الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البَابُ الثاني
مَصَادِرُ التّصوُّفِ وَمَآخِذُهُ
إن أمر التصوف كله مختلف فيه ، فكما أختلف في أصله واشتقاقه ، وحده وتعريفه ، بدئه وظهوره ، وفي أول من تسمى به وتلقب به ، كذلك اختلف في منبعه ومأخذه ، ومصدره ومرجعه ، فتشعبت الآراء وتنوعت الأقوال ، وتعددت الأفكار ، فقال قائل: إنه إسلامي بحت في أشكاله وصوره ، ومبادئه ومناهجه ، وأصوله وقواعده ، وأغراضه ومقاصده ، حتى في ألفاظه وعباراته ، وفلسفته وتعاليمه ، ومواجيده وأناشيده ، ومصطلحاته ومدلولاته ، وهذا هو إدعاء الصوفية ومن والاهم ، وناصرهم ، ودافع عنهم.
وقال قوم: لا علاقه له بالإسلام إطلاقا ، قريبة ولا بعيدة في اليوم الذي نشأ فيه ، ولابعد ماتطور ، وهو أجنبي عنه كاسمه ، فلذلك لا يفتش عن مصادره ومآخذه في القرآن والسنة وإرشاداتهما ، بل يبحث عنها في الفكر الأجنبي ، وهو رأي أكثر السلفيين ومن نهج منهجهم وسلك مسلكهم وكذلك الفقهاء والمتكلمين من أهل السنة من المتقدمين ، والأكثرية الساحقه من المستشرقين ، والكثير من الباحثين والمفكرين المتحررين من الجمود وعصبية التقليد ، من المتأخرين.
وقالت طائفة: إنه اسم للزهد المتطور بعد القرون المشهود لها بالخير كردّ فعل لزخرفة المدينة وزينتها التي انفتحت أبوابها على المسلمين بعد الغزوات والفتوحات وانغماسهم في ترف الدنيا ونعيمها ، ثم حصلت فيه التطورات ، ودخلت أفكار أجنبية والفلسفات غير الإسلامية وذهب إلى هذا الرأي ابن تيمية والشوكاني من السلفيين وغيرهم من بعض أعلام أهل السنة ، حتى الصوفية أنفسهم وبعض المستشرقين.
وقال الآخرون: إن التصوف وليد الأفكار المختلطة من الإسلام واليهودية والمسيحية ومن المانوية والمجوسية والمزدكية ، وكذلك الهندوكية والبوذية ، وقبل كل ذلك من الفلسفة اليونانية وآراء الأفلاطونية الحديثية ، وتمسك بهذا الرأي بعض الكتّاب في الصوفية من المسلمين وغير المسلمين.
فهذه هي خلاصة الاختلاف والآراء المختلفة في أصل التصوف ومأخذه ، ننقاشها في هذا الباب ، وندعم رأينا الذي نراه من بين هذه الآراء المتعددة ، بالأدلة والشواهد ، الخارجية منها والداخلية ، فنقول: إن أفضل طريق للحكم على طائفة معينة وفئة خاصة من الناس هو الحكم المبني على آرائه وأفكاره التي نقلوها في كتبهم المتعمدة والرسائل الموثوق بها لديهم بذكر النصوص والعبارات التي يبني عليها الحكم ، ويؤسس عليها الرأي ولا يعتمد على أقوال الآخرين ونقول الناقلين ، اللهم إلا للاستشهاد على صحة استنباط الحكم وإستنتاج النتيجة.
وهذه الطريقة ولو أنها طريقة وعرة شائكة ، صعبة مستعصبة ، وقل من يختارها ويسلكها ، ولكنها هي الطريقة الصحيحة المستقيمة التي يقتضيها العدل والإنصاف.
وعلى ذلك عندما نتعمق في تعاليم الصوفية الأوائل والأواخر ، وأقاويلهم المنقولة منهم ، والمأثورة في كتب الصوفية ، القديمة والحديثة نفسها ، نرى بونا شاسعا بينهما وبين تعاليم القرآن والسنة ، وكذلك لا نرى جذورها وبذورها في سيرة سيد الخلق محمد صلوات الله وسلامه عليه وأصحابه الكرام البررة خيار خلق الله وصفوة الكون ، بل بعكس ذلك نراها مأخوذة مقتبسة من الرهبنة المسيحية ، والبرهمة الهندوكية ، وتنسك اليهودية ، وزهد البوذية ، والفكر الشعوبي الإيراني المجوسي عند الأوائل ، والغنوصية اليونانية والأفلاطونية الحديثة لدى الذين جاءوا من بعدهم ، وتدل على ذلك تعريفات القوم للتصوف ، التي نقلناها عن كبارهم فيما سبق (1).
وكما تنطق وتشهد تعاليمهم التي هي بمثابة الأسس للتصوف ، والضوابط لمن يدخل في طريقتهم.
فنبدأ أولا بإبراهيم بن أدهم ، وهو من الطبقة الأولى وأئمة التصوف الأوائل ، وكثيراً ما تبدأ كتب طبقات الصوفية بذكره واسمه ، ولا يخلوا كتاب من كتب التصوف وسيرته.
ومما يذكر بيانا لشأنه الرفيع ومكانته السامية أنه كان من أبناء الملوك وملكا لبلخ ، وتزوج من امرأته جميلة ، وله ولد ، ولكنه ترك الملك والزوجة والأولاد ، وكل من كان يملكه ، للنداء الغيبي ، أو للقاء الخضر الذي لقنه ذلك ، مثل ما ترك بوذا ملكه وزوجته ، وأبنه وملاذ الدنيا وزخارفها طبقا بطبق ، وحذو القذة بالقذة ، خلافا لتعاليم
(1) انظر الفصل الثالث من الباب الأول من هذا الكتاب.
الإسلام وأسوة الرسول وسيرة الصحابة ، ولا يوجد له أي مثال في الكتاب ولا في السنة ، ولا من السلف الصالح ومع ذلك يبجّل الصوفية ذكره ، ولذلك يجعلونه قدوة يقتدى ، ومثالا يحتذى ، ويفتخرون بذكره وأحواله ، مع أن أحواله تلك ليست إلا ناطقة بالبوذية المنسوخة الممسوخة التي لم ينزل الله بها من سلطان.
فنود أن نورد تلك الحكاية الصوفية الباطلة ، من التصوف القديم الأصيل ، ومن الصوفي الذي يعدّ من الأعلام والأقطاب مقارنة بقصة بوذا ، المنقولة من الكتب البوذية ، ولبيان أنها تشتمل على ترهات وأكاذيب فاحشة مكشوفة تنطق بكونها مختلفة موضوعة مكذوبة ، وننقل هذه القصة من تذكرة صوفية قديمة (تذكرة الأولياء) لفريد اليدن العطار ، مقتبسين ترجمتها العربية من صادق نشأت:
(إن إبراهيم بن أدهم كان ملكا لبلخ ، وتحت إمرته عالم ، وكانوا يحملون أربعين سيفا من الذهب وأربعين عمودا من الذهب من أمامه ومن خلفه ، وكان نائما ذات ليلة على السرير ، فتحرك سقف البيت ليلا ، كأنما يمشي أحد على السطح ، فنادى: من هذا .. ؟ فقال: صديق فقدت بعيرا أبحث عنه على هذا السقف ، فقال: أيها الجاهل ، أتبحث عن البعير فوق السطح
…
؟ فقال له: وأنت أيها الغافل تطلب الوصول إلى الله في ثياب حريرية وأنت نائم على سرير من ذهب
…
؟ فوقعت الهيبة في نفسه من هذا الكلام ، واندلعت في قلبه نار ، فلم يستطع النوم حتى الصباح ، وعندما أشرق الصبح ذهب إلى الإيوان وجلس على السرير متحيرا مفكرا حزينا ، ووقف أركان الدولة كل في مكانه واصطف الغلمان وأذنوا إذنا عاما ، فدخل رجل مهيب من الباب بحيث لم يكن لأي أحد من الخدم أو الحشم الجرأة على أن يقول له من أنت ، ولم ينبسوا ببنت شفه ، وتقدم الرجل حتى واجه سرير إبراهيم ، فقال له: ماذا تريد .. ؟ قال: أنزل في هذا الرباط ، قال: ليس هذا برباط ، إنما هو قصري ، وإنك لمجنون ، فقال: لمن كان هذا القصر قبل هذا؟ قال: كان لأبي ، قال وقبل ذلك ، قال: كان ملكا لجدي
…
وقبل ذلك؟ قال: ملكا لفلان ، قال: أو ليس الرباط هو ما يحل به أحد ويغادره الآخر .. ؟ قال هذا واختفى ، وكان هو الخضر عليه السلام ، فازدادت حرقة روح إبراهيم ولوعته ، وازداد ألمه حدة نتيجة لهذه الحال ، وازدادت هذه الحال من واحد إلى مائة ضعف ، إذ أنه رأى أنه قد اجتمع ما شاهده نهارا مع ما وقع ليلا ولم يعرف مما سمع ، ولم يعلم ماذا رأى اليوم ، فقال: أسرجوا الجواد لأني أريد الذهاب للصيد ، فقد حدث لي اليوم
شيء لست أدري ما هو ، فيا إلهي إلى أين تنتهي هذه الحال
…
؟ فأسرجوا له جوادا ، وتوجه للصيد ، فكان يتجول في البرية دهشا بحيث لم يعرف ماذا يفعل ، فأنفصل عن جيشه وهو في تلك الحال من الدهش ، فسمع صوتا في الطريق يقول له: انتبه ، فانتبه ، ولم يصغ إليه ، وذهب وجاءه هذا النداء للمرة ثانية ، فلم يعره سمعا للمرة الثالثة نفس ذلك النداء ، فأبعد نفسه عنه ، وسمع للمرة الرابعة من يقول:(انتبه قبل أن تنبه) ففقد صوابه تماما وفجأة ظهرت غزالة فشغل نفسه بها ، فأخذت الغزالة تخاطبه قائلة: إنهم بعثوني لصيدك ، وإنك لن تستطيع صيدي ، ألهذا خلقت؟ أو بهذا أمرت؟ إنك خلقت للذي للذي تعمله وليس لك عمل آخر ، فقال إبراهيم: ترى ما هذه الحال .... ؟
وأشاح بوجهه عن الغزالة ، فأرتفع نفس ذلك الصوت الذي قد سمعه من الغزالة من قربوس السرج ، فوقر في نفسه الخوف والفزع وأزداد كشفا ، وحيث أن الحق تعالى أراد أن يتم الأمر ارتفع ذلك الصوت ثلاث مرات أخر من حلقة جيبه ، وبلغ ذلك الكشف هنا حد الكمال ، وأنفتح عليه الملكوت ونزل ، وحصل له اليقين ، فابتلت الملابس والجواد من ماء عينيه ، وتاب توبة نصوحا ، وانتحى ناحية من الطريق ، فرأى راعيا يرتدي لبادا ، وقد وضع قلنسوة من اللباد على رأسه ، وأمامه الأغنام وأخذ منه اللباد ولبسه ووضع قلنسوة اللباد على رأسه وطفق يسير راجلا في الجبال والبراري هائما على وجهه ينوح من ذنوبه ، ثم غادر المكان إلى أن بلغ نيسابور ، فأخذ يبحث عن زاوية خالية يتعبد فيها حتى وصل إلى ذلك الغار المعروف واعتكف فيه تسعة أعوام.
ومن ذا الذي يعلم ما كان يفعله هناك في الليل والنهار ، إنه ينبغي أن يكون رجلا عظيما ذا مادة واسعة حتى يستطيع الإقامة في مثل ذلك المكان ، وصعد إبراهيم يوم خميس إلى ظاهر الغار وجمع حزمة حطب واتجه في الصباح إلى نيسابور حيث باعها ، وصلى الجمعة واشترى بثمن الحطب خبزا ، وأعطى نصفه لفقير وتناول النصف الآخر ، وأتخذ منه إفطاره وداوم صيامه حتى الأسبوع التالي ، وبعد أن وقف الناس على شأنه هرب من الغار وتوجه إلى مكة ، وقيل أنه بقي أربعة عشر عاما يطوي البادية حيث كان يصلي ويتضرع طوال الطريق حتى أشرف على مكة ، وروي أنه كان له طفل رضيع عند مغادرته بلخ ، ولما أيفع طلب من أمه أباه ، فقصت له الأم الحال قائلة: إن أباك قد تاه ، ونقل عنه أنه قال: عندما كنت أسير في البادية متوكلا ، ولم أتناول شيئا مدة ثلاثة أيام جاءني إبليس وقال: أنت ملك ، وتركت
هذه النعمة لتذهب جائعا إلى الحج
…
؟ لقد كان بمقدورك الحج بعز وجلال حتى لا يصيبك كل هذا الأذى ، قال: عندما سمعت هذا الكلام منه رفعت صوتي وقلت: إلهي !! سلطت العدو على الصديق حتى يحرقني فأغثني حتى أستطيع قطع هذه البادية بعونك ، فسمعت صوتا يقول: يا إبراهيم ! ألق ما في جيبك حتى تكشف ما هو في الغيب فمددت يدي إلى جيبي فوجدت أربعة دوانيق فضية كانت قد بقيت منسية ، ولما رميتها جفل إبليس مني وظهرت قوة من الغيب) (1).
وورد ذكره وحكايته أيضا في (طبقات الصوفية) للسلمي (2)
…
.
وفي (حلية الأولياء) للأصبهاني (3).
وفي (الرسالة) للقشيري (4).
وفي (جمهرة الأولياء) للمنوفي الحسيني (5).
وفي (نفحات الأنس) للجامي (6).
وفي (طبقات الأولياء) لابن الملقن المتوفى 804 هـ (7).
وفي (الطبقات الكبرى) للشعراني (8).
فهذه هي قصة إبراهيم بن أدهم ، وفيها ما فيها من ترك الأهل والزوج والولد بدون جريمة إرتكبوها ، وإثم اقترفوه ، خلافا لأوامر القرآن وإرشادات الرسول صلى الله عليه وسلم ، المشهورة المعروفة شبها ببوذا ، وهاهي خلاصة قصته:
(وكانت قبيلة ساكياس تقطن في شمال بنارس ، وهي التي ولد فيها أواسط القرن السادس قبل الميلاد ، وقد مات في سنة 478 قبل الميلاد بعد أن عمر ثمانين عاما. وتزوج بوذا في سن التاسعة عشرة ابنة عمه ، وكان في رغد وسعادة. وبينما كان يسير يوما إلى الصيد وهو في التاسعة والعشرين شاهد رجلا قد بلغ من كبر سنه منتهى الضعف والعجز ، ورأى في وقت آخر شخصا مبتلى بمرض استعصى علاجه
(1) انظر (تذكرة الأولياء) لفريد الدين العطار ص 53 وما بعد ط باكستان.
(2)
طبقات السلمي ص 12 مطابع الشعب القاهرة 1380هـ.
(3)
حلية الأولياء للأصبهاني ج7 ص 367 وما بعد ط دار الكتاب العربي لبنان.
(4)
الرسالة القشيرية ج1 ص54 وما بعد ط دار الكتب الحديثة - القاهرة بتحقيق الدكتور عبد الحليم محمود.
(5)
جمهرة الأولياء ج2 ص 125 ط مؤسسة الحلبي - القاهرة 1967م.
(6)
نفحات الأنس للجامي ص41 الطبعة الفارسية إيران.
(7)
طبقات الأولياء لابن ملقن ص 5 نشر مكتبة الخانجي - القاهرة الطبعة الأولى 1393 هـ.
(8)
الطبقات الكبرى للشعراني ج1 ص 69.
ويحتمل الآلام وبعد مدة أخرى تأثر واشمأز لرؤية منظرا كريها لجثة في حالة من الفساد ، وكان خادمه وصاحبه الوفي المسمى (جانا) يذكره وينبهه في كل هذه الحالات ويقول له:(هذا هو مصير حياة البشر) وشاهد بوذا أحد النساك يمر عليه وهو في منتهى الراحة والأبهة والكرامة فسأل جانا ما حال هذا الرجل .. ؟ فحكى له جانا تفصيلا عن أخلاق الزهاد الذين أعرضوا عن كل شيء وعن أحوالهم ، وقال له: إن هؤلاء الجماعة في سير وأرتحال دائم وهم يعلمون الناس أثناء سياحتهم ورحلاتهم تعاليم هامة بالقول والعمل.
والخلاصة أنه برغم إختلاف الروايات لا شك في أن ذهن هذا الأمير الشاب قد أخذ يضطرب تدريجيا وينفر من الحياة وضوضائها.
ووفد عليه رسول يوما في أثناء أزماعه العودة من النزهة وبشره بميلاد ولد هو أول مولود له ، فقال بوذا لنفسه في تلك الحالة النفسية المضطربه دون أن يشعر:(ما هي ذي رابطة جديدة تربطني بالدنيا). والخلاصة أنه عاد إلى المدينة بينما كان المطربون يلتفون حوله. فطرب ورقص في تلك الليلة أقاربه وذوو رحمه فرحا بالمولود الجديد. لكن بوذا كان من الامتعاض والاضطراب بحيث لم يكترث بتلك الأوضاع أبدا. وأخيرا نهض من فراشه في آخر الليل كمن التهمت النار داره وأوعز إلى جانا أن يحضر له الفرس ومد رأسه في هذه الأثناء إلى غرفة زوجته وولده الوحيد من غير أن يوقظهما وعلى العتبة أخذ على نفسه عهدا ألا يعود إلى داره ما لم يصبح (بوذا) أي (حكيما مستنيرا) وقال:
(أذهب لأعود إليكم معلما وهاديا لا زوجا ووالدا) والخلاصة أنه خرج مع جانا وهام في البراري ، وفي هذه اللحظة ظهر في السماء (مارا) أي الوسواس الكبير (إبليس أو النفس الأمارة) ووعده بالملك والعز في الدنيا بأسرها لكي يرجع عن عزمه لكنه لم يقع في شرك الوسوسة. فسار بوذا قليلا في تلك الليلة على شاطئ النهر ثم وهب لجانا جوهره وملابسه الفاخره وأعاده ومكث سبعة أيام بلياليها في غابة ثم التحق إلتحق بخدمة برهمي يدعى (الارا) كان في تلك البقعة وأختار بعد ذلك صحبة برهمي آخر يسمى (أودراكا) وتعلم من هذين الرجلين حكمة وعلوم الهند كلها ، ولكن قلبه لم يستقر بعد فذهب إلى غابة كانت في أحد الجبال ، وهناك صحب خمسة من التلاميذ الذين كانوا يحيطون به ومارس التوبة والرياضات الشاقة ست سنين حتى اشتهر في تلك الناحية ، فاعتزم لهذا أن يهجر ذلك المكان ولما قام ليذهب سقط على الأرض لشدة ضعفه
وعجزه ، وغاب عن وعيه بحيث ظن تلاميذه أنه فارق الحياة ، ولكنه عاد إلى رشده فترك الرياضات الشاقة منذ ذلك الحين وأخذ يأكل طعامه بانتظام ، ولما رأى التلاميذ الخمسة الذين كانوا في صحبته أنه مل من الرياضة نفضوا أيديهم من إحترامه وتركوه وذهبوا بنارس.
أما بوذا فإنه ترك ملذات الدنيا وثروتها والمقام فيها حتى ينال الضمير والطمأنينة عن طريق التعلم والفلسفة وحكمة الآخرين فلم يستطع أن ينال بتلك الرياضة والتوبة طمأنينة القلب التي كان يصبوا إليها والحاصل أنه بقي حيران في أمره ذاهلا وفي نفس ذلك اليوم الذي تفرق فيه عن تلامذته مكث بوذا تحت شجرة يتأمل ويفكر في نفسه ، ماذا يعمل
…
؟ وأي طريق يتبع .. ؟ وهاجمته وساوس كثيرة وتاقت نفسه إلى الزوجة والولد والجاه والثروة والترف والنعيم ، واستمر هذا الكفاح والجهاد مع النفس حتى غروب الشمس. ونتيجة لهذا الكفاح اتصل (بنير فانا) وتأكد لديه أنه أصبح (بوذا) أي أنه نال الإشراق واستنار ، وحينئذ نال بوذا ما كان يصبو إليه من الراحة والطمأنينة. لذلك عزم أن يمارس الإرشاد. وأن يعرض رغبته على الآخرين ، وكان بوذا وقتئذ في الخامسة والثلاثين من عمره فقصد في بادئ الأمر أستاذيه (الارا) و (أودراكا) ولكنه علم بعد ، بأنهما قد توفيا ، فذهب إلى تلامذته الخمسة من بنارس وأرشدهم وجعلهم من أتباعه ، وآمن به أبوه وأمه وزوجته كذلك ، ثم أمر زمرة من خواص مريديه أن يقوموا بإرشاد الناس) (1)
…
.
فهذه هي خلاصة قصة بوذا ، وهي عين ما ذكره الصوفية عن إبراهيم بن أدهم ابن الأمير البلخي الذي طلق الدنيا وتزيّا بزيّ الدراويش ، وبلغ درجة أكابر الصوفية برياضته الطويلة ، وتلك صورة طبق لأصل لما كانوا قد سمعوه عن حياة بوذا (2).
ثم علّق عليه الدكتور قاسم غني الباحث الإيراني بقوله:
(1) انظر للت دستر الباب الحادي والعشرون فقرات 125 ، 126 ، 127 ، 131 ، أيضا دائرة المعارف البريطانية نقلا عن تاريخ التصوف في الإسلام للدكتور قاسم غني ترجمة عربية ص 223 وما بعد ، أيضا جستجودر تصوف إيران (فارسي) للدكتور عبد الحسين زرين كوب ص 6 ، 7 ط مؤسسة انتشادات امير كبير طهران 1363 هجري قمري.
(2)
نفس المصدر السابق أيضا.
(وحدس (جولدزيهر) يمكن أن يكون صحيحا وهو من الأحتمالات القريبة من الواقع ، وقد شوهدت لها نظائر كثيرة - إلى أن قال -: وإذا ما قارن أحد بين قصة بوذا كما وردت في مدونات البوذيين بقصة إبراهيم بن أدهم ذات الطابع الأسطوري ، الواردة في كتب تراجم العارفين مثل (حلية الأولياء) للأصفهاني ، و (تذكرة الأولياء) للشيخ العطار وجد شبها عجيبا بين تلك القصتين يستلف نظرة) (1).
هذا وهناك أقوال لإبراهيم بن أدهم وغيره من كبار الصوفية وأقطابهم في الزواج والأولاد تخبر بجلاء عن مواردها ومنابعها ، فها هي تلك الأقوال من أهم كتب الصوفية:
ينقل الطوسي والعطار عن إبراهيم بن أدهم أنه قال:
(إذا تزوج الفقير فمثله مثل رجل قد ركب السفينة ، فإذا ولد له ولد قد غرق)(2).
ونقل السهروردي عنه أنه قال: (من تعود أفخاذ النساء لا يفلح)(3).
ونقل أبو طالب المكي - وهو من أعلام الصوفية البارزين وأئمتهم المتوفى سنة 386 هـ - عن قطب من أقطاب الصوفية الأوائل عن أبي سليمان الداراني المتوفى سنة 215 هـ:
(من تزوج فقد ركن إلى الدنيا)(4).
ونقل السهروردي في (عوارفه) الذي هو أشهر كتاب في التصوف عن أبي سليمان الداراني أيضا أنه قال: (ما رأيت أحدا من أصحابنا تزوج فثبت على مرتبته)(5).
ونقل المكي عن سيد الطائفة الجنيد البغدادي أنه قال: (أحب للمريد المبتدي أن لا يشغل قلبه بالتزوج)(6).
(1) انظر تاريخ التصوف في الإسلام للدكتور قاسم غني عربية ص 223.
(2)
كتاب اللمع للطوسي ص 265 باب آداب المتأهلين ومن ولد بتحقيق الدكتور عبد الحليم محمود وطه عبد الباقي سرور ، وتذكرة الأولياء للعطار ص 57 ط باكستان.
(3)
عوارف المعارف للسهروردي ص 166 ، أيضا غيث المواهب العلمية للنفزي الرندي ج1 ص 208.
(4)
قوت القلوب لأبي طالب المكي ج1 ص 252 ط دار صادر بيروت ، غيث المواهب العلية ج1 ص 208.
(5)
عوارف المعارف للسهروردي الباب الحادي والعشرون ص 165 ط دار الكتاب العربي بيروت 1983 م.
(6)
انظر قوت القلوب في معاملة المحبوب لأبي طالب المكي ج1 ص 267.
كما نقل عن بشر بن الحارث أنه قيل له: (إن الناس يتكلمون فيك ، فقال: وما عسى يقولون؟ قيل: يقولون: إنك تارك السنة يعنون النكاح.
فقال: قل لهم: إني مشغول بالفرض عن السنة ، وقال مرة: ما يمنعني من ذلك إلا آية في كتاب الله تعالى قوله: {ولهن مثل الذي عليهن} ، ولعسى أن لا أقوم بذلك ، وكان يقول: لو كنت أعول دجاجة لخفت أن أكون جلاداً على الجسر هذا. يقوله في سنة عشرين ومائتين والحلال والنساء أحمد عاقبة ، فكيف بوقتنا هذا؟
فالأفضل للمريد في مثل زماننا هذا ترك التزويج) (1)
…
.
ويقول السهروردي:
(التزوج انحطاط من العزيمة إلى الرخص ، وجوع من الترمح إلى النقص ، وتقيدا بالأولاد والأزواج ، ودوران حول مظان الاعوجاج ، والتفاف إلى الدينا بعد الزهادة ، وانعطاف على الهوى بمقتضى الطبيعة والعادة)(2).
ثم نقل حديثا مكذوبا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(خيركم بعد المائتين رجل خفيف الحاذ ، قيل: يا رسول الله وما خفيف الحاذ؟. قال: الذي لا أهل له ولا ولد. وقال بعض الفقراء - لما قيل له: تزوج -: أنا إلى أن أطلق نفسي أحوج مني إلى التزوج)(3).
وصوفي آخر محمد بن إبراهيم النفزي الرندي المتوفى سنة 792 هـ ينقل عن صوفي قديم آخر ، وهو سهل بن عبد الله التستري أنه قال:
(إياكم والاستمتاع بالنساء ، والميل إليهن ، فإن النساء مبعّدات من الحكمة ، قريبات من الشيطان ، وهي مصايده وحظه من بني آدم ، فمن عطف إليهن بكليته فقد عطف على حظ الشيطان ، ومن حاد عنهن يئس منه ، وما مال الشيطان إلى أحد كميله إلى من استرق بالنساء ، وإن الشر معهن حيث كنّ ، فإذا رأيتم في وقتكم من قدركن إليهن فايأسوا منه.
قيل له: فحديث النبي صلى الله عليه وسلم: حبّب إليّ من دنياكم ثلاث ، فذكر النساء؟.
(1) قوت القلوب ج2 ص 238 ، أيضا عوارف المعارف ص 165 ، أيضا الطبقات الكبرى للشعراني ج1 ص 73 ط دار العلم للجميع - القاهرة 1954 م.
(2)
انظر عوارف المعارف ص 164 ، 165.
(3)
نفس المصدر ص 165.
فقال: النبي صلى الله عليه وسلم معصوم ، وقد بلّغكم ما كان فيه معهن ، هي عدوّة الرجل ظاهرا وباطنا ، إن ظهرت له لمحبة أهلكته ، وإن أضمر تهاله ، وإن الله عز وجل جعلهن فتنة ، فنعوذ بالله من فتنتهن) (1).
ونقل عن صوفي آخر حذيفة المرعشي المتوفى 207 هـ أنه قال:
(كان ينبغي للرجل لو خيّر بين أن يضرب عنقه ، وبين أن يتزوج امرأة في الفتنة لاختار ضرب العنق على تزويج امرأة في الفتنة)(2)
…
.
ونقل ابن الملقن سراج الدين أبو حفص عمر علي المصري المتوفى 804 هـ في كتابه عن أحد كبار الصوفية:
(ما تزوج أحد من أصحابنا إلا تغير)(3).
ونقل الشعراني عن رباح بن عمرو القيسي - من الصوفية الأوائل - أنه قال: لا يبلغ الرجل إلى منازل الصديقين حتى يترك زوجته كأنها أرملة ، وأولاده كأنهم أيتام ، ويأوي إلى منازل الكلاب (4).
وكتب صوفي قديم آخر ، وهو أبو الحسن علي الهجويري المتوفى قريبا سنة 465 هـ قصة غريبة في العزلة والتجرد نقلا عن إبراهيم الخواص أنه قال:
(وصلت إلى قرية بقصد زيارة عظيم كان هنالك ، ولما ذهبت إلى داره رأيت بيتا نظيفا مثل معبد الأولياء ، وقد جعل في زاويتين من البيت محرابين ، وجلس في أحدهما شيخ ، وفي الآخر عجوز نظيفة وضيئة ، وقد ضعف كلاهما من كثرة العبادة ، فأظهر السرور بقدومي ، وبقيت هنالك ثلاثة أيام ، ولما أردت العودة سألت الشيخ: من تكون لك تلك العفيفة؟ قال: هي من ناحية ابنه عمي ، ومن ناحية أخرى زوجي ، فقلت: رأيتكما خلال هذه الأيام الثلاثة كالغربيين تماما في الصحبة ، قال: نعم ، منذ خمسة وستين عاما ونحن كذلك فسألته عن سبب ذلك ، فقال: إعلم إننا كنا عاشقين لأحدنا الآخر في الصغر ، ولم يكن أبوها يعطيها لي لأن محبتنا صارت معروفة ، فتحملت ذلك حتى توفى أبوها ، وكان والدي عمها ، فزوجها لي ، فلما
(1) غيث المواهب العلية في شرح حكم العطائية لأبي عبد الله محمد بن إبراهيم النفزي ج1 ص 209 بتحقيق الدكتور عبد الحليم محمود والدكتور محمود الشريف ط مطبعة السعادة القاهرة.
(2)
نفس المصدر.
(3)
طبقات الأولياء لابن الملقن ص 36 نشر مكتبة الخانجي القاهرة الطبعة الأولى 1393 هـ.
(4)
طبقات الشعراني ج1 ص 46.
كانت الليلة الأولى من تلاقينا قالت لي: أنت تعلم أية نعمة أنعمها الله علينا إذ أوصل كلامنا إلى الآخر ، وأفرغ قلبينا من القيود والآفات السيئة ، فقلت: نعم ، قالت: فلنمنع أنفسنا الليلة عن هوى النفس ، وندس على مرادنا ، ونعبد الله شكراً على هذه النعمة ، فقلت: هذا صواب ، وقالت هذا نفسه في الليلة التالية. وقلت أنا في الليلة الثالثة: لقد أدينا الشكر ليلتين من أجلك ، فلنقض ليلتين أيضا في العبادة من أجلي. وقد تمت الآن خمسة وستون عاما لم يمس أحدنا الآخر ، ونحن نقضي كل العمر في شكر النعمة) (1).
وقال بعد نقلها ونقل أشياء أخرى:
(وفي الجملة: إن أول فتنة قدرت على آدم في الجنة كان أصلها امرأة. وأول فتنة ظهرت في الدنيا - أي فتنة هابيل وقابيل - كانت أيضا بسبب امرأة. وحين أراد الله تبارك وتعالى أن يعذب إثنين من الملائكة جعل سبب ذلك امرأة. وهن جميعا إلى يومنا هذا سبب جميع الفتن الدينية والدنيوية ، لقوله عليه السلام: (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء) ، فإذا كانت فتنتهن بهذا القدر في الظاهر ، فكيف تكون في الباطن؟
وأنا علي بن عثمان الجلابي ، من بعد أن حفظني الحق تعالى من آفة الزواج أحد عشر عاما ، قدر أن وقعت في الفتنة ، وصار ظاهري وباطني أسير الصفة التي كانوا عليها معي ، دون أن تكون هنالك رؤية ، وقد استغرقت في ذلك عاما ، بحيث كان يفسد على ديني ، إلى أن بعث الحق تعالى بكمال فضله وتمام لطفه عصمته لاستقبال قلبي المسكين ، ومنَّ عليّ بالخلاص برحمته ، والحمد لله على جزيل نعمائه.
وفي الجملة فإن قاعدة هذا الطريق وضعت على التجريد ، وعندما جاء التزويج اختلف أمرهم ، ولا يوجد أي عساكر الشهوة إلا ويمكن إخماد ناره بالاجتهاد ، لأن الآفة التي تنشأ منك تكون آلة دفعها معك أيضا ، ولا يلزم الغير حتى تزول عنك تلك الصفة.
وزوال الشهوة يكون بشيئين: واحد يدخل تحت دائرة التكلف ، وواحد يخرج عن دائرة الكسب والمجاهدة ، فما يدخل في تكلف الآدمي ومقدوره هو الجوع ، وأما ما يخرج من التكلف الهمم ، وتنشر المحبة سلطانها في أجزاء الجسد ، وتعزل كل الحواس عن أوصافهم ، وتجذب كل العبد ، وتغني عنه الهزل.
(1) كشف المحجوب للهجويري ص 610 ، 611.
وإن الحمد بن حماد السرخسي ، الذي كان رفيقي في ما وراء النهر ، رجلا محتشما ، قيل له: أبك حاجة إلى التزويج ، قال: لا ، قالوا: لم؟ قال: إنني في حالي إما أن أكون غائبا عن نفسي ، وإما أن أكون حاضرا بنفسي. وحين أكون غائبا لا أفكر في الكونين ، وحين أكون حاضرا فإنني أجعل نفسي بحيث إذا وجدت رغيفا تعتبر أنها وجدت ألفا من الحور. فانشغال القلب بكل ما تريده يكون عظيما ، فتنبه) (1).
وذكر السراج الطوسي أيضا قصة صوفي تزوج من امرأة فبقيت عنده ثلاثين سنة وهي بكر (2).
وذكر العطار عن عبد الله بن خفيف الصوفي المشهور أنه تزوج أربعمائة امرأة ولكنه لم يجامع واحدة منهن (3).
وهل لسائل أن يسأل: ما الغرض الذي كان من نكاحه إياهن؟.
والشعراني أيضا عن صوفي آخر ياقوت العرشي أنه تزوج ابنة شيخه أبي العباس المرسي فمكثت عنده ثماني عشرة سنة لا يقربها حياء من والدها ومنها ، وفارقها بالموت وهي بكر (4).
ونقل عن الشعراني أيضا عن أحد المتقدمين من الصوفية مطرف بن عبد الله الشغير المتوفى سنة 207 هـ أنه قال:
(من ترك النساء والطعام فلابد له من ظهور كرامة)(5).
ونقل أيضا في كتابه (تنبيه المغتربين) من أحد الصوفية أنه قال:
من تزوج فقد أدخل الدنيا بيته
…
فاحذروا من التزويج (6).
وينقل ابن الجوزي عن أبي حامد الغزالي أنه قال:
(ينبغي أن لا يشغل المريد نفسه بالتزويج ، فإنه يشغله عن السلوك ويأنس
(1) كشف المحجوب الطبعة العربية 610 ، 611.
(2)
اللمع للسراج الطوسي ص 264.
(3)
انظر تذكرة الأولياء لفريد الدين العطار ص 241 ط باكستان.
(4)
الأخلاق المتبولية لعبد الوهاب الشعراني ج3 ص 179 بتحقيق الدكتور منيع عبد الحليم محمود ط مطبعة دار التراث العربي - القاهرة 1974 م.
(5)
طبقات الشعراني ص 34.
(6)
تنبيه المغتربين للشعراني ص 29.
بالزوجة ، ومن أنس بغير الله شغل عن الله تعالى) (1).
هذا ومثل هذا كثير.
ولقد بوب الصوفية في كتبهم أبوابا مستقلة في مدح العزوبة وذم التزويج ، وهذا الأمر لا يحتاج إلى بيان أنه لم يأخذه المتصوفة إلا من رهبان النصارى ونساك المسيحية الذين ألزموا أنفسهم التبتل ، خلافا لفطرة الله التي فطر الناس عليها.
تقليدا لهم واتباعا لسنتهم ، واقتداء لمسالكهم ومشاربهم ، مخالفبن أوامر الله وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم الناسخ لجميع الشرائع والأديان ، المبعوث بمكارم الأخلاق وفضائل العادات ، فالله يأمر المؤمنين في محكم كتابه بنكاح النساء مثنى وثلاث ورباع وعند الخوف من عدم العدل بواحدة ، فيقول جل من قائل:
وجعل الزواج سببا لحصول السكون والطمأنينة حيث قال عز وجل:
ورسوله صلوات الله وسلامه عليه يحذر المعرضين عنه في حديث طويل أورده البخاري ومسلم من حديث أنس من حديث أنس رضي الله عنه أنه قال:
(إن نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي عليه السلام عن عمله في السر فأخبرهم فقال بعضهم: لا آكل اللحم ، وقال بعضهم: لا أتزوج النساء ، وقال بعضهم: لا أنام على فراش ، وقال بعضهم: أصوم ولا أفطر ، فحمد الله النبي عليه الصلاة والسلام وأثنى عليه ، ثم قال: ما بال أقوام قالوا كذا وكذا ، لكني
(1) انظر تلبيس إبليس لابن الجوزي ص 286.
(2)
سورة النساء الآية 3.
(3)
النور 32.
أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء. فمن رغب عن سنتي فليس مني) (1).
وقال: (تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة)(2).
وقال عليه الصلاة والسلام: (حبب إلى من الدنيا الطيب والنساء ، وجعلت قرة عيني في الصلاة)(3).
وعن أبي ذر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(وفي بضع أحدكم صدقة ، قالوا: يأتي أحدنا شهوته ويكون فيها له أجر؟. قال: أفرأيتم لو وضعه في حرام ، هل عليه وزر؟ قالوا: نعم. قال: فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر)(4).
وما أحسن ما قال إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل رحمة الله عليه:
(ليس العزوبة من أمر الإسلام في شيء ، النبي عليه الصلاة والسلام تزوج أربع عشرة امرأة ومات عن تسع ، ثم قال: لو كان بشر بن الحارث تزوج قد تم أمره كله ، لو ترك الناس النكاح لم يغزوا ولم يحجوا ولم يكن كذا ، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يصبح وما عنده شيء ، وكان يختار النكاح ويحث عليه ، وينهى عن التبتل ، فمن رغب عن عمل النبي عليه الصلاة والسلام فهو على غير الحق. ويعقوب عليه السلام في حزنه قد تزوج وولد له. والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (حبب إلى النساء)) (5).
فهذه هي تعاليم شريعة الإسلام المستقاة من أصلين أساسيين لشرع الله الكتاب والسنة.
وتلك هي أقوال الصوفية ، التي لم يأخذوها من هذا المورد العذب ، والمنهل الصافي ، بل أخذوها من الكهنة والبوذية كما مر ذلك ، ونساك الجينية ، ورهبان المسيحية. وأمر أولئك في هذا الباب مشهور ومعروف لا يحتاج إلى كثير من البيان ، ولكن لإقامة البرهان ننقل بعض آيات من إنجيل ، فقال المسيح:
(1) متفق عليه واللفظ للبخاري.
(2)
رواه أبو داوود والنسائي والبيهقي عن معقل بن يسار.
(3)
رواه أحمد والنسائي.
(4)
رواه مسلم.
(5)
تلبيس إبليس لابن الجوزي ص 285 ، 286.
(ويوجد خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت السماوات ، من استطاع أن يقبل فليقبل)(1).
ويقول رسول المسيحيين في رسالته إلى أهل كورنتوس:
(وأما من جهة الأمور التي كتبتم عنها فحسن للرجل أن لا يمس امرأة)(2).
وكذلك يقول:
(أقول لغير المتزوجين والأرامل: إنه حسن لهم إذا لبثوا كما أنا)(3).
ويقول: (فأريد أن تكونوا بلاهم. يهتم فيما للرب كيف يرضى الرب. وأما المتزوج فيهتم في ما للعالم كيف يرضى امرأته. إن بين الزوجة والعذراء فرقا. غير المتزوجة تهتم في ما للرب لتكون مقدمة جدا وروحا. وأما المتزوجة فتهتم في ما للعالم كيف ترضى رجلها.
هذا أقوله لخيركم ليس لكي ألقى عليكم وهقا ، بل لأجل اللياقة والمثابرة للرب من دون ارتباك. ولكن إن كان يظن أنه يعمل بدون لياقه نحو عذرائه إذا تجاوزت الوقت ، وهكذا لزم أن يصبر فليفعل ما يريد. إنه لا يخطئ فيتزوجا. وأما من أقام راسخا في قلبه وليس له سلطان على إرادته ، وقد عزم على هذا في قلبه أن يحفظ عذراء فحسنا يفعل. إذن من زوج فحسنا يفعل. ومن لا يزوج يفعل أحسن) (4).
هذا ومثل هذا كثير.
هذه هي تعاليم المسيحية ، المنقولة منهم تجاه الزواج ، ومن هذه التعاليم تأثر وليّ من أولياء المسيحية اوريغن ( ORIGEN) الذي يعدونه أحد القديسين ، العائش ما بين 185 و 254 ، وجبَّ ذكره (5).
والجدير بالذكر أن أحد المتصوفة أتى بمثل هذا العمل ، وفعل فعلته فيه كما ذكر الشعراني أن عبد الرحمن المجذوب:
(1) الآية 12 من إنجيل متى من العهد الجديد.
(2)
رسالة بولس في رسالته إلى أهل كورنتوس من العهد الجديد الإصحاح السابع الآية 1.
(3)
أيضا الآية 8.
(4)
الإصحاح السابع الآية 31 إلى 39.
(5)
Oxford History Christian Church P 992 London ، 1958.
(كان رضي الله عنه من الأولياء الأكابر ، وكان سيدي على الخواص رضي الله عنه يقول: ما رأيت قط أحدا من أرباب الأحوال دخل مصر إلا ونقص حاله إلا الشيخ عبد الرحمن المجذوب ، وكان مقطوع الذكر قطعه بنفسه أوائل جذبه)(1).
وصوفي هندي آخر أيضا فعل ذلك (2).
وكتب هينس ( HANS)( أن المسيحيين القدامى كانوا يعدون ترك الزواج من الأمور الواجبة والمحببة إلى الله ، والمقربة إلى ملكوته)(3).
ومن خصائص المسيحية وتعاليمها ترك الدنيا ، والتجرد عن المال ، والتجوع ، وتعري الأجساد والأعراض عن زينة الحياة ، المباحة ، وتحريم الطيبات باسم الانقطاع إلى الآخرة ، ورهبانية ابتدعوها ، وتعذيب النفس.
فلقد ورد في الأناجيل عن المسيح أنه قال:
(لا تكنزوا كنوزا على الأرض ، حيث يفسد السوس والصدأ ، وحيث ينقب السارقون ويسرقون. بل اكنزوا لكم كنوزا في السماء حيث لا يفسد سوس ولا صدأ ، وحيث لا ينقب سارقون ولا يسرقون. لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضا)(4).
ونقل عنه أيضا أنه قال:
(لا يقدر أحد أن يخدم سيدين. لأنه إما أن يبغض الواحد ويجب الآخر ، أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر. لا تقدرون أن تخدموا الله والمال. لذلك أقول لكم: لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون. ولا لأجسامكم بما تلبسون. أليست الحياة أفضل من الطعام ، والجسد أفضل من اللباس. أنظروا إلى طيور السماء أنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن ، وأبوكم السماوي يقوتها. ألستم أنتم بالحري أفضل منها ومن منكم إذا اهتم يقدر أن يزيد على قامته ذراعا واحدة ، ولماذا تهتمون باللباس ، تأملوا زنابق الحقل كيف تنمو لا تتعب ولا تغزل ، ولكن أقول لكم: إنه ولا سليمان في كل مجده كان يلبس كواحدة منها ، فإن كان عشب الحقل الذي يوجد اليوم ويطرح غدا في التنور يلبسه الله هكذا ، أفليس بالحري جدا يلبسكم أنتم قليلي
(1) انظر طبقات الشعراني ج 2 ص 142.
(2)
انظر تذكرة أولياء بر صغير لميرزه محمد اختر الدهلوي ج3 ص 33.
(3)
Bookings of the Christian Churchs P. 135 London. 1955.
(4)
إنجيل متى الإصحاح السادس 19 ، 20 ، 21.
الإيمان ، فلا تهتموا قائلين: ماذا نأكل ، أو ماذا نلبس ، فإن هذه كلها تطلبها الأمم.
لأن أباكم السماوي يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه كلها ، لكن اطلبوا أولا ملكوت الله وبره ، وهذه كلها تزداد لكم.
فلا تهتموا للغد ، لأن الغد يهتم بما لنفسه. يكفي اليوم شره) (1).
وورد في هذا الإنجيل أيضا (أن شابا تقدم إلى المسيح وقال له: أيها المعلم الصالح أي صلاح أعمل به لتكون لي الحياة الأبدية؟.
فأجابه المسيح ببعض الأجوبة ثم قال له: إن أردت أن تكون كاملا فأذهب وبع أملاكك ، وأعط الفقراء فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني. فلما سمع الشاب الكلمة مضى حزينا ، لأنه كان ذا أموال كثيرة.
فقال يسوع لتلاميذه: الحق أقول لكم ، إنه يعسر أن يدخل غني إلى ملكوت السماوات ، وأقول لكم أيضا: إن مرور جمل من ثقب إبره أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله) (2).
وقال أيضا:
(وكل من ترك بيوتا أو اخوة أو أخوات أو أبا أو أما أو امرأة أو أولاداً أو حقولا من أجل اسمي يأخذ مائة ضعف ، ويرث الحياة الأبدية)(3).
ونقل عنه أيضا أنه قال:
(لا تكنزوا ذهبا ولا فضة ولا نحاسا في مناطقكم ، ولا مزودا للطريق ، ولا ثوبين ، ولا أحذية ، ولا عصا)(4).
وليس هذا فحسب ، بل نقل عنه لوقا في إنجيله أنه جاءه جموع كثيرة سائرين معه ، فالتفت إليهم وقال:
(إن كان أحد يأتي إلي ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده واخوته وإخوانه حتى
(1) إنجيل متى الإصحاح السادس الآية 24 إلى آخر الإصحاح.
(2)
الإصحاح التاسع عشر الآية 16 إلى 24.
(3)
أيضا الآية 29.
(4)
الإصحاح العاشر الآية 9 ، 10.
نفسه أيضا فلا يقدر أن يكون لي تلميذا) (1).
وقال أيضا:
(فكذلك كل واحد منكم لا يترك جميع أمواله لا يقدر أن يكون لي تلميذا)(2).
وبمثل ذلك نقل متى في إنجيله:
(لما رأى يسوع جموعا كثيرة حوله أمر بالذهاب إلى العبر ، فتقدم كاتب وقال له: يا معلم ، أتبعك أينما تمضي. فقال له يسوع: للثعالب أوجرة ، ولطيور السماء أوكار. وأما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه. وقال له آخر من تلاميذه: يا سيد ، ائذن لي أمضي أولا وأدفن أبي. فقال له يسوع: اتبعني ، ودع الموتى يدفنون موتاهم)(3).
هذا ومثل هذا كثير في الأناجيل وأعمال الرسل وغيرها من الكتب المسيحية ، وعلى هذه التعاليم أسسوا نظام الرهبنة ، أي التجرد عن علائق الدنيا ومتطلباتها وحاجاتها.
وزادوا عليها تعذيب النفس ، وتحمل المشاق والآلام ، تعمقا في التجرد ، ومغالاة في تجنب الدنيا ، واحتقارا لزخارفها ، كما أن هنالك أسبابا أخرى لاختيار الرهبنة ، فقد ذكر علماء المسيحية الكثيرون وكتابها وباحثوها.
وجمع هذه الأقاويل والمقولات ول ديورانت في موسوعته الكبرى (قصة الحضارة)، فيقول:(لما أن أصبحت الكنيسة منظمة تحكم الملايين من بني الإنسان ، ولم تعد كما كانت جماعة من المتعبدين الخاشعين ، أخذت تنظر إلى الإنسان وما فيه من ضعف نظرة أكثر عطفا من نظرتها السابقة ، ولا ترى ضيراً من أن يستمتع الناس بملاذ الحياة الدنيا ، وأن تشاركهم أحيانا في هذا الاستمتاع ، غير أن أقلية من المسيحيين كانت ترى في النزول إلى هذا الدرك خيانة للمسيح ، واعتزمت أن تجد مكانها في السماء عن طرق الفقر ، والعفة ، والصلاة ، فاعتزلت العالم اعتزالا تاماً. ولربما كان مبشرو أشوكا Ashoka ( حوالي 250 ق م) قد جاءوا إليه بنظرية البوذية
(1) إنجيل لوقا الإصحاح الرابع عشر الآية 26.
(2)
أيضا الآية 33.
(3)
إنجيل متّى الإصحاح الثامن الآية 18 إلى 23.
وقوانينها الأخلاقية ، ولربما كان النساك الذين وجدوا في العالم قبل المسيحية أمثال سرابيس Serapis في مصر أو جماعات الإسنيين في بلاد اليهود قد نقلوا إلى أنطونيوس وباخوم المثل العليا للحياة الدينية الصارمة وأساليب هذه الحياة. وكان الكثيرون من الناس يرون في الرهبنة ملاذاً من الفوضى والحرب اللذين أعقبا غارات المتبربرين ، فلم يكن في الدير ولا في الصومعة الصحراوية ضرائب ، أو خدمة عسكرية ، أو منازعات حربية ، أو كدح ممل. ولم يكن يطلب إلى الراهب ما يطلب إلى القسيس من مراسم قبل رسامته ، وكان يوقن أنه سوف يحظى بالسعادة الأبدية بعد سنين قليلة من حياة السلام.
ويكاد مناخ مصر أن يغري الناس بحياة الأديرة ، ولهذا غصت بالبرهان النساك الفرادى والمتجمعين في الأديرة يعيشون في عزلة كما كان يعيش أنطونيوس ، أو جماعات كما كان يعيش باخوم في تابن Tabenne وأنشئت الأديرة للرجال والنساء على طول ضفتي النيل ، وكان بعضها يحتوي نحو ثلاثمئة من الرهبان والراهبات. وكان أنطونيوس (251 - 356) أشهر النساك الفرادى ، وقد أخذ ينتقل من عزلة حتى استقر به المقام على جبل القلزم القريب من شاطئ البحر الأحمر. وعرف مكانه المعجبون به فحذوا حذوه في تعبده ونسكه ، وبنوا صوامعهم في أقرب مكان منه سمح لهم به ، حتى امتلأت الصحراء قبل موته بأبنائه الروحيين. وقلما كان يغتسل ، وطالت حياته حتى بلغ مائة وخمساً من السنين ، ورفض دعوة وجهها إليه قسطنطين ولكنه سافر إلى الإسكندرية في سن التسعين ليؤيد أثناسيوس ضد اتباع أريوس ، وكان يليه في شهرته باخوم الذي أنشأ في عام 325 تسعة أديرة للرجال وديراً واحداً للنساء. وكان سبعة آلاف من أتباعه الرهبان يجتمعون أحيانا ليحتفلوا بيوم من الأيام المقدسة ، وكان أولئك الرهبان المجتمعون يعملون ويصلون ، ويركبون القوارب في النيل من حين إلى حين ليذهبوا إلى الإسكندرية حيث يبيعون ما لديهم من البضائع ويشترون حاجياتهم ويشتركون في المعارك الكنسية - السياسية.
ونشأت بين النساك الفرادى منافسة قوية في بطولة النسك يتحدث عنها دوشين Abbe Duchesne بقوله إن مكاريوس الإسكندري (لم يكن يسمع بعمل من أعمال الزهد إلا حاول أن يأتي بأعظم منه) ، فإذا امتنع غيره من الرهبان عن أكل الطعام المطبوخ في الصوم الكبير امتنع هو عن أكله سبع سنين ، وإذا عاقب بعضهم أنفسهم بالامتناع عن النوم شوهد مكاريوس وهو (يبذل جهد المستميت لكي يظل مستيقظاً عشرين ليلة متتابعة) وحدث مرة في صوم كبير أن ظل واقفا طوال هذا الصوم ليلا
ونهارا لا يذوق الطعام إلا مرة واحدة في الأسبوع ، ولم يكن طعامه هذا أكثر من بعض أوراق الكرنب ، ولم ينقطع خلال هذه المدة عن ممارسة صناعته التي اختص بها وهي صناعة السلال. ولبث ستة أشهر ينام في مستنقع ، ويعرض جسمه العريان للذباب السام. ومن الرهبان من أوفوا على الغاية في أعمال العزلة ، من ذلك سرابيون Serapion الذي كان يعيش في كهف في قاع هاوية لم يجرؤ على النزول إليها إلا عدد قليل من الحجاج. ولما وصل جيروم وبولا إلى صومعته هذه وجدوا فيها رجلا لا يكاد يزيد جسمه على بضعة عظام وليس عليه إلا خرقة تستر حقويه ، ويغطي الشعر وجهه وكتفيه ، ولا تكاد صومعته تتسع لفراشه المكون من لوح من الخشب وبعض أوراق الشجر. ومع هذا فإن هذا الرجل قد عاش من قبل بين أشراف رومة ، ومن النساك من كانوا لا يرقدون قط أثناء نومهم ومنهم من كان يداوم على ذلك أربعين عاما مثل بساريون Bessarion أو خمسين عاما مثل باخوم. ومنهم من تخصصوا في الصمت وظلوا عددا كبيرا من السنين لا تنفرج شفاههم عن كلمة واحدة. ومنهم من كانوا يحملون معهم أوزانا ثقالا أينما ذهبوا. ومنهم من كانوا يشدون أعضاءهم بأطواق أو قيود أو سلاسل ، ومنهم من كانوا يفخرون بعدد السنين التي لم ينظروا فيها إلى وجه امرأة. وكان النساك المنفردون جميعهم تقريبا يعيشون على قدر قليل من الطعام. ومنهم من عمروا طويلا. ويحدثنا جيروم عن رهبان لم يطعموا شيئا غير التين وخبز الشعير ، ولما مرض مكاريوس جاءه بعضهم بعنب فلم تطاوعه نفسه على التمتع بهذا الترف ، وبعث به إلى ناسك آخر ، وأرسله هذا إلى ثالث حتى طاف العنب جميع الصحراء (كما يؤكد لنا روفينس) ، وعاد مرة أخرى كاملا إلى مكاريوس. وكان الحجاج ، الذين جاءوا من جميع أنحاء العالم المسيحي لشاهدوا رهبان الشرق ، يعزون إلى أولئك الرهبان معجزات لا تقل في غرابتها عن معجزات المسيح ، فكانوا - كما يقولون - يشفون الأمراض ويطردون الشياطين باللمس أو بالنطق بكلمة ، وكانوا يروضون الأفاعي أو الآساد بنظرة أو دعوة ، ويعبرون النيل على ظهور التماسيح ، وقد أصبحت مخلفات النساك أثمن ما تملكه الكنائس المسيحية ، ولا تزال مدخرة فيها حتى اليوم.
وكان رئيس الدير يطلب إلى الرهبان أن يطيعوه طاعة عمياء ، ويمتحن الرهبان الجدد بأوامر مستحيلة التنفيذ يلقيها عليهم ، وتقول إحدى القصص إن واحداً من أولئك الرؤساء أمر راهباً جديداً أن يقفز في نار مضطرمة فصدع الراهب الجديد بالأمر ، فانشقت النار حتى خرج منها بسلام. وأمر راهب جديد آخر أن يغرس عصا
رئيسه في الأرض ويسقيها حتى تخرج أزهراً ، فلبث الراهب عدة سنين يذهب إلى نهر النيل على بعد ميلين من الدير يحمل منه الماء ليصبه على العصا ، حتى رحمه الله في السنة الثالثة فأزهرت. ويقول جيروم إن الرهبان كانوا يأمرون بالعمل (لئلا تضلهم الأوهام الخطرة). فمنهم من كان يحرث الأرض ، ومنهم من كان يعني بالحدائق أو ينسج الحصر أو السلاسل ، أو يصنع أحذية من الخشب ، أو ينسخ المخطوطات. وقد حفظت لنا أقلامهم كثيرا من الكتب القديمة. على أن كثيرين من الرهبان المصريين كانوا أميين يحتقرون العلوم الدنيوية ويرون أنها غرور وباطل. ومنهم من كان يرى أن النظافة لا تتفق مع الإيمان ، وقد أبت العذراء سلفيا أن تغسل أي جزء من جسدها عدا أصابعها ، وكان في أحد الأديرة النسائية 130 راهبة لم تستحم واحدة منهن قط أو تغسل قدميها ، ولكن الرهبان أنسوا إلى الماء حوّالي آخر القرن الرابع ، وسخر الأب إسكندر من هذا الانحطاط فأخذ يحن إلى تلك الأيام التي لم يكن فيها الرهبان (يغسلون وجوههم قط).
وكان الشرق الأدنى ينافس مصر في عدد رهبانها وراهباتها وعجائب فعالهم. فكانت أنطاكية وبيت المقدس خليتين مليئتين بالصوامع والرهبان والراهبات ، وكانت صحراء سوريا غاصة بالنساك ، منهم من كان يشد نفسه بالسلاسل إلى صخرة ثابتة لا تتحرك كما يفعل فقراء الهنود ، ومنهم من كان يحتقر هذا النوع المستقر من المساكن ، فيقضي حياته في الطواف فوق الجبال يطعم العشب البري. ويروي لنا المؤرخون أن سمعان العمودي Simeon Stylites (390؟ - 459) كان لا يذوق الطعام طوال الصوم الكبير الذي يدوم أربعين يوماً. وقد أصر في عام من الأعوام أثناء هذا الصوم كله على أن يوضع في حظيرة وليس معه إلا القليل من الخبز والماء. وأخرج من بين الجدران في يوم عيد الفصح فوجد أنه لم يمس الخبز أو الماء. وبني سمعان لنفسه في عام 422 عموداً عند قلعة سمعان في شمالي سوريا وعاش فوقه. ثم رأى أن هذا اعتدال في الحياة يجلله العار فأخذ يزيد من ارتفاع العمد التي يعيش فوقها حتى جعل مسكنه الدائم فوق عمود يبلغ ارتفاعه ستين قدماً ولم يكن محيطه في أعلاه يزيد على ثلاثة أقدام ، وكان حول قمته سور يمنع القديس من السقوط على الأرض حين ينام.
وعاش سمعان على هذه البقعة الصغيرة ثلاثين عاماً متوالية معرضاً للمطر والشمس والبرد. وكان أتباعه يصعدون إليه بالطعام وينقلون فضلاته على سلم يصل إلى أعلى العمود ، وقد شد نفسه على هذا العمود بحبل حز في جسمه ، فتعفن حوله ، ونتن وكثرت فيه الديدان ، فكان يلتقط الدود الذي يتساقط من جروحه ويعيده إليها
ويقول: (كلي مما أعطاك الله!). وكان يلقى من منبره العالي مواعظ على الجماهير التي تحضر لمشاهدته ، وكثيراً ما هدى المتبربرين ، وعالج المرضى ، واشترك في السياسة الكنسية ، وجعل المرابين يستحون فينقصون فوائد ما يقرضون من المال إلى ستة في المائة بدل اثني عشر. وكانت تقواه سبباً في إيجاد طريقة النسك فوق الأعمدة ، وهي الطريقة التي دامت اثني عشر قرناً ، ولا تزال باقية حتى اليوم بصورة دنيوية خالصة) (1).
ومثل ذلك ذكر هرلبت في كتابه (2).
ودي سي سيندرول (3).
وستر زي غواسكي (4).
وبروكوبيوس (5).
وونكل مين (6).
فجاء الإسلام فهذب هذه التعاليم ونقحها ، وحذف منها الغلو والتطرف ، ومنع الناس عن التشدد في الدين ، وتعذيب النفس ، وعرفهم الحنيفية السمحة البيضاء ، النزيهة عن الانغماس في الدنيا والجري وراء ملذاتها وشهواتها ، كما راعى جانب الطبيعة والفطرة ، وأباح الطيبات من الرزق والحلال من المال ، والتمتع بالجائز من الدنيا ، فوضع عن الناس إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ، وأمرهم بالقصد والاعتدال بين التجرد المحض والتزهد الصرف ، وبين الإسراف المطلق والتقتير الفاحش ، فقال جل وعلا في كتابه الذي أنزله على سيد البشر صلوات الله وسلامه عليه:
{يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلَا تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ 31 قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي
(1) قصة الحضارة لول ديورانت ترجمة عربية لمحمد بدران ج12 ص 119 إلى 123 ط الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية القاهرة 1964 هـ.
(2)
The Story Of The Christian Church P8 89 ، 1933.
(3)
A Short History Of Our Religion London ، 1922.
(4)
Origin Christian Church Art ، 4-6 Oxford ، 1933.
(5)
Buildings ، Loeb. Lib I ،10.
(6)
History Of Ancient Art ، I ، 350-1، Finlay ، 195.
لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (1)
وقال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} (3)
وجعل المال قواماً للإنسان حيث قال:
{وَلَا تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَاماً} (8).
(1) الأعراف 31 ،32.
(2)
القصص 77.
(3)
البقرة 29.
(4)
النحل 14.
(5)
النحل 80 ، 81.
(6)
النحل 5 إلى 7.
(7)
الجمعة 10.
(8)
النساء 5.
وقال: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1).
و {وَاللهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} (2).
وأمر المؤمنين أن يتوجهوا إليه بطلب الدنيا وحسناتها مع الآخرة وحسناتها قائلين:
{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (3).
كما أمر من إجتمع عنده مال الدنيا ورزقها أن يخرج منها حقا للسائل والمحروم وزكاة وصدقة ، وأن يعمروا مساجد الله ، وينفقوا على ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل فقال تعالى:
{وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (4)
وقال: {كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (5).
وقال مع ذلك: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} (7).
كما قال: {وَلَا تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (8).
فهذا ما قد ورد في كتاب الله ، وما أكثره في هذا المعنى.
وأما سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الأصل الثاني للشريعة الإسلامية فلم يرد فيها أن صاحبها صلى الله عليه وسلم قال لمن أراده أن يتبعه: بع واتبعني ، بل قال لمن كان يريد أن يتصدق بأكثر ماله - وهو سعد بن أبي وقاص - وكان مريضا في حجة الوداع فعاوده الرسول صلى الله عليه وسلم
(1) البقرة 275.
(2)
البقرة 212.
(3)
البقرة 201.
(4)
الذاريات 19.
(5)
الأنعام 141.
(6)
الروم 38.
(7)
الإسراء 27.
(8)
الأنعام 141.
وكان عازما على الصدقة بثلثي ماله ، وفي رواية أخرى: بماله كله ، فسأله الرسول صلى الله عليه وسلم عما ترك لولده - وفي رواية أنه لم يكن له إلا بنت - ، فقال: الثلث ، والثلث كثير ، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس (1).
وكذلك نهى كعب بن مالك عن التصدق بجميع ماله كما ورد في الصحيحين أن عبيد الله بن كعب بن مالك قال:
(سمعت كعب بن مالك يحدث بحديث توبته ، قال فقلت: يا رسول الله ، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله عز وجل وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: أمسك بعض مالك فهو خير لك)(2).
وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال:
(نعم المال الصالح للرجل الصالح)(3).
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها)(4).
وفي الصحيحين أيضا عن أم سليم أنها قالت: (يا رسول الله ، خادمك أنس ادع له - فدعا له رسول الله عليه الصلاة والسلام وفيما دعا له أن يكثر ماله ، وإليك النص: اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيهما)(5).
وكان صلى الله عليه وسلم يردد كثيرا: (ما نفعني مال كمال أبي بكر)(6).
و (إن من أمنَّ الناس علي في ماله وصحبته أبو بكر)(7).
كما أمر أم هانئ باتخاذ الغنم حيث قال: (اتخذي غنما ، فإن فيها بركة)(8).
(1) رواه البخاري ومسلم والنسائي وأبو داود وابن ماجه.
(2)
متفق عليه.
(3)
رواه أحمد وإسناده صحيح.
(4)
متفق عليه.
(5)
رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
(6)
رواه أحمد وابن ماجه.
(7)
رواه مسلم في صحيحه.
(8)
رواه البيهقي وابن ماجه وإسناده صحيح ورجاله ثقات.
وادخر رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهله قوت سنة كما ورد في الصحاح ، واللفظ لمسلم عن عمر أنه قال:
(كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب ، فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، فكان ينفق على أهله نفقة سنة ، وما بقي يجعله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله - وفي رواية - كان يحبس منه قوت أهله لسنة)(1).
وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أحكام الزكاة والصدقات والإنفاق في سبيل الله ، ولم تكن هذه الأحكام إلا لمن يملكه ، ولو لم يكن ما كان لبيانها غرض ولا فائدة.
فهذه هي تعاليم الكتاب والسنة ، وفي ضوء هذه نرى الصوفية والمتقدمين منهم بالأخص والمتأخرين أيضا بأيتهما يتمسكون؟
لكي يتضح الأمر عن مرجع تصوفهم ومعول أمرهم.
فذكر المحاسبي المتوفى 243 هـ عن صوفي قديم آخر إبراهيم بن أدهم أنه قال:
إن كنت تحب أن تكون لله وليا ، وهو لك محبا فدع الدنيا والآخرة ، ولا ترغبن فيهما (2).
ونقل السهر وردي والسراج الطوسي والقشيري عن السري السقطي المتوفى سنة 251 هـ أنه قال:
(لا يكن معك شيء تعطي منه أحد)(3).
وذكر القشيري عن واحد آخر من الصوفية الأوائل داود الطائي المتوفى 165 هـ أنه قال: (صم عن الدنيا ، واجعل فطرك الموت ، وفر من الناس كفرارك من السبع)(4).
وسيد الطائفة الجنيد البغدادي يقول:
(1) رواه مسلم وأبو داود والنسائي وغيرهم ، واللفظ لمسلم.
(2)
المحبة للمحاسبي نقلا عن ملحق تاريخي في آخر كتاب ختم الأولياء بتحقيق عثمان إسماعيل ط بيروت.
(3)
عوارف المعارف للسهروردي ص 92 ، اللمع للطوسي ص 262 ، الرسالة القشيرية ج1 ص 71.
(4)
الرسالة القشيرية لأبي القاسم القشيري ج1 ص 84.
(أحب للمريد المبتدئ أن لا يشغل قلبه بالتكسب ، وإلا تغير حاله)(1).
ويقول أيضا:
(ما أخذنا التصوف عن القيل والقال ، لكن عن الجوع وترك الدنيا وقطع المألوفات والمستحسنات)(2).
ويبين ابن عجيبة الحسني حالة أهل التصوف في كتابه (إيقاظ الهمم):
(وكان بعضهم إذا أصبح عنده شيء أصبح حزينا ، وإذا لم يصبح عنده سيء أصبح فرحا مسرورا)(3).
وقال أيضا:
(الفقر أساس التصوف ، وبه قوامه)(4).
وروى مثل ذلك عن أبي محمد رويم المتوفى 303 هـ أنه قال:
(مبنى التصوف على الفقر)(5).
نعم ، الفقر الذي تعوذ منه سيد الخلائق المدعم بالوحي ، والمعصوم بعصمة الله وقال:(اللهم إني أعوذ بك من الفقر)(6).
فجعلوا ذلك الفقر أساس التصوف وقوامه ، وأقاموا بناءه عليه.
ونقل الطوسي عن الجنيد أنه سئل عن الزهد فقال:
(الزهد هو تخلي الأيدي من الأملاك)(7).
وبمثل ذلك قال رويم بن أحمد الصوفي المتوفى 303 هـ حينما سئل عن الزهد ما هو؟. فقال: (هو ترك حظوظ النفس من جميع ما في الدنيا)(8).
(1) قوت القلوب لأبي طالب المكي ج 1 ص 267 ، أيضا غيث المواهب العلية للنفزي الرندي ص 208.
(2)
الرسالة القشيرية ج 1 ص 117.
(3)
إيقاظ الهمم لابن عجيبة الحسني ص 213 الطبعة الثالثة مصطفى البابي الحلبي 1402 هـ.
(4)
أيضا.
(5)
اصطلاحات الصوفية لكمال الدين عبد الرزاق القاشاني من صوفية القرن الثامن الهجري ص 76 ط الهيئة المصرية العامة للكتاب مصر.
(6)
رواه النسائي.
(7)
اللمع للطوسي ص 72 ، أيضا مناقب الصوفية لقطب الدين المروزي ص 55 ط طهران 1362 هجري قمري.
(8)
اللمع للطوسي ص 72.
وذكر الشعراني عن ابن عربي أنه قال:
(من أراد فهم المعاني الغامضة من كلام الله عز وجل وكلام رسوله وأوليائه فليزهد في الدنيا حتى يصير ينقبض خاطره من دخولها ، ويفرح لزوالها)(1).
وينقل أيضا عن إبراهيم المتبولي أنه قال:
(كل فقير لا يحصل له جوع ولا عري فهو من أبناء الدنيا)(2).
وذكر الصوفي عماد الدين الأموي في كتابه (حياة القلوب) أن رجلا دخل على بعض الصوفية يتكلم في الزهد وعنده قميص معلق وعليه آخر ، فقال:
يا شيخ ، أما تستحي أن تتكلم في الزهد ولك قميصان (3).
وزجر السري السقطي رجلا كان يملك عشرة دراهم وقال:
أنت تقعد مع الفقراء ومعك عشرة دراهم (4).
وذكر الكلاباذي عن أحمد بن السمين أنه قال:
كنت أمشي في طريق مكة ، فإذا أنا برجل يصيح: أغثني يا رجل ، الله ، الله. قلت مالك ، مالك؟
خذ مني هذه الدراهم ، فإني ما أقدر أن أذكر الله وهي معي ، فأخذتها منه فصاح: لبيك اللهم لبيك ، وكانت أربعة عشر درهما (5).
وقال سهل بن عبد الله التستري:
اجتمع الخير كله في هذه الأربع خصال ، وبها صار الأبدال أبدالا: أخماص البطون ، والصمت والخلوة ، والسهر (6).
وينقل الهجويري عن أبي بكر الشبلي أن واحدا من علماء الظاهر سأله على سبيل التجربة عن الزكاة قائلا: (ما الذي يجب أن يعطى من الزكاة؟.
قال: حين يكون البخل موجودا ويحصل المال فيجب أن يعطى خمسة دراهم
(1) اليواقيت والجواهر للشعراني ج1 ص 26 مصطفى البابي 1378 هـ.
(2)
الأخلاق المتبولية للشعراني ج 2 ص 94 تحقيق منيع عبد الحليم محمود ط مطبعة حسان - القاهرة.
(3)
حياة القلوب في كيفية الوصول على إلى المحبوب لعماد الدين الأموي ج2 ص122 على هامش قوت القلوب.
(4)
طبقات الأولياء لابن الملقن المتوفى 804 هـ نشر مكتبة الخانجي القاهرة 1393 هـ.
(5)
التعرف لمذهب أهل التصوف للكلاباذي ص 185 ط القاهرة 1400 هـ.
(6)
غيث المواهب العلية للنفزي الرندي المتوفى 792 هـ ص92 ، 93 ط القاهرة.
عن كل مائتي درهم ، ونصف دينار عن كل عشرين دينارا ، هذا في مذهبك.
أما في مذهبي فيجب أن لا تملك شيئا حتى تتخلص من مشغلة الزكاة) (1).
وقال الهجويري:
(السكون إلى مألوفات الطبع يقطع صاحبها عن بلوغ درجات الحقائق)(2).
وينقلون عن الرفاعي أحمد بن أحمد بن أبي الحسين صاحب الطريقة الرفاعية أنه كان يقول:
(أكره للفقراء دخول الحمام ، وأحب لجميع أصحابي الجوع والعري والفقر والذل والمسكنة ، وأفرح لهم إذا نزل بهم ذلك)(3).
ونقل أبو المظفر أن أبا بكر الوراق قال:
(الزهد مركب من الحروف الثلاثة: الزاء ، والهاء ، والدال ، فالزاي ترك الزينة ، والهاء ترك الهوى ، والدال ترك الدنيا)(4).
ونقل أبو طالب المكي عن سفيان أنه قال: (الصائم إذا اهتم في أول النهار بعشائه كتب عليه خطيئة ، وكان سهل (التستري) يقول: إن ذلك ينقص من صومه) (5).
ونقل عن حذيفة المرعشي أنه قال:
(منذ أربعين سنة لم أملك إلا قميصا واحدا)(6).
وذكر الكلاباذي في تعرفة عن أبي الحسن محمد بن أحمد الفارسي أنه قال: (من أركان التصوف ترك الاكتساب وتحريم الادخار)(7).
ونقل نجم الدين الكبري المتوفى 618 هـ: التصوف هو نبذ الدنيا كلها (8).
(1) كشف المحجوب للهجويري ص 558.
(2)
نفس المصدر 361.
(3)
النفحة العلية في أوراد الشاذلية لعبد القادر زكي ص 263 ط مكتبة المثنى القاهرة ، أيضا الأنوار القدسية للشعراني ج1 ص 132 ط دار إحياء التراث العربي بغداد 1984 م.
(4)
انظر مناقب الصوفية (فارسي) لأبي المظفر المروزي ص 55 باهتمام محمد تقي وايرج افشار ط إيران.
(5)
قوت القلوب لأبي طالب المكي ج 2 ص 9.
(6)
أيضا ص 21.
(7)
التعرف لمذهب أهل التصوف ص 108 ط مكتبة الكليات الأزهرية القاهرة.
(8)
فواتح الجمال وفواتح الجلال لنجم الدين الكبري ص 59.
ويقول الهروي عبد الله الأنصاري المتوفي 481 هـ:
(الزهد أصله تعذيب الظاهر بترك الدنيا)(1).
وينقل ابن الملقن عن أستاذ الجنيد أنه قال:
(علامة الفقير الصادق أن يفتقر بعد الغنى ، وينحط بعد الشهرة)(2).
وينقل السلمي عن سمنون المحب - وهو من أصحاب السري السقطي - أنه سئل عن الفقير الصادق فقال: (الذي يأنس بالعدم كما يأنس الجاهل بالغنى ، ويستوحش من الغنى كما يستوحش الجاهل من الفقر)(3).
وذكروا عن أبي يزيد البسطامي أنه سئل: بأي شيء نلت هذه المعرفة؟ فقال: (ببطن جائع وبدن عار)(4).
وأخيرا ذكر الكلاباذي عن الصوفية فقال:
(أنهم قوم تركوا الدنيا فخرجوا عن الأوطان ، وهجروا الأخدان ، وساحوا في البلاد ، وأجاعوا الأكباد ، وأعروا الأجساد)(5).
مع اعترافهم بأن هذه هي المسيحية كما نص على ذلك أبو طالب المكي حيث قال:
(روينا عن عيسى عليه السلام أنه قال: (أجيعوا أكبادكم ، وأعروا أجسادكم لعل قلوبكم ترى الله عز وجل (6).
فالنصوص في هذا المعنى أكثر من أن تعد وتحصى ، وأن يسعها كتاب فهيهات هيهات أن يسعها باب أو جزء من الباب ، وكل هذه النصوص تنطق صراحة عن مصدرها الأصلي ومرجعها الحقيقي ، ولا علاقة لها بتعاليم الإسلام وإرشاداته ، بل أنها مخالفة تماما لتلك ، ولكي يسهل على القراء والباحثين المقارنة ذكرنا ما ورد في القرآن والسنة في هذا الخصوص ، كما أوردنا قبل ذلك توجيهات مسيحية وتعاليم
(1) منازل السائرين مع العلل والمقامات ص 296 ط إيران 1361 هجري قمري.
(2)
طبقات الأولياء لابن الملقن المتوفى 804 هـ ص 152 ط مكتبة الخانجي القاهرة 1973 م.
(3)
طبقات السلمي ص 47.
(4)
قوت القلوب ص 168 ، أيضا الرسالة للقشيري ص 88.
(5)
التعرف للكلاباذي ص 29.
(6)
انظر قوت القلوب لأبي طالب المكي ج 2 ص 167.
رهبانية وعلى ذلك قال C.H. BECKER وآسين بلاثيوس ، ونيكلسون بأن ترك الدنيا ، ومعنى التوكل جاء في التصوف من المسيحية.
ونص فون كريمر على أن الزهد الصوفي نشأ بتأثير من الزهد المسيحي (1).
وقال جولد زيهر:
(إن مدح الفقر وإيثاره على الغنى كان من العناصر النصرانية)(2).
وأقر بذلك الكاتب الإيراني الكبير الدكتور قاسم غني في كتابه (تاريخ التصوف في الإسلام)(3).
(1) انظر لذلك كتاب فون كريمر تاريخ الأفكار الواردة في الاسم نقلا عن مقدمة الكتاب في التصوف الإسلامي وتاريخه للكتور أبي العلاء العفيفي صهـ ، و. وأيضا الفكر العربي ومكانته في التاريخ للمستشرق أوليري ترجمة تمام حسان ص 194 ، 195 ط القاهرة.
(2)
انظر كتاب التصوف الإسلامي منهجا وسلوكا للدكتور عبد الرحمن عميره ص 33 ط مكتبة الكليات الأزهرية - القاهرة ، وكتاب مدخل إلى التصوف الإسلامي للدكتور التفتازاني ص 28.
(3)
انظر ص 100 ترجمة عربية.