الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة:
حمداً لله على النعمة الظاهرة والباطنة كما يليق بجلاله وجنابه ، وصلاة وسلاما على رسوله خير النبيين وأشرف المرسلين ، ومن تمسك بسنته ، وعض عليها بالنواجذ ، واهتدى بهديه من أصحاب من أصحابه وأهل بيته وأتباعه إلى يوم الدين. وبعد:
فإنني قد إشتغلت بكتابي هذا منذ زمن غير قصير ، أقدم عليه تاره وأتأخر عنه أخرى ، متردداً بين الإحجام والإقدام.
ولكننا لما رأينا احتياج الناس إلى معرفة هذه الفئة من الناس وأفكارها وآرائها ومعتقداتها ، وكونهم مترددين متذبذبين في تقييمها ووضعها في مكانها اللائق الصحيح ، خرجنا من ترددنا وتذبذبنا خائفين من وعيد الله وتهديده:
{وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون} (1). و {ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه} (2) وقوله: {لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون} (3).
ويعلم الله أنه لم يكن هذا التحفظ للحفاظ على نفسي وعرضي ومالي لكونها مهددة من قبل الضالين، الغالين ، والمبطلين المنتحلين ، الذين اكتشفنا أمرهم وكشفناه للناس واهتدينا إلى خباياهم وخفاياهم فأظهرناها أمام الآخرين ، وعرضنا صورتهم الحقيقية بإزالة نقاب التقية والتستر عن وجوههم ، وإماطة اللثام عن أسرارهم وعقائدهم وتعاليمهم الأصلية الحقيقية ، لأن نفسي وجسمي ومالي وعرضي جعلتها فداء لوجه ربي وابتغاء مرضاته:
{إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين} (4).
(1) سورة البقرة 146
(2)
البقرة 283.
(3)
آل عمران 71.
(4)
الأنعام 163.
فنفسي وعرضي ومالي فداء شريعته تعالى وسنة نبيه وصفيه ، خير البرية:
فإن أبي ووالدتي وعرضي
…
لعرض محمد منكم وقاء
وكان ذلك مسلك أحبائه ورفاقه وتلامذته ، أصحابه الراشدين وآله الطاهرين والمتبعين لهم بإحسان:
فدت نفسي وما ملكت يميني
…
فوارس صدقوا فيهم ظنوني
وإن التحفظ لم يكن حرصا على نفس وعرض ومال ، فإن لكل شيء قدرا ، وأن أجل الله لآت {ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} (1){وكان أمر الله قدراً مقدوراً} (2) و {كل نفس بما كسبت رهينة} (3).
كنت أظن أول الأمر أن بعض الغلاة هم الذين أساءوا إلى التصوف والصوفية ، وأن الغلو والتطرف هو الذي جلب عليهم الطعن وأوقعهم في التشابه مع التشيع والشيعة ، ولكنني وجدت كلما تعمقت في الموضوع ، وتأملت في القوم ورسائلهم ، وتوغلت في جماعتهم وطرقهم ، وحققت في سيرهم وتراجمهم - أنه لا إعتدال عندهم كالشيعة تماما ، فإن الإعتدال عندهم كالعنقاء في الطيور ، والشيعي لا يكون شيعيا إلا حين يكون مغاليا متطرفاً ، وكذلك الصوفي تماما ، فمن لا يعتقد إتصاف الخلق بأوصاف الخالق ، لا يمكن ان يكون صوفيا ووليا من أولياء الله.
ومن الطرائف أن ظني ذلك كان يجعلني ويحثني على أن أسمي مجموعة الكتابة عن المتصوفة (التصوف بين الإعتدال والتطرف) ولكنني لما كتبت وجدت أن هذا الاسم لا يمكن أن يناسب تلك المجموعة من الناس لعدم وجود الاعتدال مع محاولتي أن أجده لأدافع عنهم وأجادل ، وأبرر بعض مواقفهم ، وأجد المعاذير للبعض الأخرى ، ولكني بعد قراءتي الطويلة العميقة العريضة لكتب الصوفية ومؤلفات التصوف ، وجدت نفسي ، إما أن أجادل بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ، وأتبع كل شيطان مريد - ولا جعلني الله منهم - وإما أن أقول الحق ولا أخاف في الله لومة
(1) الأعراف 34.
(2)
الأحزاب 38.
(3)
المدثر 38.
لائم ، وأتقي الله وأكون مع الصادقين ، جعلني الله منهم ورزقني الاستقامة والثبات عليه ،.
أما بعد: فهذا كتاب جديد نقدمه إلى القراء في موضوع جديد وقديم ، جديد حيث أنه يبحث عن التصوف والصوفية ، وقديم لأنه من نفس السلسلة التي كتبنا عنها وعاهدنا الله عز وجل أن نكتب ونتحدث عنها ، ونتكلم فيها ، ونزنها بميزان الكتاب والسنة ، ونضعها في معيار النقد والتجزئة والتحليل ما دمنا أحياء نستطيع الكتابة والخطابة ، وما دام في أنا ملنا قدرة في إمساك القلم ، وفي اللسان رمق للتفوه والتكلم ، لنؤيد الحق وندعمه ، ونعلي كلمته ونرفع علمه ، ولنبطل الباطل ونرد عليه ، ولندحض شبهاته ونفند مزاعمه.
وإننا كنا نقصد أول ما بدأنا في الكتابة عن التصوف أن نقدم دراستنا فيه بصورة كتاب متوسط الحجم لا يزيد على ثلاثمائة صفحة ، ويشتمل على تاريخ التصوف ، بدايته ، منشأه ومولده ، مصادره وتعاليمه ، عقائده ونظامه ، سلاسله وزعمائه وقادته ، ولكننا رأينا بعد المضي في الكتابة أن الأمر يتطلب أكثر من كتاب ، وعلى الأقل كتابين.
الأول يشتمل على نشأة التصوف ومصادره ، وقلّ من تطرق إليها بتفصيل ، وكل الكتاب الذين بحثوا التصوف مروا عليها كعابر سبيل مع أن أهمية المصادر والمآخذ لطائفة وجماعة لا تقل عن أهمية تلك الجماعة وأفكارها ، بل قد تزيد عليها بفارق كبير حيث إن المصادر والمآخذ كثيرا ما تحسم النزاع في معتقدات وعقائد ، وتجعل تلك المعتقدات والعقائد تابعة لتلك المصادر.
وعلى هذا فقد فصلنا القول في ذلك ، في كتاب مستقل نضعه اليوم بين أيدي الباحثين والقراء راجين أن ينال رضاهم ، ولعلنا سددنا بذلك ثغرة كانت في احتياج لأن تسد ولو أنها تتطلب المزيد ، كما أننا نظن أننا في بحثنا عن مصادر التصوف استطعنا أن نضع النقاط على الحروف ، وخاصة بمقارنة النصوص والعبارات عند الأخذ بالنصوص والعبارات عند المأخوذ عنه ، ومقارنة المقتبس بالمقتبس منه ، من الكتب المعتمدة والمصادر الموثوق بها لدى الأطراف المعنية كلها ، وخاصة في الباب الثالث عن التصوف والتشيع.
ومع إعترافنا بأننا قد سُبقنا إلى هذا البحث من قبل بعض الباحثين الذين كتبوا في هذا الموضوع سيجد القارئ ويلاحظ الباحث أننا أضفنا إليه أشياء
واستدركنا عليهم أشياء كثيرة في مختصرنا هذا لم يتطرق واحد منهم إليها ، مع المقارنة الواضحة ، والمشابهة الصريحة ، والموافقات الجليلة ، والنصوص الكثيرة من كلا الطرفين بدون تصنع وتكلف واستنتاج بعيد واستشهاد شارد غريب ، وأعرضنا عن الأشياء التي كان يمكن إيداعها وإيرادها في هذا المبحث ، ولكن بالكلفة والإستنباط فاخترنا ما لا يسع أحد إنكاره.
فنحن إستدركنا على السابقين مباحث هي أكثر أهمية وأكبر وزنا وأعظم شأنا مما اشتركنا في إيرادها ، ولم يذكروها البتة ، من إشتراك الشيعة والصوفية في إجراء النبوة بعد محمد صلوات الله وسلامه عليه ، ونزول الوحي ، وإتيان الملائكة ، وتكليم الله إياهم ، وعدم خلو الأرض من شخص به ثبات الأرض ووجودها ، وعدم قبول العبادة بدونه ، وتفضيل الوصي على النبي وونسخ الشريعة ، ورفع التكاليف ، وإباحة المحظورات وإتيان المنكرات وغيرها من المواضيع الهامة العديدة ، فالحمد لله على ذلك.
وكذلك يجد القارئ في الباب الثاني من هذا الكتاب عند بحثنا عن المسيحية باعتبارها أحد المصادر الهامة للتصوف أننا قد انفردنا بإيراد نصوص مسيحية أصلية لمقارنتها بالنصوص الصوفية شهادة على الآخذ والمأخوذ عنه.
وقد إخترنا في هذا المبحث مسلكا ذا أبعاد ثلاثة:
أولا: لا نكتفي بإيراد النص الصوفي بل نورد معه النص الذي يشابهه من الديانات الأخرى على خلاف ما تعوده الكتّاب الثقة منهم بأن القارئ والباحث يعرف ذلك ، فليس بضروري أن يكون القارئ متخصصا في هذا الموضوع حتى يكون له إلمامة بنصوص تلك الديانات.
ثانيا: أوردنا تأييدات من قبل الباحثين والكتاب من المسلمين والمستشرقين الذين إشتغلوا في دراسة التصوف بإعتبارها شهادات خارجية بعد الشهادات الداخلية الناتجة من مقارنة النصوص نفسها.
وثالثا: جمع النصوص من المتصوفة المتقدمين والمتأخرين المشهورين بالأعتدال والموثوق لدى العامة ، وكذلك نصوص الآخرين من المتصوفة غير المعتدلين وغير الغلاة أيضا.
وحاولنا أن تكون هذه النصوص من الكتب المختلفة والمتفاوتة زمنا ومنهجا كي يكون الموضوع شاملا وكاملا ، وافيا شافيا قدر الإستطاعة ، وعلة لم يجتمع هذا العدد
من النصوص في مختصر آخر مثل مختصرنا هذا.
فالحمد لله الذي بتوفيقه ومدده وتأييده تتم الأعمال وهو ولي الهداية والرشاد.
ويجدر بنا أن نذكر ههنا أن الكتاب الثاني سيشمل على عقائد وتعاليم صوفية كما يشمل هذا الكتاب على أصلها ومنشأها ومصادرها ووليس معنى هذا أن هذا الكتاب خال عن معتقداتهم ، بل ان أعظم قسط منه يشمل على العقائد والمعتقدات وإننا لم نبحث عن مصادر التصوف ومآخذه تاريخيا وسردنا لذلك شهادات وتوثيقات ، بل أوردنا فيما أوردنا عقائد القوم ، الخاصة بهم ، وتعاليمهم التي إمتازوا بها عن غيرهم ، ثم ذكرنا عمن أخذوا هذه المعتقدات ، وأقتبسوا هذه التعاليم ، واحدة بعد واحدة على أنها شهادات داخلية ، فعلى ذلك هذا الكتاب مع عنوانه (المنشأ والمصادر) لم يبحث في الحقيقة والأصل إلا العقائد والمعتقدات ، بهذا لا يكون هذا الكتاب موضوعيا صرف ، بل يؤدي رسالته لبيان حقيقة هذه العصابة من الناس وكنهها ولإرجاع الأمور إلى نصابها ، ووضع الأشياء في محلها ومقاديرها ، وذلك هو العدل.
والنقطة الأخرى التي أشرنا إليها قبل قليل ، ونريد أن نركز عليها هي أننا ما بنينا حكمنا ، ولا وضعنا احتجاجنا واستدلالنا إلا على المتصوفة المشهورين المعروفين ، والموثوق بهم المعتدلين لدى الجميع ، وذلك أيضا استشهادا ، لا استدلالا ، كما يلاحظ الباحث أننا لم نورد في كل هذا القسم من الحلاج ، ولا من طائفته وجماعته رواية واحدة ، لا استدلالا ولا استشهادا ، كي لا يتهمنا متهم أننا اخترنا الغلاة ورواياتهم للحكم على التصوف ، لأنه في رأينا كما قلنا آنفا لا إعتدال في التصوف ولدى المتصوفة ، اللهم إلا الزهاد الأوائل فإنهم ليسوا منهم ، ولا هؤلاء من أولئك.
فإن التصوف امر زائد وطارئ على الزهد ، وله كيانه وهيئته ، ونظامه وأصوله ، قواعده وأسسه ، كتبه ومؤلفاته ورسائله ومصنفاته ، كما أن له رجالا وسدنة وزعماء وأعيانا.
فإن الزهد عبارة من ترجيح الآخرة على الدنيا ، والتصوف اسم لترك الدنيا تماما.
والزهد هو تجنب الحرام ، والاقتصاد في الحلال ، والتمتع بنعم الله بالكفاف ، وإشراك الآخرين في آلاء الله ونعمه وخدمة الأهل والأخوان والخلان.
والتصوف تحريم الحلال ، وترك الطيبات ، والتهرب من الزواج ومعاشرة الأهل والإخوان ، وتعذيب النفس بالتجوع والتعري والسهر.
فالزهد منهج وسلوك مبني على الكتاب والسنة ، وليس التصوف كذلك ، لذلك إحتيج لبيانه إلى (التعرف لمذهب أهل التصوف) و (قواعد التصوف) و (الرسالة القشيرية) و (اللمع) و (قوت القلوب) و (قواعد التصوف) و (عوارف المعارف) وغيرها من الكتب ، وسيأتي تفصيل ذلك في الكتاب القادم إن شاء الله.
فعندما نكتب نكتب عن هذا المذهب أي مذهب التصوف لا عن الزهد ، لأن الزهد كما ورد في حديث الترمذي (ليس الزهد بتحريم الحلال ، ولا إضاعة المال ولكن الزهد أن تكون بما في يد الله أوثق بما في يدك ، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أصبت أرغب منك فيها لو أنها بقيت لك) لأن الله تعالى يقول: {لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم} (1).
وهذا الأمر أي عدم وجود الاعتدال في التصوف ينطبق على التشيع ، وهذا هو القدر الآخر المشترك بينهما لأننا في بحثنا الطويل في التشيع لم نجد طائفة يمكن أن توصف بالاعتدال ، فالغلو والتطرف من لوازم مذهب التشيع كما قاله الرجالي الشيعي المشهور ، المامقاني في تنقيحه ، فكذلك التصوف لا يعرف إلا الغلو والتطرف.
فالله أسأل أن يجعلنا أمة وسطا حقا ومن الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، يتمسكون بكتاب ربهم وسنة نبيهم ، ويعضون عليها بالنواجذ ، ويدافعون عن حرمات الله وحرمات رسوله ، وأعراض أصحاب محمد وأهل بيته ، ويذبون عن المسلك القويم المستقيم ومنهج السلف الصالحين ، ويردون كيد الضالين المنحرفين ، ومكر المبطلين المنتحلين ، لا يهابون جموعهم المتكاثرة ، وأحزابهم المتكالبة ، وفرقهم المعاضد بعضها بعضا ، ويقولون للغاضبين الناقمين الحاسدين ما قاله أصفياء الله وأخياره {قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنظِرُونِ 195 إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ 196} (2)
…
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
إحسان إلهي ظهير
ابتسام كاتيج - شادمان - لا هور
فبراير 1986 الموافق
جمادى الآخرة 1406هـ
(1) فتاوى شيخ الأسلام ج 10 ص 641 ط الرياض
(2)
الأعراف 195 - 196