المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المجلس الخامس في ذكر السبع الأواخر من رمضان - لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف - ط ابن حزم

[ابن رجب الحنبلي]

فهرس الكتاب

- ‌مجلس في فضل التذكير بالله تعالى ومجالس الوعظ

- ‌وظائف شهر الله المحرم

- ‌المجلس الأول: في فضل شهر الله المحرم وعشره الأول

- ‌الفصل الأول: في أفضل التطوع بالصيام

- ‌الفصل الثاني: في فضل قيام الليل

- ‌المجلس الثاني في يوم عاشوراء

- ‌المجلس الثالث في قدوم الحاج

- ‌وظيفة شهر صفر

- ‌وظائف شهر ربيع الأول

- ‌المجلس الأول في ذكر مولد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌المجلس الثاني في ذكر المولد أيضا

- ‌المجلس الثالث في ذكر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌وظيفة شهر رجب

- ‌وظائف شهر شعبان

- ‌المجلس الأول: في صيامه

- ‌المجلس الثاني في نصف شعبان

- ‌المجلس الثالث في صيام آخر شعبان

- ‌وظائف شهر رمضان المعظم

- ‌المجلس الأول: في فضل الصيام

- ‌المجلس الثاني في فضل الجود في رمضان وتلاوة القرآن

- ‌المجلس الثالث في ذكر العشر الأوسط من شهر رمضان وذكر نصف الشهر الأخير

- ‌المجلس الرابع في ذكر العشر الأواخر من رمضان

- ‌المجلس الخامس في ذكر السبع الأواخر من رمضان

- ‌المجلس السادس في وداع رمضان

- ‌وظائف شوال

- ‌المجلس الأول: في صيام شوال كله وإتباع رمضان بصيام ستة أيام من شوال

- ‌المجلس الثاني في ذكر الحج وفضله والحث عليه

- ‌المجلس الثالث فيما يقوم مقام الحج والعمرة عند العجز عنهما

- ‌وظيفة شهر ذي القعدة

- ‌وظائف شهر ذي الحجة

- ‌المجلس الأول: في فضل عشر ذي الحجة

- ‌الفصل الأول: في فضل العمل فيه

- ‌الفصل الثاني: في فضل عشر ذي الحجة على غيره من أعشار الشهور

- ‌المجلس الثاني في يوم عرفة مع عيد النحر

- ‌المجلس الثالث في أيام التشريق

- ‌المجلس الرابع في ختام العام

- ‌فصل ـ ويلتحق بوظائف شهور السنة الهلالية وظائف فصول السنة الشمسية

- ‌المجلس الأول: في ذكر فصل الربيع

- ‌المجلس الثاني في ذكر فصل الصيف

- ‌المجلس الثالث في ذكر فصل الشتاء

- ‌مجلس في ذكر التوبة والحث عليها قبل الموت وختم العمر بها والتوبة وظيفة العمر وهي خاتمة مجالس الكتاب

الفصل: ‌المجلس الخامس في ذكر السبع الأواخر من رمضان

الصالحات وكل ميسر لما خلق له أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 5، 10] فالمبادرة إلى اغتنام العمل فيما بقي من الشهر فعسى أن يستدرك به ما فات من ضياع العمر.

تولى العمر في سهو وفي لهو وفي خسر

فيا ضيعة ما أنفقت في الأيام من عمري

ومالي في الذي ضيعت من عمري من عذر

فما أغفلنا من واجبات الحمد والشكر

أما قد خصنا الله بشهر أيما شهر

بشهر أنزل الرحمن فيه أشرف الذكر

وهل يشبه شهر وفيه ليلة القدر

فكم من خبر صح بما فيها من الخير

روينا عن ثقات أنها تطلب في الوتر

فطوبى لامرىء يطلبها في هذه العشر

ففيها تنزل الأملاك بالأنوار والبر

قد قال {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}

ألا فادخرها إنها من أنفس الذخر

فكم من معلق فيها من النار ولا يدري

ص: 193

‌المجلس الخامس في ذكر السبع الأواخر من رمضان

.

في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرى رؤياكم قد

ص: 193

تواطأت في السبع الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر" وفي صحيح مسلم عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "التمسوها في العشر الأواخر فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن على السبع البواقي" قد ذكرنا فيما تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في شهر رمضان على طلب ليلة القدر وأنه اعتكف مرة العشر الأوائل منه ثم طلبها فاعتكف بعد ذلك العشر الأوسط في طلبها وإن ذلك تكرر منه غيرة مرة ثم استقر أمره على اعتكاف العشر الأواخر في طلبها وأمر بطلبها فيه ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان" وفي رواية للبخاري: "في الوتر من العشر الأواخر من رمضان" وله من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "التمسوها في العشر الأواخر الغوابر من رمضان" ولمسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "التمسوها في العشر الغوابر" والأحاديث في المعنى كثيرة وكان يأمر بالتماسها في أوتار العشر الأواخر ففي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "التمسوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان في تاسعة تبقى في سابعة تبقى في خامسة تبقى" وفي رواية له: "هي في العشر في سبع تمضين أو سبع يبقين".

وخرج الإمام أحمد والنسائي والترمذي من حديث أبي بكرة قال: ما أنا بملتمسها لشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في العشر الأواخر فإني سمعته يقول: "التمسوها في تسع يبقين أو سبع يبقين أو خمس يبقين أو ثلاث يبقين أو آخر ليلة" وكان أبو بكرة يصلي في العشرين من رمضان كصلاته في سائر السنة فإذا دخل العشر اجتهد ثم بعد ذلك أمر بطلبها في السبع الأواخر.

وفي المسند وكتاب النسائي عن أبي ذر قال: كنت أسأل الناس عنها يعني ليلة القدر فقلت: يا رسول الله أخبرني عن ليلة القدر؟ أفي رمضان هي أو في غيره؟ قال: "بلى هي في رمضان" قلت: تكون مع الأنبياء ما كانوا فإذا قبضوا رفعت أم هي إلى يوم القيامة؟ قال: "بل هي إلى يوم القيامة" قلت في أي رمضان هي؟ قال التمسوها في العشر الأول والعشر الأواخر قلت: فبأي العشرين هي؟ قال: في العشر الأواخر لا تسألني عن شيء بعدها ثم حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم اهتبلت غفلته فقلت: يا رسول الله أقسمت بحقي لما أخبرتني في أي العشر هي؟ فغضب علي غضبا لم يغضب مثله منذ صحبته؟ وقال: "التمسوها في السبع الأواخر لا تسألني عن شيء بعدها" وخرجه ابن حبان في صحيحه والحاكم،

ص: 194

وفي رواية لهما: أنه قال: "ألم أنهك أن تسألني عنها إن الله لو أذن لي أن أخبركم بها لأخبرتكم لا آمن أن تكون في السبع الأواخر".

ففي هذه الرواية أن بيان النبي صلى الله عليه وسلم لليلة القدر انتهى إلى أنها في السبع الأواخر ولم يزد على ذلك شيئا وهذا مما يستدل به من رجح ليلة ثلاث وعشرين وخمس وعشرين على ليلة إحدى وعشرين فإن ليلة إحدى وعشرين ليست من السبع الأواخر بلا تردد وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أخر: أنه بين أنها ليلة سبع وعشرين كما سيأتي إن شاء الله تعالى واختلف في أول السبع الأواخر فمنهم من قال أول السبع ليلة ثلاث وعشرين على حساب نقصان الشهر دون تمامه لأنها المتيقن وروي هذا ابن عباس وسيأتي كلامه فيما بعد إن شاء الله تعالى.

وفي صحيح البخاري عن بلال قال: إنها أول السبع من العشر الأواخر وخرجه ابن أبي شيبة وعنده قال: ليلة ثلاث وعشرين وهذا قول مالك قال: أرى والله أعلم أن التاسعة ليلة إحدى وعشرين والسابعة ليلة ثلاث وعشرين والخامسة ليلة خمس وعشرين وتأوله عبد الملك بن حبيب على أنه إنما يحسب كذلك إذا كان الشهر ناقصا وليس هذا بشيء فإنه أمر بالإجتهاد في هذه الليالي على هذا الحساب وهذا لا يمكن أن يكون مراعى بنقصان الشهر في آخره.

وكان أيوب السختياني يغتسل ليلة ثلاث وعشرين ويمس طيبا وليلة أربع وعشرين ويقول: ليلة ثلاث وعشرين ليلة أهل المدينة وليلة أربع وعشرين ليلتنا يعني أهل البصرة.

وكذلك كان ثابت وحميد يفعلان وكانت طائفة تجتهد ليلة أربع وعشرين روي عن أنس والحسن وروي عنه قال: رقبت الشمس عشرين سنة ليلة أربع وعشرين فكانت تطلع لا شعاع لها وروي عن ابن عباس ذكره البخاري عنه وقيل: إن المحفوظ عنه أنها ليلة ثلاث وعشرين كما سبق.

وقد تقدم حديث إنزال القرآن في ليلة أربع وعشرين وكذلك أبو سعيد الخدري وأبو ذر حسبا الشهر تاما فيكون عندهما أول السبع الأواخر ليلة أربع وعشرين وممن اختار هذا القول ابن عبد البر واستدل بأن الأصل تمام الشهر ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإكماله إذا غم مع احتمال نقصانه وكذلك رجحه بعض أصحابنا وقد تقدم من حديث أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا كان ليلة أربع

ص: 195

وعشرين لم يذق غمضا وإسناده ضعيف وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن أول السبع البواقي ليلة ثلاث وعشرين ففي مسند الإمام أحمد عن جابر أن عبد الله بن أنيس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر وقد خلت اثنان وعشرون ليلة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "التمسوها في السبع الأواخر التي بقين من الشهر" وفيه أيضا عن عبد الله بن أنيس أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر وذلك مساء ليلة ثلاث وعشرين فقال: "التمسوها هذه الليلة" فقال رجل من القوم: فهي إذن يا رسول الله أولى ثمان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها ليست بأولى ثمان ولكنها أولى سبع أن الشهر لا يتم".

وفيه أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كم مضى من الشهر"؟ قلنا: مضت ثنتان وعشرون وبقي ثمان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا بل مضت ثنتان وعشرون وبقي سبع اطلبوها الليلة" وقد يحمل هذا على شهر خاص اطلع النبي صلى الله عليه وسلم على نقصانه وهو بعيد ويدل على خلافه أنه روي في تمام حديث أبي هريرة رضي الله عنه ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشهر هكذا وهكذا وهكذا ثم خنس إبهامه في الثالثة" فهذا يدل على أنه تشريع عام وإنه حسب الشهر على تقدير نقصانه أبدا لأنه المتيقن كما ذهب إليه أيوب ومالك وغيرهما وعلى قولهما تكون ليلة سابعة تبقى ليلة ثلاث وعشرين وليلة خامسة تبقى ليلة خمس وعشرين وليلة تاسعة تبقى ليلة إحدى وعشرين.

وقد روي عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أنه أنكر أن تحسب ليلة القدر بما مضى من الشهر وأخبر أن الصحابة يحسبونها بما بقي منه وهذا الإحتمال إنما يكون في مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة" وقد خرجه البخاري من حديث عبادة رضي الله عنه ومسلم من حديث أبي سعيد فإنه يحتمل أن يراد به التاسعة والسابعة والخامسة بما يبقى وبما يمضي فأما حديث ابن عباس وأبي بكرة وما في معناهما فإنها مقيدة بالباقي من الشهر فلا يحتمل أن يراد به الماضي وحينئذ يتوجه الإختلاف السابق في أنه هل يحسب على تقدير تمام الشهر أو نقصانه وحديث ابن عباس قد روي بالشك فيما مضى أو يبقى وقد خرجه البخاري بالوجهين.

وحديث أبي ذر في قيام النبي صلى الله عليه وسلم بهم أفراد العشر الأواخر قد خرجه أبو داود الطيالسي بلفظ صريح: أنه قام بهم أشاع العشر الأواخر وحسبها أوتارا بالنسبة إلى ما يبقى من الشهر وقدره تاما وجعل الليلة التي قامها حتى خشوا أن يفوتهم

ص: 196

الفلاح ليلة ثمان وعشرين وهي الثالثة مما يبقى وقد قيل: إن ذلك من تصرف بعض الرواة بما فهمه من المعنى والله أعلم.

وعلى قياس من حسب الليالي الباقية من الشهر على تقدير نقصان الشهر فينبغي أن يكون عنده أول العشر الأواخر ليلة العشرين لاحتمال أن يكون الشهر ناقصا فلا يتحقق كونها عشر ليال بدون إدخال ليلة العشرين فيها وقد يقال: بل العشر الأواخر عبارة عما بعد انقضاء العشرين الماضية من الشهر وسواء كانت تامة أو ناقصة فهي المعبر عنها بالعشر الأواخر وقيامها هم قيام العشر الأواخر وهذا كما يقال: صام عشر ذي الحجة وإنما صام منه تسعة أيام ولهذا كان ابن سيرين يكره أن يقال: صام عشر ذي الحجة وقال: إنما يقال: صام التسع ومن لم يكره وهم الجمهور فقد يقولون: الصيام المضاف إلى العشر هو صيام ما يمكن منه وهو ما عدا يوم النحر ويطلق على ذلك العشر لأنه أكثر العشر والله أعلم.

وقد اختلف الناس في ليلة القدر كثيرا فحكى عن بعضهم أنها رفعت وحديث أبي ذر يرد ذلك وروي عن محمد بن الحنفية أنها في كل سبع سنين مرة وفي إسناده ضعف وعن بعضهم أنها في كل السنة حكي عن ابن مسعود وطائفة من الكوفيين وروي عن أبي حنيفة وقال الجمهور: هي في رمضان كل سنة ثم منهم من قال: هي في الشهر كله وحكي عن بعض المتقدمين: أنها أول ليلة منه وقالت طائفة: هي في النصف الثاني منه وقد حكي عن أبي يوسف ومحمد وقد تقدم قول من قال: إنها ليلة بدر على اختلافهم هي ليلة سبع عشرة أو تسع عشرة.

وقال الجمهور: هي منحصرة في العشر الأواخر واختلفوا في أي ليالي العشر أرجى فحكي عن الحسن ومالك أنها تطلب في جميع ليال العشر أشفاعه وأوتاره ورجحه بعض أصحابنا وقال: لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "التمسوها في تاسعة تبقى أو سابعة تبقى أو خامسة تبقى" إن حملناه على تقدير كمال الشهر كانت أشفاعا وإن حملناه على ما بقي منه حقيقة كان الأمر موقوفا على كمال الشهر فلا يعلم قبله فإن كان تاما كانت الليالي المأمور بها بطلبها أشفاعا وإن كان ناقصا كانت أوتارا فيوجب ذلك الإجتهاد في القيام في كلا الليلتين الشفع منها والوتر وقال الأكثرون: بل بعض لياليه أرجى من بعض وقالوا: الأوتار أرجى في الجملة ثم اختلفوا أي الأوتار أرجى: فمنهم من قال: ليلة إحدى وعشرين وهو المشهور عن الشافعي لحديث أبي سعيد الخدري وقد ذكرناه فيما سبق وحكي

ص: 197

عنه أنها تطلب ليلة إحدى وعشرين وثلاث وعشرين قال في القديم: كأني رأيت والله أعلم أقوى الأحاديث فيه ليلة إحدى وعشرين وليلة ثلاث وعشرين وهي التي مات فيها علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد جاء في ليلة سبع عشرة وليلة أربع وعشرين وليلة سبع وعشرين انتهى وقد روي عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما: أنها تطلب ليلة إحدى وعشرين وثلاث وعشرين.

وحكى للشافعي قول آخر: أرجاها ليلة ثلاث وعشرين وهذا قول أهل المدينة وحكاه سفيان الثوري عن أهل مكة والمدينة وممن روي عنه أنه كان يوقظ أهلها فيها ابن عباس وعائشة وهو قول مكحول وروى رشدين بن سعد عن زهرة بن معبد قال: أصابني احتلام في أرض العدو وأنا في البحر ليلة ثلاث وعشرين في رمضان فذهبت لأغتسل فسقطت في الماء فإذا الماء عذب فناديت أصحابي أعلمهم أني في ماء عذب قال ابن عبد البر: هذه الليلة تعرف بليلة الجهني بالمدينة يعني عبد الله بن أنيس وقد روي عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بقيامها وفي صحيح مسلم عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ليلة القدر: "أريت أني أسجد صبيحتها في ماء وطين" فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم من صلاة الصبح يوم ثلاث وعشرين وعلى جبهته أثر الماء والطين وقال سعيد بن المسيب: كان النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه فقال: "ألا أخبركم بليلة القدر"؟ قالوا: بلى يا رسول الله فسكت ساعة ثم قال: "لقد قلت لكم ما قلت آنفا وأنا أعلمها ثم أنسيتها أرأيتم يوما كنا بموضع كذا وكذا ـ أي ليلة هي" في غزوة غزاها ـ فقالوا: سرنا فقفلنا حتى استقام ملأ القوم على أنها ليلة ثلاث وعشرين خرجه عبد الرزاق في كتابه.

ورجحت طائفة ليلة أربع وعشرين وهم: الحسن وأهل البصرة وقد روي عن أنس وكان حميد وأيوب وثابت يحتاطون فيجمعون بين الليلتين أعني ليلة ثلاث وأربع ورجحت طائفة ليلة سبع وعشرين وحكاه الثوري عن أهل الكوفة وقال نحن نقول هي ليلة سبع وعشرين لما جاءنا عن أبي بن كعب وممن قال بهذا أبي بن كعب وكان يحلف عنه ولا يستثني وزر بن حبيش وعبده بن أبي لبابة وروي عن قنان بن عبد الله النهي قال: سألت زرا عن ليلة القدر؟ فقال: كان عمر وحذيفة وأناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يشكون أنها ليلة سبع وعشرين خرجه ابن أبي شيبة وهو قول أحمد وإسحاق وذهب أبو قلابة إلى أنها تنتقل في ليالي العشر وروي عنه أنها تنتقل في أوتاره خاصة وممن قال بانتقالها في ليال العشر: المزني وابن خزيمة وحكاه ابن عبد البر عن مالك والثوري

ص: 198

والشافعي وأحمد وأبي ثور وفي صحة ذلك عنهم بعد وإنما قول أنها في العشر وتطلب في لياليه كله.

واختلفوا في أرجى لياليه كما سبق واستدل من رجح ليلة سبع وعشرين بأن أبي بن كعب كان يحلف على ذلك ويقول بالآية أو بالعلامة التي أخبرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الشمس تطلع في صبيحتها لا شعاع لها خرجه مسلم وخرجه أيضا بلفظ آخر عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: والله إني لأعلم أي ليلة هي هي الليلة التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها هي ليلة سبع وعشرين وفي مسند الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا قال: يا رسول الله إني شيخ كبير عليل يشق علي القيام فمرني بليلة يوفقني الله فيها لليلة القدر قال: "عليك بالسابعة" وإسناده على شرط البخاري.

وروى الإمام أحمد أيضا قال حدثنا يزيد بن هارون: أنبأنا شعبة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان منكم متحريها فليتحرها ليلة سبع وعشرين" أو قال: "تحروها ليلة سبع وعشرين" يعني ليلة القدر ورواه شبابة ووهب بن جرير عن شعبة مثله ورواه أسود بن عامر عن شعبة مثله وزاد: "في السبع البواقي" قال شعبة: وأخبرني ثقة عن سفيان أنه إنما قال: في السبع البواقي يعني لم يقل: ليلة سبع وعشرين قال أحمد في رواية ابنه صالح الثقة هو يحيى بن سعيد قال شعبة: فلا أدري أيهما قال ورواه عمرو عن شعبة وقال في حديثه: "ليلة سبع وعشرين" أو قال: "في السبع الأواخر" بالشك فرجع الأمر إلى أن شعبة شك في لفظه ورواه حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن ابن عمرو قال: كانوا لا يزالون يقصون على النبي صلى الله عليه وسلم إنها الليلة السابعة من العشر الأواخر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرى رؤياكم أنها قد تواطأت إنها ليلة السابعة في العشر الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها ليلة السابعة من العشر الأواخر" كذا رواه حنبل بن اسحاق عن عارم عن حماد وكذا خرجه الطحاوي عن إبراهيم بن مرزوق عن عارم ورواه البخاري في صحيحه عن عارم إلا أنه لم يذكر لفظه ليلة السابعة بل قال: "من كان متحريها فليتحرها في العشر الأواخر" ورواه عبد الرزاق في كتابه عن معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني رأيت في النوم ليلة القدر كأنها ليلة سابعة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني أرى رؤياكم قد تواطأت إنها ليلة سابعة فمن كان متحريها منكم فليتحرها في ليلة سابعة" قال معمر: فكان

ص: 199

أيوب يغتسل في ليلة ثلاث وعشرين يشير إلى أنه حملها على سابعة تبقى وخرجه الثعلبي في تفسيره من طريق الحسن بن عبد الأعلى عن عبد الرزاق بهذا الإسناد وقال: في حديثه ليلة سابعة تبقى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني أرى رؤياكم قد تواطأت على ثلاث وعشرين فمن كان منكم يريد أن يقوم من الشهر شيئا فليقم ليلة ثلاث وعشرين" وهذه الألفاظ غير محفوظة في الحديث والله أعلم.

وفي سنن أبي داود بإسناد رجاله كلهم رجال الصحيح عن معاوية عن النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر ليلة سبع وعشرين وخرجه ابن حبان في صحيحه وصححه ابن عبد البر وله علة وهي وقفه على معاوية وهو أصح عند الإمام أحمد والدارقطني وقد اختلف أيضا عليه في لفظه وفي المسند عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: متى ليلة القدر؟ فقال: "من يذكر منكم ليلة الصهباوات" قال عبد الله: أنا بأبي أنت وأمي وإن في يدي لتمرات أتسحر بهن مستترا بمؤخرة رحل من الفجر وذلك حين طلع القمر وخرجه يعقوب بن شيبة في مسنده وزاد: وذلك ليلة سبع وعشرين وقال: صالح الإسناد والصهباوات: موضع بقرب خيبر وفي المسند أيضا من وجه آخر عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي قال: "إن ليلة القدر في النصف من السبع الأواخر من رمضان" وإذا حسبنا أول السبع الأواخر ليلة أربع وعشرين كانت ليلة سبع وعشرين نصف السبع لأن قبلها ثلاث ليال وبعدها ثلاث ليال.

ومما يرجح أن ليلة القدر ليلة سبع وعشرين أنها من السبع الأواخر التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتماسها فيها بالإتفاق وفي دخول الثالثة والعشرين في السبع اختلاف سبق ذكره ولا خلاف أنها آكد من الخامس والعشرين ومما يدل على ذلك أيضا حديث أبي ذر في قيام النبي صلى الله عليه وسلم بهم في أفراد السبع الأواخر وإنه قام بهم في الثالثة والعشرين إلى ثلث الليل وفي الخامسة إلى نصف الليل وفي السابعة إلى آخر الليل حتى خشوا أن يفوتهم الفلاح وجمع أهله ليلتئذ وجمع الناس وهذا كله يدل على تأكدها على سائر أفراد السبع والعشر.

ومما يدل على ذلك ما استشهد به ابن عباس رضي الله عنه بحضرة عمر رضي الله عنه والصحابة معه واستحسنه عمر رضي الله عنه وقد روي من وجوه متعددة: فروى عبد الرزاق في كتابه عن معمر عن قتادة وعاصم أنهما سمعا عكرمة يقول: قال ابن عباس رضي الله عنهما دعا عمر بن الخطاب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فسألهم عن ليلة القدر فأجمعوا أنها في العشر الأواخر قال ابن عباس: فقلت لعمر رضي الله عنه: إني لأعلم أو

ص: 200

إني لأظن أي ليلة هي؟ قال عمر رضي الله عنه: وأي ليلة هي؟: قلت: سابعة تمضي أو سابعة تبقى من العشر الأواخر فقال عمر رضي الله عنه: ومن أين علمت ذلك؟ قال: فقلت: إن الله خلق سبع سموات وسبع أرضين وسبعة أيام وإن الدهر يدور على سبع وخلق الله الإنسان في سبع ويأكل من سبع ويسجد على سبع والطواف بالبيت سبع ورمي الجمار سبع لا يشاء ذكرها فقال عمر رضي الله عنه: لقد فطنت لأمر ما فطنا له.

وكان قتادة يزيد على ابن عباس في قوله: يأكل من سبع قال هو قول الله عز وجل: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً، وَعِنَباً وَقَضْباً، وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً، وَحَدَائِقَ غُلْباً، وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} [عبس: 27، 31] ولكن في هذه الرواية: أنها في سبع تمضي أو تبقى بالترديد في ذلك وخرجه ابن شاهين من رواية عبد الواحد بن زياد عن عاصم الأحول حدثني لاحق بن حميد وعكرمة قالا: قال عمر رضي الله عنه: من يعلم ليلة القدر؟ فذكر الحديث بنحوه وزاد: أن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هي في العشر سبع تمضي أو سبع تبقى" فخالف في إسناده وجعله مرسلا ورفع آخره روى ابن عبد البر بإسناد صحيح من طريق سعيد بن جبير قال: كان ناس من المهاجرين وجدوا على عمر في ادنائه ابن عباس فجمعهم ثم سألهم عن ليلة القدر فأكثروا فيها فقال بعضهم: كنا نراها في العشر الأوسط ثم بلغنا أنها في العشر الأواخر فأكثروا فيها فقال بعضهم: ليلة إحدى وعشرون وقال بعضهم: ليلة ثلاث وعشرون وقال بعضهم: ليلة سبع وعشرين فقال عمر رضي الله عنه: يا ابن عباس تكلم فقال: الله أعلم قال عمر: قد نعلم أن الله يعلم وإنما نسألك عن علمك فقال ابن عباس رضي الله عنهما: إن الله وتر يحب الوتر خلق من خلقه سبع سموات فاستوى عليهن وخلق الأرض سبعا وجعل عدة الأيام سبعا ورمي الجمار سبعا وخلق الإنسان من سبع وجعل رزقه من سبع فقال عمر: خلق الإنسان من سبع وجعل رزقه من سبع هذا أمر ما فهمته؟ فقال: إن الله تعالى يقول: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون:12] حتى بلغ آخر الآيات وقرأ: {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً، ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً، فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً، وَعِنَباً وَقَضْباً، وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً، وَحَدَائِقَ غُلْباً، وَفَاكِهَةً وَأَبّاً، مَتَاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [النازعات: 25، 33] ثم قال: والأب للدواب.

وخرجه ابن سعد في طبقاته عن اسحاق الأزرق عن عبد الملك بن أبي سليمان عن سعيد بن جبير فذكره بمعناه وزاد في آخره: قال: وأما ليلة القدر فما تراها إن شاء الله إلا ليلة ثلاث وعشرين يمضين أو سبع يبقين والظاهر إن هذا.

ص: 201

سمعه سعيد بن جبير من ابن عباس فيكون متصلا وروى عاصم بن كليب عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: دعا عمر الأشياخ من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: في ليلة القدر ما قد علمتم "التمسوها في العشر الأواخر وترا" ففي أي الوتر ترونها؟ فقال رجل برأيه: أنها تاسعة سابعة خامسة ثالثة ثم قال: يا ابن عباس تكلم فقلت: أقول برأي قال: عن رأيك أسألك؟ فقلت: إني سمعت رسول الله أكثر من ذكر السبع وذكر باقيه بمعنى ما تقدم وفي آخره قال عمر رضي الله عنه: أعجزتم أن تقولوا مثل ما قال هذا الغلام الذي لم تستوي شؤون رأسه خرجه الإسماعيلي في مسند عمر والحاكم وقال: صحيح الإسناد وخرجه الثعلبي في تفسيره وزاد قال ابن عباس فما أراها إلا ليلة ثلاث وعشرين لسبع بقين وخرج علي بن المديني في كتاب العلل المرفوع منه وقال: هو صالح وليس مما يحتج به.

وروى مسلم الملاي ـ وهو ضعيف ـ عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن عمر قال له: أخبرني برأيك عن ليلة القدر فذكر معنى ما تقدم وفيه أن ابن عباس قال: لا أراها إلا في سبع يبقين من رمضان فقال عمر وافق رأي رأيك وروي بإسناد فيه ضعف عن محمد بن كعب عن ابن عباس: أن عمر رضي الله عنه جلس في رهط من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فتذاكروا ليلة القدر فذكر معنى ما تقدم وزاد فيه عن ابن عباس أنه قال: وأعطى من المثاني سبعا ونهى في كتابه عن نكاح الأقربين عن سبع وقسم الميراث في كتابه على سبع ونقع في السجود من أجسادنا على سبع وقال: فأراها في السبع الأواخر من رمضان.

وليس في شيء من هذه الروايات أنها ليلة سبع وعشرين جزما بل في بعضها الترديد بين ثلاث وسبع وفي بعضها: أنها ليلة ثلاث وعشرين لأنها أول السبع الأواخر على رأيه وقد صح عن ابن عباس أنه كان ينضح على أهله الماء ليلة ثلاث وعشرين خرجه عبد الرزاق وخرجه ابن أبي عاصم مرفوعا والموقوف أصح.

وقد استنبط طائفة من المتأخرين من القرآن أنها ليلة سبع وعشرين موضعين:

أحدهما: أن الله تعالى ذكر ليلة القدر في سورة القدر في ثلاثة مواضع منها وليلة القدر حروفها تسع حروف والتسع إذا ضربت في ثلاثة فهي سبع وعشرون.

ص: 202

والثاني: أنه قال سلام الله عليه فكلمة هي: هي الكلمة السابعة والعشرون من السورة فإن كلماتها كلها ثلاثون كلمة.

قال ابن عطية: هذا من ملح التفسير لا من متين العلم وهو كما قال ومما استدل به من رجح ليلة سبع وعشرين بالآيات والعلامات التي رأيت فيها قديما وحديثا وبما وقع فيها من إجابة الدعوات فقد تقدم عن أبي بن كعب أنه استدل على ذلك بطلوع الشمس في صبيحتها لا شعاع لها وكان عبدة ابن أبي لبابة يقول: هي ليلة سبع وعشرين ويستدل على ذلك فإنه قد جرب ذلك بأشياء وبالنجوم خرجه عبد الرزاق وروي عن عبدة أنه ذاق ماء البحر ليلة سبع وعشرين فإذا هو عذب ذكره الإمام أحمد بإسناده وطاف بعض السلف ليلة سبع وعشرين بالبيت الحرام فرأى الملائكة في الهواء طائفين فوق رؤوس الناس وروى أبو موسى المديني من طريق أبي الشيخ الأصبهاني بإسناد عن حماد بن شعيب عن رجل منهم قال: كنت بالسواد فلما كان في العشر الأواخر جعلت أنظر بالليل فقال لي رجل منهم: إلى أي شيء تنظر؟ قلت: إلى ليلة القدر قال: فنم فإني سأخبرك فلما كان ليلة سبع وعشرين جاء وأخذ بيدي فذهب بي إلى النخل فإذا النخل واضع سعفه في الأرض فقال: لسنا نرى هذا في السنة كلها إلا في هذه الليلة وذكر أبو موسى بأسانيد له أن رجلا مقعدا دعا الله ليلة سبع وعشرين فأطلقه وعن امرأة مقعدة كذلك وعن رجل بالبصرة كان أخرس ثلاثين سنة فدعا الله ليلة سبع وعشرين فأطلق لسانه فتكلم.

وذكر الوزير أبو المظفر ابن هبيرة أنه رأى ليلة سبع وعشرين وكانت ليلة جمعة بابا في السماء مفتوحا شامي الكعبة قال: فظننته حيال الحجرة النبوية المقدسة قال: ولم يزل كذلك إلى أن التفت إلى المشرق لأنظر طلوع الفجر ثم التفت إليه فوجدته قد غاب قال: وإن وقع في ليلة من أوتار العشر ليلة جمعة فهي أرجى من غيرها "واعلم أن جميع هذه العلامات لا توجب القطع بليلة القدر".

وقد روى سلمة بن شبيب في كتاب فضائل رمضان حدثنا إبراهيم بن الحكم حدثني أبي قال: حدثني فرقد: أن أناسا من الصحابة كانوا في المسجد فسمعوا كلاما من السماء ورأوا نورا من السماء وبابا من السماء وذلك في شهر رمضان فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما رأوا فزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أما النور فنور رب العزة تعالى وأما الباب فباب السماء والكلام كلام الأنبياء فكل شهر رمضان على هذه الحال ولكن هذه ليلة كشف غطاؤها" وهذا مرسل ضعيف.

ص: 203

وأما العمل في ليلة القدر فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" وقيامها إنما هو إحياؤها بالتهجد فيها والصلاة وقد أمر عائشة بالدعاء فيها أيضا قال سفيان الثوري الدعاء في تلك الليلة أحب إلي من الصلاة قال: وإذا كان يقرأ وهو يدعو ويرغب إلى الله في الدعاء والمسألة لعله يوافق انتهى ومراده أن كثرة الدعاء أفضل من الصلاة التي لا يكثر فيها الدعاء وإن قرأ ودعا كان حسنا وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتهجد في ليالي رمضان ويقرأ قراءة مرتلة لا يمر بآية فيها رحمة إلا سأل ولا بآية فيها عذاب إلا تعوذ فيجمع بين الصلاة والقراءة والدعاء والتفكر وهذا أفضل الأعمال وأكملها في ليالي العشر وغيرها والله أعلم وقد قال الشعبي في ليلة القدر: ليلها كنهارها وقال الشافعي في القديم: استحب أن يكون اجتهاده في نهارها كاجتهاده في ليلها وهذا يقتضي استحباب الإجتهاد في جميع زمان العشر الأواخر ليله ونهاره والله أعلم المحبون تطول عليهم الليالي فيعدونها غدا لانتظار ليالي العشر في كل عام فإذا ظفروا بها نالوا مطلوبهم وخدموا محبوبهم.

قد مزق الحب قميص الصبر

وقد غدوت حائرا في أمري

آه على تلك الليالي الغر

ما كن إلا كليالي القدر

إن عدن لي من بعد هذا الهجر

وفيت لله بكل نذر

وقام بالحمد خطيب شكري

رياح هذه الأسحار تحمل أنين المذنبين وأنفاس المحبين وقصص التائبين ثم تعود برد الجواب بلا كتاب.

أعلمتمو أن النسيم إذا سرى

حمل الحديث إلى الحبيب كما جرى

جهل الحبيب بأنني في حبهم

سهر الدجى عندي ألذ من الكرى

فإذا ورد يريد برد السحر بحمل ملطفات الألطاف لم يفهمها غير من كتبت إليه.

نسيم صبا نجد متى جئت حاملا

تحيتهم فاطو الحديث عن الركب

ولا تذع السر المصون فإنني

أغار على ذكر الأحبة من صحبي

يا يعقوب الهجر قد هبت ريح يوسف الوصل فلو استنشقت لعدت بعد العمى بصيرا ولوجدت ما كنت لفقده فقيرا.

ص: 204

كان لي قلب أعيش به

ضاع مني في تقلبه

رب فاردده علي فقد

عيل صبري في تطلبه

وأغثني ما دام بي رمق

يا غياث المستغيث به

لو قام المذنبون في هذه الأسحار على أقدام الإنكسار ورفعوا قصص الإعتذار مضمونها: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} [يوسف: 88] لبرز لهم التوقيع عليها: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92] .

أشكو إلى الله كما قد شكى

أولاد يعقوب إلى يوسف

قد مسني الضر وأنت الذي

تعلم حالي وترى موقفي

بضاعتي المزجاة محتاجة

إلى سماح من كريم وفي

فقد أتى المسكين مستمطرا

جودك فارحم ذله واعطف

فاوف كيلي وتصدق على

هذا المقل البائس الأضعف

قالت عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم: أرأيت إن وافقت ليلة القدر ما أقول فيها قال: قولي: "اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني" العفو من أسماء الله تعالى وهو يتجاوز عن سيئات عباده الماحي لأثارهم عنهم وهو يحب العفو فيحب أن يعفو عن عباده ويحب من عباده أن يعفو بعضهم عن بعض فإذا عفا بعضهم عن بعض عاملهم بعفوه وعفوه أحب إليه من عقوبته وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "أعوذ برضاك من سخطك وعفوك من عقوبتك" قال يحيى بن معاذ: لو لم يكن العفو أحب الأشياء إليه لم يبتل بالذنب أكرم الناس عليه يشير إلى أنه ابتلى كثيرا من أوليائه وأحبابه بشيء من الذنوب ليعاملهم بالعفو فإنه يحب العفو قال بعض السلف الصالح: لو علمت أحب الأعمال إلى الله تعالى لأجهدت نفسي فيه فرأى قائلا يقول له في منامه: إنك تريد ما لا يكون إن الله يحب أن يعفو ويغفر وإنما أحب أن يعفو ليكون العباد كلهم تحت عفوه ولا يدل عليه أحد منهم بعمل.

وقد جاء في حديث ابن عباس مرفوعا: "إن الله ينظر ليلة القدر إلى المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فيعفو عنهم ويرحمهم إلا أربعة: مدمن خمر وعاقا ومشاحنا وقاطع رحم" لما عرف العارفون بجلاله خضعوا ولما سمع المذنبون بعفوه طمعوا ما تم إلا عفو الله أو النار لولا طمع المذنبين في العفو لاحترقت قلوبهم

ص: 205