفي رواية أنه قال: "اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى" وفي رواية "أنه أصابه بحة شديدة فسمعته يقول: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء: 69] قالت: فظننت أنه خير، وهذه الروايات مخرجة في صحيح البخاري وغيره.
وقد روي ما يدل على أنه قبض ثم رأى مقعده من الجنة ثم ردت إليه نفسه ثم خير: ففي المسند عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من نبي إلا يقبض نفسه ثم يرى الثواب ثم ترد إليه فيخير بين أن ترد إليه أو يلحق" فكنت قد حفطت ذلك منه فإني لمسندته إلى صدري فنظرت إليه حتى مالت عنقه فقلت: قد قضى قالت: فعرفت الذي قال: فنظرت إليه حتى ارتفع ونظر فقالت: إذا والله لا يختارنا فقال: مع الرفيق الأعلى في الجنة {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69] إلى آخر الآية وفي صحيح ابن حبان عنها قالت: أغمي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأسه في حجري فجعلت أمسحه وأدعو له بالشفاء فلما أفاق قال: "لا بل أسأل الله الرفيق الأعلى مع جبريل وميكائيل وإسرافيل" وفيه وفي المسند عنها: أنها كانت ترقيه في مرضه الذي مات فيه فقال: "ارفعي يدك فإنها كانت تنفعني في المدة" قال الحسن لما كرهت الأنبياء الموت هون الله عليهم بلقاء الله وبكل ما أحبوا من تحفة أو.
كرامة حتى أن نفس أحدهم لتنزع من بين جنبيه وهو يحب ذلك لما قد مثل له وفي المسند عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنه ليهون علي الموت إني رأيت بياض كف عائشة في الجنة" وخرجه ابن سعد وغيره مرسلا انه قال صلى الله عليه وسلم: "لقد أريتها في الجنة ليهون بذلك علي موتي كأني أرى كفيها" يعني عائشة كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب عائشة رضي الله عنها حبا شديدا حتى لا يكاد يصبر عناه فمثلت له بين يديه في الجنة ليهون عليه موته فإن العيش إنما يطيب باجتماع الأحبة وقد سأله رجل: أي النساء أحب إليك؟ فقال: "عائشة" فقال له فمن الرجال؟ قال: "أبوها" ولهذا قال لها في ابتداء مرضه لما قالت: وارأساه: وددت أن ذلك كان وأنا حي فأصلي عليك وأدفنك فعظم ذلك عليها وظنت أنه يحب فراقها وإنما كان يريد تعجيلها بين يديه ليقرب اجتماعهما.
وقد كانت عائشة مضغت له صلى الله عليه وسلم سواكا وطيبته بريقها ثم دفعته إليه فاستن به أحسن استنان ثم ذهب يتناوله فضعفت يده عنه فسقط من يده فكانت عائشة تقول: جمع الله بي ريقي وريقه في أخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة والحديث مخرج في الصحيحين وفي حديث خرجه العقيلي أنه صلى الله عليه وسلم قال لها في مرضه: "ائتيني بسواك رطب امضغيه ثم ائتيني به أمضغه لكي يختلط ريقي بريقك لكي يوهن به عند الموت".
قال جعفر بن محمد عن أبيه لما بقي من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث نزل عليه جبريل عليه السلام فقال: يا أحمد إن الله قد أرسلني إليك إكراما لك وتفضيلا لك وخاصة لك يسألك عما هو أعلم به منك يقول لك: كيف تجدك؟ فقال: "أجدني يا جبريل مغموما وأجدني يا جبريل مكروبا" ثم أتاه في اليوم الثاني فقال له مثل ذلك ثم أتاه في اليوم الثالث فقال له مثل ذلك ثم استأذن فيه ملك الموت فقال جبريل: يا أحمد هذا ملك الموت يستأذن عليك ولم يستأذن على آدمي كان قبلك ولا يستأذن على آدمي بعدك قال: ائذن له فدخل ملك الموت فوقف بين يديه فقال: يا رسول الله يا أحمد إن الله أرسلني إليك وأمرني أن أطيعك في كل ما تأمر إن أمرتني أن أقبض نفسك قبضتها وإن أمرتني أن أتركها تركتها؟ قال: " وتفعل ذلك يا ملك الموت" قال: بذلك أمرت أن أطيعك في كل ما أمرتني به فقال جبريل: يا أحمد إن الله قد اشتاق إليك قال: فامض يا ملك الموت لما أمرت به فقال جبريل عليه السلام: السلام عليك يا رسول الله هذا آخر موطيء من الأرض إنما كنت حاجتي من الدنيا وجاءت التعزية يسمعون الصوت
والحس ولا يرون الشخص: السلام عليكم يا أهل البيت ورحمة الله وبركاته: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 185] إن في الله عزاء من كل مصيبة وخلفا من كل هالك ودركا من كل فائت فبالله فاتقوا وإياه فارجوا إنما المصاب من حرم الثواب والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وكانت وفاته صلى الله عليه وسلم في يوم الإثنين في شهر ربيع الأول بغير خلاف وكان قد كشف الستر في ذلك اليوم والناس في صلاة الصبح خلف أبي بكر فهم المسلمون أن يفتنوا من فرحهم برؤيته صلى الله عليه وسلم حين نظروا إلى وجهه كأنه ورقة مصحف وظنوا أنه يخرج للصلاة فأشار إليهم أن مكانكم ثم أرخى الستر.
وتوفى صلى الله عليه وسلم من ذلك اليوم وظن المسلمون أنه صلى الله عليه وسلم قد برئ من مرضه لما أصبح يوم الإثنين مفيقا فخرج أبو بكر إلى منزله بالسنح خارج المدينة فلما ارتفع الضحى من ذلك اليوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل توفي حين زاغت الشمس والأول أصح وأنه توفي حين اشتد الضحى من يوم الإثنين في مثل الوقت الذي دخل فيه المدينة حين هاجر إليها.
واختلفوا في تعيين ذلك اليوم من الشهر فقيل: كان أوله وقيل: ثانية وقيل ثاني عشرة وقيل: ثالث عشرة وقيل: خامس عشرة والمشهور بين الناس: إنه كان ثاني عشر ربيع الأول وقد رد ذلك السهيلي وغيره بأن وقفة حجة الوداع في السنة العاشرة كانت الجمعة كان أول ذي الحجة فيها الخميس ومتى كان كذلك لم يصح أن يكون يوم الإثنين ثاني عشر ربيع الأول سواء حسبت الشهور الثلاثة أعني: ذا الحجة ومحرما وصفرا كلها كاملة أو ناقصة أو بعضها كاملة وبعضها ناقصة ولكن أجيب عن هذا بجواب حسن وهو أن ابن اسحاق ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي لاثنتي عشرة ليلة من ربيع الأول وهذا ممكن فإن العرب تؤرخ بالليالي دون الأيام ولكن لا تؤرخ إلا بليلة مضى يومها فيكون اليوم تبعا لليلة وكل ليلة لم يمض يومها لم يعتد بها كذلك إذا ذكروا الليالي في عدد فإنهم يريدون بها الليالي مع أيامها فإذا قالوا عشر ليال فمرادهم بأيامها ومن هنا يتبين صحة قول الجمهور في أن عدة الوفاة أربعة أشهر وعشر ليال بأيامها وأن اليوم العاشر من جملة تمام العدة خلافا للأوزاعي وكذلك قال الجمهور في أشهر الحج: إنها شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة وأن يوم النحر داخل فيها لهذا المعنى خلافا للشافعي وحينئذ فيوم الإثنين الذي توفي فيه النبي صلى الله عليه وسلم كان: ثالث عشر الشهر لكن لما لم يكن يومه قد
مضى لم يؤرخ بليلته إنما أرخوا بليلة الأحد ويومها وهو الثاني عشر فلذلك قال ابن إسحاق توفي لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول والله أعلم.
واختلفوا في وقت دفنه فقيل: دفن من ساعته وفيه بعد وقيل: من ليلة الثلاثاء وقيل: ليلة الأربعاء.
ولما توفي صلى الله عليه وسلم اضطرب المسلمون فمنهم من دهش فخربط ومنهم من أقعد فلم يطق القيام ومنهم من اعتقل لسانه فلم ينطق الكلام ومنهم من أنكر موته بالكلية وقال: إنما بعث إليه كما بعث إلى موسى وكان من هؤلاء عمر وبلغ الخبر أبا بكر فأقبل مسرعا حتى دخل بيت عائشة ورسول الله صلى الله عليه وسلم مسجى فكشف عن وجهه الثوب وأكب عليه وقبل جبهته مرارا وهو يبكي وهو يقول: وانبياه واخليلاه واصفياه وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون مات والله رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: والله لا يجمع الله عليك موتتين أما الموتة التي كتب الله عليك فقد متها.
ثم دخل المسجد وعمر يكلم الناس وهم مجتمعون عليه فتكلم أبو بكر وتشهد وحمد الله فأقبل الناس إليه وتركوا عمر فقال: من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت وتلا: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144] الآية فاستيقن الناس كلهم بموته وكأنهم لم يسمعوا هذه الآية من قبل أن يتلوها أبو بكر فتلقاها الناس منه فما يسمع أحد إلا يتلوها وقالت فاطمة عليها السلام: يا أبتاه أجاب ربا دعاه يا أبتاه جنة الفردوس مأواه يا أبتاه إلى جبريل أنعاه يا أبتاه من ربه ما أدناه وعاشت بعده ستة أشهر فما ضحكت في تلك المدة وحق لها ذلك.
على مثل ليلى يقتل المرء نفسه
…
وإن كان من ليلى على الهجر طاويا
كل المصائب تهون عند هذه المصيبة.
في سنن ابن ماجه أنه صلى الله عليه وسلم قال في مرضه: "يا أيها الناس إن أحد من الناس أو المؤمنين أصيب بمصيبة فليتعز بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري فإن أحدا من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي" قال أبو الجوزاء: كان الرجل من أهل المدينة إذا أصابته مصيبة جاء أخوه فصافحه ويقول: يا عبد الله اتق الله فإن في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة.
اصبر لكل مصيبة وتجلد
…
واعلم بأن المرء غير مخلد
واصبر كما صبر الكرام فإنها
…
نوب تنوب اليوم تكشف في غد
وإذا أتتك مصيبة تشجى بها
…
فاذكر مصابك بالنبي محمد
ولبعضهم:
تذكرت لما فوق الدهر بيننا
…
فعزيت نفسي بالنبي محمد
وقلت لها إن المنايا سبيلنا
…
فمن لم يمت في يومه مات في الغد
كانت الجمادات تتصدع من ألم مفارقة الرسول صلى الله عليه وسلم فكيف بقلوب المؤمنين لما فقده الجذع الذي كان يخطب إليه قبل اتخاذ المنبر حن إليه وصاح كما يصيح الصبي فنزل إليه فاعتنقه فجعل يهدي كما يهدي الصبي الذي يسكن عند بكائه فقال: " لو لم أعتنقه لحن إلي يوم القيامة" كان الحسن إذا حدث بهذا الحديث بكى وقال: هذه خشبة تحن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه ووري أن بلالا كان يؤذن بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قبل دفنه فإذا قال: أشهد أن محمدا رسول الله ارتج المسجد بالبكاء والنحيب فلما دفن ترك بلال الأذان ما أمر عيش من فارق الأحباب خصوصا من كانت رؤيته حياة الألباب.
لو ذاق طعم الفراق رضوى
…
لكاد من وجده يميد
قد حملوني عذاب شوق
…
يعجز عن حمله الحديد
لما دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت فاطمة: كيف طابت أنفسكم أن تحثوا التراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أنس: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء فلما كان اليوم الذي دفن فيه أظلم منها كل شيء وما نفضنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب وإنا لفي دفنه حتى أنكرنا قلوبنا.
ليبك رسول الله من كان باكيا
…
فلا تنس قبرا بالمدينة ثاويا
جزى الله عنا كل خير محمدا
…
فقد كان مهديا وقد كان هاديا
وكان رسول الله روحا ورحمة
…
ونورا وبرهانا من الله باديا
وكان رسول الله بالخير آمرا
…
وكان عن الفحشاء والسوء ناهيا
وكان رسول الله بالقسط قائما
…
وكان لما استرعاه مولاه راعيا
وكان رسول الله يدعو إلى الهدى
…
قلبي رسول الله لبيه داعيا
أينسى أبر الناس بالناس كلهم
…
وأكرمهم بيتا وشعبا وواديا