المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المجلس الثاني في يوم عرفة مع عيد النحر - لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف - ط ابن حزم

[ابن رجب الحنبلي]

فهرس الكتاب

- ‌مجلس في فضل التذكير بالله تعالى ومجالس الوعظ

- ‌وظائف شهر الله المحرم

- ‌المجلس الأول: في فضل شهر الله المحرم وعشره الأول

- ‌الفصل الأول: في أفضل التطوع بالصيام

- ‌الفصل الثاني: في فضل قيام الليل

- ‌المجلس الثاني في يوم عاشوراء

- ‌المجلس الثالث في قدوم الحاج

- ‌وظيفة شهر صفر

- ‌وظائف شهر ربيع الأول

- ‌المجلس الأول في ذكر مولد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌المجلس الثاني في ذكر المولد أيضا

- ‌المجلس الثالث في ذكر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌وظيفة شهر رجب

- ‌وظائف شهر شعبان

- ‌المجلس الأول: في صيامه

- ‌المجلس الثاني في نصف شعبان

- ‌المجلس الثالث في صيام آخر شعبان

- ‌وظائف شهر رمضان المعظم

- ‌المجلس الأول: في فضل الصيام

- ‌المجلس الثاني في فضل الجود في رمضان وتلاوة القرآن

- ‌المجلس الثالث في ذكر العشر الأوسط من شهر رمضان وذكر نصف الشهر الأخير

- ‌المجلس الرابع في ذكر العشر الأواخر من رمضان

- ‌المجلس الخامس في ذكر السبع الأواخر من رمضان

- ‌المجلس السادس في وداع رمضان

- ‌وظائف شوال

- ‌المجلس الأول: في صيام شوال كله وإتباع رمضان بصيام ستة أيام من شوال

- ‌المجلس الثاني في ذكر الحج وفضله والحث عليه

- ‌المجلس الثالث فيما يقوم مقام الحج والعمرة عند العجز عنهما

- ‌وظيفة شهر ذي القعدة

- ‌وظائف شهر ذي الحجة

- ‌المجلس الأول: في فضل عشر ذي الحجة

- ‌الفصل الأول: في فضل العمل فيه

- ‌الفصل الثاني: في فضل عشر ذي الحجة على غيره من أعشار الشهور

- ‌المجلس الثاني في يوم عرفة مع عيد النحر

- ‌المجلس الثالث في أيام التشريق

- ‌المجلس الرابع في ختام العام

- ‌فصل ـ ويلتحق بوظائف شهور السنة الهلالية وظائف فصول السنة الشمسية

- ‌المجلس الأول: في ذكر فصل الربيع

- ‌المجلس الثاني في ذكر فصل الصيف

- ‌المجلس الثالث في ذكر فصل الشتاء

- ‌مجلس في ذكر التوبة والحث عليها قبل الموت وختم العمر بها والتوبة وظيفة العمر وهي خاتمة مجالس الكتاب

الفصل: ‌المجلس الثاني في يوم عرفة مع عيد النحر

الغنيمة الغنيمة بانتهاز الفرصة في هذه الأيام العظيمة فما منها عوض ولا لها قيمة المبادرة المبادرة بالعمل والعجل العجل قبل هجوم الأجل قبل أن يندم المفرط على ما فعل قبل أن يسأل الرجعة فيعمل صالحا فلا يجاب إلى ما سأل قبل أن يحول الموت بين المؤمل وبلوغ الأمل قبل أن يصير المرء مرتهنا في حفرته بما قدم من عمل.

ليس للميت في قبره

فطر ولا أضحى ولا عشر

ناء عن الأهل على قربه

كذاك من مسكنه القبر

يا من طلع فجر شيبه بعد بلوغ الأربعين يا من مضى عليه بعد ذلك ليالي عشر سنين حتى بلغ الخمسين يا من هو في معترك المنايا ما بين الستين والسبعين ما تنتظر بعد هذا الخبر إلا أن يأتيك اليقين يا من ذنوبه بعدد الشفع والوتر أما تستحي من الكرام الكاتبين؟ أم أنت ممن يكذب بيوم الدين؟ يا من ظلمة قلبه كالليل إذا يسري أما آن لقلبك أن يستنير أو يلين تعرض لنفحات مولاك في هذا العشر فإن فيه لله نفحات يصيب بها من يشاء فمن أصابته سعد بها آخر الدهر.

ص: 274

‌المجلس الثاني في يوم عرفة مع عيد النحر

في الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلا من اليهود له: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لا تخذنا اليهود نزلت لا تخذنا ذلك اليوم عيدا فقال: أي آية: قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة: 3] فقال عمر: إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه والمكان الذي نزلت فيه: نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم بعرفة يوم الجمعة وخرج الترمذي عن ابن عباس نحوه وقال فيه: نزلت في يوم عيد من يوم جمعة ويوم عرفة.

والعيد هو موسم الفرح والسرور وأفراح المؤمنين وسرورهم في الدنيا إنما هو بمولاهم إذا فازوا بإكمال طاعته وحازوا ثواب أعمالهم بوثوقهم بوعده لهم عليها بفضله ومغفرته كما قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58] قال بعض العارفين: ما فرح أحد بغير الله إلا بغفلته

ص: 274

عن الله فالغافل يفرح بلهوه وهواه والعاقل يفرح بمولاه وأنشد سمنون في هذا المعنى:

وكان فؤادي خاليا قبل حبكم

وكان بذكر الخلق يلهو ويمرح

فلما دعا قلبي هواك أجابه

فلست أراه عن فنائك يبرح

رميت ببعد منك إن كنت كاذبا

وإن كنت في الدنيا بغيرك أفراح

وإن كان شيء في البلاد بأسرها

إذا غبت عن عيني لعيني يملح

فإن شئت واصلني وإن شئت لا تصل

فلست أرى قلبي لغيرك يصلح

لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كان لهم يومان يلعبون فيهما فقال: "إن الله قد أبدلكم يومين خيرا منهما يوم الفطر والأضحى" فأبدل الله هذه الأمة بيومي اللعب واللهو يومي الذكر والشكر والمغفرة والعفو ففي الدنيا للمؤمنين ثلاثة أعياد عيد يتكرر فهو يوم الجمعة وهو عيد الأسبوع وهو مترتب على إكمال الصلوات المكتوبات فإن الله عز وجل فرض على المؤمنين في كل يوم وليلة خمس صلوات وأيام الدنيا تدور على سبعة أيام فكلما دور أسبوع من أيام الدنيا واستكمل المسلمون صلواتهم فيه شرع لهم في يوم استكمالهم وهو اليوم الذي كمل فيه الخلق وفيه خلق آدم وأدخل الجنة وأخرج منها وفيه ينتهي أمد الدنيا فتزول وتقوم الساعة فالجمعة من الإجتماع على سماع الذكر والموعظة وصلاة الجمعة وجعل ذلك لهم عيدا ولهذا نهى عن إفراده بالصيام وفي شهود الجمعة شبه من الحج وروي: أنها حج المساكين وقال سعيد بن المسيب: شهود الجمعة أحب إلي من حجة نافلة والتبكير إليها يقوم مقام الهدي على قدر السبق فأولهم كالمهدي بدنة ثم بقرة ثم كبشا ثم دجاجة ثم بيضة وشهود الجمعة يوجب تكفير الذنوب إلى الجمعة الأخرى إذا سلم ما بين الجمعتين من الكبائر كما أن الحج المبرور يكفر ذنوب تلك السنة إلى الحجة الأخرى وقد روي إذا سلمت الجمعة سلمت الأيام وروي أن الله تعالى يغفر يوم الجمعة لكل مسلم وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما طلعت الشمس ولا غربت على يوم أفضل من يوم الجمعة" وفي المسند عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في يوم الجمعة: "هو أفضل عند الله من يوم الفطر ويوم

ص: 275

الأضحى" فهذا عيد الأسبوع وهو متعلق بإكمال الصلوات المكتوبة وهي أعظم أركان الإسلام ومبانيه بعد الشهادتين.

وأما العيدان اللذان لا يتكرران في كل عام وإنما يأتي قال واحد منهما في العام مرة واحدة فأحدهما: عيد الفطر من صوم رمضان وهو مترتب على إكمال صيام رمضان وهو الركن الثالث من أركان الإسلام ومبانيه فإذا استكمل المسلمون صيام شهرهم المفروض عليهم واستوجبوا من الله والمغفر والعتق من النار فإن صيامه يوجب مغفرة ما تقدم من الذنوب وآخره عتق من النار يعتق فيه من النار من استحقها بذنوبه فشرع الله تعالى لهم عقب إكمالهم لصيامهم عيدا يجتمعون فيه على شكر الله وذكره وتكبيره على ما هداهم له وشرع لهم في ذلك العيد الصلاة والصدقة وهو يوم الجوائز يستوفي الصائمون فيه أجر صيامهم ويرجعون من عيدهم بالمغفرة.

والعيد الثاني: عيد النحر وهو أكبر العيدين وأفضلهما وهو مترتب على إكمال الحج وهو الركن الرابع من أركان الإسلام ومبانيه فإذا أكمل المسلمون حجهم غفر لهم وإنما يكمل الحج بيوم عرفة والوقوف بعرفة فإنه ركن الحج الأعظم كما قال صلى الله عليه وسلم: "الحج عرفة" ويوم عرفة هو يوم العتق من النار فيعتق الله من النار من وقف بعرفة ومن لم يقف بها من أهل الأمصار من المسلمين فلذلك صار اليوم الذي يليه عيدا لجميع المسلمين في جميع أمصارهم من شهد الموسم منهم ومن لم يشهده لا شتراكهم في العتق والمغفرة يوم عرفة وإنما لم يشترك المسلمون كلهم في الحج كل عام رحمة من الله وتخفيفا على عباده فإنه جعل الحج فريضة العمر لا فريضة كل عام وإنما هو في كل عام فرض كفاية بخلاف الصيام فإنه فريضة كل عام على كل مسلم فإذا كمل يوم عرفة وأعتق الله عباده المؤمنين من النار اشترك المسلمون كلهم في العيد عقب ذلك وشرع للجميع التقرب إليه بالنسك وهو إراقة دماء القرابين.

فأهل الموسم يرمون الجمرة فيشرعون في التحلل من إحرامهم بالحج ويقضون تفثهم ويوفون نذورهم ويقربون قرابينهم من الهدايا ثم يطوفون بالبيت العتيق وأهل الأمصار يجتمعون على ذكر الله وتكبيره والصلاة له قال مخنف بن سليم وهو معدود من الصحابة: الخروج يوم الفطر يعدل عمرة والخروج يوم الأضحى يعدل حجة ثم ينسكون عقب ذلك نسكهم ويقربون قرابينهم بإراقة دماء ضحاياهم فيكون ذلك شكرا منهم لهذه النعم والصلاة والنحر الذي يجتمع في

ص: 276

عيد النحر أفضل من الصلاة والصدقة الذي في عيد الفطر لهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل شكره لربه على إعطائه الكوثر أن يصلي لربه وينحر وقيل له قل: {إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162] ولهذا ورد الأمر بتلاوة هذه الآية عند ذبح الأضاحي والأضاحي سنة إبراهيم عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم فإن الله شرعها لإبراهيم حين فدى ولده الذي أمره بذبحه بذبح عظيم وفي حديث زيد بن أرقم قيل: يا رسول الله ما هذه الأضاحي قال: "سنة إبراهيم" قيل له: فما لنا بها؟ قال: "بكل شعرة حسنة" قيل: فالصوف؟ قال: "بكل شعرة من الصوف حسنة" خرجه ابن ماجه وغيره فهذه أعياد المسلمين في الدنيا وكلها عند إكمال طاعة مولاهم الملك الوهاب وحيازتهم لما وعدهم من الأجر والثواب.

مر قوم براهب في دير فقالوا له: متى عيد أهل هذا الدير؟ قال: يوم يغفر لأهله ليس العيد لمن لبس الجديد إنما العيد لمن طاعاته تزيد ليس العيد لمن تجمل باللباس والركوب إنما العيد لمن غفرت له الذنوب في ليلة العيد تفرق خلق العتق والمغفرة على العبيد فمن ناله فمنها شيء فله عيد وإلا فهو مطرود بعيد كان بعض العارفين ينوح على نفسه ليلة العيد بهذه الأبيات:

بحرمة غربتي كم ذا الصدود

ألا تعطف علي ألا تجود

سرور العيد قد عم النواحي

وحزني في ازدياد لا يبيد

فإن كنت اقترفت خلال سوء

فعذري في الهوى أن لا أعود

وأنشد غيره:

للناس عشر وعيد

ونا فقير وحيد

يا غايتي ومناي

قد لذ لي ما تريد

وأنشد الشبلي:

ليس عيد المحب قصد المصلى

وانتظار الأمير والسلطان

إنما العيد أن تكون لدى الحب

كريما مقربا في أمان

وأنشد:

إذا ما كنت لي عيدا

فما أصنع بالعيد

جرى حبك في قلبي

كجري الماء في العود

ص: 277

وأنشد:

قالوا غدا العيد أنت لابسه

فقلت خلعة ساق حسنة برعا

صبر رهقرقهما ثوبان تحتهما

قلب يرى ألفه الأعياد والجمعا

أحرى الملابس أن تلقى الحبيب به

يوم التزوار في الثواب الذي خلعا

الدهر لي مأتم إن غبت يا أملي

والعيد ما كنت لي أمرا ومستمعا

وأما أعياد المؤمنين في الحنة فهي أيام زيارتهم لربهم عز وجل فيزورونه ويكرمهم غاية الكرامة ويتجلى لهم وينظرون إليه فما أعطاهم شيئا هو أحب إليهم من ذلك وهو الزيادة التي قال الله تعالى فيها: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] ليس للمحب عيد سوى قرب محبوبه.

إن يوما جامعا شملي بهم

ذاك عيد ليس لي عيد سواه

كل يوم كان للمسلمين عيدا في الدنيا فإنه عيد لهم في الجنة يجتمعون فيه على زيارة ربهم ويتجلى لهم فيه ويوم الجمعة يدعى في الجنة: يوم المزيد ويوم الفطر والأضحى يجتمع أهل الجنة فيهما للزيارة وروي أنه يشارك النساء الرجال فيهما كما كن يشهدن العيدين مع الرجال دون الجمعة فهذا لعموم أهل الجنة فأما خواصهم فكل يوم لهم عيد يزورون ربهم كل يوم مرتين بكرة وعشيا الخواص كانت أيام الدنيا كلها لهم أعيادا فصارت أيامهم في الآخرة كلها أعيادا قال الحسن: كل يوم لا يعصى الله فيه فهو عيد كل يوم يقطعه المؤمن في طاعة مولاه وذكره وشكره فهو له عيد.

أركان الإسلام التي بني الإسلام عليها خمسة: الشهادتان والصلاة والزكاة وصيام رمضان والحج فأعياد عموم المسلمين في الدنيا عند إكمال دور الصلاة وإكمال الصيام والحج يجتمعون عند ذلك اجتماعا عاما.

فأما الزكاة فليس لها وقت معين ليتخذ عيدا بل كل من ملم نصابا فحوله بحسب ملكه وأما الشهادتان فإكمالها يحصل بتحقيقهما والقيام بحقوقها وخواص المؤمنين يجتهدون على ذلك في كل وقت فلذلك كانت أوقاتهم كلها أعيادا لهم في الدنيا والآخرة كما أنشد الشبلي:

عيدي مقيم وعيد الناس منصرف

والقلب مني عن اللذات منحرف

ولي قرينان مالي منهما خلف

طول الحنين وعين دمعها يكف

ص: 278

ولما كان عيد النحر أكبر العيدين وأفضلهما ويجتمع فيه شرف المكان والزمان لأهل الموسم كانت لهم فيه معه أعياد قبله وبعده فقبله وبعده فقبله يوم عرفة وبعده أيام التشريق وكل هذه الأعياد أعياد لأهل الموسم كما في حديث عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام وهي أيام أكل وشرب" خرجه أهل السنن وصححه الترمذي ولهذا لا يشرع لأهل الموسم صوم يوم عرفة لأنه أول أعيادهم وأكبر مجامعهم وقد أفطره النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة والناس ينظرون إليه وروي أنه نهي عن صوم يوم عرفة بعرفة وروي عن سفيان بن عيينة: أنه سئل عن النهي عن صيام يوم عرفة بعرفة؟ فقال: لأنهم زوار الله وأضيافه ولا ينبغي للكريم أن يجوع أضيافه وهذا المعنى يوجد في العيدين وأيام التشريق أيضا فإن الناس كلهم في ضيافه الله عز وجل لا سيما عيد النحر فإن الناس يأكلون من لحوم نسكهم أهل الموقف وغيرهم.

وأيام التشريق الثلاثة هي أيام عيد أيضا ولهذا بعث النبي صلى الله عليه وسلم من ينادي بمكة: أنها أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل فلا يصومن أحد وقد يجتمع في يوم واحد عيدان كما إذا اجتمع يوم الجمعة مع يوم عرفة أو يوم النحر فيزداد ذلك اليوم حرمة وفضلا لإجتماع عيدين فيه وقد كان ذلك اجتمع للنبي صلى الله عليه وسلم في حجته يوم عرفة فكان يوم الجمعة وفيه نزلت هذه الآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة: 3] .

وإكمال الدين في ذلك اليوم حصل من وجوه:

منها: أن المسلمين لم يكونوا حجوا حجة الإسلام بعد فرض الحج قبل ذلك ولا أحد منهم هذا قول أكثر العلماء أو كثير منهم فيكمل بذلك دينهم لاستكمالهم عمل أركان الإسلام كلها.

ومنها: أن الله تعالى أعاد الحج على قواعد إبراهيم عليه السلام ونفى الشرك وأهله فلم يختلط بالمسلمين في ذلك الموقف منهم أحد قال الشعبي: نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفة حين وقف موقف إبراهيم واضمحل الشرك وهدمت منار الجاهلية ولم يطف بالبيت عريان وكذا قال قتادة وغيره وقد قيل: إنه لم ينزل بعدها تحليل ولا ترحيم قاله أبو بكر بن عياش.

وأما إتمام النعمة فإنما حصل بالمغفرة فلا تتم النعمة بدونها كما قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [الفتح:2] وقال تعالى في آية الوضوء: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ

ص: 279

وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 6] ومن هنا استنبط محمد بن كعب القرظي بأن الوضوء يكفر الذنوب كما وردت السنة بذلك صريحا ويشهد له أيضا: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يدعو ويقول: أسألك تمام النعمة فقال له: تمام النعمة النجاة من النار ودخول الجنة فهذه الآية تشهد لما روي في يوم عرفة أنه يوم المغفرة والعتق من النار.

فيوم عرفة له فضائل متعددة.

منها: أنه يوم إكمال الدين وإتمام النعمة.

ومنها: أنه عيد لأهل الإسلام كما قاله عمر بن الخطاب وابن عباس فإن ابن عباس قال: نزلت في يوم عيدين يوم الجمعة ويوم عرفة وروي عن عمر أنه قال: وكلاهما بحمد الله لنا عيد خرجه ابن جرير في تفسيره ويشهد له حديث عقبة بن عامر المتقدم لكنه عيد لأهل الموقف خاصة ويشرع صيامه لأهل الأمصار عند جمهور العلماء وإن خالف فيه بعض السلف.

ومنها: أنها قد قيل: إنه الشفع الذي أقسم الله به في كتابه وأن الوتر يوم النحر وقد روي هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث جابر خرجه الإمام أحمد والنسائي في تفسيره وقيل: إنه الشاهد الذي أقسم الله به في كتابه فقال تعالى: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج:3] وفي المسند عن أبي هريرة مرفوعا وموقوفا: "الشاهد يوم عرفة والمشهود يوم الجمعة" وخرجه الترمذي مرفوعا وروي ذلك عن علي من قوله وخرج الطبراني من حديث أبي مالك الأشعري مرفوعا: "الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة" وعلى هذا فإذا وقع يوم عرفة في يوم الجمعة فقد اجتمع في ذلك اليوم شاهد ومشهود.

ومنها: أنه روي أنه أفضل الأيام خرجه ابن حبان في صحيحه من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل الأيام يوم عرفة" وذهب إلى ذلك طائفة من العلماء ومنهم من قال: يوم النحر أفضل الأيام لحديث عبد الله بن قرط عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أعظم الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم النفر" خرجه الإمام أحمد وأبو دواد والنسائي وابن حبان في صحيحه ولفظه: "أفضل الأيام".

ومنها: أنه روي عن أنس بن مالك أنه قال: كان يقال: يوم عرفة بعشرة آلاف يوم يعني في الفضل وقد ذكرناه في فضل العشر وروي عن عطاء قال: من صام يوم عرفة كان له كأجر ألفي يوم.

ومنها: أنه يوم الحج الأكبر عند جماعة من السلف منهم عمر وغيره.

ص: 280

وخالفهم آخرون وقالوا: يوم الحج الأكبر يوم النحر وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ومنها: أن صيامه كفارة سنتين وسنذكر الحديث في ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى.

ومنها: أنه يوم مغفرة الذنوب والتجاوز عنها والعتق من النار والمباهاة بأهل الموقف كما في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبيدا من النار من يوم عرفة وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟ " وفي المسند عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يباهي ملائكته عشية عرفة بأهل عرفة فيقول: انظروا إلى عبادي أتوني شعثا غبرا" وفيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يباهي بأهل عرفات يقول: انظروا إلى عبادي أتوني شعثا غبرا" وخرجه ابن حبان في صحيحه وخرج فيه أيضا من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا فيباهي بأهل الأرض أهل السماء فيقول: انظروا إلى عبادي شعثا غبرا ضاحين جاؤوا من كل فج عميق يرجون رحمتي ولم يروا عذابي فلم ير أكثر عتيقا من النار من يوم عرفة" وخرجه ابن منده في كتاب التوحيد ولفظه: "إذا كان يوم عرفة ينزل الله إلى سماء الدنيا فيباهي بهم الملائكة فيقول: انظروا إلى عبادي أتوني شعثا غبرا من كل فج عميق أشهدكم أني قد غفرت لهم فتقول الملائكة: يا رب فلان مرهق فيقول: قد غفرت لهم فما من يوم أكثر عتيقا من النار من يوم عرفة" وقال: إسناد حسن متصل انتهى ورويناه من وجه آخر بزيادة فيه وهي: "أشهدكم يا عبادي أني قد غفرت لمحسنهم وتجاوزت عن مسيئهم".

ورويناه من رواية إسماعيل بن رافع ـ وفيه مقال ـ عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يهبط الله إلى السماء الدنيا عشية عرفة ثم يباهي بكم الملائكة فيقول: هؤلاء عبادي جاؤوني شعثا من كل فج عميق يرجون رحمتي ومغفرتي فلو كانت ذنوبهم كعدد الرمل لغفرتها أفيضوا عبادي مغفورا لكم ولمن شفعتم فيه" وخرجه البزار في مسنده بمعناه من حديث مجاهد عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: لا نعلم له طريقا أحسن من هذا الطريق وخرجه الطبراني وغيره من حديث عبد الله بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم مختصرا ورويناه من طريق الوليد بن مسلم قال: أخبرني أبو بكر بن أبي مريم عن الأشياخ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل يدنو إلى السماء الدنيا عشية فيقبل على ملائكته فيقول: ألا إن لكل وفد جائزة

ص: 281

وهؤلاء وفدي شعثا غبرا أعطوهم ما سألوا واخلفوا لهم ما أنفقوا حتى إذا كان عند غروب الشمس أقبل عليهم فقال: ألا إني قد وهبت مسيئكم لمحسنكم وأعطيت محسنكم ما سأل أفيضوا بسم الله".

وروى إبراهيم بن الحكم بن أبان حدثنا أبي حدثنا فرقد قال: إن أبواب السماء تفتح كل ليلة ثلاث مرات وفي ليلة الجمعة سبع مرات وفي ليلة عرفة تسع مرات وروينا من طريق نفيع أبي دواد عن ابن عمر مرفوعا وموقوفا: "إذا كان يوم عرفة لم يبق أحد في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا غفر له قيل له: أللمعروف خاصة أم للناس عامة؟ قال: بل للناس عامة" وخرج مالك في الموطأ من مراسيل طلحة بن عبيد الله بن كريز أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما رؤي الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه يوم عرفة وما ذاك إلا لما يرى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رؤي يوم بدر" قيل: وما رأى يوم بدر قال: "رأى جبريل عليه السلام وهو يزع الملائكة".

وروى أبو عثمان الصابوني بإسناد له عن رجل كان أسيرا ببلاد الروم فهرب من بعض الحصون قال: فكنت أسير بالليل وأكمن بالنهار فبينا أنا ذات ليلة أمشي بين جبال وأشجار إذا أنا بحس فراعني ذلك فنظرت فإذا راكب بعير فازددت رعبا وذلك لأنه لا يكون ببلاد الروم بعير فقلت: سبحان الله في بلاد الروم راكب بعير إن هذا لعجب فلما انته إلي قلت: يا عبد الله من أنت؟ قال: لا تسأل قلت: إني أرى عجبا! فأخبرني؟ فقال: لا تسأل فأبيت عليه فقال: أنا إبليس وهذا وجهي من عرفات رافقتهم عشية اليوم اطلع عليهم فنزلت عليهم المغفرة ووهب بعضهم لبعض فداخلني اللهم والحزن والكآبة وهذا وجهي إلى قسطنطينية انفرج بما أسمع من الشرك بالله وادعاء أن له ولدا فقلت: أعوذ بالله منك فلما قلت: هذا الكلمات لم أر أحدا.

ويشهد لهذه الحكاية حديث عباس بن مرداس الذي خرجه أحمد وابن ماجه في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأمته عشية عرفة ثم بالمزدلفة فأجيب فضحك صلى الله عليه وسلم وقال: "إن إبليس حين علم أن الله قد غفر لأمتي واستجاب دعائي أهوى يحثي التراب على رأسه ويدعو بالويل والثبور فضحكت من الخبيث من جزعه" ويروى عن علي بن موفق أنه وقف بعرفة في بعض حجاته فرأى كثرة الناس فقال: اللهم إن كنت لم تتقبل منهم أحدا فقد وهبته حجي فرأى رب العزة في منامه وقال له: يا ابن الموفق أتسخى علي قد غفرت لأهل الموقف ولأمثالهم وشفعت كل واحد منهم

ص: 282

في أهل بيته وذريته وعشيرته وأنا أهل التقوى وأنا أهل المغفرة ويروى نحوه عن غيره أيضا من الشيوخ.

فمن طمع في العتق من النار ومغفرة ذنوبه في يوم عرفة فليحافظ على الأسباب التى يرجى بها العتق والمغفرة فمنها: صيام ذلك اليوم ففي صحيح مسلم عن أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والتي بعده".

ومنها: حفظ جوراحه عن المحرمات في ذاك اليوم ففي مسند الإمام أحمد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يوم عرفة هذا يوم من ملك فيه سمعه وبصره ولسانه غفر له".

ومنها: الإكثار من شهادة التوحيد بإخلاص وصدق فإنها أصل دين الإسلام الذي أكلمه الله تعالى في ذلك اليوم وأساسه وفي المسند عن عبد الله بن عمر قال: كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد بيده الخير وهو على كل شيء قدير" وخرجه الترمذي ولفظه: "خير الدعاء دعاء يوم عرفة وخير ما قلت أنا والنبيون من قلبي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير" وخرجه الطبراني من حديث علي وابن عمر مرفوعا أيضا.

وخرج الإمام أحمد من حديث الزبير بن العوام قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بعرفة يقرأ هذه الآية: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران: 18] الآية ويقول: "وأنا على ذلك من الشاهدين يا رب" ويروى من حديث عبادة قال شهدت النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة فكان أكثر قوله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران: 18] الآية ثم قال: "أي رب وأنا أشهد" فتحقيق كلمة التوحيد يوجب عتق الرقاب وعتق الرقاب يوجب العتق من النار كما ثبت في الصحيح: أن من قالها مائة مرة كان له عدل عشر رقاب وثبت أيضا: أن من قالها عشر مرات كان كمن اعتق أربعة من ولد إسماعيل.

وفي سنن أبي دواد وغيره عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قال حين يصبح أو يمسي: اللهم أني أصبحت أشهدك وأشهد حملة عرشك وملائكتك وجميع خلقك أنك أنت الله لا إله إلا أنت وأن محمدا عبدك ورسولك أعتق الله ربعه من النار ومن قالها مرتين أعتق الله نصفه من النار ومن قالها ثلاث مرات أعتق الله

ص: 283

ثلاثة أرباعه ومن قالها أربع مرار أعتقه الله من النار" ويروى من مراسيل الزهري: "من قال في يوم: عشرة آلاف مرة لا إله إلا الله وحده لا شريك له أعتقه الله من النار كما أنه لو جاء بدية من قتله عشرة آلاف قبلت منه".

ومنها: أن يعتق رقبة إن أمكنه فإن من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار كان حكيم بن حزام رضي الله عنه يقف بعرفة ومعه مائة بدنة مقلدة ومائة رقبة فيعتق رقيقه فيضج الناس بالبكاء والدعاء ويقولون: ربنا هذا عبدك قد أعتق عبيده ونحن عبيدك فاعتقنا وجرى للناس مرة مع الرشيد نحو هذا وكان أبو قلابة يعتق جارية في عيد الفطر يرجو أن يعتق بذلك من النار.

ومنها: كثرة الدعاء بالمغفرة والعتق فإنه يرجى إجابة الدعاء فيه روى ابن أبي الدنيا بإسناده عن علي قال: ليس في الأرض يوم إلا لله فيه عتقاء من النار وليس يوم أكثر فيه عتقا للرقاب من يوم عرفة فأكثر فيه أن تقول: اللهم أعتق رقبتي من النار وأوسع لي من الرزق الحلال واصرف عني فسقة الجن والإنس فإنه عامة دعائي اليوم.

وليحذر من الذنوب التي تمنع المغفرة فيه والعتق:

فمنها: الإختيال روينا من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما يري يوم أكثر عتيقا ولا عتيقة من يوم عرفة لا يغفر الله فيه لمختال" وخرجه البزار والطبراني وغيرهما والمختال هو المتعاظم في نفسه المتكبر قال الله تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 23] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينظر إلى جر ثوبه خيلاء".

ومنها: الإصرار على الكبائر روى جعفر السراج بإسناده عن يونس بن عبد الأعلى أنه حج سنة فرأى أمير الحاج في منامه: أن الله قد غفر لأهل الموسم سوى رجل فسق بغلام فأمر بالنداء بذلك في الموسم وروى ابن أبي الدنيا وغيره أن رجلا رأى في منامه أن الله قد غفر لأهل الموقف كلهم إلا رجلا من أهل بلخ فسأل عنه حتى وقع عليه فسأله عن حاله فذكر أنه كان مدمنا لشرب الخمر ليلة وهو سكران فعاتبته أمه وهي تسجر تنور فاحتملها فألقاها فيه حتى احترقت يا من يطمع في العتق من النار ثم يمنع نفسه الرحمة بالإصرار على كبائر الإثم والأوزار تالله نصحت نفسك ولا وقف في طريقك غيرك توبق نفسك بالمعاصي فإذا حرمت المغفرة قلت: إني هذا: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165] .

ص: 284

فنفسك لم ولا تلم المطايا

ومت كمدا فليس لك اعتذار

إن كنت تطمع في العتق فاشتر نفسك من الله {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111] من كرمت عليه نفسه هان عليه كل ما يبذل في افتكاكها من النار.

اشترى بعض السلف نفسه من الله ثلاث مرار أو أربعا يتصدق كل مرة بوزن نفسه فضة واشترى عامر بن عبد الله بن الزبير نفسه من الله بدية ست مرات تصدق بها واشترى حبيب نفسه من الله بأربعين ألف درهم تصدق بها وكان أبو هريرة يسبح كل يوم اثني عشر ألف تسبيحة بقدر ديته يفتك بذلك نفسه.

بدم الحبيب يباع وصلهم

فمن الذي يبتاع في الثمن

من عرف ما يطلب هان عليه كل ما يبذل ويحك قد رضينا منك في فكاك نفسك بالندم وقنعنا منك في ثمنها بالتوبة والحزن وفي هذا الموسم قد رخص السعر من ملك سمعه وبصره ولسانه غفر له مد إليه يد الإعتذار وقم على بابه بالذل والإنكسار وارفع قصة ندمك مرقومة على صحيفة خدك بمداد الدموع والغزار وقل: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] قال يحيى بن معاذ: العبد يوحش ما بينه وبين سيده بالمخالفات ولا يفارق بابه بحال لعلمه بأن عز العبد في ظل مواليهم وأنشأ يقول:

قرة عيني لا بد لي منك وإن

أوحش بيني وبينك الزلل

قرة عيني أنا الغريق فخذ

كف غريق عليك يتكل

كانت أحوال الصادقين في الموقف بعرفة تتنوع: فمنهم: من كان يغلب عليه الخوف أو الحياء وقف مطرف بن عبد الله بن الشخير وبكر المزني بعرفة فقال أحدهم: اللهم لا ترد أهل الموقف من أجلي وقال الآخر: ما أشرفه من موقف وأرجاه لأهله لولا أني فيهم وقف الفضيل بعرفة والناس يدعون وهو يبكي بكاء الثكلى المحترقة قد حال البكاء بينه وبين الدعاء فلما كادت الشمس أن تغرب رفع رأسه إلى السماء وقال: واسوأتاه منك وإن عفوت وقال الفضيل أيضا لشعيب بن حرب بالموسم: إن كنت تظن أنه شهد الموقف أحد شرا مني ومنك فبئس ما ظننت دعا بعض العارفين بعرفة فقال: اللهم إن كنت لم تقبل حجي وتعبي ونصبي فلا تحرمني أجر المصيبة على تركك القبول مني وقف بعض.

ص: 285

الخائفين بعرفة إلى أن قرب غروب الشمس فنادى الأمان فقد دنا الإنصراف فليت شعري ما صنعت في حاجة المساكين.

وإني من خوفكم والرجا

أرى الموت والعيش منكم عيانا

فمنوا على تائب خائف

أتاكم ينادي الأمان الأمانا

إذا طلب الأسير من الملك الكريم أمنه أمنه.

الأمان الأمان وزري ثقيل

وذنوبي إذا عددن تطول

أوبقتني وأوثقتني ذنوبي

فترى لي إلى الخلاص سبيل

وقف بعض الخائفين بعرفة فمنعه الحياء من الدعاء فقيل له: لم لا تدعو؟ فقال: ثم وحشة فقيل له: هذا يوم العفو عن الذنوب فبسط يديه ووقع ميتا.

جز أيها الحادي إلى نعمان

فاستذكرت عهدا لها بالبان

فسألت الروح من الأجفان

تشوقا إلى الزمان الفاني

غيره:

قد لج من الغرام حتى قالوا

قد جن فيهم وهكذا البلبال

الموت إذا رضيته سلسال

في مثل هواك ترخص الآجال

وقف بعض الخائفين بعرفات وقال: إلهي الناس يتقربون إليك بالبدن وأنا أتقرب إليك بنفسي ثم خر ميتا.

للناس حج ولي حج إلى سكني

تهدي الأضاحي وأهدي مهجتي ودم

ما يرضى المحبون لمحبوبهم بإراقة دماء الهديا وإنما يهدون له الأرواحا.

أرى موسم الأعياد أنس الحبائب

وما العبد عندي غير قرب الحبائب

إذا قربوا بدنا فقرباني الهوى

فإن قبلوا قلبي وإلا فقالبي

وما بدم الأنعام أقضي حقوقهم

ولكن بما بين الحشا والترائب

كان أبو عبيدة الخواص قد غلب عليه الشوق والقلق حتى يضرب على صدره في الطريق ويقول: واشوقاه إلى من يراني ولا أراه وكان بعد ما كبر يأخذ بلحيته ويقول: يا رب قد كبرت فاعتقني ورؤي بعرفة وقد ولع به الوله وهو يقول:

سبحان من لو سجدنا بالعيون له

على حمى الشوك والمحمى من الإبر

ص: 286

لم نبلغ العشر من معاشر نعمته

ولا العشير ولا عشرا من العشر

هو الرفيع فلا الأبصار تدركه

سبحنه من مليك نافذ القدر

سبحان من هو أنسى إذا خلوت به

في جوف ليلي وفي الظلماء والسحر

أنت الحبيب وأنت الحب يا أملي

من لي سواك ومن أرجوه يا ذخر

ومن العارفين من إن بالموقف يتعلق بأذيال الرجاء قال ابن المبارك:

جئت إلى سفيان الثوري عشية عرفة وهو جاث على ركبتيه وعيناه تهملان فقلت له: من أسوأ هذا الجمع حالا؟ قال: الذي يطن أن الله لا يغفر لهم وروي عن الفضيل أنه نظر إلى تسبيح الناس وبكائهم عشية عرفة فقال: أرأيتم لو أن هؤلاء ساروا إلى رجل فسألوا دانقا ـ يعني سدس درهم ـ أكان يردهم قالوا: لا قال: والله للمغفرة عند الله أهون من إجابة رجل لهم بدانق.

وإني لأدعو الله أطلب عفوه

واعلم أن الله يعفو ويغفر

لئن أعظم الناس الذنوب فإنها

وإن عظمت في رحمة الله تصغر

وعما قليل تقف إخوانكم بعرفة في ذلك الموقف فهنيئا لمن رزقه يجاورن إلى الله بقلوب محترقة ودموع مستبقة فكم فيهم من خائف أزعجه الخوف وأقلقه ومحب ألهبه الشوق وأحرقه وراج أحسن الظن بوعد الله وصدقه وتائب نصح لله في التوبة وصدقه وهارب لجأ إلى باب الله وطرقه فكم هنالك من مستوجب للنار أنقذه الله وأعتقه ومن أسير للأوزار فكه وأطلقه وحينئذ يطلع عليهم أرحم الرحماء ويباهي بجمعهم أهل السماء ويدنو ثم يقول: ما أراد هؤلاء؟ لقد قطعنا عند وصولهم الحرمان وأعطاهم نهاية سؤلهم الرحمن وهو الذي أعطى ومنع ووصل وقطع.

ما أصنع هكذا جرى المقدور

الجبر لغيري وأنا المكسور

أسير ذنب مقيد مأسور

هل يمكن أن يبدل المسطور

من فاته في هذا العام القيام بعرفة فليقم لله بحقه الذي عرفه من عجز عن المبيت بمزدلفة فليبت عزمه على طاعة الله وقد قربه وأزلفه من لم يمكنه القيام بأرجاء الخيف فليقم لله بحق الرجاء والخوف من لم يقدر على نحر هديه بمنا فليذبح هواه هنا وقد بلغ المنا من لم يصل إلى البيت لأنه منه بعيد فليقصد رب البيت فإنه أقرب إلى من دعاه ورجاه من حبل الوريد.

ص: 287