المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مجلس في ذكر التوبة والحث عليها قبل الموت وختم العمر بها والتوبة وظيفة العمر وهي خاتمة مجالس الكتاب - لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف - ط ابن حزم

[ابن رجب الحنبلي]

فهرس الكتاب

- ‌مجلس في فضل التذكير بالله تعالى ومجالس الوعظ

- ‌وظائف شهر الله المحرم

- ‌المجلس الأول: في فضل شهر الله المحرم وعشره الأول

- ‌الفصل الأول: في أفضل التطوع بالصيام

- ‌الفصل الثاني: في فضل قيام الليل

- ‌المجلس الثاني في يوم عاشوراء

- ‌المجلس الثالث في قدوم الحاج

- ‌وظيفة شهر صفر

- ‌وظائف شهر ربيع الأول

- ‌المجلس الأول في ذكر مولد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌المجلس الثاني في ذكر المولد أيضا

- ‌المجلس الثالث في ذكر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌وظيفة شهر رجب

- ‌وظائف شهر شعبان

- ‌المجلس الأول: في صيامه

- ‌المجلس الثاني في نصف شعبان

- ‌المجلس الثالث في صيام آخر شعبان

- ‌وظائف شهر رمضان المعظم

- ‌المجلس الأول: في فضل الصيام

- ‌المجلس الثاني في فضل الجود في رمضان وتلاوة القرآن

- ‌المجلس الثالث في ذكر العشر الأوسط من شهر رمضان وذكر نصف الشهر الأخير

- ‌المجلس الرابع في ذكر العشر الأواخر من رمضان

- ‌المجلس الخامس في ذكر السبع الأواخر من رمضان

- ‌المجلس السادس في وداع رمضان

- ‌وظائف شوال

- ‌المجلس الأول: في صيام شوال كله وإتباع رمضان بصيام ستة أيام من شوال

- ‌المجلس الثاني في ذكر الحج وفضله والحث عليه

- ‌المجلس الثالث فيما يقوم مقام الحج والعمرة عند العجز عنهما

- ‌وظيفة شهر ذي القعدة

- ‌وظائف شهر ذي الحجة

- ‌المجلس الأول: في فضل عشر ذي الحجة

- ‌الفصل الأول: في فضل العمل فيه

- ‌الفصل الثاني: في فضل عشر ذي الحجة على غيره من أعشار الشهور

- ‌المجلس الثاني في يوم عرفة مع عيد النحر

- ‌المجلس الثالث في أيام التشريق

- ‌المجلس الرابع في ختام العام

- ‌فصل ـ ويلتحق بوظائف شهور السنة الهلالية وظائف فصول السنة الشمسية

- ‌المجلس الأول: في ذكر فصل الربيع

- ‌المجلس الثاني في ذكر فصل الصيف

- ‌المجلس الثالث في ذكر فصل الشتاء

- ‌مجلس في ذكر التوبة والحث عليها قبل الموت وختم العمر بها والتوبة وظيفة العمر وهي خاتمة مجالس الكتاب

الفصل: ‌مجلس في ذكر التوبة والحث عليها قبل الموت وختم العمر بها والتوبة وظيفة العمر وهي خاتمة مجالس الكتاب

يا قليل المقام في هذه الدنيا

إلى كم يغرك التسويف

يا طالب الزائل حتى متى

قلبك بالزائل مشغوف

عجبا لامرىء يذل لذي الدنـ

ـيا ويكفيه كل يوم رغيف

ص: 334

‌مجلس في ذكر التوبة والحث عليها قبل الموت وختم العمر بها والتوبة وظيفة العمر وهي خاتمة مجالس الكتاب

.

خرج الإمام أحمد والترمذي وابن حبان في صحيحه من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر" وقال الترمذي حديث حسن دل هذا الحديث على قبول توبة الله عز وجل لعبده ما دامت روحه في جسده لم تبلغ الحلقوم والتراقي وقد دل القرآن على مثل ذلك أيضا قال الله عز وجل: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء:17] وعمل السوء إذا انفرد يدخل فيه جميع السيئات صغيرها وكبيرها والمراد بالجهالة الإقدام على السوء وإن علم صاحبه أنه سوء فإن كل من عصى الله فهو جاهل وكل من أطاعه فهو عالم وبيانه من وجهين:

أحدهما: أن من كان علما بالله تعالى وعظمته وكبريائه وجلاله فإنه يهابه ويخشاه فلا يقع منه مع استحضار ذلك عصيانه كما قال بعضهم: لو تفكر الناس في عظمة الله تعالى ما عصوه وقال آخر: كفى بخشية الله علما وكفى بالإغترار بالله جهلا.

والثاني: أن من آثر المعصية على الطاعة فإنما حمله على ذلك جهله وظنه أنها تنفعه عاجلا باستعجال لذتها وإن كان عنده إيمان فهو يرجو التخلص من سوء عاقبتها بالتوبة في آخر عمره وهذا جهل محض فإنه تعجل الإثم والخزي ويفوته عز التقوى وثوابها ولذة الطاعة وقد يتمكن من التوبة بعد ذلك وقد يعاجله الموت بغتة فهو كجائع أكل طعاما مسموما لدفع جوعه الحاضر ورجا أن يتخلص من ضرره بشرب الذرياق بعده وهذا لا يفعله إلا جاهل وقد قال تعالى

ص: 334

في حق الذين يؤثرون السحر: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 102، 103] والمراد أنهم آثروا السحر على التقوى والإيمان لما رجوا فيه من منافع الدنيا المعجلة مع علمهم أنهم يفوتهم بذلك ثواب الآخرة وهذا جهل منهم فإنهم لو علموا لآثروا الإيمان والتقوى على ما عداهما فكانوا يحرزون أجر الآخرة ويأمنون عقابها ويتعجلون عز التقوى في الدنيا وربما وصلوا إلى ما يأملونه في الدنيا أو إلى خير منه وأنفع فإن أكثر ما يطلب بالسحر قضاء حوائج محرمة أو مكروهة عند الله عز وجل.

والمؤمن المتقي يعوضه الله في الدنيا خيرا مما يطلبه الساحر ويؤثره مع تعجيله عز التقوى وشرفها وثواب الآخرة وعلو درجاتها فتبين بهذا أن إيثار المعصية على الطاعة إنما يحمل عليه الجهل ولذلك كان كل من عصى الله جاهلا وكل من أطاعه عالما وكفى بخشية الله علما وبالإغترار به جهلا.

وأما التوبة من قريب: فالجمهور على أن المراد بها التوبة قبل الموت فالعمر كله قريب ومن تاب قبل الموت فقد تاب من قريب ومن مات ولم يتب فقد بعد كل البعد كما قيل:

فهم جيرة الأحياء أما قرارهم

فدان وأما الملتقى فبعيد

فالحي قريب والميت بعيد من الدنيا على قربه منها فإن جسمه في الأرض يبلى وروحه عند الله تنعم أو تعذب ولقاؤه لا يرجى في الدنيا.

مقيم إلى أن يبعث الله خلقه

لقاؤك لا يرجى وأنت قريب

تزيد بلى في كل يوم وليلة

وتنسى كما تبلى وأنت حبيب

وهذان البيتان سمعهما داود الطائي رحمه الله من امرأة في مقبرة تندب بهما ميتا لها فوقعتا من قلبه فاستيقظ بهما ورجع زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة فانقطع إلى العبادة إلى أن مات رحمه الله فمن تاب قبل أن يغرغر فقد تاب من قريب فتقبل توبته وروي عن ابن عباس في قوله تعالى: {يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء: 17] قال: قبل المرض والموت وهذا إشارة إلى أفضل أوقات التوبة وهو أن يبادر الإنسان بالتوبة في صحته قبل نزول المرض به حتى يتمكن حينئذ من العمل الصالح ولذلك قرن الله تعالى التوبة بالعمل الصالح في مواضع كثيرة من.

ص: 335

القرآن وأيضا فالتوبة في الصحة ورجاء الحياة تشبه الصدقة بالمال في الصحة ورجاء البقاء.

والتوبة في المرض عند حضور إمارات الموت يشبه الصدقة بالمال عند الموت فكأن من لا يتوب إلا في مرضه قد استفرغ صحته وقوته في شهوات نفسه وهواه ولذة دنياه فإذا أيس من الدنيا والحياة فيها تاب حينئذ وترك ما كان عليه فأين توبة هذا من توبة من يتوب من قريب وهو صحيح قوي قادر على عمل المعاصي فيتركها خوفا من الله عز وجل ورجاء لثوابه وإيثارا لطاعته على معصيته.

دخل قوم على بشر الحافي وهو مريض فقالوا له: على ماذا عزمت؟ فقال: عزمت أني عوفيت تبت فقال له رجل منهم: فهلا تبت الساعة فقال: يا أخي أما علمت أن الملوك لا تقبل الأمان ممن في رجليه القيد وفي رقبته الغل إنما يقبل الأمان ممن هو راكب الفرس والسيف مجرد بيده فبكى القوم جميعا ومعنى هذا أن التائب في صحته بمنزلة من هو راكب على متن جواده وبيده سيف مشهور فهو يقدر على الكر والفر والقتال وعلى الهرب من الملك وعصيانه فإذا جاء على هذه الحال إلى بين يدي الملك ذليلا له طالبا لأمانه صار بذلك من خواص الملك وأحبابه لأنه جاءه طائعا مختارا له راغبا في قربه وخدمته وأما من هو في أسر الملك وفي رجله قيد وفي رقبته غل فإنه إذا طلب الأمان من الملك فإنما طلبه خوفا على نفسه من الهلاك وقد لا يكون محبا للملك ولا مؤثرا لرضاه فهذا مثل من لا يتوب إلا في مرضه عند موته والأول بمنزلة من يتوب في صحته وقوته وشبيبته لكن ملك الملوك أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين وكل خلقه أسير في قبضته لا يعجزه هارب ولا يفوته ذاهب ومع هذا فكل من طلب الأمان من عذابه من عباده أمنه على حال كان إذا علم منه الصدق في طلبه.

الأمان الأمان وزري ثقيل

وذنوبي إذا عددت تطول

أوبقتني وأوثقتني ذنوبي

فترى لي إلى الخلاص سبيل

وقوله عز وجل: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [النساء:18] فسوى بين من تاب عند الموت ومن مات من غير توبة والمراد بالتوبة عند الموت التوبة عند انكشاف الغطاء ومعاينة المحتضر أمور

ص: 336

الآخرة ومشاهدة الملائكة فإن الإيمان والتوبة وسائر الأعمال إنما تنفع بالغيب فإذا كشف الغطاء وصار الغيب شهادة لم ينفع الإيمان ولا التوبة في تلك الحال وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن علي قال: لا يزال العبد في مهل من التوبة ما لم يأته ملك الموت بقبض روحه فإذا نزل ملك الموت فلا توبة حينئذ.

وبإسناده عن الثوري قال: قال ابن عمر: التوبة مبسوطة ما لم ينزل سلطان الموت وعن الحسن قال: التوبة معروضة لابن آدم ما لم يأخذ الموت بكظمه وعن بكر المزني قال: لا تزال التوبة للعبد مبسوطة ما لم تأته الرسل فإذا عاينهم انقطعت المعرفة وعن أبي مجلز قال: لا يزال العبد في توبة ما لم يعاين الملائكة وروي أيضا في كتاب الموت بإسناده عن أبي موسى الأشعري قال: إذا عاين الميت الملك ذهبت المعرفة وعن مجاهد نحوه.

وعن حصين قال: بلغني أن ملك الموت إذا غمز وريد الإنسان حينئذ يشخص بصره ويذهل عن الناس وخرج ابن ماجه حديث أبي موسى مرفوعا قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: متى تنقطع معرفة العبد من الناس؟ قال: "إذا عاين" وفي إسناده مقال والموقوف أشبه وقد قيل: إنه إنما منع من التوبة حينئذ لأنه إذا انقطعت معرفته وذهل عقله لم يتصور منه ندم ولا عزم فإن الندم والعزم إنما يصح مع حضور العقل وهذا ملازم لمعاينة الملائكة كما دلت عليه الأخبار وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر: "ما لم يغرغر" يعني إذا لم تبلغ روحه عند خروجها منه إلى حلقه فشبه ترددها في حلق المحتضر بما يتغرغر به الإنسان من الماء وغيره ويردده في حلقه وإلى ذلك الإشارة في القرآن بقوله عز وجل: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ، وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة: 83، 85] وبقوله عز وجل: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} [القيامة:26] وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن الحسن قال: أشد ما يكون الموت على العبد إذا بلغت الروح التراقي قال: فعند ذلك يضطرب ويعلو نفسه ثم بكى الحسن رحمه الله تعالى.

عش ما بدا لك سالما

في ظل شاهقة القصور

يسعى عليك بما اشتهيت

لدى الرواح وفي البكور

فإذا النفوس تقعقعت

في ضيق حشرجة الصدور

فهناك تعلم موقنا

ما كنت إلا في غرور

ص: 337

واعلم أن الإنسان ما دام يأمل الحياة فإنه لا يقطع أمله في الدنيا وقد لا تسمح نفسه بالإقلاع عن لذاتها وشهواتها من المعاصي وغيرها ويرجيه الشيطان بالتوبة في آخر عمره فإذا تيقن الموت وأيس من الحياة أفاق من سكرته بشهوات الدنيا فندم حينئذ على تفريطه ندامة يكاد يقتل نفسه وطلب الرجعة إلى الدنيا ليتوب ويعمل صالحا فلا يجاب إلى شيء من ذلك فيجتمع عليه سكرة الموت مع حسرة الفوت وقد حذر الله في كتابه عباده من ذلك ليستعدوا للموت قبل نزوله بالتوبة والعمل الصالح قال الله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ، وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ، أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 54، 56] .

سمع بعض المحتضرين عند احتضاره يلطم على وجهه ويقول: {يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} وقال آخر عند احتضاره: سخرت بي الدنيا حتى ذهبت أيامي وقال آخر عند موته: لا تغرنكم الحياة الدنيا كما غرتني وقال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون: 99، 100] وقال الله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} وقال الله تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ: 54] وفسره طائفة من السلف منهم عمر بن عبد العزيز رحمه الله: بأنهم طلبوا التوبة حين حيل بينهم وبينها قال الحسن: اتق الله يا ابن آدم لا يجتمع عليك خصلتان سكرة الموت وحسرة الفوت وقال ابن السماك: احذر السكرة والحسرة أن يفجأك الموت وأنت على الغرة فلا يصف واصف قدر ما تلقى ولا قدر ما ترى.

قال الفضيل: يقول الله عز وجل: ابن آدم إذا كنت تتقلب في نعمتي وأنت تتقلب في معصيتي فاحذرني لا أصرعك بين معاصي وفي بعض الإسرائيليات: ابن آدم احذر لا يأخذك الله على ذنب فتلقاه لا حجة لك مات كثير من المصرين على المعاصي على أقبح أحوالهم وهم مباشرون للمعاصي فكان ذلك خزيا لهم في الدنيا مع ما صاروا إليه من عذاب الآخرة وكثيرا ما يقع هذا للمصرين على الخمر المدمنين لشربها كما قال القائل:

ص: 338

أتامن أيها السكران جهلا

بأن تفجاك في السكر المنية

فتضحى عبرة للناس طرا

وتلقى الله من شر البرية

سكر بعض المتقدمين ليلة فعاتبته زوجته على ترك الصلاة فحلف بطلاقها ثلاثا لا يصلي ثلاثة أيام فاشتد عليه فراق زوجته فاستمر على ترك الصلاة مدة الأيام الثلاث فمات فيها على حاله وهو مصر على الخمر تارك الصلاة كان بعض المصرين على الخمر يكنى أبا عمرو فنام ليلة وهو سكران فرأى في منامه قائلا يقول له:

جد بك الأمر أبا عمرو

وأنت معكوف على الخمر

تشرب صهباء صراحية

سال بك السيل ولا تدري

فاستيقظ منزعجا وأخبر من عنده بما رأى ثم غلبه سكره فنام فلما كان وقت الصبح مات فجأة قال يحيى بن معاذ: الدنيا خمر الشيطان من سكر منها لم يفق إلا في عسكر الموتى نادما مع الخاسرين وفي حديث خرجه الترمذي مرفوعا "ما من أحد يموت إلا ندم" قالوا: وما ندامته؟ قال: "إن كان محسنا ندم أن لا يكون ازداد وإن كان مسيئا ندم أن لا يكون استعتب" إذا ندم المحسن عند الموت فكيف يكون حال المسيء غاية أمنية الموتى في قبورهم حياة ساعة يستدركون فيها ما فاتهم من توبة وعمل صالح وأهل الدنيا يفرطون في حياتهم فتذهب أعمارهم في الغفلة ضياعا ومنهم من يقطعها بالمعاصي قال بعض السلف: أصبحتم في أمنية ناس كثير يعني أن الموتى كلهم يتمنون حياة ساعة ليتوبوا فيها ويجتهدوا في الطاعة ولا سبيل لهم إلى ذلك.

لو قيل لقوم ما مناكموا طلبوا

حياة يوم ليتوبوا فاعلم

ويحك يا نفس ألا تيقظ

ينفع قبل أن تزل قدمي

مضى الزمان في ثوان وهوى

فاستدركي ما قد بقي واغتنمي

الناس في التوبة على أقسام: فمنهم: من لا يوفق لتوبة نصوح بل ييسر له عمل السيئات من أول عمره إلى آخره حتى يموت مصرا علها وهذه حالة الأشقياء.

وأقبح من ذلك: من يسر له في أول عمره عمل الطاعات ثم ختم له بعمل سيء حتى مات عليه كما في الحديث الصحيح: "إن أحدكم ليعمل عمل أهل

ص: 339

الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ثم يسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها" وفي الحديث الذي خرجه أهل السنن: "إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة سبعين عاما ثم يحضره الموت فيجور في وصيته فيدخل النار".

ما أصعب الإنتقال من البصر إلى العمى وأصعب منه الضلالة بعد الهدى والمعصية بعد التقى كم من وجوه خاشعة وقع على قصص أعمالها {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ، تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} [الغاشية: 3، 4] كم من شارف مركبه ساحل النجاة فلما هم أن يرقى لعب به موج الهوى فغرق الخلق كلهم تحت هذا الخطر قلوب العباد بين اصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء قال بعضهم: ما العجب ممن هلك كيف هلك إنما العجب ممن نجا كيف نجا.

يا قلبي إلام تطالبني

بلقا الأحباب وقد رحلوا

أرسلتك في طلبي لهم

لتعود فضعت وما حصلوا

ما أحسن ما علقت بهم

آمالك منهم لو قد فعلوا

سلم واصبر واخضع لهم

كم قبلك مثلك قد قتلوا

وقسم يفني عمره في الغفلة والبطالة ثم يوفق لعمل صالح فيموت عليه وهذه حالة من عمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها.

الأعمال بالخواتيم: "إذا أراد الله بعبد غسله" قالوا: وما غسله"؟ قال: " يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه" وهؤلاء: منهم: من يوقظ قبل موته بمدة يتمكن فيها من التزود بعمل صالح يختم به عمره ومنهم: من يوقظ عند حضور الموت فيوفق لتوبة نصوح يموت عليها قالت عائشة رضي الله عنها: إذا أراد الله بعبد خيرا قيض له ملكا قبل موته بعام فيسدده وييسره حتى يموت وهو خير ما كان ويقول الناس: مات فلان خير ما كان وخرجه البزار عنها مرفوعا: "إذا أراد الله بعبد خيرا بعث إليه ملكا من عامه الذي يموت فيه فيسدده وييسره فإذا كان عند موته أتاه ملك الموت فقعد عند رأسه فقال: أيتها النفس المطمئنة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان فذلك حين يحب لقاء الله ويحب الله لقاءه وإذا أراد الله بعبد شرا بعث إليه شيطانا من عامه الذي يموت فيه فأغواه فإذا كان عند موته أتاه ملك الموت فقعد عند رأسه فقال: أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب فتتفرق في جسده فذلك حين يبغض لقاء الله ويبغض الله لقاءه".

ص: 340

وفي الدعاء المأثور: اللهم اجعل خير عملي خاتمته وخير عمري آخره وفي المسند عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: من تاب قبل موته عاما تيب عليه ومن تاب قبل موته شهرا تيب عليه حتى قال يوما حتى قال: ساعة حتى قال: فواقا قال: قال له إنسان أرأيت إن كان مشركا فأسلم؟ قال: إنما أحدثكم ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم

وفيه ايضا عن عبد الرحمن البيلماني قال: اجتمع أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله عز وجل يقبل توبة العبد قبل أن يموت بيوم" قال الآخر: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم قال: وأنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله عز وجل يقبل توبة العبد قبل أن يموت بنصف يوم" فقال ثالث: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال نعم قال: وأنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله عز وجل يقبل توبة العبد قبل أن يموت بضحوة" قال الرابع: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم قال: وأنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر بنفسه".

وفيه أيضا عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الشيطان قال: وعزتك يا رب لا ابرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم فقال الرب عز وجل: وعزتي وجلالي لا أزل أغفر لهم ما استغفروني" ذكر ابن أبي الدنيا بإسناد له أن رجلا من ملوك البصرة كان قد تنسك ثم مال إلى الدنيا والشيطان فبنى دارا وشيدها وأمر بها ففرشت له ونجدت واتخذ مأدبة وصنع طعاما ودعا الناس فجعلوا يدخلون فيأكلون ويشربون وينظرون إلى بنائه ويعجبون منه ويدعون له ويتفرقون فمكث بذلك أياما حتى فرغ من أمر الناس ثم جلس في نفر من خاصة إخوانه فقال: قد ترون سروري بداري هذه وقد حدثت نفسي أن أتخذ لكل واحد من ولدي مثلها فأقيموا عندي أياما أستمتع بحديثكم وأشاوركم فيما أريد من هذا لولدي فأقاموا عنده أياما يلهون ويلعبون ويشاورهم كيف يبني لولده وكيف يريد أن يصنع فبينما هم ذات ليلة في لهوهم إذا سمعوا قائلا يقول: من أقاصي الدار:

يا أيها الباني الناسي منيته

لا تأمنن فإن الموت مكتوب

على الخلائق إن سروا وإن فرحوا

فالموت حتف لذي الآمال منصوب

لا تبنين ديارا لست تسكنها

وراجع النسك كيما يغفر الحوب

ص: 341

قال: ففزع لذلك وفزع أصحابه فزعا شديدا وراعهم ما سمعوا من ذلك فقال لأصحابه: هل سمعتم ما سمعت؟ قالوا: نعم قال: فهل تجدون ما أجد؟ قالوا: وما تجد؟ قال: أجد والله مسكة على قلبي ما أراها إلا علة الموت قالوا: كلا بل البقاء والعافية قال: فبكى وقال: أنتم أخلائي وإخواني فما لي عندكم قالوا: مرنا بما أحببت قال: فأمر بالشراب فأهريق وبالملاهي فأخرجت ثم قال: اللهم إني أشهدك ومن حضر من عبادك أني تائب إليك من جميع ذنوبي نادم على ما فرطت أيام مهلتي وإياك أسأل إن أقلتني أن تتم علي نعمتك بالإنابة إلى طاعتك وإن أنت قبضتني إليك أن تغفر لي ذنوبي تفضلا منك علي واشتد به الأمر فلم يزل يقول: الموت والله الموت والله حتى خرجت روحه وكان الفقهاء يرون أنه مات على توبته.

وروى الواحدي في كتاب قتلى القرآن: بإسناد له: أن رجلا من أشراف أهل البصرة كان منحدرا إليها في سفينة ومعه جارية له فشرب يوما وغنته جاريته بعود لها وكان معهم في السفينة فقير صالح فقال له يا فتى تحسن مثل هذا؟ قال أحسن ما هو أحسن منه وكان الفقير حسن الصوت فاستفتح وقرأ: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً، أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 77، 78] فرمى الرجل ما بيده من الشراب في الماء وقال: أشهد أن هذا أحسن مما سمعت فهل غير هذا؟ قال: نعم فتلا عليه: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف: 29] الآية فوقعت في قلبه موقعا ورمى بالشراب في الماء وكسر العود ثم قال: يا فتى هل ههنا فرج؟ قال: نعم {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] الآية فصاح صيحة عظيمة فنظروا إليه فإذا هو قد مات رحمه الله.

وروى ابن أبي الدنيا بإسناد له أن صالحا المري رحمه الله كان يوما في مجلسه يقص على الناس فقرأ عنده قارىء: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر:18] فذكر صالح: النار وحال العصاة فيها وصفة سياقهم إليها وبالغ في ذلك وبكى الناس فقام فتى كان حاضرا في مجلسه وكان مسرفا على نفسه فقال: أكل هذا في القيامة؟ فقال صالح: نعم وما هو أكبر منه لقد بلغني أنهم يصرخون في النار حتى تنقطع أصواتهم فلا يبقى منهم إلا كهيئة الأنين من المريض المدنف فصاح الفتى:

ص: 342

أيا لله واغفلتاه عن نفسي أيام الحياة وا أسفاه على تفريطي في طاعتك يا سيداه وا أسفاه على تضييع عمري في دار الدنيا ثم استقبل القبلة وعاهد الله على توبة نصوح ودعا الله أن يتقبل منه وبكى حتى غشي عله فحمل من المجلس صريعا فمكث صالح وأصحابه يعودونه أياما ثم مات فحضره خلق كثير فكان صالح يذكره في مجلسه كثيرا ويقول: وبأبي قتيل القرآن وبأبي قتيل الواعظ والأحزان فرآه رجل في منامه فقال: ما صنعت؟ قال: عمتني بركة مجلس صالح فدخلت في سعة رحمة الله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [لأعراف: 156] من آلمته سياط المواعظ فصاح فلا جناح ومن زاد ألمه فمات فدمه مباح.

قضى الله في القتلى قصاص دمائهم

ولكن دماء العاشقين جبار

وبقى ههنا قسم آخر وهو أشرف الأقسام وأرفعها: وهو من يفني عمره في الطاعة ثم ينبه على قرب الأجل ليجد في التزود ويتهيأ للرحيل بعمل يصلح للقاء يكون خاتمه للعمل قال ابن عباس: لما نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] نعيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه فأخذ في أشد ما كان اجتهادا في أمر الآخرة قالت أم سلمة: كان النبي صلى الله عليه وسلم في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يذهب ولا يجيء إلا قال: سبحان الله ويحمده فذكرت ذلك له فقال: "إني أمرت بذلك" وتلا هذه السورة.

كان من عادته صلى الله عليه وسلم أن يعتكف في كل عام في رمضان عشرا ويعرض القرآن على جبريل مرة فاعتكف في ذلك العام عشرين يوما وعرض القرآن مرتين وكان يقول: ما أرى ذلك إلا لاقتراب أجلي ثم حج حجة الوداع وقال للناس: "خذوا عني مناسككم فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا" وطفق يودع الناس فقالوا: هذه حجة الوداع ثم رجع إلى المدينة فخطب قبل وصوله إليها وقال: "أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب ثم أمر بالتمسك بكتاب الله" ثم توفي بعد وصوله إلى المدينة بيسير صلى الله عليه وسلم إذا كان سيد المحسنين يؤمر أن يختم عمره بالزيادة في الإحسان فكيف يكون حال المسيء.

خذ في جد فقد تولى العمر

كم ذا التفريط قد تدانى الأمر

أقبل فعسى يقبل منك العذر

كم تبني كم تنقض كم ذا العذر

مرض بعض العابدين فوصف له دواء يشربه فأتي في منامه فقيل له: أتشرب الدواء والحور العين لك تهيأ؟ فانتبه فزعا فصلى في ثلاثة أيام حتى انحنى صلبه.

ص: 343

ثم مات في اليوم الثالث كان رجل قد اعتزل وتعبد فرأى في منامه قائلا يقول له: يا فلان ربك يدعوك فتجهز واخرج إلى الحج ولست عائدا فخرج إلى الحج فمات في الطريق رأى بعض الصالحين في منامه قائلا ينشده:

تأهب للذي لا بد منه

من الموت الموكل بالعباد

أترضى أن تكون رفيق قوم

لهم زاد وأنت بغير زاد

خرج ابن ماجه من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب فقال في خطبته: "أيها الناس توبوا إلى ربكم قبل أن تموتوا وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا" وفي سنده ضعف فأمر بالمبادرة قبل الموت وكل ساعة تمر على ابن آدم فإنه يمكن أن تكون ساعة موته بل كل نفس كما قيل:

لا تأمن الموت في طرف ولا نفس

وإن تمنعت بالحجاب والحرس

قال لقمان لابنه: يا بني لا تؤخر التوبة فإن الموت يأتي بغتة وقال بعض الحكماء: لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير عمل ويؤخر التوبة لطول الأمل.

إلى الله تب قبل انقضاء من العمر

أخي ولا تأمن مفاجأة الأمر

ولا تستصمن عن دعائي فإنما

دعوتك إشفاقا عليك من الوزر

فقد حذرتك الحادثات نزولها

ونادتك إلا أن سمعك ذو وقر

تنوح وتبكي للأحبة إن مضوا

ونفسك لا تبكي وأنت على الأثر

قال بعض السلف: أصبحوا تائبين وأمسوا تائبين يشير إلى أن المؤمن لا ينبغي أن يصبح ويمسي إلا على توبة فإنه لا يدري متى يفاجئه الموت صباحا أو مساء فمن أصبح أو أمسى على غير توبة فهو على خطر لأنه يخشى أن يلقى الله غير تائب فيحشر في زمرة الظالمين قال الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11] تأخير التوبة في حال الشباب قبيح وفي حال المشيب أقبح وأقبح.

نعى لك ظل الشباب مزهج

ونادتك باسم سواك الخطوب

فكن مستعدا لداعي الفنا

فكل الذي هو آت قريب

ألسنا نرى شهوات النفو

س تفنى وتبقى علينا الذنوب

يخاف على نفسه من يتوب

فكيف يكن حال من لا يتوب

ص: 344

فإن نزل المرض بالعبد فتأخيره للتوبة حينئذ أقبح من كل قبيح فإن المرض نذير الموت وينبغي لمن عاد مريضا أن يذكره التوبة والإستغفار فلا أحسن من ختام الأعمال بالتوبة والإستغفار فإن كان العمل سيئا كان كفارة له وإن كان حسنا كان كالطابع عليه.

وفي حديث سيد الإستغفار المخرج في الصحيح: أن من قاله إذا أصبح وإذا أمسى ثم مات من يومه أو ليلته كان من أهل الجنة وليكثر في مرضه من ذكر الله عز وجل خصوصا كلمة التوحيد فإنه من كانت آخر كلامه دخل الجنة وفي حديث أبي سعيد وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن "من قال في مرضه: لا إله إلا الله والله أكبر لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله فإن مات من مرضه لم تطعمه النار" خرجه النسائي وابن ماجه والترمذي وحسنه وفي رواية للنسائي: "من قالهن في يوم أو في ليلة أو في شهر ثم مات في ذلك اليوم أو في تلك الليلة أو في ذلك الشهر غفر له ذنبه" ويروى من حديث حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من ختم له بقوله لا إله إلا الله دخل الجنة ومن ختم له بصيام يوم أراد به وجه الله أدخله الله الجنة ومن ختم له بإطعام مسكين أراد به وجه الله أدخله الله الجنة".

كان السلف يرون: أن من مات عقب عمل صالح كصيام رمضان أو عقيب حج أو عمرة يرجى له أن يدخل الجنة وكانوا مع اجتهادهم في الصحة في الأعمال الصالحة يجددون التوبة والإستغفار عند الموت ويختمون أعمالهم بالإستغفار وكلمة التوحيد.

لما احتضر العلاء بن زياد بكى فقيل له: ما يبكيك؟ قال: كنت والله أحب أن أستقبل الموت بتوبة قالوا: فافعل رحمك الله فدعا بطهور فتطهر ثم دعا بثوب جديد فلبسه ثم استقبل القبلة فأومأ برأسه مرتين أو نحو ذلك ثم اضطجع ومات ولما احتضر عامر بن عبد الله بكى وقال: لمثل هذا الصراع فليعمل العاملون: اللهم إني أستغفرك من تقصيري وتفريطي وأتوب إليك من جميع ذنوبي لا إله إلا الله ثم لم يزل يرددها حتى مات رحمه الله وقال عمرو بن العاص رحمه الله عند موته: اللهم أمرتنا فعصينا ونهيتنا فركبنا ولا يسعنا إلا عفوك لا إله إلا الله ثم رددها حتى مات وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله عند موته: أجلسوني فأجلسوه فقال: أنا الذي أمرتني فقصرت ونهيتني فعصيت ولكن لا إله إلا الله ثم رفع رأسه فأحد النظر فقالوا: إنك تنظر نظرا شديدا يا أمير

ص: 345

المؤمنين فقال: أتاني حضرة ما هم بإنس ولا جن ثم قبض رحمة الله عليه وسمعوا تاليا يتلو: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83] .

يا غافل القلب عن ذكر المنيات

عما قليل ستثوى بين أموات

فاذكر محلك من قبل الحلول به

وتب إلى الله من لهو ولذات

إن الحمام له وقت إلى أجل

فاذكر مصائب أيام وساعات

لا تطمئن إلى الدنيا وزينتها

قد حان للموت يا ذا اللب أن يأتي

التوبة التوبة قبل أن يصل إليكم من الموت التوبة فيحصل المفرط على الندم والخيبة والإنابة الإنابة قبل غلق باب الإجابة الإفاقة الإفاقة فقد قرب وقت الفاقة ما أحسن قلق التواب ما أحلى قدوم الغياب ما أجمل وقوفهم بالباب.

أسأت ولم أحسن وجئتك هاربا

وإني لعبد من مواليه مهرب

يؤمل غفرانا فإن خاب ظنه

فما أحد منه على الأرض أخيب

من نزل به الشيب فهو بمنزلة الحامل التي تمت شهور حملها فما تنتظر إلا الولادة كذلك صاحب الشيب لا ينتظر إلا الموت فقبيح منه الإصرار على الذنب.

أي شيء تريد مني الذنوب

شغفت بي فليس عني تغيب

ما يضر الذنوب لو أعتقتني

رحمة بي فقد علاني المشيب

ولكن توبة الشاب أحسن وأفضل في حديث مرفوع خرجه ابن أبي الدنيا: "إن الله يحب الشاب التائب" قال عمير بن هانيء: تقول التوبة للشاب: أهلا ومرحبا وتقول للشيخ: نقبلك على ما كان منك الشاب ترك المعصية مع قوة الداعي إليها والشيخ قد ضعفت شهوته وقل داعيه فلا يستويان في بعض الآثار يقول الله عز وجل: أيها الشاب التارك شهوته المبتذل شبابه لأجلي أنت عندي كبعض ملائكتي قال عمر: إن الذين يشترون المعاصي ولا يعلمون بها: {أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [الحجرات: 3] كم بين حال الذي {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف: 23] وبين شيخ عنين يدعى لمثل ذلك فيجيب.

ص: 346

كان عمر يعس بالمدينة فسمع امرأة غاب عنها زوجها تقول:

تطاول هذا الليل واسود جانبه

وأرقني أن لا خليل ألاعبه

فوالله لولا الله لا شيء غيره

لحرك من هذا السرير جوانبه

ولكن تقوى الله عن ذا تصدني

وحفظا لبعلي أن تنال مراكبه

فقال لها عمر يرحمك الله ثم بعث إلى زوجها أمره أن يقدم عليها وأمر أن لا يغيب أحد عن امرأته اكثر من أربعة أشهر وعشرا الشيخ قد تركته الذنوب فلا حمد له على تركها كما قيل:

تارك الذنب فتاركته

بالفعل والشهوة في القلب

فالحمد للذنب على تركه

لا لك في تركك للذنب

أما تستحي منا لما أعرضت لذات الدنيا عنك فلم يبق لك فيها رغبة وصرت من سقط المتاع لا حاجة لأحد فيك جئت إلى بابنا فقلت: أنا تائب ومع هذا فكل من أوى إلينا آويناه ومن استجار بنا أجرناه ومن تاب إلينا أحببناه: أبشر فربما يكون الشيب شافعا لصاحبه من العقوبات مات شيخ كان مفرطا فرؤي في المنام فقيل له: ما فعل بك قال: قال لي لولا أنك شيخ لعذبتك وقف شيخ بعرفة والناس يضجون بالدعاء وهو ساكت ثم قبض على لحيته وقال: يا رب شيخ يرجو رحمتك.

لما أتونا والشيب شافعهم

وقد توالى عليهم الخجل

قلنا لسود الصحائف انقلبي

بيضا فإن الشيوخ قد قبلوا

كان بعض الصالحين يقول:

إن الملوك إذا شابت عبيدهم

في رقهم عتقوهم عتق أبرار

وأنت يا خلقي أولى بذاكر ما

قد شبت في الرق فأعتقني من النار

أيها العاصي ما يقطع من صلاحك الطمع ما نصبنا اليوم شرك المواعظ إلا لتقع إذا خرجت من المجلس وأنت عازم على التوبة قالت لك ملائكة الرحمة: مرحبا وسهلا فإن قال لك رفقاؤك في المعصية: هلم إلينا فقل لهم: كلا ذاك خمر الهوى الذي عهدتموه قد استحال خلا يا من سود كتابه بالسيئات قد آن لك بالتوبة أن تمحو يا سكران القلب بالشهوات أما آن لفؤادك أن يصحو

ص: 347

يا نداماي صحا القلب صحا

فاطردوا عني الصبا والمرحا

زجر الوعظ فؤادي فارعوي

وأفاق القلب مني وصحا

هزم العزم جنودا للهوى

فاسدي لا تعجبوا إن صلحا

بادروا التوبة من قبل الردى

فمناديه ينادينا الوحا

تم كتاب لطائف المعارف بحمد الله وعونه وحسن توفيقه وكان الفراغ منه في يوم الأربعاء حادي والعشرين من شهر شوال سنة خمس وستين وثمانمائة.

ص: 348