المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الكاتب: محمد رشيد رضا - مجلة المنار - جـ ١٨

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (18)

- ‌ربيع الأول - 1333ه

- ‌فاتحة السنة الثامنة عشرة للمنار

- ‌الجهاد الديني في الإسلام

- ‌الدعوة إلى انتقاد المنار

- ‌التاريخ الهجري الشمسي

- ‌سنة المنار الجديدةعشرة أشهر

- ‌الاحتفال بنصب الأمير حسين كاملسلطانًا لمصر

- ‌ترجمة برقيات التهاني بين لندرة ومصر

- ‌تهاني الشعراء

- ‌أثارة تاريخيةمن مقدمات الحرب المدنية الأوربية

- ‌فصل الإحصاء من باب التاريخ

- ‌خرافات وأوهام في قصور الملوك [*]

- ‌الإسلام في إنكلترة

- ‌مصاب الهند والعالم الإسلاميبالشيخ شبلي النعماني

- ‌ربيع الآخر - 1333ه

- ‌استفتاء أدباء العصرفي بيت من الشعر

- ‌الحق والقوة [*]

- ‌بين روسيا وألمانيا [*]

- ‌ترجمة الشيخ شبلي النعماني

- ‌السر محمد سلطان آغا خان

- ‌جمادى الأولى - 1333ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الحنين إلى الأوطان

- ‌سفور النساء واختلاطهن بالرجالوفوضى الآداب بمصر

- ‌الشيخ شبلي النعماني

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة [*]

- ‌جمادى الآخر - 1333ه

- ‌نموذج من كتابكنز الحقائق في فقه خير الخلائق

- ‌أهم أخبار الحرب الأوربية والآراء فيها

- ‌مدرسة دار الدعوة والإرشاد

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة [*]

- ‌رجب - 1333ه

- ‌مقارنة بيناللغة المصرية القديمة واللغة العربية(2)

- ‌جواب على استفتاء المنار(جزء 2 مجلد 18) في قول الشاعر

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة [*]

- ‌شعبان - 1333ه

- ‌مقارنة بيناللغة المصرية القديمة واللغة العربية [*](3)

- ‌أصناف الأقلام العربية في الإسلام

- ‌الدولة والألمان

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة [*]

- ‌رمضان - 1333ه

- ‌أثارة من تاريخ العرب في الأندلس

- ‌مقارنة بيناللغة المصرية القديمة واللغة العربية [*](4)

- ‌السيد محمد شفيع آل رضا

- ‌شوال - 1333ه

- ‌حال المسلمين مع غيرهم في العصر الأول

- ‌إعراب الآية الثانية الذي اضطرب فيه النحاة

- ‌الخطب الدينية(2)

- ‌مقارنة بيناللغة المصرية القديمة واللغة العربية [*](5)

- ‌عدل الإسلام

- ‌تاريخ ميلاد ولدنا محمد شفيع

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة [*]

- ‌ذو القعدة - 1333ه

- ‌الخطب الدينية(3)

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة [*]

- ‌ذو الحجة - 1333ه

- ‌خلاصة سورة المائدة

- ‌حرب أمم المدنية لا الملل الدينية

- ‌الألقاب

- ‌المعرفة بالله تعالى(2)

- ‌شرف العلم وشمائل العلماء

- ‌حال المسلمين اليوموجماعة الدعوة والإرشاد

- ‌خاتمة السنة الثامنة عشرة للمنار

الفصل: الكاتب: محمد رشيد رضا

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

صَدَّق به وصَدَّق له

(س1) من صاحب الإمضاء مدير مجلة الأديان في بانجاب بالهند

سيدي العزيز:

كَتَبْتَ في أحد أعداد المنار (كما سَمِعْتُ) أن هناك فرقًا بين قولنا (صَدَّق له)

(وصَدَّق به) ، وقلت إن الأخير يفيد معنى التحقيق والإمضاء، والأول يفيد معنى

الإتمام (أي تحقق مضمون الشيء) ، وما استعمله القرآن بالنسبة إلى التوراة

والإنجيل هو التعبير الأول، وهذا التفسير هو الجدير بالاعتبار، ويحل الإشكال

الذي بين المسلمين والنصارى في مسألة شهادة القرآن لكتبهم، وإني أَعُدُّ لكم فضلاً

كبيرًا عليّ إذا أقمتم لي الدليل على هذا الفرق بين العبارتين؛ حتى يتيسر للإنسان

أن يقتبسه كلما قام جدال بيننا وبينهم في هذه المسألة، وأملي أن تبادروا بالجواب.

...

...

...

... عبدكم (؟) المخلص

...

...

...

...

... شرالي

...

...

...

...

مدير مجلة الأديان

(ج) إن ما أشرتم إليه من التفرقة بين صَدَّق به، وصَدَّق له وقع في رسالة

الدكتور محمد توفيق صدقي لا في كلام المنار، وما ينشر في المنار لغيرنا لا يصح

أن نطالب بالدليل عليه، بل نُسْأَل عن رأينا فيه، والذي يؤخذ من استعمال القرآن

لكلمة التصديق، ومااشتق منها، ومن استعمال العرب هو أن " صَدَّق " فعل يتعدى

بنفسه كما قال تعالى: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ المُرْسَلِينَ} (الصافات: 37) ،

وأن التصديق يكون بالقول كقولك: صدق فلان فيما أخبر به، ويكون بالفعل،

ومثاله أن تقول: إن فلانًا سيفعل كذا، ويقول كيت وكيت - فيفعل ذلك الفعل، أو

يقول ذلك القول، فهذا يسمى تصديقًا لما قلته عنه، سواء أراد به ذلك أم لا، كل

جائز في اللغة مستعمل فيها، فتصديق نبينا صلى الله عليه وآله وسلم

للمرسلين عليهم السلام، ولكتبهم يصح فيه الوجهان - يصح أن يراد به إخباره

بصدقهم فيما بلغوه عن الله تعالى، وأن يراد به أن بعثته، وصفاته، وأفعاله دلت

على صدقهم في البشارة به، وبكل من القولين قال أهل التفسير المأثور والمعقول،

والقرائن ترجح أحدهما على الآخر في المواضع المختلفة.

ولم يرد صدّق متعديًا باللام فيما نعلم، أما مثل قوله تعالى: {وَآمِنُوا بِمَا

أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ} (البقرة: 41) وقوله: {وَهُوَ الحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ} (البقرة: 91) فاللام فيه للتقوية، لا للتعدية، وهو بمعنى قوله: {وَهَذَا كِتَابٌ

أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} (الأنعام: 92) ، ومعنى ذلك أنه دال على

صدق تلك الكتب فيما بشرت به من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم أو ناطق

بصدق أولئك المرسلين فيما جاءوا به عن الله تعالى، فإن أريد بالتصديق القولي منه

فهو لا ينافي ما أثبته في آيات أخرى من تحريف القوم لبعض تلك الكتب الصادقة،

ونسيانهم حظًّا منها ومثاله أن يقول قائل لقوم إن فلانًا المؤرخ صادق، وإن ما كتبه

لكم من تاريخكم، أو تاريخ كذا صحيح، ولكنكم نسيتم بعض ما جاءكم به فلم

تحفظوه، وحرفتم بعض كلمه فلم تبينوه، ولم تستبينوه، هذا هو التحقيق في تفسير

الآيات الواردة في هذه المسألة، وقد فصلنا القول فيها في مواضعها من التفسير

وأيدناه بالدليل.

وأما قولهم: صدق بكذا أو بفلان، فهو ليس من التصديق الذي معناه مجرد

إثبات الصدق بالقول أو الفعل، فإن التصديق بمعنى إثبات الصدق يتعلق بالأقوال لا

بالأشخاص والأشياء، فإذا أُسْنِد إلى الأشخاص؛ فإنما يُسْنَد إليهم باعتبار مضاف

محذوف (فمعنى صَدَّق المرسلين) ، صَدَّق أقوالهم، فإذا عُدِّي التصديق بالباء كان

متضمنًا لمعنى الإيمان، فكان تصديق اعتقاد محله القلب، فالتصديق بالنبي هو

الإيمان بنبوته، لا قولك بلسانك إنه صادق، ولا فعلك فعلاً يدل على صدق كلام قاله

وأما تصديقه فيشمل هذا وذاك، والمُصَدِّق باللسان قد يكون غير مُصَدِّق بالقلب،

وحقيقة معنى تضمين فعل معنى آخر هو أن تضم معناه إلى معنى الفعل الأصلي

بتعديته إلى ما يتعدى إليه؛ لكي يدل على معناه أولاً وبالذات، وتبقى دلالته على

معناه الأصلي مرادة، ولو على سبيل اللزوم والإكمال كقوله تعالى {وَلَا تَأْكُلُوا

أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُم} (النساء: 2) ، أي لا تأكلوها بضمها إلى أموالكم لتكون

ربحًا لكم ككسبكم، وهذا لا ينافي الأكل منها بمخالطة اليتيم، وإشراكه مع الوصي في

المعيشة، مع اتقاء الوصي قصد الربح منه، كما أنه لا ينافي ضمها إلى أمواله

لحفظها معها لليتيم لا لنفسه.

وقد اُسْتُعْمِل التصديق في القرآن متعديًا بالباء في أربعة مواضع:

1-

قوله تعالى حكاية لبشارة الملائكة لزكريا: {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى

مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّه} (آل عمران: 39) .

2-

قوله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ} (الزمر: 33) .

3-

قوله تعالى: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} (التحريم: 12) ، أي

السيدة مريم عليها السلام.

4-

قوله: {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} (الليل: 6) ، فكل موضع من هذه

المواضع يراد بالتصديق فيه الإيمان المستلزم للتصديق اللساني، والحسنى صفة

لمحذوف قيل هو كلمة التوحيد، واختار شيخنا أنه الشريعة والملة.

والإيمان يتعدى بنفسه بالباء، وإذا تعدى باللام كان متضمنًا لمعنى الاتباع،

كما لا يخفى على من استقرأ استعماله في الكتاب العزيز، وكلام فصحاء العرب

والله أعلم.

***

أول الخلق وكونه

نور النبي صلى الله عليه وسلم

...

...

...

...

... (تأخر كثيرا)

(س2) من صاحب الإمضاء في الجامع الأزهر.

فضيلة الأستاذ! بعد تقديم اللائق بمقامكم، أعرض على حضرتكم مسألة

طالما تكررت على مسامعنا، ولم نفقه لها معنى، وسألت عنها بعض مشايخي

بالأزهر، فأجابوا بأنها من مواقف العقول فأرجو من فضيلتكم الشرح عنها.

سمعنا أن الأشياء خُلقت من نوره صلى الله عليه وسلم، وأنه موجود

قبل الكائنات، فما معنى النور الذي خُلقت منه الكائنات؟ ، وكيف يقبل القسمة مع

أنه من المكيفات؟ ، وكيف يكون النبي أولاً وآخرًا؟ أجيبوا لا زلتم للدين منارًا.

...

...

...

...

... كاتبه

...

...

...

... أحمد مصطفى السقا

(ج) ما يُذْكَر في الموالد، وبعض الكتب من كون أول الخلق نور النبي -

صلى الله عليه وسلم لا يصح منه شيء، فما يبنى عليه من الإشكال ساقط،

يصدق عليه ما قلناه في الأمر الثاني من جواب السؤال عن عدد صفات الله تعالى،

وعلمه بها (في ص 739 م 17) .

وتجدون البحث في مسألتكم مفصلاً في (ص865-869) من مجلد المنار الثامن.

***

كتاب الجفر

وحديث الاستعاذة من الحَوْر بعد الكَوْر

(س3و4) من صاحب الإمضاء في جهة أبي كبير (الشرقية)

حضرة السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار المنير

السلام عليكم ورحمة الله، وبعد فنرجو أولاً التكرم بإفادتنا عن كتاب الجفر

المنسوب للإمام علي - كرم الله وجهه - هل هو صحيح أو باطل، وما هي أدلة

المثبتين، وما هي أدلة النافين، وما هو رأيكم الخاص.

ثانيًا: ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (نعوذ بالله من الحَوْر بعد

الكَوْر) .

...

...

...

... هذا وتنازلوا بقبول فائق احترامي

...

...

...

... أبو هاشم علي قريط

(ج) أما كتاب الجفر فلا يُعْرَف له سند إلى أمير المؤمنين، وليس على

النافي دليل، وإنما يُطْلَب الدليل من مدعي الشيء، ولا دليل لمدعي هذا الجفر.

وأما معنى الحديث فقد قال ابن الأثير في النهاية: (نعوذ بالله من الحور بعد

الكور) أي من النقصان بعد الزيادة، وقيل: من فساد أمورنا بعد صلاحها، وقيل: من

الرجوع عن الجماعة بعد أن كنا منهم، وأصله من نقض العمامة بعد لفها. اهـ

وفي لسان العرب: يقال كار عمامته على رأسه إذا لفها، وحار عمامته إذا نقضها.

_________

ص: 178

الكاتب: محمد رشيد رضا

حرب المدنية الأوربية

والمقارنة بينها وبين المدنية الإسلامية

والفتوحات العربية

لقد أرتنا هذه الحرب من ضروب العبر، ما لم يكن يخطر قبلها على قلب

بشر، وهتكت لنا من أستار الرياء، ما أرانا كثيرًا من حقائق الأشياء، التي لم يكن

يلمحها إلا أفراد الحكماء، فظهر للذكي والبليد، والغوي والرشيد، أن هذه المدنية

المادية، مدنية قوة وحشية، وشهوات بهيمية، كانت تخدع الأبصار، وتفتن

البصائر بما يدعيه أهلها في زمن السلم من حب الحق، والتحلي بلباس الفضائل،

وإقامة ميزان العدل، وثل عروش أئمة الجور والظلم، حبًّا في سعادة الناس،

ورغبة في المساواة بين الأفراد والأجناس.

وقد كان من مقدمات هذه الحرب بين الدول الكبرى حربان في البلقان،

اقترف فيهما البلقانيون من ضروب القسوة، وفظائع العدوان، وتقتيل الشيوخ

والوِلْدان، وهتك الأعراض ونهب الأموال، ما لم يعرف التاريخ أقبح منه منظرًا،

ولا أسوأ عاقبة وأثرًا، ولم يكن يخطر في بال أحد أن هذه الموبقات يمكن أن يقع

مثلها من دولة من الدول الكبرى، ودول العلم، والفنون، والمدنية الرائعة في هذا

العصر الذي يفضلونه على جميع العصور، ويسمونه عصر الحضارة والنور، نعم

إن أنواره المادية يكاد شعاعها يَذْهَب بالأبصار، ويمكن أن يفضل بها الليل على

النهار؛ ولكن يتمثل لك في هذا الضوء عالم المدنية هيكلاً من هياكل الوثنية، قد

نصب في محاربة تمثال القوة الحربية، واضعًا إحدى قدميه على الحق، والأخرى

على الفضيلة، رافعًا بيمنى يديه راية القهر والسلطة، وبشمالها راية الشهوة واللذة،

والناس ما بين راكع له وساجد، ومحرق للبخور ومُقَدِّم للذبائح.

قلما كان أحد من الناس يظن أن دول العلم والحضارة تقترف مثل ذلك الظلم

والعدوان، وتجترح تلك السيئات التي اجترحتها شعوب البلقان، فجاءت هذه

الحرب مكذبة لظن الخير فيها، وأحقت من القضاء بالقسوة والفظاعة عليها شر ما

أحقت على من قبلها، إذ كانت أقدر على التنكيل والتدمير من البلقانيين الذين هم

عالة عليها، بقدر ما آتاها العلم من أسبابها وآلاتها، فقد جعلت العلم الجدير بأن

يكون مصدر العدل والرحمة والسعادة مصدرًا للظلم والقسوة والشقاوة، فهذه دولة

ألمانيا الممتازة بسعة العلوم، واتقان الفنون، قد امتازت بما اخترعته من آلات

التخريب، وأسباب المنون، وينقل لنا عنها محاربوها ما تقشعر منه الجلود،

ويتصدع من هوله الحجر الجلمود، من مدافع تدرك الحصون والمعاقل،

وغواصات تنسف البوارج والبواخر، وغازات سامة يتكون منها دخان أخضر،

يقتفي آثاره الموت الأحمر، فهو مصداق قول الله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي

السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} (الدخان: 10-11) .

وضعوا للحرب قوانين لتخفيف نكباتها ومصائبها مستمدة محاسنها من الشريعة

الإسلامية شريعة العدل والرحمة؛ ولكن ثبت أنهم ما رعوها حق رعايتها، وإنما

يعملون بها في بعض الأمور الظاهرة المشتركة بين كل من المتقاتلين كمعاملة

الأسرى، ومن أمن منهم أن يُعَاقَب بمثل عاقب به لعجز خصمه، أو لإمكانه إخفاء

جنايته، لم يلتزم أحكام قوانين الحرب، وحقوق الدول، ولا معاهداتها احترامًا لها،

أو حبًّا في الحق والعدل اللذين تُوضَع القوانين والعهود لأجلهما.

فأين حرب هذه الأمم والدول التي خدع الناس كلهم حتى المسلمون بها،

وصاروا يباهون بفضائلها، وارتقائها في معارج المدنية الإنسانية بعلومها وفنونها،

ومن حرب الصحابة الذين كان أكثرهم أميين؟ تلك الحرب التي لم يعرف التاريخ

البشري مثلها في رعاية الحق والعدل والورع، واستعمال الرأفة والرحمة في السر

والعلن، بل شهد فيلسوف التاريخ والاجتماع (غوستاف لوبون) للعرب كلهم بذلك

فقال: ما عرف التاريخ فاتحًا أعدل ولا أرحم من العرب، فبذلك العصر النوراني

فليفاخر المفاخرون، لا بعصر الوحشية المنظمة التي جاء بها القرن العشرون.

هل نقل ناقل أو قال قائل إن أحدًا من الصحابة - عليهم الرضوان - أو

ممن حارب معهم من التابعين انتهك عرضًا، أو قتل شيخًا، أو امرأة، أو غلامًا،

أو سلب لأحد من أعدائه مالاً، أو هدم كنيسة أو ديرًا، أو قتل راهبًا، أو قسيسا؟

أو مَثَّل بقتيل، أو أجهز على جريح؟ كيف وقد كان الرسول - صلى الله عليه

وسلم - يوصيهم بمثل قوله: " انطلقوا بسم الله وبالله، ولا تقتلوا شيخًا فانيًا [1] ،

ولا طفلاً صغيرًا، ولا امرأة، ولا تغلوا، وضموا غنائمكم، {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ

يُحِبُّ المُحْسِنِينَ} (البقرة: 195) رواه أبو داود من حديث أنس بن مالك،

وروى أحمد من حديث ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم

إذا بعث جيوشه قال: (اخرجوا باسم الله تعالى تقاتلون في سبيل الله من كفر بالله،

لا تغدروا، ولا تُمَثِّلوا [2] ، ولا تقتلوا الولدان، ولا أصحاب الصوامع) .

ومن وصايا الخليفة الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه المقتبسة من

مشكاة النبوة ما رواه مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد أن أبا بكر بعث جيوشًا

إلى الشام فخرج يمشي مع يزيد بن أبي سفيان، وكان يزيد أمير ربع من تلك

الأرباع فقال: إني موصيك بعشر خلال: لا تقتل امرأة، ولا صبيًّا، ولا كبيرًا

هرمًا، ولا تقطع شجرًا مثمرًا، ولا تخرب عامرًا، ولا تعقرن شاة ولا بعيرًا إلا

لمأكله، ولا تعقرن نخلاً ولا تحرقه، ولا تغلل ولا تخبن [3] .

نعم قد كان يقع قليل من الشذوذ يقابل بالإنكار، إلا إذا دفع إليه الاضطرار،

والنادر لا حكم له، روى الشيخان وأصحاب السنن ما عدا النسائي وغيرهم عن

ابن عمر قال: وُجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي النبي صلى الله عليه وسلم

فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان.

وروى أحمد، وأبو داود، والنسائي وابن ماجه، وغيرهم عن رياح بن

ربيع: أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها، وعلى

مقدمته خالد بن الوليد فمر رياح وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

على امرأة مقتولة مما أصابت المقدمة، فوقفوا ينظرون إليها؛ حتى لحقهم رسول

الله صلى الله عليه وسلم على راحلته، فأفرجوا عنها، فوقف عليها رسول الله

صلى الله عليه وسلم وقال: (ما كانت هذه لتقاتل - وقال لأحدهم - الْحَقْ

خالدًا فقل له لا تقتلوا ذرية ولا عسيفًا) [4] ، وروى أبو داود في مراسيله عن

عكرمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بامرأة مقتولة يوم حنين فقال:

(من قتل هذه؟) فأخبره رجل أنه كان غنمها فلما رأت الهزيمة أهوت إلى قائم سيفه

لتقتله به؛ فقتلها قبل أن تقتله. ولا أتذكر قتل امرأة في مغازى النبي - صلى الله

عليه وسلم - غير هاتين إلا تلك المرأة اليهودية التي أمرها زوجها أن تلقي الرحى

على بعض المسلمين في غزوة بني النضير ليقتلوها فلا تعيش بعده إذ كان موطنًا

نفسه على أن يقاتل حتى يُقْتَل ففعلت.

وقد كان رفق النبي صلى الله عليه وسلم بالنساء أعظم من ذلك فقد روى

ابن إسحاق أن بلالاً مر بصفية وابنة عم لها على قتلى يهود بعد سقوط حصن بني

أبي الحقيق، فلما رأت المرأة القتلى صكت وجهها، وصاحت، وحثت التراب

على وجهها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لبلال " أَنُزِعَت الرحمة من قلبك

حين تمر بالمرأتين على قتلاهما؟) .

ومن ضروب العبرة في حرب المدنية الأوربية كثرة ما يتقاضونه من البلاد

التي يفتحونها من الغرامات، وما يفرضونه عليها من الإتاوات، وقد كان المسلمون

الأولون يكلفون أهل البلاد ضيافة ثلاثة أيام، لضرورة الحاجة إلى القوت وعدم

تيسر أسبابه بالطرق النظامية المتبعة في هذه الأيام، وأما الجزية والخراج اللذان

يفرضونهما على أهل البلاد فهما أقل مما تفرضه كل حكومة من حكومات الأرض

على أبناء جنسها في بلادها، دع ما تفرضه الحكومات الأوربية في مستعمراتها،

فهو يستغرق معظم غلات أرضها، فلا يبقى لأكثر أهلها منها إلا ما يسد الرمق،

ويستعين به على مداومة العمل، وقد قرأنا في الصحف ما فرضه الألمان على أهل

بلجيكة من الغرامات، وما حَمَّلُوها من الأثقال، بعد ما حل بهم ما حل من الخزي

والنكال، فإذا هو مما تعجز عن حمله الجبال لا الجمال، ولا غرو فإن كل حظ

أهل هذه المدنية المادية من الحياة والدافع لها إلى القتال، إنما هو الاستكثار من

جمع الأموال، والتمتع باللذة، والعظمة، والسلطة، والجاه، ولو ظفر البلجيكيون

بالألمان، لأنزلوا بهم الخزي والهوان، وعاملوهم كما عاملوا أهل الكونغو منذ

أعوام، فأين هذا من عفة المسلمين ولا سيما الصحابة الكرام.

روى البلاذري في فتوح البلدان عن سعيد بن عبد العزيز قال: بلغني أنه لما

جمع هرقل للمسلمين الجموع، وبلغ المسلمين إقبالهم عليهم لوقعة اليرموك ردوا

على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج، وقالوا: قد شغلنا عن نصرتكم

والدفع عنكم، فأنتم على أمركم، فقال أهل حمص: لَولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما

كنا فيه من الظلم والغشم، ولندفعن جند هرقل عن المدينة مع عاملكم، ونهض

اليهود فقالوا: والتوراة لا يدخل عامل هرقل مدينة حمص إلا أن نُغْلَب ونجهد،

فأغلقوا الأبواب وحرسوها، وكذلك فعل أهل المدن التي صولحت من النصارى

واليهود، وقالوا إن ظهر الروم وأتباعهم على المسلمين صرنا إلى ما كنا عليه،

وإلا فإنا على أمرنا ما بقي للمسلمين عدد، فلما هزم الله الكفرة (يعني الروم، أي

الرومانيين) ، وأظهر المسلمين فتحوا مدنهم، وأخرجوا المقلسين، وأدوا الخراج.

اهـ.

وفي رواية أحفظها ولا أتذكر موضعها الآن أن الصحابة لما ردوا ما كانوا أخذوا

من الجزية قالوا إنا كنا أخذناها جزاء حمايتكم والدفاع عنكم، وقد عجزنا الآن عن

ذلك، فحلف الأهالي أن أبناء دينهم ما كانوا ليرجعوا مالاً أخذوه

إلخ.

فهل عُهِدَ من فاتح في الأولين والآخرين أن يرد الخراج إلى أهل البلاد التي

يفتحها، بناء على أن الخراج لا يباح أخذه إلا لأجل حفظ البلاد والدفع عنها، وأن

العجز عن ذلك وإن كان في سبيل الدفاع عن تلك البلاد يُوجِب رد الأموال إلى

أصحابها؟ لا لا، إن هذا العدل والورع لم يعرفه البشر إلا من الصحابة - رضي

الله عنهم -، فإن كان من وليهم من خلفاء العرب وأمرائهم دونهم، فهم يَفْضُلون

سائر الأمم في رفقهم وقناعتهم.

كان بنون أمية أحرص العرب على نعيم الملك وسعة العيش، فخرجوا في

كثير من أمر السلطة والتصرف في بيت المال عن السنة المتبعة وسيرة الخلفاء

الراشدين، وإنما استقام عليها منهم عمر بن عبد العزيز، أما سيرتهم في الغزو،

والقضاء بين الناس، وإدارة البلاد فكانوا يتحرون فيها العدل والرحمة، وكذلك

كانت سيرة العباسيين في الشرق، والأمويين في الغرب (أي الأندلس) ، ومن شذ

عن ذلك لغير سبب حفظ الملك كان مذمومًا، وعرضة للعقاب، وقد تضاعفت ثروة

الممالك، واستبحر عمرانها بعد أن انتزعوها من الروم والفرس، بما كانوا

يسوسونها به من الرحمة والعدل، ولم يفطن لهذا بعض الكتاب الذي انبرى في هذه

الأيام إلى ذم ولاة العرب بكونهم لم يكن لهم هم إلا جباية الخراج، وقوله - في

أفراد منهم - إنهم لم يفعلوا شيئًا للبلاد، أو لم يقل فلان المؤرخ إنهم فعلوا شيئًا،

وهو يعلم علمًا ضروريًّا أن عدم القول لا يستلزم عدم الفعل، وإن ما سكت عنه زيد

يجوز أن لا يسكت عنه عمرو، ويعلم علمًا نقليًّا أن مزية الفاتحين الأولين من

العرب هي العدل والرحمة، لا الصناعة التي امتاز بها مؤسسو الأهرام وأمثالهم،

وكانت ولا تزال شاهدة على استبدادهم وظلمهم.

كتب بعض عمال عمر بن عبد العزيز يشكو إليه قلة دخل بيت المال بمصر

بكثرة دخول الناس في الإسلام، ويستأذنه في ضرب جزية على المسلمين، فكتب

إليه عمر هذه الكلمة العالية (إن محمدًا صلى الله عليه وسلم بُعِثَ هاديًا، ولم

يُبْعَث جابيًا) .

وكتب إليه عدي بن أرطأة: أما بعد، أصلح الله أمير المؤمنين، فإن قِبَلي

أناسًا من العمال قد اقتطعوا من مال الله عز وجل مالاً عظيمًا لست أرجو

استخراجه (وفي رواية: لست أقدر على استخراجه) من أيديهم إلا أن أمسهم

بشيء من العذاب، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في ذلك فعل، فأجابه بقوله:

(أما بعد فالعجب كل العجب من استئذانك إياي في عذاب بشر، كأني لك

جُنة من عذاب الله، وكأن رضائي عنك ينجيك من سخط الله عز وجل، فانظر من

قامت عليه بينة عدول فخذه بما قامت عليه به البينة، ومن أقر لك بشيء فخذه بما

أقر به، ومن أنكر فاستحلفه بالله العظيم وخل سبيله، وايم الله لأن يلقوا الله - عز

وجل - بخياناتهم، أحب إلي من أن ألقى الله بدمائهم. والسلام) .

وروي عن يحيى الغساني أنه قال: لما ولاني عمر بن عبد العزيز الموصل

قَدِمْتُها فوجدتها من أكثر البلاد سرقًا ونقبًا، فكتبت إلى عمر أعلمه حال البلد وأسأله:

آخذ الناس بالظنة، وأضربهم على التهمة، أم آخذهم بالبينة، وما جرت عليه

السنة؟ فكتب إليّ أن خذ الناس بالبينة وما جرت عليه السنة، فإن لم يصلحهم

الحق فلا أصلحهم الله، قال يحيى ففعلت ذلك فما خرجت من الموصل حتى كانت

من أصلح البلاد، وأقلها سرقًا ونقبًا.

ومن ضروب العبرة في هذه الحرب ما تراه في كلام كثير من الكتاب من

بنائها على قاعدة من قواعد المدنية الحديثة قررها الألمان، وتوسعوا في فلسفتها،

وألفوا فيها الكتب، ووافقهم عليها من وافقهم بالقول والفعل ودون القول - وهي

قاعدة " الحق للقوة " - وقد نشرنا في الجزء الذي قبل هذا مقالاً في شان الكتاب

الذي ألفه أحد قواد الألمان وعلمائهم (الجنرال فون برنهاردي) في ذلك وسماه

(المنطق والمبادئ في الحروب) ، وفي نقد مجلة القرن التاسع عشر الإنكليزية له،

ومنه تعلم أنهم جعلوا الأثرة وتفضيل الأقوياء على الضعفاء حتى في الحقوق المدنية

مما تقتضيه الفضيلة والحكمة، بل زعموا أنه من أصول الديانة المسيحية وأحكامها،

وأن مساواة الشعب الغالب للشعب المغلوب لا يجوز في نظر العلم والفلسفة ولا

في حكم الدين.

ندع لعلماء اللاهوت ورجال الكنسية حكمهم فيما عزاه الجنرال الألماني في

الإيثار (الذي يعبر عنه القوم بإنكار الذات) ، وهو ضد الأثرة التي يدعيها هذا

الفيلسوف الألماني وغيره، فهو ينافي طلب السلطة وانتزاع ملك الناس وملكهم

بالقوة، لأجل التمتع بالجاه واللذة، لأن من قواعد الإنجيل أن يعطي المؤمن ماله

لغيره، فكيف يتفق هذا مع انتزاعه من غيره ما يملكه؟ وأما الإسلام فهو وسط بين

هذه المدنية المادية، وبين زهد المسيحية، فهو دين سيادة وسلطة مدنية، وفضيلة

أدبية روحية. فإلإيثار فيه فضيلة مندوبة، وهو في المسيحية فريضة مطلوبة، قال

الله تعالى في وصف المؤمنين {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (الحشر: 9) ، وأما قاعدة الإسلام في الأحكام فهي العدل والمساواة في الحقوق بين

المؤمن والكافر، والبَر والفاجر، والقريب والبعيد والحبيب والبغيض، قال تعالى:

{وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَاّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة: 8) ،

والآيات في هذا المعنى كثيرة أوردنا طائفة منها في الرد على الكاتب الأمريكي

الذي زعم فيما - كتبه بمناسبة إلغاء الدولة العثمانية الامتيازات الأجنبية أن الشريعة

الإسلامية جاءت بعدم المساواة بين المسلم وغيره، وبَيَّنَّا هنالك أنه لا تُعْرَف شريعة

في الأرض قررت هذه المساواة غير الشريعة الإسلامية. وقد جرى على ذلك

الخلفاء الراشدون على وجه الكمال، وكان هو الأصل والقاعدة عند الأمويين

والعباسيين في القضاء، وإنما وقع الشذوذ والخروج عنه في بعض الأحكام

السياسية والعسكرية.

واقعة مساواة عمر بن الخطاب بين علي صهر الرسول وابن عمه، وبين

رجل من عامة اليهود، وغلط عمر في تسمية اليهودي، وتكنية عليّ، واستياء

عليّ منه لتفضيله إياه على خصمه بالتكنية، واعترافه هو بأن ذلك خطأ - واقعة

مشهورة معروفة، وقد جرى لعمر بن عبد العزيز ما يقرب منها:

قال الحكم بن عمر الرعيني: شهدت مسلمة بن عبد الملك يخاصم أهل دير

إسحق عند عمر بن عبد العزيز بالناعورة، فقال عمر لمسلمة: لا تجلس على

الوسائد، وخصماؤك بين يدي؛ ولكن وكل بخصومتك من شئت وإلا فجاثي [5] القوم

بين يدي، فوكل مولى له بخصومته، فقضى عمر عليه بالناعورة. ذكره الحافظ

ابن الجوزي في سيرته.

قلت: إن هذه الواقعة تشبه واقعة عليّ مع اليهود، وأعني بالتشبيه المساواة في

التكريم والاحترام بين الرفيع، وإن كان من بيت النبوة أو الملك، وبين سائر

الناس حتى من غير المسلمين، فعليّ كان سيد آل بيت الرسول وعمادهم، ومسلمة

كان من بيت الملك فهو ابن عبد الملك بن مروان، وناهيك بما كان لبني عبد الملك

من العز والسلطان.

أما المساواة في الحقوق نفسها فكانت هي الأصل الذي يجري عليه كل الحكام

إلا من شذ لأسباب عارضة، أو لفساد في خلق الشخص، ووقائعها في عهد عمر

بن عبد العزيز لا تحصى، وقد كان أول مظلمة رفعت إليه يوم توليته مظلمة ذمي

من أهل حمص ادعى أن العباس بن الوليد بن عبد الملك اغتصبه أرضه، قال عمر:

يا عباس ما تقول، قال أقطعنيها - أي الأرض - أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك،

وكتب لي بها سجلاًّ، فقال: ما تقول يا ذمي؟ قال: يا أمير المؤمنين أسألك

كتاب الله عز وجل، فقال عمر: كتاب الله أحق أن يتبع من كتاب الوليد بن عبد

الملك، اردُدْ عليه يا عباس ضيعته، فردها عليه.

وقد كان أهل بيت الملك من بني أمية تأثلوا ضياعًا، ومزارع كثيرة من بيت

المال، وكان لبعض الناس في بعضها حق أو مقال، فلما ولي عمر بن عبد العزيز

ردها، وكان أول ما بدأ به رد ما كان له ولولده من ذلك.

وروي أنه استشار مولاه مزاحمًا في ذلك فقال: يا مزاحم إن هؤلاء القوم

أعطونا عطايا، والله ما كان لهم أن يعطونا إياها، وما كان لنا أن نقبلها، وإن ذلك

قد صار إلي ليس عليّ فيه دون الله محاسب، فقال له مزاحم: يا أمير المؤمنين هل

تدري كم ولدك؟ إنهم كذا وكذا، قال: فذرفت عيناه فجعل يستدمع، ويقول: أَكِلُهم

إلى الله تعالى، ثم ذهب مزاحم، وذكر ذلك لعبد الملك بن عمر عسى أن يكف أباه

عن ذلك، فقال له عبد الملك: بئس وزير الدين أنت يا مزاحم، ثم وثب فانطلق

إلى بيت أبيه عمر فاستأذن عليه فقال له الآذن: إن أمير المؤمنين قد وضع رأسه

للقائلة، قال استأذن لي، قال: أما ترحمونه ليس له من الليل والنهار إلا هذه

الوقعة، قال عبد الملك: استأذن لي لا أم لك، فسمع عمر الكلام، فقال: من هذا؟

قال هذا عبد الملك، قال: ائذن له، فدخل عليه، وقد اضطجع للقائلة، فقال:

ما حاجتك يا بني في هذه الساعة، قال: حديث حدثنيه مزاحم، قال: فأين وقع

رأيك من ذلك؟ قال وقع رأيي على إنفاذه، قال: فرفع عمر يديه، وقال: الحمد

لله الذي جعل لي من ذريتي من يعينني على أمر ديني، نعم يا بني، أصلي الظهر،

ثم أصعد المنبر فأردها علانية على رؤوس الناس، فقال عبد الملك: ومن لك

بالظهر يا أمير المؤمنين! ومن لك إن بقيت إلى الظهر أن تسلم لك نيتك إلى الظهر

! فقال: قد تفرق الناس ورجعوا للقائلة، فقال عبد الملك: تأمر مناديك ينادي:

الصلاة جامعة، فيجتمع الناس (قال إسماعيل بن أبي حكيم الراوي لهذه الواقعة

وهو من رجال صحيح مسلم) فنادى المنادي: الصلاة جامعة فخرجت فأتيت

المسجد فجاء عمر فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:

أما بعد، فإن هؤلاء القوم قد أعطونا عطايا، والله ما كان لهم أن يعطوناها.

وما كان لنا أن نقبلها، وإن ذلك قد صار إليّ ليس عليّ فيه دون الله محاسب، ألا

وإني قد رددتها، وبدأت بنفسي وأهل بيتي، اقرأ يا مزاحم.

قال الراوي: وقد جيء بسفط قبل ذلك، أو قال جونة فيها تلك الكتب، فقرأ

مزاحم كتابًا منها فلما فرغ من قراءته ناوله عمر - وهو قاعد على المنبر وبيده جَلم

(أي مقص) فجعل يقصه بالجلم، واستأنف مزاحم كتابًا آخر، فجعل يقرؤه فلما

فرغ منه دفعه إلى عمر فقصه، ثم استأنف كتابًا آخر، فما زال حتى نودي بصلاة

الظهر.

هذه هي أحكام الإسلام، فمن خالفها كان خارجًا عن هديه، استعملوا القوة في

إقامة العدل مع الرحمة، وبذلك ساد من ساد من خلفائهم ودولهم، فقاعدتهم (القوة

للحق) ، وقاعدة المدنية الحديثة (الحق للقوة) ، وأما المتأخرون منا فهم مذبذبون

بين ذلك لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء، وما رأيت أصدق في وصف القوم

ووصفهم من قول شاعر بني العنبر أول شعراء الحماسة:

لو كنت من مازن لم تستبح إبلي

بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا

إذًا لقام بنصري معشر خُشُن

عند الحفيظة أن ذو لُوثَة لانا

قوم إذا الشر أبدى ناجديه لهم

طاروا إليه زرقات ووحدانا

لا يسألون أخاهم حين يندبهم

في النائبات على ما قال برهانا

لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد

ليسوا من الشر في شيء وإن هانا

يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة

ومن إساءة أهل السوء إحسانا

كأن ربك لم يخلق لخشيته

سواهم من جميع الناس إنسانا

فليت لي بهم قومًا إذا ركبوا

شنُّوا الإغارة فرسانا وركبانا

ومن ضروب العبرة في هذه الحرب ما نراه في أخبارها من الكذب،

والتناقض، والتعارض، والتهاتر، والتمويه، والتدليس، وسوء التحريف، وفساد

التأويل يشترك في ذلك أصحاب الشركات البرقية، والجرائد السياسية، حتى سرى

إلى المجلات التاريخية والعلمية، بل لم يعد أحد من الناس يثق كل الثقة بالتقارير،

والبلاغات الرسمية، لأنهم يرون كل خصم يُكَذِّب خصمه في أخباره الرسمية، ولو

سئل أصحاب الجرائد في كل قطر من الأقطار عن سبب ما ينكر عليهم مما ذكر -

لأجابوا: أن سببه الأول تضييق حكوماتنا علينا، وإلزامها إيانا عرض كل ما

نكتبه على رقبائها الذين سلبوا حرية الكتابة منا، مع اجتهادنا في جعل ما نكتبه

موافقًا لمصلحتها، وتجنبنا من تلقاء أنفسنا كل ما نرى أن نشره مخالف سياستها.

هذا عذر عارض، والمشهور بين الناس أن الجرائد لا تتحرى الصدق فيما

تنشره، لا في أيام السلم وعهد الحرية، ولا في أيام الحرب وعهد المراقبة، وأنها

تتعمد الكذب والتمويه إذا كان لها في ذلك منفعة، والحق أنها تواريخ فيها الصادق

والكاذب، والحق والباطل، تجمع بين الدرة والبعرة، وتأتي بالذرة وأذن الجرّة،

وإنني لا أشهد لجريدة من الجرائد التي أعرفها في الشرق أنها تمثل حال البلاد التي

تصدر فيها والأمة التي تتكلم عنها تمثيلاً صحيحًا، كما يعرفه المختبر للبلاد وللأمة

ولو كانت هذه الجرائد في عصر رجال الجرح والتعديل من المحدثين، لجعلوا

أصحابها في عداد الوضَّاعين، ولم يرتقوا بهم إلى درجة الضعفاء أو المدلسين،

كيف وقد ضَعَّف بعضهم القاضي الواقدي، وبعضهم قال إنه كذاب، وإنه كان يضع

الحديث، وهو من أكبر الحفاظ، وأشهر المؤلفين، كتب عنه سليمان الشاذكوني

كتابًا، ثم أتاه فسأله عما كتبه عنه قبل أن يخرج به، فإذا هو لم يغير حرفًا منه.

لم تُعْنَ أمة من أمم العلم بمثل ما عني به المسلمون من ضبط الرواية في

القرون الأولى، فإن كانوا دونوا في تواريخهم كل ما قيل، ما صح منه، وما لم

يصح لأجل الجمع والإحصاء، فالعمدة عندهم على الأسانيد، فما كان محل الشبهة

منها أمكن تمحيص الرواية فيه بالبحث عن رجال سنده، فإذا انفرد بعض الرواة

والمؤرخين بطعن في العلويين أو الأمويين أو العرب - مثلاً - يمكننا بالنظر في

السند أن نعرف هل فيه أحد المتعصبين غير الثقات من النواصب، أو الروافض،

أو الشعوبية، فنتهمه بوضعه أم لا؟ وتحرير هذه المسألة لا يمكن إلا بمقال طويل،

وعلى الله قصد السبيل.

_________

(1)

المراد بالشيخ الفاني من لا يقاتل، وقد كان الناس كلهم مقاتلة إلا هؤلاء الذين نهى الحديث

عنهم، والقاعدة الإسلامية العامة أنه لا يُقَاتَل إلا من يُقَاتِل.

(2)

الغلول: الخيانة في الغنائم، والتمثيل: تشويه الأعضاء بنحو قلع العين، وجدع الأنف، وصلم الأذن، وقد حرم الإسلام التمثيل بالقتلى فضلاً عن الأحياء، وقد ثبت وقوع التمثيل في حرب المدنية الأوربية، وفي الحرب البلقانية قبلها.

(3)

أخبن الرجل: خبأ في خبنة ثوبه أو سراويله شيئًا، والخبنة بالضم طية الثوب، وثنيته، وفي نسخ الموطأ المطبوعة وأكثر الكتب التي نقلت عنه: ولا تجبن، بالجيم.

(4)

العسيف: الأجير.

(5)

أي اجلس بإزائهم جاثيًا على ركبتك مثلهم إذ لا تمييز في الخصومة بين أبناء الخلفاء والأمراء، وبين دهماء الناس كأهل الدير وغيرهم.

ص: 182

الكاتب: محمد توفيق صدقي

مدرسة دار الدعوة والإرشاد

دروس سنن الكائنات

محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صدقي

(5)

الفرق بين الهواء الداخل إلى الرئتين والخارج منهما:

الهواء الداخل إلى الرئتين تركيبه عين تركيب هواء الجو أعني هكذا:

أكسجين

...

...

...

...

20.96 في المائة [1]

نيتروجين

...

...

...

...

79 في المائة

غاز حامض الكربونيك (وهو غاز ثاني أكسيد الفحم)

0.04 في المائة

بخار الماء

...

...

...

...

كمية مختلفة

وحرارة هذا الهواء تختلف باختلاف الجهات والأوقات وغير ذلك.

أما الهواء الخارج من الرئتين فتركيبه كما يأتي:

أكسجين

...

...

...

... 16.03 في المائة

نيتروجين

...

...

...

... 79 في المائة

غاز ثاني أكسيد الفحم

...

...

... 4.40 في المائة

بخار الماء

...

...

...

... الهواء مشبع به

الحرارة

...

...

...

...

كحرارة الجسم

فيُفْهَم من ذلك أن النيتروجين لا تتغير كميته لعدم حاجة الجسم إليه من طريق

التنفس؛ فيذوب في الدم كما يذوب في الماء، ولا عمل له في الجسم مطلقًا، وفائدة

النيتروجين في الهواء تخفيف مقدار الأكسجين فيه، فإننا إذا استنشقنا أكسجين

خالصًا احترق جسمنا بسرعة كبيرة، ونحف، واحتجنا إلى مقادير عظيمة من

الطعام لتعويض هذا النقص الكبير، فلذا اقتضت الحكمة الإلهية تخفيفه بالنيتروجين

نعم إن النيتروجين ضروري لتركيب جميع الخلايا؛ ولكنه يصل إلى الجسم

في الطعام، وفي الشراب (كاللبن) لا بطريق التنفس - كما قلنا -.

أما الأكسجين الداخل مع الهواء فكميته أكثر من كمية الخارج معه، لأنه يتحد

مع هيموجلوبين الكريات الحمراء، ويدور مع الدم فإذا وصل إلى أنسجة الجسم

جذبته إليها، واتحدت به وهذا ما يسمى (بالاحتراق الداخلي) أو (التنفس الداخلي)

اللازم لحياة الجسم.

وإذا اتحد الأكسجين مع أجزاء الجسم تولدت مواد أخرى بقاؤها ضار بالجسم،

فتدور مع الدم لتفرزها الأعضاء المختصة بذلك كالكليتين، والجلد في البول

والعرق.

ومن هذه المواد الناشئة من الاحتراق الداخلي غاز ثاني أكسيد الفحم، والماء

وهذا هو السبب في زيادة غاز ثاني أكسيد الفحم، والماء في الهواء الخارج من

الرئتين.

وقد وجد علماء الفسيولوجيا أن الهواء الخارج من الصدر يشتمل أيضًا على

بعض مواد نيتروجينية عضوية؛ ولكنهم لم يكتنهوا إلى الآن ماهيتها، ولا تركيبها

وهي السبب في رداءة رائحة هواء الغرف المسكونة، وإذا تنفسها الإنسان مرة

أخرى أضر بصحته ضررًا بليغًا يفوق ضرر استنشاق القليل من غاز ثاني أكسيد

الفحم؛ فإن هذا الغاز لا يفسد تركيب أي جزء من أجزاء الجسم؛ ولكنه إذا ملأ

الجو مات الانسان اختناقًا لعدم وجود الأكسجين فيه.

المواد المختلطة بالهواء:

ويوجد في الأهوية الفاسدة - غير ذلك أيضًا - مواد أخرى غازية ضارة

بالإنسان ضررًا بليغًا، ومن أهمها الهيدروجين المكبرت، وهو الذي يتولد من

المراحيض وغيرها، وهذا الغاز يفسد الدم، ويضر بالجسم أيضًا.

وكذلك أول أكسيد الفحم فإنه سام جدًّا، وهو يتولد من الاحتراق الناقص للفحم

ويوجد في الهواء أيضًا ميكروبات، وذرات مختلفة من التراب، والمعادن، والفحم

وغير ذلك، فالميكروبات تحدث أمراضًا عديدة في الجسم الإنساني، وتلك الذرات

تحدث أيضًا نزلات شعبية، والتهابات رئوية مزمنة.

لهذا كله يجب أن يكون الهواء المستنشق نقيًّا من كل ما تقدم، فلا يكثر فيه

أكسيدا الفحم الناشئان من أنفاس الحيوانات والنباتات ليلاً، ومن اشتعال النيران،

ويجب أن يكون هواء الأمكنة المسكونة بعيدًا عن المراحيض دائم التجدد، معرضًا

للشمس؛ فإنها تقتل كثيرًا من ميكروباته بعيدًا عن الأتربة والمصانع التي تثير

غبارًا من المعادن وغيرها.

سنة الله في الأكسجين والكربون:

ولا يتوهم القارئ - مما سبق - أن كمية الأكسجين في الهواء آخذة في

النقص شيئًا فشيئًا بسبب التنفس، وبسبب النيران، فإن الله تعالى وضع لذلك سنة

حكيمة بها يبقى الأكسجين في الهواء إلى ما شاء الله، وذلك بأن جعل الورق

الأخضر لجميع النبات يحلل (بتأثير أشعة الشمس فيه) غاز ثاني أكسيد الفحم،

فيمتص منه الفحم، ويُخْرِج الأكسجين، وهذا الفحم باتحاده مع عناصر أخرى

تتركب منه أخشابها، وما فيها من صموغ، وسكر، وزيوت، وغير ذلك؛ فكأن

الفحم الخارج من الإنسان، وغيره من الحيوانات ضروري للأشجار، فإذا أكل

الإنسان شيئًا من هذه الأشجار عاد إلى جسمه، ثم يحترق فيه؛ فيخرج في الهواء؛

فيعود إلى الشجر، وهكذا كالدائرة.

وبحركة الرياح (وهى ناشئة من اختلاف درجة حرارة الهواء) ، وبتماوج

ذراته، وانتشارها توجد حركة دائمة في هواء الأرض؛ فتبعثر الأكسجين، وتنشره

في جميع الجهات، ولولا ذلك لماتت الحيوانات التي في البقاع الخالية من الأشجار.

ومن الخطأ العظيم تغطية الوجه أثناء النوم، وكذلك غلق منافذ الغرفات مع

وجود أشخاص فيها، أو مصابيح وغيرها؛ فإن ذلك قد يقتل الإنسان.

أما ثاني أكسيد الفحم المتكون من الاحتراق الداخلي؛ فإنه يوجد في الدم لا

ذائبًا فيه، بل متحدًا مع عنصر الصوديوم بصورة كربونات الصوديوم، أو

بيكربونات الصوديوم؛ فإذا وصل هذان الملحان إلى الرئتين خرج من البيكربونات

ثاني أكسيد الفحم بطريق الإكسوسموز، ومما يساعده في خروجه الخلايا المبطنة

للحويصلات الرئوية؛ فتفرزه وسبب حصول الإكسوسموز هو نقصان كمية ثاني

أكسيد الفحم في الهواء، كما أن السبب في دخول الأكسجين من الهواء في الدم هو

أيضًا قلة الأكسجين في الدم عنها في الهواء، وقبل دخول الأكسجين للدم يذوب في

الرطوبة التي تغطي جدران الحويصلات الرئوية ومنها يدخل للدم، ويجب أن لا

يتوهم القارئ أن كل الهواء الذي في الحويصلات الرئوية يخرج منها أثناء الشهيق

فالواقع أنه يخرج جزء منه، ويبقى جزء آخر، وبطريقة الانتشار يسرع أكسجين

الهواء إلى الداخل لكثرته، وغاز ثاني أكسيد الفحم إلى الخارج لكثرته أيضًا - كما

سبق بيانه -.

ثقل غازات الهواء:

من تأمل في تركيب الهواء، والفرق بين درجات ثقل غازاته وجد أن

النيتروجين من أخفها، وغاز ثاني أكسيد الفحم من أثقلها، فلذا يتكاثر هذا الغاز

الأخير بقرب سطح الأرض وفى الحفر، وكلما ارتفع الإنسان نقصت كمية هذا

الغاز، وزادت كمية النيتروجين، ولذا كثيرًا ما سمعنا بموت أشخاص هبطوا إلى

أماكن منخفضة كالآبار وغيرها.

أما الأكسجين فلكونه أثقل من النيتروجين يكثر في الهواء المجاور للأرض،

ويقل في جو السماء، يشعر بذلك من توقل (صعَّد) في جبل عالٍ، أو حلَّق في

الجو بطيارة.

وأعظم علو أمكن للإنسان أن يصل إليه في القباب الطيارة، أو المناطيد، أو

الجبال هو 8838 مترًا، أما الصعود بعد ذلك فيؤدي إلى هلاك الإنسان، إما لنقص

الأكسجين، أو لانفكاك غازات الدم منه فتَحْدُث أعراضٌ خطرة، ويتعسر التنفس،

أو يتعذر بسبب نقص كمية الأكسجين نقصًا عظيمًا فلا يحدث الإندوسموز. زِدْ على

ذلك أنه إذا عاش الإنسان بضع دقائق في ذلك المكان المرتفع حصل له نزف من

الأنف، أو الرئتين، أو غيرها لقلة ضغط الهواء الجوي على جسم الإنسان،

ولتعلم أن الصعود إلى نحو 5000 مترًا لا يوافق جمهور الناس حتى المتعودين

لذلك من سكان الجبال.

أما ارتفاع هواء الجو فلا يقل عن 300 كيلو متر

التنفس الصناعي:

إذا بطل تنفس الإنسان بسبب ما كاستنشاق الكلوروفورم، أو الغرق في الماء

أو استنشاق غازات الاحتراق، أو غير ذلك مما يبطل التنفس أمكن إعادة الحياة إلى

المصاب بطريقة (التنفس الصناعي) ، واستعمال المنعشات، ونحوها بشرط ألا

تكون المدة قد طالت، وأن لا تكون أنسجة الجسم قد بدأ فيها أقل شيء من الفساد.

أما طريقة التنفس الصناعي فهي أن تزيل كل ما أمكنك إزالته مما قد يوجد

في مجاري التنفس، كالماء في الغريق - مثلاً - بأن تقلب المصاب على وجهه،

وترفع رجليه إلى أعلا، ثم تضعه على مكان عالٍ لتتمكن منه، وتخفض رأسه،

وتخرج لسانه بشدة بمقبض (جفت) ، أو نحوه، ثم تمسك بعضديه، وتجذبهما إلى

أعلى رأسه، ثم تخفضهما إلى جنبيه، وتضغط بهما على صدره، ويستحسن أن

يساعدك شخص آخر في ذلك الوقت؛ بأن يضغط على بطنه أيضًا ليرتفع الحجاب

الحاجز فيحصل الشهيق بسبب ذلك، أما الزفير فإن الذي يحدثه هو جذب الذراعين

المذكور هنا، ويتكرر هذا العمل في الدقيقة الواحدة نحو خمس عشرة مرة، ولا

يصح اليأس من عودة الحياة إلا بعد مضي نحو ساعة على الأقل، وفي أثناء هذا

العمل تُوضَع خرق مبتلة بالماء الحار على القلب، أو يُنَبَّه الحجاب الحاجز

بالضرب بمثل المنشفة على قسم المعدة، وينشق المصاب (كبسول الأميل نيتريت)

ويحقن بالأستركنين، أو الأثير، أو غيرهما تحت الجلد، ويُحْقَن بجزء من

الخمر، أو الكحول في الشرج إلى غير ذلك؛ فإذا فعلت جميع هذه الأشياء

باستمرار عادت الحياة - غالبا - خصوصًا إذا كانت ضربات القلب موجودة، ومن

أحسن المستنشقات في ذلك الوقت غاز الأكسجين، إن وجد.

***

جهاز الهضم

مقدمة في الغدة:

قبل البدء في الكلام على هذا الجهاز ينبغي أن نبدأ بتعريف كلمة (الغدة) لشدة

الاحتياج إليها فيما سيأتي:

تطلق هذه الكلمة على ثلاثة أنواع من أجزاء الجسم:

(1)

الغدة اللمفاوية: وهي عبارة عن شيء كعقدة مركبة من عدة كريات

تشبه كريات الدم البيضاء يمسك بعضها بجانب بعض مادة تسمى بالمنسوج الضامّ،

ووظيفتها تنقية المواد اللمفاوية من الميكروبات وغيرها، ولذلك نجد كثيرًا منها

موضوعًا في طريق الأوعية اللمفاوية بحيث تصب فيها، ثم تخرج منها - كما

سبق-.

(2)

غدة الإفراز: وهي التي تُخْرِج مواد كثيرة من الجسم، بعضها له

منفعة خاصة، والبعض الآخر لا نفع له، وإنما تُخْرِجه لضرر إبقائه في الجسم،

مثال الأول اللعاب، واللبن، ومثال الثاني البول، والعرق، وقد يكون الشيء

المُخْرَج له نفع في الجسم، ويضر بقاؤه فيه كالمرة، وهي المادة الصفراء التي

يفرزها الكبد.

وتتركب الغدد الإفرازية من غشاء مجهري (ميكروسكوبي) يوجد على

سطحه خلايا الإفراز، وتكون طبقة واحدة في الغالب، وتوجد عدة طبقات منها في

مكان شهير بالجسم وهو الخصية، وعلى الجانب الآخر من هذا الغشاء المذكور

توجد أوعية الدم، ومنها تخرج المواد بطريق الإكسوسموز؛ فتتصرف فيها

الخلايا، وتخرج منها مواد كيماوية عجيبة التركيب.

أما أشكال هذه الغدد فمنها الكيسي؛ وذلك بأن ينبعج الغشاء إلى جهة الأوعية

الدموية؛ فيتكون كيس صغير مبطن بلا خلايا، وله فوهة يخرج منها الإفراز،

ومنها الأنبوبي، وهي التي يكون لها تجويف كالأنبوبة، لا كالكيس، ومنها

الأنبوبي المتفرع، ومنها عنقودي الشكل، ومنها الملتوي.

ويُلاحَظ أن في هذا النوع من الغدد قناة في داخل الغدد الإفرازية، وفيها

تجري مفرزاتها كاللبن، والعرق، وغيرها.

أما الضرب الأول من الغدد فلا قناة لها

وأما الضرب الثالث فهو أيضًا لا قناة له، وهو يشمل عدة أعضاء في الجسم

كالطحال (وهو نوع من الغدد اللمفاوية) ، والغدة الدرقية، والغدة السعترية في

صدور الأطفال، وغير ذلك مما سيأتي الكلام عليه في فصل خاص.

والذي يهمنا في الكلام على الهضم هو الضرب الثاني.

تشريح الجهاز الهضمي ووظيفته:

يبتدئ هذا الجهاز بالفم، ثم المرئ، ثم المعدة، ثم الأمعاء الصغيرة،

فالكبيرة، وينتهي بالدبر، ويصب فيه عدة إفرازات من غدد متنوعة لهضم الطعام

ولغير ذلك، وتمر فيه الأغذية والأشربة في مدة تختلف من يوم إلى يوم ونصف،

وقد تكون أقل من ذلك بكثير، كأحوال الإسهال، وقد تكون أكثر من ذلك في أحوال

الإمساك.

أما الفم ففيه اللسان، والأسنان، وغدد اللعاب، وفي نهايته توجد اللوزتان

ووظيفة اللسان هي تحريك الطعام ليمتزج باللعاب، وليمكن مضغه وبلعه، ومن

وظائفه أيضًا الكلام كما سبق، وإدراك طعوم الأشياء، وعليه مدار معرفة ما ينفع

الإنسان وما يضره من المأكولات والمشروبات، وإدراك الطعوم اللذيذة يحرك شهوة

الطعام فيجيد هضمه.

أما الأسنان فهي عادة نوعان: الأسنان اللبنية، أو المؤقتة، والأسنان الدائمة،

وقد ينبت للشيوخ أسنان مرة ثالثة، ولكنها مسألة نادرة الحصول.

أما الأسنان اللبنية فهي: 20، والأسنان الأخرى 32 منها 19 في الفك

الأعلى، و16 في الفك الأسفل.

وعلى الأسنان مدار جودة هضم الطعام لأنها تهشمه وتسحقه إلى قطع صغيرة

لتتمكن الأعصرة الهاضمة من الوصول إلى جميع أجزائه، فمن ازْدَرَدَ طعامه بلا

مضغ أضر بجهاز الهضم خصوصًا، وبالجسم عمومًا، فيجب إطالة المضغ،

وإبقاؤه، ويجب علينا أيضًا المحافظة على الأسنان، وإلا أصابها العطب، وفقدناها

فنخسر جزءًا عظيمًا من أجزاء جهاز الهضم، وأعظم شيء للمحافظة عليها هو

تنظيفها جيدًا، وعدم استعمال شيء بارد على شيء ساخن في الفم، أو بالعكس فإن

ذلك من أعظم ما يفسدها.

وأشهر أمراض الأسنان نوعان:

(1)

النوع الأول: أن يصيبها الحفر (التسويس) ، وهو عبارة عن تفتت

جزء من عظم السن، وانكشاف لبه، والتهاب هذا اللب فيحصل بسبب ذلك ألم

شديد، يحرم الإنسان لذة النوم، والطعام، وتموت السن لفساد أوعية الدم المغذية

في داخل اللب والميكروب المسبب لذلك يسمى (leptothrix buccalis) أي

(الشعرة الدقيقة الفمية) ، ويوجد في هذا المرض أيضًا الأميبا [2] الفمية

(amocba) .

وعلاجه يكون بإعدام العصب الذي في داخل اللب بمادة كاوية كحامض الفنيك

أو الكريوزوت، وذلك يطهر اللب ويسكن الألم، والأَوْلَى أن يُعْدَم اللب بأكسيد

الزرنيخوز - كما هي العادة -، ثم يحشى التجويف بالذهب، أو بمواد أخرى يعرفها

أطباء الأسنان كالخزف، وهو أحسن من غيره.

(2)

النوع الثاني داء ريج (Rigg) : وهو مرض كثير الانتشار بين

الناس، يبدأ بالتهاب حول جذر السن في سمحاق العظم، فتتكون مواد صديدية،

وبضغطها على جذر السن يرفع شيئًا فشيئًا حتى تسقط، وهذا الداء هو سبب سقوط

أسنان كثير من الناس، وسببه دخول ميكروب خاص إلى جذر السن من أي تقرح

صغير في اللثة وهذا الميكروب يسمي (الإستربتوكوك [3] اللعابي)

(streptocoecus) ، وهو يوجد عادة في أفواه جميع الناس، إلا أنه في بعض

أحوال مخصوصة كضعف البنية - بسبب ما - يتمكن من إيذاء الإنسان؛ فيدخل

إلى جذور الأسنان، وهناك يفعل فعلته الشنعاء.

ولا علاج ناجعًا لهذا الداء سوى الحقن بميكروب المرض [4] المأخوذ من نفس

المريض كما سيأتي توضيحه، وإلا فالمبادرة إلى قلع ما يصاب به من الإنسان

والاستعاضة عنها بأسنان صناعية، واستعمال المطهرات المتنوعة، والنظافة التامة

للفم، مع تقوية البنية بالأغذية الجيدة، والهواء النقي، وغير ذلك، ومما يسكن

الألم في هذا المرض استعمال مضمضة من الخل، وهي فائدة شائعة بين العامة.

وأحسن طريقة لنظافة الأسنان هي استعمال السواك خصوصًا بعد كل طعام،

وهو يؤخذ من شجرة الأراك، وفيه مواد عطرة مطهرة بعض التطهير للفم،

ومعطرة له، وتساعد على الهضم أيضًا، وهو يشد اللثة لقبض فيه، ويسمي

الآراك بعض الإفرنج (شجرة محمد) لحث الشريعة الإسلامية على استعمال

السواك كما هو معلوم، ولا يُغني عنه إلا استعمال المسفرة (الفرشة) مع بعض

أدوية عطرية مطهرة قابضة، ويجب غليها بعد كل استعمال، وإلا تكاثرت فيها

الميكروبات الضارة بالأسنان، وكذلك يجب تجديد طرف السواك بعد كل استياك.

أسماء الأسنان ووقت ظهورها:

أما أسماؤها فهي: ثنيتان في الوسط، وبجانبيهما رباعيتان، ثم نابان،

ثم ضاحكتان، ثم ست أرحاء، ثلاث في كل جانب، ثم ناجذان، واحد في اليمين،

وآخر في اليسار، وهما آخر الأضراس، وذلك في كل من الفكين الأعلى

والأسفل.

وقت ظهور الأسنان:

الأسنان اللبنية تظهر في الطفل من الشهر السادس إلى الرابع والعشرين على هذا الترتيب:

الثنيتان السفليتان

...

...

... 6 -9 أشهر

الثنيتان العلويتان والرباعيتان العلويتان

... 8-10 أشهر

الرباعيتان السفليتان والضواحك

...

15-21 شهرًا

الأنياب

...

...

...

16-20 شهرًا

الأرحاء

...

...

...

20-24 شهرًا

وليس للطفل سوى أربع أرحاء في فمه، وأسنانه كلها عشرون فقط.

وهذه المدد تقريبية؛ فإنها تختلف كثيرًا بحسب بنية الأطفال، واختلاف

أمزجتهم، وغير ذلك، فمنهم من يُولَد وفيه الثنايا ظاهرة، ومنهم من يتأخر ظهور

أسنانه إلى نهاية السنة الثانية، أو إلى عدة سنين بعدها.

وفي وقت ظهور الأسنان تصاب الأطفال - عادة - ببعض أعراض مرضية

كالإسهال، والقيء، والحمى، فالضعف، ومتى كملت أسنان الطفل العشرون

يمكث بها إلى السنة السادسة، أو السابعة، ثم يظهر ضرس (رحى) خلفها في

السنة السادسة، أو السابعة، وتسقط باقي الأسنان واحدة بعد الأخرى ويظهر مكانها

غيرها على هذا الترتيب:

في السنة السادسة: الأرحاء الثانية

في السنة السابعة: الثنايا

في السنة الثامنة: الرباعيات

في السنة التاسعة: الضواحك

في السنة العاشرة: الأرحاء الأولى

في السنة 11-12: الأنياب

في السنة 13-12: الأرحاء الثالثة

في السنة 17-25: النواجذ

فترى من هذا أن الأسنان التي تظهر في السنة 12 أو 13 يمكث الشاب بها

إلى السنة 17، فيظهر ضرس العقل، أو الحُلم، وهو الناجذ، إما في هذه السنة،

أو فيما بعدها إلى 25 أو 30، وفي النادر أن يتأخر عن ذلك.

أما أسنان الشيوخ - إن ظهرت - فيكون ظهورها بين السنة 81.63.

وجوب أكل الإنسان اللحم والنبات:

بالتأمل في أسنان الحيوانات المختلفة نرى أن آكلة اللحوم أسنانها حادة جدًّا،

أما أسنان الحيوانات الآكلة للنباتات، ونحوها فهي كليلة، وأسنان الإنسان متوسطة

في حدتها بين الطرفين، وكذلك إذا نظرنا في مقياس أمعاء الحيوانات المختلفة نجد

أن أمعاء آكله اللحوم قصيرة، وآكلة الخضراوات، ونحوها طويلة، وأمعاء

الإنسان وسط بينهما، وذلك يدلنا على أن الإنسان بطبيعته يجب أن يأكل اللحوم

والخضراوات جميعًا، وفي ذلك أعظم دليل على خطأ مذهب النباتيين؛ فإنه مخالف

للطبيعة البشرية، هذا وقد وجد أن الفئران البيضاء، وهي التي لا يؤثر فيها

ميكروب الجمرة الخبيثة، تتأثر به إذا غذيت بالنباتات فقط، فلا يبعد أن يكون

الإنسان كذلك بمعنى أنه يصير عرضة لبعض الأمراض إذا اقتصر على

الخضراوات (راجع صفحة 179 من كتاب (manual of bacteriology)

تأليف Hewlett.

اللعاب:

يتولد اللعاب من غدد مخصوصة، وهي ثلاث: الغدة النكفية وموضعها تحت

الأذن وأمامها، وتسمى أيضا الأذنية، ولها قناة تمتد منها إلى الفم تسمى قناة

ستلسون (stenson) ، وفتحتها بقرب الرحى الثالثة للفك الأعلى.

والغدة الثانية تحت الفك الأسفل ولها قناة تسمى قناة هوارتون (wharton)

تصب بجانب قيد اللسان، وفتحتها مرتفعة قليلاً كحلمة صغيرة.

والغدة الثالثة تسمى (الغدة التي تحت اللسان) لأنها تحت الغشاء المخاطي

المتكون منه قيده، ولها عدة قنوات بعضها ينفتح في الفم مباشرة، وهو الأكثر،

والبعض الآخر تتكون منه قناة أكبر تصب في قناة هوارتون المذكورة.

واللعاب مركب من ماء، وزلال، وأملاح متعددة، ومادة مخصوصة تسمى

(اللعابين) وهي أهم ما فيه واللعابين [5] من الخمائر التي سيأتي توضيحها في الفصل

التالي، وفي لعاب الإنسان أيضًا آثار من مادة سامة جدًّا لا تعرف فائدتها الآن،

وربما كانت مما يقتل الميكروبات، ووظيفة اللعاب أن يرطب الطعام حتى يسهل

مضغه، وازدراده، ويذيب بعض مواده ليدرك طعمها، وهو ضروري للنطق

الفصيح، ويهضم المواد النشوية التي في الطعام فيحولها إلى سكر يسمى الملتوز

(أو سكر الشعير)[6] ، ويستمر تأثير اللعاب في المواد النشوية حتى بعد وصولها

إلى المعدة بنحو ربع أو نصف ساعة؛ حتى يُفْسِد عصير المعدة الحمضي مادة

اللعابين؛ فَيُبْطِل تأثيرها في النشاء، واللعابين لا يهضم النشاء غير المطبوخ لأنه

لا يؤثر في مادة (السللولوز) المحيطة بذراته، وهي مادة الخشب أيضًا.

اللوزتان:

أما اللوزتان، فهما غدتان لمفاويتان موضعها على جانبي الحلق في منتهى

الفم، يخرج منهما كريات بيضاء تمتزج باللعاب، أو تسير في الدم، وفائدتهما قتل

بعض الميكروبات بهذه الكريات البيضاء، وقتل ما يقف عليهما من الميكروبات

أيضًا، أو يدخل فيهما، فهما كحصنين يقتلان ما اقترب منهما، ويبعثان بجنودهما

في اللعاب لقتل بعض الأعداء التي تحل في أجزاء الفم المتنوعة، وهذان الجسمان

كثيرًا ما يحصل فيهما التهاب تحدث عنه الحمى، ويمرض الجسم بسببها، وعلة

حصول هذا الالتهاب ضعف البنية، ودخول ميكروبات كثيرة فيهما؛ فيزداد حجمهما،

وتكثر كرياتهما ليتغلبا على هذه الميكروبات؛ فإن نجحا حفظا الجسم من خطر

عظيم - وإن كان الإنسان يمرض بضعة أيام أثناء هذه الحرب -، وإن غلبا تكوّن

فيهما خراجات، أو أفلت بعض الميكروبات منهما إلى الدم فتنشأ عن ذلك أمراض

متنوعة كالروماتزم (الرثية) ، وآفات القلب وغير ذلك، ويقل التهابهما في

الأقوياء لأن كرياتهم البيضاء تكون قوية فتقتل الميكروبات بسهولة بدون حاجة إلى

إثارة حرب عامة.

كلمة في الخمائر:

يحصل تخمر الأشياء بسبب وجود ميكروبات مخصوصة، ومن أشهر أنواع

هذه الميكروبات ما يحول السكر إلى غَول (كحول)[7] ، وغاز ثاني أكسيد الفحم،

ولهذا التخمر سُمِّيت الخمر خمرًا في أحد الأقوال، وهو السبب في فورانها وحرافة

طعمها.

ومن الميكروبات ما يحول بعض أنواع السكر (سكر اللبن) إلى حامض

اللبنيك، وهو السبب في حموضة اللبن، فإذا أمكننا منع الميكروبات من الوصول

إلى الأشياء، أو قتلناها فيها بطل كل تخمر أو تعفن، فإذا أردنا حفظ اللبن مثلاً من

أن يخثر وجب أن نغليه غليًا جيدًا، ونضعه في زجاجات معقمة (مطهرة) ،

بحيث لا يصل إليه أي ميكروب، فيبقى سليمًا من الفساد طول الدهر، وهذه

الطريقة مستعملة في جلب الألبان إلينا من البلاد الأجنبية كسويسرة وغيرها.

ومن هذا يتضح أن السبب في الفساد والتعفن هو هذه الميكروبات، وتسمى

بالخمائر، أما فعل هذه الميكروبات فهو بإفراز مواد مخصوصة لها تأثير كيماوي

في الأجسام، وهذه المواد المُفْرَزَة يسمونها أيضًا بالخمائر، وعلى ذلك فالخمائر

نوعان: الميكروبات نفسها ومفرزاتها، وكما أن إفراز هذه الميكروبات سُمي

بالخمائر، كذلك يسمى بعض إفرازات الجسم بالخمائر أيضًا؛ لأنها تؤثر في

الأجسام تأثيرًا كيماويًا؛ فتحدث فيها تغييرًا بالتركيب والانحلال كتأثير إفراز

الميكروبات، وذلك مثل اللعابين الذي سبق ذكره في اللعاب، وسيأتي ذكر غيره في

بحث مفرزات (عصارات) المعدة والأمعاء، وهذه الخمائر كلها تقريبًا مواد

آزوتية، إما زلالية، أو قريبة من الزلالية - بحسب ما نعلم الآن - ما عدا الببسين

فيقال إنه لا نيتروجين فيه.

ومن الغرائب أن افراز الميكروبات إذا كثر يقتل نفس الميكروبات التي تولده

كما في الخمر مثلاً؛ فإن غولها يقتل ميكروباتها وغيرها، وإذا غُلِي الشيء الذي

فيه هذه الخمائر بنوعيها ماتت الميكروبات، وفسدت الخمائر؛ فيبطل عملها، ومن

الخمائر المشهورة مادة تستخرج من غشاء المعدة الرابعة للحيوانات المجترة

كالعجول تسمى بالأنفحة، وفائدتها تحويل اللبن إلى جبن.

والميكروبات هي نباتات مجهرية، بعضها يحتاج لأكسجين مطلق [8] يعيش

فيه، والبعض الآخر يعيش بغير أكسجين مطلق.

بقية الكلام على جهاز الهضم:

يندفع الطعام بعد الفم إلى الحلقوم، وهو تجويف ينفتح فيه تجويفا الأنف

والفم، ثم الحنجرة، وفي أسفله المريء.

وفي جدران الحلقوم غدد لمفاوية تشبه في منسوجها اللوزتين، ووظيفتها كوظيفتهما

أي أنها تقتل الميكروبات كما سبق.

أما المريء فهو أنبوبة لحمية تمتد من الحلقوم إلى المعدة، وطولها من 9 إلى

10 بوصات، ويدخل في تركيب جدرانه ألياف عضلية تكون في نحو ثلثه الأعلى

اختيارية، وفي الباقي غير اختيارية، وهو مبطن بغشاء مخاطي كالمعتاد، وفي

المريء يمر الطعام إلى المعدة.

وأما المعدة فهي ككيس كمثري الشكل تحت الحجاب الحاجز في البطن، ولها

فتحتان الأولى منهما متصلة بالمريء، وتسمى (بالفؤاد) لقربها من القلب،

والفتحة الثانية تسمى (بالبواب) ، والمعدة مركبة من ألياف عضلية ومبطنة بغشاء

مخاطي، وسطحها الخارجي مغطى بغشاء مصلي، وهو جزء من البريتون [9] .

وفي الغشاء المخاطي عدة غدد لإفراز العصير المعدي، وتتحرك المعدة حركة

غير اختيارية بما فيها من الألياف العضلية، وهذه الحركة تشبه مخض اللبن ويُراد

بها مزج الطعام بالعصير المعدي حتى ينهضم الهضم الأول.

أما العصير المعدي فأهم ما فيه من المواد هو حامض الهيدروكلوريك [10]

(بنسبة 2 في الألف) ، ومادة يسميها الإفرنج (pepsin) ، ونسميها بالعربية

(الهاضوم) ، وهي خميرة تفرزها الغدد المعدية، ويقال إنها خالية من النيتروجين -

كما سبق - وعلى ذلك فهي ليست من المواد الزلالية، ووظيفتها تحويل المواد

الزلالية إلى مادة أخرى تسمى بالإفرنجية (peptone)(أي المهضوم) ، وذلك

بضم عناصر الماء إلى ذرات المواد الزلالية، ثم انقسامها فتحدث هذه المادة

الببتونية، وهي سهلة الذوبان سهلة الامتصاص لكون ذراتها أصغر من ذرات

الزلال.

وأما الطعام فإنه يمكث في المعدة نحو أربع ساعات فيها يحصل هذا الهضم،

المذكور في المواد الزلالية، ويتحول سكر القصب إلى مادة أخرى سكرية، وتقتل

جميع الميكروبات - تقريبًا - بما في هذا العصير المعدي من الحامض فيصير

الطعام طاهرًا لكي لا يضر بالجسم، فإذا حدث للمعدة ما يقلل أفراز هذه الحامض

أو يمنعه أمكن دخول ميكروبات، أو ديدان إلى الأمعاء، أو إلى الجسم نفسه.

هذا كله هو وظيفة المعدة، ولا تأثير لها في المواد النشوية، ولا في المواد

الدهنية إلا بإسالتها، وبهضم ما أحاط بها من الغلف الزلالية، والعصارة المعدية لا

تنفرز إلا وقت الطعام.

وأول انفتاح للبواب يحصل بعد نحو 20 دقيقة من نزول الطعام في المعدة

فيمر إلى الأمعاء جزء مما في المعدة، ثم ينغلق البواب، ثم يتتابع هذا الفتح

والانغلاق في البواب، وتأخذ مدة انغلاقه في القصر ومدة انفتاحه في الطول حتى

يمر الطعام الذي في المعدة شيئًا فشيئًا إلى الأمعاء بحيث يمر كله في نهاية الساعة

الرابعة تقريبًا.

وبعد المعدة توجد الأمعاء الصغيرة أو الدقيقة، ثم الأمعاء الكبيرة أو الغليظة،

أما الأمعاء الصغيرة فطولها نحو من 20 قدمًا، وتُقَسَّم إلى ثلاثة أقسام:

(1)

الاثنا عشري: وطوله 12 أصبعًا، أو 10 بوصات وفيه يحصل

الهضم الأعظم للطعام كما سيأتي تفصيله.

(2)

الصائم: سُمي بذلك لوجوده فارغًا بعد الوفاة عند تشريح الجثة، يبلغ

طوله خمسي الأمعاء الصغيرة الباقية بعد الاثني عشري.

(3)

اللفائف: وهي الثلاثة الأخماس الباقية من الأمعاء الصغيرة.

وأما الأمعاء الكبرى فتبتدئ من الحفرة الحرقفية اليمنى بما يسمى (بالأعور)

وفي أسفله مصير صغير كالدودة يسمى بالزائدة الدودية، وفيها يحصل مرض

مشهور هو التهابها الذي قد يكون سببًا في وفاة الشخص إن لم يتداركه الأطباء

بالعلاج الفعال، وهذه الزائدة هي أحد الأعضاء الأثرية الشهيرة في جسم الإنسان

التي لم ينته الناس إلى حل لمعناها أحسن مما ذهب إليه دارون [11] ، وقيل إن لها

إفرزًا يُحْدِث لينًا فَتُطرد المواد البرازية، وترتفع في القولون مضادة للجذب

الأرضي في الحيوانات المنتصبة القامة (القرد والإنسان) ، ولذلك لا توجد في

الحيوانات الأخرى، وإذا استئصلت حدث إمساك متعاصٍ مستديم يؤدي إلى ضعف

الجسم، ومرضه، كما دلت عليه تجاربهم على ما قالوا.

وبعد الأعور يوجد القولون [12] ، وهو أربعة أقسام القولون الصاعد، والقولون

المستعرض، والقولون النازل، والتعريج السيني، ثم المستقيم الذي ينتهي بالشرج

وهو فتحه الدبر، وطول الأمعاء الكبيرة يختلف من 5 إلى 6 أقدام.

والأمعاء مركبة من الطبقات الآتية:

(1)

طبقة مصلية: وهي من البريتون الذي سبق ذكره.

(2)

طبقة عضلية مركبة من طبقتين: مستطيلة وحلقية، فالمستطيلة في

الخارج، والحلقية في الداخل.

(3)

الغشاء المخاطي: ويفصله عن الطبقة العضلية.

(4)

طبقة رابعة فيها تتفرغ أوعية عديدة دموية ولمفاوية وأعصاب دقيقة،

وفي الطبقة المخاطية غدد كثيرة لإفراز العصير المعوى، منها نوع في الاثني

عشري يسمى بغدد (برُونَرْ)[13] ، ونوع آخر في الأمعاء كلها يسمى بغدد

(ليبركهن) وهي من الشكل الأنبوبي البسيط، ويوجد غير ذلك في الغشاء

المخاطي، وتحته منسوج لمفاوي، بعضه يتكون منه غدد صغيرة تسمى (بالغدد

المنعزلة أو الوحيدة) والبعض الآخر يتجمع على شكل بيضاوي يُحْدِث بقعًا في

طول جدران المصران تسمى ببقع بايير (peyer)[14] ، وهي توجد بكثرة في

اللفائف.

وفي هذه الغدد اللمفاوية بنوعيها يحصل التهاب بسبب ميكروب مخصوص

فتحدث عنه الحمى المعروفة بالتيفودية، أو الحمى المعوية، وهذه البقع المنسوبة

لبايير لا توجد في الأمعاء الغليظة، وإنما توجد فيها الغدد المنعزلة فقط - وهي التي

تكثر جدًّا في الأعور والزائدة الدودية -.

وبالتهاب هذه الغدد التي في الأمعاء الغليظة مع الأغشية المخاطية، وتَقَرُّحها

يحصل المرض المسمى بالدوسنطاريا (الزحار) ، سُمي بذلك في العربية؛ لأنه

يحدث منه زحير شديد متكرر، ومن أعراضه أيضًا المغص الشديد، والحمى،

والإسهال مع نزول مواد مخاطية دموية صديدية متكررة بمقادير صغيرة في كل

دفعة.

وفي الغشاء المخاطي للأمعاء الصغيرة ما يُسمى بالخَمْل، وهو كالأهداب لهذا

الغشاء، وهو أعظم آلات امتصاص المواد الغذائية، وفيه أيضًا غير ذلك ما يسمى

بالصمامات الهلالية لكركرنج (kerkring) ، وهي عبارة عن ارتفاعات تتكون

من ثنيات الغشاء المخاطي على نفسه، وفائدتها أن تعوق سير الطعام حتى يهضم،

وأن تكبر سطح الغشاء المخاطي للأمعاء؛ ليكثر إفرازه وامتصاصه للمواد

المهضومة، ولذلك يبتدئ وجودها بعد البواب بأصبعين، أو ثلاثة، وتكثر شيئًا

فشيئًا خصوصًا في الاثني عشري، والصائم، وكذلك تكبر تدريجًا، ثم تأخذ في

القلة والصغر حتى تنتهي في منتصف اللفائف، ولا جود لها هي والخمل في

الأمعاء الكبيرة لقلة الامتصاص، وعدم الهضم فيها.

والحكمة في وجود الغدد اللمفاوية المذكورة آنفًا، هي حفظ الجسم من دخول

الميكروبات فيه، ولذلك تكثر في اللفائف، وفي الأمعاء الغليظة حيث يكثر التعفن

والفساد لخلو هذه الأجزاء من العصارات المطهرة، بخلاف المعدة فإن عصيرها

مطهر - كما سبق -، والصفراء في الاثني عشري من وظائفها أيضًا تقليل تعفن

الطعام.

ويصب في الأمعاء الصغيرة قناتان عظيمتان: إحداهما من عضو يسمى

باليونانية (البنكرياس) ، ويمكننا أن نسميه بالعربية (الغدة الجسدية) ، والأخرى

هي قناة الكبد تحمل المِرَّة (الصفراء) إلى الأمعاء، وهاتان القناتان تجتمعان معًا

عند نهايتهما، وتصبان بفتحة واحدة غالبًا في الجزء النازل من الاثني عشري في

الجهة الإنسية منه.

أما البنكرياس (الغدة الجسدية) ، فهي أهم غدة في جهاز الهضمي كله،

طولها نحو 6 إلى 8 بوصات، وموضعها خلف المعدة، ووضعها مستعرض

بالنسبة للجسم أمام الفقرة القطنية الأولى، وتفرز عصيرًا فيه خمائر أربع هامة جدًّا

كل منها يهضم جزءًا مخصوصًا من الطعام (إحداها) الهاضوم الزلالي [15] لهضم

جميع المواد الزلالية كاللحم والبيض فيحولها إلى المادة المسماة (ببتون) ، وهو

أقوى من هاضوم المعدة المسمى ببسين بكثير (الثانية) الهاضوم النشوي: وهو

الذي يحول المواد النشوية إلى سكر الشعير، وهو أيضًا أقوى بكثير من (اللعابين)

حتى أنه يؤثر في النشاء غير المطبوخ، ولا يوجد هذا الهاضوم في أمعاء الأطفال

الرضع قبل الشهر السادس، ولذلك كان من الخطر عليهم أن يطعموا أي مادة

نشوية كالبطاطس والخبز؛ فإن ذلك يفسد جهازهم الهضمي، ويضعف صحتهم؛

فيصابون كثيرًا بالإسهال وغيره، وبداء الكساح (rickets)(الثالثة) الهاضوم

الشحمي: ووظيفته أن يحدث مستحلبًا مع المواد الشحمية أو الدهنية، ويحللها أيضًا

إلى جلسرين [16] ، وحوامض شحمية، وكلاهما سهل الامتصاص، وقد يتحد بعض

هذه الحوامض مع البوتاسيوم أو الصوديوم فيتكون من ذلك الصابون، والصابون

أيضًا سهل الامتصاص، فإذا امتصت هذه الأشياء عادت إلى شحم كما كانت

(الرابعة) خميرة تشبه الأنفحة وظيفتها تحويل اللبن إلى جبن، وهذه أقل الخمائر

المذكورة تأثيرًا في الهضم.

والعصير البنكرياسي قلوي التأثير بخلاف العصير المعدي فإنه حمضي.

أما الكبد فهي أكبر عضو في الجسم، موضعها الجهة اليمني من البطن تحت

الحجاب الحاجز مباشرة، ولها وظائف عديدة فهي تفرز المِرَّة (الصفراء) ، وتخزن

فيها أكثر المواد السكرية وبعض الزلالية بعد أن تتحول إلى النشاء الحيواني

(جليكوجين) لحين الحاجة إليها؛ فتحولها ثانية إلى سكر يخرج منها مع الدم ليحترق

في الجسم خصوصًا في عضلاته، وهذه الوظيفة هي من أكبر وظائفها، وتكوِّن

أيضًا حامض البوليك والبولينا لتفرزهما الكلى، ولولا ذلك لتراكمت بعض المواد

الضارة بالجسم.

ومن وظائفها أيضًا أنها تصفي المواد التي انهضمت في الأمعاء وتنقيها من

الميكروبات، ومن بعض السموم، وذلك أثناء مرورها فيها، ولذلك اقتضت الحكمة

الإلهية أن تجتمع جميع الأوردة الآتية من القناة الهضمية، ويتكون منها وريد واحد

هو الوريد الذي يسمَّى (الباب [17] ) الذي يجتمع فيه ما انهضم من الزلال، والسكر،

وبعض الشحم فيصل إلى الكبد، وهناك تُفْرَز منه الصفراء ويُنقى.

أما المِرَّة (الصفراء) فهي إفراز ضار بقاؤه بالجسم، فلذا تنصب في الأمعاء

لتخرج مع البراز، وهي السبب في تلون البراز باللون المعهود، وجزء من

الصفراء لا يخرج مع البراز؛ وإنما يُمْتَص ثانية في الجسم فتفرزه الكلى، وهو

السبب في تلون البول باللون المعروف، وفي الأجنة تتجمع الصفراء في أمعائهم

حتى إذا ولدوا نزل البراز من أمعائهم أسود اللون ويسمى (بالعِقْي) .

ولا يتوهمن القارئ - مما ذُكِر - أن الصفراء لا فائدة لها في الهضم، بل

هي أكبر ما يعين العصير البنكرياسي على هضم جميع المواد المذكورة سابقًا

وخصوصًا المواد الدهنية، والصفراء تقلل التعفن والفساد كما قلنا، وهي أيضًا

منبهة للحركة الدودية للأمعاء، ولذلك يعرض لمن احتسبت فيه الصفراء - بأن

انسدت مجاريها - ما يسمى (باليرقان) ؛ فيصفر جميع جسمه، ويحصل له

إمساك متكرر، ويرى في برازه شحم غير مهضوم، وتكون له رائحة كريهة جدًا.

أما مجاري الصفراء فهي في مبدئها مجهرية (ميكروسكوبية) ، وتبتدئ من

داخل الخلايا الكبدية، وتجري فيما بينها، وتتجمع هذه القنوات بعضها مع بعض

حتى تكبر شيئًا فشيئًا إلى أن تنتهي بقناتين عظيمتين: إحداهما تخرج من الفص

الأيمن للكبد، والأخرى من الفص الأيسر لها، وتجتمعان معًا فيحدث منهما قناة

واحدة، وفي أسفل الكبد كيس صغير يسمى بالحويصلة الصفراوية (المرارة) لها

قناة أيضًا تتحد مع قناة الكبد، وتتكون منهما القناة الكبرى المسماة (بالقناة

المشتركة) التي قلنا إنها تصب في الاثني عشري، وفائدة هذه الحويصلة أن تكون

مستودعًا للمِرّة في وقت عدم الحاجة إليها.

وإذا انسدت القناة الكبدية وحدها حصل اليرقاق، وكذلك إذا انسدت القناة

الكبرى، أما إذا انسدت قناة الحويصلة فقط كبرت هذه بسبب إفراز مواد مخاطية

من باطنها، وحدث كيس تحت الكبد، وبانسداد هذه القنوات - السالفة الذكر -

بحصيات كبدية تتكون غالبًا في الحويصلة يحصل المغص الكبدي.

وإذا انعكست حركة الأمعاء بحيث تعود الصفراء إلى المعدة من البواب حصل

القيء الصفراوي، وهو مر الطعم.

أما لون المِرَّة فسببه اشتمالها على مواد ملوّنة لا تختلف عن هيموجلوبين الدم

إلا بعدم وجود الحديد فيها، وذلك لأن الكبد من المواضع التي تباد فيها الكريات

الحمراء القديمة؛ فتأخذ الكبد منها الهيموجلوبين، وتفصل منه الحديد، وتُلْقِي

بالباقي في إفرازه، وهو السبب في تلون المرة باللون المعروف، أما الحديد فإن

الكبد تركبه مع غيره من العناصر، ويخرج منها في الدم، فإذا وصل إلى نقو

العظام امتزج بكريات (خلايا) هناك فتنشأ منها الكريات الحمراء.

ولوجود مادة الحديد في خلايا الكبد كانت الكبد من أحسن المآكل المغذية

المجددة للدم، غير أنها أعسر هضمًا من اللحوم البيضاء.

أما جميع المواد النشوية والسكرية المهضومة فإنها تُمْتَص في الدم بعد أن

تتحول إلى سكر العنب، فإذا وصلت إلى الكبد حُجِز منها مؤقتًا ما زاد عن حاجة

الجسم بصورة النشاء الحيواني المذكور (الجليكوجين) ، وهذا النشاء يتحول شيئًا

فشيئًا كلما احتاج الجسم إليه إلى سكر العنب مرة أخرى، ويسير في الأوردة الكبدية

ويدور مع الدم؛ فيغذي أنسجة الجسم وعضلاته، وفيها يحترق فيتحول إلى ثاني

أكسيد الفحم، وإلى الماء - كما سبق -.

واعلم أن الطعام الذي تم هضمه في المعدة، وسار منها إلى الاثني عشري

يسمي (الكيموس) ، وهي كلمة يونانية معناها العصير.

أما الأمعاء فإنها تفرز عصيرًا آخر أهم وظيفة له تحويل سكر القصب،

وسكر الشعير إلى سكر العنب، ولها أيضًا بعض التأثير في المواد النشوية فتحولها

إلى سكر، ومما تقدم يُفْهَم أن أجزاء الطعام الأصلية تتحول قبل امتصاصها كما

يأتي:

(1)

الماء والأملاح: لا تتحول إلى شيء، وتُمْتَص كما هي:

(2)

المواد الزلالية [18] : تحولها عصارات المعدة والبنكرياس إلى ببتون؛

ولكنها عند امتصاصها تحولها لخلايا الغشاء المخاطي للأمعاء إلى مواد زلالية

أخرى مثل التي في الدم.

(3)

المواد الشحمية والدهنية: يُمْتَص جزء منها كما هو، وأكثرها ينحل

بالعصير البنكرياسي إلى جلسرين وحوامض شحمية - كما تقدم -، وكل من هذه

الحوامض والجلسرين سهل الامتصاص؛ ولكن في أثناء مرورها خلال الغشاء

المخاطي للأمعاء تحولها خلاياه إلى شحم أو دهن كما كانت من قبل انحلالها،

وبعض الحوامض يتحد مع صوديوم المِرَّة؛ فيتكون صابون وهو سهل الامتصاص،

ويساعد أيضًا على امتصاص الشحم كما هو، فالشحم يهضمه عصير البنكرياس مع

المِرَّة بعد أن يحولاه إلى (مستحلب) ، وذلك مما يُعِين أيضًا على هذا الهضم

والامتصاص.

(4)

أما المواد النشوية: فإنها تتحول باللعاب، والعصير البنكرياسي إلى

سكر الشعير، ثم يتحول هذا الكسر وسكر القصب - إن وجد - بواسطة العصير

المعوي إلى سكر العنب، وهذا السكر سهل الامتصاص، ويبقى في الدم كما هو

غير أنه يخزن الزائد منه مؤقتًا في الكبد على صورة الجيكوجين - كما قلنا - أما

سكر اللبن فيتحول أثناء امتصاصه إلى سكر العنب أيضًا، ولا تأثير للعصارات

الهاضمة فيه.

امتصاص الأغذية:

أما الامتصاص، فإنه يحصل في القناة الهضمية من أولها إلى أخرها، أي

من الفم إلى المستقيم؛ ولكن الامتصاص في الفم قليل جدًّا، كثير في المعدة

والأمعاء خصوصًا في الصائم من الأمعاء الصغيرة.

ولما كان بعض المواد الزلالية يمكن امتصاص القليل منهما وإن لم تهضم [19]

وكذلك الشحم والزيوت، فلذا يستعمل الأطباء في بعض الأمراض الحقن الشرجية

المغذية للمرضى، وإن كان أكثر هذه الحقن يهضم هضمًا صناعيًّا قبل حقنه لتسهيل

امتصاصه لعدم وجود عصارات هاضمة في المستقيم.

أما الماء والأملاح، والمواد السكرية، والزلالية فكلها تُمْتَص من الأمعاء

بواسطة فروع الوريد الباب ليحملها إلى الكبد - كما سبق - مع بعض أجزاء من

الدهن قليلة جدًّا، ولكن أكثر المواد الدهنية تمتصها أوعية لمفاوية مخصوصة

موجودة في الأمعاء، وهذه الأوعية تسمى (بالأوعية اللبنية) ؛ لأن هذه المواد

الدهنية التي تجري فيها تشبه اللبن وتسمى (بالكيلوس) ، وهي كلمة يونانية أيضًا

معناها العصير، وهذه الأوعية اللمفاوية تصب في غدد لمفاوية منثورة في طريقها

لتنقيتها من الميكروبات ونحوها، وكل من الأوعية وهذه الغدد موجود بين طبقتي

المساريقا (mesentery)[20] ، وهي عبارة عن غشاء من البريتون يعلق

الأمعاء الصغيرة بالظهر، ويحيط بها.

والغدد اللمفاوية التي بين طبقتي المساريقا يحصل فيها التهاب، فضخامة عند

تقرح الأمعاء في الحمى التيفودية وغيرها.

واعلم أن الزلال المهضوم المسمى (ببتون) ، إذا دخل الدم من غير أن

تحوله الخلايا المخاطية إلى زلال كزلال الدم كان سمًّا زعافًا؛ فلذا كان تحويله قبل

امتصاصه واجبًا.

ومن المعلوم أن سم الثعابين ونحوها، هو مواد زلالية تقرب من الببتون،

فلذا كان أكله مغذيًا لا ضرر فيه؛ لأن خلايا الغشاء المخاطي تتكفل بتحويله إلى ما

يصلح للجسم قبل امتصاصه، أما إذا حُقِن في الدم أو تحت الجلد بدون هذا التحويل

كان خطرًا على الحياة.

وفي الأمعاء ميكروبات عديدة، وهذه الميكروبات تحدث تغييرًا، وتحليلاً

ً في الأغذية فوق الذي تُحْدِثه العصارات الهاضمة؛ فينشأ عن ذلك غازات وغيرها،

بعضها يضر امتصاصه، وبعضها لا ضرر فيه، وهذه الغازات هي التي تحدث

القراقر في البطن، وخروج الأرياح، ويكثر تكون هذه الغازات بأكل المواد النباتية

وقد تؤثر العصارات الهاضمة في بعض المواد المأكولة؛ فتخرج منها مواد سامة

للجسم إذا امتصت في الدم؛ ولكن هذه الميكروبات تحللها إلى أجسام أخرى، وبذلك

تبطل ضررها، فوجودها في الأمعاء ضروري، ومن الخطأ محاولة قتلها بالأدوية

المطهرة.

أما البراز فهو فضلات جميع الأغذية والأشربة التي لم تمتص، ومُفْرَزَات

الجهاز الهضمي، وغير ذلك.

والسبب في حصول الإسهال أحد ثلاثة أمور:

(1)

إما اضطراب حركة الأمعاء حتى تكون أسرع من الحالة الطبيعية؛

فيمر فيها الطعام والشراب بسرعة زائدة قبل أن يجف بالامتصاص.

(2)

وإما زيادة العصارات الهاضمة وخصوصًا إفرازات الأمعاء بسبب

مرضها كالتهابها.

(3)

وإما قلة امتصاص خلايا الغشاء المخاطي للأطعمة والأشربة لمرض ما

فيها. وهذه الأسباب في الغالب تكون مجتمعة في الإسهال العادي، وقد تحصل

بالمسهلات، ولذلك كان الإسهال الزائد عن الحد ضارًّا جدًّا؛ لأنه يُنْهِك القوى.

والسبب في الإمساك عكس ما تقدم، وضرره يكون بامتصاص بعض المواد

الضارة في الدم، وبضغطه على بعض الأعضاء كالأوردة، أو الأعصاب، فيعوق

وظيفتها، وقد تنشأ عنه البواسير، والصداع، والضعف، وآلام عصبية في الفخذ

الأيسر لضغط المواد البرازية في التعريج السيني والمستقيم على الأعصاب، أما

مدة مرور الطعام في الأمعاء فهي عادة من 24-36 ساعة، منها نحو 12 ساعة

للأمعاء الدقيقة.

***

فصل

في الأطعمة والأشربة وغيرها

المواد الضرورية للجسم سبق ذكرها مرارًا، وهي باختصار: المواد الزلالية

(الأولية) ، والسكرية، والنشوية (الكربوهيدراتية) ، والدهنية، والماء، والأملاح

وهذه المواد يأخذها الإنسان إما من الحيوانات، أو من النباتات والحيوانات المأكولة

تأخذها أيضًا من النباتات، فمصدر غذاء الإنسان كله هو النباتات، وهذه المواد كلها

توجد في أنواع مختلفة من الأطعمة أهمها:

(1)

اللبن:

هو غذاء كامل لاشتماله على جميع المواد السابقة، وعلى الدهن المعروف

(السمن والزبدة والقشدة) ، ويُسْتَخْرَج منه الجبن وهو جل المواد الزلالية،

والدهنية مع بعض أملاح تضاف إليه من الخارج.

وإذا تعرض اللبن للهواء زمنًا ما هبطت إليه بعض ميكروبات مخصوصة حول

سكره إلى حامض اللبنيك، وهذا يرسب الزلال الذي في اللبن فيغلظ ويكون اللبن

المعروف في مصر (باللبن الزبادي) المسمى بالعربية (اللبن الخاثر والرائب)

وقد توضع في اللبن خميرة فيها بعض ميكروبات أخرى؛ فتحول سكره إلى غَول؛

فينشأ نوع من الخمر بسبب ذلك يُعرف في بلاد التتار بالكفير، أو الكوميس وكل

من الكفير [21] ، أو الكوميس [22] سهل الهضم مغذٍّ للإنسان، منبه للدورة الدموية بما

فيه من الغول بمقادير قليلة، ونافع في السل الرئوي - كما يقال -؛ ولكن الإكثار

والإدمان عليه له بعض الأثر السيئ الذي للخمر عامة.

أما اللبن الخاثر فهو أيضًا سهل الهضم لقلة مائه، ووجود الحامض فيه، مغذٍّ

للإنسان؛ ولكن إذا طالت مدة تخمره تولدت فيه مواد سمية ضارة، وهذا النوع نافع

في الحميات لقلة إفراز المعدة للحمض أثناء الحميات، وهو مفيد أيضًا في نزلات

المثانة.

واللبن قد يختلط بميكروبات أخرى محدثة للأمراض، بعضها يصل إليه من

الإنسان كميكروب الحمى التيفودية، والبعض الآخر قد يصل إليه من غيره

كميكروب الحمى المالطية في لبن بعض الماعز، وكالدفتيريا فإنها تصيب البقر

والضأن، وكثير من البقر يصاب بالتدرن؛ فيكون اللبن سببًا في الدرن الإنساني

وإن لم توجد فيه ميكروبات الدرن نفسها إذ يكفي وجود سمومها فيه؛ فإن ذلك

يضعف البنية، ويهيئها لقبول ميكروب الدرن؛ فلذا يجب أخذ اللبن من الحيوانات

السليمة في أوان نظيفة جدًّا، وبأيد كذلك، وللثقة بطهارته من جميع الميكروبات

يجب غليه قبل تعاطيه مدة خمس دقائق على الأقل.

وإذا منعنا وصول سائر الميكروبات إلى اللبن أمكننا حفظه دهرًا بدون فساد

كما سبق.

وللانفعال النفساني الشديد تأثير في إفراز اللبن حتى أنه قد يسم الصغار.

ومن السهل أخذ زبدة اللبن، أو القشدة بالآلة المبعدة عن المركز المسماة

باللاتينية (centrifuge) فإذا أديرت بسرعة أبعدت جميع المواد التي في اللبن

عن المركز لثقلها ما عدا زبدة اللبن؛ فإنها تأتي نحو المركز لخفتها؛ وبسبب خفتها

أيضًا تصعد إلى سطح اللبن إذا سُخِّن بالنار كما هو معلوم.

وإذا أخذت زبدة اللبن صار ثقله النوعي أزيد من المعتاد؛ فإذا أضيف إليه

جزء من الماء عاد ثقله إلى المعتاد (وهو في لبن البقر 1028 إلى 1034) .

ومن طرق غش اللبن أن يضاف عليه الماء مع النشاء لإكثار كميته؛ ولكن

النشاء تمكن معرفته بطريقة كيماوية سهلة جدًّا، وذلك بوضع جزء من صبغة اليود

عليه فيتلون في الحال باللون الأزرق إذا كان فيه نشاء.

ويصنع من زيوت النباتات، وشحم الحيوانات زبدة كاذبة تسمى باللاتينية

وغيرها المرغرين (ومعناها حرفيًّا مادة اللؤلؤ سُميت بذلك للمعانها) يستعملها

التجار كثيرًا بقصد الغش، وهي في الحقيقة لا ضرر فيها إلا أنها أرخص ثمنًا.

ومن أكثر الألبان تغذية لبن الجاموس والعنز، وأسهلها هضمًا لبن المرأة،

والأتان (أثنى الحمير) ، وأكثرها سكرًا لبن المرأة، ويقرب منه في ذلك لبن

الأتان.

(جدول تركيب الألبان المختلفة)

نوع اللبن

المواد الزلالية الدهن السكر الأملاح الماء

لبن المرأة

39و2

80و3 20و6 30و0 40و87

لبن البقرة

55و3

69و3 88و4 71و0 17و87

لبن الفرس

00و2

20و1 65و5 36و0 79و90

لبن الأتان

25و2

65و1 00و6 50و0 60و89

لبن العنز

30و4

78و4 46و4 75و0 71و85

لبن الجاموسة

11و6

45و7 17و4 87و0 40و81

(2)

البيض:

وهو يؤخذ من أنواع مختلفة من الطيور، وأكبره بيض النعام، وهو أيضًا

غذاء كامل لاشتماله على جميع المواد اللازمة للجسم، ولذلك تتكون منه أجنة

الطيور؛ فتخرج منه كاملة الأعضاء، والأجزاء، وطبقاته مؤلفة كما يأتي:

القَيْض (القشرة) : مركبة من مواد جيرية أهمها كربونات الكلسيوم، وبها

ثقوب عديدة لازمة لدخول الهواء إلى البيضة، وخروجه منها لتنفس جنين الطير؛

فإذا سدت جميع هذه الثقوب اختنق ما في داخلها ومات، وسدها أيضًا بمثل الشمع

أو الصمغ يحفظ البيضة من الفساد؛ فإنه يمنع دخول الميكروبات إليها، ويلي هذه

القشرة طبقة أخرى رخوة، ثم بياض البيض (الغِرْقِئ) : وهو يتركب من مواد

زلالية مع قليل من الدهن والملح، ووظيفته تغذية جنين الطير، وهو محيط بالمُحّ

(الصفار) من جميع الجهات، أما (المُحّ) : فهو عبارة عن خلية حية كبقية

الخلايا الحيوانية، ولها نواة يبتدئ فيها تكوُّن الجنين بانقسامها، وتغذيها بما حولها

من المواد المغذية، والمُح يتركب أكثره من مواد دهنية وأملاح مع قليل من الزلال

المسمى جلوبيولين، ولا يحصل هذا الانقسام في النواة إلا إذا كانت ملقحة بالحيوان

المنوي للذكر، ومدة التفريخ للدجاج 21 يومًا، أي ثلاثة أسابيع.

والبيض مغذٍّ جدًّا، سهل الهضم إلا إذا طبخ طبخًا شديدًا؛ فإن ذلك يجمد

مواده، ويجعلها عسرة الهضم، وإذا شرب منه جزء بدون طبخ، أو مع طبخ قليل

أفاد الجسم وغذاه، غير أن الإفراط فيه مما يتعب الكُلى، وقد ينزل جزء من زلاله

في البول.

ولمعرفة البيض الجيد من البيض الفاسد تذاب أوقيتان من ملح الطعام في

نصف لتر ماء، فإذا غرقت البيضة في هذا السائل دل ذلك على جودتها، وإلا

كانت فاسدة مشتملة على غازات ناشئة من الفساد هي السبب في خفتها.

(3)

العسل:

هو في الأصل ما تجمعه النحل من رحيق الأزهار، ثم تحوله في معدها إلى

هذه المادة المخصوصة، ثم تلقيه من أفواهها في خلاياها مصداقًا لقوله تعالى

{يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} (النحل: 69) وفائدة العسل للنحل

تغذية صغارها [23] به.

والعسل يشمل أنواعًا من السكر أهمها سكر العنب مع مواد عطرة، وفيه

أيضًا جزء من الأبور (وهو المادة التي تسميها الإفرنج (pollen) وهي عبارة

عن عنصر الذكر في الأزهار الذي تلقح الأنثى به، والأبور مادة بروتوبلازمية حية

أي مشتملة على زلال وغيره، ولذا كان العسل مشتملاً على كثير من العناصر

الضرورية للحيوانات، أما شمعه فلا يُهْضَم، ولا يكتسب منه الجسم شيئًا.

والعسل مغذٍّ جدًّا، سهل الهضم للغاية، بل إن سكر العنب الذي فيه لا يحتاج

إلى العصارات الهاضمة؛ فإنه يُمْتَص بدونها، والعسل ملين مقوّ للجسم، وبسبب

سهولة هضمه، وتقويته للجسم، وإحداثه اللين كان نافعًا في كثير من الأمراض

فيجعل الجسم قوي المقاومة لأنواع كثيرة من الميكروبات، وقد يتغلب عليها بسبب

ذلك، فهو نافع في سائر الأمراض التي تنهك القوى كالسل، والسرطان، والأنيميا

والبللغرا، وفي الحميات وغير ذلك حتى قال بعضهم إنه نافع في البول السكري؛

ولكن ذلك لم يثبت الآن عند الجمهور.

وهو يحرض شهوة الطعام أيضًا، ويُكْثِر من إفراز المعدة، ومن اللعاب

فيرطب الحلق، ولذا كان نافعًا في التهاب اللوزتين، والحلقوم، وفي السعال. كل

ذلك يؤيد قوله تعالى {فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ} (النحل: 69) وقد يجوز إعطاؤه أيضًا

في أحوال الاضطرابات المعدية المعوية؛ لأنه سهل الهضم جدًّا مساعد عليه - كما

قلنا -، فلذا ينفع المصابين بعسر الهضم، ويجوز إعطاؤه في أول الأمر للمصابين

بالذَّرَب، كما يعطى زيت الخروع بقصد تنظيف القناة الهضمية من المواد التي

تحدث تهيجها، ويحسن إعطاؤه ملينًا للأطفال بدل زيت الخروع؛ فإنه ملين لذيذ

الطعم تشتهيه أنفسهم، ومن ذلك تعلم حكمة وصف رسول الله - صلى الله عليه

وسلم - العسل لمن أصيب بإطلاق بطنه بقصد تنظيف القناة الهضمية، وتغذية

المريض به لسهولة هضمه، ويشبه ذلك وصف الأطباء غذاء اللبن في الذَّرَب مع

أنه يُسْهِل كثيرًا من الناس.

ومن أحسن الأغذية النافعة للحميات العسل مع اللبن؛ فإن العسل يحترق في

الجسم، ويوفر احتراق أجزائه الأخرى بسبب الحمى، وذلك مما يعين الجسم على

التغلب عليها. هذا وإن عسل النحل الذي تجمعه من أزهار سامة يُحْدِث أعراض

التسمم لمن يطعمه، وكذلك الحال في ألبان الأنعام التي تأكل نباتات سامة، فيجب

الاحتراس من ذلك ما أمكن.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

هذه المقادير بالحجم لا بالوزن.

(2)

اسم يوناني معناه " المتغير " يطلق على حييوين دقيق ذو خلية واحدة، وهو دائم التغير لشكله، وله حركة ذاتية.

(3)

أي البزور السلسلية لوجودها بهيئة سلاسل حينما يراها الإنسان بالمجهر، والكلمة يونانية.

(4)

ذلك يشبه أن يكون مصداقًا لقول الشاعر " وداوني بالتي كانت هي الداء ".

(5)

في اصطلاح علم الكيمياء كثيرًا ما يتركب اسم المادة الفعالة في الشيء بإضافة (ين) إليه فمثلاً (البنين) هو اسم المادة الفعالة في البن أو القهوة؛ ولذلك يسمى أيضًا (القهوين) ، وهكذا فاللعابين مادة اللعاب الفعالة في الهضم، وقد جارينا هنا الإفرنج في هذا الاصطلاح كما جاريناهم في غيره مما سبق بيانه لسبقهم لنا في العلم والاختراع والاكتشاف.

(6)

سمي بذلك لأنه يتولد في الشعير النابت (malt) وغيره لتغيرات كيماوية تحصل في نشائه إذا ابتل بالماء.

(7)

يسمى الكحول بالفرنسية (alcool) ، وهو روح الخمر أو المادة الفعالة فيها، وهي سبب جميع شرورها ومضارها، ويقول الإفرنج: إنهم أخذوا هذه الكلمة عن اللغة العربية، فالظاهر أنها مأخوذة من كلمة (غول) الواردة في وصف خمر الجنة في قوله تعالى {لَا فِيهَا غَوْلٌ} (الصافات: 47) ، وهو ما يغتال العقول، ويفسد الصحة {وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} (الصافات: 47) أي لا يسكرون منها لعدم وجود تلك المادة الضارة في خمر الآخرة، وعليه فسنستعمل في كتابنا هذا كلمة

(غول) بدل كلمة كحول أو (alcool) ، والمراد بها ما يسمونه (السبرتو)(Spirit) .

(8)

أي غير متحد بشيء يتقيد به.

(9)

هو الغشاء المغشي للأحشاء البطنية، ومنه جزء كالمنديل يسمى بالترب، ويمكننا أن نسمي البريتون بالعربية (الغشاء المحيط) .

(10)

مركب من هيدروجين وكلورين.

(11)

هو العلامة الإنكليزي (تشارلس دارون) عاش بين سنة 1809و1882 ميلادية، وقد ذهب إلى أن الأنواع الحية ليست ثابتة، ولم يخلق كل منها مستقلاًّ عن غيره بل نشأ بعضها عن بعض بالتغير التدريجي البطيء مع طول الزمان لعوامل طبيعية بينها بيانًا شافيًا، وقد توسع العلماء في هذا المذهب حتى طبقوه على كل شيء في هذا الوجود فصار يشمل الجماد والأمور المعنوية كالأفكار واللغات والمعتقدات والشرائع وغير ذلك. فمحصل هذا المذهب أن الكون بما فيه لم يخلق دفعة واحدة بل خلق أطوارًا طبقًا لسنة التدرج والترقي. فالمذهب في الجملة صحيح لا شك فيه، ويكفي في إثباته قوله {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} (نوح: 14) وإنما النزاع في بعض تفاصيله، وسنعود إلى بيان ذلك في فرصة أخرى إن شاء الله تعالى.

(12)

القولون اسم هذه الأمعاء الغليظة باليونانية، والكلمة من تعريب المتقدمين.

(13)

نسبة لعالم ألماني يدعى " فون برون ".

(14)

مُشَرِّح سويسري عاش بين سنة 1653و1712.

(15)

إذا أطلقنا هذه الكلمة أردنا بها الهاضوم المعدي المسمى باليونانية ببسين.

(16)

كلمة يونيانية معناها حلو.

(17)

سمي بذلك لأنه يحمل الأغذية والأشربة بعد الهضم إلى الكبد، ومنها إلى الجسم، فكأنه باب لدخول الطعام والشراب إلى البدن.

(18)

تسمى أيضًا الأولية (proteids) لأن لها المنزلة الأولى بين الأغذية، والنيتروجين من لوازم تركيبها.

(19)

المراد بالهضم هنا التغير الكيماوي المخصوص الذي يحصل في الأغذية قبل امتصاصها.

(20)

كلمة يونانية معناها (وسط الأمعاء) لأن هذا الغشاء متصل بوسط الأمعاء.

(21)

يصنع من لبن البقر والماعز والغنم.

(22)

يصنع من لبن الفرس.

(23)

تسمى صغار النحل اللوث (بالضم) ، والطرد (بالفتح) ، والرصع بالتحريك، والديسم

(بوزن جعفر) .

ص: 193