الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السلفية ((حركة قائمة في وجه الإلحاد، والشرك، والضلال، والطغيان))
بقلم: زهير الشاويش
حفل معهد الدراسات الإسلامية للمعارف الحكمية، بيروت 13 ذو القعدة 1424=5/ 1/2004
* * *
إن الحمد لله، والصلاة على رسل الله، وآل كل واحد منهم، وصحب وحواري الجميع، من الذين اتبعوا ما أنزل الله على كل رسول من الوحي، وآمنوا بما جاء عنهم من الحكمة والموعظة الحسنة، حتى آخر ما أرسل به سيدنا محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء، وحامل راية التوحيد، والقيام بالعبادة، والتفقه الحق، وذلك الدين القيِّم، إلى يوم الدين. وبعد
فإن البحثَ الذي عُرض عليَّ أن أتكلمَ به وعنه، في هذا الجمع الكريم، واللقاءِ العلميِّ، من الذين أحترمُ وأقدِّرُ من أهلِ العلمِ والجهادِ والدعوة، والصحوةِ الإسلاميةِ العامةِ والشاملة، ولا أستطيع لهم مخالفة.
وفيهم من يوافقني في خطِّي ومنهجي، ومنهم من يخالِفُني في بعضِ ذلكَ أو أكثرِه، ولكنَّ اختلافَ الرأيِ لا يُفسدُ للودِّ قضية.
وإننا جميعاً -كما عهدتهُم- ننشدُ الحقَّ ونسعى إليه، والحقُّ أحقُّ أن يُتَّبع.
وكنّا في حياتنا نبتغي عندَ الوفاقِ والخلافِ الرجوعَ إلى الجملةِ -القاعدة- التي وُجِدَ أصلُها عندَ شيخِ الإسلامِ ابن تيميةَ (ت 728هـ) من كتابِ "رفعِ الملام"، وفي كلامِ تلميذهِ العلامة ابن قيِّم الجوزية (ت 751هـ) في كتاب "إعلامِ الموقعين"، ووجدتُ العددَ الكبيرَ من مشايخي قد أخذ بها، وهي:
"نتعاونُ فيما اتفقنا عليه، ويَعذُرُ (وينصَحُ) بعضُنا بعضاً فيما اختلفْنا فيه"
السلفية
والسلفيةُ لم يكن لها أصلٌ من هذه التسميةِ إلا بعدَ زمنٍ طويلٍ من عصرِ الدعوةِ التي حملَ رايتها وأَرسَىَ قواعِدَها سيدُنا وقدوتُنا جميعاً رسولُ الله محمدٌ صلى الله عليه وسلم وصحبُهُ الكرام رضي الله عنهم، وقد كانوا يوصَفوُنَ بأنَّهُم "السَّلَفُ الصالِح".
وتسميةُ (السلفيةِ) لا بُدَّ لها مِن سَلفٍ يَسبِقُها تنتهي إليه، وهي تكونُ خلفاً لسلف. وكان هذا السلفُ من تابعيِ التابعين. وقد تَبِعَ كُلُ السلفيين وغيرُهُم من المذاهِبِ من كل الفِرق. بعضاً من التابعينَ حتى أصبحَ الفِقهُ بل والعقيدةُ، وحتى الأخلاقُ أنواعاً كثيرةً جداً، وفي بعضها اختلافٌ ظاهرٌ من اتباعِ الأثر، أو التمسّكِ بالنَّصِ والدليل، أو الجنوح إلى الرأيِ وقولةِ:"نحنُ رجالٌ وهُم رجال"، بعضُهُم اقتصرَ على ما دلَّتهم عليهِ عُقُولُهُم.
وكان مثلُ ذلكَ عنَد كُلِّ المَذاهِبِ الإسلاميةِ المنقَرِضَةِ أو الباقيةِ حتى اليوم: من الحنفية، والمالكيةِ، والشافعيةِ، والحنابلةِ، والظاهريةِ.
والسلفية: أثبتت أكثر ما تقدم، أخذت من كل فرقة ما صحّ عندها عنهم.
والبعض بالبعض اكتفى
…
ومن حوى الكل حاز الشرفا
ووجدْنا مِثلَ ذلكَ تماماً في عُهُودٍ أقدمَ من ذلكَ وأقربَ إلى عهدِ الصحابة، كما وجد عند الخوارج، والعثمانيِة، والشيعة، وما تفرق عن كلِّ فِرقَةٍ منها من الجماعات والأتباع. وكذلك ما ترسَّبَ من عقائد المعتزلة، ومن ذلك تقديم العقل على النقل، وهو من أخطر ما عندهم!، وكذلك الأشاعرة، وقد توسطوا في كل ذلك، والماتريدية الذين خالفوا الأشاعرة بعشرات المسائل من غير دليل راجح غالباً!، وكلهم اعتمد التأويل، ولكن على درجات مختلفة، والحق أنها كلها باطلة، وهي مبنية على علم الكلام، ويجمع كل ذلك قولهم على القاعدة عندهم هي:"طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم"، والحق أن طريقة السلف أسلم وأعلم وأحكم".
والسلفيون ينكرون التأويل اللفظي والباطني. وقل على مثل ذلك كان هؤلاء السلفيون، مع أن كل المذاهب والفرق الباطنية، وحتى عند الديانات المنحرفة، وما أوجدَ الناس من أحزابٍ مُخترعة مثل ذلك.
ولا بد من صرف النظر عما كان من فُرقة واختلافات بعد الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين، وما ترسب بين المسلمين من أقوال وفرق في مسائل الحكم، والعقائد، والفقه، وكان منهم عدد كبير من مختلف الفرق، وكان منهم من سمي:"السلفيون".
إذن فالسلفية: طريقة في المعتقد، والفقه، مفادها: الرجوع إلى ما كان عليه الجيل الأول -السلف الصالح- في العقيدة، والعبادة، والأخلاق، والسلوك -كما في باقي المذاهب أنها ترجع إلى من انتسبت إليه، وبقيت هكذا حتى اليوم-. تتسع حيناً، وتضيق حيناً آخر، لعوامل مختلفة. وفيها الصواب كل الصواب من جانب، وفيها بعض الخطأ من جانب آخر، وهو مغفور لهم إن شاء الله. لأنه من الاجتهاد الذي يؤجر صاحبه أجرين عند الصواب، ويؤجر أجراً واحداً أيضاً عند الخطأ، وأرجو الله أن تكون كل المذاهب الإسلامية كذلك.
وأما اتساع السلفية فقد كان في فترات، كما أن ضيقها كان في فترات أخرى، وهذا كله لعوامل متعددة.
والسلفية معتمدة على الصحيح الواضح من الكتاب والسنة، والوقوف عند اتفاق الصحابة، وما تتابع بعد ذلك بعمل وفهم التابعين من القرون الثلاثة التي شهد لها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالخيرية، وتتابعت بعد ذلك بأقوال أهل العلم، والمعتقد، والحديث، والدعوة.
وتركزت أقوالهم عند الإمام أحمد بن محمد بن حنبل (ت 241هـ) في المعتقد، وفي الفقه غير المكتوب، والمعتمد على مسائل الإمام أحمد، والإمام إسحاق بن راهويْه (ت 238هـ)، ومجموعة أمثالهما.
خصوصاً بعد فتن المعتزلة وعلى رأسها أحمد بن أبي دُؤاد (ت 240هـ) أيام الخليفة المأمون العباسي (ت 218هـ) بدءاً من فتنة خلق القرآن، وما تبع ذلك من أقوال المعتزلة الخمسة، وهي:
[1 - التوحيد، 2 - العدل، 3 - الوعد والوعيد، 4 - المنزلة بين المنزلتين، 5 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ]
وما تعرض له الإمام أحمد، وأتباع الإمام محمد بن إدريس الشافعي (ت 204هـ)، وغيرهما من العلماء للفتنة، والحبس، والنفي، والضرب، والقتل، حتى نصر الله أهل السنة في عهد الخليفة العباسي المتوكل على الله (ت 247هـ).
وبعد ذلك تجمع لهم الرأي، أيام فتنة عبد الرحيم بن عبد الكريم القشيري (ت 514هـ) في القرن الخامس الهجري، حتى انتصارات الحنابلة عليهم في بغداد وخراسان.
وكذلك كانت للسلفيين الجولات المنصورة في عصر شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية على من قام عليهم من آل السبكي (في القرن السابع) من الشافعية، والإمام المطهّر الحلي من الشيعة (ت 726هـ)، وبعض الحكام من المماليك الجراكسة، ومجموعة محمد بن محمد العجمي (العلاء البخاري (ت 841هـ) من الحنفية.
ومضى الزمن والخلاف بين الأخذ والرد، حتى ظهر إمام الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب التميمي النجدي (ت 1206هـ).
وإذ ذاك نشأت معارضة شديدة لهم من قبل العثمانيين الأتراك، والدولة الإنكليزية والإفرنسيين بعد الثورة الفرنسية وعهد نابليون. ومن قبل حاكم مصر محمد علي باشا وأولاده (ت 1265هـ)، حيث تسلَّط كلّ هؤلاء على المشرق العربي، وأحوال محمد علي في الجزيرة العربية والحجاز ونجد، وسورية، ولبنان معروفة، لا تخفى على أي مؤرِّخٍ حصيفٍ بصير.
وكل ذلك لم يمنع تمتعهم بانتشارات كبرى في الشام: العلامة جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ)، والشيخ طاهر الجزائري (ت 1338هـ)، وتلامذته ومنهم الشيخ محب الدين الخطيب (ت 1389هـ)، والشيخ محمد سعيد الباني (ت 1351هـ)، وآل البيطار وآخرهم شيخنا محمد بهجة البيطار (ت 1396هـ)، والشيخ عبد القادر بدران (ت 1346هـ)، ومن تبعهم.
وكذلك في اليمن كالإمام محمد بن علي الشوكاني (ت 1250هـ)، والإمام محمد بن إسماعيل الصنعاني (ت 1182هـ).
وكذلك ظهر في الهند علماء أفاضل رغم الانتشار الماتريدي الحنفي، ورغم قيام الإنكليز على هؤلاء العلماء الأفاضل أيام الحكم البريطاني الذي أوجد طوائف لمحاربة الإسلام، مثل: البابية، والبهائية، والقاديانية.
وكانت منهم الجماعة الإسلامية في الهند، ثم باكستان والبنغال (الإمام أبو الأعلى المودودي (ت 1399هـ) وجماعات أهل الحديث المتعددة.
وفي المغرب العربي ومع انتشار المذهب المالكي فقهاً، وعقائد ما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري (ت 324هـ)، ظهر أمثال المشايخ: عبد الحميد بن محمد بن باديس (ت 1359هـ)، ومحمد البشير طالب الإبراهيمي (ت 1385هـ)، والفضيل الورتلاني (ت 1378هـ)، والدكتور تقي الدين الهلالي (ت 1407هـ)، وفيما نراه حتى اليوم في بعض فصائل الجهاد الجزائري الصادق. وقد تركت الأحياء من السلفية، أو غيرها لأن الإنسان لا يحكم عليه إلا بعد وفاته، ونسأل الله أن يحسن ختام الجميع.
وقد قامت الدولة السعودية معتمدة على السلفية عقيدةً وفقهاً في مجمل شبه الجزيرة العربية، وتمكنت من الانتشار في الحجاز مرتين إحداهما سنة (. . . =. . . )، والثانية 1343هـ=1944 وحتى اليوم.
وقامت بمصر نهضات دعوية، وتألفت جمعيات اعتمدت على السلفية في أصول مناهجها، كدعوة الشيخ محمد رشيد رضا (ت 1354هـ)، وجماعة أنصار السنة المحمدية برئاسة الشيخ محمد حامد الفقي (ت 1378هـ)، والأخوان المسلمين، وأفراد من الأزهر الشريف، مثل المفتي الأكبر شيخ الأزهر الشيخ عبد المجيد سليم (ت 1372هـ)، والشيخ سيد سابق (ت 1420هـ)، مؤلف كتاب:"فقه السنة"، والشيخ محمد الغزالي الجبالي (ت 1416هـ)، والشيخ عبد الرزاق عفيفي (ت 1415هـ)، والدكتور عبد العزيز كامل (ت 1411هـ)، والشيخ عبد الرحمن الوكيل (ت 1390هـ)، وغيرهم.
وكذلك ظهر في الأردن: المفتي العام الشيخ عبد الله القلقيلي (ت 1393هـ)، والأستاذ أبو الوليد إبراهيم الترهي (ت 1392هـ)، وغيرهما.
وكذلك حركة اعتمدت الحديث النبوي، قام بها جماعة رأسهم من الناحية العلمية الشيخ محمد ناصر الدين الألباني (ت 1420هـ) رحمه الله وقام المكتب الإسلامي بنشر الكثير من مؤلفاته.
وفي سورية ظهرت جماعة الأخوان المسلمين بقيادة الدكتور مصطفى السباعي (ت 1384هـ)، والأستاذ عبد الفتاح الغندور وغيرهما.
وكان مشاركاً لهم في الجماعة أو قبلها: الشيخ عبد القادر بدران، والشيخ عبد الفتاح الإمام (ت 1383هـ)، والشيخ علي الطنطاوي (ت 1420هـ)، وغيرهم.
ثم في حلب ظهر الشيخ نسيب الرفاعي (ت 1413هـ)، وفي حماه الشيخ سعيد الجابي (ت 1376هـ)، والشيخ نعسان معطي (ت 1412هـ).
وفي دير الزور الشيخ محمد سعيد العرفي (ت 1375هـ)، والدكتور عز الدين جوالة، والأستاذ عبد الرؤوف بعاج، والأستاذ سعيد شرف، وغيرهم.
وكل من ذكرت، ومن لم أذكر هم تجمعات وأخوان وأتباع يربط بينها اتفاق عام على أكثر الأمور السلفية، واختلافات فرعية في العديد من الأمور.
وقد تركت الكلام عما في المملكة العربية السعودية لأن الدولة هناك كلها تقوم على الفكر السلفي المتمثل بالشيخين ابن تيمية وابن عبد الوهاب، وليس على مجرَّد حركات اجتماعية أو فردية كالتي في البلاد الأخرى.
ولكن وجدنا فيها أخيراً خلافات بين المجموعات التي تدّعي كلها بأنها سلفية، وأكثر هذه الخلافات على جزئيات شبه لفظية، ولا يكاد يعرفها سواهم.
* * *
وفي هذا العرض البسيط يمكن تحديد ما هي السلفية -اليوم-.
هي عقائد متفقة على الأصول، وقد تختلف في الفروع، كما اختلفوا في بعض الأمور المستجدة، مما جعلها فرقاً متعددةً لا جامع صحيحاً بين بعضها على التحقيق والعمل المشترك.
وثورات وانتفاضات فلسطين منذ عام 1920 وحتى اليوم، ما قام بها إلا من تمثلوا العقيدة السلفية، من الحاج محمد أمين الحسيني (ت 1394هـ)، والشيخ فرحان السعدي (ت 1356هـ)، والشيخ محمد الأشمر (ت 1380هـ)، والشيخ عطية سالم (ت 000هـ)، والأستاذ أبو الوليد إبراهيم الترهي، وغيرهم.
وأما ثورة القسام عام 1935 فكان قائدها من كبار السلفيين هو الشيخ عز الدين القسام من أهل جبلة من الساحل السوري (ت 1354هـ)، والدال على ذلك كتابه الذي ألفه مع الداعية الشيخ محمد كامل القصاب (ت 1373هـ)، وسمياه:"النقد والبيان"، وقدّمت له ببحثْ ضافٍ مع التوسع في التراجم.
وأكبر دليل على ذلك قادة وعلماء الانتفاضة يوم أبعدتهم الصهيونية إلى مرج الزهور في جنوب لبنان سنة (1413هـ)، اللذين أنشأوا لأنفسهم جامعة تنشر فيما بينهم العلم، وتخرجهم على معالم الجهاد والدعوة السليمة، حيث أطلقوا عليها اسم "جامعة ابن تيمية"، وقد تخرج منها أكثر المجاهدين من شباب حركة حماس والجهاد الإسلامي وغيرهم.
والسلفية في لبنان موجودة -والحمد لله- من غير مشاكل مع الناس، ولا مع الدولة، وما سمعتم عنهم، أو سمي منهم من جهات ليست منهم، منذ ثلاث سنوات فإنه بعيد عنهم، وعن السلفية جملة وتفصيلاً، وإنما هو تسلط على التسمية. وقد بلغني -من خصومهم أيضاً- أن التوبة انتشرت فيهم، والموجود حقيقة هو حلقات علمية دعوية بعيدة عن الغلو والتطرف.
حضور السلفية
بقيت السلفية بعد الإمام أحمد بن محمد بن حنبل هي السائدة في عقائد المسلمين السنة على التحديد. وكان الإمام أبو الحسن الأشعري حامل اللواء فيها، مناهضاً للاعتزال والمعتزلة بعد انسحابه منها، ومعرفة ما فيها من أخطاء. ولم يبق عنده من مذهبهم سوى كلمات قليلة، ليست محل نزاع من أفاضل العلماء، وبذلك بقي مذهبه هو مذهب أهل السنة والجماعة بالجملة لمدة زادت على المئتي سنة.
حتى قام ابن القشيري (الزاعم بأنه شافعي الفقه) بفتنته التي فرقت المسلمين، وادعى أنه على مذهب الإمام أبي الحسن الأشعري عقيدة.
ثم كان للسلفيين بعد ذلك "بيان أهل السنة والجماعة" تأليف الإمام أبي جعفر الطحاوي (ت 321هـ)، وهو حنفي مشهور.
وبعده بمئتي سنة قام آل السبكي بإضافة ما عندهم من تفصيلاتٍ في العقيدة، زاعمين بأنَّ ذلك معتمدٌ على مذهب الإمام أبي الحسن الأشعري، ومرتكز على فقه مذهب الإمام الشافعي.
وتولى الرد عليهم الإمام ابن تيمية وتلامذته خلال مئة سنة، ولعل من أبرز ما يمثل تلك الفترة كتاب "شرح العقيدة الطحاوية للإمام ابن أبي العز الحنفي (ت 792هـ) ".
واستمر ذلك الخلاف يظهر حيناً ويختفي أحياناً أخرى، حتى ظهر الشيخ محمد زاهد الكوثري (ت 1371هـ)، وأثار حقد الماتريدية، وحتى الأشعرية، رغم أنه على خلاف معها، ضد السلفية في حملة مسعورة، ومع علمه فقد حرّف النقول!!، وطعن في الصحابة الكرام، الذين نقلوا لنا دين الله، وتبع الكوثري عدد ممن جاء بعده ممن شم لديه انطلاقاً عن مذهبه الحنفي في تركية ومصر، وأفرادٌ في بعضهم علم، ولكن غلبت عليهم المذهبية والعصبية.
وكذلك كانت الفتن المتأخرة، وشارك في الدفاع عن السلفية كبار علماء العصر الماضي، أمثال: الشيخ عبد الرحمن المعلمي اليماني (ت 1386هـ)، والشيخ محمد نصيف (ت 1391هـ)، والعلامة أحمد محمد شاكر (ت 1375هـ)، والشيخ محمد حامد الفقي، والشيخ محمد بهجت البيطار، والشيخ محمد ناصر الدين الألباني.
ومع أن الخلافَ في قول بعضهم (خلافٌ لفظيٌ) فمازال حتى اليوم يثيره من هؤلاء طرف، ويرد عليهم من الطرف الآخر أفراد وجماعات.
وتبع هؤلاء من ليس في العير ولا في النفير ممَّن يدعي أتباعه التفقه بالمذهب الشافعي، ووالله ما وجدت عندهم سوى أقوال ضعيفة غير مفتى بها في مذهب الإمام الشافعي رحمه الله، وتشير إلى اتباع فيه لا يقبل قولهم.
ووجدت عندهم أيضاً أقوالاً وأفعالاً يدعى أنها من طريقة الإمام الزاهد أحمد الرفاعي العراقي (ت 578هـ).
وأقول: والله لدى بحثي وتنقيبي لم أجد لها أصلاً صحيحاً، وبيَّنت أنها ليست لهذا الإمام الداعية أو أنها أقواله. بل هي خزعبلات تنسب إلى الطريقة من القبوريين، والمزمرين المطبلين، وهو منها براء. وقد كشف أمرهم شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره. ولعلّ أوضح شيء يظهر للعيان تلك الفرق الموسيقية ذات الأوتار والأبواق والأجواف التي يجتمعون عليها أمام الناس، وقد أجمع العلماء من كل المذاهب والاتجاهات على تحريم جميع ذلك.
ولكن الفتن تفتح الأبواب، ويدخل فيها من يشاء، والله أسأل هداية الجميع.
مناقشات
وقد قام أحد العلماء الأفاضل بتأليف كتاب عن السلفية، أطلق عليه عنوان:
"السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي"
والحق أن ما جاء في كتابه يخالف ما كتبه عنواناً له.
ووجدت في الكتاب النقول الكثيرة التي تثبِّت للسلفية ما نفاه عنهم، بل وتثبت أن السلفية مذهب إسلامي، وحركة مباركة، مثل باقي المذاهب الأخرى، التي اعتبرها مذاهب!!، وقديماً قالوا: لا مشاحة في الاصطلاح، بل إن مذاهب الأئمة السابقين مثل الإمام أبي حنيفة النعمان (ت 150 هـ)، والإمام مالك (ت 179هـ)، والإمام الشافعي لا تكاد تجد عند واحد منهم أنه سمى فقهه (مذهباً)، وما سمي كذلك إلا بعد ذلك بزمن طويل، وكذلك التسمية "السلفية".
وهذا كان عند من صار له مذهب (فيما بعد) وعند من لم يكن له مذهب، كالأئمة: إبراهيم النخعي (ت 96هـ)، والحسن البصري (ت 110هـ)، والأوزاعي (ت 157هـ)
…
إلخ.
ولا يغيب عني أفراد من أهل العلم في مختلف العصور، سموا أنفسهم بـ (الأثريين) تميزاً عن غيرهم من (المذهبيين المقلدين). ولهم أن يفعلوا ذلك، إذا وافق قولهم الفعل الصحيح بأنهم من أتباع الأثر الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه، ومن جاء بعدهم من غير تقليد!!.
ولكن وجدنا في أيامنا من تطاول وافتخر بإلحاق ذلك باسمه ونسبه أو كتاباته ولقبه، دون أن نجد عندهم ما يُصَحِّحُ ذلك لهم من التزام بالأثر.
وعلى كل حال فإن هذا منهم ينطبق على هؤلاء الأفراد، ولا ينسحب إلى تلك الطائفة السلفية. ولله في خلقه شؤون.
ومن سمح لهؤلاء أن يكون لهم مذهب! يسمح للسلفيين أن يكون لهم طريقة ومنهج في فهم الإسلام. ففي العقيدة: اتباع ما جاء من الجيل الأول، وفي الفقه: الأخذ بما صحَّ من الدليل، وفي العبادة: التمسك بالسنة وعدم الابتداع.
وكل ذلك مذهب، بل موفق المذاهب، وهو معتمد ومعتبر. ومن باب الجدل هب أنهم ليسوا مذهباً، فماذا يضرهم أن يكونوا واقعاً منذ عهد التابعين وحتى اليوم على الطريقة التي اختاروها نسبة لأنفسهم، وعُرفوا بها!!، يرحمك الله يا أخي.
وإن باقي ما جاء في كتابه (القيم بحق) يدخل في باب اختلاف وجهات النظر، لو ابتعد عن حزلقات المماحكة المتأثرة بالعداوة لبعض معاصريه، من المجاهدين الصابرين الذين دخل وإياهم في معارك ما أنزل الله بها من سلطان، وكتابه قارب الثلاثمائة صفحة، وفقه الله وهداه.
وقد رد عليه العديد من السلفيين، وطبعاً بالحق، وقد يكون من بعضهم بالباطل!، وركوب الصعب والذلول.
ولكن ثمةَ كتاب صدر في هذا الموضوع كان في غاية اللطف والأدب، وحسن الدعوة اسمه:"هي السلفية نسبة وعقيدة ومنهاجاً"، لسماحة الشيخ محمد إبراهيم شقرة -من علماء الأردن- زاد عليه بمئة صفحة.
أثبت فيه كل ما نفاه المؤلف السابق بغاية الإقناع، والأدب الجم، والأسلوب الحكيم، والحجج المقنعة، استناداً على الكتاب والسنة الصحيحة، والأقوال المعتمدة عن كبار علماء المسلمين من مختلف العصور، وأثبت فيه أن السلفية ليست فرقة واحدة، بل هي فرق متعددة.
ولم أجد فيه كلمة نابية (خلافاً لما نجده عند بعض إخواننا السلفيين، وإخواننا غير السلفيين غفر الله للجميع) فحق للكتاب الرواج، والنفع العام للناس.
والله أسأل للأخ المؤلف الصحة والعافية، وأن يكتب له التوفيق والخير.
وكذلك كتاب "العقيدة السلفية، والرد على المنحرفين عنها" تأليف الأخ الطيب عمر بن الحسين الجكني، وفيه كلام طيب، ومناقشات علمية مفيدة، كتبت بروح توافقية، وما أحوجنا إلى التوافق بين المسلمين.
* * *
والسلفية اليوم بالجملة تنكر كل ما جاء مخالفاً لما كان عليه المسلمون في العهود الأولى، مما اخترع في العقائد، والفقه (من التقليد الأعمى، والعصبية المذهبية)، وما وجد عند المتصوفة من عقائد، أمثال: وحدة الوجود، وإسقاط التكاليف، وإباحة أنواع من المنكرات، وتعطيل العبادات، وعلى الأخص عند مشايخهم الكبار.
ولذلك فإن السلفيين ينكرون كل ما نسب إلى الشاذلية بأنواعها المتعددة، وما ينسب إلى الجشية الهندية، والقادرية (بعد الشيخ عبد القادر الجيلاني (ت 561هـ))، والرفاعية (بعد الشيخ أحمد الرفاعي)، والتجانية وكتب مؤسسها أحمد التجاني (ت 1230هـ) وخلافاته، وكلها نشهد لهم بضلالها ديناً وسياسة.
* * *
وقد تجنب السلفيون كل ما علق بالصفات الإلهية، والعقائد في منطق الفلاسفة اليونان، ووثنيات الرومان، والفلسفات الأخرى، وعلم الكلام، وكل أقوال القدرية، وهم المعتزلة منكري القدر الذين سموا علم التوحيد بعلم الكلام، واعتمد السلفيون على رفض التأويل، مكتفين بما صح من كلام عربي مبين، وردوا كلام الجبرية بأنها ضلال ومحال، والجهمية والماتريدية ومن تبعهم من الأشاعرة المتأخرين.
أما الأوائل من الأشاعرة فليسوا كذلك، وكتاب "الإبانة" لأبي الحسن الأشعري السلفي بل الحنبلي شاهد على ذلك، والغلط هو عند المتأخرين، لأنه من أكبر الانحرافات عن العقيدة في منهج الاستدلال الصحيح الاعتماد على ما أحدثه علماء الكلام بعد نزول القرآن، وورود الأحاديث، لأن الواجب اتباع كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وقول الأشاعرة منه خليط بين الحق والباطل، بينما العقيدة تعتمد على الكتاب والسنة وإجماع السلف الصالح.
* * *
والسلفيون ومن كان قبلهم يعملون بخبر الواحد، ويأخذون به، خلافاً لمن زعم أنه لا يؤخذ به في العقيدة، مع أنه في الواقع يعمل به مستدلين بالآيات والأحاديث الكثيرة، التي تجاوزت العشرات، بل وبعهد النبي صلى الله عليه وسلم.
وأهل السنة والجماعة وفي مقدمتهم السلفيون يأخذون بخبر الواحد في العقيدة، وهو عندهم يفيد العلم، وفي الفقه قد يفيد الظن عند التعارض، وهو معمول به بإجماع أهل الفقه.
* * *
خاتمة
أقول: هذه هي السلفية بمفهومها القديم، وواقعها المعاصر بالجملة، وأنا أعلم أن إخواني خصوم السلفية لن يعجبهم قولي، لأنه لم يعطهم ما فهموه عنها .. ، ويريدون مني المزيد لأنني -في ظنهم- أعرف منهم بأمورها وخفاياها.
وكذلك ما أظنه يعجب بعض إخواني السلفيين الذين نشأت معهم وبينهم، ولعلي قدمت لهم في مطبوعاتي الكثير الكثير، مما اعتمدوا عليه في دعوتهم، وكأنهم يريدون مني أن أنتصر لما هم عليه
…
ولكن الحق أقررت، وقدمت ما علمت وما ظننت أنه النافع المفيد في سبيل جمع أمة الإسلام على الحق.
وإنني لم أقل إلا ما علمت أنه الصدق.
وسبق لي في "المؤتمر الثامن للوحدة الإسلامية المنعقد بطهران (15 ربيع الأول 1416هـ = 11/ 8/1995م) أن دعوت جميع العاملين في شأن الدعوة إلى الوحدة الإسلامية، إلى التمسك بالقاعدة الذهبية التي سبقني بها العلامة ابن قيم الجوزية، وتبعه فيها السيد محمد رشيد رضا، وشيخنا محمد بهجت البيطار، ونسبت إلى أستاذنا الإمام حسن البنا (ت 1368هـ)، وهي:
نتعاون فيما اتفقنا عليه، (وينصح) بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه
مع رعاية أسباب التقريب والبعد عن إثارة كوامن الحقد .. ، لتحقيق التقريب المنشود لدى أهل الخير من الطرفين.
وقد استقبل كلامي من فضيلة رئيس المؤتمر ومن أعضائه، وفيهم ما لا يقل عن خمس مائة من العلماء المجتهدين، وأغلبهم من أخواننا الشيعة، بكل ترحيب وقبول.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المصادر
- كتاب الوحدة الإسلامية، تأليف زهير الشاويش، سعود المولى.
- المجاهد الصامت الشيخ محمد الأشمر، تأليف لجنة الدراسات الاستراتيجية.
- العقيدة السلفية، والرد على المنحرفين عنها، تأليف الأخ الطيب عمر بن الحسين الجكني.
- هي السلفية نسبة وعقيدة ومنهاجاً، تأليف محمد إبراهيم شقرة.
حفل معهد الدراسات الإسلامية للمعارف الحكمية، بيروت 13 ذو القعدة 1424=5/ 1/2004
* * *
إصدار الكتاب عن معهد المعارف الحكمية، جريدة النهار 25/ 4/2004