المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌وظيفة شهر ذي القعدة - لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف - ط ابن حزم

[ابن رجب الحنبلي]

فهرس الكتاب

- ‌مجلس في فضل التذكير بالله تعالى ومجالس الوعظ

- ‌وظائف شهر الله المحرم

- ‌المجلس الأول: في فضل شهر الله المحرم وعشره الأول

- ‌الفصل الأول: في أفضل التطوع بالصيام

- ‌الفصل الثاني: في فضل قيام الليل

- ‌المجلس الثاني في يوم عاشوراء

- ‌المجلس الثالث في قدوم الحاج

- ‌وظيفة شهر صفر

- ‌وظائف شهر ربيع الأول

- ‌المجلس الأول في ذكر مولد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌المجلس الثاني في ذكر المولد أيضا

- ‌المجلس الثالث في ذكر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌وظيفة شهر رجب

- ‌وظائف شهر شعبان

- ‌المجلس الأول: في صيامه

- ‌المجلس الثاني في نصف شعبان

- ‌المجلس الثالث في صيام آخر شعبان

- ‌وظائف شهر رمضان المعظم

- ‌المجلس الأول: في فضل الصيام

- ‌المجلس الثاني في فضل الجود في رمضان وتلاوة القرآن

- ‌المجلس الثالث في ذكر العشر الأوسط من شهر رمضان وذكر نصف الشهر الأخير

- ‌المجلس الرابع في ذكر العشر الأواخر من رمضان

- ‌المجلس الخامس في ذكر السبع الأواخر من رمضان

- ‌المجلس السادس في وداع رمضان

- ‌وظائف شوال

- ‌المجلس الأول: في صيام شوال كله وإتباع رمضان بصيام ستة أيام من شوال

- ‌المجلس الثاني في ذكر الحج وفضله والحث عليه

- ‌المجلس الثالث فيما يقوم مقام الحج والعمرة عند العجز عنهما

- ‌وظيفة شهر ذي القعدة

- ‌وظائف شهر ذي الحجة

- ‌المجلس الأول: في فضل عشر ذي الحجة

- ‌الفصل الأول: في فضل العمل فيه

- ‌الفصل الثاني: في فضل عشر ذي الحجة على غيره من أعشار الشهور

- ‌المجلس الثاني في يوم عرفة مع عيد النحر

- ‌المجلس الثالث في أيام التشريق

- ‌المجلس الرابع في ختام العام

- ‌فصل ـ ويلتحق بوظائف شهور السنة الهلالية وظائف فصول السنة الشمسية

- ‌المجلس الأول: في ذكر فصل الربيع

- ‌المجلس الثاني في ذكر فصل الصيف

- ‌المجلس الثالث في ذكر فصل الشتاء

- ‌مجلس في ذكر التوبة والحث عليها قبل الموت وختم العمر بها والتوبة وظيفة العمر وهي خاتمة مجالس الكتاب

الفصل: ‌وظيفة شهر ذي القعدة

إخواني إن حبستم العام عن الحج فارجعوا إلى جهاد النفوس فهو الجهاد الأكبر أو أحصرتم عن أداء النسك فأريقوا على تخلفكم من الدموع ما تيسر فإن إراقة الدماء لازمة للمحصر ولا تحلقوا رؤوس أديانكم بالذنوب فإن الذنوب حالقة الدين ليست حالقة الشعر وقوموا لله باستشعار الرجاء والخوف مقام القيام بأرجاء الخيف والمشعر ومن كان قد بعد عن حرم الله فلا يبعد نفسه بالذنوب عن رحمة الله فإن رحمة الله قريب ممن تاب إليه واستغفر ومن عجز عن حج البيت أو البيت منه بعد فليقصد رب البيت فإنه ممن دعاه ورجاه أقرب من حبل الوريد.

إليك قصدي رب البيت والحجر

فأنت سؤالي من حجي ومن عمري

وفيك سعيي وتطوافي ومزدلفي

والهدي جسمي الذي يغني عن الجزي

ومسجد الخيف خوفي من تباعدكم

ومشعري ومقامي دونكم خطري

زادي رجائي لكم والشوق راحلتي

والماء من عبراتي والهوى سفري

ص: 252

‌وظيفة شهر ذي القعدة

.

خرج الإمام أحمد بإسناده عن رجل من باهلة قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة مرة فقال: " من أنت؟ " قلت: أما تعرفني؟ قال: "ومن أنت؟ " قلت: أنا الباهلي الذي أتيتك عام أول فقال: " إنك أتيتني وجسمك ولونك وهيئتك حسنة فما بلغ بك وما أرى"؟ قلت: والله ما أفطرت بعدك إلا ليلا قال: "من أمرك أن تعذب نفسك من أمرك أن تعذب نفسك"؟ ـ ثلاث مرات ـ "صم شهر الصبر" قلت: إني أجد قوة وإني أحب أن تزيدني قال: "صم يوما من الشهر" قلت: إني أجد قوة وإني أحب أن تزيدني قال: "فيومين من الشهر" قلت: إني أجد قوة وإني أحب أن تزيدني قال: "ثلاثة أيام من الشهر" قال: ألح عند الرابعة فما كاد فقلت: إني أجد قوة وإني أحب أن تزيدني قال: " فمن الحرم وأفطر" وخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه بمعناه وفي ألفاظهم زيادة ونقص وفي بعض الروايات: "صم الحرم وأفطر".

في هذا الحديث دليل على أن من تكلف من العبادة ما يشق عليه حتى تأذى

ص: 252

بذلك جسده فإنه غير مأمور بذلك ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم له: "من أمرك أن تعذب نفسك" وأعادها عليه ثلاث مرار وهذا كما قاله لمن رآه يمشي في الحج وقد أجهد نفسه: "إن الله لغني عن تعذيب هذا نفسه فمروه فليركب".

وقال لعبد الله بن عمرو بن العاص حيث كان يصوم النهار ويقوم الليل ويختم القرآن في كل ليلة ولا ينام مع أهله فأمره: أن يصوم ويفطر ويقرأ القرآن في كل سبع وقال له "إن لنفسك عليك حقا وإن لأهلك عليك حقا فآت كل ذي حق حقه" ولما بلغه عن بعض الصحابة أنه قال: أنا أصوم ولا أفطر وقال آخر منهم: أنا أقوم ولا أنام وقال آخر منهم: لا أتزوج النساء فخطب وقال: "ما بال رجال يقولون: كذا وكذا: لكني أصوم وأفطر وأقوم وأنام وآكل اللحم وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني" وسبب هذا: أن الله تعالى خلق ابن آدم محتاجا إلى ما يقوم به بدنه من مأكل ومشرب ومنكح وملبس وأباح له من ذلك كله ما هو طيب حلال تقوى به النفس ويصح به الجسد ويتعاونان على طاعة الله عز وجل وحرم من ذلك ما هو ضار خبيث يوجب للنفس طغيانها وعماها وقسوتها وغفلتها وأشرها وبطرها فمن أطاع نفسه في تناول ما تشتهيه مما حرمه الله عليه فقد تعدى وطغى وظلم نفسه ومن منعها حقها من المباح حتى تضررت بذلك فقد ظلمها ومنعها حقها فإن كان ذلك سببا لضعفها وعجزها عن أداء شيء من فرائض الله عليه وحقوق الله عز وجل أو حقوق عباده كان بذلك عاصيا وأن كان ذلك سببا للعجز عن نوافل هي أفضل مما فعله كان بذلك مفرطا مغبونا خاسرا.

وقد كان رجل في زمن التابعين يصوم ويواصل حتى يعجز عن القيام فكان يصلي الفرض جالسا فأنكروا ذلك عليه حتى قال عمرو بن ميمون: لو أدرك هذا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لرجموه وكان ابن مسعود يقل الصيام ويقول: إنه يضعفني عن قراءة القرآن وقراءة القرآن أحب إلي.

وأحرم رجل من الكوفة فقدم مكة وقد أصابه الجهد فرآه عمر بن الخطاب وهو سيء الهيئة فأخذ عمر بيده وجعل يدور به الحلق ويقول للناس: انظروا إلى ما يصنع هذا بنفسه وقد وسع الله عليه فمن تكلف من التطوع ما يتضرر به في جسمه كما فعل هذا الباهلي أو يمنع به حقا واجبا عليه كما فعل عبد الله بن عمرو بن العاص وغيره ممن عزم على ترك المباحات في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فإنه ينهى عن ذلك ومن احتمل بدنه ذلك ولم يمنعه من حق واجب عليه لم ينه عن ذلك

ص: 253

إلا أن يمنعه عما هو أفضل من ذلك من النوافل فإنه يرشد إلى عمل الأفضل وأحوال الناس تختلف فيما تحمل أبدانهم من العمل.

كان سفيان الثوري يصوم ثلاثة أيام من الشهر فيرى أثر ذلك عليه وكان غيره في زمنه يصوم الدهر فلا يظهر عليه أثره وكان كثير من المتقدمين يحملون على أنفسهم من الأعمال ما يضر بأجسادهم ويحتسبون أجر ذلك عند الله وهؤلاء قوم أهل صدق وجد واجتهاد فيحثون على ذلك ولكن لا يقتدى بهم وإنما يقتدى بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن خير الهدي هديه ومن أطاعه فقد اهتدى ومن اقتدى به وسلك وراءه وصل إلى الله عز وجل.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن التعسير ويأمر بالتيسير ودينه الذي بعث به يسر وكان يقول: "خير دينكم أيسره" ورأى رجلا يكثر الصلاة فقال: "إنكم أمة أريد بكم اليسر" ولم يكن أكثر تطوع النبي صلى الله عليه وسلم وخواص أصحابه بكثرة الصوم والصلاة بل ببر القلوب وطهارتها وسلامتها وقوة تعلقها بالله خشية له ومحبة وإجلالا وتعظيما ورغبة فيما عنده وزهدا فيما يفنى وفي المسند عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إني أعلمكم بالله وأتقاكم له قلبا" قال ابن مسعود رضي الله عنه لأصحابه: أنتم أكثر صلاة وصياما من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وهم كانوا خيرا منكم قالوا: ولم؟ قال: كانوا أزهد منكم في الدنيا وأرغب في الآخرة وقال بكر المزني: ما سبقهم أبو بكر بكثرة صيام ولا صلاة ولكن بشيء وقر في صدره قال بعض العلماء المتقدمين: الذي وقر في صدره هو حب الله والنصيحة لخلقه وسئلت فاطمة بنت عبد الملك زوجة عمر بن عبد العزيز بعد وفاته عن عمله؟ فقالت: والله ما كان بأكثر الناس صلاة ولا بأكثرهم صياما ولكن والله ما رأيت أحدا أخوف لله من عمر لقد كان يذكر الله في فراشه فينتفض انتفاض العصفور من شدة الخوف حتى نقول: ليصبحن الناس ولا خليفة لهم.

قال بعض السلف: ما بلغ من بلغ عندنا بكثرة صلاة ولا صيام ولكن بسخاوة النفوس وسلامة الصدور والنصح للأمة وزاد بعضهم واحتقار أنفسهم وذكر لبعضهم شدة اجتهاد بني إسرائيل في العبادة فقال: إنما يريد الله منكم صدق النية فيما عنده فمن كان بالله أعرف فله أخوف وفيما عنده أرغب فهو أفضل ممن دون في ذلك وإن كثر صومه وصلاته وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: يا حبذا نوم الأكياس وفطرهم كيف يسبق سهر الجاهلين وصيامهم ولهذا المعنى كان فضل العلم النافع الدال على معرفة الله وخشيته ومحبته ومحبة ما يحبه وكراهة ما يكرهه.

ص: 254

لا سيما عند غلبة الجهل والتعبد به أفضل من التطوع بأعمال الجوارح قال ابن مسعود رضي الله عنه: أنتم في زمان العمل فيه أفضل من العلم وسيأتي زمان العلم فيه أفضل من العمل وقال مطرف: فضل العلم أحب إلي من فضل العبادة وخير دينكم الورع وخرجه الحاكم وغيره مرفوعا ونص كثير من الأئمة على: أن طلب العلم أفضل من صلاة النافلة وكذلك الإشتغال بتطهير القلوب أفضل من الإستكثار من الصوم والصلاة مع غش القلوب ودغلها ومثل من يستكثر من الصوم والصلاة مع دغل القلب وغشه كمثل من بذر بذرا في أرض دغلة كثيرة الشوك فلا يزكو ما ينبت فيها من الزرع بل يمحقه دغل الأرض ويفسده فإذا نظفت الأرض من دغلها زكى ما ينبت فيها ونما قال يحيى بن معاذ: كم من مستغفر ممقوت وساكت مرحوم هذا استغفر وقلبه فاجر وهذا سكت وقلبه ذاكر وقال غيره: ليس الشأن فيمن يقوم الليل إنما الشأن فيمن ينام على فراشه ثم يصبح وقد سبق الركب من سار على طريق الرسول صلى الله عليه وسلم ومنهاجه وإن اقتصد فإنه يسبق من سار على غير طريقه وإن اجتهد.

من لي بمثل سيرك المذلل

تمشي رويدا وتجيء في الأول

والمقصود أن هذا الباهلي لما رآه النبي صلى الله عليه وسلم وقد أنهكه الصوم وغير هيئته وأضر به في جسده أمره: أولا: أن يقتصر على صيام شهر الصبر وهو شهر رمضان فإنه الشهر الذي افترض الله صيامه على المسلمين واكتفى منهم بصيامه من السنة كلها وصيامه كفارة لما بين الرمضانين إذا اجتنبت الكبائر فطلب منه الباهلي أن يزيده من الصيام ويأمره بالتطوع وأخبره أنه يجد قوة على الصيام فقال له: "صم يوما من الشهر" فاستزاده وقال: إني أجد قوة فقال: "صم يومين من الشهر" فاستزاده وقال: إني أجد قوة فقال "صم ثلاثة أيام من الشهر" قال: وألح عند الثالثة فما كاد يعني ما كاد يزيده على الثلاثة أيام من الشهر وهكذا قال لعبد الله بن عمرو بن العاص أيضا ففي صحيح مسلم عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "صم يوما من الشهر ولك أجر ما بقي" قال: إني أطيق أكثر من ذلك قال: "صم يومين ولك أجر ما بقي" قال: إني أطيق أكثر من ذلك قال: "صم ثلاثة أيام ولك أجر ما بقي" ففي هذا: أن صيام ثلاثة أيام من الشهر يحصل به أجر صيام الشهر كله وكذلك صيام يومين منه ووجه ذلك أن الصيام يضاعف ما لا يضاعف غيره من الأعمال وقد سبق ذكر ذلك عند الكلام على حديث: "كل عمل ابن آدم

ص: 255

له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال الله عز وجل: إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به" فالصيام لا يعلم منتهى مضاعفته إلا الله عز وجل وكلما قوي الإخلاص فيه وإخفاؤه وتنزيهه من المحرمات والمكروهات كثرت مضاعفته فلا يستنكر أن يصوم الرجل يوما من الشهر فيضاعف له بثواب ثلاثين يوما فيكتب له صيام الشهر كله وكذلك إذا صام يومين من الشهر وأما إذا صام منه ثلاثة أيام فهو ظاهر لأن الحسنة بعشر أمثالها.

وخرج الترمذي والنسائي عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صام كل شهر ثلاثة أيام كان كمن صام الدهر" فأنزل الله عز وجل تصديق ذلك: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] اليوم بعشرة أيام وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صم من الشهر ثلاثة أيام فإن الحسنة بعشر أمثالها وذلك مثل صيام الدهر" وفي رواية فيهما أيضا: "إن بحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام فإن لك بكل حسنة عشر أمثالها فإن ذلك صيام الدهر كله".

وفي المسند عن قرة المزني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر وإفطاره" يعني صيامه في مضاعفة الله وإفطاره في رخصة الله كما كان أبو هريرة رضي الله عنه وأبو ذر يقولان ذلك وكانا يصومان ثلاثة أيام من كل شهر ويقولان في سائر أيام الشهر نحن صيام ويتأولان لأنهما صيام في مضاعفة الله وهما مفطران في رخصة الله وقد وصى النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من أصحابه بصيام ثلاثة أيام من كل شهر منهم: أبو هريرة رضي الله عنه وأبو الدرداء وأبو ذر وغيرهم.

وفي المسند أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في صيام ثلاثة أيام من كل شهر: "هو صوم حسن" وفيه أيضا عن أبي ذر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "صوم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر ويذهب مغلة الصدر قلت: وما مغلة الصدر؟ قال: رجس الشيطان" وفيه أيضا عن رجل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صيام شهر الصبر وثلاثة من كل شهر يذهبن كثيرا من وحر الصدر" وفي غير هذه الرواية: "وغر الصدر" وهما بمعنى واحد يقال: وحر صدره ووغر: إذا كان فيه غل وغش وقيل: الوحر الغل والوغر الغيظ وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى صيام ثلاثة أيام من كل شهر وكذلك كان إبراهيم عليه السلام كما خرجه ابن ماجه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه مرفوعا: "صيام إبراهيم ثلاثة أيام من كل شهر صام الدهر وأفطر الدهر" وفي السنن عن حفصة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم

ص: 256

كان يصوم العشر وعاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر وفي إسناده اختلاف وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر قيل لها من أيه كان يصوم؟ قالت: كان لا يبالي من أيه صام ففي هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يبالي من أي الشهر صام الأيام الثلاثة.

وقد روي في صفة صيام النبي صلى الله عليه وسلم للأيام الثلاثة من الشهر أنواع أخر:

أحدها: ما خرجه الترمذي من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من الشهر السبت والأحد والإثنين ومن الشهر الآخر الثلاثاء والأربعاء والخميس وقال حديث حسن وذكر أن بعضهم رواه موقوفا يعني من قول عائشة رضي الله عنها غير مرفوع.

الثاني: ما خرجه أبو داود وغيره من حديث حفصة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر الإثنين والخميس والإثنين من الجمعة الأخرى فعلى هذه الرواية كان النبي صلى الله عليه وسلم يجعلها من أول الشهر ولا يوالي بينها بل كان يتحرى بها يوم الإثنين مرتين والخميس مرة.

الثالث: عكس الثاني خرجه النسائي من حديث حفصة أيضا: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم من كل شهر ثلاثة أيام أول اثنين من الشهر ثم الخميس ثم الخميس الذي يليه.

وفي رواية له أيضا: أول اثنين من الشهر وخميسين وخرج أبو داود من حديث أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم معنى ذلك وفي رواية في المسند: الإثنين والجمعة والخميس وكأنها غير محفوظة فإن كانت محفوظة فهي نوع رابع.

والنوع الخامس: ما خرجه أبو داود والنسائي والترمذي من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم من غرة كل شهر ثلاثة أيام وحسنه الترمذي وذكر أن بعضهم لم يرفعه يعني وقفه على ابن مسعود وظاهر هذا أنه كان يوالي بين الأيام الثلاثة من أول كل شهر.

والنوع السادس: أنه كان يصوم أيام البيض فخرج النسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يدع صيام أيام البيض في حضر ولا سفر وخرج الترمذي والنسائي عن أبي ذر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بصيام أيام البيض: ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة وفي السنن الأربعة خلا الترمذي عن قتادة بن ملحان عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه وخرج النسائي من حديث جابر البجلي عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه أيضا.

ص: 257

وقد روي عن الحسن: أنه كان يصوم خمسة أيام من أول الشهر ويقول: ما يدريني لعلي لا أدرك البيض وفي كتاب مناقب الحسن لأبي حيان التوحيدي: أن رجلا سأل الحسن لأي شيء استحب صيام الأيام البيض؟ فلم يدر ما يقول فقال أعرابي عنده: لأن القمر ينكسف في لياليهن فيكون الناس عند حدوث الآيات على عبادة فقال الحسن: خذوها من غير فقيه.

وفي حديث الباهلي أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: إني أجد قوة وإني أحب أن تزيدني فقال له: "فمن الحرم وأفطر" وفي رواية: "صم الحرم وأفطرط وفي رواية قال: "صم الأشهر الحرم" فهذا دليل على فضل صيام الأشهر الحرم الأربعة التي ذكرها الله تعالى في كتابه بقوله: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36] وقد فسرها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي بكرة ـ بأنها ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم وشهر رجب وقد ذكرناه في وظيفة شهر رجب وذكرنا عن ابن عباس رضي الله عنهما أن العمل الصالح والأجر في هذه الحرم أعظم وذكرنا في وظائف المحرم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله الذي تدعونه المحرم" وسيأتي في وظائف ذي الحجة ذكر فضل صيام عشر ذي الحجة إن شاء الله وقد كان كثير من السلف يصوم الأشهر الحرم كلها روي ذلك عن ابن عمر والحسن البصري وأبي إسحاق السبيعي.

وقال سفيان الثوري: الأشهر الحرم أحب إلي أن يصام منها وروى خلاد الصفار عن أبي مسلم قال: صيام يوم من أشهر الحج أو قال أشهر الحرم يعدل شهرا وصيام يوم من غير الأشهر الحرم يعدل عشرا وروي عن النخعي نحوه لكنه قال: من المحرم فيحتمل أنه أراد جنس الأشهر المحرمة وروي معناه مرفوعا من حديث أنس وإسناده ضعيف جدا ويروى بإسناد مجهول عن أنس مرفوعا: "من صام من شهر حرام الخميس والسبت كتب الله له عبادة تسعمائة سنة" وقال كعب: اختار الله الزمان فأحبه إليه الأشهر الحرم ويروى من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا ولا يصح.

وعن قيس بن عبادة أنه قال: ليس في الأشهر الحرم شهر إلا في اليوم العاشر منه خير قال: ففي الحجة في العاشر النحر يوم الحج الأكبر وفي المحرم العاشر عاشوراء وفي العاشر من رجب {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39] قال الراوي: ونسيت ما قال في ذي القعدة.

وقد تقدم في ذكر وظيفة رجب أنه روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه

ص: 258

ذكر من عجائب الدنيا بأرض عاد عمود من نحاس عليه شجرة من نحاس فإذا كان في الأشهر الحرم قطر منها الماء فملؤوا منه حياضهم وسقوا مواشيهم وزروعهم فإذا ذهبت الأشهر الحرم انقطع الماء.

وذو القعدة من الشهر الحرم بغير خلاف وهو أول الأشهر الحرم المتوالية وهل هو أول الحرم مطلقا أم لا؟ فيه خلاف ذكرناه في وظيفة رجب وهو أيضا من أشهر الحج التي قال الله تعالى فيها: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] وقيل: إن تحريم ذي القعدة كان في الجاهلية لأجل السير إلى الحج وسمي ذا القعدة لقعودهم فيه عن القتال وتحريم المحرم لرجوع الناس فيه من الحج إلى بلادهم وتحريم ذي الحجة لوقوع حجهم فيه وتحريم رجب كان للإعتمار فيه من البلاد القريبة.

ومن خصائص ذي القعدة أن عمر النبي صلى الله عليه وسلم كلها كانت في ذي القعدة سوى عمرته التي قرنها بحجته مع أنه صلى الله عليه وسلم أحرم بها أيضا في ذي القعدة وفعلها في ذي الحجة مع حجته وكانت عمره صلى الله عليه وسلم أربعا: عمرة الحديبية ولم يتمها بل تحلل منها ورجع وعمرة القضاء من قابل وعمرة الجعرانة عام الفتح لما قسم غنائم حنين وقيل: إنها كانت في آخر شوال والمشهور أنها كانت في ذي القعدة وعليه الجمهور وعمرته في حجة الوداع كما دلت عليه النصوص الصحيحة وعليه جمهور العلماء أيضا.

وقد روي عن طائفة من السلف منهم ابن عمر وعائشة وعطاء تفضيل عمرة ذي القعدة وشوال على رمضان لأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر في ذي القعدة وفي أشهر الحج حيث يجب عليه الهدي إذا حج من عامه لأن الهدي زيادة نسك فيجتمع نسك العمرة مع نسك الهدي ولذي القعدة فضيلة أخرى وهي أنه قد قيل: إنه الثلاثون يوما الذي واعد الله فيه موسى عليه السلام قال ليث عن مجاهد في قوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142] قال ذو القعدة {وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} [الأعراف: 142] قال عشر ذي الحجة.

يا من لا يقلع عن ارتكاب الحرام لا في شهر حلال ولا في شهر حرام يا من هو في الطاعات إلى وراء وفي المعاصي إلى قدام يا من هو في كل يوم من عمره شرا مما كان في قبله من الأيام متى تستفيق من هذا المنام متى تتوب من هذا الإجرام يا من أنذره الشيب بالموت وهو مقيم على الآثام أما كفاك واعظ الشيب مع واعظ القرآن والإسلام الموت خير لك من الحياة على هذه الحال والسلام.

ص: 259