المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذو القعدة - 1333ه - مجلة المنار - جـ ١٨

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (18)

- ‌ربيع الأول - 1333ه

- ‌فاتحة السنة الثامنة عشرة للمنار

- ‌الجهاد الديني في الإسلام

- ‌الدعوة إلى انتقاد المنار

- ‌التاريخ الهجري الشمسي

- ‌سنة المنار الجديدةعشرة أشهر

- ‌الاحتفال بنصب الأمير حسين كاملسلطانًا لمصر

- ‌ترجمة برقيات التهاني بين لندرة ومصر

- ‌تهاني الشعراء

- ‌أثارة تاريخيةمن مقدمات الحرب المدنية الأوربية

- ‌فصل الإحصاء من باب التاريخ

- ‌خرافات وأوهام في قصور الملوك [*]

- ‌الإسلام في إنكلترة

- ‌مصاب الهند والعالم الإسلاميبالشيخ شبلي النعماني

- ‌ربيع الآخر - 1333ه

- ‌استفتاء أدباء العصرفي بيت من الشعر

- ‌الحق والقوة [*]

- ‌بين روسيا وألمانيا [*]

- ‌ترجمة الشيخ شبلي النعماني

- ‌السر محمد سلطان آغا خان

- ‌جمادى الأولى - 1333ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الحنين إلى الأوطان

- ‌سفور النساء واختلاطهن بالرجالوفوضى الآداب بمصر

- ‌الشيخ شبلي النعماني

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة [*]

- ‌جمادى الآخر - 1333ه

- ‌نموذج من كتابكنز الحقائق في فقه خير الخلائق

- ‌أهم أخبار الحرب الأوربية والآراء فيها

- ‌مدرسة دار الدعوة والإرشاد

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة [*]

- ‌رجب - 1333ه

- ‌مقارنة بيناللغة المصرية القديمة واللغة العربية(2)

- ‌جواب على استفتاء المنار(جزء 2 مجلد 18) في قول الشاعر

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة [*]

- ‌شعبان - 1333ه

- ‌مقارنة بيناللغة المصرية القديمة واللغة العربية [*](3)

- ‌أصناف الأقلام العربية في الإسلام

- ‌الدولة والألمان

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة [*]

- ‌رمضان - 1333ه

- ‌أثارة من تاريخ العرب في الأندلس

- ‌مقارنة بيناللغة المصرية القديمة واللغة العربية [*](4)

- ‌السيد محمد شفيع آل رضا

- ‌شوال - 1333ه

- ‌حال المسلمين مع غيرهم في العصر الأول

- ‌إعراب الآية الثانية الذي اضطرب فيه النحاة

- ‌الخطب الدينية(2)

- ‌مقارنة بيناللغة المصرية القديمة واللغة العربية [*](5)

- ‌عدل الإسلام

- ‌تاريخ ميلاد ولدنا محمد شفيع

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة [*]

- ‌ذو القعدة - 1333ه

- ‌الخطب الدينية(3)

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة [*]

- ‌ذو الحجة - 1333ه

- ‌خلاصة سورة المائدة

- ‌حرب أمم المدنية لا الملل الدينية

- ‌الألقاب

- ‌المعرفة بالله تعالى(2)

- ‌شرف العلم وشمائل العلماء

- ‌حال المسلمين اليوموجماعة الدعوة والإرشاد

- ‌خاتمة السنة الثامنة عشرة للمنار

الفصل: ‌ذو القعدة - 1333ه

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فاتحة السنة الثامنة عشرة للمنار

بسم الله الرحمن الرحيم

سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، وجل ثناؤك، ولا

إله غيرك {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ

وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (آل عمران: 26) .

سبحانك اللهم وبحمدك، ما أعدل حكمك، وما أجل حكمتك! وما أوسع علمك

وما أنفذ مشيئتك {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ

تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (الزمر: 46) .

سبحانك اللهم وبحمدك، لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك،

أسبغت النعم ظاهرة وباطنة، وأفضت أنوار الكرم بارزة وكامنة، ووهبت العقول

والمشاعر، وبينت السنن والشعائر، وأكملت هداية الدين ببعثة محمد خاتم النبيين

فَصَلِّ وسلم اللهم عليه وعلى آله الأئمة الطاهرين، وأصحابه الهادين المهديين.

اللهم إن نعمك لا تحصى، وقد كفرها الكافرون، وإن صراطك المستقيم لا

يخفى، وقد تنكبه الضالون، وإن حكمك لهو الحق وإن عمي عنه المبطلون، وإن

عدلك لهو القسطاس وإن جهل الظالمون، {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا

يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} (الأعراف: 34) {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم

بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ * لَا تَجْأَرُوا اليَوْمَ إِنَّكُم مِّنَّا لَا تُنصَرُونَ} (المؤمنون: 64-

65) .

ربنا إنك آتيت أقوامًا الغنى فطغوا وفسقوا عن أمرك، وآتيتهم القوة فبغوا في

أرضك، ربنا ليضلوا عن سبيلك، بما أعرضوا عن دليلك، {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى

أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا العَذَابَ الأَلِيمَ} (يونس: 88) ،

{بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ العُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ

نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الغَالِبُونَ} (الأنبياء: 44) .

يا أيها الناس لا خير في الحضارة المدنية، إذا أقيمت على قواعد الأثرة

والقوة المادية، ولا خير في العلم ولا في العمران، إذا كانا وسيلة لاستعباد الإنسان

لأخيه الإنسان، أفلا يعلم الذين جعلوا الحق كله للقوة أن الله الذي خلقهم هو أشد

منهم قوة، وأنه بعباده رؤوف رحيم وإنما يرحم الراحمين، وأنه يأمر بالعدل

والإحسان وخص بمحبته المحسنين، {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ

عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا

كَانُوا يَكْسِبُونَ} (غافر: 82) {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ

عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا

عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (الروم: 9)[*] {أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ العَزِيزِ الوَهَّابِ * أَمْ لَهُم مُّلْكُ

السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الأَسْبَابِ * جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ

الأَحْزَابِ} (ص: 9-11) ، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ

وَاحِدَةٍ} (النساء: 1) ، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ

شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} (الحجرات: 13) لا لتتناكروا وتتخالفوا، {وَسَخَّرَ لَكُم

مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} (الجاثية: 13) لتشكروا لا لتكفروا،

ولتصلحوا لا لتفسدوا، وليس الإصلاح في الاستعانة بقوى المواد وخواص الأشياء،

على إفساد أمر الناس الذين خلق الله لهم جميع الأشياء، وإنما الإصلاح كل

الإصلاح أن تستعينوا بما آتاكم الله من العلم والعرفان، وما هداكم إليه من تسخير

القوى الكامنة في الأجسام، على جعل منافعها شَرَعًا بين جميع الناس، وجعل

الغاية منها إيصال الشعوب كلها إلى ما يمكن من الكمال. وإن الإفساد كل الإفساد

أن تحتكر الشعوب العالمة منافع العلم، وتجعله ذريعة لبغي بعضها على بعض،

واستذلال الشعوب الضعيفة في الأرض، وتسخيرها لخدمتها كما تُسَخِّرُ الحيوان

الأعجم، بل هم أشد إهانة لمن كرم الله وأكثر تذليلاً، {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ

وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا

تَفْضِيلاً} (الإسراء: 70) ، {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا

فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} (الإسراء: 16) .

يا أيها الإنسان، اتق الله في أمر أخيك الإنسان، ولا تستعل على مَن فَضَّلَك

عليه بالعلم والمال، فقد خلت من قبلكم القرون والأجيال، {وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ

ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ} (إبراهيم: 45) ،

{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ

بِالْعُصْبَةِ أُوْلِي القُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الفَرِحِينَ} (القصص: 76) ، {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ

الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ

المُفْسِدِينَ} (القصص: 77) ، {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ

اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ

المُجْرِمُونَ} (القصص: 78) ، {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ

الحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (القصص: 79) ،

{وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا

يُلَقَّاهَا إِلَاّ الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن

دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ

وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا

وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الكَافِرُونَ * تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُواًّ فِي

الأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * َ} (القصص: 80-83) .

يا أيها المغرورون بالعلم والقوة، قد عرفتم القوى المادية، فلا تنسوا القوة

المعنوية، يا أيها المغرورون بعرفان السنن الكونية والاجتماعية، لا تنكروا سنن

العدالة الإلهية، {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ

عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ} (آل عمران: 137) ، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا

مُصْلِحُونَ} (هود: 117)[1]، {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي القُرَى إِلَاّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} (القصص: 59) {أَوَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاءُ

أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} (الأعراف: 100) .

وأما أنتم يا معشر المستضعفين والمظلومين، فما زلتم شرًّا على أنفسكم من

الأقوياء العادين، لا نعم الله شكرتم، ولا دين الفطرة أقمتم، لا سنن لله في الكون

عرفتم، ولا على سننه في ارتقاء البشر سرتم، لا بالقوى المادية انتفعتم، ولا

بالقوى المعنوية اعتصمتم، فما ظلمكم الله ولا الناس؛ لكن أنفسكم ظلمتم. تطالبون

ربكم بما وعد به المؤمنين، ولا تطالبون أنفسكم بما فرضه وما شرطه على

المؤمنين، {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي

الأَمْرِ} (آل عمران: 152) ، حرمكم بمخالفة كتابه وسنته في عباده ذلك

النصر،] وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ

اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِين [ (الأنفال: 46){وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران:

140) ، {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ

الوَارِثِينَ} (القصص: 5) .

يا قوم! طالما أنذركم المنار - على رءوس السنين والأحوال - سوء عاقبة

ما أنتم عليه من التفريط والغرور والإهمال، وطالما فَصَّلَ لكم في أعقاب الشهور،

ما تَخْرُجُون به من الظلمات إلى النور، مبينًا لكم - بآيات القرآن، وأقيسة الميزان

وسنن الله في سيرة الإنسان - أن الأمر ليس بالأماني والأحلام، ولا بمجرد

الانتساب إلى الإسلام، وإنما هو بالأخلاق والأعمال، والعدل والاعتدال، التي

بالإيمان تَبْلُغُ درجات الكمال، وإنما الخلافة في الأرض بالصلاح والإصلاح،

والمؤمن المصلح يَرْجُحُ المصلح الكافر بالإيمان، {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ

الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (الأنبياء: 105) ، {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ

رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} (إبراهيم: 13)، {وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ِ} (إبراهيم: 14) ،] وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي

الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم [، {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ

عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الأعراف: 128) .

نعم طالما حذركم المنار وأنذركم، بل طالما ذكركم بنُذُرِ ربكم، وبسننه في

الذين معكم، والذين خلوا من قبلكم، فتماريتم بالنذر، وتعللتم بالقضاء والقدر،

وإنما يعتذر بالقدر من يبرئ نفسه، ويتهم ربه، على أنكم تدعون ربكم أن يبدل

فيكم سنته، ويبطل لأجلكم حكمته، وينصركم بالاستبداد الأُنُف، وقطع أسباب

القدر، وقد تلوتم ما نزل في حُنَينٍ وأُحُد، إذ نزل بخير سلفكم ما نزل، جزاء

العجب والخلاف والفشل، وفيهم خاتم الأنبياء والرسل، أإسلامكم خير من إسلامهم

أم لكم براءة في الزبر، {كَلَاّ وَالْقَمَرِ * وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ *

إِنَّهَا لإِحْدَى الكُبَرِ * نَذِيراً لِّلْبَشَرِ * لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} (المدثر: 32-37) .

نعم إن لله في خلقه آيات، وإن لربكم في أيام دهركم نفحات، وإن له تعالى

رحمة خاصة لَدُنِّيَّة، تتخلل سننه الاجتماعية، (وإن الله تعالى ليؤيد هذا الدين

بالرجل الفاجر) [2](وإن الله تعالى ليؤيد الإسلام برجال ما هم من أهله)[3] ولكن

الله تعالى لا يؤيد بخوارق الآيات من أعرض عن السنن وآيات القرآن، ولا يُمِدّ

بالنفحات والرحمة الخاصة من استحق الحرمان من معظم الرحمة العامة، ألا وإن

تأييد الله الإسلام بغير أهله أكبر حجة على جميع من يُعَدُّون من أهله، ولا سيما إذا

أصروا على خذل أنفسهم بخذله، أفلا يعلم من لا خير له في نفسه من نفسه أن لا خير

يُرْجَى له من غيره؟ {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَاّ

تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَاّ مَا سَعَى} (النجم: 36-39) .

يجب علينا معاشر المسلمين أن ننتصف من أنفسنا، قبل أن ننتصف أو

نستنصف من الأجانب عنا - وأن نستجيب لله وللرسول إذا دعانا لما يحيينا، قبل

أن ندعوه أن يستجيب لنا ويؤتينا ما وعدنا - وأن نشكر نعم ربنا التي أعطى من

غير استحقاق لها، قبل أن نسأله حفظها أو المزيد منها بدون قيام بحقها - وأن نعلم

أن الله تعالى لا يستجب الدعاء بلسان المقال، إلا إذا كان دعاء بلسان الاستعداد

والحال، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً

فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} (الرعد: 11) .

إنني أُذَكِّر في فاتحة السنة الثامنة عشرة للمنار، بما طالما فَصَّلْتُ فيه القول

في السنين الخوالي: إننا نحن مسلمي هذا العصر، لا نستحق على الله تعالى نصيبًا

من الملك، ولا خلافة في شيء من الأرض، لا بحسب سننه في خلقه، ولا

بمقتضى وعده في كتابه، فإذا أعطى شيئًا أو أبقى، فتلك عنايته تعالى وفضله لا

مما جعله وعدًا عليه حقًّا، وإن الله تعالى ليبلو عباده بالحسنات، كما يبلوهم

بالسيئات، ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، فيكون أحسن جزاء وخيرًا أملاً، {وَلَقَدْ

صَرَّفْنَا فِي هَذَا القُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} (الكهف: 54) ، {وَرَبُّكَ الغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ

العَذَابَ بِل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلاً} (الكهف: 58) .

هذا وإن آية المؤمن أن يحمد الله في السراء والضراء، ولا ييأس من روح

الله مهما اشتدت الأهوال والأرزاء، ويعلم أن ما أصابه من حسنة فمن فضل ربه،

وما أصابه من سيئة فمن نفسه وسوء كسبه، فَيُحْدِث عند الحسنة شكرًا، ويُحْدِث

عند السيئة توبة وذكرى {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ

اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ

المُبِينُ} (الحج: 11) .

{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ} (الأعراف: 23)، {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (يونس: 85) ،

{ْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا َتَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى

الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا} (البقرة:286) .

{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (البقرة:

201) ، {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ

المِيعَادَ} (آل عمران: 194) ، {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ

الفَاتِحِينَ} (الأعراف: 89) ، {وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ

العَالَمِينَ} (الزمر: 75) .

...

...

...

... منشئ المنار ومحرره

...

...

...

...

محمد رشيد رضا

_________

(*) لا يحول دون الاعتبار بهاتين الآيتين هنا نزولهما في قوم كانوا أقل ممن قبلهم قوة وكسبًا

وعمرانًا وآثارًا في الأرض وكونهما لا تنطبقان من بعض الوجوه على بعض الأمم المغرورة بقوتها وعمرانها في هذا العصر - فالعبرة واحدة.

(1)

القرى والمدن: العواصم، والمراد هنا الأمم.

(2)

حديث رواه الطبراني عن عمرو بن النعمان بن مقرن وعلم عليه السيوطي في جامعه بالصحة.

(3)

حديث رواه الطبراني عن عبد الله بن عمرو بسند ضعيف.

ص: 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الجهاد الديني في الإسلام

إن أحكام القتال في الإسلام أعدل وأرحم من أحكام القوانين الأوربية فهي

الإصلاح الأعظم لهذه المصيبة الاجتماعية. ويظن كثير من نصارى الشرق - تبعًا

لأئمتهم في الغرب - أن الجهاد الديني في الإسلام عبارة عن تصدي المسلمين لقتل

كل من يخالفهم في الدين. وقد بينا خطأ هؤلاء ووهمهم بالأدلة والآيات البينات.

ويدهشنا أن نرى أجدر الناس بالفهم والحفظ والذكر لما كتبناه - كأصحاب الجرائد -

قد نسوه وظلوا على رأيهم الموروث بدليل ما كان من توقعهم قيام المسلمين في

البلاد العثمانية بذبح إخوانهم في الجنس والوطن، واستغرابهم اتحاد الدولة العثمانية

مع دولتين من غير دينها.

أعلنت الدولة العثمانية الجهاد الديني فكان المسلمون في بلادها السورية

وغيرها أشد اتفاقًا مع غير المسلمين منهم قبل هذا الجهاد. وما ينقل من تعدي

الترك والأكراد على الأرمن فسببه - على فرض صحته - المنازعات الجنسية

والسياسية، والانتقام منهم لميلهم إلى الدولة الروسية.

وأما الجهاد العام في الإسلام فلا يكون إلا دفاعًا ولا يجوز فيه قتال غير

المقاتلين المعتدين {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ

المُعْتَدِينَ} (البقرة: 190) .

_________

ص: 30

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الدعوة إلى انتقاد المنار

جرت عادتنا بأن نُذَكِّر قراء المنار في كل عام بما يجب من الانتقاد الذي هو

ضرب من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والمساعدة على الدعوة إلى

الخير، وبث النصيحة، ونشر العلم، فنحن نطالب كل من قرأ في المنار شيئًا

يرى أنه خطأ أن يبين لنا ذلك قولاً أو كتابة مؤيدًا لنقده بما عنده من الدليل، وأما

من سمع الإنكار على المنار من بعض الناس سماعًا فينبغي له أن يتثبت ولا يُعَجِّل

بموافقة المنكر ومجاراته، حتى يرى ذلك بعينه، أو يقرأه الثقة عليه، فإن من

الناس من يفتري الكذب عمدًا، ومنهم من يحرف ما يقرأ حسدًا وضغنًا، ومنهم من

يستنبط من الكلام لوازم لا تلزم، على أن لازم المذهب ليس بمذهب.

وإننا وايم الله لا نرغب إلى أهل العلم والفهم أن ينتقدوا ما نكتب غرورًا منا

بنفسنا، وثقة بأن النقد ينكشف عن خطأ الناقد وصوابنا، بل نعلم أننا كغيرنا من

البشر عرضة للخطأ والنسيان، ولجهل الحقائق وضعف البيان، ولا نبرئ أنفسنا إلا

من سوء القصد، واتِّباع الهوى عن عمد، وإن لنا في هذه الدعوة أربعة أغراض:

الأول: التوسل بها لإصلاح خطئنا، وتقويم عوجنا.

الثاني: التعاون على البر والتقوى والإصلاح بضم رأي غيرنا إلى رأينا

والاستفادة من علم أهل العلم.

الثالث: إقامة الحجة على المغتابين والكذابين الذين يقولون علينا ما لم نقل،

وينسبون إلينا ما نحن بُرآء منه، ويعيبون المنار بما ليس فيه.

الرابع: التوسل إلى تصحيح خطأ المنتقد إذا كان هو المخطئ.

هذا. ومن شاء أن ينشر ما يكتبه علينا من غير تصريح باسمه فله أن يأمرنا

بكتمان اسمه. ووضع ما شاء أو شئنا من الأسماء والألقاب في مكانه.

وإننا نشترط على المنتقدين ما نشترطه لهم على أنفسنا من الأدب في العبارة

ونزيد التزام الموضوع، وعدم الخروج عنه إلى ما ليس منه، ومراعاة الاختصار

بقدر الحاجة.

_________

ص: 31

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌التاريخ الهجري الشمسي

يعلم القراء أننا شرعنا من بضع سنين بإحياء التاريخ الهجري الشمسي بذكر

سنينه في المنار بعد التاريخ الهجري القمري، وقبل التاريخ الميلادي، وقد كنا

نكتفي أولاً بذكر السنة تابعة للشهور الإفرنجية الشمسية، بدأنا بهذا في المجلد الثاني

عشر (سنة 1327) ثم ارتأينا في أول السنة الخامسة عشرة - سنة 1330 - أن

نذكر الشهور الشمسية الهجرية ونعتمد في تسميتها ما اختاره أحمد مختار باشا

الغازي في تقويم له بين فيه ذلك. وذلك أن تُسمى الشهور بأسماء الفصول مع

الوصف بالعدد، بأن يقال: الخريف الأول الخريف الثاني إلخ. لأن حفظ هذه

الشهور يَسْهُل على العوام كالخواص، ومن أسمائها يعرفون مواقعها من السنة من

أول العهد باستعمالها، وقد جرينا على هذا الحساب في جماعة الدعوة والإرشاد

ومدرستها، وكنا عازمين على طبع تقويم خاص للسنة الهجرية الشمسية.

ثم إننا رأينا أن بعض إخواننا من الفارسيين والأفغانيين يستعملون التاريخ

الهجري الشمسي؛ ولكنهم يُسَمُّون شهور السنة بأسماء بروج الشمس، فالشهر

الأول من السنة هو شهر الميزان وهو أول فصل الخريف الذي وصل النبي صلى

الله عليه وسلم في أول يوم منه إلى المدينة المنورة، ولما نبهنا الناس إلى إحياء هذا

التاريخ في مصر صار بعض أصحاب التقاويم المصرية يذكرونه في تقاويمهم،

وتبعوا الفرس والأفغان في تسمية الشهور.

لأجل هذا رأينا الآن أن نجاري هؤلاء وأولئك في هذه التسمية، وأن نكتفي

بالإشارة إلى تسمية الشهور بأسماء الفصول بالحروف المقطعة من أولها، وذلك

بجعل حرف خ رمزًا للخريف وحرف ش للشتاء وحرف ر للربيع وحرف ص

للصيف، ونضيف إلى هذه الحروف الأرقام الدالة على الأول والثاني والثالث.

فالقارئ يرى هذا الجزء مؤرخًا في 25 من شهر الدلو (ش2) أي الشتاء الثاني.

_________

ص: 32

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌سنة المنار الجديدة

عشرة أشهر

بَيَّنَّا - في جزء آخر السنة الماضية - أن ما أحدثته حرب المدنية الأوربية من

الضيق وقلة الورق اضطرنا إلى جعل سنة المنار الجديدة عشرة أشهر كأكثر المجلات

المصرية، مع إبقاء جزء كل شهر ثمانين صفحة. وإذا طالت الحرب وزاد هذا

الضيق فربما نضطر إلى تقليل عدد الأوراق أيضًا.

_________

ص: 32

الكاتب: محمد توفيق صدقي

مدرسة دار الدعوة والإرشاد

دروس سنن الكائنات

محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صدقي

(3)

(الهواء)

يُفْهَم - مما تقدم في الكلام على المطر - أن الهواء يشتمل دائمًا على بخار

الماء (الرطوبة) وهذا البخار يقل أو يكثر بحسب درجة حرارة الهواء، فإذا كان

الهواء ساخنًا كان أكثر رطوبة من الهواء البارد.

وأهم ما يوجد فيه من الأجسام الأخرى فهو: -

النيتروجين

79.02

الأكسيجين

... 0.94

... في المائة تقريبًا وذلك بالحجم لا بالوزن

غاز ثاني أكسيد الفحم 0.04

وهي مختلط بعضها ببعض وليست متحدة اتحادًا كيماويًّا كما سبق، وفي

الهواء غير ذلك آثار من عناصر أخرى ومركبات لا حاجة هنا لتفصيلها.

أما أنواع الهواء بحسب الأمكنة فهي ما يأتي:

1 -

هواء البحار- وهو يشتمل على كثير من بخار الماء النقي، ومن

أكسجين كثيف يسمى (الأوزون)[1] وهو عبارة عن أكسجين خاثر (مُركز)

تشمل كل ذرة منه ثلاث جواهر فردة من الأكسجين، وهواء البحار البعيد عن البر

خالٍ من الميكروبات تقريبًا، ومن العفونات والروائح الكريهة، ويكون في الشتاء

دافئًا، وفي الصيف باردًا، وذلك لأن الماء يبرد ببطء، ولا يسخن بسرعة، فيبقى

أشد سخونة أو برودة من الأشياء المحيطة به فَيُعَدِّل درجة حرارة الجو.

فهواء البحار من أنفع الأهوية للصحة، ومفيد لكثير من الأمراض، ولو أنه

يشتمل على رطوبة كثيرة فإن ذلك لا يضر فيها.

2-

هواء الصحاري - ورطوبته أقل كثيرًا، وهو أيضًا خالٍ من الميكروبات

تقريبًا، ومن العفونات وغيرها، وأكسجينه يوجد فيه أيضًا النوع المسمى (أوزون)

كهواء البحار، وأما درجة حرارته فهي عالية في الصيف منخفضة في الشتاء،

وهو أيضًا نافع للصحة، ومفيد لبعض الأمراض الأخرى.

3-

هواء المدن - وهو يشتمل على كثير من الميكروبات [2] ، والغازات

الضارة، والعفونات، وغيرها مما يخرج مع نَفَس الحيوان، ومما يتصاعد من

النيران وغيرها، ويشتمل أيضًا على رطوبة كثيرة؛ ولكنها ليست نقية، بل

مختلطة بكثير مما يتبخر من سطح الأرض من القاذورات، والروائح الكريهة

المنبعثة من المراحيض ونحوها، أو من المياه الراكدة الآسنة، ولذلك كان هواء

المدن من أفسد الأهوية، وأضرها بصحة الإنسان.

4-

هواء الحدائق والغيطان (الحقول ونحوها) وهو من جهة الرطوبة بين هواء الصحاري، وهواء البحار، وميكروباته قليلة جدًّا، وفي النهار يقل منه

غاز ثاني أوكسيد الفحم؛ بسبب تنفس الأشجار فهي تستنشق منه غاز الفحم

الضار وتترك الأكسجين للإنسان والحيوان. وفي الليل يكون هذا الهواء فاسدًا؛

لأن الأشجار والنباتات تتنفس فيه تنفس الحيوان فإن لم يكن المكان طلقًا أضر

هذا الهواء الإنسان ضررًا كبيرًا، وإذا لم يتجدد الهواء ربما يقتله.

***

الانتشار والتخلل أو (الاختراق)

عُلِمَ - مما تقدم - أن ذرات المادة تحت مؤثرين عظيمين: الأول قوة

الانضمام، والثاني قوة الاندفاع، وهي المُعَبَّر عنها فيما سبق بالحرارة الكامنة.

فإذا زادت قوة الانضمام عن قوة الاندفاع كان الجسم صلبًا، وإذا تساوت

القوتان كان سائلاً، وإذا زادت قوة الاندفاع عن قوة الانضمام كان غازًا.

ففي الغازات تميل ذراتها إلى الانتشار في جميع الجهات بقوة الحرارة الكامنة

فيها، وهذا هو المسمى في علم الطبيعة بالانتشار، وتلك القوة تُحْدِث ضغطًا على

الأجسام المحيطة بالغاز، فهي أيضًا من أسباب الضغط الجوي الذي تقدم ذكره

(راجع صفحة 7 من هذا الكتاب)[3] .

وكلما كان الغاز خفيفًا كانت قوة الانتشار فيه أشد، فالهيدروجين - وهو أخف

من الأكسجين - ينتشر بسرعة أكثر من الأكسجين.

وإذا وجد في طريق الغاز المنتشر غشاء ما مما له مسام نفذ الغاز من خلاله

وقوة النفوذ هذه تسمى قوة التخلل، أو الاختراق، وتسميها الإفرنج Osmosis،

وكما أن الغازات تخترق بعض الأغشية كذلك من الأجسام الصلبة ما يخترقها أيضًا

إذا كان ذائبًا، والأجسام بالنسبة إلى قوة الاختراق نوعان:

(الأول) أجسام تتشكل بشكل البلورات كالأملاح وهي سهلة النفاذ (الثاني)

أجسام لا تتشكل كالمواد الزلالية، والغروية، والصمغية، وهي يتعسر نفاذها، أو

يتعذر.

فالأجسام الأولى إذا كانت ذائبة في سائل مع الأجسام الأخرى نفذت خلال

الأغشية وحدها دون الأجسام الأخرى، وبذلك يمكن فصل هذه عن تلك.

وأظهر فوائد سنة الانتشار والتخلل الخمس الآتية:

(1)

أنه بسبب قوة الانتشار يدرك الإنسان جميع المشمومات.

(2)

التنفس لجميع الحيوانات البرية، والبحرية، فالأكسجين المنتشر في

الهواء والذائب في الماء يندفع بهذه القوة إلى مجاري التنفس (الرئة) في

الحيوانات البرية وإلى خياشيم الحيوانات البحرية؛ فيثقب أغشيتها حتى يصل إلى

الدم؛ فيتحد به وكذلك الغاز الذي في الدم المسمى (ثاني أكسيد الفحم) يتركه،

ويندفع إلى الخارج خلال أغشية الأعضاء التنفسية.

والسبب في اتجاه الأكسجين إلى الداخل هو كون ما يوجد منه في الهواء أكثر

مما يوجد منه في الدم، - والغازات تميل في انتشارها إلى الموازنة والمساواة،

كما تميل السوائل الموجودة في مستويات مختلفة إلى الموازنة أيضًا كما سبق.

وكذلك اتجاه ثاني أكسيد الفحم إلى الخارج يكون لهذا السبب بعينه. ويسمى

الاندفاع إلى الخارج Exosmose، ويسمى الاندفاع إلى الداخل

Endosmose.

(3)

امتصاص الأغذية من القناة الهضمية في الحيوان، وامتصاصها من

جدر الرحم بالأجنة الحيوانية يحصل أيضًا بقوة التخلل، مع مساعدة الخلايا البشرية

المبطنة للأغشية، ولذلك تمتص الأملاح مع المواد الزلالية في مثل الجنين بسبب

فعل هذه الخلايا، ولولا ذلك لَتعسر نفاذ غير الأملاح أو تعذر.

(4)

تجدد الهواء وذلك أنه إذا قل الأكسجين في حجرة اندفع أكسجين

الهواء الخارجي إلى هذه الحجرة من جميع المنافذ الممكنة حتى لا يخلو الهواء

الداخلي من الأكسجين، وإلا لماتت الحيوانات فيه ، ولانطفأت المصابيح.

(5)

فصل بعض المواد الكيماوية عن بعضها في المعامل يكون أحيانًا

بطريقة التخلل.

***

مأخذ أسماء أشهر العناصر المذكورة آنفًا ومعانيها

(1)

النيتروجين: لفظ يوناني مركب من كلمتين معناهما (مُوَلِّد النيتر)

لأنه يدخل في تركيبه، والنيتر (Nitre) اسم لنترات البوتاسيوم، وهي ملح

البارود المسَمَّى أيضا (الملح الصخري)(Saltpetre) ، وكان النيتروجين يُسمى

قديمًا (أزوت) ، وهي يونانية أيضًا معناها " عديم الحياة " لأن الحيوانات لا تعيش

فيه.

(2)

الأكسجين: لفظ يوناني مركب من كلمتين معناهما (مُوَلِّد الحامض)

لأنهم كانوا يظنون أنه هو السبب الوحيد في الحموضة، أو أنه داخل في تركيب

جميع الحوامض؛ ولكنهم علموا بعد ذلك خطأهم، وبقي الاسم بدون تغيير إلى الآن.

(3)

الهيدروجين: لفظ يوناني أيضا مركب من كلمتين معناهما (مُوَلِّد

الماء) لأن كل ذرة من الماء مركبة من جوهرين فردين من الهيدروجين متحدين مع

جوهر واحد من الأكسجين، وبعبارة أخرى حجمان من الأول مع حجم واحد من

الثاني.

***

الكهرباء

الكهرباء إحدى قوى المادة العظيمة، وهي عبارة عن حركة مخصوصة في

ذراتها، وكان أول الاهتداء إليها في حجر الكهرمان (ويسمى أيضًا الكهرباء)

فبدلكه تتولد هذه القوة فيه؛ فيجتذب إليه بعض الأجسام، ولذلك سُميت باسمه،

وأول من شاهد ذلك فيلسوف يوناني يسمى ثيلس (Thales) سنة 600 ق. م.

وهي تتولد بطرائق عديدة أهمها أربع:

(1)

الاحتكاك: فإذا دُلِك الزجاج بالحرير تَوَلَّدَ فيه كهرباء من النوع

المسمى (بالكهربائية الزجاجية) ، وإذا دُلِك الراتينج (وهو يتولد من الزيوت

الطيارة بالتأكسد ويشبه الصمغ) بقماش الصوف المسمى (فلانلا) تولدت فيه قوة

كهربائية من نوع آخر تُسَمَّى بالكهربائية الراتينجية.

(2)

التفاعل الكيماوي: فإذا وُضِعَ عمود من الزنك (الخارصين) ،

وعمود آخر من النحاس في حامض الكبريتيك المخفف، ووُصِّل بينهما بسلك

حصل التفاعل الكيماوي بين الحامض وبين الزنك، وتولدت قوة كهربائية تسري

من النحاس إلى السلك، ومنه إلى الزنك، ومنه إلى الحامض، حتى تعود إلى

النحاس ثانية، فكأنها تجري في دائرة كاملة، ويُسَمَّى مجموع ذلك بالخلية

الكهربائية.

واجتماع عدة خلايا كهذه بحيث يتصل بعضها ببعض، ويتكون منها دائرة

تجري فيها الكهرباء تسمى بالبطارية الكهربائية.

وكلمة بطارية مشتقة من كلمة (Battre) الفرنساوية ومعناها الضرب أو

القرع، وعليه فيمكننا تسمية البطارية بالعربية (القارعة) ، ويشترط في كل

الخلايا أن يوجد فيها عمود لا ينفعل بالحامض، وعمود آخر ينفعل به. فمن

الأشياء التي لا تنفعل بالحامض النحاس - كما قلنا - والفحم والبلاتين (الذهب

الأبيض) والجسم المتفاعل المعتاد هو الزنك.

وجميع الأجسام تشتمل على نوعين من الكهرباء ممتزجين معًا وهما:

الزجاجية والراتينجية، ويسميان أيضًا الموجبة والسالبة، فإذا اختلف النوعان اتحدا،

وإذا اتحدا اختلفا وتنافرا، ففي كل خلية يتولد كهرباء سالب في أعلى الزنك

وموجب في أسفله، وفي النحاس يتولد موجب في أعلاه وسالب في أسفله فيتحد

موجب النحاس مع سالب الزنك في السلك خارج الخلية، ويتحد موجب الزنك مع

سالب النحاس داخل الحامض. ولكن للتسهيل اصطلح العلماء على أن يقولوا إن

التيار الكهربائي يسري من العمود غير المنفعل إلى العمود المنفعل، ويسمى الأول

عندهم بالقطب الموجب، والثاني بالقطب السالب.

(3)

التأثير: ومن ذلك أنه إذا وُضِعَ قطب موجب بجوار جسم متعادل

(أي فيه النوعان ممتزجان كجميع الأجسام) انفصل السالب، واتحد مع القطب

الموجب، وتولدت شرارة كهربائية من اتحاد النوعين، وبقي في الجسم الذي كان

متعادلاً نوع واحد فقط وهو الموجب.

ومثل هذا الاتحاد المولد للشرارة اتحاد كهربائية السحاب المختلفة النوع

بعضها مع بعض، أو مع كهربائية الأرض السالبة فيتولد من اتحادهما نار عظيمة

(الصاعقة) ، وصوت مزعج (الرعد) ؛ بسبب تماوج الهواء، وضوء شديد

(البرق)

وتتولد الكهرباء على سطح الأرض بما يحصل عليه من الاحتكاك، والتبخر

والتكاثف، والاحتراق، ونمو النبات.

المغناطيس الأرضي:

دوران هذه التيارات الكهربائية حول الأرض يكسبها قوة المغناطيس [4] فيجذب

قطباها قطبي قطع المغناطيس الأخرى المغايرين لهما (كناموس الكهرباء السابق)

فالقطب الشمالي يجذب الجنوبي، والجنوبي يجذب الشمالي؛ وذلك هو سبب اتجاه

(إبرة الملاحين المغناطيسية) المسماة باللغة العربية (بيت الإبرة) وباللغة الفرنسية

(بوصلة)(Boussle) .

وكما أن الكهربائية تتولد بالتفاعل الكيماوي كذلك تتولد في الأجسام الحية من

نبات وحيوان، فالعضلة العاملة المتحركة في جسم الإنسان تكون سلبية بالنسبة

للعضلة الساكنة.

ويوجد من السمك ما فيه كهربائية عظيمة يحس بها الإنسان بمجرد لمسه له

كالسمك المسمى (بالرّعاد) .

(4)

تسخين قطب مصنوع من معدنين مختلفين كالبزموت والأنتيمون يُوَلِّد

فيه كهرباء. فهذه هي الطرائق التي يهمنا معرفتها.

***

النور

النور عَرَضٌ معروف من أعراض المادة يتولد من حركة أجزائها الأثيرية

حركة مخصوصة، وهذه الحركة الأثيرية تنبعث من جميع جهات الجسم المضيء

في خطوط مستقيمة، ولا يلزم لانتشار النور في الجو سوى هذه المادة الأثيرية

بخلاف بعض الأعراض الأخرى كالصوت مثلاً؛ فإنه يلزم له مادة محسوسة

كالهواء لنقله؛ ولذلك يصل النور إلينا من الشمس والقمر والنجوم، مع العلم بأن

هذه الأجرام مفصول بعضها عن بعض بمسافات شاسعة خالية من الهواء، أو أي

جسم آخر سوى الأثير.

وسرعة النور في سيره تساوي نحو 300000 كيلو مترًا في الثانية (186

ألف ميل) .

مصادر النور قسمان:

(1)

صناعي:

(أ) الاحتراق: كاحتراق الزيت والشمع وغيرهما.

(ب) الكهرباء.

(2)

طبيعي: كالشمس، ومن هذا المصدر يتولد النور أيضًا بالاحتراق

وغيره، فالأجرام السماوية المضيئة بذاتها هي أجرام مشتعلة بالنيران، وأما

المضيئة بغيرها كالقمر؛ فتنعكس عليها الأشعة من نور الشمس، كما تنعكس في

المرآة؛ ولذلك قال تعالى {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} (الإسراء:

12) ، وقد يتولد النور بتحرك ذرات بعض الأجسام؛ فيتماوج بها الأثير فيضيء.

والنور الأبيض مركب من سبعة ألوان وهي: (1) البنفسجي (2) والنيلي

(3)

والأزرق (4) والأخضر (5) والأصفر (6) والبرتقالي (7) والأحمر.

أما السواد فهو عدم النور مطلقًا، وكل لون من هذه الألوان السبعة يتولد من

حركة مخصوصة في الأثير أسرعها التي تُوَلِّد البنفسجي، وأبطؤها التي تُوَلِّد

الأحمر؛ فإذا توالى سقوط هذه الحركات المختلفة على شبكية العين أدرك الإنسان

نورًا أبيض، ومن ذلك يُفْهَم أنه إذا أُتِي بقرص مستدير، وقُسِّم إلى سبعة أقسام،

ولُوِّن كل قسم منها بلون من هذه الألوان السبعة، وأُدِير هذا القرص بسرعة شديدة

رأينا لونه أبيض، ويسمى هذا القرص في علم الطبيعة (قرص نيوتن) .

سنة الله في رؤية الأجسام:

رؤية جميع الأجسام تحصل بسقوط أشعة النور عليها، ثم انعكاسها عنها إلى

العين؛ فيبصرها الإنسان، وإن كان هو في مكان مظلم، إذ شرط الرؤية أن يكون

المرئي في مكان مضيء لا الرائي، فهو يراها، وإن كانت في مكان مظلم فلا

يراها، ولو كان الإبصار ناشئًا عن نور يسقط من العين نفسها لرأى الإنسان

الأشياء التي في الأماكن المضيئة والمظلمة على حد سواء. هذا إذا لم يكن الجسم

مما يُوَلِّد النور بنفسه كالفسفور، وكبريتيد الكلسيوم؛ فإنه يجمع أشعة الشمس في

أثناء النهار، ويحفظها إلى الليل، وكذلك عنصر الراديوم؛ فإنه يُوَلِّد نورًا في

الظلام، وفي بعض حيوانات البر والبحر نور ينبعث منها في الظلام، ومنها ذباب

معروف يسمى " الحباحب ".

وإذا انعكست جميع التماوجات التي في النور الأبيض من الجسم إلى العين

رأيت لونه أبيض، ومن ذلك تُفْهَم حكمة لبس الملابس البيضاء في الصيف؛ فإنها

تعكس جميع أشعة النور والحرارة إلى الخارج، وأما الأجسام السوداء فهي تمتص

جميع الأشعة ولا تعكس منها شيئًا.

وأما الأجسام الأخرى كالزرقاء مثلاً، فهي تمتص جميع أمواج النور ما عدا

التي تُحْدِث اللون الأزرق، وهكذا يقال في باقي الألوان الأخرى.

وإذا سقط النور على أي سطح فإن زاوية السقوط (وهي الحاصلة من الشعاع

الساقط مع عمود وهمي على السطح العاكس) تساوي زاوية الانعكاس (وهي

الحاصلة من الشعاع المنعكس مع العمود الوهمي المذكور) .

وإذا كان الجسم الذي سقط عليه النور في الماء مثلاً، انبعث منه الشعاع

فخرج من الماء، وانكسر، ومال بعيدًا عن الخط الوهمي المفروض.

وإذا كان الجسم المضيء في الهواء انبعثت منه الأشعة، ونفذت إلى الماء؛

فينكسر الشعاع أيضًا، ويميل إلى الخط الوهمي المفروض.

فهذه سنن إلهية مطردة في انعكاس النور وانكساره، وبمقتضى سنة الانكسار

ترى الأجسام الموضوعة في الماء في مكان أعلى من مكانها الحقيقي، ومثل ذلك

أيضًا رؤية القضبان كالعصي مثلاً معوجة إذا وضعت في الماء.

وكذلك تُرى أشياء على الأرض كأنها معلقة في السماء، فيُشاهد في بعض

الجهات أناس وخيل وحمير وغير ذلك ماشية في السماء بين الغيوم، وأصلها أشياء

موجودة على الأرض؛ ولانكسار أشعة النور في طبقات الهواء المختلفة الكثافة

تشاهد هذه المناظر، وهي كلها من خطأ الحس.

ورؤية الأجسام في المرآة تحصل بانعكاس أشعة النور المنبعثة من الجسم عن

المرآة فتصل منها إلى العين.

ومن السنن الإلهية في هذه المسألة أن تكون المسافة بين الجسم الحقيقي

والمرآة تساوي تمامًا المسافة بين المرآة والجسم الموهوم خلفها.

انكسار النور في المنشور والعدسات:

بسبب انكسار الأشعة في الأجسام المختلفة الكثافة تنكسر الأشعة في المنشور

(الزجاج المثلث السطوح) وتميل إلى قاعدته؛ فإذا وُضِعَ منشوران قاعدة كل منهما

على الأخرى انكسرت الأشعة أيضًا نحو القاعدة، واجتمعت في نقطة معينة، ومثل

المنشورات في جمع الأشعة العدسات؛ فإنها تجمع الأشعة أيضًا نحو مركزها؛

ولذلك تُسْتَعْمَل هذه العدسات في جمع أشعة الشمس للإحراق، وتُسْتَعْمَل أيضًا في

جمع أشعة النور في التصوير كما في الآلات الفوتوغرافية [5] .

علمنا - مما سبق - أن النور مركب من سبعة ألوان؛ فإذا انكسر النور

الأبيض في المنشور تحلل إلى ألوانه الأصلية، ويكون اللون البنفسجي أقربها إلى

القاعدة، ويليه النيلي فالأزرق، فالأخضر، فالأصفر، فالبرتقالي، فالأحمر،

وأشد الألوان انكسارًا البنفسجي، وأقلها في ذلك الأحمر.

فالمنشورات وإن كانت تجمع أشعة النور كلها إلا أنها مع ذلك تفرقها إلى

ألوانها الأصلية، وبمقتضى هذه السنة تنكسر أشعة نور الشمس في نقط الماء

الساقط من السحاب؛ فينشأ من ذلك ما يسمى (قوس قزح) ، وهو مركب من

ألوان النور السبعة.

أما إذا مر النور خلال جسم ما، وكان هذا الجسم مما يمتص بعض الأشعة

فإن لون هذا الجسم الْمُدْرَك لنا هو ما يحصل من الأشعة الباقية. مثال ذلك الزجاج

الأزرق؛ إذا نفذ فيه النور اُمتصت (مُحيت) جميع الألوان ما عدا اللون الأزرق،

وهكذا يقال في الألوان الأخرى.

وأشهر العدسات اثنتان: (1) المحدبة من الجانبين (2) والمقعرة من

الجانبين.

أما العدسة الأولى فيمكن اعتبارها كأنها منشوران اجتمعا وكانت قاعدتهما نحو

المركز، وأما العدسة الثانية فيمكن اعتبارها كأنها منشوران اجتمعا ورأسهما نحو

المركز.

ومن ذلك يُفْهَم أن العدسات المحدبة تُجَمِّع الأشعة نحو المركز (أي نحو

قاعدتي المنشورين) .

وأما العدسات المقعرة فإنها تُفَرِّق الأشعة بعيدًا عن المركز (أي تميل فيها

الأشعة نحو القاعدتين) .

وإذا مر نور أبيض من مصباح عادي خلال منشور رأينا هذه الألوان السبعة

- كما تقدم - وإذا كان هذا النور المار في المنشور صادرًا من احتراق عنصر واحد

رأينا لونًا واحدًا فقط كنور الصوديوم مثلاً، فإنه أصفر؛ وإذا نفذ في المنشور لم

يتغير.

وإذا مرت هذه الألوان السبعة خلال الصوديوم مثلاً في حالته الغازية اُمتص

منها اللون الأصفر، وبقيت الألوان الأخرى، ومن ذلك يُفْهَم أن العناصر في حالتها

الغازية تمتص من الألوان السبعة اللون الذي تولده هي، وعلى هذه القاعدة وُضِعَ

المنظار القرجي (Spectroseope) .

فإذا نظرنا بهذا المنظار إلى نور الشمس رأينا الألوان السبعة ناقصة، ونرى

ما ينقصها من الأجزاء كأنها خطوط سوداء، وهي ناشئة من وجود عدة عناصر في

الحالة الغازية محيطة بجرم الشمس؛ وبسبب نفوذ الأشعة خلال هذه العناصر

الغازية فُقِدَ بعضها؛ والسبب في كون هذه العناصر غازية هو شدة حرارة نار

الشمس.

وبهذا المنظار أمكن العلماء معرفة تركيب الأجرام السماوية وعناصرها، ولهم

طريقة أخرى لمعرفة هذه العناصر وهي تحليل ما يسقط منها إلى الأرض

(كالشهب والنيازك) ، ولهذا المنظار فائدة أخرى عظيمة في المباحث الطبية

الشرعية وغيرها.

ومن الأشعة الشمسية نوعان آخران سوى أشعة النور وهما: (1) أشعة

الحرارة و (2) أشعة الفعل الكيماوي وهما غير مدركين بالعين.

أما أشعة الحرارة فيوجد أشدها بعد اللون الأحمر، وأما الأشعة الكيماوية

فيوجد أشدها بعد اللون البنفسجي.

وهذه الأشعة الكيماوية هي التي تحلل أملاح الفضة في ألواح الآلة

الفوتوغرافية، وتُحْدِث عليها الصور.

وأما الآلة الفونغرافية فهي عبارة عن غرفة مظلمة تدخل الأشعة فيها من فتحة

صغيرة في جدارها الأمامي، وفي هذه الفتحة عدسة محدبة من الجانبين لجمع

الأشعة حتى تكون الصور المرسومة داخلها على الجدار الخلفي جلية واضحة، فإذا

وُضِعَ لوح من الزجاج مغطى بمواد فيها ملح من أملاح الفضة أمام هذا الجدار

الخلفي رُسِمَتْ الصور عليه، وأحدثت الأشعة تغيرًا كيماويًّا في المادة الموضوعة

على هذا اللوح؛ وبذلك أمكنهم أخذ صور المرئيات، ورسمها بهذه الطريقة.

وهذه الآلة الفونغرافية تشبه العين الباصرة في تركيبها.

العين الباصرة:

العين كرة مظلمة في داخلها، ويصل إليها النور من فتحة صغيرة تسمى

إنسان العين، وهذه الكرة (المقلة) موضوعة في تجويف من الوجه يسمى

(الحجاج) ويغطيها في هذا التجويف الجفنان، وحكمة الأهداب أن تمنع التراب

وغيره بقدر الإمكان، وتقلل من ضرر أشعة الشمس الشديدة.

وتُغْسَل العين بماء يسمى الدمع تفرزه غدة موضوعة في الجهة العليا الخارجية

من الحجاج داخل الجفن الأعلى، ويتصرف الدمع بعد غسل العين بقناتين

موضوعتين في الجفنين بقرب الأنف متصلتين بكيس صغير في أعلى قصبة الأنف

يسمى الكيس الدمعي، ومنه يجري الدمع بقناة تصب في أسفل الأنف

أما طبقات العين فهي من الأمام إلى الخلف كما يأتي:

(1)

الملتحمة: وهي التي تبطن الجفون، وتغطي المقلة من الأمام، وهي

شفافة في جزئها المتوسط لدخول النور.

(2)

القرنية: وهي الجزء الشفاف المستدير الذي يرى كالسواد أو غيره.

(3)

الصلبة: وهي في مستوى واحد مع القرنية؛ فكأنهما غشاء واحد كروي الشكل تقريبًا.

(4)

القزحية: وهي التي تحيط بإنسان العين من جميع الجهات.

(5)

المشيمية: وهي أيضًا في مستوى واحد مع القزحية، ولونهما، ومادتهما واحدة، فيها أوعية كثيرة، ومادة ملونة، وهذه الطبقة هي أعظم ما يجعل العين مظلمة من الداخل.

(6)

الشبكية: وهي تبطن نحو ثلثي العين من الداخل، وهي الطبقة العصبية الحساسة المتصلة بالعصب البصري الواصل إلى المخ، وعليها تُرْسَم صور المرئيات التي يدركها الإنسان.

ولجمع أشعة النور، ورسم الصور عليها، يوجد عدة أجسام كثيفة شفافة في

العين لكسر أشعة النور وهي بعد القرنية: (1) المائية وأكثرها بين القرنية

والقزحية (2) ويليها البلورية، وهي بعد القزحية، وشكلها كعدسة مستديرة

ومحدبة من الجانبين (3) ويليها الزجاجية، وهي مادة هلامية (كالفالوذج) شفافة

تملأ باطن العين بعد البلورية، ثم إن القزحية قد تتسع وتضيق بألياف عضلية فيها

بحسب حاجة العين إلى النور.

ومما تقدم يُفْهَم أن أشعة النور تجتمع على الشبكية في العين الطبيعية، ولكن

مِن الناس مَن أعينهم صغيرة أو كبيرة عن الحجم المعتاد فتحتاج الأعين

الصغيرة إلى عدسات (نظارات) محدبة، وتحتاج الكبيرة إلى عدسات مقعرة،

ولولا ذلك لما اجتمعت الأشعة في العين الصغيرة إلا خلف الشبكية (هذا على

فرض أنه لا يحجبها شيء) ، وفي العين الكبيرة أمام الشبكية. وما دامت جميع

أوساط العين التي يمر فيها النور شفافة؛ فإن كان في إبصار العين السليمة ضعف

فالغالب أن يكون سببه صغر حجم العين، أو كبرها فَتُصَلَّح بالنظارات.

الرمد الصديدي والحبيبي:

ومن أعظم أسباب عتامة بعض هذه الأوساط (كالقرنية) هو إصابة العين

بالرمد الصديدي، أو الرمد الحبيبي المنتشر في مصر

وللاحتراس من هذين الرمدين يجب تنظيف العين نظافة تامة، وعدم مسها

بأي شيء فيه أقل وسخ.

أما ميكروب الرمد الصديدي فهو ميكروب (السيلان) أيضًا، ويصل إلى

العين بالأصابع، أو المناديل، أو الملابس، أو غير ذلك، وهو مرض فتاك بالعين؛

لأنه كثيرًا ما يسبب قرحًا في القرنية تَئُول إلى ظلمتها حتى لا ينفذ النور منها

فتصبح عمياء، وتسمى هذه الظلمة بالنقط أو البياضات.

وأما الرمد الحبيبي فميكروبه ينتقل من شخص لآخر، كما ينتقل ميكروب

الرمد الصديدي؛ فلذا يجب الاحتراس منه بالنظافة، والبعد عن الأَرْمَد.

وأبسط دواء بعد الماء لتنظيف عين كل شخص محلول حامض البوريك

المشبع، ويجب طرد كل حشرة تقترب من العين كالذباب وغيره؛ فإنه من أعظم

الأسباب لنقل أنواع الرمد، ويجب اتقاء التراب إذا ثارت الريح بوضع نظارات

لوقاية العين منه، ومما يقي الطفل شر الرمد الصديدي أن يُغْسَل عيناه عقب الولادة

مباشرة بمحلول السليماني (1 في 5000) ويوضع فيها نقط من محلول نترات

الفضة (2 في 100) .

***

النبذة الثانية

في التشريح ووظائف الأعضاء وما يلزمها من القواعد الصحية

التشريح نوعان: نوع تُدْرَك فيه أعضاء الجسم بالعين المجردة، ويسمى

بالتشريح العادي، ونوع تستعمل فيه الميكروسكوب (المنظار الدقيق) لإدراك

جميع دقائق الجسم، ويسمى هذا النوع بالهستولوجيا (التشريح الدقيق) .

فلنبدأ الآن بالكلام على النوع الأول:

يتركب الجسم الإنساني أولاً من العظام فهي كالأساس الذي تبنى عليه جميع

الأجزاء الرخوة والأحشاء؛ ولذلك يسمى مجموع هذه العظام بالهيكل

الإنساني.

***

العظام

العظام نوعان:

(النوع الأول) : العظام الصلبة كعظام الأطراف، وصلابتها كصلابة

العاج، وهي جوفاء تمر في وسطها قناة ممتلئة بمادة كالدهن تسمى (نقو العظام) أو

(نقيه)، وأما (النوع الثاني) : فيسمى بالإسفنجي، كفقرات الظهر والضلوع،

وهو أيضًا مغطى بطبقة رقيقة من العظم الصلب، وبداخله تجاويف عديدة صغيرة

غير منتظمة تشبه الإسفنج، وهذه التجاويف ممتلئة أيضًا بنقي يميل إلى الحمرة،

وهو أعظم مكان تتولد فيه كريات الدم الحمراء خصوصًا التي تخرج من نقي

الضلوع.

أما عظام الهيكل الإنساني فهي كثيرة وإليك عددها:

(1)

الجمجمة (مجموعة عظام الرأس والوجه) : وهي مركبة من 22

عظمًا منها 14 للوجه، و8 للرأس.

(2)

الفقرات: وهي المسماة بالصلب، وعند العامة سلسلة الظهر، وهي

مركبة من 33 قطعة كل منها تسمى فقرة وفقارة: منها سبع 7 فقرات للعنق، و12

للظهر، و5 للقطن، و5 للعجز، و4 للعصعص المسمى بعجب الذنب.

(3)

الضلوع: وهي عادة في الذكر [6] والأنثى 12 في كل جانب، وهي

متصلة من الخلف بالفقرات، ومن الأمام بالقص (عظم الصدر) .

(4)

القص: مركب من ثلاث قطع، وكيفية اتصال الضلوع به كما يأتي:

سبع ضلوع متصل كل منها به بغضروف على حدة، وتسمى بالضلوع الصادقة،

أما الثلاث التي بعدها فمتصلة معًا بغضاريف تتصل بغضروف الضلع السابعة،

وأما الاثنتان الباقيتان فهما غير متصلتين من الأمام بشيء مطلقًا، ويسميان

بالضلعين العائمتين، وهذه الضلوع الخمس الأخيرة تسمى بالضلوع الكاذبة.

(5)

عظام الأطراف العليا: ويتركب كل طرف من عظم العضد ثم الساعد

(وهو مركب من عظمين: الكعبرة وهي العظم الخارجي، والزند وهو العظم

الداخلي) ، ثم رسغ اليد وهو مركب من ثمانية عظام صغيرة، ثم عظام المشط

وهي خمسة لكل أصبع عظم يحملها، ثم عظام الأصابع الخمس وهي ثلاث لكل

أصبع، ما عدا الإبهام فله عظمان.

(6)

عظام الأطراف السفلى: وكل منها مركب من عظم الفخذ، ثم الساق

وهو مركب أيضًا من عظمين: الشظية من الخارج والقصبة من الداخل، ثم عظام

رسغ القدم وهي مركبة من سبعة عظام صغيرة أيضًا، ثم عظام المشط وهي خمس

لكل أصبع واحدة تحملها، ثم عظام الأصابع، وهي ثلاث لكل منها ما عدا إبهام

القدم فله عظمان فقط

ومن العظام أيضًا غير ما تقدم:

(1)

التراقي: وهما عظمان كل منهما يسمى ترقوة موضوعان في أعلى

الصدر من الأمام.

(2)

اللوحان: وهما عظمان عريضان موضوعان بأعلى الصدر من

الخلف.

(3)

الداغصتان: وهما الموضوعتان أمام الركبتين، ويسميها بعض

الأطباء المحدثين بالرضفتين؛ ولكن ما اخترناه هنا هو الأصح لغة.

(4)

عظما الحوض: وهما اثنان يكونان مع العجز والعصعص تجويفًا

كالطسث يوجد فيه المستقيم والمثانة في الذكر، والرحم والمبيضان وغيرها في

الأنثى، ويوجد غير ذلك عظام أخرى صغيرة جدًّا كما بين بعض عظام الرأس وفي

الأذن وعظام صغيرة توجد بقرب بعض المفاصل تسمى (السمسية) ، والعظم

اللامي للعنق، والأسنان.

أما الأسنان فهي في الطفل عشرون في كل فك عشر، ويبتدئ ظهورها من

الشهر السادس إلى الرابع والعشرين، ولذلك كانت مدة الرضاع الكاملة حولين

كاملين، وفي الكبير اثنتان وثلاثون سنًّا يبتدئ ظهورها من السنة السادسة، ويتم في

الخامسة والعشرين على الأغلب بظهور أربعة أضراس في آخرها تسمى أضراس

العقل؛ لأن بظهورها يتم بلوغ الإنسان رشده، وهي النواجذ أو أضراس

الحلم.

والفرق بين منسوج العظام وغيرها من الأجزاء الأخرى للجسم من الوجهة

الكيماوية؛ إنما هو في وجود أملاح عديدة في المادة التي بين خلاياها مثل فوسفات

الكلسيوم، وكربونات الكلسيوم، وفوسفات المغنسيوم، وهذه الأملاح جميعًا يوجد

منها كمية كبيرة في العظام، وهي السبب في يبسها؛ فإذا أذيبت من العظم ببعض

الحوامض صار العظم رخوًا طريًّا.

المفاصل:

وجميع هذه العظام متصل بعضها ببعض بالمفاصل، والمفاصل ثلاثة أنواع:

(1)

مفاصل متحركة حركة تامة كالكتف و (2) مفاصل غير متحركة كما

بين عظام الجمجمة و (3) مفاصل بين بين أي أن حركاتها متوسطة فلا هي

معدومة بالمرة، ولا هي متحركة حركة كبيرة، وذلك كالمفاصل التي بين الفقرات.

والفرق بين المفاصل المتحركة حركة كاملة (وهي الأولى) وبين غيرها أنها

عبارة عن تجويف محاط بمنسوج ليفي، وبعض أربطة أخرى، وهي مبطنة بغشاء

أملس يفرز مادة مصفرة قليلاً تشبه زلال البيض، والغرض منها تسهيل الحركات،

فهي كالزيت للآلات الحديدية (فسبحان الخالق الحكيم) .

وجميع العظام مغطاة [7] بغشاء ملتصق بها التصاقًا شديدًا، وفيه أوعية الدم،

ومنه تتغذى بحيث إذا أُتلف هذا الغشاء، أو أًزيل بمرض، أو غير مرض يموت

العظم الذي تحته، وهذا الغشاء يسمى بالسمحاق، وموت العظم يسمى النخر، أو

التآكل، وهو المسمى عند العامة بالتسويس، والفرق بينهما أن الأول (النخر)

تموت فيه قطع كبيرة من العظم بجملتها، والثاني - التآكل - تموت فيه أجزاء

صغيرة تنفصل عن باقي الجسم شيئًا فشيئًا.

العضلات:

جميع حركات الجسم تكون بالعضلات، وهي المسماة باللحم

وبعض هذه العضلات أبيض اللون، كما في بعض الحيوانات مثل السمك والأرانب،

وبعضها لونه أحمر، كما في الإنسان وغيره من الحيوانات؛ والسبب في حمرتها

اشتمالها على جزء في منسوجها من حمرة الدم المسماة بالهيموجلوبين ومن غيرها؛

ولذلك كان اللحم الأحمر أكثر تغذية من اللحم الأبيض؛ ولكنه أعسر هضمًا

والعضلات تأتي عملها في تحريك الجسم بالانقباض، وهي ثلاثة أنواع:

(1)

العضلات الاختيارية: وهي الموجودة حول عظام الهيكل كله،

وأكثرها يوصل بين عظمين فأكثر، وينتهي غالبًا بما يسمى بالأوتار، وهي منسوج

ليفي أبيض اللون متين جدًّا يشبه الحبال ويندغم في العظام المتحركة، فإذا قصرت

العضلة، أو انقبضت انثنت العظام بعضها على بعض، وحركة هذه العضلات هي

باختيار الحيوان، وهي التي قسمناها إلى بيضاء وحمراء، والبيضاء أرقى شكلاً

وأسرع عملاً

(2)

العضلات غير الاختيارية: وهي التي توجد في جدر الأمعاء،

وأوعية الدم وغيرها كالحالب [8] ، ويختلف شكلها عن القسم الأول - إذا نظرت

بالمجهر " الميكروسكوب " - اختلافًا كبيرًا، وحركتها ليست بإرادة الحيوان؛ ولكن

للأعصاب تأثيرًا فيها ما دامت مرتبطة بها؛ فإذا انفصلت عنها استقلت بعملها

كالأمعاء بعد قطع جميع أعصابها فإن الطعام كافٍ لتنبيهها.

وكل انقباض للعضلات اختيارية كانت أو غير اختيارية لا يحصل إلا بمنبه.

وأنواع المنبهات خمسة (1) المواد الكيماوية (2) الحرارة (3) الأفعال الآلية

(الميكانيكية) كالضرب على العضلات أو القَرْص (4) الكهرباء (5) التيار

العصبي، فالأربعة الأولى ممكن حصولها خارج الجسم بعد ذبح الحيوان. أما

المنبه العصبي فإن كان منشؤه من المخ كان فعلاً اختياريًّا، وإلا كان غير اختياري.

ومصدر التنبيه العصبي سواء أكان من المخ أم من النخاع هو من الخارج

أيضًا كما يرى الآن جمهور الفسيولوجيين - ويرى بعض الناس أن المخ يمكنه أن

يبدأ التنبيه من ذاته، وإذا وصل التنبيه الخارجي إلى المراكز العصبية ومنها إلى

الأعضاء أو العضلات فحركها سُمِّي ذلك (بالفعل المنعكس)

(3)

عضلة القلب: وهذه العضلة تختلف أيضًا في شكلها الميكروسكوبي

عن النوعين السابقين، وهي غير خاضعة للتنبيه العصبي إلا من حيث الكثرة، أو

القلة، أو الضعف، أو القوة، أو نحو ذلك. وأما انقباضها فيحصل بقوة فيها

خاصة بها ليست ناشئة عن منبه خارجي.

وعليه فالفرق بين هذه الأنواع الثلاثة يلخص في الكلمات الآتية:

تنقبض العضلات الاختيارية بعلم المخ وتأثيره، وغير الاختيارية بدون

علمه؛ ولكنها خاضعة للأعصاب ما دامت في الجسم، ولا بد من تنبيهها بشيء

ولو غير عصبي، وإلا لما انقبضت، وأما القلب فينقبض بنفسه بدون سبب

خارجي، وسواء اتصلت به أعصاب أم لم تتصل، وإنما يمكن للأعصاب أن

تزيد في ضرباته، أو تنقص منها، أو نحو ذلك، أما منشأ الحركة فلا علاقة لها

به ولا يعلمه إلا الله تعالى.

الأعصاب:

مراكز الإحساس والحركة في الجسم الإنساني محصورة في المخ والنخاع

وحوله. فالمخ عبارة عن جسم كبير موضوع في الجمجمة، وهو مركب من فصين

عظيمين متصل أحدهما بالآخر من أسفلهما، وفي كل فص من الفصين تجويف

ممتلئ بجزء من سائل، ويسمى هذا التجويف بالبطين، والمخ مغطى بثلاثة أغشية

تسمى جميعها السحايا وكل منها يسمى الأم.

وجوهر المخ نوعان:

(النوع الأول: السنجابي) وهو المغطى سطحه، وهو مركب من خلايا

عصبية لها وظائف مختلفة. ويُقَسَّم سطح المخ إلى عدة أقسام، فمنه جزء للإبصار،

وهو في الخلف، وجزء للحركات الاختيارية، وهو في جانبيه، وجزء للكلام وهو

في الجهة اليسرى الجانبية، وجزء للسمع وغير ذلك. وكل جانب من المخ

متصل بالجانب المخالف له من الجسم، فحركات العضلات التي في الأطراف

اليسرى متصلة بالجانب الأيمن من المخ وبالعكس، ما عدا قوة الكلام فإنها في

الجانب الأيسر في غالب الأشخاص. أما العُسْر وهم الذين يعملون بشمائلهم فيوجد

مركز الكلام عندهم في الجهة اليمنى من المخ.

(النوع الثاني: الأبيض) ومكانه تحت القشرة السنجابية، وهو عبارة عن

ألياف عصبية تُوصِل أجزاء المخ بعضها مع بعض، وتُوصِله بالنخاع.

المخيخ: موضعه مؤخر الجمجمة في أسفل المخ، وهو أيضًا مركب من

فصين صغيرين ليس بهما تجويف بخلاف فصي المخ، وبينهما جسم كالدودة

يربطهما وهو أهم منهما ووظيفته حفظ التوازن في الجسم.

النخاع: يبتدئ من الجمجمة إلى الحافة السفلى للفقرة الأولى القطنية، وذلك

في الكهول، وأما في الأجنة فإنه يملأ القناة الفقرية كلها إلى الشهر الثالث. وهو

جسم أسطواني مغطى أيضًا بثلاثة أغشية كأغشية المخ من كل وجه، ويتركب من

جوهرين أيضًا أبيض وسنجابي؛ ولكن الجوهر الأبيض منه في الخارج والجوهر

السنجابي في الداخل، والأبيض عبارة عن ألياف عصبية كما في المخ، والسنجابي

عبارة عن خلايا عصبية كما في المخ أيضًا.

والجزء السنجابي مركب من هلالين تحديبهما إنسيّ وقرنا كل منهما إلى الأمام

والخلف، ويجمع بين الهلالين عند جزئهما المحدب، وفي مجمعها قناة صغيرة

دقيقة تمتد في طول النخاع كله وتتصل في أعلاها بتجاويف المخ (البطينات) .

يتصل بالمخ اثنا عشر زوجًا من الأعصاب لها وظائف عديدة: فمنها ما

يحرك بعض العضلات في الوجه وغيره، ومنها ما يحصل به الإحساس، ومنها ما

هو خاص بنوع من الإحساس كالعصب البصري الذي يحصل به إدراك المرئيات،

وكعصب السمع وغيرهما.

ويتصل بالنخاع 31 زوجًا من الأعصاب: 8 منها تخرج من بين فقرات

العنق، و12 من بين فقرات الظهر، و5 من بين فقرات القَطَن، و5 من بين

فقرات العَجُز، و1 من العُصْعُص. وهذه الأعصاب يتركب كل فرد منها من

قسمين: أمامي وخلفي، فالأمامي لحركة العضلات، والخلفي للإحساس. أما

الخلايا التي يصدر منها الجزء الأمامي فتوجد في القرون الأمامية للمادة السنجابية

في النخاع، وأما خلايا الجزء الخلفي فتوجد خارج النخاع، ويتكون منها عقد

صغيرة موضع أكثرها في الثقوب التي بين الفقرات؛ ولكنها خارج سحايا النخاع.

وبعد هذه العقد مباشرة يتحد الجزء الأمامي المحرك مع الجزء الخلفي الحساس

فيتكون منها عصب واحد فيه الوظيفتان، ثم ينقسم هذا العصب إلى قسمين أيضًا:

قسم أمامي للحس والحركة، وقسم خلفي لهما أيضا، فالألياف الخاصة بالحركة في

القسمين (التي أصلها من القرون الأمامية للنخاع) تنتهي بالعضلات وهي التي

تحدث فيها الحركة (أي تسبب انقباضها) ، والألياف الخاصة بالحس (وهي الآتية

من العقد التي خارج النخاع) وتنتهي بالجلد وغيره، وهي التي يحصل بها

الإحساس في الحيوان عند مس أي شيء.

وجميع هذه الأعصاب تُرى في الجسم الإنساني عند تشريحه كحبال بيضاء

منها الدقيق ومنها الغليظ، وأغلظها عصب عظيم يوجد داخل الورك ويُوَزَّع على

الساق كلها، وهذا العصب إذا أصابه مرض ما يحدث عنه ألم شديد في الفخذ يسمى

بعِرْق النَّسا.

ويوجد مجموعة أخرى من الأعصاب تسمى الأعصاب السمباتوية، وهي

مركبة من عقد وألياف أيضًا، وموزعة على جميع الأحشاء، وعلى جميع أوعية

الدم، ومتصلة أيضًا بالمجموعة الأولى المركبة من المخ والنخاع، وللأعصاب

السمباتوية وظيفة هامة جدًّا في عمل جميع الأحشاء، وحركة عضلات جدر

الشرايين في انقباضها وانبساطها إلا أنها ليست مستقلة في وظيفتها عن المجموعة

الأولى. ومعنى (سمباتيا) المشاركة في الشعور أو الإحساس، وهي لفظ يوناني،

وسُميت بذلك لأن بها ترتبط الأحشاء بعضها مع بعض، ومع الأوعية الدموية فكأن

كلا منها يشعر بالآخر، وعليه فيمكننا تسميتها بلغتنا العربية (مجموعة الارتباط

العصبي) .

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

كلمة يونانية معناها " الفوَّاح " لوجود رائحة له خاصة، وهو يتولد من أكسجين الهواء بسبب الكهرباء، وهو مما يطهر الهواء من العفونات.

(2)

تعيش في الهواء مُددًا مختلفة بحسب ما تجده فيه من الغذاء؛ فإنها تعلق بذرات مخاطية، أو خلايا بشرية، أو نحو ذلك، وبحسب قوة مقاومتها للعوامل الطبيعية كنور الشمس وغير ذلك وبعد المطر الشديد تقل كثيرًا من الهواء لأنه يغسله منها.

(3)

المراد ما يطبع منه على حدة.

(4)

المغناطيس كلمة يونانية مأخوذة من اسم مغنيسيا Magnesia في ليديا بآسية الصغرى، حيث وجدت بكثرة أول قطع من الحديد لها هذه القوة؛ ولكنها وجدت فيما بعد كثيرًا في النرويج، والسويد، وبعض بلاد أمريكا وغيرها.

(5)

فتو كلمة يونانية معناها النور، وغراف يونانية أيضًا معناها الرسم فمعناهما " رسم النور " أو التصوير الشمسي.

(6)

أما خلق حواء من أحد أضلاع آدم فالظاهر أنها خرافة يهودية، وإن كان لها مغزى عظيم.

(7)

ما عدا أطرافها الغضروفية.

(8)

مجرى البول الواصل من الكلية إلى المثانة.

ص: 33

الكاتب: ملن شيتهام

جعل مصر سلطنة تحت حماية إنكلترا

كان أول عواقب دخول الدولة العثمانية في الحرب الأوربية أن أعلنت إنكلترا

إزالة سيادتها الرسمية عن مصر، وجعلها تحت الحماية البريطانية، وتسميتها

سلطنة، وتسمية الأمير حسين كامل باشا أرشد أسرة محمد علي باشا سلطانًا عليها.

في 19 ديسمبر الماضي ذهب المستر ملن شيتهام متولي أعمال الوكالة

البريطانية، والمستر ستورس سكرتيرها الشرقي إلى القصر الذي يقيم فيه الأمير

حسين كامل باشا، وقدما إليه بلاغ الحكومة البريطانية المؤذن بجعل القطر

المصري تحت حمايتها، وبجعله سلطانًا مِنْ قِبَلِهَا لمصر، وهذه ترجمته بالعربية

كما نشر في الجرائد:

البلاغ البريطاني

يا صاحب السمو! كلفني جناب ناظر الخارجية لدى جلالة ملك بريطانية

العظمى أن أخبر سموكم بالظروف التي سببت نشوب الحرب بين جلالته وبين

سلطان تركية، وبما نتج عن هذه الحرب من التغيير في مركز مصر.

كان في الوزارة العثمانية حزبان أحدهما معتدل لم يبرح عن باله ما كانت

بريطانيا العظمى تبذله من العطف والمساعدة لكل مجهود نحو الإصلاح في تركيا،

ومقتنع بأن الحرب التي دخل فيها جلالته لا تمس مصالح تركيا في شيء، ومرتاح

لما صرح به جلالته وحلفاؤه من أن هذه الحرب لن تكون وسيلة للإضرار بتلك

المصالح لا في مصر ولا في سواها، وأما الحزب الآخر فشرذمة جنديين أفاقين لا

ضمير لهم أرادوا إثارة حرب عدوانية بالاتفاق مع أعداء جلالته معللين أنفسهم أنهم

بذلك يتلافون ما جروه على بلادهم من المصائب المالية والاقتصادية. أما جلالته

وحلفاؤه فمع انتهاك حرمة حقوقهم قد ظلوا إلى آخر لحظة وهم يأملون أن تتغلب

النصائح الرشيدة على هذا الحزب؛ لذلك امتنعوا عن مقابلة العدوان بمثله حتى

أُرْغِمُوا على ذلك بسبب اجتياز عصابات مسلحة للحدود المصرية، ومهاجمة

الأسطول التركي - بقيادة ضباط ألمانيين - ثغورًا روسية غير محصنة.

ولدى حكومة جلالة الملك أدلة وافرة على أن سمو عباس حلمي باشا خديوي

مصر السابق قد انضم انضمامًا قطعيًّا إلى أعداء جلالته منذ أول نشوب الحرب مع

ألمانيا.

وبذلك تكون الحقوق التي كانت لسلطان تركية، وللخديوي السابق على بلاد

مصر قد سقطت عنهما وآلت إلى جلالته.

ولما كان قد سبق لحكومة جلالته أنها أعلنت بلسان قائد جيوش جلالته في بلاد

مصر أنها أخذت على عاتقها وحدها مسئولية الدفاع عن القطر المصري في الحرب

الحاضرة، فقد أصبح من الضروري الآن وضع شكل للحكومة التي ستحكم البلاد

بعد تحريرها، كما ذكر من حقوق السيادة، وجميع الحقوق الأخرى التي كانت

تدعيها الحكومة العثمانية.

فحكومة جلالة الملك تعتبر وديعة تحت يدها لسكان القطر المصري جميع

الحقوق التي آلت إليها بالصفة المذكورة، وكذلك جميع الحقوق التي استعملتها في

البلاد مدة سني الإصلاح الثلاثين الماضية، ولذا رأت حكومة جلالته أن أفضل

وسيلة لقيام بريطانية العظمى بالمسئولية التي عليها نحو مصر، أن تعلن الحماية

البريطانية إعلانًا صريحًا، وأن تكون حكومة البلاد تحت هذه الحماية بيد أمير من

أمراء العائلة الخديوية طبقًا لنظام وراثي يُقَرر فيما بعد.

بناء عليه قد كلفتني حكومة جلالة الملك أن أبلغ سموكم أنه بالنظر لسن

سموكم، وخبرتكم قد رُئِي في سموكم أكثر الأمراء من سلالة محمد علي أهلية لتقلد

منصب الخديوية مع لقب (سلطان مصر) ، وإنني مكلف بأن أؤكد لسموكم صراحة

عند عرضي على سموكم قبول عبء هذا المنصب أن بريطانية العظمى أخذت على

عاتقها وحدها كل المسئولية في دفع أي تعد على الأراضي التي تحت حكم سموكم

مهما كان مصدره. وقد فوضت إليّ حكومة جلالته أن أصرح بأنه بعد إعلان

الحماية البريطانية؛ يكون لجميع الرعايا المصريين أينما كانوا الحق في أن يكونوا

مشمولين بحماية حكومة جلالة الملك.

وبزوال السيادة العثمانية تزول أيضًا القيود التي كانت موضوعة بمقتضى

الفرمانات العثمانية لعدد جيش سموكم، وللحق الذي لسموكم في الإنعام بالرُّتب

والنياشين.

أما فيما يختص بالعلاقات الخارجية فترى حكومة جلالته أن المسؤولية الحديثة

التي أخذتها بريطانية العظمى على نفسها تستدعي أن تكون المخابرات منذ الآن بين

حكومة سموكم، وبين وكلاء الدول الأجنبية بواسطة وكيل جلالته في مصر.

وقد سبق لحكومة جلالته أنها صرحت مرارًا بأن المعاهدات الدولية المعروفة

بالامتيازات الأجنبية المقيدة بها حكومة سموكم لم تعد ملائمة لتقدم البلاد؛ ولكن من

رأي حكومة جلالته أن يُؤَجَّل النظر في تعديل هذه المعاهدات إلى ما بعد انتهاء

الحرب.

وفيما يختص بإدارة البلاد الداخلية عليّ أن أُذَكِّر سموكم أن حكومة جلالته

طبقًا لتقاليد السياسة البريطانية قد دأبت على الجد بالاتحاد مع حكومة البلاد

وبواسطتها في ضمان الحرية الشخصية، وترقية التعليم، ونشره، وإنماء مصادر

ثروة البلاد الطبيعية، والتدرج في إشراك المحكومين في الحكم بمقدار ما تسمح به

حالة الأمة من الرقي السياسي. وفي عزم حكومة جلالته المُحافَظَةُ على هذه التقاليد

بل إنها موقنة بأن تحديد مركز بريطانيا العظمى في هذه البلاد تحديدًا صريحًا يؤدي

إلى سرعة التقدم في سبيل الحكم الذاتي.

وستُحْتَرم عقائد المصريين الدينية احترامًا تامًّا، كما تُحْتَرم الآن عقائد نفس

رعايا جلالته على اختلاف مذاهبهم. ولا أرى لزومًا لأن أؤكد لسموكم أن تحرير

حكومة جلالته لمصر من رِبْقَة أولئك الذين اغتصبوا السلطة السياسية في الآستانة

لم يكن ناتجًا عن أي عداء للخلافة، فإن تاريخ مصر السابق يدل في الواقع على أن

إخلاص المسلمين المصريين للخلافة لا علاقة له البتة بالروابط السياسة التي بين

مصر والآستانة، وأن تأييد الهيئات النظامية الإسلامية في مصر والسير بها في

سبيل التقدم هو بالطبع من الأمور التي تهتم بها حكومة جلالة الملك مزيد الاهتمام،

وستلقى من جانب سموكم عناية خاصة، ولسموكم أن تعتمدوا في إجراء ما يلزم

لذلك من الإصلاحات على كل انعطاف وتأييد من جانب الحكومة البريطانية. وعليَّ

أن أزيد - على ما تقدم - أن حكومة جلالة الملك تُعَوِّل بكل اطمئنان على إخلاص

المصريين، ورويتهم، واعتدالهم في تسهيل المهمة الموكولة إلى قائد جيوش جلالته

المكلف بحفظ الأمن في داخل البلاد، وبمنع كل عون للعدو وإني أنتهز هذه

الفرصة فأقدم لسموكم أجل تعظيماتي.

...

...

... تحريرًا في 19 ديسمبر سنة 1914

...

...

...

...

...

...

ملن شيتهام

_________

ص: 53

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الاحتفال بنصب الأمير حسين كامل

سلطانًا لمصر

جرى هذا الاحتفال في يوم الأحد ثالث شهر صفر الماضي الموافق 20

ديسمبر، وكانت معداته مهيئة قبل ذلك بأيام، أو أسابيع، ورقاع الدعوة إليه قد

وزعت في جميع أرجاء القطر، وهذا مقدمة نص البلاغ الرسمي الصادر من قصر

عابدين في ذلك:

(برح صاحب العظمة مولانا السلطان في منتصف الساعة العاشرة في يوم

الأحد 20 ديسمبر سنة 1914 سراي دولة الأمير كمال الدين باشا في موكب فخيم

محفوظًا بحراسه، ومن ورائه أصحاب السعادة الوزراء تقلهم مركبتان من مركبات

المعية السنية، فأطلقت مدافع القلعة واحدًا وعشرين مدفعًا إيذانًا، وأدت طلبة

المدرسة الحربية والجند التحية، وكان الشعب يهتف لعظمته طول الطريق هتافًا

متواصلاً، ولما أقبل عظمته على ميدان عابدين ضج له جماهير المدعوين

الموجودين بالصيوان المنصوب أمام السراية، وهم مندوبو المديريات، وكبار

موظفي الحكومة، وحضرات العلماء، والرؤساء الروحانيين وكبار ضباط الجيش

الإنكليزي والمصري، ولما وصلت المركبة السلطانية إلى باب السراي استقبله كل

من أصحاب الدولة أمراء العائلة السلطانية، وصاحبي الفضيلة شيخ الإسلام،

ومفتي الديار المصرية، وحضرات رئيس ووكيل الجمعية التشريعية،

والمستشارين، ووكلاء الوزارات، ورئيس محكمة الاستئناف الأهلية والمختلطة،

والنائبين العموميين لدى المحاكم الأهلية والمختلطة ومحافظين وكبار رجال المعية)

وتلا ذلك بيان كيفية المقابلات، وما تخللها من الخطب والمخاطبات.

_________

ص: 56

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌ترجمة برقيات التهاني بين لندرة ومصر

البرقية الأولى من ملك الإنكليز

تهنئة

إلى صاحب العظمة السلطانية سلطان مصر بالقاهرة

في الوقت الذي ترتقي فيه عظمتكم السلطانية منصبها السامي أرغب أن أقدم

إلى عظمتكم السلطانية عواطف الوداد المنبعثة عن أكمل إخلاص، مع تأكيدي لكم

بأنني لا أنفك عن تأييدكم في سبيل المحافظة على كيان مصر، وضمان رفاهيتها

في المستقبل وسعادتها، ولقد دعيتم عظمتكم السلطانية إلى تحمل مسؤولية منصبكم

السامي إبان أزمة خطيرة في الحياة الأهلية بمصر، وإني على يقين أنه بمعاونة

وزرائكم، وبحماية بريطانية العظمى يتسنى لكم التغلب على كل المؤثرات التي

يراد بها العبث باستقلال مصر، وبرفاهة أهاليها، وحريتهم، وسعادتهم.

...

...

...

...

... جورج

...

...

...

...

ملك وإمبراطور

***

البرقية الثانية من سلطان مصر

شكر

أقدم لجلالتكم فائق الامتنان على ما تفضلتم به من شعائر الوداد التي

شرفتموني بها، وعلى ما أكدتموه لي من نفيس التعضيد للمحافظة على كيان مصر

واستقلالها، ولما كنت على علم تام بالمسؤولية التي أخذتها على عاتقي، وقد عقدت

النية على تخصيص كل ما في وسعي لتقدم أمتي، وسعادتها سالكًا مع الحماية في

ذلك سبيل الوئام؛ فإنني أعتبر من حسن حظي أن يتاح إليَّ الاعتماد في القيام بهذا

العبء على جميل عواطف جلالتكم، وعلى معاونة حكومتها.

...

...

...

...

... حسين كامل

***

البرقية الثالثة من لورد كتشنر

تهنئة

إلى صاحب العظمة السلطانية سلطان مصر بالقاهرة

أتشرف بتقديم أَجَلّ مراسم التهاني والاحترام إلى مقام عظمتكم السلطانية بمناسبة

ارتقائكم عرش سلطنة مصر، وأسأله تعالى أن يوفق مصر في ظل عظمتكم

السلطانية، وبمعاونة ونصائح أصدقائها إلى جعل مستقبلها مقرونًا بالطمأنينة

والسعادة.

...

...

...

...

... كتشنر

***

البرقية الرابعة من سلطان مصر

شكر

إلى لورد كتشنر- لندن

كان لتهانئكم الودية - بمناسبة ارتقائي عرش السلطنة - أجمل وقع في فؤادي

فأشكركم شكرًا جزيلاً على ما أبديتموه من العواطف والأماني نحو بلادي، وإن ما

أعلمه من عظيم اهتمامكم بمصر يجعلني على يقين بأنه يتسنى لها الاعتماد عليكم

كما تعتمد على خير أصدقائها.

... حسين كامل

***

البرقية الخامسة

أمنية

من اللورد كتشنر إلى رئيس الوزارة حسين رشدي باشا

أبادر بإبلاغ عطوفتكم أمانيّ المنبعثة من أكمل عواطف الإخلاص، والوداد نحو

مستقبل النظام الذي انفتح عصره في هذا الصباح، وإن ثقتي بحكمة عطوفتكم،

وبوطنيتكم تجعل لي الأمل الوطيد باستمرار مصر في طريق السعادة والتقدم.

***

البرقية السادسة من رئيس الوزارة

شكر واغتباط

أشكر جنابكم على جميل تلغرافكم، وأنا على يقين مثلكم بأن مصر في عهد

نظامها الجديد ستتابع خطاها في طريق النظام، والارتقاء.

وإني لمرتاح إلى ما عندي من الأمل بإمكاني الاعتماد على مودتكم الثمينة

أثناء قيامي بأعباء وظيفتي.

_________

ص: 57

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تهاني الشعراء

نظم أشهر شعراء مصر القصائد في التهاني السلطانية، وفي مقدمتهم

إسماعيل باشا صبري وأحمد شوقي بك ومحمد حافظ بك إبراهيم، وامتازت

قصيدة شوقي بأنها لم تكن مدحًا وثناء مجردًا كغيرها؛ بل تمثيلاً لشعوره ووجدانه

الخاص من حيث هو ربيب بيت الخديوي إسماعيل باشا، وغرس نعمته، ووجدانه

العام من حيث هو مسلم مصري، ويشاركه في هذا جمهور المصريين؛ فإذا

أثبتناها بنصها أثرًا تاريخيًّا لا نخرج عن سنة المنار في عدم نشر المدائح الشخصية

وها هي ذه:

الملك فيكم آل إسماعيلا

لا زال بَيْتُكُمُو يُظِل النيلا

لطف القضاء فلم يمل لوليكم

ركن ولم يشف لحسود غليلا

هذى أصولكمو وتلك فروعكم

جاء الصميم من الصميم بديلا

المُلك بين قصوركم في داره

من ذا يريد عن الديار رحيلا [1]

(عابدين) شرف يا ابن رافع ركنه

عزًّا على النجم الرفيع وطولا

ما دام مغناكم [2] فليس بسائل

أحوى فروعًا أم أقل أصولا

أنتم بنو المجد المؤثل والندى

لكمو السيادة صبية وكهولا

النيل إن أحصى لكم حسناتكم

ملأ الزمان محاسنا والجيلا

أحيا أبوكم شاطئيه وابتنى

مجدًا لمصر على الزمان أثيلا

نشر الحضارة فوق مصر وسوريا

وامتد ظلاًّ للحجاز ظليلا

وأعاد للعرب الكرام بيانهم

وحمى إلى البيت الحرام سبيلا

***

حفظ الإله على (الكنانة) عرشها

وأدام منكم للهلال كفيلا

بنيان (عمرو) أَمَّنَتْهُ عناية

من أن يزعزع ركنه ويميلا

وتدارك الباري لواء محمد

فرعى له غررًا وصان حجولا

في برهة يذر الأسرة نحسها

مثل النجوم طوالعا وأفولا

الله أدركه بكم وبأمة

كالمسلمين الأولين عقولا

حلفاؤنا الأحرارُ إلا أنهم

أرقى الشعوب عواطفا وميولا

أعلى من الرومان ذكرًا في الورى

وأعز سلطانًا وأمنع غيلا

لما خلا وجه البلاد لسيفهم

ساروا سماحا في البلاد عدولا

وأتوا بكابرها وشيخ ملوكها

ملكًا عليها صالحًا مأمولا

تاجان زانهما المشيب بثالث

وَجَدَ الهدى والحقُّ فيه مقيلا

***

سبحان من لا عز إلا عزه

يبقى ولم يك ملكه ليزولا

لا تستطيع النفس في ملكوته

إلا رضا بقضائه وقبولا

الخير فيما اختاره لعباده

لا يظلم الله العباد فتيلا

يا ليت شعري هل يحطم سيفه

للبغي سيفًا في الورى مسلولا

سلب البرية سلمها وهناءها

ورمى النفوس بألف عزرائيلا

زال الشباب عن الدسار وخَلَّفُوا

للباكيات الثكل والترميلا

طاحوا فطاح العلم تحت لوائهم

وغدا التفوق والنبوغ قتيلا

الله يشهد ما كفرت صنيعة

في ذا المقام ولا جحدت جميلا

وهو العليم بأن قلبي موجع

وجعًا كداء الثاكلات دخيلا

مما أصاب الخلق في أبنائهم

ودهى الهلال ممالكا وقبيلا

أأخون إسماعيل في أبنائه

ولقد ولدت بباب إسماعيلا

ولبست نعمته ونعمة بيته

فلبست جزلاً وارتديت جميلا

ووجدت آبائي على صدق الهوى

وكفى بآباء الرجال دليلا

رؤيا (عليّ) يا حسين تأولت

ما أصدق الأحلام والتأويلا

وإذا بناة المجد راموا خطة

جعلوا الزمان مُحَقَّقًا ومُنِيلا

القوم حين دها القضاء عقولهم

كسروا بأيديهم لمصر غلولا

هدموا بِوادي النيل ركن سيادة

لهمو كركن العنكبوت ضئيلا

ارَقْه [3] سرير أبيك والبس تاجه

واكْرُمْ على (القصر المشيد) نزيلا

مرت أويقات عليه موحشًا

كالرمس لا خلوًا ولا مأهولا

ليست معالي الأمر شيئًا غائبًا

عنكم وليس مكانكم مجهولا

كم سستموه في الشبيبة مضلعًا

وحملتموه في المشيب ثقيلا

وحميتمو زرع البلاد وضرعها

وهززتمو للمكرمات بخيلا

يا أكرم الأعمام حسبك أن ترى

للعَبرتين بوجنتيك مسيلا

من عثرة ابن أخيك تبكي رحمة

ومن الخشوع لمن حباك جزيلا

ولو استطعت إقالة لعثاره

من صدمة الأقدار كنت مقيلا

***

يا أهل مصر كِلُوا الأمور لربكم

فالله خير موئلاً ووكيلا

جرت الأمور مع القضاء لغاية

وأقرّها من يملك التحويلا

أَخَذَتْ عنانًا منه غير عنانها

سبحانه متصرفا ومديلا

هل كان ذاك العهد إلا موقفًا

للسلطتين وللبلاد وبيلا

يعتز كل ذليل أقوام به

وعزيزكم يُلْقِي القياد ذليلا

دفعت بنافيه الحوادث وانقضت

إلا نتائج بعدها وذيولا

وانفضّ ملعبها وشَاهِدُه على

أن الرواية لم تتم فصولا

فأدمتمو الشحناء فيما بينكم

ولبثتمو في المضحكات طويلا

كل يؤيد حزبه وفريقه

ويرى وجود الآخرين فضولا

حتى انطوت تلك السنون كملعب

وفرغتمو من أهلها تمثيلا

وإذا أراد الله أمرًا لم تجد

لقضائه ردًّا ولا تبديلا

_________

(1)

قيل أنه أشار إلى نفي ما أُشيع من خبر نفيه من مصر.

(2)

أي ما دام قصر عابدين مقامُا لكم يا آل إسماعيل.

(3)

كُتبت الكلمة في بعض الجرائد (ارقأ) وهو غلط لأنه أمر رقى الناقص لا رقأ المهموز، ولعل سببه كتابتها في الأصل بالألف فجعلوها همزة، والمقام هنا مقام وصل الفعل بهاء السكت كما فعلنا.

ص: 59

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أثارة تاريخية

من مقدمات الحرب المدنية الأوربية

وهي البرقيات التي تبودلت بين

العاهلين العظيمين قيصر الألمان وقيصر الروس [1]

(1)

من الإمبراطور ولهلم إلى الإمبراطور نقولا

28 يوليو 1914 (الساعة 10 والدقيقة 45 مساء)

لقد علمت بمزيد القلق خبر الوقوع الذي وقعه زحف الجنود النمساوية على

سربية في إمبراطوريتكم. إن التحريض العظيم الذي توالى في سربية منذ سنوات

أفضى إلى جناية فظيعة اغْتِيلَ فيها الأرشدوق فرنس فردينند، فالروح الذي حمل

السربيين على اغتيال ملكهم وقرينته لا يزال سائداً تلك البلاد، ولا ريب في أنكم

توافقونني أننا - أي أنت وأنا - كسائر الملوك لنا مصلحة مشتركة في الإصرار

على معاقبة مرتكبي جناية القتل هذه العقاب الذي يستحقونه.

على أنني أعلم أيضًا أنه يصعب جدًّا عليكم، وعلى حكومتكم مقاومة

مظاهرات الرأي العام، فأنا - تذكارًا للصداقة القلبية التي بيني وبينكم منذ زمان

طويل - أبذل كل نفوذي في إقناع النمسا بالاتفاق مع سربية، وإني أعتمد على

تأييدكم في مساعيَّ لإزالة جميع الصعوبات التي يُحْتَمَل أن تنشأ.

...

...

...

صديقكم المخلص وابن عمكم

...

...

...

...

ولهلم

(2)

من الإمبراطور نقولا إلى الإمبراطور ولهلم

قصر بترهوف في 29 يوليو 1914 (الساعة واحدة بعد الظهر)

سرني خبر عودتكم إلى ألمانيا، وإني أطلب مساعدتكم في هذه الآونة الحرجة

، فقد أُعلنت حرب معيبة على أمة ضعيفة، وأنا أشاطر روسيا سخطها العظيم،

وإني أرى أنني سأعجز قريبًا عن دفع الضغط الواقع عليَّ، وأضطر إلى اتخاذ

تدابير تؤدي إلى الحرب.

فاجتنابًا لنكبة حرب أوربية أرجو منكم باسم صداقتنا القديمة أن تُفْرِغُوا كل

جهدكم في منع حليفتكم من الإفراط في الخطة التي سارت عليها.

...

...

...

...

...

نقولا

(3)

من الإمبراطور ولهلم إلى الإمبراطور نقولا

29 يوليو 1914 (الساعة 6 والدقيقة 30 مساء)

تلقيت برقيتكم وأنا أشاطركم الرغبة في حفظ السلام

ولكن لا أرى أن زحف النمسا على سربية حرب معيبة كما قلت في تلغرافي

الأول، فقد علمت النمسا - بالاختبار - أنه يستحيل تصديق مواعيد سربية ما

دامت محصورة في الكتابة على الورق.

وعندي أنه ينبغي النظر إلى ما تفعله النمسا كأنه سعي للحصول على الضمان

الكافي بأن سربية تقوم بمواعيدها، وقد تأيد اعتقادي بما صرحت به النمسا من أنها

لا تبغي الاستيلاء على شيء من أملاك سربية.

ولذلك أرى أن روسية تستطيع أن تقف موقف المتفرج، فلا تجر أوربا إلى

أعظم حرب رآها العالم.

وأعتقد أن الاتفاق بين حكومتكم وفِينَّة مستطاع ومرغوب فيه لاسيما وأن

حكومتي باذلة الجهد للتوصل إلى هذا الاتفاق كما أخبرتكم في تلغرافي السابق.

ولا يخفى أن اتخاذ روسية لتدابير حربية تعدها النمسة تهديدًا لها يعجل وقوع

النكبة التي نحاول كلانا اجتنابها، ويحول دون قيامي بمهمة الوسيط التي قبلتها بلا

تردد لَمَّا استجرت بصداقتي ومعونتي.

...

...

...

...

...

ولهلم

(4)

من الإمبراطور ولهلم إلى الإمبراطور نقولا

30 يوليو 1914 (الساعة 1 صباحا)

صدرت التعليمات إلى سفيري أن يوجه نظر حكومتكم إلى الأخطار والعواقب

الوخيمة التي تنشأ عن تعبئة الجيش، وهذا الذي قلته لكم في تلغرافي الأخير.

إن النمسة عبأت جيشها ضد سربية فقط، ولم تعبئ سوى جانب من جيشها؛

فإذا عبأت روسية جيشها ضد النمسا كما يتضح من برقيتكم، وبلاغ حكومتكم تعذر

عليَّ القيام بمهمة الوسيط بل استحال، وهي المهمة التي نطتموها بي بروح

المودة وقبلتها بناء على طلبكم المعجل.

فعبء البت في الأمر واقع على عاتقكم، وأنتم تتحملون عبء تبعة الحرب

أو السلم.

...

...

...

...

...

ولهلم

(5)

من الإمبراطور نقولا إلى الإمبراطور ولهلم

قصر بيترهوف في 30 يوليو 1914 (الساعة 1 والدقيقة 20 بعد الظهر)

أشكركم من صميم الفؤاد على جوابكم السريع، وإني مرسل تاتيشف اليوم

مساء مزودًا بالتعليمات. أما التدابير الحربية التي تُتخذ الآن فقد قر القرار عليها

منذ خمسة أيام لمقابلة استعداد النمسا.

وإني أتمنى من صميم الفؤاد أن لا تؤثر هذه التدابير في قيامكم بمهمة الوسيط

وهي المهمة التي أقدرها حق قدرها؛ فإننا نحتاج إلى توسطكم بالحزم مع النمسا

لحملها على الاتفاق معنا.

... نقولا

(6)

من الإمبراطور نقولا إلى الإمبراطور ولهلم

31 يوليو1914

أشكركم من صميم الفؤاد على ما تبدونه من النية التي تدل على وجود بارقة

أمل بأن الأمور تنتهي على ما يرام. أما توقيف استعدادنا الحربي فغير مستطاع

فنيًّا، وقد اضطرتنا تعبئة النمسا إلى هذا الاستعداد.

إننا أبعد الناس عن الرغبة في الحرب، وما دامت المفاوضات في موضوع

سربية دائرة مع النمسا فجنودي لا تُقْدِم على عمل ما من أعمال التحرش، وأؤكد

لكم ذلك بشرفي

إنى موقن تمام الإيقان بنعمة الله، وأثق بأن توسطكم في فِينَّا يُكلل بالنجاح

لخير بلدينا، وسِلْم أوربا.

...

...

...

...

...

نقولا

(7)

من الإمبراطور ولهلم إلى الإمبراطور نقولا

31 يوليو 1914 (الساعة 2 بعد الظهر)

لَمَّا استجرتم بصداقتي، وطلبتم معونتي قبلت أن أتوسط بين حكومتكم

وحكومة النمسا، وبينما كنت قائمًا بهذا العمل عبأتم جيوشكم ضد حليفتي النمسا

فأحبطتم الرجاء بنجاح توسطي، ومع ذلك فإنني ظللت متابعًا له.

وقد تلقيت - الساعة - علمًا من مصدر جدير بالثقة بأنكم شرعتم تتخذون

تدابير حربية عظيمة على حدودي الشرقية، ولما كنت مسئولاً عن سلامة

إمبراطوريتي فإني مضطر أن أتخذ تدابير مماثلة دفاعًا عنها.

ولقد بذلت أقصى ما يستطاع سعيًا لحفظ السِلْم؛ فإذا وقعت النكبة الهائلة التي

تهدد عالم المدنية بأسره؛ فإن تبعتها لا تقع عليَّ.

ولا يزال منع وقوع النكبة في يدكم، إذ لا أحد يهدد شرف روسية، وقوتها،

وكان في طاقة روسية أن تنتظر نتيجة توسطي. إن صداقتي لكم ولإمبراطوريتكم

التي أورثنيها جدي على فراش الموت ظلت مقدسة عندي، وقد كنت أمينًا لروسية

في محنها، ولا سيما في الحرب الأخيرة. فسِلْم أوربا محفوظ حتى الآن إذا قر

قرار روسية على الكف عن التدابير الحربية التي تهدد بها ألمانية والنمسا.

...

...

...

...

ولهلم

(8)

من الإمبراطور نقولا إلى الإمبراطور ولهلم

1 أغسطس 1914 (الساعة 2 بعد الظهر)

جائتني برقيتكم، وإني أعلم أنكم مضطرون إلى التعبئة؛ ولكني أطلب منكم

الضمان الذي أعطيتكم إياه، وهو أن هذه التدابير لا تنذر بوقوع الحرب، وأننا

نظل متابعين مفاوضاتنا لخير البلدين، ومصلحة السِلْم العام العزيز على قلوبنا.

إن صداقتنا القديمة العهد، والوطيدة الأركان يجب بمساعدة الله أن تفوز بمنع

إراقة الدم، فأنا أنتظر جوابكم بملء الثقة.

...

...

...

...

...

نقولا

(9)

من الإمبراطور ولهلم إلى الإمبراطور نقولا

برلين في 1 أغسطس 1914

أشكركم على برقيتكم، وقد دللت حكومتكم أمس على الطريق الوحيد لاجتناب

الحرب.

ومع أني طلبت أن يأتيني الجواب الظهر فلم يأتني حتى الساعة برقية من

سفيري تتضمن جواب حكومتكم، لذلك اضطررت إلى تعبئة جيشي.

فالطريق الوحيد لمنع وقوع نكبة لا تُوصَف هي ورود جواب صريح جلي من

حكومتكم. ولا يسعني أن أهتم بموضوع تلغرافكم قبل أن يأتيني هذا الجواب،

وإني مضطر أن أطلب بالاختصار أن تصدروا أوامركم إلى جنودكم بلا إبطاء بأن

لا تهجم أقل هجوم على حدودنا.

...

...

...

...

... ولهلم

_________

(1)

نُقلت من ملحقات الكتاب الأصفر الفرنسي الرسمي.

ص: 62

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فصل الإحصاء من باب التاريخ

(مساحة المملكة العثمانية وعدد سكانها)

أصدرت الحكومة العثمانية في العام الماضي إحصاء لأملاكها، وعدد سكانها نشرته جريدة " الأهرام " قائلة إنها أخذته عن خريطة أركان الحرب العثمانية وهو كما ترى في الجدول الآتي:

اسم الولاية

...

كيلو متر

...

... نفس

إستامبول

...

7.000

...

1.136.000

خداوندكار

... 73.800

...

1.626.900

آيدين

...

54.000

...

1.396.500

قونيه

...

102.800

...

1.088.000

أطنة

...

37.200

...

... 403.400

أنقرة

...

67.500

...

... 892.900

قسطموني

... 49.700

...

1.018.900

سيواس

...

62.800

...

1.086.500

طرابزون

...

30.700

...

1.047.700

أرضروم

... 51.000

...

... 597.000

معمورة العزيز

34.300

...

... 575.300

بتليس

...

26.800

...

... 398.600

ديار بكر

... 35.500

...

471.500

وان

...

40.200

...

... 430.000

حلب

...

78.600

...

... 995.800

بيروت

...

30.500

...

533.800

سوريا

...

61.700

...

955.700

بغداد

... 141.200

...

... 850.000

الموصل

... 75.700

...

... 700.300

البصرة

... 42.700

...

... 300.000

الحجاز

... 250.000

...

... 300.000

اليمن

... 200.000

...

... 750.000

جزائر البحر الأبيض 7.108

...

... 325.900

أزميد

...

11.200

...

... 222.800

بيغا

...

6.800

...

... 129.400

الزور

... 85.100

...

... 100.000

لبنان

... 6.500

...

... 399.500

القدس

... 21.300

...

... 333.000

سيسام

...

468

...

... 52.800

قبرص

... 9.600

...

221.800

المجموع

... 1701777

...

19.340.000

(قالت الأهرام) فعدد الأهالي العثمانيين - إذن - هو 18 مليونًا و839 ألف

و800 نفس يخرج منهم أهالي قبرص، وهم حسب الإحصاء 221800، وسيسام

وهم 52800، ولبنان وهم 39950، والحجاز وهم 300 ألف، واليمن وهم

750 ألفًا، وجزر البحر الأبيض وهم 325900؛ لأن هذه البلاد إما أنها لا تُكَلَّف

بالتجنيد، وإما أنها غير خاضعة لحكم الدولة كالجزر، وعدد أهاليها مليونان 741

ألفًا فيكون الباقي 16765700، فإذا أخرجنا منهم الكرد، واليزيدية، والطوائف

التي تدفع البدل، والتي تُعْفَى يكون الأهالي الذين يُجَنَّدُون نحو 14 مليونًا على

الأكثر، فإذا حسبنا أن الذين يُجَنَّدُون هم 6 بالمائة يكون عدد الجيش الممكن جمعه

من الأمة العثمانية 840 ألف مقاتل في وقت الحرب. اهـ.

إحصاء جزيرة العرب والولايات العربية

(المنار)

كنا رأينا هذا الإحصاء في الأهرام، ثم نقلناه عن جريدة أخرى نقلته عنها؛

ولكن رأينا الجمع غير صحيح، فأرسلنا الجدول إلى رئيس تحرير الأهرام فصححه

فلم يكن الجمع بعد تصحيحه صحيحًا أيضًا، بل بلغ عدد النفوس 19 مليونًا

و340 ألف نفس.

إن الدولة لم تحص سكان بلادها إحصاء دقيقًا إلى اليوم، وهي تعني بهذا

الإحصاء أهالي البلاد الحضرية الخاضعين لقوانينها كلها، أو بعضها إلا ما يستثنى

كقبرص. أي ما تيسر لها معرفة عدده منهم، ولذلك لم تَذْكُر بلاد نجد مع أنها تعدها

تحت سيادتها، وجعلت أهل اليمن ثلاثة أرباع المليون على أن بعض وزرائها الذين

تولوا اليمن كحسين حلمي باشا كانوا يقولون: إن أهلها ستة ملايين أو يزيدون،

ورأيت بعض أهل اليمن يعتقدون أن سكان بلادهم، وبلاد حضرموت أكثر من

سكان القطر المصري.

هذا وإن سكان الولايات، والمتصرفيات العربية، وهي 12 ولاية ومتصرفية

بلغوا بحسب هذا الإحصاء 6.692.000 فإذا كان في ديار بكر، والموصل،

وحلب زهاء مائتي ألف من غير العرب كالترك، والكرد، والأرمن يكون مجموع

العرب الخاضعين للدولة فعلاً نحوًا من ستة ملايين ونصف أو أقل، وهذا العدد أقل

من ثلث مجموع العرب في جزيرتهم وحدها دع ملحقاتها من العراق وما بين

النهرين وسوريا وفلسطين، ويمكن أن يعيش في هذه البلاد أكثر من مائة ألف

ألف بالسعة، فإن مساحتها أوسع من مساحة الهند الإنكليزية التي يعيش فيها أكثر

من ثلاث مائة ألف ألف. بل مساحة جزيرة العرب وحدها تقرب من مساحة الهند

إذ كل منهما تزيد على ثلاثة ملايين كيلو متر.

وقد قَدَّر صاحب (النخبة الأزهرية في تخطيط الكرة الأرضية) سكان جزيرة

العرب وحدها باثني عشر مليون نفس، وهو إنما يعتمد على كتب التقويم الأوربية

القديمة التي تعتمد على قاعدة البناء على الأقل، وحسبك نموذجًا من ذلك أنه يقول

إن سكان دمشق الشام ستون ألفًا، والمشهور أنهم أكثر من مائتي ألف، وإن سكان

طرابلس الشام 13 ألفًا وهم أكثر من تسعة وعشرين.

ويمكننا أن نقول إن عرب الولايات، والمتصرفيات العربية ما عدا اليمن،

والحجاز لا تقل عن خمسة ملايين ونصف بحسب إحصاء الدولة، وإذا قيل إن عدد

الأعاجم فيها أكثر مما قدرنا بنصف مليون قلنا إن البدو فيها لا يقلون عما نفرضه

من زيادة هؤلاء.

فإذا أضفنا إلى البدو المكتومين من الحضر زاد عدد العرب في تلك الولايات

على ستة ملايين، وقد نُشِر في عدد الأهرام الذي صدر في 3 نوفمبر إحصاء آخر

لأحد المحررين فيها (ا. س. ن) عَدَّ فيه أهل ولاية بيروت 700.500

وبغداد 950.000 والبصرة 250.000 والقدس 550.000 ولبنان 500.000

وهذه زيادة تبلغ زهاء نصف مليون. فإذا فرضنا بعد ذلك أن سكان الجزيرة 12

مليونًا فقط كما يقول صاحب النخبة الأزهرية على سبيل التقريب كان عدد العرب

وحدهم في هذه البلاد كلها كعدد سكان المملكة العثمانية من جميع الأجناس كما

رأيت في الجدول.

ويقدر كثير من العارفين عدد العرب في تلك البلاد بعشرين مليونًا؛ ولكنهم

يستثنون من ذلك أهل حضرموت ونجد وعمان.

إحصاء شعوب الهند الإنكليزية

نشرت الحكومة الإنكليزية خلاصة إحصاء شعوب الهند في عام 1914.

ويؤخذ من هذا الإحصاء أن عدد أهالي الهند الإنكليزية 315.156.396 وهم

5.

78 بالمائة من الهنود، و 5.22 من رعايا الإمارات الهندية.

ومساحة بلاد الهند تعادل مساحة أوربا كلها ما عدا روسيا؛ ولكن عدد أهالي

الهند يزيد على أهالي أوربة ما عدا روسية، وهو يعادل ثلاثة أضعاف أهالي

الولايات المتحدة.

ومنذ 39 سنة إلى اليوم زاد عدد أهالي الهند 50 مليونًا. أما الذين يدينون

بدين الهند الأصليين (؟) فعددهم 217.586.892 وعدد المسيحيين 2.778.204

والباقون من المسلمين.

(المنار)

نشرت هذا الإحصاء جريدة الأهرام في أثناء السنة الماضية، وتلك عبارتها

نقلناها بنصها. وإذا نحن طرحنا عدد الوثنيين، والنصارى من المجموع بقي

94.

692.300 وهو عدد المسلمين، وقد كنا سمعنا - من بعض كبراء الهند في أثناء

سياحتنا فيها عام 1330 (1912م) - أن عدد المسلمين فيها تسعون مليونًا ونيف؛

ولكنني لا أزال أسمع الناس يقولون ويكتبون أن عددهم سبعون مليونًا، حتى أن

مثل هذا القول يُنْقَل عن بعض رجال السياسة من الإنكليز أنفسهم، ولما جاء هذا

الإحصاء مطابقًا لما سمعناه من أهل المعرفة في الهند تَرَجَّحَ عندنا أن هذه الأقوال

إما مبنية على إحصاء قديم علق بأذهان أولئك القائلين، وإما أن الإنكليز منهم

يستثنون بعض الإمارات المستقلة عند ذكر رعاياهم من مسلمي الهند، وغيرُهم يقلدهم

في أقوالهم.

_________

ص: 66

الكاتب: عن جريدة الزمان العربية

‌خرافات وأوهام في قصور الملوك [*]

يعتقد القراء أن الخرافات والأوهام التي تتخوف منها الطبقة العامة في سوريا،

وغيرها من بلدان الممالك المتمدنة (؟) كوجود الجان، وظهور الأرواح

والأشباح لا أثر لها في عقول الطبقة المتمدنة من الشعب الأوربي، والحقيقة أن

هذه الأوهام التي لا يُسَلِّم بها من العلماء غير شيعة الروحانيين (مناجاة الأرواح) ،

وأتباعهم مالئة قصور الملوك، ولها في كل رأس من رءوس سكان القصور ثغرة

واسعة. وها نحن (أولاء) مُورِدُون شيئًا عن الاعتقادات الشائعة بالجان والأرواح

في قصور ملوك أوربة.

تعتقد عائلة (هوهنزولرن) المالكة في ألمانيا أن لها جِنِّيَّتَيْنِ إحداهما بيضاء،

والثانية سوداء وإليهما تشير الراية الألمانية، بمعنى أن البيضاء هي جنية الشر،

والسوداء جنية الخير.

ففي عام 1806 - على ما تفيد الكتب والأوراق القديمة - ظهرت الجنية

البيضاء في إحدى نوافذ القصر الملكي، وما كادت تختفي حتى ورد إلى

الإمبراطور نبأ يُفيد انكسار الجيش الألماني في (أورستاد) .

وقد ظهرت أيضا عام 1884 قبل وقوع تلك الحوادث المشئومة في ألمانية -

في حديقة القصر الملكي في برلين.

وظهرت أيضا ثلاث مرات في (إنتردنليدن) وفي كل مرة كانوا يحاولون

اغتيال غليوم الأول.

ولما مات الإمبراطور الشيخ شبعانا من السنين، وكان قد بلغ من المجد حظًّا

كبيرًا ظهرت الجنية البيضاء في أحد أروقة القصر الملكي، وما كادت تختفي حتى

جاءت الأنباء مفيدة ما قاساه فردريك الثالث من أنواع العذاب، وأصناف البلايا

والمحن.

وبعد ثلاثة أشهر وقفت في القصر الملكي مكشوفة اليدين، وأنبأت عن موت

فردريك الثالث ابن غليوم الأول في (شارلو تبنورغ) بعد توليه الحكم بثلاثة أشهر.

وأما الجنية السوداء فقد ظهرت للإمبراطور الحالي في (برانبرغ) في أيام

غليوم الأول، وقالت له (ستكون إمبراطورًا قبل أن تتم الثلاثين ربيعًا) وهكذا كان.

وفي قصر إنكلترا الملكي جنية بيضاء وظيفتها نقل أخبار الموت فقط (ناعية)

ففي عام 1901 عندما ماتت الملكة فكتوريا الشهيرة أخذت (الجنية) تصيح -

بشهادة بعض أشخاص موثوق بصدقهم - في داخل القصر الملكي.

ويوجد مثل هذه الأرواح والجنيات في القصور التاريخية القديمة، وكثيرًا ما

امتنع الملوك والأمراء والأشراف عن سكناها خوفًا من تلك الأرواح الخبيثة الهائلة

ففي قصر (باري يوماروي) توجد هذه الأرواح بكثرة، وطالما أعلنت

المصائب قبل وقوعها، وعدد كبير من سكان هذا القصر أنبأتهم هذه الأرواح عن

انقضاء آجالهم.

وبهذه المناسبة نذكر الحادثة التالية التي جرت في القصر المذكور من مضي

مائة سنة.

كان الدكتور " ولتر " يطبب زوجة مدير القصر، وفي أحد الأيام سأل المدير

المذكور عن تلك المرأة الجميلة الحسنة الملابس التي تلوح على مُحياها أمائر

الحزن، والتي رآها عند دخوله إلى القصر، فبُغِتَ الرجل وصاح لا لا. لا أريد

أن تموت امرأتي، فعجب الدكتور مما ظهر له واستوضحه عن العلاقة بين المرأة

وموت زوجة المدير المذكور، فأطلعه على حقيقة هذه السيدة البيضاء الجميلة،

ومع أنه لم يكن يرى في مرض زوجة مدير القصر خطرًا على حياتها، فقد ماتت

في ذلك اليوم.

هذا ما رأينا أن ننقله تفكهة للقراء. ولا يمكننا نفي هذه الحوادث وغيرها مما

نطالعه يوميًّا على استحضار الأرواح، وأفعال الأرواح، ولا تصديقه، لأن بين

المعتقدين جماعة من العلماء الأعلام كالمستر ستيد وغيره، وبين المكذبين العلماء

الطبيعيون على الإطلاق، وغيرهم من المشاهير، ولا تزال لجان العلماء والفلاسفة

في أميركا ولندن وباريس وغيرها تبحث بحثًا دقيقًا متواصلاً توصلاً للحقيقة.

_________

(*) منقول من جريدة الزمان العربية التي تصدر في بونس أيرس (الأرجنتين) .

ص: 71

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الإسلام في إنكلترة

فضيلة.... [1] صاحب (المنار) الأغر:

يسرني جدًّا أن أبلغ سيادتكم أن مساعي إخواننا المسلمين المبشرين في إنكلترا

سائرة في طريق النجاح بدرجة فوق المأمول، ولقد تعود معظمنا إغفال الدعوة إلى

الدين الحنيف، بل أهملنا حتى في مقاومة دعاة المسيحية في نفس بلادنا، حتى أني

أتخيل أن ذكر وجود مبشرين مسلمين في إنكلترا كافٍ وحده لدهشة غير قليل من

القراء، ولا شك في أنه يدهشهم (دهشًا) أكثر أن يعلموا أن هؤلاء المبشرين على

قلة عددهم قد نجحوا في نشر نور الإسلام بين عدد ليس بالضئيل من خيرة السيدات،

والرجال الإنجليز.

يوجد في (ووكنج woking) إحدى ضواحي مدنية لندن جامع صغير يمثل

المركز الرئيسي للجالية الإسلامية في بريطانيا العظمى، ويُصْدِر إمام ذلك الجامع

مجلة شهرية تُدْعَى (المجلة الإسلامية والهند المسلمة) ، ومع أني لست ممن

يرتاحون إلى هذه المجلة نظرًا لخلطها في كثير من الأحايين الدين بالسياسة، فإنه

لا يسعني إلا الاعتراف بالخدمة الإسلامية الجليلة التي قامت بها في زمن لا يتجاوز

ثلاث سنوات والفضل كل الفضل يرجع إلى حضرة رئيس تحريرها إمام الجامع

المشار إليه وإلى أعوانه.

ولقد تلقيت العدد الأخير منها (عدد يناير سنة 1915) فوجدت فيه الخبر

المفرح الآتي:

(في يوم الأحد الماضي 20 ديسمبر 1914 عقدت الجمعية الإسلامية

البريطانية اجتماعًا خطب فيه رئيسها سيف الرحمن اللورد هدلي، وقد اعتنقت

الإسلام سيدة أخرى وهي السيدة إلينور أني ساكسبي، ومنذ الأسبوع الماضي قد

أضفنا إلى قائمة الأخوة الإسلامية النامية باستمرار أسماء ثلاثة أشخاص من

الإنجليز) .

وفي (هذا) العدد نفسه كتابان عن اعتناق الدين الإسلامي أحدهما من سيدة

إنجليزية تُدْعَى آن بامغورد، والآخر من أحد أفاضل الإنجليز وهو المستر إرنست

أوتن، وكلاهما ممتلئ بعبارات تستحق التأمل والدرس وخصوصًا من سادتنا

المتفرنجين الذين ينسون تعاليم دينهم العالية بمجرد امتزاجهم بالإفرنج، ونظرًا

لضيق نطاق المنار الأغر، ولعدم سعة وقتي أكتفي بترجمة كتاب السيدة المشار

إليها.

وهذا تعريبه:

(سيدي محرر صحيفة المجلة الإسلامية والهند المسلمة.

لقد صرت في العهد الأخير بفضل مودة صديق مسلم أقرأ بانتظام أهم

المؤلفات الإسلامية، وأذكر بينها الكتب الشائقة التي وضعها السيد أمير علي

وخصوصًا نشرته عن حقوق النساء في الإسلام فإنها ذات قيمة كبيرة عندي.

ومما يستحق الذكر من المؤلفات الأخرى الممتعة التي شاقتني كثيرًا كتاب

(الهلال والصليب) تأليف خليل بك خالد، وكتاب (أسرار مصر والإسلام الخفية)

تأليف المستر ليدر، وكذلك فصل (البطل كنبي)[2] من قلم كارليل.

فكانت صفوة ونتيجة دراستي الدقيقة هذه أني امتلأت إعجابًا بمحمد - صلى

الله عليه وسلم - باعتباره نبيًّا ومصلحًا عظيمًا، وبديانته الديمقراطية السمحة التي

يهنيني ويريحني الآن اعتناقها.

هذا وإني أعترف بأن الديانة المسيحية المهذبة ديانة جليلة، إلا أني مع ذلك

لا يمكنني بأية حال أن أتجاهل أن الإسلام لا يعلم الناس أَسْمَى مبادئ المسيحية فقط

بل هو يمتاز أيضًا بدون أدنى شك بمزايا عظيمة لا توجد في المسيحية، وذلك في

مراميه الفلسفية، ومبادئه النفسية العالية، وفي القواعد الموضوعة لنظام اجتماعي

أدق وأصح.

لقد خطر في بالي أن أبعث بهذا الكتاب إلى جنابكم عسى أن لا يخلو علمكم

وعلم قراء مجلتكم الغراء بذلك من الفائدة.

وختامًا أتشرف بالإمضاء باسمي الإسلامي

...

...

...

...

أمينة

...

...

...

... (الآنسة أ. بامغورلا)

كم كانت تكون هذه النتيجة السارة مضاعفة يا سيدي الأستاذ لو تم مشروع

الجامع الكبير المَنْوِي بناؤه في عاصمة الإمبراطورية الإنجليزية التي تضم تحت

رايتها الملايين من المسلمين في عدة من أنحاء العالم، ولست أدري لأي سبب

ضعفت همم المسلمين في مصر والهند وغيرهما من الأقطار الإسلامية عن مواصلة

التبرع لهذا المشروع الجليل؛ حتى يمكن تحقيقه في المستقبل العاجل.

وكم تكون النتيجة مضاعفة إذا وجد بين سراتنا من يعضد " دار الدعوة

والإرشاد " التعضيد اللائق بكلية عظيمة المقصد كهذه؛ حتى يتيسر لكم إرسال

الدعاة إلى هذه البلاد، وبفضل علمهم ومعرفتهم بالإنجليزية يرجى لهم حينئذ نجاح

كبير هنا، وخصوصًا إذا تيسر لهم إنشاء مجلة بالإنجليزية تشمل صفوة ترجمة ما

يصدر في كل عدد من (المنار) الزاهر.

وكم تكون النتيجة مضاعفة إذا هزت الأريحية الدينية أحد أمراء أو أغنياء

المسلمين فوهب نحوًا من خمسمائة جنيه أو أكثر في سبيل نقل " تفسير المنار " إلى

الإنجليزية، فإنه مما يؤسف له جدًّا أن تنتشر بهذه اللغة المؤلفات العديدة ضد

الإسلام، ولا ينقل إليها كتاب جليل هو دائرة معارف إسلامية مثل تفسير المنار

وما هذا بعزيز على أمراء المسلمين الذين نراهم من أجل الحرب الحاضرة يجودون

بمئات آلاف من الجنيهات، أفلا يوجد بينهم من يجود بجزء من مائة من ذلك في

سبيل نشر نور السِلْم والإسلام؟

إن من المغالطة أن يقال: إن الإنجليز مثلاً يمنعون أمراء الهند من عمل كهذا،

فإن إنكلترا معروفة بمنحها الحرية الدينية الكاملة لجميع رعاياها، وهذا ما لا ينكره

نفس أعدائها، بل كان هذا من جملة أسباب ولاء مسلمي الهند لها، فلا يُعْقَل أن

يتدخل رجال السلطة من الإنجليز في الهند في شأن ديني محض كهذا، أو يمنعوا

أميرًا هنديًّا مسلمًا من التبرع إذا شاء لما فيه صالح دينه.

وكذلك لا يُعْقَل أن يفعلوا ذلك في مصر، أو في غيرها من الممالك الإسلامية

التي لإنكلترا علاقة بها، وعلمنا وخبرتنا الماضية تؤكد ذلك.

إني أوافق فضيلتكم على أن تعلم العربية واجب على كل مسلم، وأن من

الحكمة جعل تعليمها إجباريًّا في جميع المدارس، والكليات، والجامعات الإسلامية

في كل قطر، حتى يتيسر لكل مسلم أن يعرف دينه من منبعه الأصلي، بغض

النظر عن العلم بآداب اللغة العربية الشريفة التي هي لغة القرآن الكريم؛ ولكن إذا

تأملنا في المسألة من وجهة التبشير فإننا نجد أن من الضروري أن يُنْقَل إلى اللغات

الأجنبية خبرة المؤلفات الإسلامية، وخصوصًا تفاسير القرآن الجليلة المشهودة

بسعة العلم، والدقة فيها، فإن هذا عماد المبشر المسلم في نشر دينه بين الإفرنج،

ومن العبث أن يقول المبشر الذي يريد اجتذاب القوم إليه: تعلموا يا قوم العربية أولاً

وبعدها أُطْلِعُكُم على القرآن، وأذكر لكم أصول الدين الإسلامي.

أما نقل القرآن الشريف إلى الإنجليزية، أو غيرها من اللغات الأوربية، فإني

أعده جُرْمًا من حيث إن ذلك يؤدي إلى إخفاء ما في لغة القرآن الشائقة من إعجاز

البيان، فضلاً عن أن الترجمة تظهر بشكل مشوه غريب يجعل الأوربي - الذي لا

يعرف آداب العربية - يعجب من كوننا نعتقد أن القرآن هو كلام الله جل شأنه! !

وإن أي مسلم يطلع على ترجمة القرآن لا يسعه إلا الضحك مع الأسف على الوقت

الذي أُنْفِقَ هباء في هذه الترجمة التي لا تؤدي إلى شيء ما من مرامي القرآن

العالية الحكيمة.

إني أعتقد أن الرجل المحسن الذي يهب مبلغًا كافيًا لترجمة تفسير عصري

مثل تفسير (المنار) - ويعلم الله أني لا أقول هذا مجاملة لكم، فإني لست من يخلط

الخصوصيات بالعموميات - الذي هو خلاصة كل علم راجح من دماغي إمامين

كبيرين، إنما يؤدي خدمة إسلامية وإنسانية فوق كل تقدير، ويَعْلَم أن هذا أمر

حيوي ماس كلُّ ذي علم بالمجتمع الأوربي، وكل من عنده غيرة على نشر الدين

القويم الداعي إلى المساواة، والإصلاح، وأسمى المبادئ الإنسانية.

وإني أُعِدّ من الاعتراضات الغريبة أن يقول قائل: إن نتيجة التبشير الإسلامي

ليست بنتيجة مرضية؛ لأن كثيرين ممن يعتنقون الإسلام لا يعتنون بالصلاة، أو

الصوم مثلاً، وهما من فراض الإسلام، ويفوت المعترض أن ذلك الأجنبي الذي

اعتنق الإسلام قد يجهل العربية، وربما لا يجد من يعلمه تعاليم دينه تفصيليًّا، وقد

يكون إسلامه مبنيًّا على نتيجة مطالعته وبحثه كما هو الغالب، أو قد يكون الباعث

له على التهاون في أداء فريضة الصلاة أو الصوم هو نفس الباعث للمسلم الأصلي

على إغفال ذلك، على أن بياني هذا ليس معناه أني أبرر ذلك التهاون.

هذا وإني على كل حال أعتقد أن الإيمان بمبادئ الإسلام - وإن تهاون المؤمن

في بعض الفرائض - ليس بخسارة للإسلام [3] ، وبعبارة أخرى إننا إذا استطعنا

إغراء الأجانب بالإقناع والدليل (وحملهم) على اعتناق الدين الإسلامي، ووجدنا

منهم إيمانًا كليًّا بمبادئه، وسيرًا على فرائضه، ورأينا منهم بعد ذلك إهمالاً في أداء

بعض الفرائض كما نرى من كثيرين من المسلمين الأصليين أنفسهم، فلسنا مع ذلك

إلا رابحين فلا ينبغي أن يحملنا هذا على الاستياء المتناهي لدرجة أن يقول قائل: إن

نتيجة كهذه للتبشير الإسلامي غير مرضية أو لا فائدة منها....!

إن رجال الإصلاح كثيرون وفضيلتكم في مقدمتهم، وقد بسطت لكم فيما تقدم

بعض آراء لا أشك في أنه يشاركني فيها جميع أعضاء الجالية الإسلامية في إنكلترا

ولكن إنفاذكم وإنفاذ غيركم من المصلحين لها يحتاج إلى " المال "، فهل نعيش نحن

المسلمين إلى الأبد نعلل أنفسنا بالنجاح والخير حينما نكتشف بابًا جديدًا لذلك، ثم

نفشل لأننا لا نجد مفتاحه، وهو غيرة وكرم أمرائنا وسراتنا؟ ؟

لقد صحت الحكمة القائلة: (إن الله لا يساعد الذين لا يساعدون أنفسهم) ولو

وضعها كل مسلم نصب عينيه، وعمل بها لكان لنا من المنعة والعز ما نحسد عليه،

ولعل كلمتي هذه تصادف آذانًا واعية، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

...

...

...

لندن في 15 يناير سنة 1915

...

...

...

...

... مسلم غير متفرنج

(المنار)

نشكر للكاتب غيرته على دينه، وحسن ظنه بنا، ونوافقه على آرائه في

جملتها، ولكن مسألة الإيمان والعمل تحتاج إلى تفصيل وتمحيص، وأرى أن مسلمي

الهند أرجى لخدمة الإسلام من مسلمي مصر، وإن كان يظن بعض الناس أن

الإسلام في مصر أقوى منه في الهند علمًا وعملاً، فمسلمو الهند يعملون لنشر الدين

وخدمته، ويتعاون العلماء والأغنياء منهم على ذلك على ضعف فيه يُرجى أن

يقوى مع الزمان، ولم يوجد في مصر غني بذل مالاً لخدمة دينية محضة، ولا وُجد

عالم تصدى لخدمة دينية محضة جديدة إلا شيخنا الأستاذ الإمام في تصديه

لإصلاح التعليم في الأزهر وملحقاته إلى أن قام من قام بتأسيس الدعوة والإرشاد

وقد لقي هذا المشروع العظيم في مصر أشد المقاومة، وكانت مصلحة الأوقاف

الإسلامية قد نفحته بإعانة قليلة 550 جنيهًا في السنة، مع الوعد بمضاعفتها؛

ولكن وزارة الأوقاف الجديدة قد قطعت هذه الإعانة في هذا العام بعد أن منعت

نصف ما كان مقررًا للعام الماضي، ويظن كثير من المسلمين أن هذا بإيعاز من

الإنجليز، وأنا لا أظن هذا، بل أنا على رأيي القديم في الإنجليز، وهو أن المسلم

يستطيع أن يخدم دينه في بلادهم ومستعمراتهم بحرية قلما يجد مثلها عند غيرهم،

وما آفة الإسلام إلا منافقو أهله وجبناؤهم، وسيفضح ما نكتبه في تاريخ مشروع

الدعوة والإرشاد كثيرًا من هؤلاء المنافقين، ومنهم الذين لا يزالون يكيدون في الخفاء

لِيَحولوا دون مساعدة القصر له، وسيرى مسلمو العالم وغيرهم في هذا التاريخ

الذي هو تاريخ الإصلاح الإسلامي في هذا العصر مقارنة غريبة بين باشوات

الآستانة وباشوات مصر.

أما اقتراحكم ترجمة تفسير المنار بالإنجليزية فيقل في المسلمين من يبذل

المال له؛ لأن أكثر الأغنياء المسلمين أغبياء أخساء، وإنما يبذل بعضهم المال في

المشروعات العامة لأجل الجاه عند الحكام والأمراء، ولا يكاد هؤلاء يلتمسون في

مثل هذا العصر جاهًا، والأفراد العقلاء النبهاء منهم كثرت عليهم طرق البذل في

هذا العصر، ولعل هذا المشروع يُنَفَّذ في الهند يومًا ما، وإني أكاد أجزم بأن هذا

الاقتراح لو عرض على مثل الأمير الجوَّاد الشهير النواب محمد علي راجا محمود

آباد ممن يثق هو بقوله في بيان مكانة التفسير لأَنْفَذَه حالاً، وكيف لا وهو يهب

المدارس بالألوف من الجنيهات، أما أنا فلا أسعى إلى هذا الاقتراح؛ لأن التفسير

لي ولو كان لغيري لسعيت.

ولا أذهب بك بعيدا فهذا مولوي محمد إنشاء الله صاحب جريدة (وطن)

الهندية قد تبرع بمائة مجلد من كل جزء من هذا التفسير لِتُوَزَّع على المساجد في

البلاد العربية، فإذا أعان الله على إتمام التفسير، وإنفاذ تبرعه كانت قيمة ما يدفعه

زهاء ما اقترحت للترجمة، والله الموفق وبيده ملكوت كل شيء.

_________

(1)

حذفنا من مكان النقط لقب " الأستاذ الإمام " الذي صار كالعلم لشيخنا رحمه الله تعالى، وإن كنا جرينا على نشر الرسائل والأسئلة بنصها لأسباب تاريخية وغير تاريخية.

(2)

المراد من هذه العبارة: البطل النبي، أو البطل بصفة النبي أو من حيث هو نبي.

(3)

يريد الكاتب أن ترك المهتدِي إلى الإسلام لبعض العبادات وإن كانت فرائض ليس بخسارة إذا كان صحيح الإيمان بعقائد الإسلام وأصوله.

ص: 73

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مصاب الهند والعالم الإسلامي

بالشيخ شبلي النعماني

نعى إلينا بريد الهند أشهر علمائها، وأبعدهم شهرة وصيتًا صديقنا الشيخ شبلي

النعماني الملقب بشمس العلماء، صاحب المصنفات النافعة، واليد البيضاء في

الإصلاح، ختم الله تعالى حياته السعيدة في خاتمة العام الماضي (28 ذي الحجة)

وله من العمر 58 سنة، على ما يؤخذ من ترجمته في بعض الجرائد، فإن صح

هذا فقد مات في مثل سن الأستاذ الإمام التي مات فيها، إلا أنه كان لنحافة بدنه

وشيبته يظن أنه من أبناء السبعين، ولم يكن يظهر على الأستاذ الإمام مثل هذا

الكبر وإن عاجله الشيب في سن الشباب، ولعل رائيه كان يظن أنه لم يتجاوز

الخمسين، على أن كلاًّ من الشيخين اللذين تساويا في العمر مات وهو شاب في

علو الهمة، وقوة العزيمة والنشاط في السعي إلى الإصلاح.

كان الشيخ شبلي عالمًا مستقلاًّ لا عالمًا رسميًّا مقلدًا، وكان كأكثر العلماء

المستقلين، والحكماء المصلحين، أستاذ نفسه، وتلميذ همته، تلقى قليلاً عن

الأساتذة؛ ولكنه بجده واجتهاده صار أشهر نوابغ علماء الهند في هذا العصر. نعم

إن فيهم من يُعَدُّون أوسع منه علمًا واطلاعًا في علوم الحديث والفقه والأصول؛

ولكن قلما يوجد من يماثله أو يقاربه في القدرة على نفع الناس بتعليم هذه العلوم أو

التأليف فيها، ولا نعرف له ثَم ضريبًا في إتقان اللغة العربية، وطول الباع،

وحسن الذوق في فهم منثورها ومنظومها، والقدرة على الكتابة في الموضوعات

المختلفة فيها، فأكثر علماء الهند وغيرها من الأعاجم المتأخرين لا يقدرون على

الكتابة العربية الفصيحة إلا قليلاً، وإنما قصارى ما يأتي منهم أن يكتبوا شرحًا أو

حاشية لبعض الكتب المشهورة، أو يؤلفوا رسالة أو كتابًا جديدًا في بعض العلوم

التي يكثرون مدارستها كالفقه والأصول والمنطق والحديث، بحيث يكون جُل ما

يكتبونه مقولاً بنصه من الكتب المؤلفة في ذلك، ومن تجاوز ذلك منهم إلى منظوم

أو منثور كثر غلطه وتكلفه وجاء بالغَثّ الذي لا يكاد يُفْهَم، وأما الشيخ شبلي فقد

كان من نوادر المجيدين منهم: كان قادرًا على الكتابة العربية السليمة من كلفة

العجمة في العلوم والفنون والأدب والتاريخ، كما يُعْلَم من نقده تاريخ التمدن

الإسلامي وغيره.

كان رحمه الله تعالى أمة وسطًا بين أولي التفريط الجامدين على التقاليد

القديمة، وبين أهل الإفراط من المفتونين بالتقاليد الحديثة، إذ كان صاحب مشاركة

صالحة في العلوم الإسلامية تمكنه من التدريس والتأليف فيها بطريقة استقلالية إذا

شاء، وصاحب مشاركة في العلوم الكونية من رياضية وطبيعية واجتماعية عَرَفَ

بها حال هذا العصر، وما يحتاج إليه المسلمون فيه، وقد أتقن علم التاريخ إتقانًا

لعله لا يوجد في العالم الإسلامي كله من يساويه فيه الآن، وقد دخل في أعمال

الحكومة ثم تركها، واشتغل بالتعليم في مدرسة العلوم الكلية في عليكره على عهد

مؤسسها السيد أحمد خان الشهير، وكان من أصدقائه، واشتغل بأمر الجمعيات

العلمية، وساح في الممالك والأقطار، فكان بعلومه وأعماله، وسعة تجاربه

واختباره، وبما أوتيه قبل ذلك من ذكاء الذهن، وعلو الهمة، ومضاء العزيمة،

جديرًا بأن يكون من زعماء الإصلاح، وأن يقوم في وجهه من الخصوم من ينبزه

بلقب الإفساد، ويرميه بالكفر والإلحاد، كما هي سنة الله تعالى في العباد،

وسيعرف أهل وطنه من قيمته بعد وفاته، ما لم يعرفوه له أو يعترفوا به في حال

حياته، وسنذكر في الجزء الثاني ما وصل إلينا من ترجمته، وما يعن لنا من

البحث فيها، والاعتبار بها، رحمه الله تعالى وأحسن عزاء البلاد الهندية والأمة

الإسلامية عنه.

_________

ص: 79

الكاتب: ابن القيم الجوزية

كتاب مدارج السالكين

كلام الصوفية في الوقت

من الجزء الثالث من كتاب مدارج السالكين

قال: ومنها الوقت. قال صاحب المنازل (باب الوقت)

قال الله تعالى {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} (طه: 40)

الوقت اسم لظرف الكون، وهو اسم في هذا الباب لثلاثة معانٍ على ثلاث

درجات [1] : المعنى الأول [2] حين وجد [3] صادق لإيناس ضياء فضل جذبه صفاء

رجاء أو [4] لعصمة جذبها صدق خوف، أو لتلهب شوق جذبه اشتعال محبة) وجه

استشهاده بالآية أن الله سبحانه قدر مجيء موسى أحوج ما كان الوقت إليه، فإن

العرب تقول: جاء فلان على قَدَر. إذا جاء وقت الحاجة إليه، قال جرير:

نال الخلافة إذ كانت على قَدَر

كما أتى ربَّه موسى على قَدَر

وقال مجاهد: على موعد، وهذا فيه نظر لأنه لم يسبق بين الله سبحانه

وبين موسى موعد للمجيء؛ حتى يقال إنه أتى على ذلك الموعد؛ ولكن وجه هذا

أن المعنى جئت على الموعد الذي وعدناه أن ننجزه، والقدر الذي قدرناه أن يكون

في وقته، وهذا كقوله تعالى: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِن

قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ

رَبِّنَا لَمَفْعُولاً} (الإسراء: 107-108) لأن الله سبحانه وتعالى وعد بإرسال

نبي في آخر الزمان يملأ الأرض نورًا وهدى، فلما سمعوا القرآن علموا أن الله

أنجز ذلك الوعد الذي وعد به، واستشهاده بهذه الآية يدل على محله من العلم،

لأن الشيء إذا وقع في وقته الذي هو أليق الأوقات بوقوعه فيه كان أحسن وأنفع

وأجدر، كما إذا وقع الغيث في أحوج الأوقات إليه، وكما إذا وقع الفَرَج في وقته

الذي يليق به.

ومن تأمل أقدار الرب تعالى، وجريانها في الخلق علم أنها واقعة في أليق

الأوقات بها، فَبَعَث الله سبحانه موسى أحوج ما كان الناس إلى بعثته، وبعث

عيسى كذلك، وبعث محمدًا صلى الله (عليه وعليهم أجمعين) أحوج ما كان أهل

الأرض إلى إرساله، فهكذا وقت العبد مع الله يعمره بأنفع الأشياء له أحوج ما كان

إلى عمارته.

قوله: (الوقت ظرف الكون) الوقت عبارة عن مقارنة حادث لحادث عند

المتكلمين، فهو نسبة بين حادثين، فقوله ظرف الكون أي وعاء التكوين فهو

الوعاء الزماني الذي يقع فيه التكوين، كما أن ظرف المكان هو الوعاء المكاني

الذي يحصل فيه الجسم؛ ولكن الوقت في اصطلاح القوم أخص من ذلك. قال أبو

علي الدقاق: الوقت ما أنت فيه، فإن كنت في الدنيا، فوقتك الدنيا، وإن كنت

بالعقبى، فوقتك العقبى، وإن كنت بالسرور، فوقتك سرور، وإن كنت بالحزن،

فوقتك الحزن. يريد أن الوقت ما كان الغالب على الإنسان من حاله، وقد يريد أن

الوقت ما بين الزمانين الماضي والمستقبل، وهو اصطلاح أكثر الطائفة، ولهذا

يقولون: الصوفي والفقير ابن وقته. يريدون أن همته لا تتعدى وظيفة عمارته بما

هو أولى الأشياء به، وأنفعها له، فهو قائم بما هو مطالب به في الحين والساعة

الراهنة، فهو لا يهتم بماضي وقته وآتيه، بل بوقته الذي هو فيه، فإن الاشتغال

بالوقت الماضي والمستقبل يضيع الحاضر، وكلما حضر وقت انشغل عنه

بالطرفين فتصير أوقاته كلها فواتًا.

قال الشافعي رضي الله عنه : صحبت الصوفية فما انتفعت منهم إلا

بكلمتين: سمعتهم يقولون: الوقت سيف فإن قطعته وإلا قطعك، ونفسك إن لم

تشغلها بالحق وإلا شغلتك بالباطل، قلت: يا لهما كلمتين ما أنفعهما، وأجمعهما،

وأدلهما على علو همة قائلهما ويقظته! ويكفي هذا ثناء من الشافعي على طائفة هذا

قدر كلماتهم.

وقد يريدون بالوقت ما هو أخص من هذا كله، وهو ما يصادفهم في تصريف

الحق لهم دون ما يختارونه لأنفسهم. ويقولون: فلان بحكم الوقت. أي مستسلم لما

يأتي من عند الله من غير اختيار، وهذا يحسن في حال، ويَحْرُم في حال،

وينقص صاحبه في حال، فيحسن في كل موضع ليس لله على العبد فيه أمر ولا

نهي، بل في موضع جريان الحكم الكوني الذي لا يتعلق به أمر ولا نهي كالفقر،

والمرض، والغربة، والجوع، والألم، والحر، والبرد، ونحو ذلك، ويَحْرُم في

الحال التي يجري عليه فيها الأمر، والنهي، والقيام بحقوق الشرع، فإن التضييع

لذلك، والاستسلام، والاسترسال مع القدر انسلاخ من الدين بالكلية، وينقص

صاحبه في حال تقتضي قيامًا بالنوافل، وأنواع البر، والطاعة، وإذا أراد الله

بالعبد خيرًا أعانه بالوقت، وجعل وقته مساعدًا له، وإذا أراد به شرًّا جعل وقته

عليه، وناكده وقته فكلما أراد التأهب للمسير لم يساعده [5] الوقت، والأول كلما

همت نفسه بالقعود أقامه الوقت وساعده.

وقد قسم بعضهم الصوفية أربعة أقسام: أصحاب السوابق، وأصحاب

العواقب، وأصحاب الوقت وأصحاب الحق، قال:

(فأما أصحاب السوابق) فقلوبهم أبدًا فيما سبق لهم من الله، لعلمهم أن

الحكم الأزلي لا يتغير باكتساب العبد، ويقولون: مَن أقصته السوابق لم تدنه

الوسائل ففكرهم في هذا أبدًا، ومع ذلك فهم يجدون في القيام بالأوامر، واجتناب

النواهي، والتقرب إلى الله بأنواع القرب غير واثقين بها ولا ملتفتين إليها، يقول

قائلهم:

من أين أرضيك إلا أن توفقني

هيهات هيهات ما التوفيق من قِبَلي

إن لم يكن لي في المقدور سابقة

فليس ينفع ما قدمت من عملي

وأما (أصحاب العواقب) فهم متفكرون فيما يختم به أمرهم، فإن الأمور

بأواخرها، والأعمال بخواتيمها، والعاقبة مستورة كما قيل:

لا يغرنك صفا الأوقات

فإن تحتها [6] غوامض الآفات

فكم من ربيع نورت أشجاره، وظهرت أزهاره، وزهت ثماره، لم يلبث أن

أصابته جائحة سماوية فصار كما قال الله عز وجل {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ

زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا} (يونس: 24) إلى قوله:

{يَتَفَكَّرُونَ} (يونس: 24) فكم من مريد كَبَا بِهِ جواد عزمه (فخر صريعًا لليدين

والفم) وقيل لبعضهم وقد شوهد منه خلاف ما كان يعهد عليه: ما الذي أصابك فقال

حجاب وقع، وأنشد:

أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت

ولم تخف سوء ما يأتي به القدر

وسالمتك الليالي فاغتررت بها

وعند صفو الليالي يحدث الكدر

ليس العجب ممن هلك كيف هلك إنما العجب ممن نجا كيف نجا؟

تعجبين من سقمي

صحتي هي العجب

الناكصون على أعقابهم أضعاف أضعاف من اقتحم العقبة:

خذ من الألف واحدًا

واطرح الكل بعده

وأما (أصحاب الوقت) فلم يشغلوا [7] في السوابق، ولا في العواقب بل

اشتغلوا بمراعاة الوقت، وما يلزمهم من أحكامه، وقالوا: العارف ابن وقته [8] لا

ماضي له، ولا مستقبل، ورأى بعضهم الصديق رضي الله عنه في منامه، فقال:

أوصني، فقال له: كن ابن وقتك.

وأما (أصحاب الحق) فهم مع صاحب الوقت، والأزمان، ومالكهما،

ومدبرهما، مأخوذون بشهوده عن مشاهدة الأوقات، ولا يتفرغون لمراعاة وقت

وزمان كما قيل:

لست أدري أطال ليلي أم لا

كيف يدري بذاك من يتقلى

لو تفرغت لاستطالة ليلي

ولرعي النجوم كنت مخلَّى

إن للعاشقين عن قصر لليل

وعن طوله من العشق شغلا

قال الجنيد: دخلت على السري يومًا فقلت له كيف أصبحت فأنشأ يقول:

ما في النهار ولا في الليل لي فرج

ولا أطال الليل أو قصر

ثم قال: ليس عند ربكم ليل ولا نهار. يشير إلى أنه غير متطلع إلى الأوقات، بل هو مع الذي يقدر الليل والنهار.

***

فصل

قال صاحب المنازل: (الوقت اسم في هذا الباب لثلاثة معان: المعنى الأول

حين وَجْد صادق) أي وقت وجد صادق. أي زمن وجد يقوم بقلبه وهو صادق

فيه غير متكلف له ولا متعمل في تحصيله (يكون متعلقه إيناس ضياء فضل) أي

رؤية ذلك، والإيناس الرؤية قال الله تعالى {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بَأَهْلِهِ

آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً} (القصص: 29)

وليس هو مجرد الرؤية، بل رؤية ما يأنس به القلب ويسكن إليه، ولا يقال لمن

رأى عدوه أو مخوفًا " آنسه "، ومقصوده أن هذا الوقت وقت وجد صاحبه صادق

فيه لرؤية ضياء فضل الله ومَنِّه عليه، والفضل هو العطاء الذي لا يستحقه المعطى

أو يعطى فوق استحقاقه، فإذا آنس هذا الفضل، وطالعه بقلبه أثار ذلك [9] فيه وجدًا

آخر باعثًا على محبة صاحب الفضل، والشوق إلى لقائه، فإن النفوس مجبولة

على حب من أحسن إليها، ودخلت يومًا على بعض أصحابنا وقد حصل له وجد

أبكاه فسألته عنه فقال: ذكرت ما مَنَّ الله به عليّ من السنة ومعرفتها، والتخلص

من شُبَه القوم، وقواعدهم الباطلة، وموافقة العقل الصريح، والفطرة السليمة لما

جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فسرني ذلك حتى أبكاني. فهذا الوجد

أثاره إيناس فضل الله ومَنِّه.

قوله: (جذبه صفاء رجاء) أي جذب [10] ذلك الوجد، أو الإيناس، أو

الفضل رجاء صافٍ غير مكدر، والرجاء الصافي هو الذي لا كدر يشوبه [11] بوهم

معاوضة منك، وأن عملك هو الذي بعثك على الرجاء، فصفاء الرجاء يخرجه [12]

من ذلك بل يكون رجاء محضًا لمن هو مبتدئ بالنعم من غير استحقاق، والفضل

كله له ومنه، وفي يده أسبابه، وغاياته، ووسائله، وشروطه، وصرف موانعه.

كل بيد الله لا يستطيع العبد أن ينال منه شيئًا بدون توفيقه وإذنه ومشيئته.

ويلخص ذلك أن الوقت في هذه الدرجة الأولى عبارة عن وجد صادق سببه

رؤية فضل الله على عبده، لأن رجاءه كان صافيًا من الأكدار.

قوله: (أو لعصمة جذبها صدق خوف) اللام في قوله أو لعصمة معطوف

على اللام في قوله أو لإيناس ضياء فضل، أي وجد لعصمة جذبها صدق خوف،

فاللام ليست للتعليل بل هي على حدها في قولك: ذوق لكذا، ورؤية لكذا. فمتعلق

الوجد عصمة، وهي منعة وحفظ ظاهر وباطن جذبها صدق خوف من الرب

سبحانه، والفرق بين الوجد في هذه الدرجة والتي قبلها أن الوجد في الأولى جذبه

صدق الرجاء، وفي الثانية جذبه صدق الخوف، وفي الثالثة التي تذكر جذبه صدق

الحب، فهو معنى قوله:(أو لتلهب شوق جذبه اشتعال محبة) ، وخدمته التورية

في اللهيب، والاشتعال، والمحبة متى قويت اشتعلت نارها في القلب فحدث عنها

لهيب الاشتياق إلى لقاء الحبيب، وهذه الثلاثة التي تضمنتها هذه الدرجة، وهى

الحب، والخوف، والرجاء، هي التي تبعث على عمارة الوقت بما هو الأَوْلَى

لصاحبه، والأنفع له، وهي أساس السلوك، والسير إلى الله، وقد جمع الله سبحانه

الثلاثة في قوله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ

وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} (الإسراء: 57)

وهذه الثلاثة هي قطب رحى العبودية، وعليها دارت رحى الأعمال، والله أعلم.

***

فصل

قال: (والمعنى الثاني [13] اسم لطريق سالك يسير بين تمكن وتلون؛ لكنه إلى

التمكن ما هو يسلك الحال، ويلتفت إلى العلم، فالعلم يشغله [14] في حين، والحال

يحمله في حين، فبلاؤه بينهما يذيقه شهودًا طورًا ويكسوه عبرة طورًا، ويريه غيرة

تفرق طورًا) هذا المعنى هو المعنى الثاني من المعاني الثلاثة من معاني الوقت

عنده، قوله:(اسم لطريق سالك) هو على الإضافة أي لطريق عبد سالك، قوله:

(يسير بين تمكن وتلون) أي ذلك العبد يسير بين تمكن وتلون، والتمكن هو الانقياد

إلى أحكام العبودية بالشهود والحال، والتلون في هذا الموضع خاصة هو الانقياد

إلى أحكام العبودية بالعلم، فالحال يجمعه بقوته وسلطانه، فيعطيه تمكينًا، والعلم

يلونه بحسب متعلقاته، وأحكامه، قوله: (لكنه إلى التمكن ما هو يسلك الحال،

ويلتفت إلى العلم) يعني أن هذا العبد هو سالك إلى التمكن ما دام يسلك الحال،

ويلتفت إلى العلم [15] ، فأما إن سلك العلم والتفت إلى الحال لم يكن سالكًا إلى التمكن،

فالسالكون ضربان: سالكون على الحال ملتفتون إلى العلم، وهم إلى التمكن أقرب،

وسالكون على العلم ملتفتون إلى الحال وهم إلى التلون أقرب، هذا حاصل

كلامه.

وهذه الثلاثة هي المفرقة بين أهل العلم، وأهل الحال، حتى كأنهما غيران

وحزبان، وكل فرقة منهما لا تأنس بالأخرى، ولا تعاشرها إلا على إغماض،

ونوع استكراه، وهذا من تقصير الفريقين، حيث ضعف أحدهما عن السير في

العلم، وضعف الآخر عن الحال في العلم، فلم يتمكن كل منهما من الجمع بين

الحال والعلم، فأخذ هؤلاء العلم، وسعته، ونوره، ورجحوه، وأخذ هؤلاء الحال،

وسلطانه، وتمكينه، ورجحوه، وصار الصادق الضعيف من الفريقين يسير

بأحدهما ملتفتًا إلى الآخر، فهذا مطيع للحال [16] ، وهذا مطيع للعلم؛ لكن المطيع

للحال متى عصى به العلم كان منقطعًا محجوبًا، وإن كان له من الحال ما عساه أن

يكون، والمطيع للعلم متى أعرض به عن الحال كان مضيعًا منقوصًا مشتغلاً

بالوسيلة عن الغاية، وصاحب التمكين يتصرف علمه في حاله، ويحكم عليه،

فينقاد لحكمه، ويتصرف حاله في علمه فلا بد أن يقف معه، بل يدعوه إلى غاية

العلم فيجيبه ويلبي دعوته، فهذه حال الكُمَّل من هذه الأمة.

ومن استقرأ أحوال الصحابة وجدها كذلك، فلما فرق المتأخرون بين الحال

والعلم دخل عليهم النقص، والخلل، والله المستعان {يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ

لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} (الشورى: 49-50) فكذلك يهب لمن يشاء علمًا، ولمن يشاء حالاً، ويجمع

بينهما لمن يشاء، ويخلي من يشاء منهما.

قوله: (فالعلم يشغله في حين) أي يشغله عن السلوك إلى تمكن الحال؛ لأن

العلم متنوع التعلقات فهو يُفَرِّق، والحال يُجَمِّع، فإنه يدعوه إلى الفناء، وهناك

سلطان الحال، قوله:" والحال يحمله في حين " أي يغلب عليه الحال تارة فيصير

محمولاً بقوة الحال وسلطانه على السلوك فيشتد [17] سيره بحكم الحال، يعني وإذا

غلبه العلم شغله عن السلوك، وهذا هو المعهود من طريقة المتأخرين (إن العلم

يشغل عن السلوك) ، ولهذا يعدون السالك من سلك على الحال ملتفتًا إلى العلم،

وأما على ما قررناه من أن العلم يعين على السلوك، ويحمل عليه، ويكون صاحبه

سالكًا به، وفيه فلا يشغله العلم عن سلوكه، وإن أضعف سيره على درب الفناء،

فلا ريب أن العلم لا يجامع الفناء، فالفناء ليس هو غاية السالكين إلى الله، بل ولا

هو لازم من لوازم الطريق، وإن كان عارضًا من عوارضها يعرض لغير الكُمَّل -

كما تقدم تقرير ذلك - فبينا أن الفناء الكامل الذي هو الغاية المطلوبة، الفناء عن

محبة ما سوى الله وإرادته، فيفنى بمحبة الله عن محبة ما سواه، وبإرادته،

ورجائه، والخوف منه، والتوكل عليه، والإنابة إليه عن إرادة ما سواه، وخوفه،

ورجائه، والتوكل عليه، وهذا الفناء لا ينافي العلم بحال، ولا يشغل عن العلم ولا

يحول بين العبد وبينه، بل قد يكون في أغلب الأحوال من أعظم أعوانه، وهذا

أمر غفل عنه أكثر المتأخرين بحيث لم يعرفوه ولم يسلكوه؛ ولكن لم يُخل الله

الأرض من قائم به، داعٍ إليه.

قوله: (فبلاؤه بينهما) أي عذابه وألمه بين داعي الحال، وداعي العلم،

فإيمانه يحمله على إجابة داعي العلم، ووارده يحمله على إجابة داعي الحال،

فيصير كالغريم بين مطالبين، كل منهما يطالبه بحقه وليس بيده إلا ما يقضي

أحدهما، وقد عرفت أن هذا من الضيق، وإلا فمع السعة يوفي كلا منهما حقه.

قوله: (يذيقه شهودًا طورًا) أي ذلك البلاء الحاصل بين الداعيين يذيقه

شهوده طورًا، وهو الطور الذي يكون الحاكم عليه فيه هو العلم.

قوله: (ويكسوه عبرة طورًا) الظاهر أنه عِبْرَة بالباء الموحدة والعين، أي

اعتبارًا بأفعاله، واستدلالاً عليه بها، فإنه سبحانه دل على نفسه بأفعاله، فالعلم

يكسو صاحبه اعتبارا، واستدلالاً على الرب بأفعاله.

ويصح أن يكون عيرة بالعين المهملة [18] ، والياء المثناة من تحت ومعناه أن

العلم يكسوه عيرة [19] من حجابه عن مقام صاحب الحال، فيعار من [20] احتجابه

عن الحال بالعلم، وعن العيان بالاستدلال، وعن الشهود الذي هو مقام الإحسان

بالإيمان الذي هو إيمان بالغيب.

قوله: (ويريه غيرة تفرق طورًا) هذا بالغين المعجمة ليس إلا، أي ويريه

العلم غيرة تفرق في أوديته، فَيُفَرِّق بين أحكام الحال، وأحكام العلم، وهو حال

صحو وتمييز، وكأن الشيخ رحمه الله يشير إلى أن صاحب هذا المقام يغار

تفرقه [21] من جمعيته على الله، فنفسه تفر من الجمعية على الله إلى تفرق العلم،

فإنه لا أشق على النفوس من جمعيتها على الله، فهي تهرب من الله إلى الحال تارة

وإلى العمل تارة، وإلى العلم تارة، هذه نفوس السالكين الصادقين، وأما من ليس

من أهل هذا الشأن فنفوسهم تفر من الله إلى الشهوات والراحات، فأشق ما على

النفوس جمعيتها على الله، وهي تناشد صاحبها أن لا يوصلها إليه، وأن يشغلها بما

دونه، فإن حبس النفس على الله شديد، وأشد منه حبسها على أوامره، وحبسها

عن نواهيه، فهي دائمًا ترضيك بالعلم عن العمل، وبالعمل عن الحال، وبالحال

عن الله سبحانه وتعالى، وهذا أمر لا يعرفه إلا من شد مئزر سيره إلى الله، وعلم

أن كل ما سواه فهو قاطع عنه.

وقد تضمن كلامه في هذه الدرجة ثلاث درجات - كما أشار إليه -: درجة

الحال، ودرجة العلم، ودرجة التفرقة بين الحال والعلم، وهذه الثلاث درجات [22]

هي المختصة بالمعنى الثاني من معاني الوقت، والله أعلم.

***

فصل

قال: والمعنى الثالث [23] قالوا: الوقت الحق أرادوا به استغراق رسم الوقت

في وجود الحق، وهذا المعنى يسبق على هذا الاسم عندي لكنه اسم [24] في هذا

المعنى الثالث لحين تتلاشى فيه الرسوم كشفًا لا وجودًا محضًا، وهو فوق البرق

والوجد، وهو يفارق [25] مقام الجمع لو دام وبقي، ولا يبلغ وادي الوجود؛ لكنه

يلقي [26] مؤنة المعاملة، ويصفي عين المسامرة، ويشم روائح الوجود.

هذا المعنى الثالث من معاني الوقت أخص مما قبله، وأصعب تصورًا

وحصولاً، فإن الأول وقت سلوك يتلون، وهذا وقت كشف يتمكن، ولذلك أطلقوا

عليه اسم الحق لغلبة حكمه على قلب صاحبه، فلا يحس برسم الوقت بل يتلاشى

ذكر وقته من قلبه لما قهره من نور الكشف.

فقوله: (قالوا الوقت هو الحق) يعني أن بعضهم أطلق اسم الحق على الوقت،

ثم فسر مرادهم بذلك، وأنهم عنوا به استغراق رسم الوقت في وجود الحق،

ومعنى هذا أن السالك بهذا المعنى الثالث إذا شهد استغراق وقته في وجود الحق

يتلاشى عنه وقته بالكلية، وتقريب هذا إلى الفهم أنه إذا شهد استغراق وقته

الحاضر في ماهية الزمان فقد استغرق الزمان رسم الوقت إلى ما هو جزء يسير

جدًّا من أجزائه، وانغمر فيه كما تنغمر القطرة في البحر، ثم إن الزمان المحدود

الطرفين يستغرق رسمه في وجود الدهر، وهو ما بين الأزل والأبد، ثم إن الدهر

يستغرق رسمه في دوام الرب جل جلاله، وذلك الدوام هو صفة الرب، فهناك

يضمحل الدهر، والزمان، والوقت ولا يبقى له نسبة إلى دوام الرب جل جلاله

البتة، فاضمحل الزمان، والدهر، والوقت في الدوام الإلهي، كما تضمحل الأنوار

المخلوقة في نوره، كما يضمحل علم الخلق في علمه، وقدرهم في قدرته،

وجمالهم في جماله، وكلامهم في كلامه [27] بحيث لا يبقى للمخلوق نسبة ما إلى

صفات الرب جل جلاله.

والقوم إذا أطلق أهل الاستقامة منهم (ما في الوجود إلا الله) أو (ما ثم

موجود على الحقيقة إلا الله) أو (هناك يفنى من لم يكن، ويبقى من لم يزل)

ونحو ذلك من العبارات، فهذا مرادهم لا سيما إذا حصل هذا الاستغراق في الشهود

كما هو في الوجود، وغلب سلطانه على سلطان العلم، وكان العلم [28] مغمورًا

بوارده، وفي قوة التمييز ضعف، وقد توارى العلم بالشهود، وحكم الحال، فهناك

يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت، وتزل أقدام كثيرة إلى الحضيض الأدنى، ولا

ريب أن وجود الحق سبحانه ودوامه يستغرق وجود كل ما سواه، ووقته، وزمانه،

بحيث يصير كأنه لا وجود له، ومن هنا غلط القائلون بوحدة الوجود، وظنوا أنه

ليس لغيره وجود البتة، وغرهم كلمات مشتبهات جرت على ألسنة أهل الاستقامة

من الطائفة فجعلوها عمدة لكفرهم وضلالهم، وظنوا أن السالكين سيرجعون إليهم،

وتصير طريقة الناس واحدة {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَاّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ} (التوبة: 32) .

وقوله: (وهذا المعنى يسبق على هذا الاسم عندي) يريد أن الحق سابق [29]

على الاسم [30] الذي هو الوقت، أي هو منزه عن أن يُسمى بالوقت، فلا ينبغي

إطلاقه عليه، لأن الأوقات حادثة.

قوله: لكنه اسم في هذا المعنى الثالث لحين تتلاشى فيه الرسوم كشفًا لا

وجودًا محضًا تلاشي الرسوم اضمحلالها وفناؤها، والرسوم عندهم ما سوى الله،

وقد صرح الشيخ أنها إنما تتلاشى في الكشف، لا في الوجود العيني الخارجي،

فإن تلاشيها في الوجود خلاف الحس والعيان، وإنما تتلاشى في وجود العبد الكشفي

بحيث لا يبقى فيه سعة للإحساس بها لما استغرقه من الكشف، فهذه عقيدة أهل

الاستقامة من القوم.

وأما الملاحدة أهل وحدة الوجود، فعندهم أنها لم تزل متلاشية في عين وجود

الحق، بل وجودها هو نفس وجوده، وإنما كان الحس بين الوجودين فلما غاب عن

حسه بكشفه تبين أن وجودها هو عين وجود الحق؛ ولكن الشيخ كأنه عَبَّر بالكشف

والوجود عن المقامين اللذين ذكرهما في كتابه، والكشف هو دون الوجود عنده،

فإن الكشف يكون مع بقاء بعض رسوم صاحبه فليس معه استغراق في الفناء

والوجود لا يكون معه رسم باقٍ، ولذلك قال (لا وجودًا محضًا) فإن الوجود

المحض عنده يُفني الرسوم، وبكل حال فهو يفنيها [31] من وجود الواجد لا يفنيها في

الخارج.

وسر المسألة الواصل إلى هذا المقام يصير له وجود آخر غير وجوده الطبيعي

المشترك بين الموجودات، ويصير له نشأة أخرى لقلبه وروحه نسبة النشأة

الحيوانية إليها كنسبة النشأة في بطن الأم إلى هذه النشأة المُشَاهَدَة في العالم،

وكنسبة هذه النشأة الأخرى.

فللعبد أربع نشآت: نشأة في الرحم حيث لا بصر يدركه، ولا يد تناله،

ونشأة في الدنيا، ونشأة في البرزخ، ونشأة في المعاد الثاني [32] ، وكل نشأة أعظم

من التي قبلها، وهذه النشأة للروح والقلب أصلاً، وللبدن تبعًا، فللروح في هذا

العالم نشأتان: (إحداهما) الطبيعية المشتركة (والثانية) نشأة قلبية روحانية يُولَد

لها قلبه، وينفصل من مشيمة طبعه، وكما وُلد بدنه، وانفصل من مشيمة البطن،

ومن لم يصدق بهذا، فليُضرب عن هذا صفحًا، وليشتغل بغيره. وفي كتاب الزهد

للإمام أحمد أن المسيح عليه السلام قال للحواريين: إنكم لن تلجوا ملكوت

السماء حتى تُولَدُوا مرتين، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول:

هي ولادة الأرواح، والقلوب من الأبدان، وخروجها من عالم الطبيعة كما وُلِدَت

الأبدان من البدن، وخرجت منه، والولادة الأخرى هي الولادة المعروفة، والله

أعلم.

قوله: (وهو فوق البرق والوجد) يعني أن هذا الكشف الذي تلاشت فيه

الرسوم فوق منزلتي البرق والوجد؛ فإنه أثبت وأدوم، والوجود فوقه لأنه يشعر

بالدوام، قوله:(وهو يشارف مقام الجمع لو دام) أي لو دام هذا الوقت لشارف

مقام الجمع، وهو ذهاب شعور القلب بغير الحق سبحانه شُغلاً به عن غيره، فهو

جمع في الشهود، وعند الملاحدة هو جمع في الوجود، ومقصوده أنه لو دام الوقت

بهذا المعنى الثالث لشارف حضرة الجمع لكنه لا يدوم.

قوله: (ولا يبلغ وادي الوجود) يعني أن الوقت المذكور لا يبلغ السالك فيه

وادي الوجود حتى يقطعه، ووادي الوجود هو حضرة الجمع، قوله: (لكنه يلقي

مؤنة المعاملة) يعني أن الوقت المذكور، وهو الكشف المشارف لحضرة الجمع

يخفف عن العامل أثقال المعاملة من قيامه بها أتم القيام، بحيث تصير هي الحاملة،

فإنه كان يعمل على الخبر فصار يعمل على العين، هذا مراد الشيخ، وعند الملحد

أنه يفنى عن المعاملات الجسمانية، ويَرُدّ صاحبه إلى المعاملات القلبية، وقد تقدم

إشباع هذا المعنى.

قوله: (ويصفي عن المسامرة) المسامرة عند القوم هي الخطاب القلبي

الروحي بين العبد وربه، وقد تقدم أن تسميتها بالمناجاة أولى، فهذا الكشف يخلص

عن المسامرة من ذكر غير الحق سبحانه ومناجاته.

وقوله: (ويشم رائحة الوجود) أي صاحب مقام هذا الوقت الخاص يشم

روائح الوجود وهو حضرة الجمع؛ فإنهم يسمونها بالجمع والوجود، ويعنون بذلك

ظهور وجود الحق سبحانه وفناء وجود ما سواه. وقد عرفت أن فناء وجود ما

سواءه بأحد اعتبارين: إما فناؤه من شهود العبد فلا يشهده، وإما اضمحلاله

وتلاشيه بالنسبة إلى وجود الرب، ولا تلتفت إلى غير هذين المعنيين فهو إلحاد

وكفر والله المستعان.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

قال في المتن (وهو على ثلاث درجات) .

(2)

وقال فيه: الدرجة الأولى.

(3)

وفيه (وجد وجه) إلخ.

(4)

سقطت هذه الجملة من نسخة المتن.

(5)

سقط من قوله (وإذا أراد به شرا) إلى هنا - فنقلناه من ب.

(6)

لعل الأصل (فتحتها) فَبِهِ يستقيم الوزن، أو أن كلمة صفاء ممدودة، وربما كانت العبارة سجعًا؛ ولكنها كتبت في ب كما يكتب الشعر.

(7)

قال في ب بالفكر في السوابق.

(8)

وفيها (الفقر لا ماضي له) إلخ.

(9)

في ب (بذلك) .

(10)

وفيها (جذبه) .

(11)

كانت العبارة عندنا ناقصة فصُححت على ب.

(12)

في ب (يخلصه) .

(13)

في المتن (الدرجة الثانية) .

(14)

في ب (يستعمله) .

(15)

سقطت هذه الجملة من ن فأثبتناه من ب.

(16)

في ن (إلى الحال) وهو غلط.

(17)

وفيها (فيشتمل) .

(18)

في ب زيادة (بالغين المعجمة) .

(19)

وفيها (غيرة) .

(20)

وفيها (فيعار حتمًا احتجابه) إلخ.

(21)

وفيها (تفرقته) .

(22)

كان الظاهر أن يقال: الثلاث الدرجات.

(23)

وفي المتن (الدرجة الثالثة) .

(24)

وفيه (لكنه هو اسم) .

(25)

وفيه وفي ب وفيه (يشارف) وهو الصواب.

(26)

وفيها وفيه (يكفي) .

(27)

لعل الأصل: وكمالهم في كماله.

(28)

في ب (وكان القلب) .

(29)

وفيها (سبحانه) بدل (سابق) وهو غلط.

(30)

وفيها (هذا اسم) إلخ.

(31)

وفيها (ينشيها) وهو غلط.

(32)

كلمة الثاني من زيادة ب.

ص: 108

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌استفتاء أدباء العصر

في بيت من الشعر

ذهب ذاهب، بل كتب كاتب يقول في البيت المشهور الجامع لعيوب الخطيب

في أول كتاب البيان والتبيين للجاحظ:

مليء ببُهرٍ والتفاتٍ وسعلةٍ

ومسحة عُثنون وفَتْل الأصابع

إن ضبط التفات، وما عطف عليه بالجر غلط، صوابه الرفع فيها كلها على أن

(التفات) مبتدأ حُذِف خبره، وما بعده معطوف عليه، فإن كان يوجد أحد يجيز فهمه

وذوقه للغة هذا الضبط فليتفضل ببيان ذلك لنا.

_________

ص: 120

الكاتب: محمد توفيق صدقي

مدرسة دار الدعوة والإرشاد

دروس سنن الكائنات

محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صدقي

(4)

والحق أن الأعصاب كلها تربط أجزاء الجسم بعضها ببعض، كما تربط

أسلاك التلغراف بعض الممالك بالبعض الآخر.

تذييل لما تقدم

في الإرادة والروح والقوى العقلية

قلنا إن سبب حركة القلب لا يعلمه أحد إلا الله تعالى، فهي من الخواص التي

وهبها له، وكذلك وهب مثل هذه الحركة الذاتية للخلايا ذات الأهداب المبطنة

لبعض الأغشية كالشعب الرئوية، وللخلايا المتحركة ككريات الدم البيضاء وغيرها،

ولكن هناك فرقًا بين حركة هذه وتلك؛ فإن حركة الكريات لا نظام لها بخلاف

حركة الأهداب فإنها في غاية النظام، وسريعة جدًّا، وهي في انتظامها تشبه انتظام

ضربات القلب، فكل هذه الخلايا تتحرك حركة ذاتية لا يعلم لها سبب مطلقًا، وإن

كان للبيئة تأثير فيها بمثل الزيادة أو النقصان، ولكن نفس الحركة كأنها بإرادة هذه

الخلايا الحية، والحق أنها من أعظم مظاهر إرادتها وحياتها، وهي عامة في كل

الخلايا، نباتية كانت أو حيوانية؛ ولكنها تكون أظهر في بعضها من البعض الآخر

أو تكون كامنة فيه، وهي أدل على إرادة بعضها من بعضها.

ومعنى كون هذه الحركة بإرادة الخلية أنها من عملها الذاتي الذي لا يظهر أن

للبيئة تأثيرًا في إيجاده وإنشائه، فمثلاً تشاهد الكريات البيضاء أو بعض

الميكروبات تتحرك في السائل الواحد، ثم تسكن، ثم تتحرك بدون أي سبب

خارجي، وأحيانًا تتجه إلى جهة ثم تعدل عنها إلى غيرها وهكذا، أي أن عملها

يختلف في البيئة الواحدة، ولا معنى للإرادة سوى هذا.

وكذلك المخ قد يبدأ العمل، ثم يتركه بدون أي سبب خارجي، لا في الحال

ولا في الماضي بحسب ما نعلم، بل بمحض الإرادة والاختيار، وإن عارض ذلك

كثير من الفسيولوجيين.

فالحق أن الإرادة وحرية العمل، هي أكبر خواص الأحياء، وهي أعظم ما

يميزها عن الجماد، وأما زعم بعضهم أن الأعمال كلها ليست إلا أفعالاً منعكسة فهو

لا يمكن إثباته، وما هذا الزعم إلا أثر من آثار التعاليم المادية في نفوسهم.

هذا ولما كانت حياة الجسم كله متوقفة على حياة القلب، فلا يبعد أن تكون

الروح شيئًا مستقرًّا فيه، ولا يبعد أن تكون من عالم الأثير، وبموت القلب تنفصل

عنه، ولا نقول إن الخلايا الأخرى حية بغير شيء كهذا، بل نقول إن حياة القلب

أو روحه هي أكبرها وأعظمها؛ ولذلك قلنا إن روحه هي روح الإنسان؛ لأن عليها

مدار حياته، فهي الروح الرئيسة وغيرها تابع لها.

واعلم أن القشرة السنجابية للمخ هي مركز الشعور العام والإدارة والتعقل،

وإن كان لكل الخلايا الحية مثل هذه الصفات، إلا أنها فيها في الحالة الأثرية، كما

أن الانقباض هو من خواص الخلايا الحية كلها؛ ولكنه في خلايا العضلات أظهر

منه في غيرها، وهكذا يقال في سائر الخواص الأخرى للحياة.

وهناك علاقة كبرى بين قوة المخ فيما ذكر وبين حجمه، وإذا قارنَّا وزنه

بوزن الجسم كله وجدنا أن مخ الإنسان أكبرها بالنسبة إلى جسمه، أما أكبر الأمخاخ

على الإطلاق فهو مخ الفيل والحوت.

ثم إنك تجد أن مخ الذكي أثقل من مخ البليد والأبله، ومخ الرجل أثقل من مخ

المرأة، وقل مثل ذلك في الراقي في العلم والأدب مع المنحط، إلا ما يستثنى من

ذلك.

وكذلك كثرة التلافيف في القشرة السنجابية، وتعقد تعاريجها، وعمق

الميازيب التي بينها كلها أشياء تختلف باختلاف القوى العقلية، فهي تكثر في

الإنسان وتقل أو تنعدم في الحيوانات التي هي دونه رقيًّا، وعند ولادة الطفل يكاد

المخ يكون غفلاً منها، ثم تكثر إلى زمن الشباب والكهولة، وبعده تقل تدريجيًّا حتى

تقارب في أرذل العمر شكل مخ الأطفال.

ويلي مخ الإنسان في كثرة التلافيف وتعقدها مخ بعض أنواع القردة.

ففي المخ روح الإدراك والشعور، وفي القلب روح الحياة ولا يبعد أنهما

أجزاء من روح واحدة، وهذه روح الأحياء ذات الخلية الواحدة (وتسمى الأولى) ،

موزعة على جميع أجزائها بالتساوي، وكلما ارتقينا في سلم الأحياء وجدنا أنها

موزعة على الجسم بدرجات متفاوتة، كما ترى في الإنسان، والله أعلم، {وَمَا

أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلَاّ قَلِيلاً} (الإسراء: 85) .

***

المجموع الدوري للدم

ليس الدم في أجسام الحيوانات واقفًا، بل هو دائر فيها، ولله في ذلك حكمتان

رئيستان، عليهما مدار حياة الحيوان:

(أولهما) توزيع المواد الغذائية وغيرها كالأدوية على جميع أجزاء

الجسم، وكذلك توزيع الأكسجين الذي هو ضرورة للاحتراق الداخلي (التفاعل

الحيوي) .

(وثانيهما) حمل جميع المواد المتخلفة عن التفاعل الحيوي إلى

الأعضاء المختصة بإخراجها من الجسم لضررها عن طريق الكليتين، ومن ذلك

أيضًا حمل ثاني أكسيد الفحم إلى الرئتين لإخراجه إلى الهواء.

والأعضاء المختصة بحركة الدم هي القلب والشرايين والأوعية الشعرية

والأوردة.

أما القلب فهو جسم مخروطي الشكل موضوع في الصدر بين الرئتين أعلى

الحجاب الحاجز وقاعدته إلى الجانب الأعلى الأيمن، وقمته إلى الأسفل الأيسر وهو

محاط بغلاف مصليّ يسمى الشغاف ويسميه الأطباء المتأخرون من العرب

بالتامور.

وفي القلب أربع غرف اثنتان علويتان واثنتان سفليتان، فالأوليان تسميان

أذينين والأخريان تسميان بطينين.

أما الأذين الأيمن ففيه ينفتح (الأجوف الأعلى) و (الأجوف الأسفل) وهما وريدان

عظيمان يجتمع فيهما الدم من الجسم كله ومن البطين الأيمن يخرج شريان كبير

يحمل الدم إلى الرئتين.

وفي جُدُر الأذين الأيسر أربع فتحات لأربعة أوردة: اثنان منها آتيان من

الرئة اليمنى، واثنان من الرئة اليسرى.

ومن البطين الأيسر يخرج شريان عظيم يسمى بالإفرنجية Aorta (أورطى)

وبالعربية الأبهر، وهو أكبر شريان في الجسم يحمل الدم في فروعه إلى جميع

أجزاء الجسم.

وبين الأذين الأيمن والبطين الأيمن فتحة لها صمام (غطاء) يسمح بمرور

الدم من الأولى إلى الثانية، ولا يسمح بالعكس.

وبين الأذين الأيسر والبطين الأيسر فتحة لها صمام أيضًا؛ ولكنها أصغر من

الفتحة المتقدمة ووظيفتها كوظيفة تلك.

وكل من الشريان الرئوي والأبهر له ثلاثة صمامات تسمح بمرور الدم من

القلب إلى الشريان، ولا تسمح بالعكس.

وأعظم أمراض القلب هي التي ينشأ عنها تلف هذه الفتحات بحيث تضيق عن

المعتاد، أو تسمح برجوع الدم إلى عكس المجرى الطبيعي.

والقلب ينقبض من أعلى إلى أسفل؛ فينقبض أولاً الأذينان؛ فيندفع الدم منهما

إلى البطينين، ثم ينقبض البطينان؛ فيندفع الدم منهما إلى الشريان الرئوي من

الجهة اليمنى للقلب، ويندفع الدم إلى الأبهر من الجهة اليسرى للقلب.

وإذا اجتمع الدم الفاسد في الأوردة سار إلى الأجوف الأعلى، والأجوف

الأسفل، وانصب في الأذين الأيمن، ومنه إلى البطين الأيمن، ومنه إلى الشريان

الرئوي، فالرئتين لينصلح هناك (بخروج ثاني أكسيد الفحم منه، ودخول أكسجين

فيه من الهواء) ثم يعود الدم من الرئتين في الأوردة الأربعة التي تصب في الأذين

الأيسر، ومن الأذين الأيسر يندفع الدم إلى البطين الأيسر، ومنه إلى الأبهر

(الأورطى) ومن الأبهر يوزع على جميع أجزاء الجسم كافة، فيحمل إليها دمًا

صالحًا، وتنتهي جميع فروع الأبهر بعروق دقيقة جدًّا يتصل بعضها ببعض كشبكة

وهذه العروق هي المسماة بالشعرية تشبيهًا لها بالشعر، وينشأ منها أوردة صغيرة

(وهي العروق التي يتجمع فيها الدم بعد مروره على جميع أجزاء الجسم ولونه أسود)

وهذه الأوردة الصغيرة يجتمع بعضها ببعض؛ فيتألف منها أوردة أكبر فأكبر حتى

تنتهي إلى الأجوف الأعلى والأجوف الأسفل، وهما أعظم وريدين في الجسم.

ومن ذلك يُعلم أن الشريان هو العرق الحامل للدم الصالح، والوريد هو العرق

الحامل للدم الفاسد، وهذه التسمية صحيحة في الجسم كله ماعدا الشريان الرئوي

فإنه يحمل دمًا فاسدًا، وما عدا الأوردة الأربعة الرئوية؛ فإنها تحمل دمًا صالحًا،

ولذا رأى المشرحون تعريفًا آخر أصح، وهو أن الشريان هو كل عرق يحمل الدم

الخارج من القلب، والوريد كل عرق يحمل الدم الذاهب إلى القلب بقطع النظر عن

صلاحه أو فساده.

ومما تقدم يُعلم أن الدم في دورته في الجسم كله لا يخرج مطلقًا عن العروق

(الشرايين والأوعية الشعرية والأوردة) إلا إذا أصابها حادث تمزقت بسببه فيخرج

إذًا منها، وينسكب حولها، ويسمى ذلك بالرض أو الكدم [1] ، وهو الزرقة التي

تشاهد في الجسم عند ضربه أو اصطدامه بجسم صلب.

ويستثنى من ذلك موضعان ليس فيهما أوعية شعرية، فيسير الدم من

الشرايين إلى تجاويف فيهما، ومنها إلى الأوردة وهما الذكر والطحال، وانصباب

الدم في هذه التجاويف بكثرة في الذكر تُحْدِث انتصابه.

أما الأشياء الصالحة التي في الدم فتخرج مع مائية الدم من خلال جدر

الأوعية الشعرية لتعذية جميع خلايا الجسم.

وأما الكريات الدموية فهي التي تبقى دائمًا في داخل العروق، إلا في الأحوال

الالتهابية، والمواد المائية الخارجة من الأوعية الشعرية تفعل ذلك بطريقة الإسموز

الذي سبق بيانه في علم الطبيعة.

عدد ضربات القلب والنبض:

انقباضات قلب الإنسان تبلغ في الدقيقة الواحدة نحو 70 أو 72 مرة في الذكر

ونحو 80 في الأنثى، وهي في الأجنة والأطفال أكثر منها في غيرهم، وتقل في

الشيوخ، وقد تزيد هذه الانقباضات في كثير من الأحوال، كما في الخوف الشديد

وفي الحميات وغير ذلك، وقد تكون هذه الانقباضات أو الضربات قليلة في بعض

الأشخاص بدون مرض، وهي تضعف في بعض الأمراض وخصوصًا قبيل الموت،

والدورة الدموية تتم في أقل من نصف دقيقة.

وكلما انقبض القلب اندفع الدم منه إلى الشرايين؛ فيحدث فيها امتلاء فجائيًّا

وهو المسمى بالنبض، وهو الذي يجسه الأطباء فوق الرسغ وغيره لمعرفة حالة

ضربات القلب، والنبض لا يُشْعَر به عادة في الأوردة؛ لأن قوة الضغط إذا

وصلت إلى الأوعية الشعرية التي بين الشرايين والأوردة تكون قد قلت، حتى لا

يشعر الإنسان في الأوردة بضغط جديد متكرر كما في الشرايين، وعدد مرات

النبض في الشرايين تعادل تمامًا مرات ضربات القلب وتحدث بعدها مباشرة، إلا

أنها في الشرايين البعيدة تتأخر فترة قصيرة جدًّا عن ضربات القلب.

الدم:

يوجد في جسم الإنسان عادة 1/13 من وزن جسمه دماء، فيكون القدر الذي

في جسم الكهل المعتاد 5 إلى 6 لترات من الدم، وهو سائل أحمر اللون غليظ

يتركب ميكروسكوبيًّا من قسمين الأول الكريات، والثاني ماء الدم وهو المسمى

بالإفرنجية (plasma) .

أما الكريات فهي نوعان: كريات حمراء وهي عبارة عن غشاء رقيق ممتلئ

بمادة حمراء زلالية فيها جزء من الحديد تسمى (الهيموجلبين) ، ويختلف شكل هذه

الكريات الحمراء باختلاف الحيوانات، ففي ذوات الثدي تكون أقراصًا مستديرة

مقعرة من الجانبين ولا نواة لها، ما عدا الجمال فإن كراتها محدبة من الجانبين،

وهو الفرق الوحيد بينها وبين الحيوانات الأخرى الثديية.

أما في الطيور والزواحف والأسماك وذوات الحياتين، وهي التي تعيش في

الهواء والماء [2] ، كالضفادع فكرياتها جميعًا بيضاوية الشكل محدبة من الجانبين،

ولها نواة وحجم هذه الكريات كلها يختلف باختلاف الحيوانات، وأعظم منشأ

للكريات الحمراء هو العظام الإسفنجية كما سبق، وخصوصًا عظام الضلوع وهي

أهم مصدر لها.

وأما الكريات البيضاء، فهي خلايا حيوية ولها نواة واحدة أو أكثر وحركة

ذاتية، بحيث يمكن أن تنتقل من مكان إلى مكان بنفسها، وهي تنشأ من الغدد

اللمفاوية ونحوها كالطحال، وأعظم وظيفة لها أنها تقتل الميكروبات، وتأكلها فتنقي

الدم منها، فإذا أصاب جزءًا من الجسم عارض أحدث فيه التهابًا، ودخل فيه بعض

الميكروبات أسرعت هذه الكريات البيضاء إليها؛ فالتقمتها وقتلتها فإن تغلب

الميكروبات مرض الجسم، وإن نجحت الكريات في قتالها وقت الجسم من شر هذه

الميكروبات، وما يموت منها في أثناء هذا القتال يتجمع في موضع الالتهاب

مختلطًا بغيره، ويسمى بالمِدّة أو الصديد، فأكثر كريات المدة عبارة عن شهداء

هذي الحرب، أي كرات بيضاء ميتة.

أما عدد الكريات الحمراء في الجسم، فهو 5 ملايين كُرية في كل ملليمتر

مكعب من الدم تقريبًا، وأما البيضاء فهي من سبعة آلاف إلى عشرة، وسيأتي في

فصل التنفس الكلام على وظيفة الكريات الحمراء.

وإذا خرج الدم من العروق تجمد، وتجمده يحصل هكذا:

ينفصل من مائية الدم مادة تسمى (الفبرين) أو (الليفين) لأنها كخيوط

الليف؛ فتحيط هذه الألياف بالكريات البيضاء والحمراء، وتنقبض عليها وتكوِّن

الجزء المتجمد الذي يسمى بالعربية العلقة [3](clot) ، وما بقي من ماء الدم

يسمى المصل.

وفي الدم مواد زلالية وسكر (جلوكوز) وأملاح عديدة، ومواد دهنية، وماء

وغير ذلك أما مائية الدم إذا خففت بماء أكثر أو قلَّ، زلالها فتسمى اللمف.

ومما تقدم يُعلم أن الدم في دورته يحمل معه جميع المواد المغذية التي يحتاجها

الجسم، وكذلك يأخذ معه من الجسم المواد التالفة التي تخلفت عن الاحتراق

الجثماني؛ ليوزعها على الأعضاء المختصة بإخراجها من الجسم كالجلد والكُليتين،

وأهم هذه المواد التالفة البولينا، وحامض البوليك والكرياتينين وغير ذلك.

حكم تحريم شرب الدم في الشرائع الإلهية:

(أولها) : أن الدم عسر الهضم جدًّا، حتى أنه إذا انصب جزء منه في

المعدة تقيأه الإنسان، أو يخرج مع البراز بدون هضم على صورة مادة لزجة سوداء،

والسبب في عسر هضمه هذا هو وجود المادة الحمراء الحديدية التي فيه، وفي

أثناء مرور الدم في القناة الهضمية يتحلل ويتعفن؛ وبذلك يضر الجسم أيضًا ومسألة

عسر هضمه المذكورة هنا مشاهدة كثيرًا كلما انصب دم في المعدة بسبب جرح أو

غيره.

(ثانيها) : أن الدم - كما سبق - يحمل كثيرًا من المواد المتخلفة عن الجسم

وهي فضلات له، فلا يصح إعادتها إليه، مع أن الطبيعة اقتضت خروجها منه،

نعم قيل إن البولينا نافعة في السل الرئوي؛ ولكن ذلك لم يثبت إلى الآن، وهي

ليست موجودة وحدها، بل معه أشياء أخرى ضارة.

ولعله إذا ثبت أن البولينا نافعة يكون ذلك أحد أسباب شرب العرب بول

الإبل، وهو يختلف بعض الاختلاف عن بول الحيوانات آكلة اللحم؛ فلهذا ربما

كان نافعًا في بعض الأمراض كما ورد في بعض الأخبار النبوية.

وأعظم اختلاف بين هذا البول وبين الأبوال الأخرى أنه هو وغيره من أبوال

آكلات النباتات قلوي التأثير، مشتمل على كثير من الكربونات، وهي لا شك نافعة

للمعدة وغيرها، مدرة للبول.

(ثالثها) : أنه في كثير من الأمراض العفنة المعدية يوجد في الدم ميكروبات

ضارة جدًّا، وكذا سمومها القتالة؛ فإنها تدور في الدم، فإن قيل لم لا يطبخ الدم

ويؤكل بعد قتل هذه الميكروبات بالغلي، قلت:

1-

إن الغلي يجمد جميع المواد الزلالية التي في الدم؛ وبذلك تصير أشد عسرًا

مما كانت.

2-

إن من هذه السموم ما لا يتغير بالغلي تغيرًا يجعلها صالحة للجسم.

3-

إن بعض الميكروبات إذا تجمد ما حولها من المواد الزلالية التي في الدم

وقتها من فعل النار؛ لأنها موصلة رديئة للحرارة، وأيضًا فإن حبيبات (أي

بزور) الميكروبات تقاوم درجة الغليان بضع دقائق، فإذا لم تمت نمت في جسم

آكل الدم وأمرضته.

أما حقن دم الحيوان في وريد الإنسان، ففيه أنه قد ينقل المرض إليه، أو

يجمد الدم في عروقه، فإن اتقينا هذا وذاك بالطرق العلمية انحلت كريات الدم

الحمراء لاختلاف كثافة الدمين ولغير ذلك ونزلت حمرة الدم في البول وذلك ضياع

له.

ولذلك لا يحقن الأطباء الآن الدم، ويحقنون عادة محلول ملح الطعام، على

أن حقن الدم خارج عن موضوع التحريم.

اللمف والأوعية اللمفاوية:

إذا خرجت مائية الدم من الأوعية إلى أنسجة الجسم عادت إلى الدم ثانية

بطريق الأوعية اللمفاوية، وهذه الأوعية عبارة عن قنوات دقيقة شعرية منتشرة في

جميع أجزاء الجسم، وفيها صمامات عديدة؛ فتحمل جميع مائية الدم التي خرجت

منه وتعيدها إليه.

أما هذه المائية المخففة [4] والمالئة لجميع أجزاء الجسم، فهي المسماة (بالمادة

اللمفاوية) و (لمفا) كلمة لاتينية معناها الماء.

وجميع الأوعية اللمفاوية التي في الذراع الأيمن، ونصف الصدر الأيمن وما

حوى، ونصف الرأس والعنق الأيمن، وأعلى سطح الكبد كلها تجتمع وتصب في

قناة واحدة تسمى (القناة اللمفاوية اليمنى) وهذه تصب في أحد الأوردة التي في

داخل الصدر من أعلى الجانب الأيمن.

أما الأوعية اللمفاوية الباقية فتصب في قناة أخرى عظيمة تسمى (القناة

الصدرية) ، وهي أيضًا تصب في أحد الأوردة في أعلى الصدر من الجهة اليسرى.

ويوجد في طريق جميع هذه الأوعية اللمفاوية غدد من مادة مخصوصة تسمى

(الغدد اللمفاوية) ، ووظيفتها تكوين كريات بيضاء للدم وتصفية جميع المادة

اللمفاوية المارة بها من كل ما فيها من الميكروبات وغيرها، فإذا أصاب أحد أصابع

اليد جرح مثلاً فسد؛ بسبب وجود ميكروبات فيه أحس الإنسان بانتفاخ وألم في

إبطه، وذلك ناشىء من كبر حجم هذه الغدد وانفعالها انفعالاً شديدًا لقتل الميكروبات

الواصلة إليها، فإن تغلبت عليها وإلا تحولت إلى خُرَّاج بسبب موت كثير من

الكريات البيضاء التي فيها من عراكها مع الميكروبات كما سبق.

وهذه المادة اللمفاوية تندفع نحو القلب بسبب ضغط المواد اللمفاوية المتجددة

خلفها، وبسبب حركات العضلات، وأيضًا بسبب انقباض بعض هذه الأوعية

اللمفاوية على ما فيها وغير ذلك، ويمنع رجوع هذه المادة إلى الأنسجة ما في هذه

الأوعية من الصمامات العديدة.

ويوجد في بعض الحيوانات التي تحت رتبة الإنسان (وهي الواطئة)

كالضفادع مثلاً قلوب لتحريك هذه المادة اللمفاوية كقلب الدم الموجود في الإنسان

وغيره.

دم الحيض:

ينشأ دم الحيض من تمزق في أوعية الدم الموجودة في الغشاء المخاطي

المبطن للرحم في كل شهر قمري مرة على الغالب، ويختلط هذا الدم في أثناء

نزوله بمواد مخاطية وأحماض وغير ذلك من مفرزات الرحم وغيره، ولا يعلم

سبب هذا التمزق الشهري إلى الآن، ومن ذلك يُفْهَم أنه ليس دمًا صافيًا نقيًّا، بل

مختلطًا بمفرزات الرحم والمبيضين وغيرهما، وتأثيره في ورق عباد الشمس يدل

على حموضته؛ وإنما حُرِّم الجماع في زمن الحيض للأسباب الآتية:

1-

إن تهييج أعضاء الأنثى بالجماع في هذا الوقت قد يحدث احتقانًا،

فالتهابات رحمية أو مبيضية أو حوضية تضر بصحتها ضررًا بليغًا، وربما نشأ

عن هذا الالتهاب تلف في المبيضين أو مجاري البيوضة يؤدي إلى العقم، وأيضًا فإن

تعريض الأنثى للهواء في هذا الوقت يضر بأعضائها الداخلية وقد يحدث فيها التهابًا.

2-

إن دخول مواد الحيض في مجرى قضيب الرجل قد يحدث فيه التهابًا

صديديًّا في بعض الأحيان، وهذا الالتهاب يشبه السيلان، وقد يمتد إلى الخصيتين

فيؤذيهما وربما نشأ عن ذلك أيضًا عقم الرجل.

فجملة القول: أن الجماع في المحيض قد يُحْدِث عقمًا في الذكر والأنثى،

ويؤدي إلى التهاب أعضائهما الذي يفسد صحتهما، وكفى بذلك ضررًا؛ ولذلك تجد

أطباء العالم المتمدن الآن ينهون عن الجماع في ذلك الوقت، كما نهى القرآن عنه،

فإنه لا شك أذى للرجل والأنثى.

النزف والنزيف:

النزف معناه: خروج الدم من أوعيته (الشرايين والأوعية الشعرية والأوردة)

والنزيف: هو الدم المنزوف، والنزف ثلاثة أنواع:

1-

نزف إلى خارج الجسم كأن ينصب الدم على الأرض مثلاً.

2-

نزف في تجاويف الجسم كأن ينصب في البطن.

3-

نزف في داخل الأنسجة كأن ينصب تحت الجلد، أو في العضلات وهذا

النوع الأخير هو المسمى بالرض، أو الكدم كما سبق.

وسبب النزف هو تمزق العروق بسبب ما كحادث يقطع العرق، أو مرض

يفجره كالدرن أو الزهري أو مرض القلب.

أما النزيف الذي يكون خارج الجسم، أو في تجويفه فالغالب أنه ينتهي

بالموت إذا كان غزيرًا، بشرط أن لا يعوقه عائق يسد العرق الذي يخرج منه الدم،

ففي هذه الحالة لا يموت الشخص، وإنما يصاب بدوار شديد واصفرار، وبعد ذلك

تعود إليه صحته شيئًا فشيئًا كلما تجدد دم بدل الجزء المفقود.

وأما النوع الثالث وهو الذي ينسكب في أنسجة الجسم، فهذا في الغالب لا

يورث ضررًا كبيرًا؛ لأن كمية الدم تكون عادة قليلة بسبب ممانعة أنسجة الجسم

للنزيف، وقد يحدث في مكان الدم خُرّاج.

أما في الحالة الأولى والثانية؛ فإذا فُقِدَ دم كثير من الجسم اشتد الدوار

والاصفرار كما قلنا، ويصاب الإنسان بما يسمى في علم الطب بالهبوط (أو الهمود)

فيغمى عليه، ويضعف نبضه، ويصاب الجسم بعرق بارد، وتبرد الأطراف،

وبعد ذلك يموت الشخص، وقد يتشنج جسمه قبيل الموت.

وأما في النزف داخل الأنسجة؛ فيزرق الجلد إذا كان الدم المنسكب قريبًا منه،

وبعد بضعة أيام تأخذ هذه الزرقة في التلاشي تدريجيًّا، حتى يعود الجسم كما كان

ذلك بأن يمتص الدم المنسكب شيئًا فشيئًا، حتى يعود إلى العروق، وإن كان منحلاًّ

إلا أنه يتركب مرة أخرى في البنية فإن عناصره لم تفقد.

المعالجة:

إذا قُطع عرق انكمش بسبب مرونته، وانقبض فمه بسبب الألياف العضلية

الموجودة في جداره، فيمتنع بذلك النزف إذا كان العرق المقطوع صغيرًا، أما إذا

كان عظيمًا فلا بد من عمل الإنسان لإيقاف النزيف، وإلا هلك الشخص.

ويوجد عدة طرق لإيقاف النزيف بعضها مؤقتة، وبعضها دائمة.

أما المؤقتة فتنحصر في الضغط على المكان الذي يخرج منه الدم، أو ربط

العضو ربطًا شديدًا، مثال ذلك أنا إذا رأينا رجلاً طُعن بسكين في ذراعه، وشاهدنا

دمًا كثيرًا ينزف منه وجب علينا في الحال أن نبحث في الجرح عن مكان خروج

هذا الدم، ونضغط عليه ضغطًا شديدًا بأصابعنا أو بيدنا أو نربط الذراع فوق الجرح.

ولا يترك الضغط أو الربط حتى يحضر الطبيب لإيقاف النزيف بالطرق

العلمية، ولا ضرر إذا استمر الضغط بضع ساعات؛ فإن العضو لا يموت من

الضغط إلا إذا امتنع عنه الدم فوق أربع أو ست ساعات.

وأما الطرق العلمية لإيقاف النزيف فأعظمها، وأهمها ما يأتي:

1-

أن يمسك العرق المفتوح بجفت مخصوص لذلك (أي مقبض)[5] ، ويربط العرق بخيط من حرير أو نحوه مطهرًا تطهيرًا تامًّا بالغلي في الماء.

2-

أن يمسك العرق بالجفت، ثم يلوى الجفت عدة مرات، حتى ينقطع العرق

وبهذه الوسيلة يقف النزيف ما لم يكن الشريان عظيمًا فيفضل ربطه.

3-

أن يمسك العرق إن كان صغيرًا بالجفت، ويترك عليه بضع دقائق، ثم

يرفع الجفت؛ فيقف أيضًا النزيف.

4-

وما يُستعمل في الأوعية الشعرية أو الصغيرة جدًّا هو أن يوضع على

مكان النزف قطعة من الثلج أو شيء آخر بارد؛ فتنكمش الأنسجة، والعروق

فيبطل النزيف.

5-

أن يوضع على مكان النزف ماء حميم (شديد الحرارة) أو يكوى بشيء

محمي بالنار، وقد كان القدماء يوقفون النزيف في الأعضاء المبتورة بوضعها في

الزفت حينما يغلي، ولكنها طريقة وحشية.

6-

أن يحشى المكان الذي ينبعث منه الدم حشوًا جيدًا بقطن أو قماش،

ويربط ربطًا شديدًا، وهذه الطريقة تستعمل كثيرًا في إيقاف الأنزفة من الأعضاء

الغائرة التي لا يمكن ربط عروقها كالرحم مثلاًَ.

7-

أن يوضع على الجرح مواد قابضة، إما مسحوقة، أو محلولة بالماء

أو بغيره كالشب، والقرض، ومغلي الشاي، ومغلي الرمان، والعفص، وماء

الجير وأملاح المعادن كالحديد والنحاس، وغير هذا كثير، وهذه الطريقة قَلَّ أن

تستعمل الآن إلا في الأوعية الصغيرة أو الشعرية.

8-

إذا كان النزف من داخل الأحشاء كالرئة أو المعدة، يجب أن يستلقي

المريض على ظهره، ويمتنع عن كل حركة حتى الكلام، ويوضع الثلج على

العضو الذي ينزف منه الدم، ثم يستدعى الطبيب في الحال.

وأحسن ما يعطيه الطبيب في مثل هذه الأحوال هو مركبات الأفيون

والجويدار (وهو مادة فطرية تسلقية تنمو على نوع من الشعير يسمى الشيلم)

وكلوريد الكلسيوم وغيرها، وهذه الأدوية توقف النزيف، إما بإضعاف ضربات

القلب، أو بقبض أوعية الدم، أو بجعل الدم أقرب إلى التجمد مما كان.

أما النزف في داخل تجاويف الجسم كالبطن مثلاً إذا تمزق عضو فيه؛

فيعرف ذلك بحصول هبوط شديد عقب الإصابة مباشرة أو بعدها بقليل، واصفرار

زائد في جميع الجسم، وصغر في النبض، ومعنى ذلك أن يشعر الإنسان المتمرن

بأن الأوعية الدموية ليست بممتلئة بالدم كالمعتاد، وإذا جس البطن في مكان

الإصابة وجد فيه انتفاخًا وألمًا وأصمية يعرفها الطبيب عند القرع، وإذا كانت

المعدة أو الأمعاء هي المصابة تقيأ الشخص دمًا أو وجد في برازه؛ وإذا كانت

الإصابة في الكُلية وما يتبعها بال الشخص دمًا.

فهذه العلامات وأمثالها تدلنا على النزيف الداخلي، فالإسعاف الواجب في مثل

هذه الحالة أن يُلقى الشخص على الأرض، وترفع كل الوسائد من تحت رأسه

وتدفأ أطرافه السفلى، ويؤمر بالامتناع عن كل حركة حتى الكلام، ولا بأس من

وضع شيء بارد على البطن إذا كانت الإصابة فيه.

ثم يستدعى الطبيب في الحال، ولا حيلة للطبيب في مثل هذه الحالة إلا عمل

عملية عظمى بأسرع ما يمكن، وفيه يفتح البطن وتربط الأوعية النازفة، وتخاط

جميع الجروح، وينظف البطن من الدم الذي انسكب فيه.

أما علاج النزف تحت الجلد، أو في العضلات فيكون بوضع أشياء مبردة

على موضع الإصابة؛ فإنها تقبض الأوعية، وتعوق النزف أو تمنعه، وإذا لم

توجد هذه الأشياء المبردة، فالأحسن ربط العضو فإن ذلك أيضًا يوقف النزف

بسبب الضغط، ويجب إراحة العضو المرضوض كمال الراحة.

ومن الخطأ وضع الأشياء الدافئة على المكان المرضوض والدلك في أول

الأمر؛ فإن ذلك مما يزيد في النزف، ولا بأس من وضع الأشياء الدافئة بعد مضي

عدة أيام لمساعدة امتصاص الدم المنسكب.

أما علاج البنية بعد إيقاف النزيف فيكون كما يأتي:

يوضع الشخص بحيث يكون الرأس منخفضًا عن باقي الجسم، ويدفأ تدفئة

تامة، وتدلك أطرافه، ويستحسن أن تلف بلفائف من أسفل إلى أعلى، والغرض

من ذلك كله دفع الدم إلى الدماغ، ثم يُعطى كميات كبيرة من المرق أو اللبن أو

الماء ليشربه، وتعطى له أيضًا بعض المنعشات، وأحسنها الخمر والقهوة والشاي

أو محلول النوشادر المخفف (من 10 إلى 20 نقطة) أو الأثير (من 10 إلى 30

نقطة) ويحترس من تصاعد الأثير في الهواء؛ فإنه إذا وصلت إليه النار أحدث

فرقعة عظيمة خطرة، وكذلك إذا استنشقه شخص بمقدار عظيم تحصل له غيبوبة

تامة.

وللطبيب في هذه الحالة أن يحقن المصاب تحت الجلد بمادة الإستركنين

(بمقدار مليجرام إلى ثلاثة) أو بسترات القهوين أو البنين (بمقدار ربع أو نصف

جرام) ويحقن أيضًا بمحلول ملح الطعام بنسبة سبعة جرامات ونصف في كل لتر

(أي قدر ملعقتين صغيرتين في رطلين من الماء تقريبًا) ، ويحقن برطلين إلى ثلاثة

فأكثر من هذا المحلول تحت الجلد، أو في الشرج أو في الأوردة، والغرض من

هذا الحقن ملء أوعية الدم بسائل بدل الدم المنزوف؛ ليستمر القلب في عمله،

وليتغذى الدماغ بما بقي من الدم في الجسم، ويسمى ذلك المحلول بمحلول الملح

الطبيعي أو بالمصل الصناعي.

ويجب الاحتراس من عمل هذه الأدوية المنعشة، والحقن المالئة للعروق قبل

إيقاف النزيف بالطرق العلمية السابقة، وإلا فإن النزف يعود ثانية إذا امتلأت

العروق بالسوائل وانتعش القلب، ويكون في هذه الحالة أشد خطرًا على الشخص.

ويقسم النزف باعتبار وقت حصوله إلى ثلاثة أقسام:

1-

ابتدائي: وهو الذي يحصل من الإصابة نفسها.

2-

انتعاشي: وهو الذي يحدث بعد انتعاش الجسم إذا لم تربط الأوعية.

3-

ثانوي: وهو الذي يحصل بعد مضي 24 ساعة من حصول الإصابة؛

بسبب أن الطرق التي أجريت لإيقاف النزيف لم تكن محكمة، أو كانت عفنة، أو

كان الشخص مصابًا بالزهري أو غيره، فيُفَك الخيط الذي رُبط به الشريان أو

يسقط، أو يتقرح الشريان المربوط بسبب عدم تطهير الخيط، أو يحدث غير ذلك

غالبًا، ولا يتدفق النزف الشرياني، ولون الدمين مختلف، فالشرياني أحمر،

والوريدي يميل إلى السواد، ويعالج قبل حضور الطبيب بربط العضو من أسفل

الجرح، لا من أعلاه، وباقي العلاج هو كما في النزف الشرياني.

الرعاف:

الرعاف نزف يحصل من باطن الأنف وأسبابه عديدة تنحصر في نوعين:

1-

أسباب عرضية: وهي التي تحدث من إصابة الأنف بصدمة أو غيرها تجرحها أو تكسر عظامها.

2-

أسباب مرضية: وهي أيضًا نوعان:

أ- موضعية وهي إصابة الأنف نفسه بمرض كالزهري أو الدرن أو التهاب

غشائها المخاطي التهابًا حادًّا شديدًا (وهو المسمى بالزكام) .

ب - عمومية: وهي كثيرة منها أمراض الدم كالإسكربوط [6] والأرجوانية

(الفرفورة)[7] والصفار (الأنيميا) وبعض الحميات العفنة (مثل الحمى الراجعة)

وكأمراض القلب والكبد والكُلى.

وقد يحصل الرعاف في الأطفال والفتيات والفتيان، ولا يُعلم له سبب سوى

رقة أنسجة أجسامهم، فكثيرًا ما تشاهد بعض البنات في سن البلوغ يحصل لها

رعاف كثير، ويتكرر ذلك عدة سنين حتى إذا كبرت زال من نفسه.

وفي جميع تلك الأحوال السابقة سواء أكانت موضعية أم عامة يحصل النزف

بتمزق شريان، أو وريد صغير في غشاء الأنف المبطن له، ويكثر تمزيق عرق

صغير يُشاهد في الجزء الأمامي الأسفل الحاجز بين المنخرين.

المعالجة:

تختلف باختلاف سبب النزيف - ففي الرعاف العادي للأطفال والشبان يجلس

الشخص، وتُرفع ذراعاه حتى تكون أعلى من رأسه، ويوضع الثلج على قفاه،

ويستنشق الماء البارد، أو أي محلول قابض كالشب أو مغلي الشاي باردًا وغير

ذلك كثير، فإن تعاص الرعاف بعد ذلك يحقن الراعف بشيء قليل من خلاصة

الجويدار تحت الجلد، أو يحشى الأنف حشوًا جيدًا بالموصلي (الشاش) المغموس

في شيء قابض كالدّرمتول [8] أو الشب وغيره، وإذا لم يوجد شيء من ذلك، وكان

النزف من جزء قريب أمكن إيقافه بالضغط على الأنف نفسه، أو بإدخال قطعة من

القطن بجفت أو نحوه والضغط بها على العرق النازف.

***

جهاز التنفس

الغرض من التنفس دخول هواء صالح إلى الرئتين ليتحد أكسجينه بالدم فيهما؛

فينصلح بذلك، وبخروج بعض أشياء ضارة منه أهمها غاز ثاني أكسيد الفحم.

فإذا دار الدم في الجسم حمل إليه هذا الأكسجين؛ فإنه ضروري جدًّا للاحتراق

اللازم لحياة الجسم.

ومجاري الهواء هي الأنف، ثم الحلق، ثم الحنجرة، ثم القصبة الهوائية، ثم

الشعبتين، ثم الشعب الكبيرة، ثم الشعب الصغيرة، ثم التجاويف القمعية، فالخلايا

الهوائية، أو الحويصلات الرئوية.

وإنما بدأنا بالأنف؛ لأنه هو المسلك الطبيعي للتنفس لا الفم، وذلك لأن في

الأنف شعرًا ينقي الهواء من بعض قاذوراته، وميكروباته، وفيه أيضًا أجزاء

مخصوصة ممتلئة بالدم؛ فتسخن الهواء قبل وصوله إلى الرئتين، وأما إذا كان

التنفس من الفم؛ فإن الهواء يكون حاملاً لكثير من الميكروبات والقاذورات الضارة

بالرئتين وبالجسم كله، ولا يسخن الهواء بمروره من الفم كسخونته إذا مر بالأنف

فيكون أبرد؛ فيحدث سعالاً إذا وصل إلى الرئتين، أو التهابًا في الحنجرة أو

الشعب الرئوية.

ولذلك يجب حتمًا تعويد الناس عدم التنفس إلا من الأنف خصوصًا وقت

نومهم في الليل.

أما الحلق أو الحلقوم: فهو تجويف متصل بالأنف والفم والحنجرة والمريء

(البلعوم) وموضعه خلف تجويف الفم، ويمر به الطعام والشراب وهواء التنفس.

وأما الحنجرة فهي جهاز الصوت، وموضعها في أسفل الحلقوم وفي الجزء

الأمامي من العنق، وهي محاطة بغضاريف تحمل حبلين يسميان (الحبلين

الصوتيين) وهما أقصر في النساء منهما في الرجال، وبينهما فتحة ضيقة لمرور

الهواء منها، وفي أعلاها قطعة كاللسان تشبه الغطاء تسمى (لسان المزمار) تساعد

على منع دخول أي شيء في الحنجرة أثناء البلع.

والحبلان المذكوران هما اللذان يُحْدِثان الصوت؛ بسبب اهتزازهما إذا اندفع

الهواء من بينهما، ويتنوع الصوت بمروره في تجويف الحلق والفم والأنف،

والكلام عبارة عن تقطيع هذا الصوت المتولد من اهتزازهما؛ فيتقطع بالشفتين

واللسان وغيرهما، وهذا الاهتزاز يحدث تماوجًا في الهواء [9] يتصل إلى طبلة

الأذن فيسمعه الإنسان.

ونجد في أسفل الحنجرة القصبة الهوائية، وهي منفصلة عن المريء انفصالاً

تامًّا، وتمتد من الفقرة الخامسة العنقية إلى نقطة أمام الفقرة الثالثة الظهرية، وهناك

تنقسم إلى قسمين لكل رئة قسم، وهما الشعبتان.

وكل شعبة منهما تمتد إلى الرئة، وتنقسم إلى عدة أقسام، وكل قسم إلى أقسام

أخرى كالشجرة، إلى أن تنتهي بشعب صغيرة جدًّا، وهذه الشعب الصغيرة تنتهي

بتجاويف صغيرة قمعية الشكل، وهي المسماة بالتجاويف القمعية، وفي حيطان هذه

التجاويف أبواب للخلايا الهوائية، أو الحويصلات الرئوية، ومن هذه الأبواب ما

يوصل إلى خلية واحدة، ومنها ما يوصل إلى عدة خلايا مجتمعة معًا وهو الأكثر.

وجميع المجاري التنفسية مبطنة بغشاء مخاطي لخلاياه السطحية أهداب (ما

عدا الحويصلات والتجاويف القمعية) تتحرك من أسفل إلى أعلى، ووظيفتها طرد

ذرات التراب وغيره إلى الخارج، ومن التجاويف القمعية تتكون فصيصات الرئة.

وصف الرئتين:

الرئة اليسرى مكونة من جزأَيْنِ عظميين يسميان الفصين، واليمنى مكونة من

ثلاثة فصوص كبيرة، وهذه الفصوص مركبة من الفصيصات المذكورة.

وكل رئة مغطاة بغشاء مصلي يسمى (البليورا) كأنه كيس مختوم من جميع

جهاته انبعج بدخول الرئة فيه؛ ولذلك يغطى سطحها بطبقة منه، والطبقة الأخرى

تغطي الضلوع، والبليورا كلمة يونانية معناها الجنب.

أما الدم فيصل إلى الرئتين بواسطة الشريان الرئوي الذي سبق ذكره، وهناك

ينقسم الشريان إلى عدة فروع، حتى تصير شعرية، وهذه الأوعية الشعرية منتشرة

في حيطان جميع الحويصلات الرئوية والتجاويف القمعية، وليست متصلة بالهواء،

وإنما يصل إليها الأكسجين، ويخرج منها غاز ثاني أكسيد الفحم وغيرهما بطريقة

الإندوسموز، والإكسوسموز، وقد سبق تفصيلهما (في صفحة 24من هذا الكتاب)[**]

فإذا انقطع ما بين الدم الذي في هذه الأوعية الشعرية والهواء حدث نزف رئوي.

واعلم أن الرئتين في الصدر كأنهما في صندوق مغلق من جميع جهاته ما عدا

فتحة واحدة وهي الحنجرة المتصلة بالفم والأنف، ولبيان كيفية حصول التنفس

نقول:

إذا فرض أن هذا الصندوق كان كيسًا من جلد أو نحوه، وشُدَّت جوانب هذا

الكيس حتى اتسع تجويفه دخل الهواء بقوة الضغط الجوي؛ ليملأ هذا التجويف

المستجد، فإذا حال بينه وبين إتمام غرضه شيء آخر تمدد أمام الهواء، وإلا انفجر،

وهذا هو عين ما يحصل في الصدر؛ فإنه يتسع فيدخل الهواء إلى الرئتين

فيمددهما في أثناء الزفير (وهو جذب الهواء إلى الصدر) فإذا انتهت حركة الزفير

عادت الرئة إلى حجمها الأصلي بسبب مرونتها فخرج الهواء منها، ويسمى

خروجه منها بالشهيق.

كيفية تمدد الصدر واتساعه:

اعلم أن الضلوع متصلة بالعمود الفقري من الخلف، ومتجه كل منها إلى

الأمام والأسفل، فإذا انقبض ما بينها من العضلات ارتفعت هي والقفص؛ فاتسع

بذلك تجويف الصدر من جميع جوانبه.

وهناك عضلة شهيرة تفصل الصدر عن البطن تسمى (بالحجاب الحاجز)

وهي مقعرة من أسفلها ومحدبة من أعلاها كالقبة.

فإذا انقبضت هذه العضلة تحول تقعيرها إلى مسطح، ونزلت إلى البطن

فضغطت على الأحشاء كالكبد والطحال والمعدة، وبذلك يتسع الصدر في قطره

الرأسي.

ومما تقدم يُفْهَم أن الصدر في التنفس يتسع من جميع جهاته بارتفاع الضلوع

وبانخفاض الحجاب الحاجز فيضغط الهواء - كما قلنا - على الرئتين فيتسعان أمامه.

فترى من هذا أن الرئتين لا تتسعان بنفسهما، بل بحركة الصدر، فإذا فُرض

أن الصدر اخترق من أحد الجنبين مثلاً، بطل عمل رئة هذه الجهة لدخول الهواء

من الخرق، فإذا اخترق الجنبان مات الشخص في الحال بانطباق الرئتين، وبطلان

التنفس.

وحركة التنفس هذه وإن كانت تابعة للإرادة، إلا أن لها أعصابًا تفعلها بدون

إرادة الإنسان أو علمه، ومركز هذه الأعصاب هي (البصلة أو النخاع المستطيل)

وهي الجزء الذي بين النخاع الشوكي والمخ، ويسمى هذا المركز بمركز الحياة،

وتنبعث إليه منبهات في هذا المركز فتجري في الأعصاب المحركة لعضلات

الصدر، ولذلك نرى أنه إذا صُب الماء البارد على الجسم اشتدت حركة التنفس،

وكذلك إذا مس الهواء جسم الطفل المولود ابتدأ تنفسه.

أما الذي يحمل مركز التنفس على العمل الدائم في الحالة الطبيعية فأمران:

1-

حالة الدم، فإذا كثر أكسجينه استراح المركز من العمل، وإذا زاد في الدم

غاز ثاني أكسيد الفحم تهيج المركز للعمل، وقيل: إن الذي يهيجه هو نقص الأكسجين

من الدم، وهذا القول الأخير هو الراجح الآن عند علماء الفسيولوجيا.

2-

تمدد الرئتين بالهواء يحمل هذا المركز على إيقاف عمله؛ فترتخي

العضلات، وارتخاء العضلات الذي يتبعه هبوط الرئتين يحمل المركز على العمل؛

فتنقبض عضلات التنفس وهلم جرّا.

وهذا وما قبله هو السبب في حصول التنفس، ولو كان الإنسان نائمًا أو

مخدرًا بالكلوروفورم أو غيره.

ومما تقدم يُفهم معنى الحديث القائل: (ما ملأ ابن آدم وعاء شرًّا من بطنه،

بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا بد فاعلاً، فثلث لطعامه وثلث

لشرابه، وثلث لنَفَسه) .

فإن امتلاء المعدة يعوق نزول الحجاب الحاجز، ويضغط عليه، وعلى القلب

وبذلك يحصل عسر في التنفس، وضيق في الصدر، وخفقان في القلب.

أما عدد مرات التنفس في الدقيقة الواحدة فيختلف من 14 إلى 18 مرة في

الشبان، وحركة التنفس تختلف في الأطفال عنها في الرجال وفي النساء، ففي

الأطفال يحصل تنفسهم على الأكثر بنزول الحجاب الحاجز؛ فيضغط على الأحشاء؛

وبذلك يرتفع البطن، ويسمى هذا الضرب من التنفس (بالتنفس البطني) ، أما

في الرجال فأكثر حركة التنفس تُشاهد في الجزء الأسفل من الصدر مع بروز البطن

أيضًا، وفي النساء تشاهد الحركة على الأكثر في الجزء العلوي من صدرهن.

ويختلف أيضًا عدد مرات التنفس باختلاف الأعمار وبالراحة والتعب

وبالصحة والمرض، فيكون في الصغار، وفي الحميات وغيرها أكثر، وكذا بعد

التعب الجسماني أو الانفعال النفساني.

(يتبع)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

الرض: لغة الدق، والكدم: العض، وفي اصطلاح أطباء هذا العصر يطلق الأول على النزف تحت الجلد من الأوعية الكبيرة، والثاني عليه من الأوعية الصغيرة.

(2)

تسمى باليونانية وغيرها amphibia ومعنى amphi (كلتا) و bios (حياة) وهي تعيش

في البر والبحر.

(3)

يسمى أول طور من أطوار الجنين أيضًا بالعلقة؛ لأنه مركب من عدة خلايا (كريات) ناشئة من انقسام البويضة، وتكون قطعة جامدة كعلقة الدم.

(4)

نظرًا لعسر مرور المواد الزلالية خلال الأغشية بطريق الإسموز - كما سبق بيانه - كانت هذه المائية مخففة لقلة الزلال فيها لذلك السبب.

(5)

أرى أن الأحسن تسمية مثل هذا المقبض بالحاسم؛ لأنه يقطع الدم.

(6)

الإسكربوط مرض يحصل من عدم أكل النباتات والخضروات، أو أكل الأشياء المتعفنة، وأعراضه ضعف وتقرح في اللثة، ونزف من أجزاء كثيرة من الجسم، وفي منسوجها.

(7)

مرض يشبه الإسكربوط ويختلف عنه بعدم تقرح اللثة، وقلة فساد الصحة وبسببه وغير ذلك.

(8)

مادة مطهرة قابضة صفراء، وهي تحت عفصات البزموت، والكلمة يونانية معناها الجلد لنفع هذه المادة في بعض أمراضه.

(9)

لا بد لانتقال الصوت من وسط مادي غير الأثير يجري فيه، ولذلك لا يسمع الصوت في الفراغ فلا ينتقل من كوكب إلى كوكب كالنور، وهو أسرع سيرًا في الجامد منه في السائل، وفي السائل منه في الغاز.

(*) أي ما يطبع منه على حدة.

ص: 121

الكاتب: عن جريدة الأفكار العربية

‌الحق والقوة [*]

وبحث فلسفي عنهما بمناسبة الحرب الحاضرة

أو: درس ضروري لنا نحن السوريين خصوصًا

والشرقيين عمومًا

الجنرال فون برنهاردي قائد مجرب، له مكانة سامية في الجيش الألماني،

كما أنه عالم طبيعي شهير له مصنفات شتى في علم الأحياء (بيولوجيا) يُرْجَع

إليها، ويُسْتَقَى منها، وقد أصدر هذا الجنرال كتابًا في سنة 1913 دعاه (المنطق

والمبادئ في الحروب) ضمنه آراءه في الحرب، ووجوب الالتجاء إليها عادًّا إياها

فضيلة، فكان هذا المؤلَّف موضوع الأحاديث في الأندية العلمية والسياسية في

العالم بأسره، وزادت أهميته بعد إعلان الحرب الكبرى الحاضرة؛ لأن كثيرًا

من الأعمال الألمانية فيها أتت مصداقًا لما ورد في ذلك الكتاب - كأن أركان حرب

ألمانية كلهم هم الذين أنشأوه لا فردًا واحدًا من قوادهم.

ولما أكثرت المجلات العلمية والسياسية من البحث في هذا الكتاب، وتعاليمه

تصدت مجلة القرن التاسع عشر الشهيرة لنقده، فنشرت مقالة بليغة مسهبة في

عددها الأخير عنوانها " الحق والقوة " أردنا تعريبها والتعليق عليها؛ لأننا نحن

الشرقيين صرنا أحوج أمم الأرض إلى تعاليم الجنرال فون برنهاردي، وأشدهم

افتقارًا إلى من يذيعها بيننا، بعد أن شبعنا من التعاليم الأكليريكية، والمبادئ

الخيالية التي أذلتنا، وغيرنا عزَّ، وأفقرتنا، وغيرنا اغتنى، وأضعفتنا، وغيرنا

قوي وأفلح.

قالت مجلة القرن التاسع عشر:

اشتهر كتاب الجنرال فون برنهاردي الأخير لأنه لم يتضمن أبحاثًا سياسية

فقط، بل تضمن أيضًا أبحاثا فلسفية، وعمرانية، واجتماعية، تشهد له بالجرأة،

وطول الباع، وإننا في نقدنا فلسفةَ الاجتماع، ومبادئها الواردة في ذلك الكتاب

نحصر كلامنا فيما له علاقة بالحرب الحاضرة من تلك المبادئ، وأيضًا لما نحن

بصدده الآن ننشر أولاً أهم تلك التعاليم التي نرى برنهاردي يبشر بها وهي

مقتطفات من كتابه الآنف الذكر:

1-

تنازع البقاء:

قال: إن التنازع لأجل البقاء هو الناموس الأولي الذي لا مفر منه،لا في المجتمع الإنساني فقط، بل في العالم الحيواني بأسره، وبموجب هذا الناموس لا

يمكن إحراز النجاح والارتقاء من دون استئصال العضو الضعيف من المجتمع

فالضعيف - إذن - يجب أن يهلك ويفنى. بيد أن المجتمع البشري يختلف عن

غيره من المجتمعات الحيوانية في أن الإنسان له حياة فردية، وحياة عمومية معًا،

وهذه الأخيرة مرتبطة بالوطن الذي ينتمي الفرد إليه، ولذلك فإن ناموس تنازع

البقاء وبقاء الأنسب لا ينطبق تمام الانطباق على الإنسان، كما ينطبق على الحيوان؛

لأن الواحد من الحيوان لا ينظر إلا إلى مصلحته الخاصة فقط، أما الفرد البشري

- المرتبط بمجموع الأمة المنتمي هو إليها - فعليه نوع من المسؤولية نحو تلك

الأمة من حيث هي مجموع منتظم، والأمة - وهي مجموع أفراد - لا حياة لها إلا

بالتنازع أيضًا؛ ولكنها في هذا الجهاد يجب أن تلتجئ إلى نظام موافق، أو شريعة

عادلة تسري على الكل من دون تمييز، حتى إذا تعارضت مصلحة الفرد ومصلحة

الأمة، كان على الفرد أن يضحي بمصلحته الخاصة إذا اقتضت المصلحة العمومية

تضحيتها [1] أي أن المنفعة الشخصية يجب أن تضحي على مذبح المنفعة العمومية

عند الحاجة، وفي الهيئات الراقية المنظمة.

2-

القوة المحسوسة واجبة لحفظ المجتمع:

هذا من النظرة الشخصية الفردية، أما من النظرة العمومية فالمسألة فيها نظر

لأن الأمة الواحدة في أثناء معاملاتها مع سائر الأمم لا يجوز لها أن تسير بموجب

المبدأ الآنف الذكر، أي مبدأ تضحية الواحد لأجل الخير العام عند الحاجة إلى ذلك

بل يجب على الأمة كمجموع منظم أن تفسر الحق والعدالة تفسيرًا آخر يلائم

مصلحتها كما سترى.

لا يمكن تنظيم أمة ما لم يجتمع عدد كبير من أفراد تلك الأمة تحت لواء

المصلحة المشتركة بينهم، ومن العبث اجتماع البشر كلهم في أمة واحدة تحت نظام

واحد؛ لأن هذه النظرية لا يمكن تطبيقها. وتأليف أمم صغيرة ضعيفة غير

مستحيل غير أن حالة مثل هذه الأمم الصغيرة تستوجب الشفقة؛ لأن وجودها

مخالف للناموس الطبيعي، أي أن ليس لها حق الوجود، ودونك البرهان الحسي

العملي المعقول:

المقدمة المنطقية الأولى: إن البشر مضطرون بحكم نمو عددهم المضطرد

إلى تأليف جماعات طبقًا لناموس التعاون؛ ولكن هذه الجماعات تكون متباينة لا في

الكمية فقط، بل في الكيفية أيضًا.

المقدمة المنطقية الثانية: إن اختلاف العناصر، وعوامل الإقليم، والمناخ

وجدت منذ الأزل، وسوف تبقى بحكم الطبع إلى الأبد.

النتيجة المنطقية الثابتة: لذلك وجب تباين الأمم بعددها، وأنواعها؛ بسبب

تباين الأجناس، والألوان، والأخلاق، والعوامل الطبيعية من جيوغرافية وغيرها

من العوامل الخارجية، أي أنه وجب وجود أمم ضعيفة بين أمم قوية بحكم الطبع.

ولما كان ناموس تنازع البقاء - وهو ناموس طبيعي ثابت - يجبر الأمم على

حفظ كيانها، وعلى تقوية ذلك الكيان على حساب الضعيف من جيرانها [2] ، كان

من الضروري وجود ذلك التنازع بين الأمم الضعيفة، والأمم القوية، لذلك قلت

إن الأمم الضعيفة تستوجب الشفقة؛ لأنه لا حق لها بالوجود - ومن المستحيل

دوام وجودها، وهي عرضة لخطر الاضمحلال في كل حين بسبب التنازع

الطبيعي بينها، وبين القوي من جيرانها، ولا بد للقوي من استعمال قوته، وهذا

الاستعمال هو الحرب بأبسط معانيه، وأقول - بعبارة أوضح -: إن كل أمة يجب

أن تعتمد على القوة، على القوة وحدها، في أثناء معاملاتها العمومية مع سائر

الأمم، وإلا كانت أمة ضعيفة عرضة للفناء في كل حين.

انتقد الفيلسوف التلياني ماشيافللي مثل هذا التعليم بحجة أنه يرمي إلى اعتبار

القوة غاية الوجود لا واسطته؛ ولكن غاية الوجود (هي حماية مصالح الفرد،

وترقيتها حتى يصل إلى الدرجة المطلوبة من السعادة، والكمال) وهذه لا يمكن

الحصول عليها من دون مساعدة الأمة، والأمة لا يمكن أن تقوم بالحماية والترقية

ما لم تكن قوية، وقوتها لا تأتي إلا من حصر محبة بنيها لها وحدها أولاً، وإلا

فإنني لا أفهم كيف أن زيدا يحب خير العالم أجمع، وهو لا يحب خير أمته،

ووطنه، وجنسه، وعائلاته أولاً. فالواجب الإنساني إذن يقضي على المرء بمحبة

جنسه أولاً.

إذن أرى أن الناموس المسيحي القائل بالمحبة، والإحسان، والغيرية هو

أشرف ناموس في الكون؛ لكنه وُضِعَ لأجل العلاقات الفردية في الأمة الواحدة فقط

ولا يمكن تعميمه على الإنسان والإنسانية؛ لأن التعميم مخالف للنواميس الطبيعية

الثابتة، والتخصيص أولى، إذ إن الذي لا يحب أخاه القريب، لا يقدر على أن

يحب البعيد الغريب، وعلى هذا الرسول بولس ذاته فيلسوف الكنيسة المسيحية،

وواضع أهم تعاليمها.

3 -

فلسفة العدالة في المعاهدات والحروب:

ليست الحرب مقتصرة على اقتتال الجيوش فقط، بل الحرب اصطلاح

سياسي يعني وجود أمة تنازع أمة أخرى، سواء كان باستخدام السلاح، أو

باستخدام السياسة، والحروب السياسية تعنى مضايقة فريق لفريق آخر بواسطة

المعاهدات التجارية، أو المعاملات الاقتصادية من صناعية، وتجارية، وزراعية،

وما أشبه. وإذا لم يذعن أحد الفريقين للآخر بحرب السياسة يصير الالتجاء إلى

السلاح أمرًا لازمًا، غير أن مسؤولية رجال الحكومة في أثناء الحروب السياسية

تقضي عليهم بالمحافظة على مصالح الشعب، وإنماء ثروته، هذه هي الغاية الأولى

لهم. أما الواسطة فخاضعة لحكم الظروف، فإذا كانت الظروف تحوجهم إلى

إطراح المبادئ النظرية الأدبية جانبًا، فلهم ذلك لأنهم بهذا الانحراف يخدمون

المصلحة العمومية لا المصلحة الفردية، وإذا رأوا الخطر محدقًا بالشعب فعليهم

مباغتة العدو، والغدر به قبل أن يتم معداته حتى يقضوا على قواه الهجومية

والدفاعية، ويأمنوا شر تَنَازُعِه إياهم منافع البلاد، وثمار أراضيها، ومعاملها،

وهذا لا يأتي إلا بإنماء القوة المحسوسة وازديادها، ولذلك كانت القوة مظهرًا من

مظاهر العدالة؛ لأن الحروب عدل، وبها وحدها تَثْبُت العدالة على أساس متين.

وبرهانًا لذلك أقول:

لنفرض أن أمة إبان ضعفها خضعت بحكم السيف إلى جارها القوي، وسلمت

معه بشروط مكتتبة على ورق سموها معاهدة، ولنفرض أن تلك الأمة الصغيرة

صارت قوية على تمادي السنين فرأت أن تلك الشروط التي كانت قد رضيت بها

أولاً في أيام ضعفها صارت ثقيلة عليها، تضر بمصالح الشعب في أيام قوتها.

فالشعب في هذه الحالة الأخيرة صار يرى ذاته مغدورًا مغبونًا، وإذا هب

إلى تمزيق المعاهدة الأولى المجحفة بحقوقه فعمله هذا هو العدل بعينه، ولا يمكن

أن ترضى العدالة المجردة بغبن شعب كامل وغدره، ليس ذلك فقط بل إننا لا نقدر

أن ندعو الإذعان لشروط مجحفة عدالة وفضيلة، بل إن العدالة تقضي بتمزيق

المعاهدة المضرة الجائرة بواسطة المفاوضات السياسية أولاً التي أدعوها حربًا بطيئة

كامنة؛ فإذا نجحت فيه، وإلا فاستعمال السيف، والمدفع يصبح أمرًا واجبًا - ولا

يمكن أن يوجد الحق ويثبت ما لم يكن مُؤَيَّدًا بالسيف، ومدعومًا بالمدفع وقوة الساعد،

ولذلك كانت الحرب فضيلة. أي أن الحرب أمر ضروري للمجتمع الإنساني؛ لأنه

رمز العدالة، ومنشئ الشجاعة والجرأة في الأمة، ورفيق الحق والمطالبين به،

وإذا تُرِكَت الحرب تجبن الأمة عن المطالبة بحقوقها؛ فتبقى مغبونة مقهورة

ذليلة، ومثلها لا يثبت في ميدان تنازع البقاء؛ لأن ناموس بقاء الأنسب يقضي

عليها إن عاجلاً أو آجلاً، والأنسب هو الأقوى في كل حال.

هذه هي زبدة تعاليم الجنرال فون برنهاردي المدونة في كتابه الجديد (المنطق

والمبادئ في الحروب) ودونك مجمل الانتقاد العلمي الفلسفي البديع الذي نشرته

مجلة القرن التاسع عشر الطائرة الصيت في عددها الأخير قالت:

تعليق مجلة القرن الـ 19 على الكتاب الألماني:

ليس الجنرال فون برنهاردي وحده القائل هذا القول، ولا هو من وضع هذه

الفلسفة، أي فلسفة القوة والاعتماد عليها وحدها لأجل تثبيت الحق والعدالة، بل إننا

إذا أمعنا النظر، نرى أن معظم علماء الألمان وفلاسفتهم قالوا بهذا الرأي ونشروا

مثل هذه التعاليم من أرنست هكل العالم الطبيعي المعروف زميل شارلس دارون إلى

نياتش المادي الشهير، وغيرهما كثير، وليس من العدل والإنصاف أن نقلل من

أهمية هذه التعاليم لمجرد أنها صادرة عن أعدائنا؛ فإن (العلم مشاع بين جميع الأمم

وليس لوطنه حدود) فلندرس إذا مبادئ الجنرال برنهاردي، وتعاليمه بكل نزاهة

ولنمحصها في بوتقة التحري بقطع النظر عن قائلها.

قال أرسطو الفيلسوف اليوناني القديم: إن الفضيلة هي الوسط بين متضادين،

أي أن الشجاعة مثلاً هي فضيلة لأنها وسط بين الجبن والتهور، فالجبن رذيلة

لأنه دليل الذل، وصغر النفس، والتهور رذيلة أيضًا؛ لأنه دليل الحماقة والكبرياء

وكل هذه العيوب الأخلاقية تدل على وجود مرض بعقل المصابين بها،

وخصوصًا الغرور والكبرياء [3] ، وقس على ذلك الصدق، والكذب، والحق،

والباطل، وما أشبه ذلك من المتضادات.

وكم ضل أفاضل من الرجال سواء السبيل؛ لأنهم اتخذوا التطرف ديدنًا لهم

فكانوا بإهمالهم الصدق مثلاً يكذبون، وهم لا يدرون، وبتطرفهم بالتمسك بالحق -

حسب اعتقادهم - يخدمون الباطل وهم لا يقصدون، والحقيقة أن تعاليم الجنرال

برنهاردي مطابقة تمام المطابقة لتعاليم أرسطوطاليس كبير الفلاسفة، لولا ما بها من

تجسيم يبلغ حد الغلو أحيانًا فضلاً عن خلوها من رابط متين يربط الحق بالقوة كما

سترى.

***

(2)

إن الأساس الذي بنى عليه الجنرال برنهاردي كتابه هو التعليم القديم القائل إن

(الحق للقوة) ، والدعامة التي دعم بها ذلك الأساس هو تعليمه القائل بأن كل الآراء

المتعلقة بالحياة الاجتماعية والسياسية تكون آراء مضرة إذا تجاهلت كون الحق للقوة؛

لأنها أي الآراء ليست في هذا التجاهل سوى رياء وتضليل.

وبموجب تعاليم برنهاردي يكون الاشتراكيون مرائين، ويكون الراديكاليون

المتطرفون أكثر رياء وخداعًا، ليس ذلك فقط بل إن كل الفلاسفة الذين يخالفون

مذهب دارون القائل ببقاء الأنسب بعد التنازع لأجل البقاء، قد أضروا الهيئة

الاجتماعية؛ لأنهم دلوها على التواكل والاستسلام، وعلموها الحيلة والرياء،

وأبعدوها عن القوة - وهي الفضيلة المقدسة التي هي أساس كل الفضائل.

وللجنرال برنهاردي فضل عظيم في أنه شرح هذه التعاليم العملية، وحاول

تطبيقها على حالة أوربا السياسية الحاضرة، ولا شك في أنه صادق فيما يقول عن

القوة وتقديسها - تلك القوة التي صار الشعب الإنكليزي - تذكر أن الكاتب عالم

إنكليزي - يستخف بها، وينسبها إلى قبائل الزولوس المتوحشة حتى أنه أصبح في

الآونة الأخيرة يبالغ في تحقيرها وتحقير كل أمة تعتمد عليها؛ ولكن لما نشبت

الحرب الحاضرة أدرك الشعب خطأه وعلم أن من دون الاعتماد على القوة خطر

الغزوة الألمانية، وبالتالي خطر فناء إنكلترة من العائلة السياسية الكبرى.

ولا جدال في أن القوي تغلب يومًا على الضعيف جاره، واحتفظ بمركزه

المتفوق بالقوة الوحشية، وهذا ينطبق على الأمم كما على الأفراد، ولا جدال أيضًا

في أن كل حكومة راقية تضمن لأبنائها المتفردين بالقوة أفضل المراكز ولو على

حساب المجموع؛ لأن مجموع الأمة يستفيد منهم، وكما أن الأم يجب أن تكون قوية

جدًّا، حتى تتمكن من الاعتناء بطفلها الضعيف، كذلك يجب على رَجُلها أن يضمن

لها التقوية محافظة عليها، وعلى صغيرها. هذا الشطر الأول من كتاب برنهاردي،

وأظن أن الأندية العلمية والسياسية عندنا سَلَّمت بصحته فورًا.

أما الشطر الثاني الذي أقام العلماء وأقعدها، فهو كلام ذلك الجنرال الألماني

عن علاقة الأمة الواحدة بغيرها من الأمم الأخرى؛ فإن ذلك الكلام يقرر أن أفراد

الأمة الواحدة يجب عليهم التضامن، والتكاتف، وتبادل الصدق، والولاء،

والعطف، والمحبة بعضهم مع بعض فقط حسبما ورد في مثل الزوج والزوجة

ومسؤوليتهما نحو طفلهما الضعيف، أما في علاقة الشعب بغيره من الشعوب

القريبة فالجنرال برنهاردي يقول بصراحة: إن لا رحمة، ولا شفقة، بل ويل

للضعيف في تنازع البقاء؛ لأن القوة وحدها هي الحَكَم الأخير في العلاقات

العمومية، وبقاء الأنسب يقضي بانقراض الضعيف، إن لم يكن اليوم فغدًا.

وبجملة أوضح أقول: إن أركان حرب ألمانية يقولون بالحق، والعدالة،

والرحمة بين أبناء العائلة السياسية الواحدة؛ ولكن يقولون بمعاملة الغريب على

قاعدة بقاء الأنسب - أي على قاعدة الحق للقوة، وعند درس هذا المذهب بنزاهة

وإنصاف نرى أنه ليس مذهبًا جديدًا، ولا مخالفًا لما نراه جاريًا في الكون، سواء

أردنا ذلك أم لم نرده، إذن لا أرى أن الذين خطَّئُوا برنهاردي هم من القوم

المصيبين المنصفين [4] .

نعم إن عندنا شرائع تضمن العدالة، وتجبر الحكومة على إجرائها حفظًا

لحقوق الضعيف من جاره القوي؛ ولكن هذه الشرائع، وتلك العدالة تسري على

أبناء الأمة الواحدة فقط، أما على غيرنا من الأمم والحكومات فمن ينكر أننا لا

نعاملهم بما يعامل به بعضنا بعضًا، إن نكران هذا الأمر هو الرياء بعينه، وهذا

هو مبدأ برنهاردي أيضًا، وهاك نص إحدى عباراته حرفيًّا بهذا الصدد قال:

(لا يوجد في الكون حكومة تُجْرِي على غيرها من الحكومات ذات القوانين

وذات النوع من العدالة الذي تجريه على أفرادها هي، كذلك ليس من الواجب على

أي حكومة أن تعتني بالغريب، وتعطف عليه وتساعده؛ لكن من أوجب الواجب

عليها الإعتناء بأولادها، وتقوية الضعفاء منهم فقط، وإجراء العدالة بتمام النزاهة

والتدقيق بين المتخاصمين منهم وحدهم، وإذا قلنا: إن محكمة دولية عمومية يجب أن

تنشأ لأجل فض الخلافات بين الدول على مبدأ الحق والعدالة المجردة، نعود

ونرجع إلى القوة الوحشية المحسوسة لأجل تأييدها، وإليك البرهان:

(هب أن خلافًا نشب بين أمتين، أو أكثر، ورُفِعَ أمره إلى تلك المحكمة

الدولية العمومية العليا (الموهومة) ، وهذه بموجب الحق، والعدالة المجردة

أصدرت حكمها ضد الأمة القوية المتعدية، ورفضت تلك الأمة القوية أن تخضع

لحكم المحكمة العادل، فماذا علينا أن نفعل؟ علينا أن نلتجئ إلى جيش قوي جدًّا

يرغم تلك الأمة القوية على قبول حكم المحكمة العليا وتنفيذه، وإلا كانت العدالة،

والحق، والحكم حبرًا على ورق من الوجهة العملية، ولما لم يكن تنظيم جيش

عمومي ممكنا، كان من المستحيل - إذن - إجراء الحق بين الأمم المتباينة في

العدد والقوة إجراء فعليًّا، كما يجري في الأمة الواحدة التي لها من قوة جندها ما

يجعل الحق نافذًا، والعدالة المجردة ممكنة - ولكن بين أفرادها فقط، ومجمل القول

أن الناموس الطبيعي المعقول هكذا يأمر، أي أن العدالة المجردة يجب أن تجري؛

ولكن بين أبناء الأمة الواحدة فقط؛ لأن ذلك ضروري لحفظ كيانها ولتقويتها، أما

مع الأمم الأخرى فالحق للقوة في كل حال، وويل للضعيف والمستضعف [5] .

***

الاستعمار

تنازع ألمانية وإنكلترة بسببه

بعد هذا يوضح الجنرال برنهاردي مسألة الاستعمار بقوله: إن كل أمة قوية

لا بد لها يومًا من طلب التوسع في أملاكها؛ لأن أفرادها المتزايد عددهم يحتاجون

أولاً إلى المواد الغذائية، وثانيًا إلى المواد الأصلية في الصناعة حاجة تزيد بالنسبة

إلى عددهم المتكاثر، وهذه لا يجدونها إلا في الخارج، وإذا زادت مصنوعاتهم

تراهم يضطرون إلى إيجاد أسواق جديدة لأجل تصريفها - أي إلى إيجاد مستعمرات،

فالمستعمرات - إذن - من لوازم الأمم الراقية.

والاستعمار يتم بطرق ثلاث:

(1)

المهاجرة واختلاط المهاجرين تدريجًا مع السكان الأصليين، والامتزاج

بهم امتزاجًا سلميَّا، حتى يتغلبوا عليهم بفضل تفوقهم على الوطنيين بالقوى

البدنية، والعقلية، والأخلاقية.

(2)

بإنشاء مستعمرات منظمة في بلاد أهلها من نصف المتمدنين، أو من

غير المتمدنين، وامتلاك مثل هذه المستعمرات غير صعب البتة.

(3)

بالحرب، واغتصاب المستعمرات من أيدي أهليها عنوة، إذا كان

أولئك الأهلون على جانب من المنعة، والتمدن، وهذه الطرق الثلاث تُدْعَى

المهاجرة، والاستعمار، والاغتصاب، وهي لا تتم إلا باستعمال القوة في إحدى

مظاهرها، وبمعاملة سكان البلاد الأصليين حسب ناموس تنازع البقاء، لا حسب

الحق، والعدالة.

والحق كل الحق مع الجنرال برنهاردي في هذا التصريح، لأن كل أمة قوية

استملكت بلادها وبلاد غيرها بقوة السيف يومًا، لم تعامل الأهلين الأصليين قط

بالمساواة، والعدالة، كما يَدَّعُون، وليس في هذه التعاليم شيء جديد كما قلت آنفًا؛

ولكن الذي زادها أهمية هو اشتباك ألمانيا منفذة هذه المبادئ بحرب كبرى مع

غيرها من الأمم، ووجود حزب قوي عندنا (أي في إنكلترا) شعاره (السلم مهما

كلفه الأمر) ، ومذهبه هو أن الذي يأخذ بالسيف بالسيف يؤخذ، وسها عن بال هذا

الحزب المتخنث أن الذي لا سيف عنده يكون أول من يسقط بسيف الغير، وخصوصًا

في هذه الأيام، أيام المنازعات، والمناظرات، والمسابقات الهائلة.

ولا أصدق من كلام الجنرال برنهاردي عن السوسياليست والراديكاليين

(الاشتراكيين والمتطرفين) الذين يزعمون أن الحكومة ليست سوى شركة ضمانة

عملها توزيع المنافع، والمرافق بالسواء - أن هذه الآراء لا يمكن العمل بموجبها

أبدًا؛ لأنها آراء نظرية بحتة، وكل أمة تسير بموجبها تضعف؛ فتنحط وتفنى على

تمادي الأجيال، والشواهد العديدة التي اقتبسها برنهاردي من دارون وكنت وهكل

وفشت وشلر وغوث تؤيد هذا المذهب، وحبذا لو أنه ذكر اسم كروب ومدافعه

أيضًا، حتى يصير الاقتباس تامًّا؛ لأن كروب واختراعاته لا تقل أهمية عن تعاليم

أولئك الفلاسفة.

***

فضائل الحرب

نقد برنهاردي

إنني من المعجبين بتصريح برنهاردي القائل: إن للحرب فضيلتين هما

الشجاعة والعدالة، فالشجاعة فضيلة لأنها رائد الاستقلال، والعدالة فضيلة لأنها رائد

الصدق، والصدق رفيق القوي دائمًا؛ ولكن العدالة والصدق يجب أن ينحصرا مع

الغرباء، وبين الأمم الأخرى، فللقوة المركز الأول دائمًا، وكل من يقول بخلاف

ذلك فهو خادع أو مخدوع.

إلى هنا انتهى إعجابي بالتعاليم العملية التي دونها الجنرال برنهاردي في كتابه

الأخير؛ ولكن موضوعًا اجتماعيًّا فلسفيًّا كهذا لا يخلو من التعقيد والصعوبة لذلك لا

ألوم برنهاردي إذا رأيته يناقض نفسه في بعض الأحايين، ويخلط في تدوين

المبادئ وشرحها في البعض الآخر.

فمن جملة المتناقضات في تعاليمه عدم شفقته على الأمم الضعيفة حالة كونه لم

يضمن لنا طريقة ثابتة بها تبقى الأمة القوية قوية إلى ما شاء الله - وهذا من أهم

الاعتراضات أيضًا على مذهب دارون القائل ببقاء الأنسب، ومن جملة مواضع

الخلط والخبط في شرح مبادئه عدم جمعه بين العدالة والقوة جمعًا علميًّا ترتاح

النفس إليه، بل أراه أبقى هوَّة عميقة بين القوة الوحشية التي عبر عنها بالحرب،

وبين العدالة المجردة التي لا يجوز لها أن تخضع للقوة.

ليس ذلك فقط، بل إن الجنرال برنهاردي اعتمد على علم الأحياء (بيولوجيا)

في مصنفه الأخير، وهو مولع بهذا العلم؛ لكنه تجاهل وجود ناموس التعاون

والتضامن في النوع الواحد، ونسي أو تناسى أن الإنسان مهما تعددت أممه،

وأجناسه، وعناصره، وألوانه لم يخرج عن كونه نوعًا واحدًا من أنواع الأحياء،

هو نوع الإنسان يتطلب كيانه ناموس التعاون، والتضامن، ولو بأحد أشكاله

البسيطة.

ويحوجني الوقت والمجال؛ لأُبيِّن أن العلاقة بين الحق والقوة هي علاقة

شديدة موجودة فعلاً، وهي مثل الارتباط المتين الموجود بين الحرية والمسؤولية،

وبين الحق والواجب، فكما أن الحرية تُوجِد المسؤولية والحق يوجد الواجب،

والعكس بالعكس، كذلك أرى أن ناموس الحق للقوة - الذي ينادي به الجنرال

برنهاردي، وأركان حرب ألمانيا عمومًا - يقتضي وجود علاقة متينة بين الحق

والقوة لم يشر إليها برنهاردي، ولا عَرَضًا في سياق كلامه، لذلك نرى أن ألمانيا

في هذه الحرب مغمضة عين الحق في بعض تصرفاتها المخالفة، ومجسمة فضيلة

القوة الوحشية المحسوسة في سائر إجراءاتها مما جعلها عرضة للنقد العادل.

أما ما خلا هذه النقط القليلة القابلة الانتقاد، فكلام الجنرال برنهاردي صحيح

لا غبار عليه، ويجدر بالحزب السلمي في إنجلترا أن يدرسه بمزيد التدقيق

والتروي، عله يُقْلِع عن تعاليمه النظرية الضارة، ويساعد القائلين منا بوجوب

تنظيم جيش قوي دائم، وتعويد الأمة على تربية رجال أشداء أقوياء البدن، وعلى

غاية من النشاط والبسالة. اهـ.

(المنار)

نقلنا ما تقدم عن جريدة الأفكار البرازيلية بنصه، مع تصحيح لفظي قليل،

والقارئ يرى أن غرض صاحب مجلة القرن التاسع عشر الإنكليزية من تلخيص ما

لخصه من الكتاب الألماني هو إقناع قومه بأن يحذوا حذو الألمان في شدة العناية بالقوة

الحربية، ومنه جعل الخدمة العسكرية إجبارية، والظاهر أن شر عاقبة لهذه الحرب

هو زيادة عناية الأمم الأوربية كلها بالاستعداد للحرب، وإن كان بعض الناس يظنون

أنها سترجع إلى رشدها بما تقاسي من خسارة الأنفس والأموال.

_________

(*) نقل عن جريدة الأفكار التي تصدر في البرازيل (عدد 902) .

(1)

الأفكار: كما تمنينا مرة أن يُطْبَع خطاب روزفلت في " الأخلاق "، ويُوَزَّع منه مليون نسخة في سورية والآستانة، كذلك نتمنى الآن أن يُتَرْجَم كتاب برنهاردي هذا، ويُوَزَّع على جميع العثمانيين، وعموم الشرقيين؛ لأن الشرق كله بحاجة ماسة إلى مبادئ هذا الكتاب العملية دون المبادئ النظرية التي كانت علة انحطاطه.

(2)

المنار: يعني أن سُنَّة تنازع البقاء تدفع الأمم بما يشبه الإجبار إلى حفظ وجودها الأمي، وتنميته مما تسلبه من الأمم الضعيفة المجاورة لها.

(3)

الأفكار: اتفق ونحن نقرأ هذه المقالة البديعة أن وصلتنا الصفاء الغراء فوجدنا فيها ما يأتي: - قال أحدهم: المتكبر أجدر الناس بالشفقة؛ لأن الكبرياء مرض في العقل، أي أن صاحب الصفاء يتأمل من كثرة ما يرى من المتكبرين حوله، وقد تذكرنا خطبة مطبوعة باللغة الإنكليزية عندنا للدكتور دانيال بلس رئيسنا العلامة الكبير قالها أمام صف المنتهين مرة فراجعناها، وإذا في إحدى صفحاتها ما يأتي:" وإنني أوصيكم بالاعتدال في كل شيء؛ لأن الاعتدال من أهم الأخلاق التي يحتاج إليها الشرق، ومن أعظم المصاعب أمام عملنا - نحن المربين والمُهَذِّبين في هذه البلاد - أننا نرى أفرادًا بين السوريين هم متهذبون بكل معنى الكلمة تمام التهذيب - وبالأصل gentleman، وأفرادًا غيرهم على غاية من التأخر، والانحطاط، والحلقة الوسطى بينهم تكاد تكون مفقودة، وبينما نرى الكرم لحد التبذير في البعض نرى أيضًا البخل لحد الشح في البعض الآخر، وكذلك بينما نرى الذل والجبن في طبقة، نرى الغرور فاشيًا، والكبرياء لحد الادعاء الممقوت في طبقة ثانية، وإذا قدرت هذه المدرسة " أي المدرسة الكلية " على إيجاد حلقة وسطى تُوجِد الاعتدال في مشارب السوريين، وأخلاقهم نكون قد عملنا عملاً تهذيبيًّا عظيمًا ".

(4)

الأفكار: إن قائل هذا الكلام هو مستر مالوك من علماء الإنكليز أعداء الألمان الألداء، وكلام الخصم حجة.

(5)

المنار: حقًّا أنه لم توجد شريعة تأمر بالمساواة والعدل العام غير الإسلام؛ ولكن كانت الدول الأوربية تراعي العدل فيما بينها في الجملة، حتى جاءت هذه الفلسفة الجديدة بهذه الحرب العامة التي لا بد أن تعود عليها بالنقض ولو بعد حين.

ص: 141

الكاتب: عن جريدة الأفكار البرازيلية

‌بين روسيا وألمانيا [*]

وفيه وصية غليوم الأول لحفيده غليوم الثاني

يذكر قراء (الأفكار) ما عرّبناه من مدة من تلغراف الإمبراطور غليوم إلى

القيصر نقولا، إذ قال له يومئذ: إنه موصى - على فراش موت جده - بالمحافظة

على صداقة روسيا. وقد قرأنا مؤخرًا تلك الوصية المشهورة التي أوصى بها

الإمبراطور غليوم الأول حفيده إمبراطور ألمانيا الحالي في الساعات الأخيرة من

حياته، إذ استدعاه، وزوده بنصائحه، ووصاياه، وما يفرض عليه عمله،

والسياسة التي يجب عليه اتِّباعُها إذا تبوأ العرش، وهذا ملخص نص الوصية:

إذا كتب لك الحق سبحانه وتعالى أن تملك على عرش أجدادك

القياصرة فاعتنق الحق والعدل، وبثهما في الرعية، واعتن بالجيش مزيد العناية،

واجهد في اكتساب ميل العامة، وحب الشعب الألماني بأسره، واسْعَ في تقرير

السلام العسكري والسياسي في داخل المملكة وخارجها، مع مراعاة قوانينها،

وشرائعها، وساعد الضعيف، وأعضد العاجز، وساو كليهما بالقوي، حتى لا

يكون امتياز ولا حيف، و (حتى) تكون حرية مطلقة في جميع الأديان والمذاهب،

تودد إلى الأمم الغربية على إخلاف نزعاتها، وحافظ على اتحاد أوستريا والمجر

حليفة جرمانيا الأمينة؛ لأن في هذا الاتحاد موازنة للسياسة الأوربية، ورابطًا بين

الدولتين من قديم التاريخ، ولا تحرم البلاد من فوائد السلم وثماره الطيبة المذاق،

إذا لم تكن الحرب أمرًا واجبًا فيما لو تعدت على ألمانيا دولة ورامت مهاجمتها أو

مهاجمة حليفتها، ولا تستخدم قوة ألمانيا لإثارة حرب عدائية تكون أنت البادئ فيها؛

فإن ألمانيا ليست في حاجة إلى مجد عسكري جديد، ولا إلى افتتاح حديث، حاذر

الحرب قدر استطاعتك وإياك، ودولة الشمال، ثابر على اتِّباع خطة المودة الوطيدة

نحو قيصر روسيا إسكندر الثالث، ودع ألمانيا أن تسير على خطة السلام والوفاق

الحبي مع روسيا، وابذل كل نفيس في سبيل مرضاتها، واستمالة ودها إليك، وأيد

الصلات السلمية التي كانت لنا في مدة المائة سنة الماضية في مملكة روسيا جارتنا،

فهذه كانت حاساتي (؟) الشخصية التي تنطبق على مصالح ألمانيا) . انتهى

هذا بعض ما وقفنا عليه من وصايا الإمبراطور غليوم الأول إلى حفيده

الإمبراطور غليوم الثاني، الذي بذل جهده في اتِّباع وتحقيق أماني جده من توثيق

عرى الصلات مع جاراته، والممالك المتحالفة معه، حتى تبقى العلائق الودية على

سابق حالها غير واهية ولا منفصمة.

وقد عرف العالم أجمع ما كان لروسيا من الشأن المهم في حربي عام 1866

مع النمسا، وعام 1870 مع فرنسا، والخدمة الجليلة التي قام بها إسكندر الثاني

قيصر روسيا في تسهيل الوحدة الألمانية، وقد عرف ذلك غليوم الأول، كما عرفه

وزيره البرنس بسمارك، ولهذا أوصى حفيده غليوم الثاني بتحسين صلاته مع

روسيا، ولا يزال العالم يذكر تلغراف غليوم الأول إلى القيصر إسكندر الثاني سنة

1870، إذ قال له (أعترف بأن جل الفضل في فوزي ونجاحي عائد إليك) فضلاً

عما كان من أعمال بسمارك في حياة غليوم الأول وفردريك الثالث في تسهيل

التقرب إلى روسيا بالرغم من التحالف الثلاثي، ومن مبادئ أوستريا وسياستها

البلقانية. وقد كان بسمارك لا يطيب له عيش إلا يوم يأمن نفوذ روسيا،

والإمبراطور غليوم الثاني ذاته - بعد قبضه على صولجان الإمبراطورية - زار

القيصر الروسي قبل أن يزور حليفتيه النمسا وإيطاليا، كما زار جده غليوم الأول

قيصر روسيا يوم تبوأ عرش أجداده، وعمل على تأييد التحالف الشمالي، واهتم

في زيادة التقرب من روسيا لتحسين صلات الدولتين، إذ لم يشأ أن يبتعد عنها لما

بين الأسرتين المالكتين في روسيا وألمانيا من صلة القربى، فضلاً عن ضرورة

الاحترام للوصية السابقة الذكر.

ولكن دلكاسه الداهية وزير خارجية فرنسا حالاً مشهور بعدواته لألمانيا، فعين

منذ سنة ونصف سفيرًا لدولته في بطرسبرج، واستطاع بدهائه الغريب أن يُفْهِم

روسيا أن النمسا ليست بالعدوة الرهيبة لو لم تكن تعضدها ألمانيا، وأن خير طريقة

لكسر شوكة النمسا هي إضعاف ألمانيا وساعدته الظروف، والحنكة السياسية،

فأبان لروسيا مطامع ألمانيا، وما صنعته مع روسيا في معاهدة برلين وغيرها، وقد

نجح دلكاسه في سياسته نجاحًا باهرًا، إذ أضاف إلى الحقد الكامن في قلوب الشعب

حقد الحكومة الروسية، فتراخت العلائق بين الحكومتين، وسعى القيصر للتملص

من ربقة نفوذ إمبراطور ألمانيا عليه، وخصصت حكومته عشرة مليارات ليرة

لنظارة الحربية لسنة 1913، واشترت بتسعة وعشرين مليونًا من الليرات

أوتوموبيلات حربية وأضافت عددًا عظيمًا إلى جيشها الهائل، وجعلت الخدمة

العسكرية في بعض الفرق أربع سنوات، وأرادت تغيير المعاهدة التجارية بينها

وبين ألمانيا، وضربت رسمًا باهظًا على القمح الوارد من ألمانيا إلى فنلندا،

وأطلقت سراح الصحافة؛ فأثارت على حكومة برلين عواطف السلافيين، ومكنت

الحقد بين الشعبين، وكان المسيو دلكاسه العامل في كل ذلك الذي وصل إلى هذه

النتيجة.

وكانت الأمة الروسية قد رأت خيلاء الأمة الألمانية؛ فهالها أمرها لاسيما

وهي تنظر إليها نظرة جار يود ضرر الآخر، تجارة، وصناعة، وسياسة. أضف

إليه الحقد المتولد في قلوب السلافيين ضد الجرمانيين، وتصرف بسمارك نحو

روسيا في معاهدة برلين كما قلنا بعد أن كان حليفها سنة 1878، وقلما ترى الآن

في روسيا من يحب ألمانيا، حتى من أولئك الذين يجري في عروقهم الدم الألماني

أو النمساوي كالبولونيين في بوزين، وفرسوفيا والتشك في برات، والصرب

والكروات في إغرام وبلغراد، حتى في طيات قلوب البلغاريين في صوفيا، وهذا

الحق المنفجر في جميع جوارح السلافيين أرغم حكومة بطرسبرج على الانتصار

للصربيين، وشهر الحرب على النمسا، وقد أرادت حكومة القيصر أولاً أن تتخذ

من السلافيين حقدهم لرشق نباله في صدور النمساويين فقط، وذلك لأن ألمانيا قد

لعبت دورًا مهما في بلاط روسيا لوجود عدد عظيم من الدوقات الألمانيات في

القصر الإمبراطوري - كماريا بافلوفنا قرينة الغراندوق فالديمير وإليزابت

فيودوروفنا شقيقة القيصر، ورئيسة دير كبير الراهبات، ودوقيات أولدنبرغ

وليستنبرغ، والإمبراطورة ألكسندرا - وعدد عظيم من القواد، والضباط، وولاة

الأمور الألمانيي الأصل الذين يشتغلون بجميع قواهم لزيادة متانة العلاقات بين

روسيا وألمانيا، عدا عن العلائق الوطيدة الشخصية بين القيصر والإمبراطور،

ولأن حربًا عوانًا تقع بين ألمانيا وروسيا لا تفيد الثانية كثيرًا.

أما حقد حكومة القيصر على النمسا فكان ولا يزال هائلاً جدًّا؛ لأن فيها إلا

أقل من 16 مليونًا من السلافيين تابعين لخمسة عشر مليونًا من الجرمانيين، لذلك

ليس من الصعب على حكومة بطرسبورج الضرب على وتر نصرتهم الجنسية،

فضلاً عن أن النمسا ما زالت تعرقل سياسة روسيا في البلقان، وكانت الحرب بينها

بين روسيا أمرًا طبيعيًّا لا مفر منه. اهـ.

_________

(*) منقولة عن جريدة الأفكار البرازيلية.

ص: 153

الكاتب: حبيب الرحمن خان الشرواني

‌ترجمة الشيخ شبلي النعماني

بقلم الشيخ حبيب الرحمن خان الشرواني

مترجمة من جريدة (عليكدة إنستيتيوت غازت) بقلم عبد الرزاق من تلاميذ

دار الدعوة والإرشاد.

انتهت السنة الثانية والثلاثون الهجرية على حادثة فجائية ستُذْكَر في تاريخنا

إلى زمن بعيد: أذيع خبر وفاة الشيخ شمس العلماء شبلي النعماني في صبيحة 28

ذي الحجة، أي في الوقت الذي تنير فيه الشمس العالم، ولكن وآسفاه غربت فيه

شمس العلم، وأظلم العالم العلمي.

(ثم بين الكاتب مجد المسلمين القدماء، وكثرة وجود العلماء والنابغين فيهم

الذين كانوا يخلفون السلف، وانحطاط المسلمين الآن، وفقدان الرجال الذين يحلون

محل موتاهم، قال:

إن في سيرة الشيخ عبرًا ودروسًا للطبقتين: طبقة النابتة الحديثة، وطبقة

العلماء، فلو كُتب تاريخه لكان نافعًا للمسلمين، وتوخيًا للفائدة نلمح إلى تاريخه

فنقول:

الشيخ شبلي النعماني من بلدة أعظم كدة الشهيرة، وهو من أسرة كبيرة،

وابن رجل عظيم، لا أعلم سنة ولادته؛ ولكني قرأت ما كُتب في الجرائد من أنه

ولد سنة 1857 أي سنة الثورة، وكان من أسباب تقدمه العلمي ذهنه الثاقب،

وطبعه السليم، وحرص والده على تثقيفه وتربيته، ووجود أستاذ كامل له كمحمد

الفاروق، الذي كان ماهرًا في العلوم العربية والآداب الهندية، أخذ الشيخ شبلي علم

الحديث عن العلامة أحمد علي الشهير، وبعد فراغه من التحصيل دخل خدمة

الحكومة، ولكنه لم يلبث أن تركها من تلقاء نفسه، ثم قُرر معلمًا للغة العربية في

كلية علي كرة، فاتخذ له بيتًا بجوار السيد أحمد خان رئيس الكلية، وكان السيد

يبحث في العلوم المختلفة، فاقتبس منه ومن المعلم آرنلد الأستاذ في الكلية معلومات

في الفلسفة والعلوم الحديثة، وهو الذي علم الأستاذ المذكور عليه كثيرًا من العلوم

الإسلامية واللغة العربية، لهذا كان في تأليف كتاب (الدعوة الإسلامية preachig

Islam of) للأستاذ آرنلد يد كبيرة للشيخ.

وخرج من الكلية سنة 1898 بعد أن توفي السيد أحمد، وذهب إلى حيدرآباد،

وهنالك كانت قد أسست الجمعية العلمية المسماة (السلسلة الآصفية) فتوظف فيها

براتب 200 روبية في الشهر (والآن قد زيد فيها مائة فصارت 300 روبية)

وألف بضعة كتب باسمها، ثم رتب مشروع كلية حيدرآباد.

ولما رجع من حيدرآباد طلبه محسن الملك رئيس الكلية لها ولكنه لم يقبل،

ورجح ندوة العلماء عليها، وأقام في مدينة لكهنؤ، فكان فيها عضوًا كبيرًا عاملاً،

وفهم مقاصدها حق الفهم، وأراد أن يثمرها فنظم شؤونها، وأصدر مجلة كبيرة

باسمها كانت من أشهر المجلات الهندية وأرقاها، وهي لا تزال فخرًا في اللغة

الهندية؛ ولكنه لما انتخب رئيسًا للجمعية بعد اعتزال رئيسها الشيخ محمد علي لم

يقدر على استخدام الأعضاء كلهم كما استخدمهم سلفه؛ لأنه اشتهر بحرية الرأي

والاجتهاد في كل شيء، فخالفه العلماء وظنوا به الظنون، حتى قال بعضهم: إنه

دهري ويريد إفساد الجمعية، فلم ينجح في عمله هذا كما ينبغي؛ ولكنه استطاع

تنفيذ كثير من مقاصدها.

وساح في البلاد الإسلامية في زمن إقامته في الكلية للاستعانة على تأليف

تاريخ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمطالعة الكتب التي لا توجد في الهند،

فكان الكتاب من أحسن الكتب التاريخية على طريقة حديثة، وسيكون فخرًا له إلى

الأبد، وبعد رجوعه من السفر ذهب إلى رستميد، فمرض هناك مرضًا شديدًا ذهب

بصحته الجيدة، فلم تعد إلى الموت.

ومن الحوادث المؤلمات في حياته إصابة رجله بالرصاص؛ وسبب ذلك أنه

كان جالسًا في حرمه والبندقية في يد زوجة ابنه، فسقطت على الأرض فأصابت

ساقه. وآخر حياته مملوءة بمخالفة العلماء له في الندوة؛ ولكنه مع هذا كله ما زال

مشغولاً بتأليف تاريخ النبي صلى الله عليه وسلم وأرسل إليّ خطابًا قبل

وفاته بقليل وصف فيه تأثير موت أخيه في نفسه، ثم قال: أريد تأسيس دار

للمصنفين، ودار لتكميل العلوم أدرس فيها بنفسي التفسير والحديث ويدرس فيها

غيري من العلماء الآخرون لعلي أنجح في هذا بعد العجز عن العمل في الندوة التي

أضعت وقتي فيها، ولكن جاءت المنية قبل تحقق رجائه، جزاه الله خير الجزاء

لأعماله النافعة للمسلمين.

***

ترجمة الشيخ شبلي النعماني

بقلم عبد الرزاق

أحد طلبة دار الدعوة والإرشاد

كان الشيخ شبلي النعماني من أكبر علماء الهند قدرًا، وأوسعهم علمًا،

وأشدهم غيرة على الدين والأمة، خدم المسلمين زمنًا طويلاً، بدون تعب ولا نصب

ولا مبالاة بحوادث الدهر، ومن مزاياه الكثيرة أنه كان نابغًا في علوم عديدة،

مجتهدًا في الدين والعلوم العقلية، ماهرًا في تاريخ الشرق والغرب، أديبًا بارعًا في

اللغة العربية والفارسية، ينشد الشعر بالفارسية مثل أعظم شعراء العجم، وهو يعد

من أئمة اللغة الهندية، وأفصح كتابها، له كتب كثيرة جدًّا في الفلسفة والتاريخ

وآداب اللغتين الفارسية والهندية، وفي علوم شتى، وآخر كتاب كان يعنى بتأليفه

هو (سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يكد يتمم جزءًا منه حتى عاجلته منيته،

وهو ابن خمس وستين سنة تقريبًا، هذا الكتاب ليس مثل سائر الكتب التاريخية،

بل أراد رحمه الله أن يكتب باستقصاء لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من آثار النبي،

وأقوال المتخرسين (؟) إلا أحصاها، وبحث فيها بحثًا فلسفيًّا ليس من ورائه بحث،

وكان من اهتمامه بالكتاب المذكور أنه قبل الاشتغال فيه أعلن في الجرائد الهندية

أنه يحتاج إلى خمسين ألف روبية (3325 جنيهًا) ليسافر إلى الممالك الإسلامية

والإفرنجية، ويطالع في مكاتبها الكتب المؤلفة في سيرة النبي - صلى الله عليه

وسلم -، وتساءل عمن يساعده بذلك؟ فأجابت طلبه (أميرة بهوبال) التي اشتهرت

بالأعمال الخيرية والعلمية، غير أنها لم تأذنه بالسفر لكبر سنه، وما أصابه من

المرض، بل وعدت بأن تطلب له جميع الكتب المحتاج إليها، وتعطي 200 روبية

شهريًّا لمترجمي الكتب الإفرنجية منها (لأن الشيخ لم يكن عالمًا بلغات العرب)

فاشتغل الشيخ بالكتاب ثلاث سنوات، وكمل منه جزء واحد كما ذكر آنفًا.

وكان ينتهز الفرص لينفع المسلمين، ومن مآثره أنه نجح في مسألة الوقف

على الأولاد عند الحكومة، فأجازته بعد أن كانت أبطلته.

ربما يظن ظان أن هذا الشيخ الجليل كان من متخرجي المدارس العالية، ومن

أصحاب الشهادات العليا، وليس الأمر كذلك؛ فإنه لم يتعلم في مدرسة ما قط، بل

كان يتلقن بعض العلوم المتروكة القديمة في بيوت بعض العلماء، ولم يكن يعلم

شيئًا من أحوال العالم المدني، ولكن علامات الذكاء كانت تنطق على سِيمَاه بعظيم

مستقبله.

ولما كمَّل دروسه غير المنظمة، انتظم في سلك المعلمين في كلية علي كرة

الشهيرة، وهنالك ظهر له أنه يوجد عالم غير عالمه، وعلوم غير الفقه والكلام

والفلسفة اليونانية، فأخذ يطالع العلوم حتى عُدَّ من أكبر علماء الهند، وفي هذه

الأثناء ساح في البلاد الإسلامية كلها ليعرف داء المسلمين ودواءه، وبعد رجوعه إلى

وطنه ابتدأ دوره الذهبي؛ لأنه ترك الوظيفة، ولم يعمل شيئًا بعد إلا لإصلاح

المسلمين، ولهذا الغرض أخذ على عاتقه مشروع ندوة العلماء، وهي لم تكن

شيئًا يذكر قبله، وبهمته العالية ترقت في مدة قصيرة حتى سُمع صوتها في العالم

المدني، وتخرَّج فيها العلماء والمربون، وكانت له أماني كثيرة حالت منيته دونها

إذا وافته بعد أن مرض نصف شهر، فسقطت بذلك حلقة كبيرة في سلسلة

المصلحين، وانطفأ مصباح الهند، فليحزن على فقده المصلحون، والهنود

المسلمون، إنا لله وإنا إليه راجعون.

(المنار)

فقدنا الأستاذ النعماني في عهد هذه الحرب التي حرمتنا رؤيته، ما عدا جريدة

عليكدة من جرائد الهند، فلم نقف على شيء من تأبينها وترجمتها له، والشيخ

حبيب الرحمن الذي كتب تلك النبذة الوجيزة في جريدة عليكده من أهل العلم والدين،

وحزب المصلحين المعتدلين، ولكنه أوجز واختصر حتى أنه لم يذكر لنا

مصنفات الشيخ، ولعل أهل مصر وغيرها من البلاد العربية لا يعرفون منها إلا

رده الوجيز على كتاب تاريخ التمدن الإسلامي، وما هو إلا عجالة جعلها نموذجًا

لبيان ما أنكره من ذلك الكتاب، ولم يرد به الاستقصاء، وكنت رأيت له رسالة في

الجزية نشرت بعضها في المجلد الأول من المنار، وهي تدل على اجتهاد في

التاريخ وعلوم الدين، ومن سوء حظ المسلمين أن يقوم حزب الجمود في وجوه

هؤلاء الأفراد من المصلحين كالشيخ النعماني، ويحولوا بينهم وبين خدمتهم لملتهم

وأمتهم، ويضعف أنصار الإصلاح عن إحباط أعمالهم، ومما يذكر بالإعجاب في

ترجمته أنه لم يوجد في أمراء الهند وعظمائها رجل عرف قيمة هذا الأستاذ الكبير

المصلح، كما عرفته أميرة بهوبال فضلى نساء تلك الأقطار وأقيالها.

وسننشر في الجزء التالي كلمة وجيزة من صلة المودة بيننا، وبين الفقيد

وكتابًا منه يعلم منه شيء من صلته العلمية الدينية بصاحبة بهوبال، أدام الله النفع

بها.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 156

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌السر محمد سلطان آغا خان

زار مصر في أوائل هذه السنة السر محمد سلطان آغا خان زعيم طائفة

الإسماعيلية أقدم طوائف الباطنية، بل إمامهم ومعبودهم، جاءها عائدًا من لندرة

عاصمة إنكلترة - حيث يقيم معظم سنته - إلى وطنه بمبي أول ثغور الهند، حيث

يقيم مدة فصل الشتاء عادة، وقد نزل ضيفًا على الجنرال غرانفيل مكسويل القائد

العام للجيوش البريطانية بمصر، فلقي من الحفاوة والإكرام من الحكومة المصرية،

وكبراء الإنكليز ما يليق بمقامه ومكانه من ثقة الدولة البريطانية به، وإخلاصه في

خدمته لها.

وقد اجتمعت به في دار (مستر ستورس السكرتير الشرقي لدار الحماية

الإنكليزية) وتحدثنا أكثر من ساعة في الشؤون المصرية، وأحوال المسلمين في

مصر، وفي غيرها من الأقطار، وكان أكثر الحديث أسئلة منه وأجوبة مني،

وكنت أحب أن أسأله عن أمور فلم يتسع الوقت لذلك، وتحدثنا بتمني اجتماع آخر،

فلم يتيسر؛ ولعل من أسباب ذلك كثرة تنقله في البلاد المصرية، وعدم لبثه في

القاهرة بعد ذلك إلا قليلاً.

وقد كان أول حديثه الشكوى من قلة عناية المسلمين بالعلم، وسألني عن سبب

ذلك، فشرحت له رأيي فيه، ومما ذكرته له في ذلك أن العلم لا يرتقي وترتقي الأمم

به إلا بالعمل، ولا سيما العلوم الطبيعية والآلية (الميكانية) التي يشعر عقلاء

المسلمين بشدة حاجاتهم إليها، وتوقف مجاراتهم للإفرنج عليها، وأن أسبابا سياسية،

واجتماعية حالت دون السير في هذه العلوم على الطريقة العملية التي تتوقف على

إيجاد المعامل، ودور الصناعة في البلاد، وأن الحكومات هي ذات الشأن الأول في

إيجاد ذلك، وأكثر حكام المسلمين ليسوا منهم، وأما الحكومات الإسلامية المستقلة،

فقد كانت الدولة العثمانية، والإمارة المصرية - وهما أقربهن إلى الحضارة - شرعتا

في اقتباس العلوم والفنون الأوربية منذ مائة سنة أو أكثر، أي قبل شروع اليابان

في ذلك؛ ولكن حال دون استمرارهما على الطريقة العملية ما لا سعة في الوقت

لشرحه؛ فزالت المعامل ودور الصناعة التي شرع فيها محمد علي باشا كما اضمحل

ما أنشئ من ذلك في الآستانة، مع كون الحاجة إليها أشد، والقدرة عليها أتم، واكتفى

الترك والمصريون باقتباس المبادئ الناقصة من هذه العلوم والفنون، وإنما يتوسع

قليل منهم بما هم أقل حاجة إليه من غيره كالقوانين، وتاريخ الأمم الأوربية،

ولغاتها، مع جهلهم بشريعتهم، وتاريخ ملتهم، وآدابها، ولأجل هذا كان ضرر

أكثر المتعلمين أكبر من نفعه، ولما كان الطب لا يكون إلا عمليًّا كان هو أنفع ما

اقتبسناه من العلم الحديث، ففي مصر والبلاد العثمانية كثير من الأطباء الذين يخدمون

البلاد أَجَلّ خدمة، وكذلك الهندسة فإنها قد أفادت بقدر الحاجة إليها في الأعمال

كالري، وسكك الحديد، فالمهندسون المصريون لا يقصرون عن الأوربيين الذين

يعملون معهم في هذه البلاد.

أما حديثنا عن حالة مصر، ومسألة الحماية الإنكليزية الجديدة فلا يجوز نشره

الآن.

_________

ص: 159

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

صَدَّق به وصَدَّق له

(س1) من صاحب الإمضاء مدير مجلة الأديان في بانجاب بالهند

سيدي العزيز:

كَتَبْتَ في أحد أعداد المنار (كما سَمِعْتُ) أن هناك فرقًا بين قولنا (صَدَّق له)

(وصَدَّق به) ، وقلت إن الأخير يفيد معنى التحقيق والإمضاء، والأول يفيد معنى

الإتمام (أي تحقق مضمون الشيء) ، وما استعمله القرآن بالنسبة إلى التوراة

والإنجيل هو التعبير الأول، وهذا التفسير هو الجدير بالاعتبار، ويحل الإشكال

الذي بين المسلمين والنصارى في مسألة شهادة القرآن لكتبهم، وإني أَعُدُّ لكم فضلاً

كبيرًا عليّ إذا أقمتم لي الدليل على هذا الفرق بين العبارتين؛ حتى يتيسر للإنسان

أن يقتبسه كلما قام جدال بيننا وبينهم في هذه المسألة، وأملي أن تبادروا بالجواب.

...

...

...

... عبدكم (؟) المخلص

...

...

...

...

... شرالي

...

...

...

...

مدير مجلة الأديان

(ج) إن ما أشرتم إليه من التفرقة بين صَدَّق به، وصَدَّق له وقع في رسالة

الدكتور محمد توفيق صدقي لا في كلام المنار، وما ينشر في المنار لغيرنا لا يصح

أن نطالب بالدليل عليه، بل نُسْأَل عن رأينا فيه، والذي يؤخذ من استعمال القرآن

لكلمة التصديق، ومااشتق منها، ومن استعمال العرب هو أن " صَدَّق " فعل يتعدى

بنفسه كما قال تعالى: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ المُرْسَلِينَ} (الصافات: 37) ،

وأن التصديق يكون بالقول كقولك: صدق فلان فيما أخبر به، ويكون بالفعل،

ومثاله أن تقول: إن فلانًا سيفعل كذا، ويقول كيت وكيت - فيفعل ذلك الفعل، أو

يقول ذلك القول، فهذا يسمى تصديقًا لما قلته عنه، سواء أراد به ذلك أم لا، كل

جائز في اللغة مستعمل فيها، فتصديق نبينا صلى الله عليه وآله وسلم

للمرسلين عليهم السلام، ولكتبهم يصح فيه الوجهان - يصح أن يراد به إخباره

بصدقهم فيما بلغوه عن الله تعالى، وأن يراد به أن بعثته، وصفاته، وأفعاله دلت

على صدقهم في البشارة به، وبكل من القولين قال أهل التفسير المأثور والمعقول،

والقرائن ترجح أحدهما على الآخر في المواضع المختلفة.

ولم يرد صدّق متعديًا باللام فيما نعلم، أما مثل قوله تعالى: {وَآمِنُوا بِمَا

أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ} (البقرة: 41) وقوله: {وَهُوَ الحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ} (البقرة: 91) فاللام فيه للتقوية، لا للتعدية، وهو بمعنى قوله: {وَهَذَا كِتَابٌ

أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} (الأنعام: 92) ، ومعنى ذلك أنه دال على

صدق تلك الكتب فيما بشرت به من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم أو ناطق

بصدق أولئك المرسلين فيما جاءوا به عن الله تعالى، فإن أريد بالتصديق القولي منه

فهو لا ينافي ما أثبته في آيات أخرى من تحريف القوم لبعض تلك الكتب الصادقة،

ونسيانهم حظًّا منها ومثاله أن يقول قائل لقوم إن فلانًا المؤرخ صادق، وإن ما كتبه

لكم من تاريخكم، أو تاريخ كذا صحيح، ولكنكم نسيتم بعض ما جاءكم به فلم

تحفظوه، وحرفتم بعض كلمه فلم تبينوه، ولم تستبينوه، هذا هو التحقيق في تفسير

الآيات الواردة في هذه المسألة، وقد فصلنا القول فيها في مواضعها من التفسير

وأيدناه بالدليل.

وأما قولهم: صدق بكذا أو بفلان، فهو ليس من التصديق الذي معناه مجرد

إثبات الصدق بالقول أو الفعل، فإن التصديق بمعنى إثبات الصدق يتعلق بالأقوال لا

بالأشخاص والأشياء، فإذا أُسْنِد إلى الأشخاص؛ فإنما يُسْنَد إليهم باعتبار مضاف

محذوف (فمعنى صَدَّق المرسلين) ، صَدَّق أقوالهم، فإذا عُدِّي التصديق بالباء كان

متضمنًا لمعنى الإيمان، فكان تصديق اعتقاد محله القلب، فالتصديق بالنبي هو

الإيمان بنبوته، لا قولك بلسانك إنه صادق، ولا فعلك فعلاً يدل على صدق كلام قاله

وأما تصديقه فيشمل هذا وذاك، والمُصَدِّق باللسان قد يكون غير مُصَدِّق بالقلب،

وحقيقة معنى تضمين فعل معنى آخر هو أن تضم معناه إلى معنى الفعل الأصلي

بتعديته إلى ما يتعدى إليه؛ لكي يدل على معناه أولاً وبالذات، وتبقى دلالته على

معناه الأصلي مرادة، ولو على سبيل اللزوم والإكمال كقوله تعالى {وَلَا تَأْكُلُوا

أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُم} (النساء: 2) ، أي لا تأكلوها بضمها إلى أموالكم لتكون

ربحًا لكم ككسبكم، وهذا لا ينافي الأكل منها بمخالطة اليتيم، وإشراكه مع الوصي في

المعيشة، مع اتقاء الوصي قصد الربح منه، كما أنه لا ينافي ضمها إلى أمواله

لحفظها معها لليتيم لا لنفسه.

وقد اُسْتُعْمِل التصديق في القرآن متعديًا بالباء في أربعة مواضع:

1-

قوله تعالى حكاية لبشارة الملائكة لزكريا: {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى

مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّه} (آل عمران: 39) .

2-

قوله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ} (الزمر: 33) .

3-

قوله تعالى: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} (التحريم: 12) ، أي

السيدة مريم عليها السلام.

4-

قوله: {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} (الليل: 6) ، فكل موضع من هذه

المواضع يراد بالتصديق فيه الإيمان المستلزم للتصديق اللساني، والحسنى صفة

لمحذوف قيل هو كلمة التوحيد، واختار شيخنا أنه الشريعة والملة.

والإيمان يتعدى بنفسه بالباء، وإذا تعدى باللام كان متضمنًا لمعنى الاتباع،

كما لا يخفى على من استقرأ استعماله في الكتاب العزيز، وكلام فصحاء العرب

والله أعلم.

***

أول الخلق وكونه

نور النبي صلى الله عليه وسلم

...

...

...

...

... (تأخر كثيرا)

(س2) من صاحب الإمضاء في الجامع الأزهر.

فضيلة الأستاذ! بعد تقديم اللائق بمقامكم، أعرض على حضرتكم مسألة

طالما تكررت على مسامعنا، ولم نفقه لها معنى، وسألت عنها بعض مشايخي

بالأزهر، فأجابوا بأنها من مواقف العقول فأرجو من فضيلتكم الشرح عنها.

سمعنا أن الأشياء خُلقت من نوره صلى الله عليه وسلم، وأنه موجود

قبل الكائنات، فما معنى النور الذي خُلقت منه الكائنات؟ ، وكيف يقبل القسمة مع

أنه من المكيفات؟ ، وكيف يكون النبي أولاً وآخرًا؟ أجيبوا لا زلتم للدين منارًا.

...

...

...

...

... كاتبه

...

...

...

... أحمد مصطفى السقا

(ج) ما يُذْكَر في الموالد، وبعض الكتب من كون أول الخلق نور النبي -

صلى الله عليه وسلم لا يصح منه شيء، فما يبنى عليه من الإشكال ساقط،

يصدق عليه ما قلناه في الأمر الثاني من جواب السؤال عن عدد صفات الله تعالى،

وعلمه بها (في ص 739 م 17) .

وتجدون البحث في مسألتكم مفصلاً في (ص865-869) من مجلد المنار الثامن.

***

كتاب الجفر

وحديث الاستعاذة من الحَوْر بعد الكَوْر

(س3و4) من صاحب الإمضاء في جهة أبي كبير (الشرقية)

حضرة السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار المنير

السلام عليكم ورحمة الله، وبعد فنرجو أولاً التكرم بإفادتنا عن كتاب الجفر

المنسوب للإمام علي - كرم الله وجهه - هل هو صحيح أو باطل، وما هي أدلة

المثبتين، وما هي أدلة النافين، وما هو رأيكم الخاص.

ثانيًا: ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (نعوذ بالله من الحَوْر بعد

الكَوْر) .

...

...

...

... هذا وتنازلوا بقبول فائق احترامي

...

...

...

... أبو هاشم علي قريط

(ج) أما كتاب الجفر فلا يُعْرَف له سند إلى أمير المؤمنين، وليس على

النافي دليل، وإنما يُطْلَب الدليل من مدعي الشيء، ولا دليل لمدعي هذا الجفر.

وأما معنى الحديث فقد قال ابن الأثير في النهاية: (نعوذ بالله من الحور بعد

الكور) أي من النقصان بعد الزيادة، وقيل: من فساد أمورنا بعد صلاحها، وقيل: من

الرجوع عن الجماعة بعد أن كنا منهم، وأصله من نقض العمامة بعد لفها. اهـ

وفي لسان العرب: يقال كار عمامته على رأسه إذا لفها، وحار عمامته إذا نقضها.

_________

ص: 178

الكاتب: محمد رشيد رضا

حرب المدنية الأوربية

والمقارنة بينها وبين المدنية الإسلامية

والفتوحات العربية

لقد أرتنا هذه الحرب من ضروب العبر، ما لم يكن يخطر قبلها على قلب

بشر، وهتكت لنا من أستار الرياء، ما أرانا كثيرًا من حقائق الأشياء، التي لم يكن

يلمحها إلا أفراد الحكماء، فظهر للذكي والبليد، والغوي والرشيد، أن هذه المدنية

المادية، مدنية قوة وحشية، وشهوات بهيمية، كانت تخدع الأبصار، وتفتن

البصائر بما يدعيه أهلها في زمن السلم من حب الحق، والتحلي بلباس الفضائل،

وإقامة ميزان العدل، وثل عروش أئمة الجور والظلم، حبًّا في سعادة الناس،

ورغبة في المساواة بين الأفراد والأجناس.

وقد كان من مقدمات هذه الحرب بين الدول الكبرى حربان في البلقان،

اقترف فيهما البلقانيون من ضروب القسوة، وفظائع العدوان، وتقتيل الشيوخ

والوِلْدان، وهتك الأعراض ونهب الأموال، ما لم يعرف التاريخ أقبح منه منظرًا،

ولا أسوأ عاقبة وأثرًا، ولم يكن يخطر في بال أحد أن هذه الموبقات يمكن أن يقع

مثلها من دولة من الدول الكبرى، ودول العلم، والفنون، والمدنية الرائعة في هذا

العصر الذي يفضلونه على جميع العصور، ويسمونه عصر الحضارة والنور، نعم

إن أنواره المادية يكاد شعاعها يَذْهَب بالأبصار، ويمكن أن يفضل بها الليل على

النهار؛ ولكن يتمثل لك في هذا الضوء عالم المدنية هيكلاً من هياكل الوثنية، قد

نصب في محاربة تمثال القوة الحربية، واضعًا إحدى قدميه على الحق، والأخرى

على الفضيلة، رافعًا بيمنى يديه راية القهر والسلطة، وبشمالها راية الشهوة واللذة،

والناس ما بين راكع له وساجد، ومحرق للبخور ومُقَدِّم للذبائح.

قلما كان أحد من الناس يظن أن دول العلم والحضارة تقترف مثل ذلك الظلم

والعدوان، وتجترح تلك السيئات التي اجترحتها شعوب البلقان، فجاءت هذه

الحرب مكذبة لظن الخير فيها، وأحقت من القضاء بالقسوة والفظاعة عليها شر ما

أحقت على من قبلها، إذ كانت أقدر على التنكيل والتدمير من البلقانيين الذين هم

عالة عليها، بقدر ما آتاها العلم من أسبابها وآلاتها، فقد جعلت العلم الجدير بأن

يكون مصدر العدل والرحمة والسعادة مصدرًا للظلم والقسوة والشقاوة، فهذه دولة

ألمانيا الممتازة بسعة العلوم، واتقان الفنون، قد امتازت بما اخترعته من آلات

التخريب، وأسباب المنون، وينقل لنا عنها محاربوها ما تقشعر منه الجلود،

ويتصدع من هوله الحجر الجلمود، من مدافع تدرك الحصون والمعاقل،

وغواصات تنسف البوارج والبواخر، وغازات سامة يتكون منها دخان أخضر،

يقتفي آثاره الموت الأحمر، فهو مصداق قول الله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي

السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} (الدخان: 10-11) .

وضعوا للحرب قوانين لتخفيف نكباتها ومصائبها مستمدة محاسنها من الشريعة

الإسلامية شريعة العدل والرحمة؛ ولكن ثبت أنهم ما رعوها حق رعايتها، وإنما

يعملون بها في بعض الأمور الظاهرة المشتركة بين كل من المتقاتلين كمعاملة

الأسرى، ومن أمن منهم أن يُعَاقَب بمثل عاقب به لعجز خصمه، أو لإمكانه إخفاء

جنايته، لم يلتزم أحكام قوانين الحرب، وحقوق الدول، ولا معاهداتها احترامًا لها،

أو حبًّا في الحق والعدل اللذين تُوضَع القوانين والعهود لأجلهما.

فأين حرب هذه الأمم والدول التي خدع الناس كلهم حتى المسلمون بها،

وصاروا يباهون بفضائلها، وارتقائها في معارج المدنية الإنسانية بعلومها وفنونها،

ومن حرب الصحابة الذين كان أكثرهم أميين؟ تلك الحرب التي لم يعرف التاريخ

البشري مثلها في رعاية الحق والعدل والورع، واستعمال الرأفة والرحمة في السر

والعلن، بل شهد فيلسوف التاريخ والاجتماع (غوستاف لوبون) للعرب كلهم بذلك

فقال: ما عرف التاريخ فاتحًا أعدل ولا أرحم من العرب، فبذلك العصر النوراني

فليفاخر المفاخرون، لا بعصر الوحشية المنظمة التي جاء بها القرن العشرون.

هل نقل ناقل أو قال قائل إن أحدًا من الصحابة - عليهم الرضوان - أو

ممن حارب معهم من التابعين انتهك عرضًا، أو قتل شيخًا، أو امرأة، أو غلامًا،

أو سلب لأحد من أعدائه مالاً، أو هدم كنيسة أو ديرًا، أو قتل راهبًا، أو قسيسا؟

أو مَثَّل بقتيل، أو أجهز على جريح؟ كيف وقد كان الرسول - صلى الله عليه

وسلم - يوصيهم بمثل قوله: " انطلقوا بسم الله وبالله، ولا تقتلوا شيخًا فانيًا [1] ،

ولا طفلاً صغيرًا، ولا امرأة، ولا تغلوا، وضموا غنائمكم، {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ

يُحِبُّ المُحْسِنِينَ} (البقرة: 195) رواه أبو داود من حديث أنس بن مالك،

وروى أحمد من حديث ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم

إذا بعث جيوشه قال: (اخرجوا باسم الله تعالى تقاتلون في سبيل الله من كفر بالله،

لا تغدروا، ولا تُمَثِّلوا [2] ، ولا تقتلوا الولدان، ولا أصحاب الصوامع) .

ومن وصايا الخليفة الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه المقتبسة من

مشكاة النبوة ما رواه مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد أن أبا بكر بعث جيوشًا

إلى الشام فخرج يمشي مع يزيد بن أبي سفيان، وكان يزيد أمير ربع من تلك

الأرباع فقال: إني موصيك بعشر خلال: لا تقتل امرأة، ولا صبيًّا، ولا كبيرًا

هرمًا، ولا تقطع شجرًا مثمرًا، ولا تخرب عامرًا، ولا تعقرن شاة ولا بعيرًا إلا

لمأكله، ولا تعقرن نخلاً ولا تحرقه، ولا تغلل ولا تخبن [3] .

نعم قد كان يقع قليل من الشذوذ يقابل بالإنكار، إلا إذا دفع إليه الاضطرار،

والنادر لا حكم له، روى الشيخان وأصحاب السنن ما عدا النسائي وغيرهم عن

ابن عمر قال: وُجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي النبي صلى الله عليه وسلم

فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان.

وروى أحمد، وأبو داود، والنسائي وابن ماجه، وغيرهم عن رياح بن

ربيع: أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها، وعلى

مقدمته خالد بن الوليد فمر رياح وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

على امرأة مقتولة مما أصابت المقدمة، فوقفوا ينظرون إليها؛ حتى لحقهم رسول

الله صلى الله عليه وسلم على راحلته، فأفرجوا عنها، فوقف عليها رسول الله

صلى الله عليه وسلم وقال: (ما كانت هذه لتقاتل - وقال لأحدهم - الْحَقْ

خالدًا فقل له لا تقتلوا ذرية ولا عسيفًا) [4] ، وروى أبو داود في مراسيله عن

عكرمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بامرأة مقتولة يوم حنين فقال:

(من قتل هذه؟) فأخبره رجل أنه كان غنمها فلما رأت الهزيمة أهوت إلى قائم سيفه

لتقتله به؛ فقتلها قبل أن تقتله. ولا أتذكر قتل امرأة في مغازى النبي - صلى الله

عليه وسلم - غير هاتين إلا تلك المرأة اليهودية التي أمرها زوجها أن تلقي الرحى

على بعض المسلمين في غزوة بني النضير ليقتلوها فلا تعيش بعده إذ كان موطنًا

نفسه على أن يقاتل حتى يُقْتَل ففعلت.

وقد كان رفق النبي صلى الله عليه وسلم بالنساء أعظم من ذلك فقد روى

ابن إسحاق أن بلالاً مر بصفية وابنة عم لها على قتلى يهود بعد سقوط حصن بني

أبي الحقيق، فلما رأت المرأة القتلى صكت وجهها، وصاحت، وحثت التراب

على وجهها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لبلال " أَنُزِعَت الرحمة من قلبك

حين تمر بالمرأتين على قتلاهما؟) .

ومن ضروب العبرة في حرب المدنية الأوربية كثرة ما يتقاضونه من البلاد

التي يفتحونها من الغرامات، وما يفرضونه عليها من الإتاوات، وقد كان المسلمون

الأولون يكلفون أهل البلاد ضيافة ثلاثة أيام، لضرورة الحاجة إلى القوت وعدم

تيسر أسبابه بالطرق النظامية المتبعة في هذه الأيام، وأما الجزية والخراج اللذان

يفرضونهما على أهل البلاد فهما أقل مما تفرضه كل حكومة من حكومات الأرض

على أبناء جنسها في بلادها، دع ما تفرضه الحكومات الأوربية في مستعمراتها،

فهو يستغرق معظم غلات أرضها، فلا يبقى لأكثر أهلها منها إلا ما يسد الرمق،

ويستعين به على مداومة العمل، وقد قرأنا في الصحف ما فرضه الألمان على أهل

بلجيكة من الغرامات، وما حَمَّلُوها من الأثقال، بعد ما حل بهم ما حل من الخزي

والنكال، فإذا هو مما تعجز عن حمله الجبال لا الجمال، ولا غرو فإن كل حظ

أهل هذه المدنية المادية من الحياة والدافع لها إلى القتال، إنما هو الاستكثار من

جمع الأموال، والتمتع باللذة، والعظمة، والسلطة، والجاه، ولو ظفر البلجيكيون

بالألمان، لأنزلوا بهم الخزي والهوان، وعاملوهم كما عاملوا أهل الكونغو منذ

أعوام، فأين هذا من عفة المسلمين ولا سيما الصحابة الكرام.

روى البلاذري في فتوح البلدان عن سعيد بن عبد العزيز قال: بلغني أنه لما

جمع هرقل للمسلمين الجموع، وبلغ المسلمين إقبالهم عليهم لوقعة اليرموك ردوا

على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج، وقالوا: قد شغلنا عن نصرتكم

والدفع عنكم، فأنتم على أمركم، فقال أهل حمص: لَولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما

كنا فيه من الظلم والغشم، ولندفعن جند هرقل عن المدينة مع عاملكم، ونهض

اليهود فقالوا: والتوراة لا يدخل عامل هرقل مدينة حمص إلا أن نُغْلَب ونجهد،

فأغلقوا الأبواب وحرسوها، وكذلك فعل أهل المدن التي صولحت من النصارى

واليهود، وقالوا إن ظهر الروم وأتباعهم على المسلمين صرنا إلى ما كنا عليه،

وإلا فإنا على أمرنا ما بقي للمسلمين عدد، فلما هزم الله الكفرة (يعني الروم، أي

الرومانيين) ، وأظهر المسلمين فتحوا مدنهم، وأخرجوا المقلسين، وأدوا الخراج.

اهـ.

وفي رواية أحفظها ولا أتذكر موضعها الآن أن الصحابة لما ردوا ما كانوا أخذوا

من الجزية قالوا إنا كنا أخذناها جزاء حمايتكم والدفاع عنكم، وقد عجزنا الآن عن

ذلك، فحلف الأهالي أن أبناء دينهم ما كانوا ليرجعوا مالاً أخذوه

إلخ.

فهل عُهِدَ من فاتح في الأولين والآخرين أن يرد الخراج إلى أهل البلاد التي

يفتحها، بناء على أن الخراج لا يباح أخذه إلا لأجل حفظ البلاد والدفع عنها، وأن

العجز عن ذلك وإن كان في سبيل الدفاع عن تلك البلاد يُوجِب رد الأموال إلى

أصحابها؟ لا لا، إن هذا العدل والورع لم يعرفه البشر إلا من الصحابة - رضي

الله عنهم -، فإن كان من وليهم من خلفاء العرب وأمرائهم دونهم، فهم يَفْضُلون

سائر الأمم في رفقهم وقناعتهم.

كان بنون أمية أحرص العرب على نعيم الملك وسعة العيش، فخرجوا في

كثير من أمر السلطة والتصرف في بيت المال عن السنة المتبعة وسيرة الخلفاء

الراشدين، وإنما استقام عليها منهم عمر بن عبد العزيز، أما سيرتهم في الغزو،

والقضاء بين الناس، وإدارة البلاد فكانوا يتحرون فيها العدل والرحمة، وكذلك

كانت سيرة العباسيين في الشرق، والأمويين في الغرب (أي الأندلس) ، ومن شذ

عن ذلك لغير سبب حفظ الملك كان مذمومًا، وعرضة للعقاب، وقد تضاعفت ثروة

الممالك، واستبحر عمرانها بعد أن انتزعوها من الروم والفرس، بما كانوا

يسوسونها به من الرحمة والعدل، ولم يفطن لهذا بعض الكتاب الذي انبرى في هذه

الأيام إلى ذم ولاة العرب بكونهم لم يكن لهم هم إلا جباية الخراج، وقوله - في

أفراد منهم - إنهم لم يفعلوا شيئًا للبلاد، أو لم يقل فلان المؤرخ إنهم فعلوا شيئًا،

وهو يعلم علمًا ضروريًّا أن عدم القول لا يستلزم عدم الفعل، وإن ما سكت عنه زيد

يجوز أن لا يسكت عنه عمرو، ويعلم علمًا نقليًّا أن مزية الفاتحين الأولين من

العرب هي العدل والرحمة، لا الصناعة التي امتاز بها مؤسسو الأهرام وأمثالهم،

وكانت ولا تزال شاهدة على استبدادهم وظلمهم.

كتب بعض عمال عمر بن عبد العزيز يشكو إليه قلة دخل بيت المال بمصر

بكثرة دخول الناس في الإسلام، ويستأذنه في ضرب جزية على المسلمين، فكتب

إليه عمر هذه الكلمة العالية (إن محمدًا صلى الله عليه وسلم بُعِثَ هاديًا، ولم

يُبْعَث جابيًا) .

وكتب إليه عدي بن أرطأة: أما بعد، أصلح الله أمير المؤمنين، فإن قِبَلي

أناسًا من العمال قد اقتطعوا من مال الله عز وجل مالاً عظيمًا لست أرجو

استخراجه (وفي رواية: لست أقدر على استخراجه) من أيديهم إلا أن أمسهم

بشيء من العذاب، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في ذلك فعل، فأجابه بقوله:

(أما بعد فالعجب كل العجب من استئذانك إياي في عذاب بشر، كأني لك

جُنة من عذاب الله، وكأن رضائي عنك ينجيك من سخط الله عز وجل، فانظر من

قامت عليه بينة عدول فخذه بما قامت عليه به البينة، ومن أقر لك بشيء فخذه بما

أقر به، ومن أنكر فاستحلفه بالله العظيم وخل سبيله، وايم الله لأن يلقوا الله - عز

وجل - بخياناتهم، أحب إلي من أن ألقى الله بدمائهم. والسلام) .

وروي عن يحيى الغساني أنه قال: لما ولاني عمر بن عبد العزيز الموصل

قَدِمْتُها فوجدتها من أكثر البلاد سرقًا ونقبًا، فكتبت إلى عمر أعلمه حال البلد وأسأله:

آخذ الناس بالظنة، وأضربهم على التهمة، أم آخذهم بالبينة، وما جرت عليه

السنة؟ فكتب إليّ أن خذ الناس بالبينة وما جرت عليه السنة، فإن لم يصلحهم

الحق فلا أصلحهم الله، قال يحيى ففعلت ذلك فما خرجت من الموصل حتى كانت

من أصلح البلاد، وأقلها سرقًا ونقبًا.

ومن ضروب العبرة في هذه الحرب ما تراه في كلام كثير من الكتاب من

بنائها على قاعدة من قواعد المدنية الحديثة قررها الألمان، وتوسعوا في فلسفتها،

وألفوا فيها الكتب، ووافقهم عليها من وافقهم بالقول والفعل ودون القول - وهي

قاعدة " الحق للقوة " - وقد نشرنا في الجزء الذي قبل هذا مقالاً في شان الكتاب

الذي ألفه أحد قواد الألمان وعلمائهم (الجنرال فون برنهاردي) في ذلك وسماه

(المنطق والمبادئ في الحروب) ، وفي نقد مجلة القرن التاسع عشر الإنكليزية له،

ومنه تعلم أنهم جعلوا الأثرة وتفضيل الأقوياء على الضعفاء حتى في الحقوق المدنية

مما تقتضيه الفضيلة والحكمة، بل زعموا أنه من أصول الديانة المسيحية وأحكامها،

وأن مساواة الشعب الغالب للشعب المغلوب لا يجوز في نظر العلم والفلسفة ولا

في حكم الدين.

ندع لعلماء اللاهوت ورجال الكنسية حكمهم فيما عزاه الجنرال الألماني في

الإيثار (الذي يعبر عنه القوم بإنكار الذات) ، وهو ضد الأثرة التي يدعيها هذا

الفيلسوف الألماني وغيره، فهو ينافي طلب السلطة وانتزاع ملك الناس وملكهم

بالقوة، لأجل التمتع بالجاه واللذة، لأن من قواعد الإنجيل أن يعطي المؤمن ماله

لغيره، فكيف يتفق هذا مع انتزاعه من غيره ما يملكه؟ وأما الإسلام فهو وسط بين

هذه المدنية المادية، وبين زهد المسيحية، فهو دين سيادة وسلطة مدنية، وفضيلة

أدبية روحية. فإلإيثار فيه فضيلة مندوبة، وهو في المسيحية فريضة مطلوبة، قال

الله تعالى في وصف المؤمنين {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (الحشر: 9) ، وأما قاعدة الإسلام في الأحكام فهي العدل والمساواة في الحقوق بين

المؤمن والكافر، والبَر والفاجر، والقريب والبعيد والحبيب والبغيض، قال تعالى:

{وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَاّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة: 8) ،

والآيات في هذا المعنى كثيرة أوردنا طائفة منها في الرد على الكاتب الأمريكي

الذي زعم فيما - كتبه بمناسبة إلغاء الدولة العثمانية الامتيازات الأجنبية أن الشريعة

الإسلامية جاءت بعدم المساواة بين المسلم وغيره، وبَيَّنَّا هنالك أنه لا تُعْرَف شريعة

في الأرض قررت هذه المساواة غير الشريعة الإسلامية. وقد جرى على ذلك

الخلفاء الراشدون على وجه الكمال، وكان هو الأصل والقاعدة عند الأمويين

والعباسيين في القضاء، وإنما وقع الشذوذ والخروج عنه في بعض الأحكام

السياسية والعسكرية.

واقعة مساواة عمر بن الخطاب بين علي صهر الرسول وابن عمه، وبين

رجل من عامة اليهود، وغلط عمر في تسمية اليهودي، وتكنية عليّ، واستياء

عليّ منه لتفضيله إياه على خصمه بالتكنية، واعترافه هو بأن ذلك خطأ - واقعة

مشهورة معروفة، وقد جرى لعمر بن عبد العزيز ما يقرب منها:

قال الحكم بن عمر الرعيني: شهدت مسلمة بن عبد الملك يخاصم أهل دير

إسحق عند عمر بن عبد العزيز بالناعورة، فقال عمر لمسلمة: لا تجلس على

الوسائد، وخصماؤك بين يدي؛ ولكن وكل بخصومتك من شئت وإلا فجاثي [5] القوم

بين يدي، فوكل مولى له بخصومته، فقضى عمر عليه بالناعورة. ذكره الحافظ

ابن الجوزي في سيرته.

قلت: إن هذه الواقعة تشبه واقعة عليّ مع اليهود، وأعني بالتشبيه المساواة في

التكريم والاحترام بين الرفيع، وإن كان من بيت النبوة أو الملك، وبين سائر

الناس حتى من غير المسلمين، فعليّ كان سيد آل بيت الرسول وعمادهم، ومسلمة

كان من بيت الملك فهو ابن عبد الملك بن مروان، وناهيك بما كان لبني عبد الملك

من العز والسلطان.

أما المساواة في الحقوق نفسها فكانت هي الأصل الذي يجري عليه كل الحكام

إلا من شذ لأسباب عارضة، أو لفساد في خلق الشخص، ووقائعها في عهد عمر

بن عبد العزيز لا تحصى، وقد كان أول مظلمة رفعت إليه يوم توليته مظلمة ذمي

من أهل حمص ادعى أن العباس بن الوليد بن عبد الملك اغتصبه أرضه، قال عمر:

يا عباس ما تقول، قال أقطعنيها - أي الأرض - أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك،

وكتب لي بها سجلاًّ، فقال: ما تقول يا ذمي؟ قال: يا أمير المؤمنين أسألك

كتاب الله عز وجل، فقال عمر: كتاب الله أحق أن يتبع من كتاب الوليد بن عبد

الملك، اردُدْ عليه يا عباس ضيعته، فردها عليه.

وقد كان أهل بيت الملك من بني أمية تأثلوا ضياعًا، ومزارع كثيرة من بيت

المال، وكان لبعض الناس في بعضها حق أو مقال، فلما ولي عمر بن عبد العزيز

ردها، وكان أول ما بدأ به رد ما كان له ولولده من ذلك.

وروي أنه استشار مولاه مزاحمًا في ذلك فقال: يا مزاحم إن هؤلاء القوم

أعطونا عطايا، والله ما كان لهم أن يعطونا إياها، وما كان لنا أن نقبلها، وإن ذلك

قد صار إلي ليس عليّ فيه دون الله محاسب، فقال له مزاحم: يا أمير المؤمنين هل

تدري كم ولدك؟ إنهم كذا وكذا، قال: فذرفت عيناه فجعل يستدمع، ويقول: أَكِلُهم

إلى الله تعالى، ثم ذهب مزاحم، وذكر ذلك لعبد الملك بن عمر عسى أن يكف أباه

عن ذلك، فقال له عبد الملك: بئس وزير الدين أنت يا مزاحم، ثم وثب فانطلق

إلى بيت أبيه عمر فاستأذن عليه فقال له الآذن: إن أمير المؤمنين قد وضع رأسه

للقائلة، قال استأذن لي، قال: أما ترحمونه ليس له من الليل والنهار إلا هذه

الوقعة، قال عبد الملك: استأذن لي لا أم لك، فسمع عمر الكلام، فقال: من هذا؟

قال هذا عبد الملك، قال: ائذن له، فدخل عليه، وقد اضطجع للقائلة، فقال:

ما حاجتك يا بني في هذه الساعة، قال: حديث حدثنيه مزاحم، قال: فأين وقع

رأيك من ذلك؟ قال وقع رأيي على إنفاذه، قال: فرفع عمر يديه، وقال: الحمد

لله الذي جعل لي من ذريتي من يعينني على أمر ديني، نعم يا بني، أصلي الظهر،

ثم أصعد المنبر فأردها علانية على رؤوس الناس، فقال عبد الملك: ومن لك

بالظهر يا أمير المؤمنين! ومن لك إن بقيت إلى الظهر أن تسلم لك نيتك إلى الظهر

! فقال: قد تفرق الناس ورجعوا للقائلة، فقال عبد الملك: تأمر مناديك ينادي:

الصلاة جامعة، فيجتمع الناس (قال إسماعيل بن أبي حكيم الراوي لهذه الواقعة

وهو من رجال صحيح مسلم) فنادى المنادي: الصلاة جامعة فخرجت فأتيت

المسجد فجاء عمر فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:

أما بعد، فإن هؤلاء القوم قد أعطونا عطايا، والله ما كان لهم أن يعطوناها.

وما كان لنا أن نقبلها، وإن ذلك قد صار إليّ ليس عليّ فيه دون الله محاسب، ألا

وإني قد رددتها، وبدأت بنفسي وأهل بيتي، اقرأ يا مزاحم.

قال الراوي: وقد جيء بسفط قبل ذلك، أو قال جونة فيها تلك الكتب، فقرأ

مزاحم كتابًا منها فلما فرغ من قراءته ناوله عمر - وهو قاعد على المنبر وبيده جَلم

(أي مقص) فجعل يقصه بالجلم، واستأنف مزاحم كتابًا آخر، فجعل يقرؤه فلما

فرغ منه دفعه إلى عمر فقصه، ثم استأنف كتابًا آخر، فما زال حتى نودي بصلاة

الظهر.

هذه هي أحكام الإسلام، فمن خالفها كان خارجًا عن هديه، استعملوا القوة في

إقامة العدل مع الرحمة، وبذلك ساد من ساد من خلفائهم ودولهم، فقاعدتهم (القوة

للحق) ، وقاعدة المدنية الحديثة (الحق للقوة) ، وأما المتأخرون منا فهم مذبذبون

بين ذلك لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء، وما رأيت أصدق في وصف القوم

ووصفهم من قول شاعر بني العنبر أول شعراء الحماسة:

لو كنت من مازن لم تستبح إبلي

بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا

إذًا لقام بنصري معشر خُشُن

عند الحفيظة أن ذو لُوثَة لانا

قوم إذا الشر أبدى ناجديه لهم

طاروا إليه زرقات ووحدانا

لا يسألون أخاهم حين يندبهم

في النائبات على ما قال برهانا

لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد

ليسوا من الشر في شيء وإن هانا

يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة

ومن إساءة أهل السوء إحسانا

كأن ربك لم يخلق لخشيته

سواهم من جميع الناس إنسانا

فليت لي بهم قومًا إذا ركبوا

شنُّوا الإغارة فرسانا وركبانا

ومن ضروب العبرة في هذه الحرب ما نراه في أخبارها من الكذب،

والتناقض، والتعارض، والتهاتر، والتمويه، والتدليس، وسوء التحريف، وفساد

التأويل يشترك في ذلك أصحاب الشركات البرقية، والجرائد السياسية، حتى سرى

إلى المجلات التاريخية والعلمية، بل لم يعد أحد من الناس يثق كل الثقة بالتقارير،

والبلاغات الرسمية، لأنهم يرون كل خصم يُكَذِّب خصمه في أخباره الرسمية، ولو

سئل أصحاب الجرائد في كل قطر من الأقطار عن سبب ما ينكر عليهم مما ذكر -

لأجابوا: أن سببه الأول تضييق حكوماتنا علينا، وإلزامها إيانا عرض كل ما

نكتبه على رقبائها الذين سلبوا حرية الكتابة منا، مع اجتهادنا في جعل ما نكتبه

موافقًا لمصلحتها، وتجنبنا من تلقاء أنفسنا كل ما نرى أن نشره مخالف سياستها.

هذا عذر عارض، والمشهور بين الناس أن الجرائد لا تتحرى الصدق فيما

تنشره، لا في أيام السلم وعهد الحرية، ولا في أيام الحرب وعهد المراقبة، وأنها

تتعمد الكذب والتمويه إذا كان لها في ذلك منفعة، والحق أنها تواريخ فيها الصادق

والكاذب، والحق والباطل، تجمع بين الدرة والبعرة، وتأتي بالذرة وأذن الجرّة،

وإنني لا أشهد لجريدة من الجرائد التي أعرفها في الشرق أنها تمثل حال البلاد التي

تصدر فيها والأمة التي تتكلم عنها تمثيلاً صحيحًا، كما يعرفه المختبر للبلاد وللأمة

ولو كانت هذه الجرائد في عصر رجال الجرح والتعديل من المحدثين، لجعلوا

أصحابها في عداد الوضَّاعين، ولم يرتقوا بهم إلى درجة الضعفاء أو المدلسين،

كيف وقد ضَعَّف بعضهم القاضي الواقدي، وبعضهم قال إنه كذاب، وإنه كان يضع

الحديث، وهو من أكبر الحفاظ، وأشهر المؤلفين، كتب عنه سليمان الشاذكوني

كتابًا، ثم أتاه فسأله عما كتبه عنه قبل أن يخرج به، فإذا هو لم يغير حرفًا منه.

لم تُعْنَ أمة من أمم العلم بمثل ما عني به المسلمون من ضبط الرواية في

القرون الأولى، فإن كانوا دونوا في تواريخهم كل ما قيل، ما صح منه، وما لم

يصح لأجل الجمع والإحصاء، فالعمدة عندهم على الأسانيد، فما كان محل الشبهة

منها أمكن تمحيص الرواية فيه بالبحث عن رجال سنده، فإذا انفرد بعض الرواة

والمؤرخين بطعن في العلويين أو الأمويين أو العرب - مثلاً - يمكننا بالنظر في

السند أن نعرف هل فيه أحد المتعصبين غير الثقات من النواصب، أو الروافض،

أو الشعوبية، فنتهمه بوضعه أم لا؟ وتحرير هذه المسألة لا يمكن إلا بمقال طويل،

وعلى الله قصد السبيل.

_________

(1)

المراد بالشيخ الفاني من لا يقاتل، وقد كان الناس كلهم مقاتلة إلا هؤلاء الذين نهى الحديث

عنهم، والقاعدة الإسلامية العامة أنه لا يُقَاتَل إلا من يُقَاتِل.

(2)

الغلول: الخيانة في الغنائم، والتمثيل: تشويه الأعضاء بنحو قلع العين، وجدع الأنف، وصلم الأذن، وقد حرم الإسلام التمثيل بالقتلى فضلاً عن الأحياء، وقد ثبت وقوع التمثيل في حرب المدنية الأوربية، وفي الحرب البلقانية قبلها.

(3)

أخبن الرجل: خبأ في خبنة ثوبه أو سراويله شيئًا، والخبنة بالضم طية الثوب، وثنيته، وفي نسخ الموطأ المطبوعة وأكثر الكتب التي نقلت عنه: ولا تجبن، بالجيم.

(4)

العسيف: الأجير.

(5)

أي اجلس بإزائهم جاثيًا على ركبتك مثلهم إذ لا تمييز في الخصومة بين أبناء الخلفاء والأمراء، وبين دهماء الناس كأهل الدير وغيرهم.

ص: 182

الكاتب: محمد توفيق صدقي

مدرسة دار الدعوة والإرشاد

دروس سنن الكائنات

محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صدقي

(5)

الفرق بين الهواء الداخل إلى الرئتين والخارج منهما:

الهواء الداخل إلى الرئتين تركيبه عين تركيب هواء الجو أعني هكذا:

أكسجين

...

...

...

...

20.96 في المائة [1]

نيتروجين

...

...

...

...

79 في المائة

غاز حامض الكربونيك (وهو غاز ثاني أكسيد الفحم)

0.04 في المائة

بخار الماء

...

...

...

...

كمية مختلفة

وحرارة هذا الهواء تختلف باختلاف الجهات والأوقات وغير ذلك.

أما الهواء الخارج من الرئتين فتركيبه كما يأتي:

أكسجين

...

...

...

... 16.03 في المائة

نيتروجين

...

...

...

... 79 في المائة

غاز ثاني أكسيد الفحم

...

...

... 4.40 في المائة

بخار الماء

...

...

...

... الهواء مشبع به

الحرارة

...

...

...

...

كحرارة الجسم

فيُفْهَم من ذلك أن النيتروجين لا تتغير كميته لعدم حاجة الجسم إليه من طريق

التنفس؛ فيذوب في الدم كما يذوب في الماء، ولا عمل له في الجسم مطلقًا، وفائدة

النيتروجين في الهواء تخفيف مقدار الأكسجين فيه، فإننا إذا استنشقنا أكسجين

خالصًا احترق جسمنا بسرعة كبيرة، ونحف، واحتجنا إلى مقادير عظيمة من

الطعام لتعويض هذا النقص الكبير، فلذا اقتضت الحكمة الإلهية تخفيفه بالنيتروجين

نعم إن النيتروجين ضروري لتركيب جميع الخلايا؛ ولكنه يصل إلى الجسم

في الطعام، وفي الشراب (كاللبن) لا بطريق التنفس - كما قلنا -.

أما الأكسجين الداخل مع الهواء فكميته أكثر من كمية الخارج معه، لأنه يتحد

مع هيموجلوبين الكريات الحمراء، ويدور مع الدم فإذا وصل إلى أنسجة الجسم

جذبته إليها، واتحدت به وهذا ما يسمى (بالاحتراق الداخلي) أو (التنفس الداخلي)

اللازم لحياة الجسم.

وإذا اتحد الأكسجين مع أجزاء الجسم تولدت مواد أخرى بقاؤها ضار بالجسم،

فتدور مع الدم لتفرزها الأعضاء المختصة بذلك كالكليتين، والجلد في البول

والعرق.

ومن هذه المواد الناشئة من الاحتراق الداخلي غاز ثاني أكسيد الفحم، والماء

وهذا هو السبب في زيادة غاز ثاني أكسيد الفحم، والماء في الهواء الخارج من

الرئتين.

وقد وجد علماء الفسيولوجيا أن الهواء الخارج من الصدر يشتمل أيضًا على

بعض مواد نيتروجينية عضوية؛ ولكنهم لم يكتنهوا إلى الآن ماهيتها، ولا تركيبها

وهي السبب في رداءة رائحة هواء الغرف المسكونة، وإذا تنفسها الإنسان مرة

أخرى أضر بصحته ضررًا بليغًا يفوق ضرر استنشاق القليل من غاز ثاني أكسيد

الفحم؛ فإن هذا الغاز لا يفسد تركيب أي جزء من أجزاء الجسم؛ ولكنه إذا ملأ

الجو مات الانسان اختناقًا لعدم وجود الأكسجين فيه.

المواد المختلطة بالهواء:

ويوجد في الأهوية الفاسدة - غير ذلك أيضًا - مواد أخرى غازية ضارة

بالإنسان ضررًا بليغًا، ومن أهمها الهيدروجين المكبرت، وهو الذي يتولد من

المراحيض وغيرها، وهذا الغاز يفسد الدم، ويضر بالجسم أيضًا.

وكذلك أول أكسيد الفحم فإنه سام جدًّا، وهو يتولد من الاحتراق الناقص للفحم

ويوجد في الهواء أيضًا ميكروبات، وذرات مختلفة من التراب، والمعادن، والفحم

وغير ذلك، فالميكروبات تحدث أمراضًا عديدة في الجسم الإنساني، وتلك الذرات

تحدث أيضًا نزلات شعبية، والتهابات رئوية مزمنة.

لهذا كله يجب أن يكون الهواء المستنشق نقيًّا من كل ما تقدم، فلا يكثر فيه

أكسيدا الفحم الناشئان من أنفاس الحيوانات والنباتات ليلاً، ومن اشتعال النيران،

ويجب أن يكون هواء الأمكنة المسكونة بعيدًا عن المراحيض دائم التجدد، معرضًا

للشمس؛ فإنها تقتل كثيرًا من ميكروباته بعيدًا عن الأتربة والمصانع التي تثير

غبارًا من المعادن وغيرها.

سنة الله في الأكسجين والكربون:

ولا يتوهم القارئ - مما سبق - أن كمية الأكسجين في الهواء آخذة في

النقص شيئًا فشيئًا بسبب التنفس، وبسبب النيران، فإن الله تعالى وضع لذلك سنة

حكيمة بها يبقى الأكسجين في الهواء إلى ما شاء الله، وذلك بأن جعل الورق

الأخضر لجميع النبات يحلل (بتأثير أشعة الشمس فيه) غاز ثاني أكسيد الفحم،

فيمتص منه الفحم، ويُخْرِج الأكسجين، وهذا الفحم باتحاده مع عناصر أخرى

تتركب منه أخشابها، وما فيها من صموغ، وسكر، وزيوت، وغير ذلك؛ فكأن

الفحم الخارج من الإنسان، وغيره من الحيوانات ضروري للأشجار، فإذا أكل

الإنسان شيئًا من هذه الأشجار عاد إلى جسمه، ثم يحترق فيه؛ فيخرج في الهواء؛

فيعود إلى الشجر، وهكذا كالدائرة.

وبحركة الرياح (وهى ناشئة من اختلاف درجة حرارة الهواء) ، وبتماوج

ذراته، وانتشارها توجد حركة دائمة في هواء الأرض؛ فتبعثر الأكسجين، وتنشره

في جميع الجهات، ولولا ذلك لماتت الحيوانات التي في البقاع الخالية من الأشجار.

ومن الخطأ العظيم تغطية الوجه أثناء النوم، وكذلك غلق منافذ الغرفات مع

وجود أشخاص فيها، أو مصابيح وغيرها؛ فإن ذلك قد يقتل الإنسان.

أما ثاني أكسيد الفحم المتكون من الاحتراق الداخلي؛ فإنه يوجد في الدم لا

ذائبًا فيه، بل متحدًا مع عنصر الصوديوم بصورة كربونات الصوديوم، أو

بيكربونات الصوديوم؛ فإذا وصل هذان الملحان إلى الرئتين خرج من البيكربونات

ثاني أكسيد الفحم بطريق الإكسوسموز، ومما يساعده في خروجه الخلايا المبطنة

للحويصلات الرئوية؛ فتفرزه وسبب حصول الإكسوسموز هو نقصان كمية ثاني

أكسيد الفحم في الهواء، كما أن السبب في دخول الأكسجين من الهواء في الدم هو

أيضًا قلة الأكسجين في الدم عنها في الهواء، وقبل دخول الأكسجين للدم يذوب في

الرطوبة التي تغطي جدران الحويصلات الرئوية ومنها يدخل للدم، ويجب أن لا

يتوهم القارئ أن كل الهواء الذي في الحويصلات الرئوية يخرج منها أثناء الشهيق

فالواقع أنه يخرج جزء منه، ويبقى جزء آخر، وبطريقة الانتشار يسرع أكسجين

الهواء إلى الداخل لكثرته، وغاز ثاني أكسيد الفحم إلى الخارج لكثرته أيضًا - كما

سبق بيانه -.

ثقل غازات الهواء:

من تأمل في تركيب الهواء، والفرق بين درجات ثقل غازاته وجد أن

النيتروجين من أخفها، وغاز ثاني أكسيد الفحم من أثقلها، فلذا يتكاثر هذا الغاز

الأخير بقرب سطح الأرض وفى الحفر، وكلما ارتفع الإنسان نقصت كمية هذا

الغاز، وزادت كمية النيتروجين، ولذا كثيرًا ما سمعنا بموت أشخاص هبطوا إلى

أماكن منخفضة كالآبار وغيرها.

أما الأكسجين فلكونه أثقل من النيتروجين يكثر في الهواء المجاور للأرض،

ويقل في جو السماء، يشعر بذلك من توقل (صعَّد) في جبل عالٍ، أو حلَّق في

الجو بطيارة.

وأعظم علو أمكن للإنسان أن يصل إليه في القباب الطيارة، أو المناطيد، أو

الجبال هو 8838 مترًا، أما الصعود بعد ذلك فيؤدي إلى هلاك الإنسان، إما لنقص

الأكسجين، أو لانفكاك غازات الدم منه فتَحْدُث أعراضٌ خطرة، ويتعسر التنفس،

أو يتعذر بسبب نقص كمية الأكسجين نقصًا عظيمًا فلا يحدث الإندوسموز. زِدْ على

ذلك أنه إذا عاش الإنسان بضع دقائق في ذلك المكان المرتفع حصل له نزف من

الأنف، أو الرئتين، أو غيرها لقلة ضغط الهواء الجوي على جسم الإنسان،

ولتعلم أن الصعود إلى نحو 5000 مترًا لا يوافق جمهور الناس حتى المتعودين

لذلك من سكان الجبال.

أما ارتفاع هواء الجو فلا يقل عن 300 كيلو متر

التنفس الصناعي:

إذا بطل تنفس الإنسان بسبب ما كاستنشاق الكلوروفورم، أو الغرق في الماء

أو استنشاق غازات الاحتراق، أو غير ذلك مما يبطل التنفس أمكن إعادة الحياة إلى

المصاب بطريقة (التنفس الصناعي) ، واستعمال المنعشات، ونحوها بشرط ألا

تكون المدة قد طالت، وأن لا تكون أنسجة الجسم قد بدأ فيها أقل شيء من الفساد.

أما طريقة التنفس الصناعي فهي أن تزيل كل ما أمكنك إزالته مما قد يوجد

في مجاري التنفس، كالماء في الغريق - مثلاً - بأن تقلب المصاب على وجهه،

وترفع رجليه إلى أعلا، ثم تضعه على مكان عالٍ لتتمكن منه، وتخفض رأسه،

وتخرج لسانه بشدة بمقبض (جفت) ، أو نحوه، ثم تمسك بعضديه، وتجذبهما إلى

أعلى رأسه، ثم تخفضهما إلى جنبيه، وتضغط بهما على صدره، ويستحسن أن

يساعدك شخص آخر في ذلك الوقت؛ بأن يضغط على بطنه أيضًا ليرتفع الحجاب

الحاجز فيحصل الشهيق بسبب ذلك، أما الزفير فإن الذي يحدثه هو جذب الذراعين

المذكور هنا، ويتكرر هذا العمل في الدقيقة الواحدة نحو خمس عشرة مرة، ولا

يصح اليأس من عودة الحياة إلا بعد مضي نحو ساعة على الأقل، وفي أثناء هذا

العمل تُوضَع خرق مبتلة بالماء الحار على القلب، أو يُنَبَّه الحجاب الحاجز

بالضرب بمثل المنشفة على قسم المعدة، وينشق المصاب (كبسول الأميل نيتريت)

ويحقن بالأستركنين، أو الأثير، أو غيرهما تحت الجلد، ويُحْقَن بجزء من

الخمر، أو الكحول في الشرج إلى غير ذلك؛ فإذا فعلت جميع هذه الأشياء

باستمرار عادت الحياة - غالبا - خصوصًا إذا كانت ضربات القلب موجودة، ومن

أحسن المستنشقات في ذلك الوقت غاز الأكسجين، إن وجد.

***

جهاز الهضم

مقدمة في الغدة:

قبل البدء في الكلام على هذا الجهاز ينبغي أن نبدأ بتعريف كلمة (الغدة) لشدة

الاحتياج إليها فيما سيأتي:

تطلق هذه الكلمة على ثلاثة أنواع من أجزاء الجسم:

(1)

الغدة اللمفاوية: وهي عبارة عن شيء كعقدة مركبة من عدة كريات

تشبه كريات الدم البيضاء يمسك بعضها بجانب بعض مادة تسمى بالمنسوج الضامّ،

ووظيفتها تنقية المواد اللمفاوية من الميكروبات وغيرها، ولذلك نجد كثيرًا منها

موضوعًا في طريق الأوعية اللمفاوية بحيث تصب فيها، ثم تخرج منها - كما

سبق-.

(2)

غدة الإفراز: وهي التي تُخْرِج مواد كثيرة من الجسم، بعضها له

منفعة خاصة، والبعض الآخر لا نفع له، وإنما تُخْرِجه لضرر إبقائه في الجسم،

مثال الأول اللعاب، واللبن، ومثال الثاني البول، والعرق، وقد يكون الشيء

المُخْرَج له نفع في الجسم، ويضر بقاؤه فيه كالمرة، وهي المادة الصفراء التي

يفرزها الكبد.

وتتركب الغدد الإفرازية من غشاء مجهري (ميكروسكوبي) يوجد على

سطحه خلايا الإفراز، وتكون طبقة واحدة في الغالب، وتوجد عدة طبقات منها في

مكان شهير بالجسم وهو الخصية، وعلى الجانب الآخر من هذا الغشاء المذكور

توجد أوعية الدم، ومنها تخرج المواد بطريق الإكسوسموز؛ فتتصرف فيها

الخلايا، وتخرج منها مواد كيماوية عجيبة التركيب.

أما أشكال هذه الغدد فمنها الكيسي؛ وذلك بأن ينبعج الغشاء إلى جهة الأوعية

الدموية؛ فيتكون كيس صغير مبطن بلا خلايا، وله فوهة يخرج منها الإفراز،

ومنها الأنبوبي، وهي التي يكون لها تجويف كالأنبوبة، لا كالكيس، ومنها

الأنبوبي المتفرع، ومنها عنقودي الشكل، ومنها الملتوي.

ويُلاحَظ أن في هذا النوع من الغدد قناة في داخل الغدد الإفرازية، وفيها

تجري مفرزاتها كاللبن، والعرق، وغيرها.

أما الضرب الأول من الغدد فلا قناة لها

وأما الضرب الثالث فهو أيضًا لا قناة له، وهو يشمل عدة أعضاء في الجسم

كالطحال (وهو نوع من الغدد اللمفاوية) ، والغدة الدرقية، والغدة السعترية في

صدور الأطفال، وغير ذلك مما سيأتي الكلام عليه في فصل خاص.

والذي يهمنا في الكلام على الهضم هو الضرب الثاني.

تشريح الجهاز الهضمي ووظيفته:

يبتدئ هذا الجهاز بالفم، ثم المرئ، ثم المعدة، ثم الأمعاء الصغيرة،

فالكبيرة، وينتهي بالدبر، ويصب فيه عدة إفرازات من غدد متنوعة لهضم الطعام

ولغير ذلك، وتمر فيه الأغذية والأشربة في مدة تختلف من يوم إلى يوم ونصف،

وقد تكون أقل من ذلك بكثير، كأحوال الإسهال، وقد تكون أكثر من ذلك في أحوال

الإمساك.

أما الفم ففيه اللسان، والأسنان، وغدد اللعاب، وفي نهايته توجد اللوزتان

ووظيفة اللسان هي تحريك الطعام ليمتزج باللعاب، وليمكن مضغه وبلعه، ومن

وظائفه أيضًا الكلام كما سبق، وإدراك طعوم الأشياء، وعليه مدار معرفة ما ينفع

الإنسان وما يضره من المأكولات والمشروبات، وإدراك الطعوم اللذيذة يحرك شهوة

الطعام فيجيد هضمه.

أما الأسنان فهي عادة نوعان: الأسنان اللبنية، أو المؤقتة، والأسنان الدائمة،

وقد ينبت للشيوخ أسنان مرة ثالثة، ولكنها مسألة نادرة الحصول.

أما الأسنان اللبنية فهي: 20، والأسنان الأخرى 32 منها 19 في الفك

الأعلى، و16 في الفك الأسفل.

وعلى الأسنان مدار جودة هضم الطعام لأنها تهشمه وتسحقه إلى قطع صغيرة

لتتمكن الأعصرة الهاضمة من الوصول إلى جميع أجزائه، فمن ازْدَرَدَ طعامه بلا

مضغ أضر بجهاز الهضم خصوصًا، وبالجسم عمومًا، فيجب إطالة المضغ،

وإبقاؤه، ويجب علينا أيضًا المحافظة على الأسنان، وإلا أصابها العطب، وفقدناها

فنخسر جزءًا عظيمًا من أجزاء جهاز الهضم، وأعظم شيء للمحافظة عليها هو

تنظيفها جيدًا، وعدم استعمال شيء بارد على شيء ساخن في الفم، أو بالعكس فإن

ذلك من أعظم ما يفسدها.

وأشهر أمراض الأسنان نوعان:

(1)

النوع الأول: أن يصيبها الحفر (التسويس) ، وهو عبارة عن تفتت

جزء من عظم السن، وانكشاف لبه، والتهاب هذا اللب فيحصل بسبب ذلك ألم

شديد، يحرم الإنسان لذة النوم، والطعام، وتموت السن لفساد أوعية الدم المغذية

في داخل اللب والميكروب المسبب لذلك يسمى (leptothrix buccalis) أي

(الشعرة الدقيقة الفمية) ، ويوجد في هذا المرض أيضًا الأميبا [2] الفمية

(amocba) .

وعلاجه يكون بإعدام العصب الذي في داخل اللب بمادة كاوية كحامض الفنيك

أو الكريوزوت، وذلك يطهر اللب ويسكن الألم، والأَوْلَى أن يُعْدَم اللب بأكسيد

الزرنيخوز - كما هي العادة -، ثم يحشى التجويف بالذهب، أو بمواد أخرى يعرفها

أطباء الأسنان كالخزف، وهو أحسن من غيره.

(2)

النوع الثاني داء ريج (Rigg) : وهو مرض كثير الانتشار بين

الناس، يبدأ بالتهاب حول جذر السن في سمحاق العظم، فتتكون مواد صديدية،

وبضغطها على جذر السن يرفع شيئًا فشيئًا حتى تسقط، وهذا الداء هو سبب سقوط

أسنان كثير من الناس، وسببه دخول ميكروب خاص إلى جذر السن من أي تقرح

صغير في اللثة وهذا الميكروب يسمي (الإستربتوكوك [3] اللعابي)

(streptocoecus) ، وهو يوجد عادة في أفواه جميع الناس، إلا أنه في بعض

أحوال مخصوصة كضعف البنية - بسبب ما - يتمكن من إيذاء الإنسان؛ فيدخل

إلى جذور الأسنان، وهناك يفعل فعلته الشنعاء.

ولا علاج ناجعًا لهذا الداء سوى الحقن بميكروب المرض [4] المأخوذ من نفس

المريض كما سيأتي توضيحه، وإلا فالمبادرة إلى قلع ما يصاب به من الإنسان

والاستعاضة عنها بأسنان صناعية، واستعمال المطهرات المتنوعة، والنظافة التامة

للفم، مع تقوية البنية بالأغذية الجيدة، والهواء النقي، وغير ذلك، ومما يسكن

الألم في هذا المرض استعمال مضمضة من الخل، وهي فائدة شائعة بين العامة.

وأحسن طريقة لنظافة الأسنان هي استعمال السواك خصوصًا بعد كل طعام،

وهو يؤخذ من شجرة الأراك، وفيه مواد عطرة مطهرة بعض التطهير للفم،

ومعطرة له، وتساعد على الهضم أيضًا، وهو يشد اللثة لقبض فيه، ويسمي

الآراك بعض الإفرنج (شجرة محمد) لحث الشريعة الإسلامية على استعمال

السواك كما هو معلوم، ولا يُغني عنه إلا استعمال المسفرة (الفرشة) مع بعض

أدوية عطرية مطهرة قابضة، ويجب غليها بعد كل استعمال، وإلا تكاثرت فيها

الميكروبات الضارة بالأسنان، وكذلك يجب تجديد طرف السواك بعد كل استياك.

أسماء الأسنان ووقت ظهورها:

أما أسماؤها فهي: ثنيتان في الوسط، وبجانبيهما رباعيتان، ثم نابان،

ثم ضاحكتان، ثم ست أرحاء، ثلاث في كل جانب، ثم ناجذان، واحد في اليمين،

وآخر في اليسار، وهما آخر الأضراس، وذلك في كل من الفكين الأعلى

والأسفل.

وقت ظهور الأسنان:

الأسنان اللبنية تظهر في الطفل من الشهر السادس إلى الرابع والعشرين على هذا الترتيب:

الثنيتان السفليتان

...

...

... 6 -9 أشهر

الثنيتان العلويتان والرباعيتان العلويتان

... 8-10 أشهر

الرباعيتان السفليتان والضواحك

...

15-21 شهرًا

الأنياب

...

...

...

16-20 شهرًا

الأرحاء

...

...

...

20-24 شهرًا

وليس للطفل سوى أربع أرحاء في فمه، وأسنانه كلها عشرون فقط.

وهذه المدد تقريبية؛ فإنها تختلف كثيرًا بحسب بنية الأطفال، واختلاف

أمزجتهم، وغير ذلك، فمنهم من يُولَد وفيه الثنايا ظاهرة، ومنهم من يتأخر ظهور

أسنانه إلى نهاية السنة الثانية، أو إلى عدة سنين بعدها.

وفي وقت ظهور الأسنان تصاب الأطفال - عادة - ببعض أعراض مرضية

كالإسهال، والقيء، والحمى، فالضعف، ومتى كملت أسنان الطفل العشرون

يمكث بها إلى السنة السادسة، أو السابعة، ثم يظهر ضرس (رحى) خلفها في

السنة السادسة، أو السابعة، وتسقط باقي الأسنان واحدة بعد الأخرى ويظهر مكانها

غيرها على هذا الترتيب:

في السنة السادسة: الأرحاء الثانية

في السنة السابعة: الثنايا

في السنة الثامنة: الرباعيات

في السنة التاسعة: الضواحك

في السنة العاشرة: الأرحاء الأولى

في السنة 11-12: الأنياب

في السنة 13-12: الأرحاء الثالثة

في السنة 17-25: النواجذ

فترى من هذا أن الأسنان التي تظهر في السنة 12 أو 13 يمكث الشاب بها

إلى السنة 17، فيظهر ضرس العقل، أو الحُلم، وهو الناجذ، إما في هذه السنة،

أو فيما بعدها إلى 25 أو 30، وفي النادر أن يتأخر عن ذلك.

أما أسنان الشيوخ - إن ظهرت - فيكون ظهورها بين السنة 81.63.

وجوب أكل الإنسان اللحم والنبات:

بالتأمل في أسنان الحيوانات المختلفة نرى أن آكلة اللحوم أسنانها حادة جدًّا،

أما أسنان الحيوانات الآكلة للنباتات، ونحوها فهي كليلة، وأسنان الإنسان متوسطة

في حدتها بين الطرفين، وكذلك إذا نظرنا في مقياس أمعاء الحيوانات المختلفة نجد

أن أمعاء آكله اللحوم قصيرة، وآكلة الخضراوات، ونحوها طويلة، وأمعاء

الإنسان وسط بينهما، وذلك يدلنا على أن الإنسان بطبيعته يجب أن يأكل اللحوم

والخضراوات جميعًا، وفي ذلك أعظم دليل على خطأ مذهب النباتيين؛ فإنه مخالف

للطبيعة البشرية، هذا وقد وجد أن الفئران البيضاء، وهي التي لا يؤثر فيها

ميكروب الجمرة الخبيثة، تتأثر به إذا غذيت بالنباتات فقط، فلا يبعد أن يكون

الإنسان كذلك بمعنى أنه يصير عرضة لبعض الأمراض إذا اقتصر على

الخضراوات (راجع صفحة 179 من كتاب (manual of bacteriology)

تأليف Hewlett.

اللعاب:

يتولد اللعاب من غدد مخصوصة، وهي ثلاث: الغدة النكفية وموضعها تحت

الأذن وأمامها، وتسمى أيضا الأذنية، ولها قناة تمتد منها إلى الفم تسمى قناة

ستلسون (stenson) ، وفتحتها بقرب الرحى الثالثة للفك الأعلى.

والغدة الثانية تحت الفك الأسفل ولها قناة تسمى قناة هوارتون (wharton)

تصب بجانب قيد اللسان، وفتحتها مرتفعة قليلاً كحلمة صغيرة.

والغدة الثالثة تسمى (الغدة التي تحت اللسان) لأنها تحت الغشاء المخاطي

المتكون منه قيده، ولها عدة قنوات بعضها ينفتح في الفم مباشرة، وهو الأكثر،

والبعض الآخر تتكون منه قناة أكبر تصب في قناة هوارتون المذكورة.

واللعاب مركب من ماء، وزلال، وأملاح متعددة، ومادة مخصوصة تسمى

(اللعابين) وهي أهم ما فيه واللعابين [5] من الخمائر التي سيأتي توضيحها في الفصل

التالي، وفي لعاب الإنسان أيضًا آثار من مادة سامة جدًّا لا تعرف فائدتها الآن،

وربما كانت مما يقتل الميكروبات، ووظيفة اللعاب أن يرطب الطعام حتى يسهل

مضغه، وازدراده، ويذيب بعض مواده ليدرك طعمها، وهو ضروري للنطق

الفصيح، ويهضم المواد النشوية التي في الطعام فيحولها إلى سكر يسمى الملتوز

(أو سكر الشعير)[6] ، ويستمر تأثير اللعاب في المواد النشوية حتى بعد وصولها

إلى المعدة بنحو ربع أو نصف ساعة؛ حتى يُفْسِد عصير المعدة الحمضي مادة

اللعابين؛ فَيُبْطِل تأثيرها في النشاء، واللعابين لا يهضم النشاء غير المطبوخ لأنه

لا يؤثر في مادة (السللولوز) المحيطة بذراته، وهي مادة الخشب أيضًا.

اللوزتان:

أما اللوزتان، فهما غدتان لمفاويتان موضعها على جانبي الحلق في منتهى

الفم، يخرج منهما كريات بيضاء تمتزج باللعاب، أو تسير في الدم، وفائدتهما قتل

بعض الميكروبات بهذه الكريات البيضاء، وقتل ما يقف عليهما من الميكروبات

أيضًا، أو يدخل فيهما، فهما كحصنين يقتلان ما اقترب منهما، ويبعثان بجنودهما

في اللعاب لقتل بعض الأعداء التي تحل في أجزاء الفم المتنوعة، وهذان الجسمان

كثيرًا ما يحصل فيهما التهاب تحدث عنه الحمى، ويمرض الجسم بسببها، وعلة

حصول هذا الالتهاب ضعف البنية، ودخول ميكروبات كثيرة فيهما؛ فيزداد حجمهما،

وتكثر كرياتهما ليتغلبا على هذه الميكروبات؛ فإن نجحا حفظا الجسم من خطر

عظيم - وإن كان الإنسان يمرض بضعة أيام أثناء هذه الحرب -، وإن غلبا تكوّن

فيهما خراجات، أو أفلت بعض الميكروبات منهما إلى الدم فتنشأ عن ذلك أمراض

متنوعة كالروماتزم (الرثية) ، وآفات القلب وغير ذلك، ويقل التهابهما في

الأقوياء لأن كرياتهم البيضاء تكون قوية فتقتل الميكروبات بسهولة بدون حاجة إلى

إثارة حرب عامة.

كلمة في الخمائر:

يحصل تخمر الأشياء بسبب وجود ميكروبات مخصوصة، ومن أشهر أنواع

هذه الميكروبات ما يحول السكر إلى غَول (كحول)[7] ، وغاز ثاني أكسيد الفحم،

ولهذا التخمر سُمِّيت الخمر خمرًا في أحد الأقوال، وهو السبب في فورانها وحرافة

طعمها.

ومن الميكروبات ما يحول بعض أنواع السكر (سكر اللبن) إلى حامض

اللبنيك، وهو السبب في حموضة اللبن، فإذا أمكننا منع الميكروبات من الوصول

إلى الأشياء، أو قتلناها فيها بطل كل تخمر أو تعفن، فإذا أردنا حفظ اللبن مثلاً من

أن يخثر وجب أن نغليه غليًا جيدًا، ونضعه في زجاجات معقمة (مطهرة) ،

بحيث لا يصل إليه أي ميكروب، فيبقى سليمًا من الفساد طول الدهر، وهذه

الطريقة مستعملة في جلب الألبان إلينا من البلاد الأجنبية كسويسرة وغيرها.

ومن هذا يتضح أن السبب في الفساد والتعفن هو هذه الميكروبات، وتسمى

بالخمائر، أما فعل هذه الميكروبات فهو بإفراز مواد مخصوصة لها تأثير كيماوي

في الأجسام، وهذه المواد المُفْرَزَة يسمونها أيضًا بالخمائر، وعلى ذلك فالخمائر

نوعان: الميكروبات نفسها ومفرزاتها، وكما أن إفراز هذه الميكروبات سُمي

بالخمائر، كذلك يسمى بعض إفرازات الجسم بالخمائر أيضًا؛ لأنها تؤثر في

الأجسام تأثيرًا كيماويًا؛ فتحدث فيها تغييرًا بالتركيب والانحلال كتأثير إفراز

الميكروبات، وذلك مثل اللعابين الذي سبق ذكره في اللعاب، وسيأتي ذكر غيره في

بحث مفرزات (عصارات) المعدة والأمعاء، وهذه الخمائر كلها تقريبًا مواد

آزوتية، إما زلالية، أو قريبة من الزلالية - بحسب ما نعلم الآن - ما عدا الببسين

فيقال إنه لا نيتروجين فيه.

ومن الغرائب أن افراز الميكروبات إذا كثر يقتل نفس الميكروبات التي تولده

كما في الخمر مثلاً؛ فإن غولها يقتل ميكروباتها وغيرها، وإذا غُلِي الشيء الذي

فيه هذه الخمائر بنوعيها ماتت الميكروبات، وفسدت الخمائر؛ فيبطل عملها، ومن

الخمائر المشهورة مادة تستخرج من غشاء المعدة الرابعة للحيوانات المجترة

كالعجول تسمى بالأنفحة، وفائدتها تحويل اللبن إلى جبن.

والميكروبات هي نباتات مجهرية، بعضها يحتاج لأكسجين مطلق [8] يعيش

فيه، والبعض الآخر يعيش بغير أكسجين مطلق.

بقية الكلام على جهاز الهضم:

يندفع الطعام بعد الفم إلى الحلقوم، وهو تجويف ينفتح فيه تجويفا الأنف

والفم، ثم الحنجرة، وفي أسفله المريء.

وفي جدران الحلقوم غدد لمفاوية تشبه في منسوجها اللوزتين، ووظيفتها كوظيفتهما

أي أنها تقتل الميكروبات كما سبق.

أما المريء فهو أنبوبة لحمية تمتد من الحلقوم إلى المعدة، وطولها من 9 إلى

10 بوصات، ويدخل في تركيب جدرانه ألياف عضلية تكون في نحو ثلثه الأعلى

اختيارية، وفي الباقي غير اختيارية، وهو مبطن بغشاء مخاطي كالمعتاد، وفي

المريء يمر الطعام إلى المعدة.

وأما المعدة فهي ككيس كمثري الشكل تحت الحجاب الحاجز في البطن، ولها

فتحتان الأولى منهما متصلة بالمريء، وتسمى (بالفؤاد) لقربها من القلب،

والفتحة الثانية تسمى (بالبواب) ، والمعدة مركبة من ألياف عضلية ومبطنة بغشاء

مخاطي، وسطحها الخارجي مغطى بغشاء مصلي، وهو جزء من البريتون [9] .

وفي الغشاء المخاطي عدة غدد لإفراز العصير المعدي، وتتحرك المعدة حركة

غير اختيارية بما فيها من الألياف العضلية، وهذه الحركة تشبه مخض اللبن ويُراد

بها مزج الطعام بالعصير المعدي حتى ينهضم الهضم الأول.

أما العصير المعدي فأهم ما فيه من المواد هو حامض الهيدروكلوريك [10]

(بنسبة 2 في الألف) ، ومادة يسميها الإفرنج (pepsin) ، ونسميها بالعربية

(الهاضوم) ، وهي خميرة تفرزها الغدد المعدية، ويقال إنها خالية من النيتروجين -

كما سبق - وعلى ذلك فهي ليست من المواد الزلالية، ووظيفتها تحويل المواد

الزلالية إلى مادة أخرى تسمى بالإفرنجية (peptone)(أي المهضوم) ، وذلك

بضم عناصر الماء إلى ذرات المواد الزلالية، ثم انقسامها فتحدث هذه المادة

الببتونية، وهي سهلة الذوبان سهلة الامتصاص لكون ذراتها أصغر من ذرات

الزلال.

وأما الطعام فإنه يمكث في المعدة نحو أربع ساعات فيها يحصل هذا الهضم،

المذكور في المواد الزلالية، ويتحول سكر القصب إلى مادة أخرى سكرية، وتقتل

جميع الميكروبات - تقريبًا - بما في هذا العصير المعدي من الحامض فيصير

الطعام طاهرًا لكي لا يضر بالجسم، فإذا حدث للمعدة ما يقلل أفراز هذه الحامض

أو يمنعه أمكن دخول ميكروبات، أو ديدان إلى الأمعاء، أو إلى الجسم نفسه.

هذا كله هو وظيفة المعدة، ولا تأثير لها في المواد النشوية، ولا في المواد

الدهنية إلا بإسالتها، وبهضم ما أحاط بها من الغلف الزلالية، والعصارة المعدية لا

تنفرز إلا وقت الطعام.

وأول انفتاح للبواب يحصل بعد نحو 20 دقيقة من نزول الطعام في المعدة

فيمر إلى الأمعاء جزء مما في المعدة، ثم ينغلق البواب، ثم يتتابع هذا الفتح

والانغلاق في البواب، وتأخذ مدة انغلاقه في القصر ومدة انفتاحه في الطول حتى

يمر الطعام الذي في المعدة شيئًا فشيئًا إلى الأمعاء بحيث يمر كله في نهاية الساعة

الرابعة تقريبًا.

وبعد المعدة توجد الأمعاء الصغيرة أو الدقيقة، ثم الأمعاء الكبيرة أو الغليظة،

أما الأمعاء الصغيرة فطولها نحو من 20 قدمًا، وتُقَسَّم إلى ثلاثة أقسام:

(1)

الاثنا عشري: وطوله 12 أصبعًا، أو 10 بوصات وفيه يحصل

الهضم الأعظم للطعام كما سيأتي تفصيله.

(2)

الصائم: سُمي بذلك لوجوده فارغًا بعد الوفاة عند تشريح الجثة، يبلغ

طوله خمسي الأمعاء الصغيرة الباقية بعد الاثني عشري.

(3)

اللفائف: وهي الثلاثة الأخماس الباقية من الأمعاء الصغيرة.

وأما الأمعاء الكبرى فتبتدئ من الحفرة الحرقفية اليمنى بما يسمى (بالأعور)

وفي أسفله مصير صغير كالدودة يسمى بالزائدة الدودية، وفيها يحصل مرض

مشهور هو التهابها الذي قد يكون سببًا في وفاة الشخص إن لم يتداركه الأطباء

بالعلاج الفعال، وهذه الزائدة هي أحد الأعضاء الأثرية الشهيرة في جسم الإنسان

التي لم ينته الناس إلى حل لمعناها أحسن مما ذهب إليه دارون [11] ، وقيل إن لها

إفرزًا يُحْدِث لينًا فَتُطرد المواد البرازية، وترتفع في القولون مضادة للجذب

الأرضي في الحيوانات المنتصبة القامة (القرد والإنسان) ، ولذلك لا توجد في

الحيوانات الأخرى، وإذا استئصلت حدث إمساك متعاصٍ مستديم يؤدي إلى ضعف

الجسم، ومرضه، كما دلت عليه تجاربهم على ما قالوا.

وبعد الأعور يوجد القولون [12] ، وهو أربعة أقسام القولون الصاعد، والقولون

المستعرض، والقولون النازل، والتعريج السيني، ثم المستقيم الذي ينتهي بالشرج

وهو فتحه الدبر، وطول الأمعاء الكبيرة يختلف من 5 إلى 6 أقدام.

والأمعاء مركبة من الطبقات الآتية:

(1)

طبقة مصلية: وهي من البريتون الذي سبق ذكره.

(2)

طبقة عضلية مركبة من طبقتين: مستطيلة وحلقية، فالمستطيلة في

الخارج، والحلقية في الداخل.

(3)

الغشاء المخاطي: ويفصله عن الطبقة العضلية.

(4)

طبقة رابعة فيها تتفرغ أوعية عديدة دموية ولمفاوية وأعصاب دقيقة،

وفي الطبقة المخاطية غدد كثيرة لإفراز العصير المعوى، منها نوع في الاثني

عشري يسمى بغدد (برُونَرْ)[13] ، ونوع آخر في الأمعاء كلها يسمى بغدد

(ليبركهن) وهي من الشكل الأنبوبي البسيط، ويوجد غير ذلك في الغشاء

المخاطي، وتحته منسوج لمفاوي، بعضه يتكون منه غدد صغيرة تسمى (بالغدد

المنعزلة أو الوحيدة) والبعض الآخر يتجمع على شكل بيضاوي يُحْدِث بقعًا في

طول جدران المصران تسمى ببقع بايير (peyer)[14] ، وهي توجد بكثرة في

اللفائف.

وفي هذه الغدد اللمفاوية بنوعيها يحصل التهاب بسبب ميكروب مخصوص

فتحدث عنه الحمى المعروفة بالتيفودية، أو الحمى المعوية، وهذه البقع المنسوبة

لبايير لا توجد في الأمعاء الغليظة، وإنما توجد فيها الغدد المنعزلة فقط - وهي التي

تكثر جدًّا في الأعور والزائدة الدودية -.

وبالتهاب هذه الغدد التي في الأمعاء الغليظة مع الأغشية المخاطية، وتَقَرُّحها

يحصل المرض المسمى بالدوسنطاريا (الزحار) ، سُمي بذلك في العربية؛ لأنه

يحدث منه زحير شديد متكرر، ومن أعراضه أيضًا المغص الشديد، والحمى،

والإسهال مع نزول مواد مخاطية دموية صديدية متكررة بمقادير صغيرة في كل

دفعة.

وفي الغشاء المخاطي للأمعاء الصغيرة ما يُسمى بالخَمْل، وهو كالأهداب لهذا

الغشاء، وهو أعظم آلات امتصاص المواد الغذائية، وفيه أيضًا غير ذلك ما يسمى

بالصمامات الهلالية لكركرنج (kerkring) ، وهي عبارة عن ارتفاعات تتكون

من ثنيات الغشاء المخاطي على نفسه، وفائدتها أن تعوق سير الطعام حتى يهضم،

وأن تكبر سطح الغشاء المخاطي للأمعاء؛ ليكثر إفرازه وامتصاصه للمواد

المهضومة، ولذلك يبتدئ وجودها بعد البواب بأصبعين، أو ثلاثة، وتكثر شيئًا

فشيئًا خصوصًا في الاثني عشري، والصائم، وكذلك تكبر تدريجًا، ثم تأخذ في

القلة والصغر حتى تنتهي في منتصف اللفائف، ولا جود لها هي والخمل في

الأمعاء الكبيرة لقلة الامتصاص، وعدم الهضم فيها.

والحكمة في وجود الغدد اللمفاوية المذكورة آنفًا، هي حفظ الجسم من دخول

الميكروبات فيه، ولذلك تكثر في اللفائف، وفي الأمعاء الغليظة حيث يكثر التعفن

والفساد لخلو هذه الأجزاء من العصارات المطهرة، بخلاف المعدة فإن عصيرها

مطهر - كما سبق -، والصفراء في الاثني عشري من وظائفها أيضًا تقليل تعفن

الطعام.

ويصب في الأمعاء الصغيرة قناتان عظيمتان: إحداهما من عضو يسمى

باليونانية (البنكرياس) ، ويمكننا أن نسميه بالعربية (الغدة الجسدية) ، والأخرى

هي قناة الكبد تحمل المِرَّة (الصفراء) إلى الأمعاء، وهاتان القناتان تجتمعان معًا

عند نهايتهما، وتصبان بفتحة واحدة غالبًا في الجزء النازل من الاثني عشري في

الجهة الإنسية منه.

أما البنكرياس (الغدة الجسدية) ، فهي أهم غدة في جهاز الهضمي كله،

طولها نحو 6 إلى 8 بوصات، وموضعها خلف المعدة، ووضعها مستعرض

بالنسبة للجسم أمام الفقرة القطنية الأولى، وتفرز عصيرًا فيه خمائر أربع هامة جدًّا

كل منها يهضم جزءًا مخصوصًا من الطعام (إحداها) الهاضوم الزلالي [15] لهضم

جميع المواد الزلالية كاللحم والبيض فيحولها إلى المادة المسماة (ببتون) ، وهو

أقوى من هاضوم المعدة المسمى ببسين بكثير (الثانية) الهاضوم النشوي: وهو

الذي يحول المواد النشوية إلى سكر الشعير، وهو أيضًا أقوى بكثير من (اللعابين)

حتى أنه يؤثر في النشاء غير المطبوخ، ولا يوجد هذا الهاضوم في أمعاء الأطفال

الرضع قبل الشهر السادس، ولذلك كان من الخطر عليهم أن يطعموا أي مادة

نشوية كالبطاطس والخبز؛ فإن ذلك يفسد جهازهم الهضمي، ويضعف صحتهم؛

فيصابون كثيرًا بالإسهال وغيره، وبداء الكساح (rickets)(الثالثة) الهاضوم

الشحمي: ووظيفته أن يحدث مستحلبًا مع المواد الشحمية أو الدهنية، ويحللها أيضًا

إلى جلسرين [16] ، وحوامض شحمية، وكلاهما سهل الامتصاص، وقد يتحد بعض

هذه الحوامض مع البوتاسيوم أو الصوديوم فيتكون من ذلك الصابون، والصابون

أيضًا سهل الامتصاص، فإذا امتصت هذه الأشياء عادت إلى شحم كما كانت

(الرابعة) خميرة تشبه الأنفحة وظيفتها تحويل اللبن إلى جبن، وهذه أقل الخمائر

المذكورة تأثيرًا في الهضم.

والعصير البنكرياسي قلوي التأثير بخلاف العصير المعدي فإنه حمضي.

أما الكبد فهي أكبر عضو في الجسم، موضعها الجهة اليمني من البطن تحت

الحجاب الحاجز مباشرة، ولها وظائف عديدة فهي تفرز المِرَّة (الصفراء) ، وتخزن

فيها أكثر المواد السكرية وبعض الزلالية بعد أن تتحول إلى النشاء الحيواني

(جليكوجين) لحين الحاجة إليها؛ فتحولها ثانية إلى سكر يخرج منها مع الدم ليحترق

في الجسم خصوصًا في عضلاته، وهذه الوظيفة هي من أكبر وظائفها، وتكوِّن

أيضًا حامض البوليك والبولينا لتفرزهما الكلى، ولولا ذلك لتراكمت بعض المواد

الضارة بالجسم.

ومن وظائفها أيضًا أنها تصفي المواد التي انهضمت في الأمعاء وتنقيها من

الميكروبات، ومن بعض السموم، وذلك أثناء مرورها فيها، ولذلك اقتضت الحكمة

الإلهية أن تجتمع جميع الأوردة الآتية من القناة الهضمية، ويتكون منها وريد واحد

هو الوريد الذي يسمَّى (الباب [17] ) الذي يجتمع فيه ما انهضم من الزلال، والسكر،

وبعض الشحم فيصل إلى الكبد، وهناك تُفْرَز منه الصفراء ويُنقى.

أما المِرَّة (الصفراء) فهي إفراز ضار بقاؤه بالجسم، فلذا تنصب في الأمعاء

لتخرج مع البراز، وهي السبب في تلون البراز باللون المعهود، وجزء من

الصفراء لا يخرج مع البراز؛ وإنما يُمْتَص ثانية في الجسم فتفرزه الكلى، وهو

السبب في تلون البول باللون المعروف، وفي الأجنة تتجمع الصفراء في أمعائهم

حتى إذا ولدوا نزل البراز من أمعائهم أسود اللون ويسمى (بالعِقْي) .

ولا يتوهمن القارئ - مما ذُكِر - أن الصفراء لا فائدة لها في الهضم، بل

هي أكبر ما يعين العصير البنكرياسي على هضم جميع المواد المذكورة سابقًا

وخصوصًا المواد الدهنية، والصفراء تقلل التعفن والفساد كما قلنا، وهي أيضًا

منبهة للحركة الدودية للأمعاء، ولذلك يعرض لمن احتسبت فيه الصفراء - بأن

انسدت مجاريها - ما يسمى (باليرقان) ؛ فيصفر جميع جسمه، ويحصل له

إمساك متكرر، ويرى في برازه شحم غير مهضوم، وتكون له رائحة كريهة جدًا.

أما مجاري الصفراء فهي في مبدئها مجهرية (ميكروسكوبية) ، وتبتدئ من

داخل الخلايا الكبدية، وتجري فيما بينها، وتتجمع هذه القنوات بعضها مع بعض

حتى تكبر شيئًا فشيئًا إلى أن تنتهي بقناتين عظيمتين: إحداهما تخرج من الفص

الأيمن للكبد، والأخرى من الفص الأيسر لها، وتجتمعان معًا فيحدث منهما قناة

واحدة، وفي أسفل الكبد كيس صغير يسمى بالحويصلة الصفراوية (المرارة) لها

قناة أيضًا تتحد مع قناة الكبد، وتتكون منهما القناة الكبرى المسماة (بالقناة

المشتركة) التي قلنا إنها تصب في الاثني عشري، وفائدة هذه الحويصلة أن تكون

مستودعًا للمِرّة في وقت عدم الحاجة إليها.

وإذا انسدت القناة الكبدية وحدها حصل اليرقاق، وكذلك إذا انسدت القناة

الكبرى، أما إذا انسدت قناة الحويصلة فقط كبرت هذه بسبب إفراز مواد مخاطية

من باطنها، وحدث كيس تحت الكبد، وبانسداد هذه القنوات - السالفة الذكر -

بحصيات كبدية تتكون غالبًا في الحويصلة يحصل المغص الكبدي.

وإذا انعكست حركة الأمعاء بحيث تعود الصفراء إلى المعدة من البواب حصل

القيء الصفراوي، وهو مر الطعم.

أما لون المِرَّة فسببه اشتمالها على مواد ملوّنة لا تختلف عن هيموجلوبين الدم

إلا بعدم وجود الحديد فيها، وذلك لأن الكبد من المواضع التي تباد فيها الكريات

الحمراء القديمة؛ فتأخذ الكبد منها الهيموجلوبين، وتفصل منه الحديد، وتُلْقِي

بالباقي في إفرازه، وهو السبب في تلون المرة باللون المعروف، أما الحديد فإن

الكبد تركبه مع غيره من العناصر، ويخرج منها في الدم، فإذا وصل إلى نقو

العظام امتزج بكريات (خلايا) هناك فتنشأ منها الكريات الحمراء.

ولوجود مادة الحديد في خلايا الكبد كانت الكبد من أحسن المآكل المغذية

المجددة للدم، غير أنها أعسر هضمًا من اللحوم البيضاء.

أما جميع المواد النشوية والسكرية المهضومة فإنها تُمْتَص في الدم بعد أن

تتحول إلى سكر العنب، فإذا وصلت إلى الكبد حُجِز منها مؤقتًا ما زاد عن حاجة

الجسم بصورة النشاء الحيواني المذكور (الجليكوجين) ، وهذا النشاء يتحول شيئًا

فشيئًا كلما احتاج الجسم إليه إلى سكر العنب مرة أخرى، ويسير في الأوردة الكبدية

ويدور مع الدم؛ فيغذي أنسجة الجسم وعضلاته، وفيها يحترق فيتحول إلى ثاني

أكسيد الفحم، وإلى الماء - كما سبق -.

واعلم أن الطعام الذي تم هضمه في المعدة، وسار منها إلى الاثني عشري

يسمي (الكيموس) ، وهي كلمة يونانية معناها العصير.

أما الأمعاء فإنها تفرز عصيرًا آخر أهم وظيفة له تحويل سكر القصب،

وسكر الشعير إلى سكر العنب، ولها أيضًا بعض التأثير في المواد النشوية فتحولها

إلى سكر، ومما تقدم يُفْهَم أن أجزاء الطعام الأصلية تتحول قبل امتصاصها كما

يأتي:

(1)

الماء والأملاح: لا تتحول إلى شيء، وتُمْتَص كما هي:

(2)

المواد الزلالية [18] : تحولها عصارات المعدة والبنكرياس إلى ببتون؛

ولكنها عند امتصاصها تحولها لخلايا الغشاء المخاطي للأمعاء إلى مواد زلالية

أخرى مثل التي في الدم.

(3)

المواد الشحمية والدهنية: يُمْتَص جزء منها كما هو، وأكثرها ينحل

بالعصير البنكرياسي إلى جلسرين وحوامض شحمية - كما تقدم -، وكل من هذه

الحوامض والجلسرين سهل الامتصاص؛ ولكن في أثناء مرورها خلال الغشاء

المخاطي للأمعاء تحولها خلاياه إلى شحم أو دهن كما كانت من قبل انحلالها،

وبعض الحوامض يتحد مع صوديوم المِرَّة؛ فيتكون صابون وهو سهل الامتصاص،

ويساعد أيضًا على امتصاص الشحم كما هو، فالشحم يهضمه عصير البنكرياس مع

المِرَّة بعد أن يحولاه إلى (مستحلب) ، وذلك مما يُعِين أيضًا على هذا الهضم

والامتصاص.

(4)

أما المواد النشوية: فإنها تتحول باللعاب، والعصير البنكرياسي إلى

سكر الشعير، ثم يتحول هذا الكسر وسكر القصب - إن وجد - بواسطة العصير

المعوي إلى سكر العنب، وهذا السكر سهل الامتصاص، ويبقى في الدم كما هو

غير أنه يخزن الزائد منه مؤقتًا في الكبد على صورة الجيكوجين - كما قلنا - أما

سكر اللبن فيتحول أثناء امتصاصه إلى سكر العنب أيضًا، ولا تأثير للعصارات

الهاضمة فيه.

امتصاص الأغذية:

أما الامتصاص، فإنه يحصل في القناة الهضمية من أولها إلى أخرها، أي

من الفم إلى المستقيم؛ ولكن الامتصاص في الفم قليل جدًّا، كثير في المعدة

والأمعاء خصوصًا في الصائم من الأمعاء الصغيرة.

ولما كان بعض المواد الزلالية يمكن امتصاص القليل منهما وإن لم تهضم [19]

وكذلك الشحم والزيوت، فلذا يستعمل الأطباء في بعض الأمراض الحقن الشرجية

المغذية للمرضى، وإن كان أكثر هذه الحقن يهضم هضمًا صناعيًّا قبل حقنه لتسهيل

امتصاصه لعدم وجود عصارات هاضمة في المستقيم.

أما الماء والأملاح، والمواد السكرية، والزلالية فكلها تُمْتَص من الأمعاء

بواسطة فروع الوريد الباب ليحملها إلى الكبد - كما سبق - مع بعض أجزاء من

الدهن قليلة جدًّا، ولكن أكثر المواد الدهنية تمتصها أوعية لمفاوية مخصوصة

موجودة في الأمعاء، وهذه الأوعية تسمى (بالأوعية اللبنية) ؛ لأن هذه المواد

الدهنية التي تجري فيها تشبه اللبن وتسمى (بالكيلوس) ، وهي كلمة يونانية أيضًا

معناها العصير، وهذه الأوعية اللمفاوية تصب في غدد لمفاوية منثورة في طريقها

لتنقيتها من الميكروبات ونحوها، وكل من الأوعية وهذه الغدد موجود بين طبقتي

المساريقا (mesentery)[20] ، وهي عبارة عن غشاء من البريتون يعلق

الأمعاء الصغيرة بالظهر، ويحيط بها.

والغدد اللمفاوية التي بين طبقتي المساريقا يحصل فيها التهاب، فضخامة عند

تقرح الأمعاء في الحمى التيفودية وغيرها.

واعلم أن الزلال المهضوم المسمى (ببتون) ، إذا دخل الدم من غير أن

تحوله الخلايا المخاطية إلى زلال كزلال الدم كان سمًّا زعافًا؛ فلذا كان تحويله قبل

امتصاصه واجبًا.

ومن المعلوم أن سم الثعابين ونحوها، هو مواد زلالية تقرب من الببتون،

فلذا كان أكله مغذيًا لا ضرر فيه؛ لأن خلايا الغشاء المخاطي تتكفل بتحويله إلى ما

يصلح للجسم قبل امتصاصه، أما إذا حُقِن في الدم أو تحت الجلد بدون هذا التحويل

كان خطرًا على الحياة.

وفي الأمعاء ميكروبات عديدة، وهذه الميكروبات تحدث تغييرًا، وتحليلاً

ً في الأغذية فوق الذي تُحْدِثه العصارات الهاضمة؛ فينشأ عن ذلك غازات وغيرها،

بعضها يضر امتصاصه، وبعضها لا ضرر فيه، وهذه الغازات هي التي تحدث

القراقر في البطن، وخروج الأرياح، ويكثر تكون هذه الغازات بأكل المواد النباتية

وقد تؤثر العصارات الهاضمة في بعض المواد المأكولة؛ فتخرج منها مواد سامة

للجسم إذا امتصت في الدم؛ ولكن هذه الميكروبات تحللها إلى أجسام أخرى، وبذلك

تبطل ضررها، فوجودها في الأمعاء ضروري، ومن الخطأ محاولة قتلها بالأدوية

المطهرة.

أما البراز فهو فضلات جميع الأغذية والأشربة التي لم تمتص، ومُفْرَزَات

الجهاز الهضمي، وغير ذلك.

والسبب في حصول الإسهال أحد ثلاثة أمور:

(1)

إما اضطراب حركة الأمعاء حتى تكون أسرع من الحالة الطبيعية؛

فيمر فيها الطعام والشراب بسرعة زائدة قبل أن يجف بالامتصاص.

(2)

وإما زيادة العصارات الهاضمة وخصوصًا إفرازات الأمعاء بسبب

مرضها كالتهابها.

(3)

وإما قلة امتصاص خلايا الغشاء المخاطي للأطعمة والأشربة لمرض ما

فيها. وهذه الأسباب في الغالب تكون مجتمعة في الإسهال العادي، وقد تحصل

بالمسهلات، ولذلك كان الإسهال الزائد عن الحد ضارًّا جدًّا؛ لأنه يُنْهِك القوى.

والسبب في الإمساك عكس ما تقدم، وضرره يكون بامتصاص بعض المواد

الضارة في الدم، وبضغطه على بعض الأعضاء كالأوردة، أو الأعصاب، فيعوق

وظيفتها، وقد تنشأ عنه البواسير، والصداع، والضعف، وآلام عصبية في الفخذ

الأيسر لضغط المواد البرازية في التعريج السيني والمستقيم على الأعصاب، أما

مدة مرور الطعام في الأمعاء فهي عادة من 24-36 ساعة، منها نحو 12 ساعة

للأمعاء الدقيقة.

***

فصل

في الأطعمة والأشربة وغيرها

المواد الضرورية للجسم سبق ذكرها مرارًا، وهي باختصار: المواد الزلالية

(الأولية) ، والسكرية، والنشوية (الكربوهيدراتية) ، والدهنية، والماء، والأملاح

وهذه المواد يأخذها الإنسان إما من الحيوانات، أو من النباتات والحيوانات المأكولة

تأخذها أيضًا من النباتات، فمصدر غذاء الإنسان كله هو النباتات، وهذه المواد كلها

توجد في أنواع مختلفة من الأطعمة أهمها:

(1)

اللبن:

هو غذاء كامل لاشتماله على جميع المواد السابقة، وعلى الدهن المعروف

(السمن والزبدة والقشدة) ، ويُسْتَخْرَج منه الجبن وهو جل المواد الزلالية،

والدهنية مع بعض أملاح تضاف إليه من الخارج.

وإذا تعرض اللبن للهواء زمنًا ما هبطت إليه بعض ميكروبات مخصوصة حول

سكره إلى حامض اللبنيك، وهذا يرسب الزلال الذي في اللبن فيغلظ ويكون اللبن

المعروف في مصر (باللبن الزبادي) المسمى بالعربية (اللبن الخاثر والرائب)

وقد توضع في اللبن خميرة فيها بعض ميكروبات أخرى؛ فتحول سكره إلى غَول؛

فينشأ نوع من الخمر بسبب ذلك يُعرف في بلاد التتار بالكفير، أو الكوميس وكل

من الكفير [21] ، أو الكوميس [22] سهل الهضم مغذٍّ للإنسان، منبه للدورة الدموية بما

فيه من الغول بمقادير قليلة، ونافع في السل الرئوي - كما يقال -؛ ولكن الإكثار

والإدمان عليه له بعض الأثر السيئ الذي للخمر عامة.

أما اللبن الخاثر فهو أيضًا سهل الهضم لقلة مائه، ووجود الحامض فيه، مغذٍّ

للإنسان؛ ولكن إذا طالت مدة تخمره تولدت فيه مواد سمية ضارة، وهذا النوع نافع

في الحميات لقلة إفراز المعدة للحمض أثناء الحميات، وهو مفيد أيضًا في نزلات

المثانة.

واللبن قد يختلط بميكروبات أخرى محدثة للأمراض، بعضها يصل إليه من

الإنسان كميكروب الحمى التيفودية، والبعض الآخر قد يصل إليه من غيره

كميكروب الحمى المالطية في لبن بعض الماعز، وكالدفتيريا فإنها تصيب البقر

والضأن، وكثير من البقر يصاب بالتدرن؛ فيكون اللبن سببًا في الدرن الإنساني

وإن لم توجد فيه ميكروبات الدرن نفسها إذ يكفي وجود سمومها فيه؛ فإن ذلك

يضعف البنية، ويهيئها لقبول ميكروب الدرن؛ فلذا يجب أخذ اللبن من الحيوانات

السليمة في أوان نظيفة جدًّا، وبأيد كذلك، وللثقة بطهارته من جميع الميكروبات

يجب غليه قبل تعاطيه مدة خمس دقائق على الأقل.

وإذا منعنا وصول سائر الميكروبات إلى اللبن أمكننا حفظه دهرًا بدون فساد

كما سبق.

وللانفعال النفساني الشديد تأثير في إفراز اللبن حتى أنه قد يسم الصغار.

ومن السهل أخذ زبدة اللبن، أو القشدة بالآلة المبعدة عن المركز المسماة

باللاتينية (centrifuge) فإذا أديرت بسرعة أبعدت جميع المواد التي في اللبن

عن المركز لثقلها ما عدا زبدة اللبن؛ فإنها تأتي نحو المركز لخفتها؛ وبسبب خفتها

أيضًا تصعد إلى سطح اللبن إذا سُخِّن بالنار كما هو معلوم.

وإذا أخذت زبدة اللبن صار ثقله النوعي أزيد من المعتاد؛ فإذا أضيف إليه

جزء من الماء عاد ثقله إلى المعتاد (وهو في لبن البقر 1028 إلى 1034) .

ومن طرق غش اللبن أن يضاف عليه الماء مع النشاء لإكثار كميته؛ ولكن

النشاء تمكن معرفته بطريقة كيماوية سهلة جدًّا، وذلك بوضع جزء من صبغة اليود

عليه فيتلون في الحال باللون الأزرق إذا كان فيه نشاء.

ويصنع من زيوت النباتات، وشحم الحيوانات زبدة كاذبة تسمى باللاتينية

وغيرها المرغرين (ومعناها حرفيًّا مادة اللؤلؤ سُميت بذلك للمعانها) يستعملها

التجار كثيرًا بقصد الغش، وهي في الحقيقة لا ضرر فيها إلا أنها أرخص ثمنًا.

ومن أكثر الألبان تغذية لبن الجاموس والعنز، وأسهلها هضمًا لبن المرأة،

والأتان (أثنى الحمير) ، وأكثرها سكرًا لبن المرأة، ويقرب منه في ذلك لبن

الأتان.

(جدول تركيب الألبان المختلفة)

نوع اللبن

المواد الزلالية الدهن السكر الأملاح الماء

لبن المرأة

39و2

80و3 20و6 30و0 40و87

لبن البقرة

55و3

69و3 88و4 71و0 17و87

لبن الفرس

00و2

20و1 65و5 36و0 79و90

لبن الأتان

25و2

65و1 00و6 50و0 60و89

لبن العنز

30و4

78و4 46و4 75و0 71و85

لبن الجاموسة

11و6

45و7 17و4 87و0 40و81

(2)

البيض:

وهو يؤخذ من أنواع مختلفة من الطيور، وأكبره بيض النعام، وهو أيضًا

غذاء كامل لاشتماله على جميع المواد اللازمة للجسم، ولذلك تتكون منه أجنة

الطيور؛ فتخرج منه كاملة الأعضاء، والأجزاء، وطبقاته مؤلفة كما يأتي:

القَيْض (القشرة) : مركبة من مواد جيرية أهمها كربونات الكلسيوم، وبها

ثقوب عديدة لازمة لدخول الهواء إلى البيضة، وخروجه منها لتنفس جنين الطير؛

فإذا سدت جميع هذه الثقوب اختنق ما في داخلها ومات، وسدها أيضًا بمثل الشمع

أو الصمغ يحفظ البيضة من الفساد؛ فإنه يمنع دخول الميكروبات إليها، ويلي هذه

القشرة طبقة أخرى رخوة، ثم بياض البيض (الغِرْقِئ) : وهو يتركب من مواد

زلالية مع قليل من الدهن والملح، ووظيفته تغذية جنين الطير، وهو محيط بالمُحّ

(الصفار) من جميع الجهات، أما (المُحّ) : فهو عبارة عن خلية حية كبقية

الخلايا الحيوانية، ولها نواة يبتدئ فيها تكوُّن الجنين بانقسامها، وتغذيها بما حولها

من المواد المغذية، والمُح يتركب أكثره من مواد دهنية وأملاح مع قليل من الزلال

المسمى جلوبيولين، ولا يحصل هذا الانقسام في النواة إلا إذا كانت ملقحة بالحيوان

المنوي للذكر، ومدة التفريخ للدجاج 21 يومًا، أي ثلاثة أسابيع.

والبيض مغذٍّ جدًّا، سهل الهضم إلا إذا طبخ طبخًا شديدًا؛ فإن ذلك يجمد

مواده، ويجعلها عسرة الهضم، وإذا شرب منه جزء بدون طبخ، أو مع طبخ قليل

أفاد الجسم وغذاه، غير أن الإفراط فيه مما يتعب الكُلى، وقد ينزل جزء من زلاله

في البول.

ولمعرفة البيض الجيد من البيض الفاسد تذاب أوقيتان من ملح الطعام في

نصف لتر ماء، فإذا غرقت البيضة في هذا السائل دل ذلك على جودتها، وإلا

كانت فاسدة مشتملة على غازات ناشئة من الفساد هي السبب في خفتها.

(3)

العسل:

هو في الأصل ما تجمعه النحل من رحيق الأزهار، ثم تحوله في معدها إلى

هذه المادة المخصوصة، ثم تلقيه من أفواهها في خلاياها مصداقًا لقوله تعالى

{يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} (النحل: 69) وفائدة العسل للنحل

تغذية صغارها [23] به.

والعسل يشمل أنواعًا من السكر أهمها سكر العنب مع مواد عطرة، وفيه

أيضًا جزء من الأبور (وهو المادة التي تسميها الإفرنج (pollen) وهي عبارة

عن عنصر الذكر في الأزهار الذي تلقح الأنثى به، والأبور مادة بروتوبلازمية حية

أي مشتملة على زلال وغيره، ولذا كان العسل مشتملاً على كثير من العناصر

الضرورية للحيوانات، أما شمعه فلا يُهْضَم، ولا يكتسب منه الجسم شيئًا.

والعسل مغذٍّ جدًّا، سهل الهضم للغاية، بل إن سكر العنب الذي فيه لا يحتاج

إلى العصارات الهاضمة؛ فإنه يُمْتَص بدونها، والعسل ملين مقوّ للجسم، وبسبب

سهولة هضمه، وتقويته للجسم، وإحداثه اللين كان نافعًا في كثير من الأمراض

فيجعل الجسم قوي المقاومة لأنواع كثيرة من الميكروبات، وقد يتغلب عليها بسبب

ذلك، فهو نافع في سائر الأمراض التي تنهك القوى كالسل، والسرطان، والأنيميا

والبللغرا، وفي الحميات وغير ذلك حتى قال بعضهم إنه نافع في البول السكري؛

ولكن ذلك لم يثبت الآن عند الجمهور.

وهو يحرض شهوة الطعام أيضًا، ويُكْثِر من إفراز المعدة، ومن اللعاب

فيرطب الحلق، ولذا كان نافعًا في التهاب اللوزتين، والحلقوم، وفي السعال. كل

ذلك يؤيد قوله تعالى {فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ} (النحل: 69) وقد يجوز إعطاؤه أيضًا

في أحوال الاضطرابات المعدية المعوية؛ لأنه سهل الهضم جدًّا مساعد عليه - كما

قلنا -، فلذا ينفع المصابين بعسر الهضم، ويجوز إعطاؤه في أول الأمر للمصابين

بالذَّرَب، كما يعطى زيت الخروع بقصد تنظيف القناة الهضمية من المواد التي

تحدث تهيجها، ويحسن إعطاؤه ملينًا للأطفال بدل زيت الخروع؛ فإنه ملين لذيذ

الطعم تشتهيه أنفسهم، ومن ذلك تعلم حكمة وصف رسول الله - صلى الله عليه

وسلم - العسل لمن أصيب بإطلاق بطنه بقصد تنظيف القناة الهضمية، وتغذية

المريض به لسهولة هضمه، ويشبه ذلك وصف الأطباء غذاء اللبن في الذَّرَب مع

أنه يُسْهِل كثيرًا من الناس.

ومن أحسن الأغذية النافعة للحميات العسل مع اللبن؛ فإن العسل يحترق في

الجسم، ويوفر احتراق أجزائه الأخرى بسبب الحمى، وذلك مما يعين الجسم على

التغلب عليها. هذا وإن عسل النحل الذي تجمعه من أزهار سامة يُحْدِث أعراض

التسمم لمن يطعمه، وكذلك الحال في ألبان الأنعام التي تأكل نباتات سامة، فيجب

الاحتراس من ذلك ما أمكن.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

هذه المقادير بالحجم لا بالوزن.

(2)

اسم يوناني معناه " المتغير " يطلق على حييوين دقيق ذو خلية واحدة، وهو دائم التغير لشكله، وله حركة ذاتية.

(3)

أي البزور السلسلية لوجودها بهيئة سلاسل حينما يراها الإنسان بالمجهر، والكلمة يونانية.

(4)

ذلك يشبه أن يكون مصداقًا لقول الشاعر " وداوني بالتي كانت هي الداء ".

(5)

في اصطلاح علم الكيمياء كثيرًا ما يتركب اسم المادة الفعالة في الشيء بإضافة (ين) إليه فمثلاً (البنين) هو اسم المادة الفعالة في البن أو القهوة؛ ولذلك يسمى أيضًا (القهوين) ، وهكذا فاللعابين مادة اللعاب الفعالة في الهضم، وقد جارينا هنا الإفرنج في هذا الاصطلاح كما جاريناهم في غيره مما سبق بيانه لسبقهم لنا في العلم والاختراع والاكتشاف.

(6)

سمي بذلك لأنه يتولد في الشعير النابت (malt) وغيره لتغيرات كيماوية تحصل في نشائه إذا ابتل بالماء.

(7)

يسمى الكحول بالفرنسية (alcool) ، وهو روح الخمر أو المادة الفعالة فيها، وهي سبب جميع شرورها ومضارها، ويقول الإفرنج: إنهم أخذوا هذه الكلمة عن اللغة العربية، فالظاهر أنها مأخوذة من كلمة (غول) الواردة في وصف خمر الجنة في قوله تعالى {لَا فِيهَا غَوْلٌ} (الصافات: 47) ، وهو ما يغتال العقول، ويفسد الصحة {وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} (الصافات: 47) أي لا يسكرون منها لعدم وجود تلك المادة الضارة في خمر الآخرة، وعليه فسنستعمل في كتابنا هذا كلمة

(غول) بدل كلمة كحول أو (alcool) ، والمراد بها ما يسمونه (السبرتو)(Spirit) .

(8)

أي غير متحد بشيء يتقيد به.

(9)

هو الغشاء المغشي للأحشاء البطنية، ومنه جزء كالمنديل يسمى بالترب، ويمكننا أن نسمي البريتون بالعربية (الغشاء المحيط) .

(10)

مركب من هيدروجين وكلورين.

(11)

هو العلامة الإنكليزي (تشارلس دارون) عاش بين سنة 1809و1882 ميلادية، وقد ذهب إلى أن الأنواع الحية ليست ثابتة، ولم يخلق كل منها مستقلاًّ عن غيره بل نشأ بعضها عن بعض بالتغير التدريجي البطيء مع طول الزمان لعوامل طبيعية بينها بيانًا شافيًا، وقد توسع العلماء في هذا المذهب حتى طبقوه على كل شيء في هذا الوجود فصار يشمل الجماد والأمور المعنوية كالأفكار واللغات والمعتقدات والشرائع وغير ذلك. فمحصل هذا المذهب أن الكون بما فيه لم يخلق دفعة واحدة بل خلق أطوارًا طبقًا لسنة التدرج والترقي. فالمذهب في الجملة صحيح لا شك فيه، ويكفي في إثباته قوله {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} (نوح: 14) وإنما النزاع في بعض تفاصيله، وسنعود إلى بيان ذلك في فرصة أخرى إن شاء الله تعالى.

(12)

القولون اسم هذه الأمعاء الغليظة باليونانية، والكلمة من تعريب المتقدمين.

(13)

نسبة لعالم ألماني يدعى " فون برون ".

(14)

مُشَرِّح سويسري عاش بين سنة 1653و1712.

(15)

إذا أطلقنا هذه الكلمة أردنا بها الهاضوم المعدي المسمى باليونانية ببسين.

(16)

كلمة يونيانية معناها حلو.

(17)

سمي بذلك لأنه يحمل الأغذية والأشربة بعد الهضم إلى الكبد، ومنها إلى الجسم، فكأنه باب لدخول الطعام والشراب إلى البدن.

(18)

تسمى أيضًا الأولية (proteids) لأن لها المنزلة الأولى بين الأغذية، والنيتروجين من لوازم تركيبها.

(19)

المراد بالهضم هنا التغير الكيماوي المخصوص الذي يحصل في الأغذية قبل امتصاصها.

(20)

كلمة يونانية معناها (وسط الأمعاء) لأن هذا الغشاء متصل بوسط الأمعاء.

(21)

يصنع من لبن البقر والماعز والغنم.

(22)

يصنع من لبن الفرس.

(23)

تسمى صغار النحل اللوث (بالضم) ، والطرد (بالفتح) ، والرصع بالتحريك، والديسم

(بوزن جعفر) .

ص: 193

الكاتب: الجاحظ

‌الحنين إلى الأوطان

كتاب مختصر من أحسن كتب الأدب طلاوة، وأشدها حلاوة، وأرشقها

عبارة، وأجودها اختيارًا للآلئ الكلام المنثورة والمنظومة، وأطبعها لملكة البيان

في نفس الطالب، وذوق البلاغة من الشاعر والكاتب، وحسبك أنه لإمام أئمة

الأدب أبي عثمان الجاحظ، الذي نوه الزمخشري بمكانته العليا من البيان في

خطبتي كتابيه أساس البلاغة، والكشَّاف، وهاك هذا النموذج من أوله، قال بعد

البسملة:

إن لكل شيء من العلم، ونوع من الحكمة، وصنف من الأدب - سببًا يدعو إلى

تأليف ما كان فيه مشتتًا، ومعنى يحدو [1] على جمع ما كان متفرقًا، ومتى أغفل

حَمَلَة الأدب، وأهل المعرفة تمييز الأخبار، واستنباط الآثار، وضم كل جوهر

نفيس إلى شكله، وتأليف كل نادر من الحكمة إلى مثله، بطلت الحكمة، وضاع

العلم، وأُمِيت الأدب، ودَرَس مستور كل نادر، ولولا تقييد العلماء خواطرهم على

الدهر، ونقرهم آثار الأوائل في الصخر، لبطل أول العلم، وضاع آخره، ولذلك

قيل: لا يزال الناس بخير ما بقي الأول يتعلم منه الآخر.

وإن السبب على جمع نتف من أخبار العرب في حنينها إلى أوطانها،

وشوقها إلى تربها، وبلدانها، ووصفها في أشعارها توقدَ النار في أكبادها أني

فاوضت بعض من انتقل من الملوك في ذكر الديار، والنزاع [2] إلى الأوطان،

فسمعته يذكر أنه اغترب من بلد إلى آخر أمهد من وطنه، وأعمر من مكانه،

وأخصب من جنابه، ولم يزل عظيم الشأن، جليل السلطان، تدين له من عشائر

العرب ساداتها وفتيانها، ومن شعوب العجم أنجادها [3] وشجعانها، يقود الجيوش

ويسوس الحروب، وليس ببابه إلا راغب إليه، أو راهب منه، فكان إذا ذُكِر

التربة والوطن حن إليه حنين الإبل إلى أعطانها [4]، وكان كما قال الشاعر:

إذا ما ذكرت الثغر فاضت مدامعي

وأضحى فؤادي نهبة للهماهم [5]

حنينًا إلى أرض بها اخضر شاربي

وحُلت بها عني عقودُ التمائم [6]

وألطف قوم بالفتى أهل أرضه

وأرعاهم للمرء حق التقادم

وكما الآخر:

يقر بعيني أن أرى من مكانه

ذرا عقدات الأبرق المتقاود [7]

وأن أرد الماء الذي شربت به

سليمى وقدمل السُّرى كل واخد [8]

وألصق أحشائي ببرد ترابه

وإن كان مخلوطًا بسم الأساود [9]

فقلت: لئن قلت ذلك لقد قالت العجم: من علامة الرشد أن تكون النفس إلى

مولدها مشتاقة، وإلى مسقط رأسها توَّاقة [10]، وقالت الهند: حرمة بلدك عليك

كحرمة أبويك، لأن غذاءك منهما وأنت جنين - وغذاءهما منه، وقال آخر:

احفظ بلدًا رشحك غذاؤه، وارع حمى أكنك فناؤه، وأولى البلدان بصبابتك إليه بلد

رضعت ماءه، وطعمت غذاءه، وكان يقال: أرض الرجل ظئره [11] ، وداره

مهده، والغريب النائي عن بلده، المنتحي عن أهله، كالثور النادّ [12] عن وطنه،

الذي هو لكل رامٍ قنيصه، وقال آخر: الكريم يحن إلى جنابه، كما يحن الأسد إلى

غابه، وقال آخر: الجالي عن مسقط رأسه، ومحل رضاعه، كالعير [13] الناشط [14]

عن بلده، الذي هو لكل سبع قنيصة، ولكل رامٍ دريئة [15]، وقال آخر: تربة

الصبا تغرس في القلب حرمة وحلاوة، كما تغرس الولادة في القلب رقة

وحفاوة [16]، وقال آخر: أحق البلدان بنزاعك إليه بلد أمصك حلب رضاعه.

وقال آخر: إذا كان الطائر يحن إلى أوكاره، فالإنسان أحق بالحنين إلى

أوطانه، وقالت الحكماء: الحنين من رقة القلب، ورقة القلب من الرعاية،

والرعاية من الرحمة، والرحمة من كرم الفطرة، وكرم الفطرة من طهارة

الرشدة [17] ، وطهارة الرشدة من كرم المحتد [18]، وقال آخر: ميلك إلى مولدك، من

كرم محتدك، وقال آخر: عسرك في دارك أعز لك من يسرك في غربتك،

وأنشد:

لقرب الدار في الإقتار خير

من العيش الموسع في اغتراب [19]

وقال آخر: الغريب كالغرس الذي زايل أرضه، وفقد شربه، فهو ذاوٍ [20] لا

يثمر، وذابل لا ينضر، وقال بعض الفلاسفة: فطرة الرجل معجونة بحب

الوطن - ولذلك قال أبقراط: يداوى كل عليل بعقاقير أرضه، فإن الطبيعة تتطلع

لهوائها، وتنزع إلى عذائها، وقال أفلاطون: غذاء الطبيعة من أنجع أدويتها، وقال

جالينوس: يتروح العليل بنسيم أرضه - كما تتروح الأرض الجدبة ببلل

القطر.

والقول في حب الناس الوطن، وافتخارهم بالمحال قد سبق، فوجدنا الناس

بأوطانهم أقنع منهم بأرزاقهم، ولذلك قال ابن عباس: لو قنع الناس بأرزاقهم،

قناعتهم بأوطانهم ما اشتكى عبدٌ الرزقَ، وترى الأعراب تحن إلى البلد الجدب،

والمحل القفر، والحجر الصلد، وتستوخم [21] الريف حتى قال بعضهم:

أَتَجْلِينَ في الجالين أم تتصبري

على ضيق عيش والكريم صبور

فبالمصر برغوث وحمى وحصبة

وموم وطاعون وكل شرور [23]

وبالبيد جوع لا يزال كأنه

ركام بأطراف الأكام تمور [24]

وترى الحضري يولد بأرض وباء وموتان وقلة خصب، فإذا وقع ببلاد

أريف من بلاده، وجناب أخصب من جنابه، واستفاد غنى حن إلى وطنه ومستقره

ولو جمعنا أخبار العرب وأشعارها في هذا المعنى لطال اقتصاصه، ولكن

توخينا تدوين أحسن ما سنح من أخبارهم وأشعارهم، وبالله التوفيق.

ومما يؤكد ما قلنا في حب الأوطان قول الله عز وجل حين ذكر الديار

يخبر عن مواقعها من قلوب عباده فقال: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ

اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَاّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ} (النساء: 66) ، فسوى بين قتل أنفسهم

وبين الخروج من ديارهم، وقال تعالى: {وَمَا لَنَا أَلَاّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ

أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} (البقرة: 246) وقال الأول: عَمَّر الله البلدان بحب

الأوطان، وكان يقال لولا حب الناس الأوطان لخربت البلدان، وقال عبد الحميد

الكاتب: وذكر الدنيا: نفتنا عن الأوطان، وقطعتنا عن الإخوان، وقالت الحكماء:

أكرم الخيل أجزعها من السوط، وأكيس الصبيان أبغضهم للكتاب، وأكرم الصفايا

أشدها ولهًا إلى أولادها، وأكرم الإبل أشدها حنينًا إلى أوطانها، وأكرم المهارى

أشدها ملازمة لأمها، وخير الناس آلفهم للناس.

وقال آخر: من أمارات العاقل بره لإخوانه، وحنينه إلى أوطانه، ومداراته

لأهل زمانه، واعتل أعرابي في أرض غربة فقيل له: ما تشتهي؟ فقال حِسل [25]

فلاة وحسو [26] قلات [27] . وسئل آخر فقال: مخضًا [28] رويًّا، وضبًّا مشويًّا،

وسئل آخر فقال: ضبًّا عنينًا أعور، وقالت العرب: حماك أحمى لك، وأهلك

أحفى بك، وقيل الغربة كربة، والقلة ذلة، وقال:

لا ترغبوا إخوتي في غربة أبدا

إن الغريب ذليل حيثما كانا

وقال آخر: لا تنهض عن وكرك فتنغصك الغربة، وتضيمك الوحدة، وقال

آخر: لا تجف أرضًا بها قوابلك [29] ، ولا تشك بلدًا فيه قبائلك، وقال أصحاب

القيافة [30] في الاسترواح: إذا أحست النفس بمولدها؛ تفتحت مسامها فعرفت

النسيم.

وقال آخر: يحن اللبيب إلى وطنه، كما يحن النجيب [31] إلى عطنه، وقال:

كما أن لحاضنتك حق لبنها، كذلك لأرضك حق وطنها، وذكر أعرابي بلده فقال:

رملة كنت جنين ركامها، ورضيع غمامها، فحضنتني أحشاؤها، وأرضعتني

أحساؤها [32] ، وشبهت الحكماء الغريب باليتيم اللطيم [33] الذي ثكل [34] أبويه، فلا أم

ترأمه [35] ، ولا أب يحدب عليه [36]، وقالت أعرابية: إذا كنت في غير أهلك؛ فلا

تنس نصيبك من الذل، قال الشاعر:

لعمري لَرهط المرء خير بقية

عليه وإن عالوا به كل مركب

إذا كنت في قوم عِدًا لست منهم

فكل ما عُلفت من خبيث وطيب [37]

وفي المثل أوضح من مرآة الغريبة - وذلك أن المرأة إذا كانت هديًا في غير

أهلها تتفقد من وجهها وهيئتها ما لا تتفقده وهي في قومها وأقاربها - فتكون مرآتها

مجلوة تتعهد بها أمر نفسها وقال ذو الرمة:

لها أذن حشر وذفرى أسيلة

وخد كمرآة الغريبة أسجح [38]

_________

(1)

يحدو، حداه على الأمر: بعثه إليه.

(2)

النزاع إلى الشيء: الاشتياق إليه.

(3)

الأنجاد: جمع نجد، وهو الشجاع السريع إلى الإجابة فيما دعي إليه.

(4)

الأعطان: أوطان الإبل ومباركها عند الماء، واحدها عطن.

(5)

الهماهم: الهموم.

(6)

التمائم: جميع تميمة، وهي خرزات كانت العرب تعلقها على أولادها يتقون بها العين في زعمهم فأبطلها الإسلام، ذكره في النهاية لابن الأثير.

(7)

ذرا الشيء: بالضم أعاليه الواحدة ذروة بكسر الذال وضمها، وقال في معجم البلدان: قال ابن الأعرابي: الأبرق جبل مخلوط برمل وهي البرقة، وكل شيء خلط من لونين فقد برق، والمتقاود المستوي، قال في أساس البلاغة: تقاود المكان استوى، قال:

ألا ليت شعري هل أرى من مكانه

ذرا عقدات الأبرق المتقاود

(8)

السرى: سير عامة الليل وفي المئل " عند الصباح يحمد القوم السرى " ويقال جمل واخد ووخاد إذا كان واسع الخطو، وقد وخد يخدو وخدًا ووخدانًا.

(9)

الأساود: جمع أسود وهو العظيم من الحيات.

(10)

تاق إليه توقانًا: اشتاق إليه فهو تائق وتواق.

(11)

الظئر: المرأة التي حضنت ولد غيرها.

(12)

ند البعير ندًّا: (بتشديد الدال) نفر وذهب على وجهه شاردًا.

(13)

العير: الحمار الوحشي والأهلي أيضًا.

(14)

قال في أساس البلاغة: ثور ناشط - خارج من أرض إلى أرض.

(15)

الدريئة: حلقة يتعلم عليها الطعن.

(16)

الحفاوة: المبالغة في الإكرام.

(17)

الرشدة: صحة النسب وهي بكسر الراء، والفتح لغة.

(18)

المحتد: الأصل، يقال هو كريم المحتد، وهم كرام المحاتد.

(19)

الإقتار: مصدر أقتر الرجل: إذا افتقر.

(20)

ذاوٍ: ذابل.

(21)

استوخم البلد، وهو وخم ووخم، بالكسر والسكون أيضًا: إذا لم يصلح للسكن.

(22)

الجلاء: الخروج من البلاد يقال: جلوا عن أوطانهم: إذا خرجوا منها.

(23)

الموم: هو البرسام مع الحمى.

(24)

الركام: السحاب المتراكم بعضه فوق بعض، والأكمة تل، وقيل شرفة كالرابية وهو ما اجتمع من الحجارة في مكان واحد وربما غلظ، والجمع أكم وجمع الأكم آكام، مثل جبل وجبال، ومار الشيء تحرك بسرعة.

(25)

الحسل: ولد الضب حين يخرج من بيضه.

(26)

حسا زيد المرق يحسوه حسوًا: شربه شيئًا بعد شيء، وحسا الطائر الماء: تناوله بمنقاره.

(27)

القلات: جمع قلت بالفتح، وهي النقرة في الجبل يستنقع فيها الماء.

(28)

المخض والمخيض: ما مخض من اللبن، وأخذ زبده.

(29)

القوابل: جمع قابلة، وهي المرأة التي تأخذ الولد عند الولادة.

(30)

القائف: الذي يتتبع الآثار ويعرفها ويعرف شبه الرجل بأخيه وأبيه، والجمع القافة، ويسمى فعله بالقيافة.

(31)

النجيب من الإبل: القوي الخفيف السريع.

(32)

الأحساء: جمع حسي، وهي سهل من الأرض يستنقع فيه الماء.

(33)

اللطيم: الذي يموت أبواه.

(34)

الثكل: فقدان المرأة ولدها.

(35)

رئمت الناقة الولد: عطفت عليه.

(36)

يحدب عليه: يعطف عليه.

(37)

قال ابن السكيت: قوم عدا غرباء، وأنشد البيت، قال: ولم يأت فعل في الصفات غير هذا، وهو أيضًا مذهب سيبويه، وهم اسم الجمع، وقال ابن السيد في الاقتضاب هذا البيت لزرافة بن سبيع الأسدي فيما ذكر يعقوب وذكر الجاحظ أنه لخالد بن نضلة الجحواني من بني أسد - والعدى الغرباء، والعدى أيضًا الأعداء - والأكل والعلف ههنا مثلان مضروبان للموافقة، وترك المخالفة - وكان هذا الشاعر قد راغم قومه، وعتب عليهم ثم جاور غيرهم، وندم على مفارقة قومه - ولذلك قال قبل هذا البيت:

لعمري لقوم المرء خير بقية

عليه وإن عالوا به كل مركب

من الجانب الأقصى وإن كان ذا غنى

جزيل ولم يخبرك مثل مجرب

تبدلت من دودان نصرً اوأرضها

فما ظفرت كفي ولا طاب مشربي

ثم أفاض في شرح البيت.

(38)

الحشر: ما لطف من الآذان، والذفرى من الحيوان: العظم الشاخص خلف الأذن، والأسيل من الخدود: الطويل المسترسل، وسجح الخد كفرح سهل، ولان، وطال في اعتدال، وقل لحمه.

وقال في أساس البلاغة: وجه أسجح مستوي الصورة، ورجل أسجح الخدين، وقد سجح قال ذو الرمة وقد أنشد البيت.

ص: 220

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌سفور النساء واختلاطهن بالرجال

وفوضى الآداب بمصر

في هذه الأيام التي ثبت فيها عن نساء فرنسة كلهن، حتى غانيات باريس

منهن، أنهن لبسن ثياب الحداد، بعد رفولهن في تلك الأزياء، التي تُقَلِّدهن فيها

سائر النساء، في جميع الأرجاء،وظهرن بمظهر الراهبات الناسكات، وهن أولئك

الفاتنات، الكاسيات العاريات، المائلات المميلات، اللواتي فتن قلوب الرجال،

حتى صاروا يشدون إليهن الرحال، بل يطيرون إليهن على مراكب النار، في

سباسب الأرض وأجواز البحار، وتركن المراقص والملاهي والحانات، إلى

ساحات القتال والمستشفيات، وإلى دور الصناعة، وأعمال الزراعة، ليخففن عن

أمتهن أثقال هذه الحرب الضروس، في هذا العصر العبوس.

في هذه الأيام التي مس فيها الضر، وهدد الأمم والدول العسر؛ فكسدت

غلات الزراعة، وتعطلت معامل الصناعة، ووقفت حركة التجارة، وقلّ الدرهم

والدينار، وغلت أثمان الأشياء، وخاف العقلاء أن يعقب هذه الحرب قحط

ومجاعات، تتلوها فتن وأوبئة وثورات، وشعر المبذرون من أهل السعة والثروة،

بوجوب الاقتصاد في النفقة خوفًا من سوء العاقبة.

في هذه الأيام التي تُدك فيها الحصون والمعاقل، وتُدمر المعابد والمنازل،

وتثل العروش، وتذهب باستقلال الشعوب، وتنذر أقوى الدول بأسًا، وأشدهن

بطشًا، ذلاًّ بعد عزة، وضعفًا بعد قوة، وفقرًا بعد ثروة، وعبودية بعد حرية.

في هذه الأيام - وقد زلزلت الأرض زلزالها، وأخرجت الأرض أثقالها،

وقال الإنسان ما لها، وما عسى أن يكون مآلها - انبرى نفر من الشبان والشواب،

من المتفرنجين والمتفرنجات في هذه البلاد، يتبارون في تحبير المقالات، وإقامة

الحجج والبينات، المؤلفة من مقدمات الشبه والخيلات، على وجوب سفور النساء

المصريات، واختلاطهن بالرجال في الملاهي والمجتمعات، وفي عامة الأحوال

والأوقات؛ ليشاركن الرجال في حريتهم، ويساهمنهم في التمتع بمحاسن (الطبيعة)

ويقتبسن منهم الآداب والأفكار الجديدة؛ ولذلك يسمون مطلبهم هذا (تحرير المرأة)

فمرادهم أن المرأة في رق أهلها ثم زوجها، وأنه ينبغي أن تفعل ما تشاء ولا

يصح لأحد أن يحجر عليها، ولا أن يصدها عما تُحب وتهوى.

يتوهم هؤلاء المساكين أن الفوضى الأدبية التي يرتعون فيها هي الحرية التي

ينوه بمدحها الإفرنج، والتي بها وصلوا إلى ما وصلوا إليه من العلم والصناعة،

وما أنتجا من الملك والسيادة، ولم يعقلوا أن هذه الفوضى هي التي حلت روابطهم

القومية، وأضعفت مقوماتهم، ومشخصاتهم الجنسية، وجرفت ثروتهم إلى البلاد

الأجنبية، وجعلتهم غير أهل للاستقلال في إدارة بلادهم، فضلاً عن مد نفوذهم

وبسط سلطانهم على غيرهم، ولم يستفيدوا منها إلا الغرور بأنفسهم، وكثرة

الدعاوي العريضة بألسنتهم.

النساء المسلمات غير مسترقات في مصر، ولا في غيرها، ولا محرومات

من التمتع بمحاسن الوجود، وطيبات الدنيا، فأما نساء الفلاحين فأمرهن معروف،

وإنهن يشاركن الرجال في كل شيء، ولا يعنيهن طلاب (تحرير المرأة) فيما

يقولونه عن النساء المصريات، وأما نساء الموسرين في المدن اللواتي تتوجه إليهن

أنظار هؤلاء المحررين، فهن أكثر تمتعًا بزينة الدنيا ونعيمها من الرجال، إلا في

أمر واحد فقط، وهو حرية المجاهرة بالفسق، ومعاشرة الرجال ومخادنتهم في

الجهر، فالفاسقة منهن لا تفسق إلا وراء الستر، أو في المواخير المعروفة ببيوت

السر، ولا تخرج مع خدن لها للتنزه إلا مستخفية، إلا أن تكون مغمولة أو متهتكة.

وأما البرقع فهو زي اختارته لنفسها، وزينة تجذب الأنظار إليها؛ لأنه يُظْهِر

المحاسن، ويُخْفِي المعايب، وقد اعترف بذلك قاسم أمين، وسبقه إليه الشيخ أحمد

فارس الكاتب الاجتماعي الشهير، وقد نظم في البرقع هذين البيتين:

لا يحسب الغِرُّ البراقع للنسا

منعًا لهن عن التمادي في الهوى

إن السفينة إنما تجري إذا

وُضِع الشراع لها على حكم الهوا

على أن البراقع كانت في عهد زيارته لمصر ساترة لمعظم الوجه، فكيف لو رأى

براقع هذه الأيام التي قلت فيها من مقال سابق: (تلاعبها الأنفاس، وتخترقها أشعة

عيون الناس) ؟

وإني لأعجب من المدافعين عن الحجاب كيف يعدون هذه البراقع البيضاء

الشفافة من محصلاته،أو متمماته، وما هي إلا من هاتكاته، أو مزيلاته، إلا أن

يكون مرادهم رد كل ما يجيء به خصومهم من العبث بعادات الأمة لأجل التفرنج،

وزيادة التهتك، كما أني أعجب من اهتمام الآخرين بإزالتها دون غيرها من زينة

النساء المدنيات، وهي لا تمنع علمًا، ولا عملاً، ولا صلاحًا، ولا فسادًا، إلا أن

يكون مرادهم ترك كل وطني احتقارًا له، واستبدال المشخصات الإفرنجية

بالمشخصات الوطنية تعظيمًا لقدرها، أو توهمًا أن تشبهنا بالإفرنج في مشخصاتهم

- وهو سهل علينا - يقوم مقام جعل مقوماتنا كمقوماتهم، - وهو ما عَزَّ علينا -

فيكون لنا شرف التلهي بقشور مدنيتهم، وقد انحطت هممنا عن اللحاق بهم في

لبابها وحقائقها.

أو لم يكفهم أننا شرعنا نقلدهم في هذه الظواهر القشرية فتزيّا حكامنا بأزيائهم،

وتبعهم الناس بالتدريج المعتاد في مثل ذلك، ثم قلدناهم في الأثاث والرياش

والماعون وفي كثير من العادات، وهل كان ذلك كله إلا سببًا لحرف ثروتنا،

وانتزاعهم إياها منا، وبعد أن قُضي على صناعتنا، ولم تحل صناعتهم محلها، دع

تأثيره في إضعاف ديننا وآدابنا، التي هي مقومات أمتنا، فخرجنا عن كوننا أمة

متماسكة بما بينها من الروابط كتماسك البناء المتين، وصرنا كالأنقاض التي لا

مالك لها، يأخذها المعمرون فيشيدون بها دورًا جديدة لهم.

لماذا لا نعتبر بحال الأمة الإنكليزية التي نالت أعظم سيادة في الأرض

بأخلاقها، وصفاتها، وعاداتها، كالثبات، والتروي، والمحافظة على مقومات

الأمة ومشخصاتها حتى المفضولة منها، وعدم اقتباس شيء من عادات غيرها،

وآدابه، وإن كان أحسن مما عندها، إلا أن يكون بالتدريج البطيء في الزمن

الطويل.

وجملة القول أن زي النساء المدنيات بمصر هو زي زينة تجذب أنظار

الرجال إليهن قلما يوجد زي يفي بهذا الغرض مثله، وهو ليس من الحجاب في

شيء، ولعله أبعد الأزياء عن آداب الإسلام وصيانته، فلباس البدويات والقرويات

السافرات الوجوه أقرب إلى أدب الإسلام وصيانته منه؛ ولكن الدعوة إلى إزالته

بدعوى قبحه - لأنه من الحجاب الضار المذموم بزعم هؤلاء الدعاة، وبروح التفرنج

التقليدي الذي يدفعهم إليه - دعوة ضارة مضعفة لمزاج الأمة، صادعة لبنائها

الاجتماعي، وإنما تحسن الدعوة إلى تغييره بدعوى مخالفته للآداب الدينية،

وشرف الصيانة الإسلامية، وإلى استبداله بزي آخر يجمع بين الجمال والكمال،

ولا يُقْصَد به تقليد أحد من الشعوب والأجيال.

إن المقلد لا ينفك مرتكسًا

في الضعف يخبط في ليل دجوجي

وأما المطلب الثاني من مطالب أعداء الحجاب - وهو اختلاط النساء

بالرجال - فهو الجد الذي يؤبه له، ويهتم به، وحسبك من بيان ضرر الدعوة

إليه بروح التفرنج، وأسلوب ذم الحجاب المنسوب إلى الشرع، ما قلناه آنفًا في

ضرر الدعوة إلى تغيير الزي، وتأمل في الموضوع نفسه لتدرك ما فيه من الضرر

أو النفع.

لعل عدد نساء الموسرين في المدن لا يبلغ معشار1/1000 عدد نساء الفقراء

اللواتي يبعن في الأسواق والطرقات، أو يخدمن في البيوت، ونساء القرى والبادية

وهؤلاء هن اللواتي يوصفن بالحجاب، والجهاد كله في سبيلهن.

هذا العدد القليل من النساء يخالط الرجال الأجانب كل يوم في الأسواق،

والشوارع، والمتنزهات، وكذا في بعض البيوت، فالنساء المدنيات يشترين

بأنفسهن من الرجال كل ما يحتجن إليه من الثياب، والحلي، والأعطار، وأدوات

الزينة، حتى ما يستحيا من ذكره، ونرى الكثيرات منهن في ضواحي المدن،

ومتنزهاتها يركبن مع الرجال في المركبات، أو يماشينهم في الطرقات، ومنهن

السافرة عن وجهها، والمخاصرة لخدنها، وإذا سمعت أخبار بيوت السر من وقائع

الشحنة (البوليس) ، أو المختبرين تعلم أن هذه البيوت النجسة كثيرة جدًّا، وأن

أخدانها من النساء (المحجبات) ، وعشاقهن من الأفندية، والبكوات، والباشوات،

يُعَدُّونَ بالألوف، لا بالمئات، دع ذكر الذين يذهبون بنسائهم إلى أوربة، فيلبسن

مدة سفرهن ملابس الإفرنجيات كما يفعل رجالهن، ويجتمعن معهم، أو منفردات

عنهم بالرجال في المطاعم، والملاهي، والملاعب، والمراقص، ودع ذكر الذين

يُدْخِلون أصدقاءهم من الرجال على نسائهم في بيوتهم، ويأمرونهن بمجالستهم،

ومؤاكلتهم وهن حاسرات عن رؤسهن، مبديات لنحورهن، لا سافرات عن

وجوههن فقط، بل أقول لك همسًا، ما أخجل أن أجهر به جهرًا: إن المخادنة

ذائعة بين التلاميذ والتلميذات.

كل هذا كثير شائع في مصر، فما الذي بقي ممنوعًا من اختلاط النساء

بالرجال، حتى قام بعض الشبان والشواب ينشدونه ويجاهدون في سبيله في هذه

الأيام، التي صدعت بناء الإنسانية أعظم صدع، وحصرت همَّ الشعوب كله في

الخوف على استقلالها في الشرق والغرب؟

إنما بقي شيئان اثنان:

(أحدهما) أن العرف يحظر على الرجل الأجنبي أن يخلو بامرأة أجنبية من

هؤلاء المدنيات (كما يحظر الشرع الخلوة بكل أجنبية بغير عذر شرعي) أو يطلب

الانفراد بها بزيارة أو غير زيارة، فمخالفة هذا لا تزال تعد قبيحة في العرف،

فلا تقع من غير المتهتكين إلا خفية.

(ثانيهما) إن هؤلاء النساء لا يجالسن الرجال في مجالسهم الخاصة في

البيوت، ولا العامة في المجامع والملاهي، إلا من شذ.

أما إباحة خلوة المرأة بالرجل إباحة مطلقة بغير نكير فلا يكاد يذكرها محاربو

الحجاب في مقالاتهم، إذ لا يجدون شبهة يزينونها بها، وإنما يكثرون اللغط في

مجالسة النساء للرجال في المجالس الخاصة، والمجامع العامة زاعمين أن ذلك

يرقي عقول النساء، ويزيد في علومهن وآدابهن، وهذه أظهر شبهاتهم في هذا الباب،

وقد أشرعنا لها طريقًا لا ينكره عرف ولا شرع فيما كتبناه في المجلد الثاني من

المنار تقريظًا لكتاب تحرير المرأة، وهو أنه يمكن تحصيل هذه الفائدة بمجالسة

النساء في البيوت لمحارمهن من الرجال، كالإخوة، والأعمام، والأخوال، وأولاد

الإخوة والأخوات، وبقضاء الأزواج أوقات فراغهم مع نسائهم في البيوت، فلماذا

يترك هذا مدعو الحرص على فائدة الاختلاط إن كانوا صادقين؟

وأما المجامع العامة فقلما يوجد في مصر منها ما يفيد النساء فائدة تستحق كل

هذا الجهاد، فالمجامع العامة الدائمة هي المعروفة بالقهاوي والحانات، وغير

الدائمة منها هي المآتم والأعراس، وقد وجد في البلاد قليل من الأندية الخاصة،

وأحاديث الناس فيها كأحاديثهم في الملاهي العامة من كل وجه، ولكن تلقى فيها

أحيانًا بعض الخطب والمحاضرات التي لا يفهم بعضها إلا القارئات، وهذه

المحاضرات تنشر غالبًا في الصحف، فيمكن لمن يستفدن منها أن يقرأنها فيها،

ولا فائدة للنساء في مجامع الرجال سواها، ولكنها لا تخلو من مفاسد.

غشيان النساء لهذه المجامع، من أقوى الوسائل لتعرف الفساق بهن وإغوائهم

إياهن، والفساق هم الذين يحرصون على هذا الاجتماع بالنساء في الغالب، أما

أهل الفضائل والآداب الصحيحة فقليل ما هم، وأكثرهم - ولا كثرة فيهم - لا يحب

هذا الاختلاط ولا يميل إليه، فإن وجد فيهم من يرغب فيه للإصلاح الخالص من

شوائب الهوى، فمن ذا الذي يعرف هؤلاء الأفراد وهم أندر من الكبريت الأحمر؟

وكيف السبيل إلى جمعهم في أندية خاصة يختلف النساء إليها دون غيرها لأجل

ترقية أفكارهن وآدابهن.

إلى متى نغش أنفسنا، ونتعامى عن فساد الأخلاق والآداب الغالب على نابتتنا،

الذي لم يزدد مع تربية التفرنج إلا تفاقمًا واستشراء؟ أنبذل هذه الصبابة الباقية

لنسائنا من إرث فضائل سلفنا إلى هؤلاء السفهاء، ونسمي هذا إصلاحًا للبيوت

بإصلاح النساء؟

إذا كان (خير الناس أنفعهم للناس) كما ثبت في النقل والعقل، فالفلاحون في

هذه البلاد خير من هؤلاء المتفرنجين الذين تلقفوا قليلاً من اصطلاحات مبادئ

الفنون، لم يستعدوا بها لعمل ما للأمة، إلا أن يكونوا خدمًا وأجراء للحكومة، التي

يعدون اللهج بذمها من شعائر الوطنية الصادقة، فمن تستغني الحكومة عن استخدامه

منهم يمسون ويصبحون كَلاًّ على الأمة، وعالة على العاملين فيها كالفلاحين،

يأكلون ثمرات أعمالهم، ويفسدون ما بقي من فضائلهم وآدابهم، ويحسبون أنهم من

الأئمة المصلحين فيهم، {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لَاّ يَشْعُرُونَ} (البقرة:

12) .

ألا إن النساء في حاجة إلى العلم والأدب والإصلاح، وليس الرجال أقل

حاجة منهن إلى ذلك، ففساد أخلاق الرجال هو الذي أفسد النساء، وأضاع ثروة

الأمة، وحل روابطها الاجتماعية، ولم يبدلها بها روابط خيرًا منها ولا مثلها.

ألا إن هذا الإصلاح الصحيح إنما هو إصلاح النشء بتربية الأخلاق والآداب

الدينية أولاً، ثم بتعليم العلوم التي يعمل المتعلم بها من يوم خروجه من المدرسة إلى

أن يهرم أو يموت، وعلوم النساء العملية العامة تربية الأطفال، وإدارة البيوت

وإنما يقوم بذلك على الوجه النافع خيار الأمة دينًا وعقلاً؛ وأدبًا بتأليف الجمعيات

الخيرية والعلمية، فإن لم يوجد من هؤلاء من يقوم بهذا العمل على وجهه بالتعاون

فإن الأمة تظل مذبذبة لا يستقيم لها أمر ولا يتم فيها إصلاح {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَاّ أُوْلُوا

الأَلْبَابِ} (البقرة: 269) .

_________

ص: 227

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الشيخ شبلي النعماني

كان الشيخ شبلي النعماني رحمه الله وأدام النفع به - ركنًا من أركان نهضة

الإصلاح الإسلامي في الهند.

ورجال هذا الإصلاح في كل الأقطار الإسلامية أمة وسط بين فريق الجامدين

على التقاليد والعادات، التي انتهى إليها أمر جمهور المسلمين بعد فتك التفرق

الديني والسياسي بهم، وانتشار البدع والخرافات فيهم، وإضاعة جل ما ترك سلفهم

من العلم والمجد التليد، وإعراضهم عن العلم الحديث والمجد الطريف، وبين فريق

المتفرنجين الذين أصابوا حظًّا من اللغات الأجنبية، وتلقوا قليلاً من العلوم والفنون

الأوربية، فأحدث لهم ذلك غرورًا بأنفسهم، واحتقارًا لأمر أمتهم، فطفقوا يمرقون

منها بزلزال عقائدهم وأفكارهم، وتغيير عاداتهم وأزيائهم، فوهت فيهم جميع

مقوماتها، ولم يندغموا في أمة من الأمم التي يقلدونها، على أن منهم من يحسبون

أنه يمكن جعل أمتهم كلها، مثلهم أو مثلها.

المباينة بين الجامدين والمتفرنجين عظيمة، كل منهم يحتقر الآخر ويكرهه،

ويعده علة لضعف الأمة وانحطاطها، أولئك يرمون هؤلاء بالكفر والفسوق،

ويَنْفرون ويُنَفِّرون منهم ر ومن هذه العلوم والفنون، ويعدونهم آلات الأجانب التي

يحللون بها عناصر الأمة ويستعملونها كما يستعملون عناصر الأرض في تنمية

ثروتهم، وإعلاء كلمتهم، واستعمار البلاد وجعلها تحت سلطتهم - وهؤلاء يرمون

أولئك بالتعصب والجهل، والخرافات والهمجية، التي يجب نسفها لإقامة بناء

الحضارة والمدنية، والحق أن كلا منهما مخطئ في شيء، ومصيب في شيء آخر،

وله مزايا حسنة، ورزايا ضارة، وأن الأمة لو سارت على رأي كل منهما وحده

لم تكن عاقبتها إلا الانحلال والهلاك.

وأما حزب الإصلاح، فهو وحده محل الرجاء؛ لأنه يُقَدِّر مزية كل من

الحزبين قدرها، ويعرف منافعه ومضاره، ويريد أن يكون معقد الارتباط والاتصال

بينهما بإرجاع كل منهما عن خطئه، والسير بالأمة في طريق تحفظ به مقوماتها

ومشخصاتها، وتعيد الموروث النافع منها إلى جدته، وتندرج في استبدال النافع

بالضار منه، وتقتبس من علوم العصر وفنونه وصناعاته ما لا تقوم لأمة قائمة في

هذا العصر بدونه، وليس هذا المقام مقام شرح الإصلاح، ولا بيان أحوال

الأحزاب الثلاثة، وإنما ذكرنا هذا لبيان مرادنا من قولنا إن فقيد الإسلام في الهند

كان ركنًا من الإصلاح الإسلامي.

ولم يكن طلاب الإصلاح إلا أفرادًا من الناشئين في بيت حزب الجمود أو

حزب التفرنج، هداهم الله تعالى باستعداد في فطرتهم، وتوفيق في سيرتهم، إلى

معرفة الطريقة المثلى لصلاح أمتهم، وكان المعقول أن يكون رجال العلم الديني

أقدر على أهل الجمود منهم على المتفرنجين، ولكن كثر ما كان الأمر على غير

ذلك؛ وسببه أن كبراء الجامدين من الشيوخ هم أشد حسدًا وبغضًا للمصلح الديني

من غيره، فلهذا لم يتم للشيخ شبلي ما كان يريد من الإصلاح في ندوة العلماء،

وكان أدنى الناس إلى مساعدته المتدينون من كبراء الدنيا كأميرة بهوبال، وقد

أخبرني رحمه الله تعالى أن الأمير الجواد، الذي تفاخر به الهند أمراء المسلمين في

جميع البلاد، النواب محمد علي راجا محمود آباد، عرض عليه مبلغًا كبيرًا من

المال يدفعه سنويًّا لمدرسة ندوة العلماء بشرط جعلها للمسلمين كافة كمدرسة عليكرة

لا خاصة بأهل السنة، وهذا باب عظيم من أبواب الإصلاح ما كان ليشايعه عليه

المتعصبون من أعضاء الندوة؛ فلذلك اعتذر للأمير بأن هذا عمل ما حان وقته.

وأما الأميرة المحسنة التقية صاحبة بهوبال، التي جعلها الله تعالى بعد

المصلح العظيم السيد صديق حسن خان، نصيرة العلم وخادمة الإسلام، فقد كانت

ظهيرة للشيخ في جميع ما يخدم به الدين والعلم من الأعمال، وإننا ننشر هنا نص

كتاب جاءنا منه، يشير إلى ما كان من صلتها وصلتنا به، وهو:

إلى حضرة السيد المحترم

...

متع الله المسلمين بطول بقائه

بعد التحية والسلام

إني لم أزل أقرأ في الجرائد ما تبذلون من السعي في تأسيس دار العلم

والإرشاد، وهذه هي بغيتنا التي كنا ننشدها نحن أهل الندوة، فجعل الله سعيكم

مشكورًا، وتوج عملكم بالنجاح، طالما تاقت نفسي إلى زيارة مصر للقائكم، ولكن

هيهات فإني قد قُطِعَتْ إحدى رجلي لرصاصة أصابتها فبقيت جليسًا [1] للبيت غير

قادر على تحمل أعباء الرحلة والسفر، والأمر الذي دعاني الآن إلى إرسال النميقة

أن الأميرة سلطان جهان (بيكم) صاحبة إيالة بوفال [2] خرجت راحلة إلى لندرة

للحضور في حلفة تتويج الملك جرج، وهي تريد زيارة البلاد الإسلامية، وتصل

في مصر في شهر رمضان.

وهي من عظماء بلادنا أعطت مائة ألف روبية لتكميل كلية عليكده، وعينت

ثلاث مائة روبية جراية شهرية لندوتنا، وكم لها من أمثال ذلك.

ولها شدة عناية بتربية عائلتها؛ ولذلك أرادت أن تجلب إحدى المعلمات

المسلمات من مصر المحروسة، وقد كتبت إليَّ أن أكون مساعدًا لها في إنجاح هذا

الأمر، فالمرجو من حضرتكم أنها لما تصل إلى قاهرة [3] وتستدعي من حضرتكم

الاستشارة والاستعانة، فافعلوا ما يليق بكم من إكرام مثل هذا الضيف الكريم العديم

المِثْل، والفضل لكم [4] .

...

...

...

...

شبلي نعماني

...

...

...

... في 7 مايو سنة 1911

...

...

...

...

ندوة لكهنؤ

هذا وإن الفقيد رحمه الله تعالى قد اشترك بالمنار من أول العهد لظهوره،

وكان مواظبًا على قراءته معجبًا به، وقد كان له من حسن الظن بصاحب المنار ما

حمله على دعوتنا لرئاسة مؤتمر ندوة العلماء السنوي رجاء زيادة إقبال مسلمي الهند

على هذا المؤتمر، وما يتبع ذلك من تعضيد الندوة ومساعدتها، وهذا نص كتابه

الأول في ذلك:

بسم الله الرحمن الرحيم

إلى حضرة الفاضل الأستاذ مولانا رشيد رضا أطال الله بقاءه.

لا يخفى على أمثالكم أن إغارات جرجي زيدان على أعراض العرب في

كتابه (تاريخ التمدن الإسلامي) أكثر من أن تحصى، وإن كل ما دسَّه وَموَّه به لا

أصل له أصلاً، وحين اطلعت على ذلك كاد قلبي أن يتميز من الغيظ غير أني

صبرت وأمعنت النظر فيما له نظر، ولما عيل عني الصبر ونأى، قمت على ساق،

وألفت رسالة أكشف فيها دسائسه، وهي الآن تطبع، وأريد إرسال ما فُرغ من

طبعه منها إليكم لكي تدرجوه في جريدتكم، وكذلك إلى الفراغ منها بأسرها.

ومما أنهيه إليكم أن ندوة العلماء في كل عام تعقد محفلاً عامًّا يحضر فيه

الخاص والعام، والأمراء والنواب وأهل الحل والعقد، ويكون انعقاده عامنا هذا في

أول إبريل سنة 1913، فنحن معشر المعتمدين والآراكين نهوى ونود من صميم

قلوبنا أن يكون صدر [5] هذا المحفل العظيم، وواسطة عقده النظيم حضرتكم

الشريفة، فإن تشرفونا بالقدوم علينا في الهند، تهرع أهل البلاد الشاسعة إلى هذا

المحفل الإسلامي على كل ضامر من كل فج عميق لمقدمكم المبارك إن شاء الله

تعالى، ويحصل بعون الله لكم ما أنتم بصدد الاجتهاد فيه من إظهار مقاصد مجلس

التعليم والإرشاد، ويعظم بذلك محفل ندوتنا، ويُقَدَّر قَدْرَه، وفي طي رقيمي هذا،

أُرسل إليكم خطبة والي الهند، وعميدها؛ فيظهر لكم منها أن الدولة البريطانية لها

عناية تامة بندوة العلماء، ولولا ذلك لم تعين لها في كل شهر خمسمائة روبية من

خزائنها، فإن عزم جنابكم على تشريفنا بما اقترحناه فلا عليه أن يلاقي سفير الدولة

البريطانية في مصر المحمية، وينهي إليه خطبة والي الهند وعميدها في حق ندوة

العلماء، وعريضتها عند قدوم الملك المعظم مع ملكته المعظمة قاعدة الهند دهلي،

لكي يكون على علم ويستحسن قدومكم علينا، وإن أمكن منكم طلب الإجازة بذلك

مرقومة فيها فنعم ذلك، ودمتم أفندم.

...

...

...

...

شبلي نعماني

...

...

...

5 جنوري (يناير) سنة 1913

...

...

...

... ندوة العلماء - لكهنؤ

جاءنا هذا الكتاب ونحن نستعد لفتح مدرسة (دار الدعوة والإرشاد) فكان

المانع من إجابة هذه الدعوة أرجح من المقتضي، إذ كان لا بد من السفر بعد فتح

المدرسة بشهر أو أقل - وأنا ناظر موظف لها، والروح المدبر في تأسيسها والقيام

بها، ولكن أعضاء مجلس جماعة الدعوة والإرشاد رأوا أن رحلتي إلى الهند خير

لمشروعنا؛ لأن إشهاره في مثل ذلك المؤتمر العظيم فقروا في جلسة رسمية إجازتي

وإعانتي على ذلك.

اقترح الشيخ رحمه الله تعالى عليّ أن أسافر بإجازة من عميد الدولة الإنكليزية

هنا، وأرسل إليّ خطبة حاكم الهند العام، الذي ذكر ندوة العلماء بخير لأتوسل بها

إلى هذه الإجازة، فكان هذا من بعد نظره وغور فهمه للسياسة، وكان مراده أن

تكون هذه الإجازة كتابية فلم يتيسر ذلك، فلقي الشيخ من إنكار والي لكهنؤ عليه

دعوتي إلى رياسة مؤتمر الندوة ما لقي، وأمكنه إرضاؤه بما كان أعده لذلك من

الحجج، ومنها ما كتبه لورد كرومر في تأبين شيخنا الأستاذ الإمام من مدح حزبه،

وخطبة للدكتور مرجليوث الأستاذ الشهير في مدرسة أكسفورد ذكر فيها رأي

صاحب المنار في الجامعة الإسلامية بكلام مرضي، وثناء حسن.

ونحمد الله أن حقق ظن الشيخ رئيس الندوة، وأعضائها الكرام فينا، إذ كان

الإقبال على المؤتمر في ذلك العام مما لم يسبق له نظير من قبل، ورحم الله الشيخ

شبليًّا، وأحسن عزاء المسلمين عنه.

_________

(1)

يحتمل أن تكون الكلمة (حلسا) بالحاء المهملة المكسورة إذ يقال: فلان حلس بيته، أي

ملازمه، وأصل الحلس ما يفرش تحت سرح الدابة، أو رجل البعير وعلى الأرض في البيت، وقد يفرش غيره فوقه.

(2)

هكذا يكتب الهنود اسم هذه الإيالة، والمشهور عندنا ما كان يكتب في مصنفات السيد حسن صديق خان وهو هكذا " بهوبال ".

(3)

كذا في الأصل، ومهما أتقن علماء الأعاجم العربية؛ فإنهم يظلون يغلطون في تعريف الأعلام وتنكيرها.

(4)

لقصر مدة إقامة الأميرة بمصر لم يتيسر لنا اختيار معلمة يمكن أن تراها وتختبرها، ثم لم يتيسر ذلك بعد سفرها أيضًا، وقد عرضنا ذلك على الآنسة نبوية موسى فطلبت أن يكون راتبها الشهري مائة جنيه مع شروط أخرى، وإنه ليوجد في الهند معلمات إنكليزيات لا يزيد راتب إحداهن عن بضعة جنيهات.

(5)

يعنون بكلمة صدر ما نعبر نحن عنه بكلمة رئيس، وبهذا المعنى يستعملونها في لغتهم الأوردية.

ص: 233

الكاتب: صالح مخلص رضا

‌تقريظ المطبوعات الجديدة [*]

(خواطر في القضاء والاقتصاد والاجتماع)

بقلم فقيدِ العلم والعمل والجد المرحوم علي أبي الفتوح باشا وكيل نظارة

المعارف العمومية المصرية، طبعه بإذن المؤلف نجيب أفندي متري صاحب

مطبعة المعارف بمصر في سنة 1331هـ - 1913م على ورق جيد طبعًا نظيفًا

فجاءت صفحاته 360.

الكتاب مجموعة مقالات كانت متفرقة في الجرائد والمجلات العربية وغير

العربية، فجمعت في حياة كاتبها، ومر عليها فأصلح فيها ما أراد، وزاد في بيان

المراد، وهو يطلب من ناشره، ومن مكتبة المنار بمصر.

جملة مسائل الكتاب مما اشتغل به مؤلفه علمًا وعملاً، فجاءت وافية واضحة

مفيدة، ونحن ننقل طائفة عنه من مقالة (الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية)

قال:

(يظن كثير من الناس حتى من المسلمين أنفسهم أن المبادئ المقررة في

الشريعة الغراء لا توافق هذا الزمان الذي بلغ فيه الإنسان من المدنية والحضارة

درجة رفيعة، ويتوهمون أن الأحكام والروابط التي في القوانين الحديثة الوضعية لا

مقابل لها في الأصول الإسلامية، وأنها بمثابة الاختراعات المادية الجديدة التي

أنتجها فكر علماء الغرب لم يسبقهم بها أحد.

ولكن الباحث في الفقه الإسلامي ولو قليلاً، لا يلبث أن يغير هذا الظن،

ويتحقق من أن أسلافنا بلغوا في الرفاهة وتقرير المبادئ العمرانية والاجتماعية

والقضائية شأوًا قلما يجاريهم فيه أحد، إلا أن صعوبة كتب المتأخرين، وكيفية

تأليفها، والتواء أساليبها، وتعقيد عباراتها، قد أوصد الباب في وجه من يريد

الوقوف على حقيقة الشريعة الغراء من غير المنقطعين لدراستها.

ولذلك فإني أشير على من يسلك هذا الطريق أن يقصد المؤلفات القديمة

لأنها أسهل موردًا، وأغزر مادة مع خلوها من التعقيد، وتنزهها عن المشاغبات

اللفظية، وليترك هذه الكتب الحديثة للمنقطعين لفهمها بدون ملل، ولا حساب

للوقت.

أذكر هذا على إثر مطالعتي لكتاب الخراج للإمام أبي يوسف المتوفى سنة

182 هجرية، وقد أُلف هذا السفر الجليل برسم أمير المؤمين هارون الرشيد وفيه

من النصائح والأحكام ما يجدر بأمراء المسلمين اتباعه والعمل به.

عثرت في هذا المؤلف الصغير الحجم على درر كثيرة عمدت إلى نظمها

في هذه المقالة، حتى يرى المسلمون ولا سيما المشتغلين منهم بالقوانين الإفرنكية

أن المتقدم لم يترك شيئًا للمتأخر، ولعلهم ينكبون على دراسة الشريعة والآداب

الإسلامية؛ لأنهما لا ينافيان العصر الحاضر، ولا المدنية الحديثة؛ إذا فهما حق

الفهم ودُرسا بعقل وتمييز.

وما أجدر الحكومات الإسلامية باستنباط قوانينها وأحكامها من الشريعة مع

اختيار القول الأكثر مناسبة للزمان والمكان؛ لتكون هذه القوانين والأحكام أكبر

احترامًا في النفوس، وأشد موافقة لأخلاق وعادات من وضعت لهم.

ثم أتى بوجوه قانونية وبنود وافقت فيها القوانينُ الوضعية الفقه الإسلامي.

***

(كتاب الأنساب للسمعاني)

تأليف أبي سعيد عبد الكريم السمعاني، نقله الأستاذ مرغوليوث أستاذ العربية

في جامعة أكسفرد بالفوتغرافية عن نسخة محفوظة في المتحف البريطاني، وطُبع

سنة 1912 على ورق من أجود الورق على نفقة (تذكار جب) وصفحاته تزيد

على 1600 صفحة بالقطع الكبير.

وضع السمعاني كتابه هذا في القرن السادس الهجري، فكان عمدة المؤرخين

والمحدثين، وقد ذكر في مقدمته فضل علم الأنساب، وجاء بالآيات والأحاديث في

ذلك، وعقد فصلاً للحث على هذا العلم، وقد زاد الأستاذ مرغوليوث هذا المعنى

إيضاحًا إذ وضع للكتاب مقدمة وجيزة باللغة الإنكليزية بَيَّنَ فيها المراد بعلم

الأنساب، واشتهار بعض الأعلام من المحدثين بأنسابهم كالبخاري والترمذي

والنسائي مما دعا إلى تعريف الرجال بأنسابهم.

وقد ساعد المستر ألسن الأستاذ مرغوليوث، فوضع في هوامش الكتاب دوائر

صغيرة قبالة كل سطر، تبتدئ فيه ترجمة أحد المترجمين فأفاد، ولولا ذلك لما

أغنى كتابة أكثر الأسماء المترجمة بخط ثخين؛ لأن ذلك لم يلتزم في جميع

صفحات الكتاب، إذا لم يكن من نسخ ناسخ واحد، بل يظهر أنه تعاقب عليه عدة

نساخ، وخطه دقيق ملزوز بعضه إلى بعض، وينقص بعض كلمه النقط فنتمنى لو

يطبع ثانية بالحروف المطبعية بعد مقابلة هذه النسخة بغيرها من النسخ الواضحة

الصحيحة كالنسخة التي رآها صاحب المنار في لكنهؤ بالهند فتعم فائدته، فنحن

أحوج إلى هذا الكتاب ممن تولوا طبعه، وأحق بإحياء مآثر أسلافنا، وإننا نشكر

للأستاذ مرغوليوث هذه الهدية النفيسة كما نشكر لجمعية (تذكارجب) إحياءها هذا

الكتاب، وغيره من آثار العرب.

***

(شرح السيرة النبوية رواية ابن هشام)

طبع هذا الكتاب بمطبعة هندية بمصر سنة 1329، وكتب في طرته ما تقدم،

وأنه مطبوع بإرادة (إمبراطور ألمانيا وملك بروسية وملك ورتمبرج) تأليف

الشيخِ الإمامِ الحافظ المحدث الفقيه أبي ذر محمد بن مسعود الخشني، استخرجه

وصححه بولس برونله، وأبو ذر هذا اسمه مصعب بن محمد كما في القاموس،

وهو من علماء الأندلس أخذ عنه الشريشي شارح مقامات الحريري، وكتابه هذا

أمالي أملاها في شرح غريب السيرة، وجعله عشرين جزءًا، وكان ينبغي أن

تسمى فصولاً، لا أجزاء، وقد طبع طبعًا جيدًا في جزأين من قطع أصغر من

المنار، وجعلت أرقام صفحاتها متصلة فيحسن أن يجعل مجلدًا واحدًا فيكون مؤلفًا

من 466 ص، وثمن الكتاب عشرة قروش، ويطلب من مكتبة ديمر بمصر.

***

(رجال المعلقات العشر)

تأليف الشيخ مصطفى الغلاييني، أستاذ اللغة العربية في مدرستي المكتب

السلطاني، والكلية العثمانية في بيروت، وطبع بالمطبعة الأهلية في بيروت سنة

1330 على ورق جيد طبعا نظيفًا، وصفحاته 360 بالقطع المتوسط، وثمنه 12

قرشًا، ويطلب من مكتبة المنار بمصر.

الكتاب مصدر بمقدمتين، أولاهما: في خلاصة تاريخ العرب قبل الإسلام

والثانية في خلاصة تاريخ أدب اللغة العربية في العصر الجاهلي إلى اليوم،

وصفحات المقدمة الأولى 16 صفحة، والثانية 30 صفحة، ثم الكلام على رجال

المعلقات بالتفصيل، ويتضمن سيرة الشاعر وموته والكلام على شعره ومعلقته

وسبب نظمها ونخبة من شعره، وقد ضمنت من الفوائد اللغوية والتاريخية والأدبية

ما لا يوجد في غيره، وقد جعله لتلاميذ السنة الرابعة والخامسة في المكاتب

السلطانية، والسادسة والسابعة في المكاتب الإعدادية، أو ما يضاهي هذه السنين في

المدارس الأهلية.

***

(الحنين إلى الأوطان)

نشرنا نبذة منه في هذا الجزء وسنقرظه فيما يليه إن شاء الله.

_________

(*) كتب تقاريظ هذا الجزء شقيقنا السيد صالح مخلص رضا، وقد تأخر نشره على أنه هو قد قصر فيما عُهد إليه من كتابة التقاريظ حتى اجتمع لدينا كتب كثيرة من مطبوعات السنين الأخيرة.

ص: 238

الكاتب: أحمد كمال

اللغة العربية أقدم اللغات الشرقية

وأم المدنية المصرية والبابلية

كنا نستدل على عراقة العرب في المدنية بما روى لنا التاريخ القديم من

استعمارهم لمصر في عهد دولة الرعاة (الهكسوس) وغيرهم، واستعمارهم قبل

ذلك للعراقين، وما كان لنا في ذلك إلا علم إجمالي، ثم جاءنا علماء العاديات

(الآثار القديمة) بالاكتشافات والتحقيقات التي خرجنا بها من حيز العلم الإجمالي إلى

حيز العلم التفصيلي، وكان أعظم ما اكتشفوه في حفائر العراق شريعة حمورابي

(ملكي صادق) الموصوف في العهدين القديم والجديد بأنه ملك البر، وملك السلام،

وكاهن الله العلي، ومن أخبار سفر التكوين أنه بارك على إبراهيم - عليه الصلاة

والسلام - وعلى آله، وأن إبراهيم أعطاه العشور، وقد بين هؤلاء العلماء أن

شريعة حمورابي كانت عربية، وهي أقدم شريعة من الشرائع التي عرفها التاريخ،

وقد زعم بعض علماء الألمان أن التوارة مقتبسة منها (راجع المجلد السادس من

المنار) .

وقد نشرنا في المجلد الخامس عشر (سنة 1330) خطابًا طويلاً في اللغة

العربية لجبر أفندي ضومط أستاذ العلوم العربية في القسم العالي من المدرسة الكلية

الأمريكانية ببيروت ألقاه في الاحتفال السنوي لسنة 1911، ثم أتحفنا به،

وموضوعه (بحث تاريخي فلسفي في مواطن العربية المضرية، ونسبتها إلى

أخواتها من اللغات السامة) ، ومما جاء فيه أن العلّامة رونسن المؤرخ الأثري

يُرَجِّح أن المدنية المصرية القديمة لم يكن منبتها مصر، بل جاءتها من العراق،

وبلاد العرب (المنار ص 116 م 15) ، وأن الباحثين اتفقوا على أن لغة

الآشوريين، وقدماء البابليين واحدة، وأن الآثار البابلية تثبت أن الناطقين باللغة

السامية هنالك لم يكونوا من أهل البلاد الأصليين، وإنما جاءوها من مكان آخر،

وتغلبوا على أهلها الذين كان لهم مدنية عظيمة إذ كانوا غزاة فاتحين، ثم ترجموا

الكثير من آداب أهل البلاد بلغتهم السامية، والظاهر أنهم كانوا من جزيرة العرب

(المنار ص 117 م 15) .

ثم بَيَّن أن اللغة العربية هي أم اللغات السامية وسيدتها، وأن أرومتها الأولى

كانت في اليمن، وحضرموت، وعمان، وأنه انشعب منها فرع إلى بلاد بابل

بالعراق فانقسم إلى شعبتين بدوية وحضرية، وأن بعض العمالقة والعاديين من

قدماء العرب هاجروا إلى سورية - بعضهم هاجر من العراق لَمَّا اضطهدهم النماردة،

وبعضهم هاجر من جزيرة العرب بقصد التجارة والاستعمار - كما هاجر غيرهم

من إخوانهم إلى شطوط أفريقية فكان منهم الأمهرية والحبشة - (قال جبر أفندي

ضومط) ومن هؤلاء المهاجرين كان العِبْرَانيون، وأمم الشام من الكنعانيين

والفينيقيين، وعليه تكون العِبْرَانية، والفينيقية، والعربية (أي المضرية) شعبتين

من الفرع العادي، والحمرية، والحبشية من الفرع القحطاني (المنار ص 199م

15) .

أقول: فعلى ما تقدم يكون كل من مدنية العراق وسورية ومصر عربي الأصل ثم تولد من ذلك الأصل فروع استقلت واختلفت باختلاف الدول والملل،

حتى جاءالإسلام فأرجع تلك الفروع كلها - ما قرب منها عن أصله وما بعد -

إلى الفرع المضري، فكأنه عمد إلى أفراد عشيرة كانوا متفرقين متباعدين يحسب

كل منهم أنه أجنبي عن الآخر فجمع بينهم، فعادوا إلى الوشيج الجامع فكانوا أسرة واحدة.

لكن علامة الآثار، والعاديات المصرية، وإمام اللغة الهيروغليفية في مصرنا

الآن أحمد بك كمال أمين دار الآثار المصرية أظهر لنا من الاتحاد بين اللغة العربية

واللغة المصرية القديمة ما لم يكن في الحسبان، فقد ألف قاموسًا كبيرًا أورد فيه

ألوفًا من الكلمات الهيروغليفية الموافقة للغة المضرية في الغالب - إما موافقة تامة

وإما موافقة بضرب من التحريف، أو القلب، والإبدال المعهود مثله في اللغتين،

ومن المعلوم أن المدنية العربية القديمة كانت في العاديين والقحطانيين سكان

حضرموت، واليمن، وهم الذين استعمروا مصر، والعراق، وسورية، وقد ضاع

أكثر لغتهم، ولعلها لو دونت كاللغة المضرية لفسرت لنا من اللغة المصرية القديمة

ما لم يُفَسَّر إلى اليوم، حتى فيما نراه يخالف منها المضرية بتحريف، أو قلب، أو

إبدال.

وكان المشهور عن أحمد بك كمال أنه يرى أن العربية أصل للغة المصرية

القديمة المدونة بالقلم الهيروغليفي، ومن لوازم هذا أن أصحاب تلك المدنية كانوا

من العرب، ثم إنه رأى نصًّا يدل ظاهره على أن العرب أنفسهم، أو بعضهم من

المصريين، فأخذ بظاهره حملاً له على الصدق، وبنى عليه محاضرة ألقاها في

مدرسة المعلمين الناصرية في العام الماضي، وذلك النص ما وجد منقوشًا في الدير

البحري (مكان بجهة الأقصر) في زمن الدولة الثامنة عشرة (كان زمنها من سنة

1600-

1380ق م) ، وهي أرقى دول مصر، وفيه أن المصريين الأولين

اشتهروا باسم الأعناء، ولم يبين النص أصلهم، ولا من أين جاءوا، ولكنهم

استعمروا الجهة الجنوبية من مصر، وأسسوا المدن بأسمائهم وفيه أن بعضهم هاجر

إلى القيروان، وتونس والجزائر، وبعضهم إلى أواسط أفريقية، والصومال،

وبعضهم قطع البحر الأحمر إلى بلاد العرب، وانتشر فيها، وسار من هناك إلى

جنوب فلسطين، وأُطلق على كل عنو من أولئك الأعناء المهاجرين اسم مُرَكّب

تركيبًا إضافيًّا، فصار يقال أعناء كذا، وأعناء كذا

ولفظ (أعناء) عربي معناه

الأخلاط من الناس يكونون من قبائل شتى.

أما نحن فنرى أن ذلك النص ربما كان عن عقيدة تقليدية وهمية بأن مصر

الموطن الأول للبشر، والأصل الذي تفرعت منه الشعوب والأمم، ويُنْقَل مثل هذا

عن قدماء الهنود والصينيين، فهذه تقاليد متعارضة ليس لنا عليها دليل عقلي، ولا

نقلي للترجيح بينها، فنجري فيها على قاعدة تعارضت فتساقطت، على أن أولئك

الأعناء المجهول أصلهم يجوز أن يكونوا من العرب، وأن يكون من هاجر إلى

جزيرة العرب منهم عاد إلى بلاده، وبهذا يجمع بين هذا القول، وقول العلامة

رونسن الذي رجح كون المدنية المصرية الأولى قد جاءت من بلاد العرب والعراق،

والأمر المتيقن عندنا الآن هو أن لغتنا العربية الشريفة هي لغة قدماء المصريين

ومظهر مدنيتهم، ونتيجته أن قدماء المصريين من العرب، أو العرب منهم، فهم

أمة واحدة، وكذلك السوريون والعراقيون كما تقدم.

وقد رغبنا إلى أحمد كمال بك أن يتحفنا بفصول ملخصة من قاموسه الذي

أشرنا إليه، فتفضل بالإجابة وجعل الفصل الأول في بعض الحبوب والنبات وهذا

نصه.

مقارنة بين اللغة المصرية القديمة

واللغة العربية [*]

(1)

(في بعض الحبوب والنبات والأشجار والأثمار المصرية)

وفيه استطراد إلى كلمات أخرى

بُر: البر القمح الواحدة بُرّة.

قمح: هو اسم عندهم للقمح والخبز، ويميز بينهما برسم النبت عند نهاية

الكلمة في الأول، والخبز في الثاني [1] .

وجد الكثير منه في المقابر المصرية، فحفظ بالمتاحف، واختبرت حبوبه في

الزراعة فلم ينجح، وقد اختبر الكيماويون بعض هذه الحبوب، فوجدوها مدهونة

بطلاء حافظ لها على مرور الدهر، ووجد (شُوَينْفُورْت) قمحًا أصغر في الحجم من

قمحنا المعروف، وهو يشبه القمح البحري، وكان يُستعمل في الطب والغذاء.

حِنت: حنطة هي البر- ج حنط.

(بُد) بض بياض: وكلمة البيضاء تطلق في العربية على القمح.

فُمو: الفوم هو الحنطة، وقد ذكر في القرآن الكريم.

جل: (والجيم تقلب غينا) غلة - ج غلال.

شِرت ق سِريْت: سُلت - هو الشعير أو ضرب منه، والشين تقلب سينًا

بالمصرية فيقولون شلم بمعني سلّم، واللام تقلب راء، وبالعكس.

الشعير عندهم صنفان أبيض وأحمر، ويصنع منه الخبز والجعة، ومن خبزه

ما هو محفوظ في المتحف المصري بالقاهرة، ووجدت حبوبه في مقبرة كاهون

بالفيوم من عصر العائلة الثانية عشرة؛ لكن حبه أصغر من شعيرنا الآن وكانوا

يتخذون من سوقه مزامير.

تُرا: ذُرة.

بُول: فول - لأن الباء تقلب فاء، كفيوم أصلها بيوم أي اليمّ، وكفأى أصله

عندهم بأى.

قال هيرودوت في كتابه الثاني: إن المصريين لم يزرعوا الفول في أرضهم،

فإذا خرج فيها لم يأكلوه لا نيئًا، ولا ناضجًا، وإن قسوسهم لا يستطيعون النظر

إليه؛ لأنهم يرون أنه نجس، ومع ذلك فقد ورد عنهم أنهم كانوا يجففونه،

ويحفظونه بدليل قولهم (فول هاف) أي جاف، لأن فاء الكلمة مقلوبة عن الجيم،

فلا بد وأن يكون قول هيرودوت هذا غير صحيح، إذ الفول كان ولا يزال من

الأغذية المصرية إلى هذا اليوم.

عرشان ق. أرشان: بُلسُن واحدته بلسنة. بُلَس. بُلُس:عدس.

كمنن: كمون.

سَنُّوَت سنوت وهو الشمار أو الكمون.

رمان حرمان، إرما - الرّمان. ق. أرمان.ع ريمون، وبالبربرية - أرمون.

شجر دخل مصر في عصر العائلة الثامنة عشرة وقت انتشاب الحرب

العظيمة مع أهل آسيا في عهد الملك أحمس وقد وجد مع اسمه مرسومًا في صورة

البستان التي زين بها (آنا) جدر حجرة قبره بطيبة، وهو الذي توفي أيام

(تحوتمس) الأول الذي كان أول فرعون تجول في بلاد الشام، وأخضعها لحكمه،

وعليه ربما كان هذا الملك أول من جلب لبلاده هذا الشجر فغرس في البساتين،

وهذا لا ينافي معرفة المصريين لاسمه من قبل، وما وجد في المقابر منه أصغر

حجمًا من نوعه المعروف الآن فهو شبيه برمان طور سيناء، وكان يُستعمل قشره

لقتل الدود، واستعمله القبط للحكة، وصنع منه المصريون شرابًا في عصر

الرمسيسيين.

دُبَح: دبحو، ضبحي: تفاح - ق. جبح.

وهو الشجر المعروف بحسن فاكهته، ويكثر اسمه في القرابين التي يذكر فيها

الرمان والزيتون والتين، وتدل النصوص على أن وجوده في أرض مصر كان في

عصر العائلة التاسعة عشرة.

نُزا لوز: وكذا في العبرية والحبشية ونونها تقلب لامًا، كما في نقب ولقب

فالأول مصري، والثاني عربي.

بَنرى: لا يزال يعرف في بعض الجهات بالبنور وصحته بَرْني اسم للنخلة

وللتمر، ويقال تمر بَرْني ولا تكاد الإضافة تكون في البرني لأن البرني هو التمر وقد

ذكر في قول الشاعر:

باتوا يعشون القُطَيعاء ضيفهم [2]

وعندهم البرني في جُلَل دُسم

أمَم: عَم عِم ج عمومة، أعُم، أعمام، أعمة - نخل طوال. والألف تنوب

عن العين في كثير من الكلمات.

عَوَنَت عوانة: نخلة طويلة

حُن حُون أهان ج أهنة وأهُن: عرجون التمر ما فوق الشماريخ، والهناء عذق

النخل (فالهاء فيهما بدل من الحاء لقرب مخرجيهما) .

طمأروي جمار النخل - الجيم والطاء يتناوبان في المصرية كقولهم: طُرًّا بمعنى

كُلاًّ، وهاتان الكلمتان مصريتان عربيتان.

سر: سلاء ج سلاءة، وأسل الواحدة أسلة: شوك النخل (الراء بدل اللام) ق

سوره سوري.

زدوتو الزيتون ق جويث جيت. ع. زيت.

زِت: زيت وكان يستعمل للإضاءة خصوصًا في المعابد.

وجد الكثير من أكاليل الزيتون على رءوس الموتى التي لا يتجاوز تاريخها

العائلة المتممة للعشرين، وعليه يظن أن الزيتون لم يغرس في ديار مصر قبل

العائلة الثامنة عشرة؛ لكن وجد مذكورًا في نصوص هرم الملك (تبتي) فهو

معروف من عهد بناء الأهرام أو قبل ذلك.

كرَمَا: كنم: كرم ج كُرُوم، وبالعبرية كرم

كامو: كرّام - صاحب الكرم والمعتني به، وأصله كارمو فسقطت منه عين

الكلمة لأن الراء والنون واللام تسقط في كثير من الكلمات.

ق جمي جمه

كارٌج كاريو: أكارج أكرة وأكارون أي حرّاث من أكر الأرض أكرًا وأكره

حفرها، وجاء في المصرية والعربية أيضًا:

مَنَ: مان الأرض شقها للزراعة، والاسم منه.

مَنِ: أُمان: مزارع ويقال أيضًا:

سق: شق الأرض، أي فلحها، والسكة الحرث. ق إسكاي. إسخاي.

باث: باث (المكان) يبوثه بوثًا حفره

باي: فأى فأوًا وفأيًا: فلق (والباء تنوب عن الفاء نحو بدح وفدح بمعنى

ضرب)

قَنَّا. كَنَّا: قناة ج قنا، وهو الرمح وصاحبه قناء بالشديد، عود القنا قصب

الذريرة.

ويقال له باليونانية (كانا) وبالعبرية (قناح) ويذكر في التذاكر الطبية مع

أنه لا ينبت بديار مصر، ولو اعتمدنا على أنه هو المذكور في النصوص المصرية

بقصب فنيقيا لساغ لنا أن نقول إنه كان يستحضر من آسيا في عهد الفراعنة، وقد

أطلق عليه العرب والعبريون والمصريون القدماء اسم قنا.

نزا: اللوز في العربية والحبشية.

سير: زير، أي كتان، وفي القبطية: سال. سول وله أسماء أخرى.

وهذا النوع المسمى بالنباتية (لينوم هيميله) وجدت بذوره في مقابر العائلة

الثانية عشرة ، والعائلة المتممة للعشرين، ويذكر كثيرًا في تذاكر الطب، واتخذوا

منه الغزل والنسيج والثياب

إلخ.

سشن: سَوْسَن وسُوسَن وسوسان - نبات طيب الرائحة الواحدة سوسنة،

والجمع سواسن. ق. شوشن. واللاطيني: سوزينوم. ومنه اسم العلم سوزان،

وبالبربرية سوشانه، وهو اللوطس الأبيض المعروف عند المصريين القدماء، ولا

يزال ينبت في المستنقعات وعلى شواطئ القنوات إلى يومنا هذا.

عَنَبُو: عنب بالعربية والعبرية.

حرر: حلل ق حِليلي حِريرة حِريري: حَنُون نَور كل شجرة ونبت وقد حنن

الشجر والعنب إذا نور (لأن النون عندهم تنوب عن الراء) .

وكذلك يقال عندنا في اللغة العامية المصرية الآن وفي المصرية القديمة نقب

بدل لقب بالعربية الفصيحة، وفي المصرية تفن يقابلها في العربية تفل، أي بصق

والقلب وإلإبدال لهما أصول في هاتين اللغتين يقتضي مراعاتها لتظهر المقابلة

ومنها:

حلل: هلل يهلل تهليلاً، وقد جاء في نقش بمدينة (أبو) الواقعة في الجهة

الغربية من لوقصر ما نصه (وكان المحاربون مثل السبع يهللون في بُهرة

الأصواء [3](أي وسط الجبال) هذه العبارة نُقلت بنصها ليعلم وجه الشبه بين

اللغتين، ويقال في المصرية والعربية إِبهارّ النهار أو الليل أي انتصف، وبَهَرَ:

فاق، وبهار: صنم.

حَرٌّ: حر حية دقيقة مثل الجان أو ولد الحية كما في القاموس.

بدّ كا: بطيخ.

دبا: طبار - أكبر التين [4] بسقوط الراء وتقدم مثله في كلمة كاموا.

تون: تين.

وجد كثير من التين في المقابر القديمة العهد، وحفظ بالمتاحف، ولا يزال

يرى مرسومًا فوق موائدهم مع العنب والقثاء والرمان.

كونت جنة: تين قال بعض المفسرين في تفسير: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ

الجَنَّةِ} (الأعراف: 22) أي ورق التين.

أكنت: جنة ج جنات.

أس: أسو آس نبات معروف، قال أبو حنيفة الدينوري ينبت بأرض العرب

وبالسهل والجبل وخضرته دائمة. وهو نبت مصري ترى أغصانه في أيدي

الراقصات المرسومة على جدران المقابر، ووجد من آثاره شيء في قبور تل بسطة بالزقازيق وفي مقابر هوارة بالفيوم وقد حفظ في متحف الليد شيء منه.

أس بوللي آس بري

بصر: بصل (الراء تنوب كثيرًا عن اللام ومنه رأرأ، ويقابلها في العربية

رأرأ ولألأ بمعنى لمع) .

بصر: بصل (الراء تنوب كثيرًا عن اللام ومنه رأرأ، ويقابلها في العربية

أسل أسلة: الأثل شجر ذُكِرَ في القرآن، واحده أثلة ج أثلاث وأثول، وهو نوع

من الطرفاء والثمر ويقال له بالقبطية: اسي واسه.

أعلمنا هيرودوت وبليني أن الأثل كان ينبت في مصر ووجد منه (أنجر)

بقايا في طوبة عثر عليها في قرية الكاب بصعيد مصر، ووجد شوينفورت فروعًا

منه في تابوت من العائلة المتممة للعشرين، وكثيرًا ما تذكر النصوص هذه الشجرة

لأنها كانت مقدسة عندهم.

كَمتَى: كمأة.

زلم: الزَّلم: وهو حب العزيز.

بسباس بسباسة، وهي الشمار.

بكاء بَكاء قال أبو العباس النباتي هو شجر معروف عن العرب بمكة شبيه

بالبيسام.

يسر: إيصار أَيْصَر حشيش، وبالحبشية أثر

شنث: سنط صنط شنيز شنظ ق شنت شنته: شجر مصري قديم يذكر في

نصوص الأهرام.

وجد من زهره أكاليل على مدينة الملك أحمس الأول، وأمنوفيس الأول،

كلاهما من العائلة الثامنة عشرة، وكانت تصنع من خشبه السفن والتوابيت والتماثيل

وأثاث البيوت

إلخ

...

...

...

...

أحمد كمال

...

...

...

الأمين بالمتحف الوطني

...

(للمقارنة بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) راجع ما ذكرناه عن اللغة المصرية في المقتطف المطبوع في مارس سنة 1914، وفي تقويم الشرق للدكتور هنري مدور المطبوع سنة 1315، وذلك في صحيفة 350 إلى 358، وقد رمزنا هنا بحرف (ع) للعبرية، وحرف (ق) للقبطية.

(1)

اصطلح أهل اللغة المصرية القديمة على أن يرسموا في آخر كل كلمة الصورة الدالة على معناها أو المؤيدة له.

(2)

المنار: رواية لسان العرب: (جارهم) بدل ضيفهم، والقطيعاء نوع من التمر يظهر من مقابلته بالبرني الذي هو أجود التمر أنه رديء، وقيل هو البُسر قبل أن يدرك، والجُلل ج جلة - كقلة وقلل وهي قفة التمر، ودسم ج أدسم ودسماء صفة لها، ولعله باعتبار تمرها.

(3)

المنار: الأصواء جمع صوى بالضم، وصوى جع صوة (كقوة وقوى) والصوة ما غلظ وارتفع من الأرض فلم يبلغ أن يكون جبلاً، فيظهر أن المصريين أطلقوه على الجبال، أو على غير الشامخ منها، على أن رسم الشامخ وغيره متشابه، والرسم هو المفسر للغة في كتابتهم، وللصوة أيضًا الأعلام التي يهتدي بها المسافرون وجماعة السباع.

(4)

في القاموس أن الطبار (بوزن الرمان) شجر يشبه التين.

ص: 241

الكاتب: محمد توفيق صدقي

مدرسة دار الدعوة والإرشاد

دروس سنن الكائنات

محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صدقي

(6)

(4)

اللحم:

يؤخذ هذا الصنف من الطعام من الأنعام، والطيور، والحيوانات البحرية،

والمعتاد أكله من الحيوانات البرية هي التي لا تأكل اللحم لحكمة ستظهر في الكلام

على الديدان المعوية فيما يأتي إن شاء الله.

واللحم نوعان: اللحم الأبيض، واللحم الأحمر، فمثال الأول لحم الأرانب،

ومثال الثاني لحم الضأن، والأبيض أسهل هضمًا من الأحمر؛ ولكن الأحمر أكثر

تغذية لاشتماله على جزء من مادة الهيموجلوبين فتكثر الدم، واللحم يشتمل على

جميع الأجزاء الضرورية للجسم تقريبًا، ففيه الماء، والزلال ونحوه من المواد

الآزوتية كالجلاتين، والزنثين (xanthin)[1] ، وغيرهما، وفيه أيضًا الدهن

والمواد الكربوهيدراتية: الجليكوجين، وسكر العنب، والإينوسيت Inosite [2]

وفيه أيضًا أملاح عديدة منها فسفات البوتاسيوم، وملح الطعام، وغيرها، وكل هذه

المواد تختلف مقاديرها باختلاف الحيوانات المتنوعة، وهي توجد بكثرة عظيمة في

لحم الدجاج، فهو أكثرها تغذية، وفي اللحم أيضًا حامض الساركولكتيك

(Sarcolactic [3] إذا كان جديدًا فلذا ينفع في الإسكربوط، ويوجد في الخنزير

الشحم بكثرة تفوق سائر أنواع اللحوم الأخرى، فلذا كان أعسر اللحوم هضمًا؛ لأن

الشحم فيه يحيط بأليافه العضلية؛ فيحول دون وصول العصارات الهاضمة إليها

فيتعب المعدة والأمعاء، وقد يحدث منه القيء أو الإسهال، وربما هيأ الزائدة

الدودية للالتهاب؛ ولذلك تكثر إصابتها به في بلاد الإفرنج؛ فإن فساد الهضم من

أسباب هذا المرض.

وكثيرًا ما تكون الحيوانات مصابة بأمراض متعددة مثل الدرن [4] ، والجمرة

الخبيثة، وأنواع كثيرة من الديدان سنذكرها تفصيلاً فيما يأتي، فلذا يجب أن يكون

الحيوان المأكول سليمًا من كل مرض، ويجب أيضًا طبخ اللحم جيدًا حتى نقتل فيه

الميكروبات، وأكياس الديدان بقدر الإمكان ، وأضر ديدان تنشأ من أكل اللحوم هي

الديدان التي تنشأ من أكل الخنزير، وهذه حكمة أخرى في تحريمها، ولا يتوهمن

القارئ أن الطبخ يزيل جميع أضرار اللحوم المريضة، فإنه إذا قتلت الميكروبات

بسبب شدة الحرارة بقيت سمومها، وكلما اشتد الطبخ للتأكد من قتلها زاد تجمد

المواد الزلالية، وعَسُر هضمها، على أن الطبخ قد لا يقتل بعض ميكروبات الدرن

التي تكون في باطن اللحم؛ لأنه موصل رديء للحرارة.

أما لحوم الحيوانات البحرية فمن أسهل اللحوم هضمًا، وقد لوحظ أن الناس

الذين يأكلونها بكثرة أقوياء البينة أصحاء، إلا أنه قد يصاب بعضهم بالجذام فلذا

ظن بعض الأطباء أن الاقتصار على أكل السمك، أو الإكثار من أكل الفاسد المتعفن

منه كالفسيخ مما يهيئ الجسم لقبول هذه المرض الخبيث؛ ولكن ذلك لم يثبت إلى

الآن.

ومن أنواع الحيوانات البحرية، الحيوانات ذوات الأصداف كالبطلينوس،

وهي سهلة الهضم جدًّا، غير أن ميكروب الحمى التيفودية قد يوجد فيها.

ومن أنواعها أيضًا السرطان البحري ونحوه، وهي لكثرة أكلها المواد القذرة

تضر آكليها بذلك وبشدة عسر هضمها، وأجود أنواع السمك هو الذي يصطاد حيًّا

من المياه الجارية النظيفة، والسمك سريع الفساد، فلذا يجب أن لا يترك زمنًا

طويلاً بل يؤكل غضًّا غريضًا، ويعرف السمك الغريض (الطازة) بيبس لحمه،

وبانتصاب ذيله، والسمك الفاسد المتعفن هو من أضر المأكولات؛ فإنه يتولد فيه

من الفساد بعض مواد سمية آزوتية تسمى (Ptomaines)[5] ، وهي شديدة

الخطر حتى أن كثيرًا من الناس قُتلوا بسبب أكلهم السردين والفسيخ، ومن لم يمت

منهم قد يصاب بالدوار، والصداع، والإسهال، أو القيء، وغير ذلك.

أما البطارخ (وتسمى الصُّعْقُر وهي عبارة عن بيض السمك) فهي أقل فسادًا

من لحمه، وهي مغذية محرضة لشهوة الطعام، ويشترط أن لا يُكْثِر الإنسان من

أكلها في المرة الواحدة، وقيل إن أكلها يمسك البطن، ويمنع الإسهال.

والأسماك ذوات الحرشف هي غالبًا ألذ طعمًا، وأسهل هضمًا من التي لا

حرشف لها لكثرة دهنها، وقذارة المياه التي تعيش فيها، ولذلك حرمت التوارة أكل

ما ليس له حرشف (راجع سفر اللاويين 11: 9 - 12) ومن أسماك الأنهار ما

يكون سببًا في إصابة الإنسان بدودة شريطية كما سيأتي تفصيله.

ويقال إن أكل الأطعمة الحيوانية الفاسدة مدة طويلة يسبب الإسكربوط، وهو

رأي راجح جدًا الآن، وذلك مثل أكل القديد (البسطرما) .

(جدول تركيب أشهر اللحوم)

المواد

... الثور

العجل الخنزير الحصان الدجاج نوع من السمك

ماء

... 76.7

75.6 72.6

74.3

70.8

79.3

زلال وجلاتين 20.0

19.4 19.5

21.6

22.7

18.3

شحم

... 1.5

2.9 6.2

2.5

4.1

0.7

مواد كربوهيدراتية 0.6

0.8 0.6

0.6

1.3

0.9

أملاح

... 1.2

1.3

1.1

1.0

1.1

0.8

(5)

الأطعمة النباتية:

هذه الأطعمة منها ما يؤكل بلا طبخ كالجرجير، والفجل، وغيرهما، ومنها

ما يؤكل مطبوخًا كالبقول وغيرها، وهي في جملتها تشمل كثيرًا من الزلال،

والدهن، والمواد الكربوهيدراتية، والحوامض النباتية، وأملاح عديدة، وفيها مادة

يتعسر هضمها تسمى (السللولوز [6] ) ، وهي التي يتكون منها جدران خلاياها،

وأخشابها، وغير ذلك من أليافها.

أما زلالها فيوجد بكثرة في البقول كالقمح، والفول، والعدس، والحمص،

ويسمى الزلال الذي يستخرج من القمح باللاتينية - الجلوتين (مادة غروية) ، وهو

لا يوجد فيه بشكله المعروف، إلا بعد أن يضاف إليه الماء؛ فيتحد مع ما فيه من

المواد الزلالية، ويتولد هذا الصنف المخصوص من الزلال، وهو سهل الهضم،

ولذلك كان من الأغذية النافعة المفيدة.

وأما الدهن فهو يوجد بكثرة في بعض الثمار كالزيتون، واللوز، وغير ذلك

إلا أنه يقل وجوده في بعض البقول كالقمح مثلاً.

والزيوت نوعان: ثابتة، وطيارة، فالثابتة هي كالشحم في تركيبها،

ويحصل الإنسان عليها بعصر الحبوب بآلات مخصوصة، وسميت ثابتة لأنها لا

تتطاير.

أما الزيوت الطيارة فهي مركبة من الكربون، والهيدروجين، والأكسجين إلا

أن مقادير هذه العناصر، وأوضاعها مغايرة كل المغايرة لتركيب الزيوت الثابتة،

ومن أمثلة هذا الصنف من الزيوت زيت القرنفل، ونحوه من الزيوت العطرية

ونظرًا لكونها سهلة التطاير تُتحصل بالتقطير، فإذا غُلي الينسون مثلاً في ماء صعد

منه الزيت في بخاره، ويمكن الحصول عليه بالأنبيق، أما الماء الذي غلي فيه فلا

يبقى فيه من هذا الزيت إلا النادر جدًّا أو لا يبقى فيه شيء.

الزيوت الثابتة مغذية ملينة، وتحترق في الجسم فتولد فيه حرارة عظيمة جدًّا،

ولذلك يحسن أكلها في البلاد الباردة.

والزيوت الطيارة منعشة منبهة للأعضاء كلها؛ فتقوي الهضم، ودورة الدم

وتدر البول، وتنفث البلغم من الصدر، وتزيد في قوة الحركة الدودية للأمعاء؛

وبذلك تخرج أرياحها، وتزيل آلامها، وهي مطهرة أيضًا قاتلة للميكروبات؛

فتطهر الشُعب والأمعاء والبول.

أما الأملاح التي في النباتات فهي مقادير كبيرة من فسفات البوتاسيوم وفيها

أيضًا فسفات الحديد، وهو كثير الوجود في البقول خصوصًا في القمح، فيكثر دم

آكله، ويقل في الأطعمة النباتية ملح الطعام؛ فلذا يحتاج إليه النباتيون كثيرًا

فيأخذونه من الخارج، وفي الخضر والفواكه أملاح عضوية وحوامض مثل حامض

الطرطريك (الدرديك) وهو موجود بكثرة في الليمون والبرتقال (واليوسف أفندي)

والكريز وغير ذلك، وحامض التفاحيك موجود بكثرة في التفاح والكمثرى

(الإجاص) وحامض الأكساليك [7] ، يوجد في الحماض، والكرنب، والطماطم،

والراوند، وغير ذلك من الحوامض، وهي تتحول في الدم إلى كربونات قلوية فتدر

البول وتذيب حامض البوليك الذي ينشأ من احتراق المواد الزلالية احتراقًا ناقصًا؛

فينشأ منه النقرس (داء مخصوص في المفاصل) ، والحصوات الكلوية، والمثانية،

فهذه الحوامض النباتية تساعد على إزالة حامض البوليك الضار بالجسم.

والامتناع عن أكل الخضر زمنًا طويلاً يؤدي إلى ضعف بالجسم، وتقرح

باللثة، وحدوث أنزفة متعددة في أنسجة الجسم وخارجه، وهذه الأعراض كلها هي

المسماة (بداء الإسكربوط) ولا دواء له إلا الخُضَر، والأغذية غير المتعفنة.

ومما تقدم يُعْلَم أن الاقتصار على أكل اللحوم، وغيرها من المواد الحيوانية قد

يضر بالجسم، وخصوصًا إذا أكلها الإنسان ولم يروض جسمه بالحركات، أو

الأعمال البدنية المتعبة؛ فإن ذلك يقلل احتراق المواد الزلالية الاحتراق الواجب

الذي تتحول به إلى (بولينا) ليتيسر للكلى أن تخرجها من الجسم لسهولة ذوبانها،

بل يكون الاحتراق ناقصًا؛ فيتولد من المواد الزلالية حامض البوليك الذي يحدث

مرض النقرس والحصوات كما سبق، وهذا المرض كثير الحصول للمترفين بسبب

إسرافهم في المآكل الزلالية كاللحوم وغيرها، وإقلالهم من الحركات الجثمانية؛

ولذلك يسمى (داء الملوك) وللوقاية منه يجب القصد في أكل المواد الزلالية،

والمواظبة على الرياضة البدنية، والإكثار من أكل النباتات من خضر، وفواكه،

وغيرها حتى تذيب هذا الحامض الضار (أي حامض البوليك) ، وتخرجه من

الجسم.

وأكل المواد النباتية بلا طبخ قد تنشأ عنه أمراض كثيرة كالحمى التيفودية،

والدوسنطاريا، وبعض الديدان المعوية كالدود الخيطي الذي يوجد بكثرة في

المستقيم عند بعض الناس؛ والسبب في تلك الأمراض هو وجود بعض الميكروبات

وبويضات الديدان في الطين والماء الذي يسقى به الزرع؛ فتعلق هذه بالنباتات

وبذلك تصل إلى الإنسان إذا أكلها بدون تطهير؛ ولذلك يجب غسلها غسلاً جيدًا

متكررًا؛ فإن ذلك يزيل كثيرًا من مضارها؛ ولكن الأولى تطهيرها بالغلي لمن أراد

أن يصون نفسه صيانة تامة من هذه الأمراض، ويجب في زمن انتشار بعض الأوبئة

كالهيضة (الكوليرا) ، والحمى التيفودية أن تغلى جميع هذه المأكولات غليًا جيدًا،

أو يترك أكلها حتى ينتهي الوباء.

ولما كانت الحوامض كالليمون والخل قاتلة لبعض الميكروبات المرضية كان

وضعها على النباتات الخضراء كالخس مثلاً، أو الفجل هو من أحسن الوسائل التي

تقي الجسم شر هذه الميكروبات، أما تأثيرها في بويضات الديدان فهو غير وافٍ

بالغرض، والراجح أنها لا تقي الإنسان منها مطلقًا.

الكلام في الحبوب وأغذيتها وغير ذلك:

(أ) القمح: فيه نشاء كثير، وزلال، ودهن قليل جدًّا، والمادة المسماة

سللولوز، وأملاح أهمها فسفات الحديد - كما سبق - وماء، أما السللولوز فيوجد

أكثره في غلاف حبوب القمح، وهو الذي يُفصل بالطحن والنخل، ويسمى بالنخالة،

وأكلها يهيج حركة الأمعاء، ويُحْدِث لينًا؛ فلذا كان نافعا من هذه الوجهة.

الطبقة التي تلي غلاف القمح، تشتمل على الجزء الأعظم من الزلال،

ولونها أسمر، وأما باطن الحبة ففيه الجزء الأعظم من النشاء.

والخبز يُصنع بعجن الدقيق بالماء - كما هو معلوم - فيتحول زلال الدقيق إلى

المادة المسماة جلوتين، وإذا أريد الحصول عليها يُوضع العجين في قطعة من

الموصلي (الشاش) ، ثم يفرك عدة مرات في الماء؛ فيخرج النشاء الذي في

العجين من ثقوب الشاش، وتبقى مادة الجلوتين في داخل الشاش، وهذه يُصنع منها

خبز، أو فطير للمصابين بالبول السكري.

أما الخميرة: فهي مركبة من خلايا نباتية، وفائدتها إحداث الغول (الكحول)

وثاني أكسيد الفحم، وهو المقصود بالذات؛ لأنه يُحْدِث الفقاقيع في العجين؛

فيجعله إسفنجيًّا، وبذلك يسهل هضمه بعد خبزه، وبالخبز يزول ما في العجين من

الكحول والغاز وتقتل خلايا الخميرة.

(ب) الشعير: وتركيبه يقارب تركيب القمح، إلا أن زلاله لا يتكون منه

الجلوتين بإضافة الماء إليه؛ وإنما يبقى ذائبًا في الماء، ويُصنع من الشعير (ماء

الشعير) ، وهو مغذٍ قليلاً نافع للمرضى والأطفال، وإذا وُضِع على لبن الجاموس

أو البقر منع تجبنه في معد الأطفال تجبنًا كبيرًا، بل تتكون قطع جبنية صغيرة

متفرقة يسهل هضمها، ولا يصح إعطاء هذا اللبن للأطفال إلا إذا خُفف بماء

الشعير، وكيفية صناعة هذا الماء، أن يغلى 50 جرامًا من الشعير اللؤلؤي [8] في

750 جرامًا من الماء مدة 20 دقيقة، في إناء مغطى، ثم يصفى الماء، وهذا الماء

هو المسمى بماء الشعير.

(ج) القرطم (الشوفان) : وهو يشبه الشعير في زلاله، وفيه دهن كثير.

(د) الأرز: وفيه نشاء كثير، وزلال قليل جدًّا، ودهن أقل من الزلال،

وسللولوز أقل منها كلها، وملح قليل جدًّا، فكأنه لا يشتمل إلا على النشاء، وإذا

طبخ جيدًا كان سهل الهضم جدًّا بسبب قلة السللولوز فيه.

(هـ) الذرة: هي مثل القرطم في تركيبه بالنسبة لاشتمالها على دهن كثير

وزلال كزلاله، وتنقصها كذلك مادة الجلوتين اللزجة؛ فيتفتت خبزها، وينمو في

العتيق منها فطر مخصوص يفسدها، فإذا أكلها الناس فقد يحدث لهم المرض

المسمى (بالبللغرا) ، وهي كلمة يونانية وإيطالية أيضًا معناها " الجلد الوحشي "

(pellis جلد، و Agria وحشي) وقال بعضهم: إنه قد ينشأ حتى من أكل الذرة

السليمة إذا كان الشخص معدمًا رديء التغذية.

وظن آخرون سنة 1910 أن له ميكروبًا ينتقل ببعض أنواع الذباب (السَّكيت)

(Sandflies) ، وقيل إن سببه كسبب الإسكربوط، أعني أنه ينشأ من عدم

إعطاء الجسم حقه من المواد الضرورية لتغذيته، فالأسباب أحد ثلاثة:

(1)

إما الذرة الفاسدة.

(2)

وإما نقص بعض المواد الضرورية للجسم.

(3)

وإما ميكروب مخصوص ينتقل بلسع السَّكيت.

وهذا المرض كثير الانتشار في مصر، وأعراضه: آلام بالمعدة، وإسهال

متعاصٍ، وفساد في الهضم، وضعف في الجسم، وفقر في الدم وطفح يظهر كثيرًا

في الأيدي، والأقدام، والمرافق، والركب، والعنق، والصدر، ويسمى هذا

الطفح عند الفلاحين (بالقشف) ، ويكون الجلد فيه خشنًا متشققًا أسمر اللون أو

أسوده، ثم يتقشر ويضمر، ومن أضر أعراض هذا المرض ضعف يصيب

المجموع العصبي كله؛ فيصاب الإنسان بالضعف العقلي، والماليخوليا [9] (أي

جنون الكآبة والحزن) ، وأعراض أخرى من الجنون كالميل للانتحار، وهذا الداء

من أعظم أسباب الجنون في مصر - وكذلك شرب الحشيش -، وأعراضه تزول

في آخر الصيف عادة، ثم تظهر في الربيع، ويتكرر ذلك كل سنة، وبعد 3 أو 4

سنوات، وفي الحالات الخفيفة 10 إلى 15 سنة والأطفال قليلو الإصابة به، وهو

يكثر بين سن الثلاثين والخمسين.

وعلاج هذا الداء أن تمنع الذرة بتاتًا عن المصاب، ثم تعالج الأعراض التي

عنده مثل الإسهال؛ فيعالج بالغذاء اللبني والمواد القابضة المعروفة في الطب، فإذا

زال الإسهال يعطى المريض الأغذية الجيدة السهلة الهضم، والأدوية المقوية

كالحديد والزرنيخ خصوصًا، وتراعى جميع الوسائل الصحية، وهذا الداء إن لم

يتدارك في أول الأمر استفحل، واستحال شفاؤه، وأدى إلى الموت لا محالة، وقد

يموت الشخص منه ولا يصاب بالجنون.

والذرة التي تُحْدِث هذا المرض هي الذرة الشامية، وحبوبها كبيرة - كما هو

معلوم - وأما الذرة الرفيعة المستديرة، فلم يُعْرَف أنها تُحْدِثه.

وتمتاز حبيبات نشاء القمح عن حبيبات الذرة بتكوير أكبرها، أما حبيبات

الذرة فهي كثيرة السطوح، وبهذا يمكن بالمجهر تمييز دقيق الذرة.

(و) الحمص والفول والعدس: هذه المواد فيها زلال أكثر مما في اللحم،

وفيها نشاء كثير أيضًا، ودهن قليل، وفيها أيضًا مادة السللولوز، فهي من أعظم ما

عند النباتيين من المواد المغذية، أما زلالها فيوجد فيها متحدًا على الأكثر مع

الكبريت والفسفور، وهو غير الجلوتين الذي بالقمح، ولولا أنها عسرة الهضم لكان

للنباتيين وجه وجيه في تأييد مذهبهم (راجع أيضًا صفحة 71 من هذا الكتاب) .

(ز) البطاطس: فيها نشاء كثير، وزلال قليل، ودهن قليل جدًّا، وبعض

أملاح وسللولوز، وفيها أيضًا مقدار من حامض الليمونيك، إما خالصًا، أو متحدًا

مع البوتاسيوم، والصوديوم، والكلسيوم، ولذلك فهي مغذية جدًّا نافعة في

الإسكربوط.

(جدول تركيب بعض الأغذية النباتية السابقة)

المواد القمح الشعير القرطم الأرز العدس الحمص البطاطس

الماء

13.6 13.8 12.4 13،1 12،5 14.8 76.0

المواد الزلالية 12،4 11.1 10.4 7.9 24.8

23.7 2.0

الدهن

1.4 2.2

5.2 9.0 7.9

1.6

0.9

النشاء

67.9 4.9

57.8 76.5 54.8 49.3 20.6

السللولوز 2.5

5.3

11،2 0.6

3.6

7.5

0.7

الأملاح

1.8

2.7

3.0 1.0

3،4

3.1

1.0

(ح) الفواكه: يكثر فيها الماء، وأنواع ومختلفة من الحوامض والأملاح

والسكر والسللولوز وغير ذلك كالصمغ في التين مثلاً، وفي بعضها نشاء كثير

كالطلح (المَوْز) فهي مغذية مدرة للبول مذيبة لحامض البوليك مانعة للإسكربوط،

والنقرس، وبعض الحصوات البولية، وطبخ بعضها مما يسهل هضمها كالتفاح،

والخوخ، وهو قاتل لما فيها من الميكروبات وغيرها، وفي البلح والموز - فوق

ذلك - مواد زلالية، فهما من الأغذية الكاملة.

وأكل الفواكه عقب الطعام يعين على الهضم؛ لأنها تكثر عصارة الفم والمعدة

بلذيذ طعمها.

تركيب البلح [*]

ماء

...

...

... 12.00

...

مادة صمغية

...

... 12.00

سكر (من نوع سكر القصب)

50.000

...

سللولوز

...

... 20.00

مواد زلالية

...

... 6.00

تركيب الموز [*]

ماء صاف

...

... 73

مواد أخرى متنوعة

...

27

أما هذه المواد الأخرى ففيها ما يأتي بالنسبة للمائة:

ماء

13.00

...

مواد زلالية 4.25

نشاء

67.50

...

أملاح

3.50

صمغ

4.50

...

سكر

2.00

سللولوز 4،75

...

زيت ودهن 0.50

(تنبيه)

اعلم أن الدهن والزلال المأخوذ من عالم الحيوان أسهل هضمًا بكثير مما

يؤخذ من عالم النبات، والعبرة في جميع الأغذية هي بما يمتصه الجسم من الأشياء

المأكولة، لا بمقدار ما في الطعام الذي يزدرده الإنسان من المواد المغذية فإنها

قد تكون عسرة الهضم.

(6)

الماء:

مركب من الهيدروجين والأكسجين - كما سبق - بنسبة اثنين من الأول إلى

واحد من الثاني حجمًا، وهو ضروري جدًّا لجميع الأجسام الحية؛ فإن 64 في

المائة من جسم الإنسان ماء، وهو أيضًا ضروري لجميع إفرازات الجسم، ولسيولة

الدم، ولغسل ما في الجسم من الأوساخ، وإخراجه في مثل العرق البول، وبتبخره

إذا خرج في العرق تتلطف حرارة الجسم.

والماء عسر الهضم قليلاً في المعدة، بمعنى أنه يُمْتَص منها ببطء؛ ولكنه

يُمْتَص بسرعة زائدة من الأمعاء؛ ولذا كان الإكثار منه مع الطعام، أو عقبه بقليل

محدثًا لعسر الهضم؛ بسبب تخفيفه للعصير المعدي؛ ولكن المقادير المعتدلة منه

أثناء الأكل تزيد في إفراز هذا العصير، وإذا شرب الماء بمقادير كبيرة في وقت

خلو المعدة من الطعام، أدر البول، وغسل كثيرًا من أوساخ الجسم، وزاد في

سمنه بترسيب مواد شحمية فيه، وكمل التغيرات الحيوية في الجسم؛ فينقص مقدار

حامض البوليك المنفرز في البول؛ وبذلك يقلل تكون الحصوات الكلوية، ويغسل

الصغير منها، وكذلك يقلل تكون الحصوات الصفراوية في مرارة الكبد وقنواته.

والماء ينعش الخلايا الحية؛ فيزيد في قوة مقاومة الجسم للميكروبات المختلفة

ومن فوائده أيضًا أنه إذا شرب منه قليل عند القيام من النوم صباحًا؛ أحدث لينًا

عند المصابين بقبض الأمعاء.

وللماء فوائد أخرى كثيرة في استعماله في الغسل، والاستحمام سنتكلم عليها -

إن شاء الله تعالى - عند الكلام على النظافة.

وبالاختصار إنه من أكبر ضروريات الحياة، بحيث إن الامتناع عن شربه

أيامًا قليلة قاتل لا محالة، والممزوج منه بالأشربة السكرية، وغيرها كالشاي،

والمرق قد يغني عن الصِرْف.

هذا ويجب الاحتراس من شرب الماء البارد عقب التعب الجثماني الشديد،

كأن يشرب الإنسان بعد العدو ونحوه من الأعمال والرياضات المتعبة؛ فإن ذلك قد

يقتل الشخص بالسكتة القلبية، وشرب الماء الحار مسكن للقيء، مساعد للهضم؛

ولكن الماء الفاتر هو من أشهر المقيئات وأبسطها.

ويجب خلو الماء من جراثيم الأمراض خصوصًا وقت فراغ المعدة من الطعام

لعدم وجود العصارة الحمضية المطهرة حينئذ.

(7)

الأملاح (ومن أهمها ملح الطعام وهو كلوريد الصوديوم) :

هذه الأملاح ضرورية للجسم أيضًا؛ لأنها تدخل في تركيب جميع أجزاء

الجسم، وسوائله، ويتكون منها حامض الهيدروكلوريك الضروري للهضم المعدي

وتذيب المواد الزلالية الموجودة في الدم، وغيره من سوائل الجسم، ولولاها لرسب

كثير من الزلال في الأوعية الدموية واللمفاوية فتبطل الدورة، وقلة تعاطي ملح

الطعام تُحْدِث ضعفًا شديدًا، وتورمًا، وفقرًا في الدم، وموتًا، وهذه الأعراض

كانت تُشَاهَد كثيرًا في بلاد فرنسة، حينما كان الناس يمتنعون عن تعاطي الملح

بسبب وضع ضرائب عليه، والمقادير الكبيرة من ملح الطعام مثل مِلء الملعقة من

أحسن المقيئات؛ فيفيد في الإسعاف لسهولة الحصول عليه في أوقات التسمم، وهو

أيضًا يحدث إسهالاً إذا أخذ بكثرة، وحقن محلوله في المستقيم يزيل الديدان الخيطية

منه، ويحقن أيضًا تحت الجلد وفي الأوردة بنسبة 7. 5 جرامات إلى كل لتر ماء

معقم عند حصول النزف - كما سبق -، وفي تسمم الدم وفي الغيوبة الديابيطيسية،

أي الناشئة من البول السكري، والغرض من حقنه أن يخفف من تأثير السم في

الجسم، ويزيل بعضه بإدرار البول.

والإكثار من ملح الطعام قد يُحْدِث تورمًا في الجسم أيضًا، خصوصًا في

الالتهاب الكُلوي الحاد، لتعسر خروج هذا الملح مع البول في هذا المرض،

فيتراكم في أنسجة الجسم، ويجتذب إليه الماء الذي يتخلف فيها، ويحدث الورم

(oedema) .

أما الأملاح الأخرى كفسفات الكلسيوم، ومركبات الحديد، فهي ضرورية

لتكون العظام؛ ولتولد الكريات الحمراء وغير ذلك، وأملاح الجير موجودة بكثرة

في اللبن، والبيض، والخضر، وهي مما ينمي عظام الأطفال؛ ولذلك كان أكل

هذه المواد المذكورة واجبًا على المراضع لكيلا تصاب أولادهن بداء الكساح.

(8)

التوابل والأفاوية والمنبهات:

يوجد غير ما تقدم مواد أخرى كثيرة يستعملها الإنسان في طعامه، وشرابه،

والغرض منها تنبيه الهضم، أو الجهاز العصبي وغيره، ومن هذه المواد الفلفل،

والبصل، والثوم [10] ، وأنواع البهار المعروفة، والقهوة، والشاي، وغير ذلك.

أما المواد العطرية والبهارات، فالشيء الفعال فيها زيوت طيارة تنبه

الأعصاب، والعضلات، وتكثر العصارات الهاضمة؛ ولكن الغلو في تعاطيها مما

يؤدي إلى تعب المعدة، وفساد الهضم.

(أ) الخل: حامض مخفف معروف، يستخرج إما بالتقطير الجاف للخشب،

أو بتأكسد الخمر بواسطة بعض الميكروبات؛ فإنها إذا عُرِّضت للهواء مدة طويلة

استحالت إلى خل، وبطل تأثيرها المعروف، وعناصر الخل (وهي الكربون،

والهيدروجين، والأكسجين) توجد في الخشب بحالة أخرى؛ فإذا حُلل الخشب

بالنار في إناء مغلق حدث منه الخل، وهو نافع في داء الإسكربوط، إلا أنه أقل

فائدة في ذلك من عصير الليمون، ومن فوائده أيضًا أنه يساعد الهضم، ويدر البول

فهو كباقي الحوامض النباتية المذكورة آنفًا.

وحامض الخليك في الخل (بنسبة 3-6 في المائة) مختلط ببعض مواد

أخرى.

(ب) القهوة: معروفة، وتسمى حبوبها بعد تحميصها، ودقها (البُن) ،

وهو الذي يُوضَع في الماء المغلي، ويُشْرَب، وفي القهوة مادة آزوتية، وقهوين،

ودهن، وسكر، وحامض التنيك (الدّبغ) ، وسللولوز، وأملاح.

أما القهوين: فهو أهم ما فيها وفائدته تنبيه المخ فيقلل النوم، وهو أيضًا

يقوي العضلات وضربات القلب، ويدر البول، فلذا يستعمله الناس لإزالة النعاس،

ولتنبيه المخ للأعمال العقلية، وفي بعض أمراض القلب، والقليل من القهوة أيضًا

يحدث في بعض الأشخاص لينًا؛ ولكن الإكثار من تعاطيها يحدث عسرًا في الهضم،

وينهك القوى العصبية، فيحدث أرقًا، وخفقانًا، وتقطعًا في ضربات القلب، فلذا

يجب عدم الإفراط في شربها، وأحسن وقت لاستعمالها أن يشربها الإنسان إذا أحس

بالنعاس بعد أن يستوفي الجسم الراحة التي يحتاجها من النوم وغيره، وشرب القليل

منها عقب الطعام يساعد على الهضم، خصوصًا بما فيها من الحرارة. وحامض

التنيك الذي فيها من أشد المواد القابضة، فإذا أُخذت القهوة بمقدار زائد أحدثت قبضًا

بدل اللين المذكور.

والقهوة بما فيها من حامض التنيك، والقهوين من أحسن ما يستعمل ترياقًا

للتسمم بالأفيون، ويصح حقنها بمقادير كبيرة في المستقيم عند المسموم به إذا كان

في حالة الغيبوبة.

(ج) الشاي: مثل القهوة في التركيب تقريبًا، وفائدته كفائدتها ويصح

استعماله مع اللبن في الإسهال، والدوسنطاريا؛ فإنه يحدث قبضًا.

وطريقة صنعه هو أن يغلى الماء غليًا جيدًا، ثم يجعل على ورق الشاي يضع

دقائق؛ فيخرج منه نقيع مشتمل على المواد النافعة في الشاي، ويقل بذلك نزول

حامض التنيك في النقيع، بخلاف ما إذا غلي في الماء، ونظرًا لكونه أشد صفاء

من القهوة جاز استعماله أكثر منها في الإسهال، ونحوه لعدم وجود رواسب فيه

تؤذي الأمعاء، وحكم الإكثار منه، أو الإدمان عليه كحكم القهوة، إلا أنه يحدث

النَّقَد في الأسنان.

(د) الكاكاو: حبوب شجرة مخصوصة تنبت كثيرًا في جزائر الهند الغربية،

ويدخل في تركيبها الماء، والزلال، والثيوبرومين [11] ، والدهن والنشاء،

وبعض أملاح، وصمغ، وسللولوز، وليس في الكاكاو (تنين) ولذلك لا يحصل

منها القبض الذي يحصل من القهوة والشاي.

والثيوبرومين مادة تشبه القهوين، والشايين في تركيبها، وتأثيرها غير أنها

تؤثر في المجموع العضلي أكثر من تأثيرها في المجموع العصبي؛ ولذلك يشعر

الإنسان بقوة في جسمه وعضلاته بعد تعاطي الكاكاو، وهو أيضًا مدر للبول،

ونظرًا لاشتمال الكاكاو على كثير من الدهن (نحو 50 في المائة) يعد من الأغذية

النافعة، وفيه أيضًا نشاء كثير، ومن الكاكاو تصنع (الشوكولاتا) ؛ وذلك بإزالة

جزء من دهنها، ثم يضاف عليها السكر، وبعض مواد أخرى عطرية، وغيرها،

فلذا كانت (الشوكولاتا) مغذية منبهة.

وكلمتا (كاكاو) و (شوكولاتا) مكسيكيتان.

ودهن الكاكاو أو زبدته يستعمل طبيًّا في صناعة الأقماع الشرجية التي تلبس

لإزالة بعض الآلام والأمراض التي في الشرج، والسبب في اختيار هذه الزبدة هو

أنها تذوب بحرارة الجسم الطبيعية.

(هـ) المياه الغازية: - مثل ماء الصودا، والغازوزة - أهم ما فيها الماء

مع غاز ثاني أكسيد الفحم، وشربها منبه للهضم، مسكن لآلام المعدة وللقيء،

ويجب أن تُعمل من ماء نظيف لكيلا تنقل إلى الإنسان ميكروبات الأمراض، على

أننا نعلم أن ثاني أكسيد الفحم مع الضغط الشديد يقتل كثيرًا من الميكروبات التي في

الماء.

(و) الخمور: يستعملها الناس أيضًا للتنبيه والإنعاش، وقد سبق الكلام

عليها فلا حاجة للتكرار، وإنما نقول كلمة في كيفية صناعتها، فهي نوعان:

أحدهما أنها تُعمل بتخمير بعض أنواع السكر المستخرج من الفواكه، وغيرها

كالشعير المستعمل في الجعة (البيرة) ، والنوع الآخر يستخرج بالتقطير بعد

التخمير، فمن أمثله النوع الأول الخمر التي يسمونها الآن النبيذ [12] ، والبيرة،

ومن أمثلة النوع الثاني الكونياك والوسكي، وأهم ما في النوعين هو الغول

(الكحول) ؛ ولكن فيها مواد أخرى بعضها ينشأ من التخمير، والبعض الآخر أصله

مما في الفواكه وغيرها.

ومن الخطأ الشائع اعتقاد أن شرب البيرة نافع، فقد قرر الأطباء أنها ضارة

كباقي أنواع الخمر، زد على ذلك أنها تهيئ الجسم أكثر من بعض الأنواع الأخرى

لمرض النقرس، والروماتزم، والسمن الزائد، وشربها بكثرة يفسد الهضم،

ويضاف عليها حشيشة الدينار، وهي مما يخدر الأعصاب؛ فتحدث ثقلاً في الدماغ

وميلاً للنوم الكثير، وفيها مواد أخرى تنشأ أيضًا أثناء التخمير، وهي ضارة

بالجسم ضررًا بليغًا.

(ز) الدخان: يسمى بالطباق أو التبغ (Tobacco) وبالتتن، وهو

ورق شجرة معروفة، أعظم مادة مؤثرة فيه تسمي النيكوتين (Nicotine) نسبة

لرجل يسمى " نيكوت "(Nicot) ، وهو الذي جلبها لفرنسة في سنة 1560،

ومادة النيكوتين من أشد السموم فعلاً، وأقواها تأثيرًا وسرعة، وهي تكثر اللعاب،

وقد تحدث إسهالاً، وقيئًا، وهمودًا (هبوطًا) ، والإكثار من التدخين قد يحدث

التهابًا في الحلق، وإقهاء (فقد شهوة الطعام) ، وتقطعًا في ضربات القلب،

وخفقانًا، ونزلة حنجرية، والتهابا في العصب البصري يؤدي إلى ضعف في النظر،

وضمور في هذا العصب، وكثيرًا ما يعجز الشخص المكثر منه عن تمييز الأحمر

من الأخضر.

ولا فائدة فيه إلا أنه منبه للمخ، مريح للعقل عند كثير من الناس.

هذا وقد زعم بعض المؤلفين أن الدخان لا يؤثر في النظر إلا إذا كان الشخص

من المدمنين للخمر أيضًا، والحق أن كُلاًّ منهما كافٍ بمفرده لإحداث هذا التأثير في

النظر؛ فتجد أن المدمن للتدخين، أو لشرب الخمر (وخصوصًا من يواظب على

شرب مقادير صغيرة يوميًّا، ومتكررة بحيث لا يسكر منها) إذا بلغ عمره 35 -

50 سنة، لا يقدر على القراءة، أو الكتابة ونحوهما، ويضعف نظره للأشياء كلها

خصوصًا في النور الشديد، ويعجز عن تمييز الألوان، كما سبق. وهذه الأعراض

تبتدئ عنده بسرعة، إلا أن حصولها كلها لا يتم إلا تدريجيًّا بعد مضي عدة أسابيع،

أو أشهر من مبدئها، وهي كثيرة الحصول للأشخاص الذين يجمعون بين إدمان

الخمر والدخان، وإن كان كُلاًّ منهما وحده كافٍ لإحداثها - كما قلنا - أما الذين

يسكرون أحيانًا، وفي الفترات لا يدخنون، ولا يشربون خمرًا، فهم أقل تعرضًا

لتلك الأعراض.

وإذا لم يستفحل الداء، ولم يزمن، فمجرد الامتناع عن الخمر والدخان كافٍ

لتحسين الحال أو الشفاء، ومما يساعد على ذلك استعمال يودور البوتاسيوم، وحقن

الإستركنين في الصدغ أو تعاطيه من الباطن، والحجامة الجافة والرطبة، والحمام

الساخن للأقدام، ومراعاة القوانين الصحية كافة خصوصًا ما به إصلاح المعدة،

والاستغراق في النوم، ولا بد من المواظبة على ذلك زمنًا طويلاً مع عدم العودة

إلى شرب الدخان أو الخمر مطلقًا.

وفي مبدأ هذا المرض ربما لا يُشاهد تغيير ما في قاع العين إذا امتحن،

ثم توجد فيه أشياء يراها الإخصائيون بمنظار العين (Ophthalmoscope) .

والتغير الذي يحصل في هذا المرض هو كالذي يحصل في الكبد والمخ مثلاً

لمدمن الخمر؛ فتضمر الألياف العصبية بسبب الضغط عليها بالمواد الالتهابية،

وبما زاد في المنسوج الضام الذي بينها، ثم ينقبض عليها ويفسدها.

طبخ الطعام:

الطبخ نافع لأسباب عديدة (منها) أنه يقتل الميكروبات، والديدان، ونحوها

فيقي الجسم من أمراضها (ومنها) أنه في المآكل النباتية يشقق طبقات السلولوز

التي تحيط بنشائها؛ وبذلك يسهل هضمها (ومنها) أنه في اللحوم، وغيرها من

المواد الحيوانية يذيب بعض المواد المخصوصة العسرة الهضم جدًّا، على أنه يجمد

المواد الزلالية التي فيها أيضًا، إلا أن هذا أخف وطأة من المضار الأخرى التي

تنشأ من أكل اللحم نيئًا، (ومنها) أنه يفرق الألياف العضلية للحم بتكون فقاقيع من

البخار بينها؛ وبذلك يسهل هضمها، وبتجمد المواد الزلالية يسهل مضغها،

وسخونة الطعام نافعة للهضم، منعشة للجسم.

وإذا أريد الحصول على مرق من اللحم مغذٍّ قطع اللحم إلى قطع صغيرة،

ووُضع في الماء البارد، ثم سُخن بالتدريج شيئًا فشيئًا إلى أن يغلي، أما إذا أريد

الاحتفاظ بالمواد الغذائية، وبقاؤها في اللحم دون المرق، فيغلى الماء غليًا شديدًا،

ثم يوضع فيه اللحم أثناء الغليان؛ فإن ذلك يجمد المواد الزلالية في الحال، ويكوِّن

طبقة تحيط باللحم تمنع نزول المواد المغذية في الماء؛ ولذلك كان المرق المصنوع

بهذه الطريقة قليل النفع.

أوقات الطعام وقوانينه:

سبق أن الطعام يمكث في المعدة أربع ساعات في الغالب، ويختلف هذا

الوقت باختلاف قدر الطعام ونوعه، والصحة والمرض، والراحة والتعب، ونوع

الهواء المستنشق، وغير ذلك؛ ولذا تعود الناس أن يأكلوا مرة كل 5 أو 6 ساعات،

وهي طريقة حسنة لا اعتراض عليها؛ ولكن يجب أن يراعي الإنسان - فوق ذلك-

في مسألة الأكل عدة أمور:

(1)

أن لا يأكل إلا إذا جاع، وبعبارة أخرى أن لا يدخل طعامًا على طعام؛

فإن ذلك يفسد الهضم.

(2)

أن لا يأكل الإنسان عقب تعب شديد.

(3)

أن لا يجهد نفسه بعد الطعام في عمل جثماني أو عقلي؛ فإن ذلك

يصرف الدم عن المعدة إلى الأعضاء العاملة؛ فيتعطل الهضم، وعليه فمن الخطأ

المذاكرة أو الجري أو الجماع عقب الأكل مباشرة، وأضرها الجماع؛ فإن الصدمة

العصبية التي تحدث للجسم منه قد تقتل الشخص بالسكتة القلبية لا سيما إذا كان

القلب مريضًا، والتعب الذي يعقبه مفسد للهضم، ويلحق بذلك أيضًا الاستحمام عقب

الأكل؛ فإنه ضار أيضًا بسبب توجه الدم إلى الجلد، إذا كان الماء ساخنًا، أما إذا كان

باردًا؛ فإن حركة المعدة، والقلب تضطرب بسبب البرودة، ثم يذهب الدم عن المعدة

حينما تتمدد أوعية الجلد بسبب رد الفعل المعتاد عقب الاستحمام بالماء البارد فتتعب

هي والقلب، وكذلك لا تحسن المذاكرة عقب الطعام إلا بعد ساعة على الأقل.

(4)

أن لا ينام الإنسان عقب الطعام مباشرة؛ فإن النوم يضعف حركة

جميع أعضاء الجسم، ومنها المعدة؛ فيتعطل الهضم، ويضيق النفس، نعم إن

الراحة عقب الطعام نافعة؛ ولكن الاستغراق في النوم هو الضار، ومن المستحسن

جدًّا أن يتعود الإنسان تناول الفطور في الصباح مع قليل من القهوة أو الشاي؛

فإن ذلك يقوي الجسم والهضم، حتى أنه شُوهِد في البلاد التي فيها حمى الملاريا

(النافض) قلة إصابة الأشخاص المتعودين فعل ذلك في الصباح، وحسن

بنيتهم.

(5)

أن لا يشرب ماء شديد البرودة على طعام شديد السخونة.

أما الإكثار من الطعام زيادة عن المعتاد؛ فيحدث ضعفًا في المعدة، وتمددًا

فيها، وفسادًا في الأمعاء، واحتقانًا في الكبد، ويتعب الكُلى، ويحدث داء النقرس،

وإذا كان الطعام الزائد شحمًا، أو سكرًا، أو نشاء، فقد يحدث سمنًا زائدًا،

وانحلالاً في العضلات، أو بولاً سكريًّا من كثرة النشاء والسكر، والامتناع عن

أكل الدهن، والشحم ألبتة يضعف الصحة.

أما الامتناع عن المواد الكربوهيدراتية (النشاء، والسكر، ونحوهما)

فيضطر البنية إلى إحراق ما فيها من الشحم؛ فيتولد من ذلك حوامض شحمية،

ومركبات عضوية من قبيل حامض الزبديك (Butyric) ، وهذه الحوامض تقلل

قلوية الدم؛ فإن كان الشخص مصابًا بالبول السكري (الديابيطس)[13] ، فقد

يُحْدِث له الغيبوبة التي تكون سببًا في موته.

لذلك يرى أعلم الأطباء أن الامتناع المطلق عن أكل تلك المواد في هذا

المرض - كما كان متبعا من قبل - خطر جدًّا، ولذلك قلنا إن عسل النحل نافع في

هذا المرض؛ لأنه يغني عن تلك المواد الكربوهيدراتية، وهو من أسهلها هضمًا،

والقليل منه يكفي (راجع صفحة 88 من هذا الكتاب) .

وإذا أريد تقليل سمن شخص مصاب بالتشحم العام وجب عليه الامتناع عن

المواد الدهنية، والكربوهيدراتية بقدر الإمكان، والإكثار من تعاطي المواد الزلالية

فإنها تزيد احتراق أنسجة الجسم، وهذه الطريقة تسمى طريقة بنتنج Banting [14]

أما قلة الطعام فإنها تُحْدِث ضعفًا في الجسم، وتقلل قوة مقاومته للميكروبات،

فإن من المعلوم أن الكريات البيضاء تزيد عقب الأكل؛ فتكون قوة الجسم على

مقاومة الميكروبات أكبر، فإذا قلت هذه الكريات بالصوم ضعف الجسم، وربما

صار عُرضة لبعض الأمراض، نعم إن الصوم عن الطعام نافع في أمراض المعدة

والأمعاء، والكبد، والكُلى، وحصواتها، والنقرس، والروماتزم (الرثية) ،

والحميات، وأمراض القلب، وغير ذلك، إلا أن الغلو فيه له هذا الضرر الذي

ذكرناه؛ ولذلك نص الشارع صلى الله عليه وسلم على وجوب الاعتدال في

كل شيء، ونهى عن صوم الدهر، وعن الوصال في الصيام، واستحب السحور

وتأخيره، وتعجيل الفطر وقد قال صلى الله عليه وسلم لمن نهاه عن كثرة

الصيام والقيام: (إن لبدنك عليك حقا) .

ومما يخفف ضرر الصوم عند المسلمين أن يباح لهم أن يتعاطوا كل ما أرادوا

ليلاً؛ فلذلك كان الضرر الناشئ من الضعف في أثناء النهار قليلاً، أو معدومًا،

وبجانبه نفع يفوق كثيرًا هذا الضرر، وذلك هو إراحة الجهاز الهضمي، والكبد،

والجهاز البولي، وإحراق ما في الجسم من الزيادة الضارة، وغير ذلك مما ذكرناه،

ولكن يجب الاحتراس من ملء المعدة عقب الإفطار مباشرة؛ فإن الجسم تكون

قواه في ذلك الوقت ضعيفة، وكذلك المعدة، فالواجب طبيًّا أن يأكل الإنسان، أو

يشرب شيئًا قليلاً، ثم يعود إلى إتمام الأكل بعد صلاة المغرب كما كان يفعل

الرسول، صلى الله عليه وسلم.

ولما كان الصوم نافعًا من الوجهة الدينية والأخلاقية اغتفر الشارع ذلك

الضرر القليل، أو المشكوك فيه في جانب نفعه العظيم.

ومما يمحو ذلك الضرر الابتعاد عن ملاقاة المرضى، وكل ما لامسهم أثناء

النهار، وصرف الوقت في النوم بقدر الإمكان؛ ولذلك يُستحب عندنا في الشريعة

الإسلامية النوم للصائم، فإنه فضلاً عن فائدته الطبية بإراحته الجسم، وتوفير قواه

يقي الإنسان من اللغو، والرفث، ولذلك ورد في بعض الآثار (نوم الصائم عبادة)

***

الجهاز البولي

ووظيفته

لا يختلف هذا الجهاز في الذكور والإناث إلا في الإحليل (مخرج البول)

وهو في كل منهما مركب مما يأتي:

(1)

الكُليتان وهما عضوان مخصوصان لإفراز البول، موضعهما في

القسم القطني من البطن خلف البريتون على جانبي العمود الفقري، ويمتدان من

الفقرة الأخيرة الظهرية إلى الثالثة القطنية، واليمنى منهما منخفضة قليلاً عن

اليسرى بسبب وجود الكبد في هذه الجهة، وطول كل منهما نحو أربع بوصات،

وعرضهما نحو بوصتين ونصف.

والكلية عبارة عن منسوج مخصوص مركب من أنابيب كثيرة العدد لإفراز

البول من الدم، والدم يأتي إليها بشريان عظيم متصل بالأورطى (الأبهر) مباشرة،

ويتفرع هذا الشريان في الكلية إلى عدة فروع يخرج منها فروع دقيقة جدًّا تنتهي

بعمل أشكال كروية تسمى كريات مالبيغي [15](Malpighi) يحيط بها مبدأ

أنابيب الكُلى، وكل أنبوبة بعد تعرجها تصب في أنابيب أخرى مستقيمة، وهذه

الأنابيب تنفتح في قمم حلمات صغيرة (عددها من 8 إلى 18) توجد في بطن

الكلية حول تجويف مخصوص يسمى " الحويض الكلُوي " وهو مبدأ للحالب.

(2)

أما الحالب: فهو عبارة عن أنبوبة تمتد من الكلية إلى المثانة،

وتحمل البول إليها، وينفتح في قاع المثانة بانحراف، أعني أنه يسير قليلاً في

جدارها بين غشائها المخاطي، والطبقة العضلية، وذلك لمنع رجوع البول فيه

بانطباقه على نفسه بسبب ضغط البول عليه، حينما تمتلئ المثانة به، وكل من

الحالبين مركب من منسوج ليفي، ومنسوج عضلي، وغشاء مخاطي، والغرض

من المنسوج العضلي أن يدفع البول نحو المثانة.

(3)

أما المثانة: فهي كيس يسع نحو نصف لتر من البول في امتلائه

العادي، وموضعه في الحوض خلف العظم العاني، وفي أسفل الجدار الأمامي

للبطن، والمثانة مركبة من عدة طبقات أهمها الطبقة العضلية، والطبقة المخاطية،

وفائدة الطبقة العضلية هي قذف البول إلى الخارج، وهذه الطبقة العضلية مركبة

من ثلاث طبقات: خارجية، وداخلية (وأليافهما تمتد من الأمام إلى الخلف غالبًا) ،

ووسطى، وأليافها حلقية تحيط بالمثانة، وعند فتحة المثانة في الإحليل تتجمع من

هذه الطبقة الوسطى ألياف كثيرة تسمى " العضلة العاصرة للمثانة "، وهي التي

تمنع البول من السلس.

(4)

أما الإحليل: فهو اسم لمجرى البول في كل من الذكر والأنثى، وهو

- طبعًا - أطول في الذكر منه في الأنثى، أما فتحته في الأنثى فهي فوق فتحة

المهبل الذي هو عبارة عن مكان الجماع، ومخرج دم الحيض، والجنين.

أما كمية البول فهي في اليوم نحو 1500 سنتمتر مكعب، وهذه الكمية تختلف

أيضًا باختلاف مقدار الشرب، وحرارة الجو، وقوة القلب، وبعض المواد المأكولة،

فإذا اشتدت حرارة الجو مثلاً كثر إفراز العرق؛ وبذلك يقل البول، وإذا شرب

الإنسان مقدارًا عظيمًا من الماء، أو تعاطى بعض المواد المدرة للبول؛ فإن هذه

الكمية تزداد.

والبول حمضي التأثير في ورق عباد الشمس، هذا في الحيوانيين، أما في

النباتيين فإنه قلوي التأثير، وإذا تُرِك البول في إناء مدة من الزمن تحولت (البولينا)

التي فيه بفعل الميكروبات إلى كربونات النوشادر، وصار البول قلوي التأثير،

وهذا هو سبب رائحة النوشادر فيه.

والثقل النوعي للبول يختلف من 1015 إلى 1025، وفي البول السكري

يزداد هذا الثقل النوعي كثيرًا.

والبول مشتمل على مواد كثيرة أهمها الماء، والأملاح، وبعض المركبات

العضوية الأخرى كالبولينا.

أما جل الماء، والأملاح فتُفْرَز بواسطة كريات مالبيغي، وأما باقي المواد

الأخرى فتفرزها أنابيب الكُلى المتعرجة أثناء سير الدم في الأوعية الشعرية التي

حولها.

والبول الطبيعي خالٍ من السكر، ومن الزلال تقريبًا، فلا يوجد فيه شيء

منهما يذكر [16] إلا في أحوال مرضية، والسكر الذي يوجد حينئذ فيه هو سكر العنب،

ولا يوجد فيه سكر اللبن إلا في المراضع، وأهم سبب لوجود الزلال فيه هو

التهاب الكُلى المسمى داء بريت (Bright)[17] الذي يفسد خلاياها خصوصًا

خلايا كريات مالبيغي، وأهم ما يُحْدِث هذا الداء التعرض للبرد الشديد خصوصًا

عقب الإفراط في السُّكر، أو الجماع، أو الإصابة بالحميات العفنة كالقرمزية،

وهذا الداء من أضر ما يحدث للجسم، وهو سبب في موت كثير من الناس، وهناك

مرض آخر منتشر في الجهاز البولي في مصر يسمى (داء بلهارس) سنتكلم عليه

عند الكلام على الديدان.

وإذا أراد الإنسان التبول صدر من النخاع الشوكي تيار عصبي إلى المثانة

فانقبضت، وإلى عضلات البطن فانقبضت أيضًا، وفي أثناء انقباضهما ترتخي

العضلة العاصرة لعنق المثانة؛ فيخرج البول إلا إذا عاقه عائق كحصاة تكونت في

المثانة.

وقد تتكون الحصيات في أنابيب الكُلى نفسها، وتكون حينئذ صغيرة جدًّا

كحبات الرمل، أما الحصيات الكُلوية التامة؛ فتكون غالبًا في أعلى الحالب، أي

في الحويض الكلوي، وهي السبب في حصول الآلام القطنية عند المصابين بها،

فإذا نزل جزء منها في الحالب اشتد المغص بالمصاب إلى درجة مفزعة، ولا

يزول غالبًا إلا إذا تراكم البول خلفها، وضغط على منسوج الكلية فأتلفه، وإذا

طالت مدته استحالت الكلية إلى كيس عظيم، وأهم هذه الحصيات هي حصيات

حامض البوليك الذي يكثر بتعاطي المواد الزلالية مع قلة الحركة الجثمانية - كما

قلنا - ولا علاج للحصاة بعد تكونها إلا بالعمليات الجراحية ما لم تكن صغيرة

وتخرج بنفسها مع البول، وأحسن المخترعات الحديثة لمعرفة مكانها وشكلها

وحجمها هو أشعة رونتجن (Rontgen) ؛ فإنها تُظْهِر ما في الجسم من الأجسام

الصلبة كالحصيات، والعظام، والأشياء الغريبة كالرصاص - وسيأتي الكلام

عليها-.

والخلاصة أن وظيفة الكلية هي إفراز المواد المتخلفة من الاحتراق الداخلي

للجسم لأن بقاء هذه الفضلات فيه ضار به جدًّا، وإذا بطلت هذه الوظيفة بسبب

فساد الكليتين نشأ عن ذلك الموت لتسمم الجسم بالمواد البولية؛ ولذلك يسمى هذا

التسمم بالتسمم البولي (Uraemia) ، وبعبارة أصح (تسمم الدم بالبول) .

***

الجهاز التناسلي

ووظيفته

هذا الجهاز - وإن اختلف في الظاهر في الذكر والأنثى - هو واحد في منشئه،

وتركيبه، ولذلك قال ابن سينا [18] في قانونه: إن آلة التوليد في الإناث (كأنها

مقلوب آلة الذكران) وهو تعبير يُقَرِّب المسألة إلى الفهم وإن لم يكن حقيقيًّا على

إطلاقه.

أعضاء الذكر:

القضيب والصفن المشتمل على الخصيتين، والقناة الناقلة، والحويصلات

المنوية، والبروستاتة وغيرها مما سيأتي.

أما القضيب: فهو مركب من ثلاثة أجسام أسطوانية الشكل: اثنان منها في

أعلاها، والثالث في أسفلها، ومنسوج هذه الأجسام الثلاثة يشتمل على تجاويف

عديدة إذا احتبس فيها الدم بسبب ضغط العضلات على الأوردة حصل الانتصاب،

والجسم الأسطواني الأسفل هو الذي فيه الإحليل (أي مجرى البول) .

ومركز الانتصاب في (الانتفاخ القطني للنخاع الشوكي) الذي يقابل الفقرتين

أو الثلاثة الأخيرة من الفقار الظهرية.

والحشفة متصلة بالقسم الأسفل من تلك الأجسام الأسطوانية، ويغطي الحشفة

جلدة تسمى القلفة، وهي التي تقطع في الختان.

وفائدة الختان منع تراكم الإفرازات تحت القلفة، وكذلك تسهيل معالجة ما

ينشأ في الحشفة من الأدواء، ومن فوائدها أيضًا تعريض الحشفة نفسها لشدة

الإحساس، فتقوى الشهوة، ويكون الالتذاذ بالجماع أكمل، وفي بعض الأشخاص قد

تكون فتحة القلفة ضيقة؛ فيتعسر خروج البول؛ ويتسبب من ذلك كثرة الزحير

فيصاب الشخص بمثل سقوط المستقيم، أو الفتق السري، أو الأُرْبي وغير ذلك.

وضيق الفتحة هذا هو من أكبر الأسباب لهذه الأمراض خصوصًا في الأطفال

ولا دواء له إلا الختان، وتراكم الإفرازات قد يؤدي إلى جلد عميرة، والتهاب

الحشفة والتصاقها بالقلفة، ويهيئها لقبول الأمراض الزهرية، بل والسرطانية في

الشيوخ؛ ولذلك كان الختان عند فقهاء المسلمين سنة مؤكدة، وعند بعضهم واجبًا؛

ولكنه عند اليهود فرض لا هوادة فيه.

الصفن: وهو الجلدة المعروفة التي تشبه الكيس، وفيها الخصيتان، أما

الخصيتان فهما غدتان كبيرتان كحجم البيضة مختصتان بإفراز الحيوانات المنوية،

أما تركيبهما فهو كما يأتي: يحيط بالخصية غشاء سميك يخرج منه عدة جدران

تقسم الخصية إلى عدة أقسام، وفي هذه الأقسام توجد أنابيب طويلة، ورفيعة جدًّا

يبلغ عددها نحو 840 (وقيل 300) ، وطول كل منها نحو من قدمين وربع،

وقطرها صغير جدًّا، وهي ملتفة على نفسها، ومبطنة من داخلها بخلايا مخصوصة

تتحول بالتدريج إلى الحيوانات المنوية.

أما هذه الحيوانات المنوية: فكل منها عبارة عن خلية واحدة، لها رأس،

وجسم، وذنب، ورأسها هو نواة الخلية، ولها حركة سريعة جدًّا، وإذا رآها

الإنسان بالميكروسكوب ظنها ديدانًا دقيقة، أو علقًا، وتعيش مدة بعد خروجها من

الإنسان، وشكلها يختلف باختلاف الحيوانات المتنوعة، وأقرب الأشكال شبها

بحييوين الإنسان حييوين مَني القرد، وإذا انفصلت هذه الحيوانات من خلايا

الأنابيب سارت فيها، وهذه الأنابيب تتجمع شيئًا فشيئًا إلى أن تتكون منها قناة

واحدة تسمى (بالقناة الناقلة) ، والدم الوارد إلى الخصيتين يأتيهما بشريانين رفيعين

طويلين يخرجان من الأبهر الممتد من القلب خلف الترائب إلى نهاية الصلب تقريبًا

(والصلب هو السلسلة الفقرية كما سبق) ، وهذا الدم يغذي الخصية، فتنقسم

خلاياها بعد أن تتغذى به، وينشأ من انقسامها هذه الحيوانات المنوية، وعلى ذلك

فأصل المني أو دمه يخرج كما قال تعالى: {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} (الطارق: 7)[19] .

أما هذه القناة الناقلة التي يحس بها الإنسان في الصفن كحبل صلب، فهي

تحمل المني إلى جدران البطن، ثم تدخل البطن؛ لكنها تبقى خارج البريتون،

وتستمر في سيرها إلى أسفل المثانة، وتكون بينها وبين المستقيم [20] ، وهناك تتحد

بقناة الحويصلة المنوية التي في الجهة الوحشية منها، ويتكون من اتحاد القناتين قناة

واحدة تصب في مجرى البول بعد خروجه من المثانة بقليل، وتسمى (بالقناة

القاذفة) .

أما الحويصلة المنوية: فهي كيس صغير كأنبوبة ملتفة على نفسها، ولها في

جوانبها عدة فروع، وهي تفرز سائلاً لبنيًّا رقيقًا يضاف إلى المني لتسهيل حركة

الحيوانات فيه، وفي هاتين الحويصلتين يتجمع المني إلى حين قذفه عند الجماع

ونحوه، فهما مستودعان له.

البروستاتا: (وهي كلمة يونانية معناها الإمام) يحيط بمبدأ مجرى البول بعد

عنق المثانة خلف العظم العاني وتحته، وهو يفرز مادة تضاف إلى المني تسمى

بالودي [21] ، وتنبعث منه بعدة أنابيب تصب في مجرى البول أثناء مروره في

البروستاتا، وهذا العضو كثيرًا ما يصاب بالضخامة في الشيوخ؛ فيحدث عندهم

عسر البول، واحتباسه.

وهناك غدتان صغيرتان في العجان على جانبي مجرى البول لهما إفراز

مخصوص يسمى بالمذي، وهو السائل الذي ينزل عند المداعبة، وفائدته تليين قناة

البول لتسهيل سير المني فيها، وتيسير إيلاج القضيب في الفرج عند الجماع،

وهاتان الغدتان تسميان غدتي (كوبر)(Cowper) ، والقذف يحصل بانقباض

الألياف العضلية التي في المجاري المنوية وحولها، فإن في كل هذه الأجزاء

المذكورة كثيرًا من المنسوج العضلي.

ويبتدئ تكون الحيوانات المنوية عند البلوغ، وهو يحصل عادة في بلادنا

بين السنة 12 و 16، وقد يبلغ بعض الغلمان في التاسعة من عمرهم، وآخرون

في السنة 18، وإذا بلغ الشخص خشن صوته ونبت الشعر في وجهه، وعانته،

ووجد فيه الميل الطبيعي للأنثى، ويستمر إفراز المني إلى أواخر العمر، فقد عُرِف

أن بعض الشيوخ رزقوا بالولد في سن الثمانين، بل بعد المائة؛ ولكن الميل

الشهواني يضعف عادة في الإنسان كلما كبر، وقد يزول في الصغر لضعف أو

مرض أو غيرهما، ويكون حينئذ قاصرًا على الميل النفسي، وإن كانت القوة

الجثمانية نفسها ضعيفة أو مفقودة بسبب ضعف الانتصاب أو عدمه.

أعضاء الأنثى:

تبتدئ هذه الأعضاء من الخارج إلى الداخل بالفرج، وأجزاؤه هي:

(1)

جبل الزهرة [22] : وهو القبة التي في أعلاه، وعليها ينبت الشعر.

(2)

الشفران الكبيران: وهما الممتدان من جبل الزهرة إلى ما يسمى

بالشوكة، وهي الغشاء الذي يجمع بينهما عند أسفلهما، وهذه الأجزاء مركبة من

جلد وشحم من جزء من المنسوج المسمى بالخلوي، وفيها غير ذلك أعصاب،

وأوعية، وغدد وألياف عضلية، والشفران في الأنثى يقابلان الصفن في الرجل.

(3)

الشفران الصغيران: وهما قطعتان صغيرتان من الجلد بين

الشفرين الكبيرين ويعرفان عند عامة النساء في مصر بالورقتين، يمتدان في

أعلاهما إلى البظر.

(4)

البظر: وهو جسم صغير يقابل في الذكر القضيب، وهو مثله في

تركيبه، ونشوئه، غير أنه مركب من جسمين أسطوانيين فقط، وله رأس كرأس

الذكر؛ ولكنه غير مثقوب، ولا يوجد فيه الجسم الثالث الذي للرجل، والبظر

عضو حساس خصوصًا رأسه، ويتحرك بالشهوة وينتصب كالذكر تمامًا؛ ولذلك

اعتاد الشرقيون - من قديم الزمان - أن يقطعوه وحده، أو مع الشفرين

الصغيرين، وتسمى هذه العملية بعملية الخفض، وهي مستحسنة في الشريعة

الإسلامية لأنها مما يقلل ثوران الشهوة عند النساء، وخصوصًا في البلاد الحارة.

(5)

غدد (بارثولين) : وهما غدتان صغيرتان على جانبي فتحة الفرج تفرز

كل منهما مادة لزجة صافية تشبه المذي، وهي تسيل مثله عند تحرك الشهوة في

النساء.

(6)

العُذرة (غشاء البكارة) : وهو غشاء يسد فتحة الفرج كلها أو

بعضها؛ ولكنه له في الغالب فتحة أو أكثر لنزول دم الحيض، وله أشكال

عديدة أكثرها الهلالي والحلقي، وقد يكون معدومًا بالمرة من أصل الخلقة، وإذا كان

هذا الغشاء مسدودًا بالمرة امتنع دم الحيض من النزول؛ فيتراكم في الرحم،

وينشأ منه أعراض مخصوصة يعرفها الأطباء، وتسمى المرأة المصابة بهذه العاهة

بالرتقاء، وعند تمزق هذا الغشاء في العذارى يخرج منه مقدار من الدم - كما هو

معروف - ويسمى هذا التمزق بالافتضاض، وفي تمزيقه بالإصبع خطر فقد

يتمزق معه المهبل، وربما يفضي ذلك إلى الوفاة.

هذه هي أعضاء المرأة الظاهرة.

أما أعضاؤها الباطنة فتبتدئ بالمهبل: وهو أنبوبة عضلية موصلة بين الفرج

والرحم، ولها فتحة مسدودة بالغشاء المذكور، وفي أعلى هذه الفتحة يوجد الصماخ

البولي، أي فتحة البول الواصلة إلى المثانة، والمثانة في النساء فوق المهبل.

ووظيفة المهبل: هي أن يكون محلاًّ للجماع، ومخرجًا للجنين، ودم الحيض

أما الرحم: فهو جسم كمثري الشكل، عضلي سميك أجوف، له فتحة في

المهبل، وفيه فتحتان أخريان لأنبوبتين تسميان بوقي فللوبيوس [23] لحمل البويضات

إلى الرحم.

أما (البوقان) فمبطنان من الداخل بغشاء مخاطي له أهداب، وطول كل

منهما نحو أربع بوصات، وطرف كل منهما مشرشر، وخلف البوقين (المبيضان)

وهما جسمان يشبهان الخصيتين، وليسا أجوفين، وفي داخلهما بويضات صغيرة

جدًّا ميكروسكوبية في داخل حويصلات تسمى حويصلات (جراف) ، وهذه

الحويصلات تقرب من سطح المبيض شيئًا فشيئًا حتى تنفجر فتخرج البويضة [24]

وتصل إلى البوق، والبوق متصل بالمبيض بقناة صغيرة هي جزء من الطرف

المشرشر، وهو ينطبق على المبيض حين انفجار الحويصلة.

البويضة والبلوغ واليأس:

أما البويضة فأصلها من الغشاء المحيط بالمبيض، الذي هو عبارة عن

البريتون، وتتكون هذه البويضات في البنات منذ ابتداء خلقتهن بحيث تولد البنت

وفيها عدد مخصوص من البويضات تبلغ الألوف، ويقال إن هذه البويضات تسقط

من البنات في زمن طفوليتهن قبل البلوغ، ويتفق في البنات البالغات والنساء زمن

انفجار الحويصلات، وخروج البويضات منها مع زمن الحيض، والرأي الراجح

الآن عند بعض العلماء أن كل مبيض تنفجر منه حويصلة مرة في كل شهرين،

بمعنى أن الحيض إذا اتفق مع انفجار الحويصلة التي في المبيض الأيمن مثلاً في

الشهر انفجرت حويصلة من المبيض الأيسر في الشهر التالي وهكذا، أي أن كل

انفجار من مبيض يكون في شهر وحده.

وأما زمن البلوغ في البنات عندنا فيكون من 12 إلى 14 سنة، وفي البلاد

التي أشد حرًّا من مصر كبلاد الهند والعرب كثيرًا ما تحيض البنت في السنة

التاسعة، وزمن الحيض يتفق مع زمن النسل عادة، إلا أنه ثبت أن بعض البنات

حملت قبل أن تحيض، كما ثبت أن بعض العجائز حملت بعد اليأس، وسن اليأس

في النساء هو في الغالب من 45 إلى 50، ومنهن مَن يستمر حيضها إلى ما بعد

ذلك بكثير كسن التاسعة والستين.

الحيض: عبارة عن نزف يحصل من الغشاء المخاطي المبطن للرحم،

ويصحبه تمزق في هذا الغشاء، وسقوط بعض الأجزاء منه، ولا يحدث الحيض

إلا للنساء، ولبعض أنثيات القرود، ومدته تختلف من يوم إلى ثمانية أيام، وفي

الغالب ستة أيام فقط.

وسبب الحيض، وفائدته مجهولة إلى الآن، وهو ليس ضروريًّا لحدوث

الحمل، فقد شوهد أن بعض النساء لا تحيض مطلقًا، ومع ذلك تحمل كالعادة.

الخنثى: إنسان يتعسر أو يتعذر تمييز نوعه، إن كان ذكرًا أو أنثى، وهي

أنواع:

(1)

من يكون في الحقيقة ذكرًا؛ ولكن أعضاءه تشبه الأنثى، فيكون له

صفن مشقوق كشفري المرأة، وقضيبه صغيرًا جدًّا، ولا فتحة فيه، وتكون فتحة

البول بين الشفرين، وقد يكون له ثديان [25] ؛ ولكنه لا يحيض، وينقذف منه المني

من خصيتين تكونان غالبًا في شفريه، وقد تبقيان في بطنه، وفي هذه الحال لا

يمكن الحكم عليه إلا بفحص دقيق جدًّا، كأن يُمتحن السائل المقذوف منه؛ فإن

وجدت فيه حيوانات منوية تحققنا ذكورته وإلا فلا، وفي مثل هذا الشخص تكون

فتحة البول أضيق من المهبل، وتتصل بالمثانة، ولا يحس بوجود رحم له.

(2)

من تكون أنثى، وأعضاؤها تشبه الذكر كأن تكون ثدياها ضامرتين،

وبظرها كبيرًا جدًّا، ومنهن من يكون رحمها أيضًا ساقطًا بين فخذيها فيشبه الصفن

ومثل هذه المرأة قد تشتهي النساء وتميل إلى السحاق، وتعرف هذه بحصول

الحيض لها، وعدم وجود أي حيوان منوي في إفرازها، وقد يدرك الباحث فيها

وجود المبيضين ووجود الرحم.

(3)

من يوجد له مبيض في جهة، وخصية في الجهة الأخرى، ووجدت

أحوال نادرة جدًّا، كان الشخص يأتيه الحيض شهريًّا، ومع ذلك يقذف حيوانات

منوية، كشخص عرف في أوربة يسمى " كثرين هوهمان " (CATHERINE

HOHMANN) لم يعرف له نظير.

ومن هذا النوع الأخير من تكون أعضاؤها الظاهرة كأعضاء الذكر، والباطنة

كأعضاء الأنثى، وبالعكس، ولا يوجد دليل على أن مثل هذا الشخص لا تتلقح

بويضاته بمني نفسه، غاية الأمر أن وجود مثل هذا الشخص أندر من الكبريت

الأحمر، وأكثر منه ندرة أن تلقح حيواناته المنوية بويضاته.

ولا يوجد عندنا مانع عقلي أو نقلي يمنعنا من تجويز أن تكون مريم - عليها

السلام - من هذا النوع الأخير فمسألتها أندر من النادر، فلا غرابة إذا لم نعرف

أنها حدثت لغير مريم، إذ يندر أن يتفق حصول ذلك في العالم إلا مرة أو مرتين

فيتعذر على الناس معرفة ذلك باليقين، على أن الوثنيين قد زعموا حصول مثل تلك

الولادة لبعض آلهتهم، وربما كان بعض ما زعموا صحيحًا (راجع كتاب

(النصرانية والأساطير) تأليف روبرتسن صفحة 168 171) ولا ينافي ذلك أن

تكون مريم، وابنها آية للعالمين، فإن في كل ما خلق الله آية خصوصًا مثل تلك

الشواذ العجيبة النادرة جدًّا، ولذلك قال تعالى: {وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ

آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (الجاثية: 4) ، أما إرسال المَلَك إليها فقد كان لتبشيرها

بحصول هذا الحمل النادر العجيب، كما بشر زكريا بالولد مع شيخوخته، وعقم

امرأته، وقوله في سورة مريم:{أَهَبَ لَكِ} (مريم: 19) قد يراد به أنه متكلم

عن الله، كما قالت الملائكة المرسلة للوط:{إِلَاّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا} (الحجر: 60)

أي قدر الله؛ ولذلك ورد في قراءة سبعية قول جبريل (ليهب لك) أي ليهب لك الله،

وإنما هو مبشر لها بذلك فقط، ويؤيد ذلك أيضًا قوله تعالى في سورة آل عمران:

{إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ} (آل عمران: 45) الآية، وأما قول أمها: {إِنِّي

وَضَعْتُهَا أُنثَى} (آل عمران: 36) إذا دل على أنها عرفت حقيقتها فقوله تعالى

بعده مباشرة: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} (آل عمران: 36) أدل على أنها

لم تعرف الحقيقة؛ وإنما حكمت بالظاهر، والله أعلم منها بالواقع ونفس الأمر

وقوله: {وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ العَالَمِينَ} (آل عمران: 42) أي فضلك عليهن لا

يدل على أنها منهن ولذلك لم يقل (اصطفاك منهن)[26] .

على أننا لم نقل إنها لم تكن امرأة بل نقول: (يحتمل أنها كانت لها أعضاء

الذكر والأثنى، وتغلب عليها الأنوثة بدليل حملها لعيسى، وولادتها له، وإرضاعها

إياه وإذا صدقنا كتب العهد الجديد قلنا إنها أيضًا تزوجت بعد ولادة عيسى، ورزقت

بأولاد (مت 1: 25 و13: 55) فكانت أعضاء الأنوثة فيها أجلى وأكمل من

أعضاء الذكورة) .

هذا ويوجد في الحيوانات الدنيئة ما تتوالد إناثها بلا تلقيح عدة أجيال، فيجوز

أن ما يحصل في هذه الحيوانات على سبيل القاعدة يحصل مثله في الإنسان على

سبيل الشذوذ، مثال ذلك أن المعتاد في بعض الحيوانات أن تلد عدة صغار في بطن

واحد كالأرانب وغيرها وذلك هو القاعدة فيها، ومن النساء من ولدت 6 أطفال في

بطن واحد، ومنهن من كان لها أكثر من ثديين. والخلاصة أن عجائب مخلوقات

الله تعالى كثيرة، وله في كل شيء آية.

التلقيح:

التلقيح هو اجتماع عنصر الذكر (الحيوان المنوي) بعنصر الأنثى

(البويضة) وإذا كان التلقيح بين الأقارب الأقربين كان النسل رديئًا لسببين:

(1)

أنه يكون أضعف ممن يولد من زوجين بعيدين [27] ، وهذه القاعدة

مطردة حتى في النباتات؛ فإن ثمر الشجرة التي تلقحت أزهارها بأزهار أشجار

أخرى يكون أقوى وأحسن، حتى أن ثمرة الزهرة الواحدة إذا تلقحت بزهرة

مجاورة لها من نفس شجرتها كانت ثمرتها خيرًا مما إذا تلقحت بنفس أبورها

(هو مسحوق التذكير في الزهرة كما سبق) .

(2)

أنه إذا كان الزوجان قريبين انحصرت في نسلهما الأشياء الرديئة

الموروثة عنهما، أما إذا اختلطت البيوت بعضها ببعض تحسن نسل الرديء منها

وبقي، ولولا ذلك لانقرض أو لبقيت بعض الأمراض العقلية والجثمانية متوارثة

في نسله إلى ما شاء الله، فلهذه الأسباب حَرَّم القرآن الشريف زواج الأقارب

الأقربين.

وبالجماع يصب المني في مهبل المرأة فتسير حيواناته المنوية إلى الرحم،

ويساعدها في سيرها حركة امتصاص تحصل في الرحم نفسه، فإذا وصلت إلى

الرحم ذهبت إلى البوقين، وهناك تتجمع في البوقين، وتعيش بضعة أسابيع، فإذا

صادفتها بويضة لقحتها، وإذا لم تتلقح البويضة تموت بعد خروجها من الحويصلة

ببضعة أيام.

والتلقيح عبارة عن دخول رأس الحيوان المنوي، وجسمه في البويضة مع

سقوط ذنبه؛ فيتحد هذا الجزء من الحيوان المنوي بنواة البويضة بعد أن ينفصل

عنها جزء كبير منها، والتقليح يحصل عادة في بوق (فللوبيوس) ، والذي يراه

جمهور العلماء أن حيوانًا واحدًا يلقح بويضة الإنسان، ومنهم من يرى أن الذي

يلقحها (أو يمتزج بها) حيوانات عديدة وهو الأرجح

وليس الجماع، ولا التذاذ النساء ضروريًّا لحصول التلقيح، بل قد يكفي قذف

المني على باب الفرج، ولو كانت الفتاة عذراء أو نائمة أو مخدرة بالكلورفورم فإن

ما للحيوانات المنوية من الحركة كافٍ لتوصيلها إلى البوقين، ولذلك ورد عن النبي

صلى الله عليه وسلم (أن العزل لا يمنع الحمل) كما هو مشهور في الأحاديث،

ومن ذلك قوله: صلى الله عليه وسلم (اصنعوا ما بدا لكم، فما قضى الله فهو

كائن، وليس من كل الماء يكون الولد) .

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

معناها الأصفر باليونانية؛ لأن هذه المادة صفراء.

(2)

سكر اللحم والكلمة يونانية أيضًا، ومعناها الحرفي (العضلة) .

(3)

لفظ مركب من كلمتين (sarco) يونانية معناها اللحم و (lactis) لاتينية معناها اللبن، أي حامض اللبنيك المتولد في اللحم.

(4)

الدرن كثير الحصول للبقر والخنازير، قليل جدًّا في الضأن، ونادر في الماعز.

(5)

معناها (مواد الجيفة) وهي لفظ يوناني.

(6)

كلمة أصلها لاتيني معناه (خلية صغيرة) سميت هذه المادة بذلك لتركب جدران الخلايا النباتية منها.

(7)

أكسس (oxys) باليونانية معناها حامض و (oxalis) اسم الحماض فيها.

(8)

شعير أزيل قشره، ثم كسرت حبوبه إلى قطع مستديرة ملساء يوجد عند كثير من البقالين.

(9)

معناها الحرفي في اليونانية (المرة السوداء) لتوهمهم أنها تختلط بالدم؛ فتحدث هذا الجنون، ومثل هذه المرة لا وجود لها، وكلمة ماليخوليا من تعريب المتقدمين.

(*) أمدنا بهذا التركيب محمد شوقي بك بكير النباتي الشهير في مصر فشكرًا له.

(10)

في الثوم زيت طيار فيه كبريت وهذا الزيت هو السبب في كراهة رائحته، كما أنه هو السبب في كراهة رائحة الحلتيت.

(11)

لفظ يوناني معناه الحرفي (إله الطعام) .

(12)

النبيذ من الشراب: هو نقيع التمر والزبيب ونحوهما، وهو إذا طال العهد على نقعه يختمر فيصير مسكرًا، ولهذا اختلف الفقهاء في حل شربه، وأما الخمر التي تسمى في عرف هذا العصر نبيذًا فهي المحرمة بالإجماع، وقد أشبع المنار الكلام في ذلك من عهد قريب.

(13)

كلمة يونانية معربة معناها يقرب من معنى كلمة البوال، أي كثرة البول.

(14)

كان نجارًا من أهالي لندن، أوصى الجمهور بهذه الطريقة سنة 1863، وعاش بين سنة 1797 و1878.

(15)

مُشَرِّح إيطالي عاش في بولونيا (Bologna) بين سنة 1628 و1694.

(16)

في البول الطبيعي 1 في 10000 من السكر، وأثر من الزلال، وكلاهما يتعذر إدراكه بالطرق الكيماوية المعتادة.

(17)

هو رتشارد بريت (Richard Bright) الإنكليزي عاش بين سنة 1789 و 1858 ميلادية.

(18)

هو الشيخ الرئيس أبو علي بن سينا، الفيلسوف العربي الشهير، ولد بقرب بخارى 980 ميلادية، وتوفي سنة 1037م (370-428هـ) ، وله مؤلفات عديدة جاوزت المئة، وكان كتابه في الطب المسمى (القانون) معولاً عليه حتى في أوربة عدة قرون، وترجم إلى عدة لغات، وطبع بالعربية في رومة سنة 1593م (1001) هـ.

(19)

الترائب: هي عظام الصدر تطلق على الذكر والأنثى وإن كان يغلب استعمالها في الأنثى، ومنه قول امرئ القيس: ترائبها مصقولة كالسجنجل.

(20)

لذلك يكثر الاحتلام عند إمساك البطن، أو عند امتلاء المثانة بالبول، فلذا يجب إطلاق البطن والتبول قبل النوم لمنع ذلك.

(21)

هو ما ينزل أحيانًا بعد البول، ومن أشهر أسبابه وأكثرها شدة الميل إلى النساء مع عدم الوصول إليهن، والتحرق عليهن.

(22)

الزهرة: هي ما يسميها الرومان venus (فينس) وهو الكوكب المعروف ببهائه وجماله، وكانوا يزعمون أنه (إله الحب) ، وإلى هذه القطعة من الفرج تنسب الأمراض الزهرية الناشئة من الزنا غالبًا.

(23)

هو جبريل فللوبيوس (GABRJL FALLOPIUS) المشرح الشهير، كان من أهالي بادوا (PADUA) بقرب مدينة البندقية ولد سنة 1523، ومات سنة 1562 وهو أول من وصف هذين البوقين وصفًا دقيقًا.

(24)

تشمل الحويصلة عادة بويضة واحدة، وأحيانا بويضتين، ونادرًا ثلاثًا، وقد تشمل البويضة نواتين بدلاً من واحدة، وذلك من أسباب الحمل التوأمي كما سيأتي.

(25)

قد رأيت اثنين من هذا النوع لأحدهما ثديان كثديي البنت البكر البالغة، وقد طلب مني قطعهما ففعلت.

(26)

المنار: إن هذا التعبير لا يؤدي معنى الأول، وقد فات الكاتب الجواب عن قوله تعالى:[وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ](التحريم: 12) فهو جزم بأنها أنثى، ولعله يدخله في حيز الترقي الآتي في جوابه، وما ذكره احتمال أكبر فائته زلزال جمود الماديين الذين ينكرون ولادة عيسى عليه السلام من أم بلا أب، وإلا فالظاهر المتبادر أن خلقه آية من الخوارق المنتظمة في سلك السنن الروحية، لا من فلتات السنن المادية.

(27)

المنار: ورد في الآثار (اغتربوا لا تضووا) أي تزوجوا الغرائب لئلا تصيروا ضواة أي ضعافًا نحفاء بكثرة تزوجكم من ذوي القربى، ولم يثبت هذا في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافًا لما في صحاح الجوهري وغيره، وقال عمر بن الخطاب لآل السائب: قد أضويتم فانكحوا في النزائع، أي الغريبات.

ص: 273

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌نموذج من كتاب

كنز الحقائق في فقه خير الخلائق

(فصول متفرقة والعناوين فوقها من وضع المنار)

البدعة الشرعية:

(فصل) البدعة الشرعية الأمر الحادث في الدين بعد القرون الثلاثة المشهود

لها بالخير، لم يدل عليها دليل من الكتاب والسنة، وكل بدعة ضلالة، وهي كثيرة

سيما في عصرنا هذا؛ فإنهم قد أحدثوا في الدين أشياء ما كانت في عهد النبي -

صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه - كعقد مجلس الميلاد، والقيام عند ذكر الولادة،

وإنشاء عيد الميلاد [1] ، وقراءة الفاتحة على الحلواء والطعام، والاجتماع لقراءة

القرآن في اليوم الثالث [2] ، وإيصال الثواب إلى الميت بتعيين يوم أو وقت وتسريج

السرج على القبور [3] ، وبناء التوابيت [4] ، ونصب الأعلام، وذكر الخلفاء بعد كل

ترويحة، وتسمية الصحابة والسلاطين في الخطب، والصلاة على النبي - صلى

الله عليه وسلم - قبيل الأذان والإقامة [5] ، والتثويب والترحيم وأمثالها.

علامة أهل الحديث:

(فصل) من علامات أهل الحديث الجمع بين الصلاتين حالة الإقامة

والصحة لحاجة دنيوية أو دينية، والمسح على الخفين والجوربين، ولو غير

ثخينين، والمسح على العمامة، ورفع اليدين في ثلاثة مواطن: عند الركوع وعند

رفع الرأس من الركوع، وعند القيام من التشهد الأول، ووضع اليدين على الصدر،

والجهر بآمين، وقراءة التسمية أول كل سورة، وقراءة الفاتحة خلف الإمام في

كل صلاة، والاعتدال في الركوع والسجود والقومة، وأداء الصلاة، وقراءة السور

على وفق السنة.

المتفقه والعامي والتقليد:

(فصل) إذا كان الرجل يعرف الحديث والقرآن، فيعمل عليهما، ولا يقلد

أحدًا من المجتهدين، والعامي الذي لا يعرف الحديث والقرآن يسأل العلماء، ويعمل

على قولهم [6] ، والمجتهد يخطئ ويصيب، ومع أخطائه له أجر، ويجوز أن يكون

الرجل مجتهدًا في بعض المسائل، ومقلدًا في بعضها، ويجوز له أن يعمل

بالرخص، والأمرُ بالمعروف، والنهيُ عن المنكر واجب على كل مسلم بقدر القدرة،

ولا يجوز العنف والتشدد في المسائل الاختلافية.

بيعة الصوفية وإلباس الخرقة:

(فصل) البيعة الشائعة بين الفقراء لها أصل من الشرع، وهي بيعة التوبة،

أما إلباس الخرقة والقلنسوة وأمثالها من مراسم الفقر، فلا تثبت بالنقل الصحيح،

ويجب علينا أن نحب أولياء الله كلهم، ونعظمهم من غير أن نفضل بعضهم على

بعض، ويجب ترك قولهم إذا خالف الحديث.

علامة أهل البدع:

(فصل) لأهل البدع علامات، وهي الوقيعة في أهل الأثر، وتسميتهم

بالوهابية، والنجدية، والعرشية، والصفاتية، والمجسمة، والمشبهة، وهم بُرَآء

من ذلك، لا يصدق عليهم إلا الاسم الواحد (وهو أصحاب الحديث) كثرهم الله

وأبقاهم إلى يوم القيامة.

باب الأنجاس

يطهر البدن والثوب بالماء ولو مستعملاً حتى لا يبقى عين ولا لون ولا ريح

ولا طعم، ولو [7] عسر زوال الأثر فلا يضر، ولا يجوز بغير الماء، والخف

والنعل بالدلك [8] ، ولو كانت النجاسة رطبة أو يابسة أو غير ذات جرم، والمني

طاهر، وغسله وفرك اليابس منه أزكى وأولى، وكذلك الدم غير دم الحيض -

ورطوبة الفرج [9] ، والخمر، وبول الحيوانات غير الخنزير، ولا نجس عندنا إلا

غائط الإنسان، وبوله، ودم الحيض، وبول الخنزير، وخراؤه، والروث، ولحم

الخنزير، وشحمه، والحمار الإنسي، والميتة، فيجب تطهير كل نجس قليله

وكثيره حتى الرشاش، وتطهر الأرض باليبس، أو صب الماء عليها، ويطهر

البساط الذي لا يمكن غسله بصب الماء عليه، والحديد والمرآة والزجاج بالمسح،

والاستحالة مطهرة.

(فصل) أيما إهاب دبغ فقد طهر، وشعر الإنسان، والميتة، والخنزير

طاهر، وكذا عظمها، وحافرها، وقرنها، ومنقارها.

(فصل) لا تنزح البئر بوقوع نجس، أو موت حيوان فيها إذا لم يتغير أحد

أوصاف الماء؛ فإن تغير فيجب نزح الماء كله أو إلى أن لا يبقى التغير.

(فصل) بول ما يؤكل لحمه طاهر، وكذا سؤره، وجميع الأسآر غير سؤر

الكلب، والخنزير ففيه قولان وكذا في ريق الكلب، والعرق كالسؤر.

_________

(1)

أي الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، ومثله سائر الاحتفالات التي جعلوها كالشعائر الدينية، وقد أفتى الفقيه ابن حجر المكي بكون القيام عند ذكر ولادة النبي صلى الله عليه وسلم بدعة كما تراه في كتابه الفتاوى الحديثية، ولكن لم يبال بفتواه أحد.

(2)

أي بعد موت الميت الذي يُقرأ لأجله.

(3)

لعله يريد طلب إيصال الثواب، يريد إيقاد السرج.

(4)

أي للقبور.

(5)

لعل هذا معتاد في بلاد المؤلف (الهند) ، وفي بعض بلادنا يزيدون في آخر الأذان ما يزيدون من ذلك وكله بدع.

(6)

أي يسألهم عما يجب عليه في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا عن آرائهم ومذاهبهم.

(7)

لعل الأصل (وإذا) .

(8)

أي ويطهر الخف أو النعل بدلكهما بالأرض كيفما كانت نجاستهما.

(9)

معطوف على قوله: والمني طاهر.

ص: 305

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أهم أخبار الحرب الأوربية والآراء فيها

إن الأخبار الصحيحة والآراء المفيدة لا تكاد تستنبط من الجرائد إلا نكدًا،

وإن للمجلات من الأناة والروية في الاختيار ما ليس للجرائد اليومية، ولا غير

اليومية أيضًا، وإننا نمحص ما وقفنا عليه من الأخبار والآراء الكثيرة بالجمل الآتية

في هذه الحرب:

(1)

الدول المتحاربة فريقان: دول التحالف الإنكليزي ودول التحالف

الألماني (يُنسب كل حلف إلى أقدر دوله التي هي محل رجاء الرجحان له) ،

فالأول هو الراجح في الحرب البحرية، حتى أن رجحانه حال دون منازلة الآخر له،

إلا ما تغرقه الغواصات من سفنه، والثاني هو الراجح في الحرب البرية إلى هذا

اليوم.

(2)

اتفق رجال السياسة والحرب من الفريق الأول على أن السبب الأول

لرجحان الفريق الثاني في الحرب البرية هو كثرة الذخائر والأسلحة عندهم،

فتوجهت همة دوله كلها إلى الاستكثار من ذلك، حتى أن إنكلترة أنشأت وزارة

خاصة بها سمتها وزارة الذخائر جعلت المئات من المعامل الحرة تحت مراقبتها،

فصارت إنكلترة وفرنسة وهما دولتا العلم والصناعة في هذا التحالف تعملان من

الذخائر والأسلحة أضعاف ما كانتا تعملان من قبل، ويقدرون أن استعدادهما،

واستعداد حلفائهما لا يتم إلا في ربيع السنة القابلة، على أنهم يشترون الذخيرة

والسلاح من الولايات المتحدة واليابان بمئات الألوف من الجنيهات.

(3)

كانت الروسية قد رجحت على النمسة رجحانًا ظاهرًا فانتزعت منها

غاليسية، ووصلت إلى أعالي جبال الكربات المشرفة على سهول المجر،

وسباسبهم، ولكن ألمانية أنجدتها في ربيع هذا العام بزهاء مليون ونصف مليون من

جيشها، فأجلتا الروسية عما كانت استولت عليه من بلادها، وانتزعتا منها ما

انتزعتا من مملكة بولندة، وغيرها، ولا يزال لهما الرجحان في مطاردتها،

والفضل الأول في ذلك لمدافعهما الضخمة التي تدك أعظم الحصون والمعاقل،

ولكثرة ما عندهما من الذخيرة، وقد اتسع ميدان هذه الحرب فامتد من بحر البلطيق

في الشمال إلى آخر حدود بولندة في الجنوب، ويقال: إن الألمان يطمعون في

الوصول إلى بترغراد (بطرسبرج) عاصمة الروس، والنمساويون مع الألمان

يمدون أعناقهم إلى أودسة أعظم ثغور الروس في البحر الأسود.

(4)

الحرب في الميدان الغربي (فرنسة وبلجيكة) سجال ولكنها حرب

مطاولة لا مناجزة، والألمان هم الذين يهاجمون الفرنسيس، والإنكليز،

والبلجيكيين في الغالب، والفريقان معتصمان في الخنادق، وقلما يربح أحد من

خطوط خصمه شيئًا إلا ويسترده منه الآخر.

(5)

الحرب بين إيطالية والنمسة سجال أيضًا؛ ولكنها لا تزال بطيئة

الحركة ضعيفة التأثير، لا يكاد العالم يشعر بوجودها.

(6)

الحرب في جوار الدردنيل سجال أيضًا، وهي مناجزة، لا مطاولة،

والحلفاء هم المهاجمون في الغالب على أنها حرب خنادق كحرب الميدان الغربي.

(7)

أخبار الحرب في العراق قليلة جدًّا، ومما لا ريب فيه أن الإنكليز قد

استولوا على جزء عظيم من ولاية البصرة.

(8)

أخبار الحرب في القوقاس وما يسمونه أرمينية أقل من أخبار الحرب

في العراق، وأبعد عن الثقة من جميع الأخبار، فإنه لا يعرف منها شيء، إلا ما

يذيعه الروس في كل شهر من أخبار معركة كان لهم الرجحان فيها، ومن أخبارها

أن ضلع الأرمن في البلاد العثمانية معهم حتى أنهم يقاتلون معهم، وهذا خبر معقول

ومنتظر، وكان العثمانيون يقاتلون الروس في بلاد القوقاس الروسية، ومن أخبار

الروس الأخيرة أنهم هم استولوا على مدينة (وان) العثمانية بمساعدة الأرمن فيها،

ونصبوا عليها واليًا من زعماء الأرمن، ويقال: إن الترك فتكوا بالأرمن فتكًا ذريعًا.

(9)

إن كل فريق من الأحلاف اجتهد منذ اشتعلت نار الحرب في جذب

الدول التي على الحياد إليه، ولو بالعطف والمودة، ففاز التحالف الإنكليزي بانتزاع

إيطالية من التحالف الألماني، وحملها على خوض غمرات الحرب معه، وهو يبذل

جهده منذ سنة لجذب دول البلقان إلى قتال العثمانية والنمسة ولا يزال البلقانيون بين

الإقدام والإحجام، لما بينهم من أسباب النزاع والخصام، ولطمعهم في تراث الترك

والنمساويين من جهة، وكراهتهم أخذ الروسية للآستانة وزقاقي البوسفور والدردنيل

من جهة أخرى، دع ما للنمسة وألمانية من النفوذ في البلغار، ولألمانية خاصة من

النفوذ في الرومان واليونان، فإن ملكي البلغار والرومان من أسرة عاهل ألمانية،

وملكة اليونان أخته، فوشيجة الحرم لها تأثير عظيم، ولكن أكثر الشعوب البلقانية

أميل إلى التحالف الإنكليزي ولا سيما الشعب اليوناني، فإنه شديد البغض للترك

والطمع في كثير من بلادهم، وشديد الميل إلى محاربيهم لذاتهم ولمحاربتهم لهم.

(10)

قد اختلف الباحثون في عاقبة هذه الحرب ونتيجتها، والمعقول أنه

إذا نصر أحد الفريقين نصرًا مؤزرًا، وظفر ظفرًا تامًّا، فإن رأس دوله تكون لها السيادة العليا في أوربة والشرق كله؛ ولكن دول الفريق الآخر أو ما بقي منها تذل

وتخزىزمنًا طويلاً تبذل فيه كل ما يستطيع بذله المستضعف المستذل في مقاومة خصمه من الكيد والحيلة إلى أن يستدير الزمان، وتديل له من عدوه الأقدار، وأما إذا

طال أمد الحرب حتى ضعف الفريقان، ونفدت قواهما، ولم يرجح أحدها على

الآخر بشيء، أو رجح بالدرهم أو القيراط، فلم يكن باستطاعته السيطرة على

خصمه، والاستمرار على قهره، فيوشك أن تكون شروط الصلح متعادلة، وتبقى

الموازنة بين الدول متقاربة، ويستمر ذلك عشرات من السنين يظهر فيها نبوغ

الشعب الذي يفوق غيره في الهمة والاستعداد، وهاك أشهر ما قيل في طمع كل

فريق من الآخر إذا انتصر انتصارًا تامًّا أو قريبًا من التام.

(11)

مقصد دول التحالف الإنكليزي من الحرب الذي لا يكفون عنها

باختيارهم ما لم يصلوا إليه، وهو إزهاق الروح العسكري البروسي الذي نفخ في

جميع الشعوب الألمانية بالحرب، واعتقاد كونها فضيلة وكمالاًً للبشر ثم حل عقدة

الوحدة الألمانية، وإرجاع ممالكها الصغيرة إلى ما كانت عليه قبل الوحدة التي

أنشأها البرنس بسمرك سنة 1870، ومنعها من الاستعداد لحرب ثانية، والاستيلاء

على الأسطول الألماني، ثم حل إمبراطورية النمسة والمجر، وإعطاء كل دولة من

دول التحالف أبناء جنسه منها، وبهذا يستميلون دول البلقان إليهم الآن، لأن في

النمسة ملايين عديدة من الرومان، والسلاف، والطليان، وغيرهم، ثم تمزيق

المملكة العثمانية، وتقسيمها.

ومن البديهي الذي لا يحتاج إلى النص إرجاع بلجيكة كما كانت أما الآستانة

والزقاقان العظيمان اللذان على جانبيها، فالأرجح أن روسية لا ترضى بها بديلاً، إن

ظفروا ظفرًا نهائيًّا، بعد ما أصابها من الخسارة التي هي أضعاف خسائر سائر

حلفائها، ويقال: إن حلفاءها أنفسهم يشترطون تدمير حصون البوسفور والدردنيل،

ونزع السلاح منهما، وعدم تسليحهما في المستقبل، وقيل: إن الآستانة تكون منطقة

حرة؛ ولكنها إن صارت إلى الروس فلابد أن يغتنموا أول فرصة لتحصين الزقاقين

بعد أن يستعدوا لذلك سرًّا.

(12)

إذا ظفر التحالف الألماني ظفرًا تامًّا، فالمشهور أن ألمانية تريد أن

تضم مملكة بلجيكة إلى ممالك الاتحاد الجرماني، ولا يدرى أيراد جعل بولونية

مستقلة أم تابعة لها أم للنمسة، ولا بد حينئذ من جعل النفوذ الأعلى في البلقان للنمسة،

ويقال: إن ألمانية لا تطمع في أخذ شيء، مما استولت عليه من مملكة فرنسة، إلا

سواحل بحر المانش؛ ولكنها تطمع في جميع مستعمراتها الأفريقية الشمالية،

وتعطي الدولة العثمانية القوقاس الروسية أيضًا، وقد اشتهر أنها تمنيها بإنشاء

إمبراطورية إسلامية كبيرة، ثم إنها تفرض على خصومها غرامة حربية ثقيلة،

وأما استعادة ما أخذ من مستعمراتها، فهي من البديهات التي لا حاجة إلى ذكر طلبها

لها، هذا أقل ما يقال عنها، وقيل بل هي تطمع في جعل أوربة كلها تحت

سيطرتها، لما وجد في مؤلفات غير واحد من رجال العلم والسياسة والحرب فيها

من الحث على السعي لجعل العالم كله خاضعًا للنفوذ الألماني، ومستمدًّا من

الحضارة الألمانية.

ومن الناس من يقول: إن هذه مزاعم افتحرها أعداء ألمانية لينفروا عنها

الشعوب التي على الحياد، ويحملوها على مناوأتها، ولكن وجد من النقل عن

الألمان ما يدل على ذلك، وهو غير بعيد عن العقل، وشواهد التاريخ، فإن بطرس

الأكبر على كونه هو البادئ بتقوية روسية كان يرمي إلى هذا الغرض، ونابليون

الأول كان يمني نفسه به، ومن أصول تربية الأمم أن يبث فيها عقيدة تفضيل نفسها

على غيرها، وكونها أجدرها بالسيادة والسعادة، وكل أمة لا تعتقد هذا الاعتقاد لا

يمكن أن تسود وتعتز؛ ولكن الأمة إذا لم تبن جميع أعمالها الاجتماعية على أساس

هذه العقيدة يقتلها داء الغرور، ولا سيما إذا احتقرت غيرها من الأمم، ولم تقدر

مزاياها حق قدرها، ومن المحتمل أن يكون بعض علماء الألمان بثوا في أمتهم هذه

العقيدة لأجل أن ينهضوا بها في ميادين المسابقة والمباراة للأمم التي سبقتها إلى

الاستعمار وغيره، ثم اغتروا بما وصلوا إليه من العلم والثروة والاستعداد الحربي،

فقرَّب ذلك إلى عقول كثير من حكامهم وقوادهم أنه يمكن لدولتهم القضاء على قوى

الدول الاستعمارية الثلاث (إنكلترة وفرنسة وروسية) وجعلهن تحت سيطرة ألمانية،

وحينئذ تمنعهن من تجديد الاستعداد للحرب، فتنفرد بسياسة العالم في الشرق

والغرب، ولا يبعد أن تزين لكثير منهم فلسفة حب السيادة أن هذا يكون خيرًا للبشر

لأنه يمنع أسباب الحروب بمنع تنافس التحاسد الذي من شأنه أن يكون بين الأقران

من الدول، كما يكون بين الأقران من الأفراد، وأن يتخيل هؤلاء الفلاسفة أن العالم

لما صار باتصال بعضه ببعض كالأمة الواحدة - وجب أن تكون له دولة واحدة

ترجع إليها السلطة العليا، كما ترجع سلطة الولايات من المملكة الواحدة إلى السلطة

العليا في عاصمة المملكة، لأن التفرق مدعاة العداوة والشقاق المفضي إلى التقاتل

والتفاني.

وقد يرد عليهم فلاسفة سائر الأمم بأن ما يزعمونه خيال تولد من اقتران حب

السلطة بالغرور بالقوة، وأن حب السلطة غريزي في البشر، فلن ترضى أمة

بسيادة غيرها عليها مختارة، ولا سيما الأمم التي تَمَكَّنَ في قلوب أهلها عز الحرية

والسيادة، فلا يزال المسود يكيد للسائد، ويتربص به الدوائر، وقد انقرض في

الألزاس واللورين جيل، وتجدد جيل، فكان الجيل الجديد كسلفه يكره الألمان،

ويحب الفرنسيس، فالفلسفة الحق أن انتظام البشر لا يتم في هذا الزمان إلا ببنائه

على قاعدة استقلال الشعوب والأجناس، وأما القوة التي فوض إليها الحكم بين

المتنازعين على السيادة في الأرض فلا يمكن أن تظل محتكرة للغالب، فإذا كانت

هذه الحرب لا تنتهي بإبطال قاعدة (الحق للقوة) ،

وبالرجوع عن فكرة سيادة الأقوياء على الضعفاء، وإكراههم على الخضوع

لما يسوسونهم به ويلزمونهم إياه، وبوضع قواعد مضمونة للمساواة العامة بين

جميع الشعوب والأجناس يكون بها الأدنى مختارًا في اقتباس العلم والحضارة من

الأعلى - إذا لم تنته هذه الحرب بهذا وتضمنه جميع الدول بقانون تتعاهد على تنفيذه

بالقوة والاتفاق على قتال المخالف له، فلا شك في كونها تكون أشأم حرب على

البشر؛ لأنها لا يمكن أن تفضي إلى رضاء المغلوب بسيادة الغالب، بل تفضي إلى

استمالة المغلوبين لغيرهم من الشعوب المغلوبة على أمرها، والمكرهة على

الخضوع لغيرها، والاستعداد لحرب مثل هذه أو شر منها، وإن ظن الغالبون أنهم

قادرون على أن يَحُولُوا دونها.

ونحن نرى أن هذه الفلسفة الأخيرة هي الصحيحة، المُؤَيَّدة بروح الحق

والفضيلة، فعسى أن يكون لنا ولسائر الأمم الشرقية نصيب منها، إذا أراد الله

برحمته أن يكون المنتهى إليها.

_________

ص: 307

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مدرسة دار الدعوة والإرشاد

قد اضطررنا في السنة المدرسية الماضية (سنة 1292 هجرية شمسية) أن

نجعل الإجازة الصيفية قبل موعدها بشهر، بقرار من مجلس إدارة الجماعة؛

وسبب ذلك قطع وزارة الأوقاف المصرية ما كانت قررته من الإعانة للمدرسة،

وعدم الرجاء في شيء يُذْكَر من التبرعات بسبب العسرة الحاضرة، حتى أن الشيخ

قاسم إبراهيم قطع اشتراكه السنوي في جماعة الدعوة والإرشاد قبل الحرب، وقد كنا

ننفق على الطلبة بالتقتير في تلك السنة.

أما مقدار إعانة الأوقاف فقد كان خمسمائة وخمسين جنيهًا، وقد كنا موعودين

من قِبَلَ الديوان بمضاعفته أضعافًا، حتى أن محمد محب باشا الذي عُيِّن أول ناظر

للأوقاف - بعد تحويله إلى نظارة - قال لي أمام بعض الفضلاء في داره قبيل سفره

إلى الآستانة في رمضان العام الماضي: إنه يمكن إبلاغ الإعانة في هذا العام إلى

ألف وسبعمائة جنيه؛ وإنما يمكن الزيادة على ذلك فيما بعدها من السنين، قال ذلك

بعد أن دقق النظر في نظام المدرسة، وميزانيتها، وبعد زيارته لها، واختباره

لحالها بنفسه.

ولو طلبت المبلغ الذي كان مقررًا في أول العام الماضي عقب تصديق

الجمعية التشريعية على ميزانية الأوقاف لقبضته؛ ولكنني فضلت حفظه في خزينة

النظارة على حفظه في صندوق المدرسة؛ ليؤخذ بالتدريج عند الحاجة إلى الإنفاق

ولما طلبت بعضه عند الحاجة إلى الصرف - لقرب دخول السنة الدراسية - امتنع

وكيل الأوقاف محمد شوقي باشا من الصرف، معللاً منعه بوجوب الاقتصاد، وقلة

الدخل بسبب الحرب، فراجعت رئيس النظار (حسين رشدي باشا) مرارًا فوعد

بالمساعدة، وأحالني على عدلي باشا الذي كان نائبًا عن محمد محب باشا في نظارة

الأوقاف، ووعد بتوصيته، وبعد عدة مراجعات أمر عدلي باشا بصرف 300 جنيه

أقساطًا، وقال لي: إذا كثرت الواردات بعد ذلك ندفع لك الباقي، وقبضت حينئذ

ستين جنيهًا من الإعانة.

ثم تحولت الأحوال وتغير شكل الحكومة، فأعطى إسماعيل صدقي باشا الذي

تولَّى (وزارة الأوقاف) قليلاً، وأكدى (أي منع الباقي) ، فكان مجموع ما قبضته

من الإعانة بيدي 135 جنيهًا، وكنت أحلت إدارة أوقاف محمد شريف باشا الكبير

على النظارة بأجرة مكان المدرسة بكتاب مني قبلته النظارة، وصارت تدفع ما

يستحق من الأجرة أقساطًا شهرية؛ ولكن وزارة إسماعيل صدقي باشا منعت فيما

منعته إعطاء بقية الأجرة، كانت الأجرة كلها 130 جنيهًا دفعت وزارة الأوقاف منها

97 جنيهًا ونصفًا، ورجعت عليّ إدارة وقف شريف باشا بمبلغ 32 جنيهًا ونصف

جنيه فوفيتها حسابها

فعلم من هذا أن مجموع ما صُرِف من إعانة الأوقاف للمدرسة في العام

الماضي 232 جنيهًا ونصف جنيه، وهو دون المبلغ الذي كان أمر بصرفه عدلي

باشا موقتًا.

ولما علمنا أن الوزارة الجديدة قطعت الإعانة كلها ألبتة، غلبنا حسن الظن

ورددنا على من أساءه، وقرعنا جميع الأبواب التي هي مظنة الرجاء لإعادته،

بحجة أن هذه المدرسة الدينية الخيرية ليس لها دخل ثابت سواه، وأنها أحوج إلى

الإعانة من كل المعاهد العلمية والخيرية التي تساعدها وزارة الأوقاف حتى من

الجامعة المصرية، ومدارس العروة الوثقَى، والجمعية الخيرية - فألفينا جميع تلك

الأبواب موصدة في وجهنا؛ ولكن باب الله تعالى لا يُوصد، فاتكالاً عليه - عز

وجل - سنفتح المدرسة في السنة المدرسية القابلة، كما فتحناها في السنة الماضية

ولكننا لا ننفق على الطلبة شيئًا، ولا نقبل في القسم الداخلي طالبًا جديدًا إلا أن يأتي

الله بالفتح لبعض أبواب رزقه، أو أمر من عنده.

أما موعد فتح المدرسة في السنة الدراسية القابلة فسيكون - إن شاء الله تعالى-

في أول الخريف الثاني (منزلة العقرب) الموافق منتصف شهر ذي الحجة

الحرام خاتمة سنة 1333، فعسى أن تكون السنة القابلة سنة خير ويسر، وإن

جاءت بعد شدة وعسر {فَإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً} (الشرح:

5-

6) .

_________

ص: 313

الكاتب: صالح مخلص رضا

‌تقريظ المطبوعات الجديدة [*]

(كنز الحقائق من فقه خير الخلائق)

كتاب في فقه الحديث تأليف العلامة وحيد الزمان الملقب بالنواب وقار

نوازجنك بهادر، وطُبع في العام الماضي طبعًا حجريًّا في مطبعة شوكة الإسلام

ببلدة بنكلور بالهند على ورق جيد، وصفحاته 243 بقطع المنار، ويباع في مكتبة

المنار، وثمنه عشرة قروش.

الكتاب مختصر من كتاب مطول للمؤلف اسمه (نُزُل الأبرار من فقه النبي

المختار) ، وحسبنا من تقريظه ما يراه القراء في النموذج الذي اُقتبس منه، ونشر

في هذا الجزء من يسر مذهب أهل الحديث، على أن فيه مسائل اجتهادية،

وأغلاطًا معظمها من الناسخ منها ما يُدْرَك بالبداهة.

***

(البيان والتبيين)

كُتُبُ أبي عثمان الجاحظ كلها مختارة في الفصاحة والبلاغة عند أهل الأدب،

وهذا الكتاب منها أشهر من نار على علم، فهو مستغنٍ عن تقريظ أهل هذا العصر،

وحسبهم ما قاله فيه حكيم العرب، وإمام أهل العلم والأدب، عبد الرحمن بن

خلدون في الكلام على علم الأدب من مقدمته، وهذا نصه:

(سمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول فن الأدب، وأركانه أربعة

دواوين، وهي (أدب الكاتب) لابن قتيبة، و (كتاب الكامل) للمبرد، و (كتاب

البيان والتبيين) للجاحظ، وكتاب (النوادر) لأبي عليّ القالي، وما سوى هذه

الأربعة فتبع لها، وفرع عنها) .

وحسبنا من معرفة مكانة الجاحظ في البيان والبلاغة تنويه إمامهما الزمخشري

به في خطبة أساس البلاغة، وما كانت الخطب بموضع التنويه بالدهماء؛ ولكن قد

يذكر فيها أئمة العلماء والحكماء.

طبع كتاب البيان والتبيين بمصر منذ عشرين سنة طبعة رديئة كثيرة الأغلاط،

فاضطر الأدباء وطلاب الإنشاء إلى اقتنائها، والاستفادة منها على علاتها، حتى

نفدت نسخها، وغلا ثمنها، فسخر الله تعالى في العام الماضي محب الدين أفندي

الخطيب المحرر بجريدة المؤيد، وعارف أفندي المحايري لإعادة طبعه، فطبعاه

طبعًا حسنًا على ورق حسن، وعُني الأول منهما بتصحيحه، وضبط أشعاره

بالشكل، وقد تعب في مراجعتها في مظانها من الدواوين المخطوطة والمطبوعة،

وفي كتب اللغة والأدب تعبًا لا يعرف كنهه إلا من عُني بمثل ذلك، وقد جعل ثمنه

عشرة قروش من الورق النباتي، و15 قرشًا من الورق الأبيض، ويُطلب من

مكتبة المنار بمصر.

***

(الحنين إلى الأوطان)

نشر في جزء الشهر الماضي من المنار نموذج من هذا الكتاب مُصَدَّر بعبارة

وجيزة في وصفه، والفائدة من مطالعته كمطالعة سائر مصنفات مؤلفه، (الجاحظ)

مقرونة بالوعد بتقريظه، وقال صاحب المنار: إن هذا الكتاب يشرح غريزة حب

الوطن، التي هي من أقوى غرائز البشر، بأفصح العبارات المأثورة عن أبلغ

الأعراب، والشعراء، والكتاب، فهو من هذه الجهة كتاب فلسفة، كما أنه من

حيث عبارته أدب ولغة، ومن شواهد حب الوطن عن أهل هذا العصر ما اختبرناه

من حال مهاجرة السوريين في مصر وأمريكا وغيرهما من الأقطار، فإننا نراهم

على عراقتهم في المهاجرة، والاغتراب، وإثرائهم في بلاد أرقى من بلادهم عمرانًا،

وحرية لا يفتئون يحنون إلى أوطانهم على كثرة شكواهم من سوء حالها، وذمهم

لحكومتها، (قال) : وقد سمعت أصحاب المقتطف والمقطم يقولون منذ بضع

سنين: إننا لم نشتر شيئًا من الأثاث لبيوتنا إلا وكان يخطر في بالنا عند شرائه -:

إذا أتيح لنا العود إلى بلادنا فهل يكون هذا مما ننقله أو مما نبيعه؟ .

طُبع الكتاب بمطبعة المنار طبعًا متقنًا مضبوطًا على نفقة عبد الفتاح أفندي

قتلان مدير مكتبة المنار، وقد تولى تصحيح أصله، وضبطه، ووضع الحواشي،

والتفسير لغريبه الأستاذ الشيخ طاهر الجزائري الشهير، وثمنه قرش ونصف قرش.

***

(كتاب المسح على الجوربين، وكتاب الاستئناس لتصحيح أنكحة الناس)

(من تأليف الشيخ محمد جمال الدين القاسمي رحمه الله تعالى، طُبعا معًا في

مطبعة الترقي بدمشق الشام سنة 1332 وصفحاتهما 84 صفحة، ويُطلبان من

مكتبة المنار بمصر) .

هذان الكتيبان المفيدان من آخر ما كتبه عالم الشام، وفقيد الإسلام رحمه الله

تعالى، أتمهما في العام الماضي الذي توفي فيه، وموضوع الأول إثبات المسح

على الجوربين، وكل ما يستر الرجلين كالنعال السابغة، واللفائف، والتساخين

وفيه فوائد كثيرة في الحديث، والأصول، وقد أثبت المسألة بالدليل، ونقل فيها ما

يُؤثر عن أئمة الفقه.

قال منشئ المنار: وقد سبق لنا الإفتاء بهذا في المنار منذ بضع سنين فكان له

أحسن تأثير في تيسير الصلاة على كثير من أهل الترف والنعيم، كما أخبرني بذلك

بعض خواص المصريين المصلين، ثم أعدت إثبات ذلك بإيضاح في تفسير آية

الوضوء.

وأما هذا الكتاب، فقد استقصى كل ما يتعلق بالمسألة، وزاد ما زاد من

المسائل الاستطرادية كما هو شأن من يفرد مسألة صغيرة بالتصنيف.

وأما الكتاب الآخر فالغرض منها مقاومة ما عليه متأخرو المسلمين من

التساهل الذي يشبه الفوضى في أمر الطلاق، ورد ما جرى عليه كثير من الفقهاء

من الإفتاء بالطلاق في وقائع كثيرة لا تقوم الحجة على وقوع الطلاق فيها، ومن

مباحثه المفيدة التي عمت البلوى بها، مبحث طلاق الغضبان، والسكران، والهازل،

والمُكْرَه، والحالف بالطلاق، أو المعلق له يريد الترغيب أو الترهيب دون

الطلاق، والطلاق مرة واحدة بلفظ الثلاث، ومبحث وجوب الإشهاد على الطلاق

واشتراطه لصحته، ومن قال بذلك من أئمة آل البيت وغيرهم من الصحابة

والتابعين.

والقاعدة التي بُني عليها هذا الكتاب اللطيف، هي أن النكاح متى وقع وثبت

كان أمرًا يقينيًّا، فلا يزول بحكم اجتهادي؛ لأنه ظن لا يزول به اليقين، ولا بخبر

أحادي، ولا سيما إذا كان مطعونًا فيه كحديث (ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد:

النكاح والطلاق والرجعة) .

***

(نقابات التعاون الزراعية

نظامها وتاريخها وثمراتها في مصر وأوربة)

(طبع على ورق جيد بمطبعة النهضة الأدبية بمصر سنة 1332 صفحاته

245 بحجم المنار) .

هذا كتاب جديد من أفضل ثمرات النابتة الجديدة بمصر، ألفه عبد الرحمن بك

الرافعي المحامي، فخدم به هذه البلاد خدمة جليلة هي في أشد الحاجة إليها.

إن ثناءنا على هذا الكتاب تأييد لرأي صاحب المنار الذي بينه مرارًا في

مجلته، وفي الجرائد، وهو أن أحوج ما يحتاج إليه أهل مصر في هذا العصر

أمران (أحدهما) حفظ ثروتهم حتى تكون غلة أرضهم، وثمرات كسبهم خالصة

لهم، (وثانيهما) تعميم التربية الصحيحة مع التعليم على الوجه الذي تتكون به

الأمة، وأنه لا يقوم بهذه التربية مع التعليم إلا الجمعيات الخيرية.

فهذان الأمران هما: الركنان اللذان لا يرجى لمصر صلاح، ولا فلاح إلا

بهما، وهذا الكتاب مما يرفع بناء الأول منهما، ويَحْسُن منا في هذا المقام أن نعطر

تقريظ الكتاب بكلمة ثناء على عمر بك لطفي الذي أحسن الله خاتمة عمره بالعناية

بأمر النقابات الزراعية علمًا وعملاً، فكان قدوة صالحة لهذا المؤلف الذي يُعَدّ من

تلاميذه.

للكتاب فاتحة في موضوعه للمؤلف، ومقدمة لأحمد بك لطفي المحامي، وفيه

ثلاثة أبواب، عنوان أولها (التعاون في أوربة) وفيه 14 فصلاً، وعنوان الثاني

(التعاون في مصر) وفيه ستة فصول، الأول في نظام الحياة الاقتصادية عند الزراع

وعيوبه، الثاني في الدعوة إلى التعاون، وفيه بيان (الدور الأول) من جهاد عمر

بك لطفي، والثالث في (الدور الثاني من جهاد عمر بك لطفي، ومنشآت التعاون

التي أسسها، والنظام الذي اختاره لها) ، والثالث في أعمال النقابات الزراعية

بمصر، والخامس في قانون الخمسة الأفدنة، والسادس في التشريع الجديد

للتعاون، وعنوان الباب الثالث (نماذج تعاونية) ، وهذه النماذج تعلم قراء

الكتاب كيف يؤلفون النقابات الزراعية حسب القانون؟ ، وكيف يكتتبون لها؟ ،

وكيف يكون الشراء والسلف منها؟ إلى غير ذلك من المعاملات.

وقد قال المؤلف في فاتحة الكتاب ما نصه:

(على أننا بأخذنا بأسباب التعاون نحيي سنة قديمة، فإن نظام التعاون وإن

كان بشكله الحديث نظامًا غربيًا جديدًا، إلا أن الفكرة التعاونية في ذاتها، أي فكرة

تعاون الأيدي العاملة على القيام بالعمل المشترك، واقتسام أرباحه، وثمراته فكرة

قديمة عرفها أجدادنا العرب، فقد أثبت الأستاذ لوابو ليو في كتابه المطول في

الاقتصاد السياسي أن القوافل التي كانت تجوب البلاد العربية ما بين الحجاز والشام

بقصد المتاجرة ما هي إلا جماعات تعاونية وقتية يتعاون أفرادها على الكسب

والتجارة) .

***

(الحساب)

كتاب وضعه صديقنا محمد عبد الخالق أفندي إسماعيل الطالب في إنكلترة

تمهيدًا لكتاب سيضعه في علم الجبر، وقد صَدَّره بمقدمة حث فيها على نشر العلم

باللغة العربية (أوسع اللغات) ، وقد طبعه سنة 1332 في مصر بمطبعة البسفور

طبعًا نظيفًا على ورق متوسط؛ فجاءت صفحاته 168، ويُطلب من مكتبة المنار

بمصر، وثمنه 25 مليمًا.

الكتاب جزيل الفائدة، وفيه من الجداول، والرسوم، والأشكال ما يوضح

مسائله، وعبارته جزلة فصيحة، فنحث على اقتنائه.

***

(كتاب الفوز بالمراد من تاريخ بغداد)

تأليف الكاتب الاجتماعي الشهير الأب أنستاس الكرملي صاحب مجلة لغة

العرب، طبعه بمطبعة الشاهبندر في بغداد سنة 1339، وصفحاته 76، وثمن

النسخة منه خمسة قروش صحيحة، ويُطلب من مكتبة المنار بمصر.

والكتاب مستمد من كتب التاريخ العربية، والإفرنجية، ومن اختبار مؤلفه

الشخصي، وقد بدأه بتاريخ بغداد من عهد سقوطها على يد هولاكو سنة 655هـ

إلى سنة 329 أي سنة (تأليفه وطبعه) وفيه من العبر والعظة بتصرفات الأيام

شيء كثير.

***

(التقرير السنوي للجمعية الخيرية الإسلامية عن سنة 1914)

هذا التقرير كالتقارير السابقة يشمل مشروع أعمال الجمعية، وميزانيتها،

ومحضر جلستها العمومية، وفيه زيادة على ذلك أن نُشِرت في أوله صورة الكتاب

العالي السلطاني الصادر لهيئة الجمعية المؤرخ في 13 ربيع الأول 1333 و29

يناير سنة 1915 عدد 11، وهذه جملة منه قال بعد التحيات لهيئة الجمعية ما

نصه:

(هذا وقد اقتضت إرادتي أن يكون لقسم الإعانة بالجمعية نصيب من مساعدة

خزينتي الخاصة بفضل الله، كما أنها ستتكفل سنويًّا بالنفقات التي يحتاجها أنبغ

طالب من طلبة مدارس الجمعية لإتمام دروسه بأوربة، وأن تخصص ثلاث جوائز

للثاني، والثالث، والرابع من التلامذة مكافأة لهم، وتشجيعًا لإخوانهم)

إلخ.

ويؤخذ من هذا التقرير أن الجمعية قد اشترت أطيانًا مساحتها 16 فدانًا

وكسورًا، و4 آلاف و7 مئة و48 مترًا و27 سنتيمًا، وقد دفعت ثمنًا للجميع 9

آلاف وخمسمائة و24 جنيهًا و244 مليمًا، وأن النجاح في امتحان القسم الابتدائي من

مدارسها زاد على 67 في المئة، ويَسُرّ كل مسلم، وكل محب للخير استمرار نجاح

الجمعية وخدمتها للفقراء بالتعليم والإعانات.

***

(ذكرى الماضي أو: سياحة في الجبل)

مقالات وجدانية خيالية نشرها كاتبها محمد أفندي صبري الطالب بجامعة

باريس، وناشر كتاب (شعراء العصر) ، وقد اعتنى بجمعها، وطبعها كتابًا

مستقلاً صالح أفندي شكري أحد عمال جريدة المؤيد، وهي تُطلب منه، ومن

المكتبات الشهيرة.

***

(رواية الفلاح)

قصة تمثيلية أدبية وضعها عبد العزيز بك فريد ناظر مدرسة خليل أغا بمصر،

وحرر عبارتها الأستاذ الشيخ محمد الجمل أحد مدرسي المدرسة، ووضع أزجالها

الشيخ أحمد القوصي، وقد مثلها تلاميذ المدرسة في احتفالها السنوي، وهي مفيدة

جدًّا بما تحذر من البذخ والسرف، وتنقب عن العيوب الفاشية في هذا البلد، ومثلها

في ذلك ما وضعه عبد العزيز بك قبلها، وقد طُبعت طبعًا نظيفًا على ورق جيد

بمطبعة الخاصة الخديوية (السلطانية) في سنة 1914.

_________

(*) عهدنا بتقريظ المطبوعات إلى شقيقنا السيد صالح مخلص رضا.

ص: 315

الكاتب: محمد توفيق صدقي

مدرسة دار الدعوة والإرشاد

دروس سنن الكائنات

محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صدقي

(7)

العلوق وسبب الذكورة والأنوثة ومدة الحمل:

إذا تلقحت البويضة سقطت في الرحم بسبب ما في البوقين من الأهداب؛

وبسبب انقباضهما، ويجوز أن يكون للبويضة أيضًا حركة ذاتية كالأميبا، وأرجح

الأوقات لحصول الحمل أن يكون الجماع عقب الطهر - في الأسبوع الأول - من

الحيض، ويقال: إن هذا الجماع محرم عند اليهود، وهو من غرائب التشريع.

وبويضات المبيض الأيمن يرجح عند بعض العلماء الآن أنها هي التي يتولد

منها الذكر، وبويضات المبيض الأيسر يتولد منها الأنثى، ولذلك إذا نامت المرأة

على جانبها الأيمن بعد الجماع رجح إتيانها بالذكر، وقد عرف هذه الفائدة ابن سينا

كما في قانونه.

فإذا كان الجماع بعد حيض متفق مع انفجار بويضة المبيض الأيمن كان النسل

ذكرا، وبالعكس.

وإذا سقطت البويضة في الرحم علقت بغشائه المخاطي، وابتدأ تكوّن الجنين

في داخلها بانقسامها إلى عدة أقسام، ويكون الجنين في بطن أمه محاطًا بالرحم، ثم

بغشاءَيْنِ آخرين تابعين لنفس البويضة، وتكبر البويضة كبرًا عظيمًا، وتمتلئ

بسائل يحيط بالجنين من جميع جهاته يسمى السائل (الأمنيوسي [1] ) ، ويكون

الجنين معلقًا في هذا السائل بحبله السري الملتصق بالمشيمة بجدار الرحم، ويكون

رأس الجنين إلى الأسفل غالبًا، وظهره إلى الأمام، ولا يُفْهَم مما تقدم أن عروق

الجنين متصلة بعروق الرحم، بل هما متجاوران فقط، بحيث لا تختلط دورتهما

الدموية؛ ولكن المواد المغذية تصل من الأم إليه بطريق (الأسموز) ، وكذلك

المواد الفاسدة التي تخرج من الجنين تصل إلى دورة الأم بهذه الواسطة أيضًا بلا

اختلاط بينهما، ولا يتنفس الجنين في بطن أمه؛ وإنما دمه يتنقى بالطريقة

المذكورة، وأول تنفسه يكون عند استهلاله، أي صراخه عند خروجه من الرحم.

ومدة الحمل أقلها خمسة أشهر، أو أربعة ونصف، وأكثرها أحد عشر شهرًا

وقد يحصل في أحد البوقين حمل، أو في البطن خارج الرحم، وفي هذا الحال قد

تحمل الأم جنينها ميتًا عدة سنين؛ ولكن لا تضعه إلا بعملية جراحية.

شَبَه الجنين:

يقال: إن شَبَه الجنين تابع لمقدار الحيوانات المنوية الملقحة للبويضة، فإذا

دخلت بكثرة في البويضة أشبه أباه سواء أكان ذكرًا أم أنثى، وإذا كانت قليلة أشبه

أمه كذلك، فإذا كان الجماع بشدة ومقدار المني كثيرًا، وأنزل الرجل قَبْل المرأة

كثر دخول الحيوانات المنوية في البويضة فأشبه الولد أباه، إذا كان مقدار المني

قليلاً، وأنزلت المرأة قبل الرجل بطلت حركة الامتصاص من رحمها، فنظرًا لذلك

ولقلة مقدار المني يصل عدد قليل من الحيوانات المنوية إلى البويضة؛ فيكون الولد

شبيهًا بأمه، سواء أكان ذكرًا أم أنثى، ولذلك روى البخاري أن رسول الله - صلى

الله عليه وسلم - قال: " إذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء

المرأة ماء الرجل نزعت الولد " أي لأنه في هذه الحالة تبطل حركة الرحم في جذب

المني إليه؛ فتكون الحيوانات الداخلة فيه أقل مما إذا حصل القذف أثناء حركة

الرحم، أي قبل إنزال المرأة، والولد كل مولود ذكرًا كان أو أنثى.

النطفة والعلقة وأطوار الجنين وغير ذلك:

مما تقدم يُفهم أن الإنسان مخلوق من البويضة الملقحة بحيوانات الرجل،

وهذه هي النطفة الأمشاج التي ذكرها القرآن الشريف (76: 2) ، فإن النطفة هي

كل ماء قل أو كثر، فمني الرجل نطفة، وبويضات المرأة مع السائل السابحة فيه

المنفرز من حويصلات (جراف) ، ومن البوق يسمى أيضًا نطفة، والأمشاج

الأخلاط، فاختلاط المني بهذا السائل الذي فيه البويضة هو الضروري للحمل.

ولا يتوهمن أحد أن نزول البويضة من المبيض مما تشعر به المرأة، أو تلتذ

له بل هو شيء لا تشعر به مطلقًا.

ولا يمكن رؤية البويضة بالعين المجردة، وإن كانت من الخلايا الحيوانية

الكبيرة، فإن قطرها 0.2 من المليمتر، أما قطر كريات الدم البيضاء فهو 0.01

وقطر الحمراء 0.0075 من المليمتر.

واعلم أن الخصيتين تتكونان في الجنين في بطنه خلف البريتون، وتحت

الكليتين بقليل، ثم تنزلان شيئًا فشيئًا حتى تكونا في الصَّفَن في الشهر التاسع من

الحمل، فإذا وُلد الجنين قبل ذلك في الشهر السادس مثلاً كان الصفن خاليًا منهما.

وفي أثناء التكوين تنقسم بويضة المرأة كلها داخل غشائها الذي يتمدد تدريجيًّا

كلما كبرت، وكذلك بويضة الحيوانات الثديية، أما بويضة الطيور فينقسم جزء

منها فقط - كما تَقَدَّم -.

أما العلقة المذكورة في القرآن الشريف، فهي أول أطوار الجنين وتكون

مركبة من عدة خلايا صغيرة ككريات الدم لم يتميز شيء من أجزائها، وهذه الخلايا

تنشأ من انقسام البويضة بعد التلقيح إلى عدة خلايا فلذا تشبه علقة الدم [2](clot)

خصوصًا التي تتركب من الكريات البيضاء التي تسمى بالإنكليزية (Buffy

coat) (راجع ص48 من هذا الكتاب وص 410 من كتاب فسيولوجيا هاليبرتون

Halliburton) .

فإذا تمت هذه العلقة أخذت تتنوع خلاياها، وتتميز بعض أجزائها عن البعض

الآخر، ويكون حجمها في آخر الشهر الأول كحجم بيضة الحمامة وهي (المضغة)

لأنها تكون قدر ما يمضغ في الفم، وبعضها مُخَلَّق، والبعض الآخر غير مُخَلَّق كما

قال تعالى في سورة الحج (22: 5) ، ومما يظهر في ذلك الوقت الأطراف العليا،

والأطراف السفلى، ويتميز القسم الأيمن من القلب عن القسم الأيسر، ثم تظهر آثار

العظام الأخرى.

وفي الأسبوع السابع يبتدئ ظهور العضلات بعد ظهور العظام المذكورة،

وذلك بتنوع الخلايا التي كانت تحيط بالعظام، والمراد هنا الغضاريف التى تصير

عظامًا، كما أن المراد بالخمر في قوله تعالى {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} (يوسف: 36) العنب الذي يصير عصيره خمرًا.

فإذا تم نمو الجنين، ووُلد خرج وهو لا يدري شيئًا، ثم يتعلم كل شيء

بالتدريج حتى يصير كأنه خلق آخر، فبعد أن كان لا يعي شيئًا يصبح يخترق

الحجب بعقله، ويصل إلى الملكوت الأعلى بفكره {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ} (المؤمنون: 14)

ومما تقدم تجد أن الأطوار المذكورة في القرآن هي عين الحقيقة، وهاك بيانها

كما وردت في سورتي الحج والمؤمنين:

(1)

طور النطفة: وهي الماء فتطلق على مني الرجل، وعلى السائل

الذي تسبح فيه البويضة، وأصله من حويصلة جراف ومن البوق، كما سبق.

وفي هذا الطور تُلقِّح الحيوانات المنوية البويضة فتكون النطفة - بعبارة

القرآن - أمشاجًا.

(2)

طور العلقة: وهي انقسام البويضة بعد تلقيحها إلى عدة خلايا متماثلة

لا تمتاز واحدة منها عن الأخرى، وتكون كقطعة الدم الجامدة.

(3)

طور المضغة: وهي البويضة إذا كبرت حتى صارت قدر ما يُمضغ

ويكون بعضها مخلقًا، وبعضها غير مخلق، وهو طور التخليق والتكوين الابتدائي

(4)

طور الإتمام: وذلك يبتدئ بظهور الأجزاء الرخوة كالعضلات التي

تكسو العظام، وينتهي هذا الطور بتمام الخلق.

(5)

طور التربية والتعليم بعد الولادة: وهو المُعَبَّر عنه في القرآن بالخلق

الآخر؛ لأن الإنسان الذي كان أحط من الدابة يصبح أرقى الأحياء قاطبة؛ لذلك قال

سبحانه جل شأنه: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} (نوح: 14) .

هذا وقد يحصل التلقيح فإذا وصلت البويضة إلى الرحم، وعلقت به وماتت

بسبب ما كالتهاب غشائه طردها الرحم أو امتصها، وهذا الامتصاص هو المُعَبَّر

عنه في القرآن الشريف (13: 8) بقوله {وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ} (الرعد: 8)

وقد يمتص الرحم الجنين، أو أحد التوأمين في أحوال أخرى.

أما قوله تعالى {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِّنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ} (الزمر: 6) فالظلمات إما أن يراد بها ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة

الأغشية الجنينية المحيطة بالسائل الأمنيوسي.

وإما أن تكون الظلمات هي: ظلمة المبيض الذي تتكون فيه البويضة في

داخل حويصلة جراف، ثم ظلمة البوق حينما تتلقح البويضة بالحيوانات المنوية،

ثم ظلمة الرحم الذي يتخلق فيه الجنين.

وفي أثناء الولادة تنثقب أغشية الجنين، وينسكب ماؤها فيخرج الجنين، ثم

تتبعه هذه الأغشية مع المشيمة (وهي أغلظ جزء في الأغشية، وفيها يندغم الحبل

السري، ومنها يتغذى الجنين وإليها تخرج فضلات جسمه) وأيضًا تسقط أغشية

الرحم، ثم تتجدد بعد الولادة، والجنين في بطن أمه لا يتنفس ولا يأكل ولا يشرب

وإنما يأخذ من دم أمه كل ما يحتاج إليه؛ وكذلك لا يتبرز بل تتجمع في أمعائه

إفرازات الكبد والأمعاء وتخرج بعد الولادة وتسمى بالعِقي.

وقد يبول الجنين في بطن أمه في أشهره الأخيرة، فإن السائل الأمنيوسي وجد

فيه مقدار قليل من البولينا بسبب بول الجنين فيه.

ومقدار السائل الأمنيوسي نحو لتر أو اثنين عادة، ووظيفته حماية الجنين من

الضغط عليه، وحفظه من التصاقه بالأغشية، وتمديد عنق الرحم عند الولادة،

وغسل المهبل حينئذ.

والجنين يتحرك في بطن أمه بنفسه وبحركتها وهذه الحركات تشعر بها الأم

وتبتدئ في الشهر الخامس غالبًا.

وقد يحصل حمل فوق حمل بمعنى أنه إذا حصل جماع بعد الحمل الأول

ببعض أسابيع يجوز أن يحصل حمل آخر، وهذا غير الحمل التوأمي المشهور،

فإن سببه أن تتلقح فيه بويضتان، أو أكثر في وقت واحد، أو وقت قريب، أو

يكون للبويضة الواحدة أكثر من نواة، وإذا كانت البويضات من مبيض واحد كانت

التوائم من نوع واحد ذكرًا أو أنثى بحسب المبيض اليمين أو اليسار، وتكون التوائم

أيضًا من نوع واحد إذا كانت ناشئة من بويضة واحدة ذات نويات متعددة.

أسباب العقم:

هذه الأسباب عديدة، منها: أن يكون السبب فساد زرع الرجل لمرض في

خصيتيه، ومنها مرض المبيضين أو البوقين أو الرحم نفسه، أو وجود إفرازات

في المهبل شديدة الحموضة بحيث تقتل الحيوانات المنوية، وأشهر الأمراض التي

تُحْدِث العقم في الرجل والمرأة داء السيلان، ومن الأسباب أيضًا الجماع المختلط

كما في الزنا، بأن يتوارد عدة رجال على امرأة واحدة، ولذلك قيل في المثل

الإنجليزي " لا ينمو العشب حيث يكثر دوس الأقدام ".

ومن الأسباب أيضًا ما لم تُعْرَف إلى الآن حقيقته كأن تكون المرأة والرجل

سليمين من كل آفة، ومع ذلك لا يأتيان بنسل، فإذا تزوج هذا الرجل امرأة أخرى

وتزوجت هي رجلاً آخر أنتج كل منهما.

وإذا أريد منع الحمل فلا طريقة أحسن لذلك سوى قتل الحيوانات المنوية أثناء

الجماع، وذلك بوضع سوائل أو غيرها في المهبل تكون قتالة لها كمحلول السليماني

بنسبة 1 - 2000، ومحلول حمضي من سلفات الكينيين، فتغمس قطعة من القطن

بهذه السوائل أو غيرها، وتحشى في المهبل بحيث تسد فوهة الرحم، فهذه الطريقة

في الغالب قد تبطل الحمل ما دامت مستعملة فإذا تركت عاد الحمل.

مراعاة الصحة في الجماع:

الإكثار من الجماع ضار جدًّا مؤد إلى الضعف الجسماني والعصبي، ويُعَرِّض

الإنسان إلى أمراض كثيرة كالالتهابات الكلوية، والشلل العام للمجانين، ويحدث

الاصفرار، وخفقان القلب وضعفه، فلذا يجب اجتناب الإفراط فيه، والمحمود منه

طبًّا هو ما نصوا عليه في كتب الشرع، وهو أنه ينبغي إذا اشتهته النفس اشتهاء

حقيقيًّا بدون أن يهيج الإنسان شهوته بمهيج ما، وتختلف الرغبة في الجماع والقدرة

عليه باختلاف الأشخاص، ولذلك لا يمكننا تحديد القدر الصحي منه بالضبط،

والغالب أنه لا يضر الإنسان إذا أتاه مرة أو مرتين في الأسبوع بشرط أن يكون

سليم البنية قوي الجسم.

ولا يجوز إتيان الحائض شرعًا وطبًّا - كما سبق بيانه - وكذلك لا يجوز

الجماع عقب الأكل مباشرة، ولا عقب التعب الجثماني أو العقلي الشديد، وأحسن

وقت له أن يكون بعد مضي الثلثين من وقت النوم أو النصف؛ فإن النوم بعده نافع

للجسم مانع من إصابته ببعض الأمراض كالزكام والسعال وغيرهما مما قد ينشأ عن

الضعف الذي يُحْدِثه، أما ضرره في أول الليل فهو لأن الجسم في ذلك الوقت يكون

تعبان والمعدة في الغالب تكون ممتلئة، فلذا يحسن النوم قبله وبعده.

ومن أهم ما يقوي الجسم وينشطه على هذا العمل، ويزيل الآلام، ويمنع

بعض الأمراض التي قد تنشأ عنه - الغُسل خصوصًا بالماء الحار؛ ولذلك كان

الغسل واجبًا شرعًا.

أما الاستمناء باليد فهو من أضر الأشياء للصحة والعقل، وهو أضر بكثير

من الإفراط في الجماع، فإنه يُضْعِف قوى الجسم والمخ والأعصاب، وكثيرًا ما

يصاب صاحبه بالصرع أو بالجنون، وهذا الضرب من الاستمناء يسمى أيضًا

(جلد عُمَيْرَة) وينسبه الإفرنج إلى رجل من بني إسرائيل من أبناء يهوذا يسمى

(أونان) ، ولكن الوارد في التوراة أن هذا الشخص كان يأتي العَزْل، لا الاستمناء

باليد، وغضب الله عليه لأنه لم يرد أن يقيم نسلاً لأخيه (راجع سفر التكوين 38:

6 -

10) .

ومن البنات من تفعل هذا الفعل القبيح أيضًا خصوصًا إذا كان بظرها كبيرًا

ولم يُقْطَع.

أما العَزْل من الوجهة الطبية، فهو أيضًا مضيع للذة، مضر بالصحة،

والظاهر أنه مكروه في الشريعة الإسلامية، ولذلك بَيَّنَ رسول الله - صلى الله عليه

وسلم - في الحديث السابق أنه من العبث الذي يتنزه العاقل عنه، خصوصًا لأنه

مضيع للذة بلا فائدة محققة، وقال فيه أيضًا:(ذلك هو الوأد الخفي) ، وذلك لأنه

وإن لم يكن مانعًا محققًا للنسل، فهو لا شك مقلل له كثيرًا فكان إتيانه لذلك مذمومًا؛

لأنه ينافي كثرة التناسل التي حث عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

مضار الزنا:

للزنا مضار كثيرة منها الإصابة (1) بالداء الإفرنجي (2) أو السيلان

(3)

أو القرحة الأكالة (4) أو القرحة الرخوة (5) أو القمل العاني وغيره،

ويوجد بعض أمراض أخرى جلدية وباطنية قد تعدي بسببه مثل الجرب والأرضة

(Tinea) ، والسل الرئوي، ولا تنس مع هذا مضاره الأدبية والدينية

والاجتماعية والمالية وكل هذه الأشياء الأخيرة ليس من غرضنا التكلم عليها هنا

وإليك بعض تفصيل ما ينشأ عنه من الأمراض:

(1)

الإفرنجي:

ويسميه الإفرنج (Syphilis) وهي كلمة غير محقق أصلها، ويمكننا أن

نسميه بالعربية (التهويش) ، وبلسان العامة (التشويش) ، وأما كلمة الزهري

فهي في الحقيقة نسبة لجبل الزهرة - كما سبق - وتطلق عند الإفرنج على أهم

الأمراض التي تنشأ عن الجماع، فهي عندهم ليست خاصة بهذا الداء وأصله من

أمريكا ودخل مصر بدخول الإفرنج فيها؛ ولذلك سمي (بالداء الإفرنجي) .

ولهذا الداء ثلاثة أطوار:

(1)

الطور الأول: ظهور القرحة، وهي شيء كالدمل يظهر في العضو

مكان التلقيح بالميكروب، فمثلاً إذا جامع الرجل امرأة مصابة بهذا الداء، وكانت

قروحه في فرجها فقد ينتقل إليه الداء، وتظهر عنده هذه القرحة الأولى في فرجه أو

ما قاربه كالعانة، وكذلك إذا قَبَّلَهَا في فمها مثلاً، وكان فيه شيء من قروحه وبثوره

ظهرت في فيه أولاً، وقد ينتقل بواسطة أدوات الأكل والشرب وغيرهما.

وهذه القرحة تظهر عادة بعد خمسة أسابيع من الجماع أو التقبيل وغيرهما،

وذلك لأن ميكروب الزهري (وهو حلزوني الشكل)[3] إذا انتقل إلى الإنسان

يتكاثر في جسمه حتى يمتلئ الدم به، وعندئذ تظهر القرحة بطور الحضانة أو

التفريخ، ومما يساعد على دخول الميكروب وجود أي جرح أو سَحج في بشرة

الجلد الذي يلامس المرأة المصابة؛ ولكنه غير ضروري، والقروح الإفرنجية

الأولى منها ما يكون صلبًا، ومنها ما يكون رخوًا تسيل منه مِدَّة، وصديد، وهذه

القروح كثيرة في فروج الزناة والزانيات.

(2)

الطور الثاني: ظهور طفح مخصوص في الجسم كله، له أشكال

متعددة، مع قروح في الأغشية المخاطية أيضًا، وله أعراض أخرى غير ذلك،

كضخامة الغدد اللمفاوية في الجسم كله خصوصًا في الأربية والقفا، وكانوا يقولون

إن الطور الأول والثاني هما المُعْدِيان دون الثالث؛ ولكن ثبت الآن حصول العدوى

في جميع الأطوار الثلاثة، إلا أنها في الأخير منها قليلة جدًّا أو نادرة، وإذا تزوج

شخص مصاب أصيب نسله بالإفرنجي أيضًا، ويبتدئ ظهور الطور الثاني بعد

مضي 6 أسابيع إلى 3 أشهر من ظهور القرحة الأولى.

(3)

الطور الثالث: هو عبارة عن ظهور أورام متعددة تصيب أي جزء

من أجزاء الجسم، وهذه الأورام عبارة عن مادة تشبه الأزرار اللحمية التي تلتحم

بها الجروح، وتسمى هذه الأورام بالأورام الصمغية، وإذا أصابت أي جزء من

الجسم أفسدته وشوهته، وكثيرًا ما تبطل عمله أو تعطله على الأقل، وهذا الطور

يبتدئ بعد سنة أو سنتين من مبدأ التلقيح، وربما استمر إلى نهاية العمر بأشكال

متعددة تختلف باختلاف العضو المصاب.

ومن المشاهدات الغريبة في أمر هذا الداء أن الطفل المولود من أب مصاب

به لا يعدي أمه؛ وإنما يعدي المراضع الغريبات، ويسمى ذلك بقانون كوللس

(Colles) ، ويعللون ذلك بأن الأم تلقحت بالمرض تلقحًا خفيفًا لم تظهر أعراضه.

والإفرنجي من الأدواء العضالة التي يمكننا أن نقول: إنها من أهم الأسباب

لأمراض جميع أعضاء الجسم، ويؤثر في الأعصاب تأثيرًا سيئًا جدًّا، فَيَحْدُث فيها

أنواع كثيرة من الشلل والآلام، وقد يؤدي إلى المرض المذكور سابقًا المسمى

بالشلل العام للمجانين، ويكفي في ذمه أن نقول إن ضرره ليس قاصرًا على

الشخص نفسه، بل قد يقتل جنينه في بطن أمه، وإذا ولد كان النسل ضعيفًا مشوهًا

مصابًا بالقروح المتنوعة.

وأحسن الأدوية له في الطور الأول والثاني الزئبق ومركباته، وفي الطور

الثالث يودور البوتاسيوم، وكذا حقنة 606 [4] أو 914 في الأوردة أو العضلات -

وكل منهما مركب زرنيخي - استُعمِل أخيرًا في معالجته، وسيأتي الكلام عليها

تفصيلاً في الجزء الثاني، وللوقاية منه يجب غسل ما لامس المريض غسلاً جيدًا

بالماء والصابون، ثم بالأدوية المطهرة كالسليماني وغيره بنسب مخصوصة بعد

اللمس مباشرة.

(2)

السيلان:

السيلان داء يصيب بعض الأغشية المخاطية وغيرها فيحدث فيها التهابًا يسيل

منه صديد، وله ميكروب مخصوص معروف، وأكثر الأعضاء إصابة به الفرج

والدبر والأنف والعين - ويسمى فيها بالرمد الصديدي - ومن مضاعفاته التهاب

الخصيتين والخراجات الأُرْبيَّة والتهاب المثانة والتهاب الرحم والبوقين والمبيضين

وغير ذلك، وقد ينشأ عنه مرض في المفاصل مؤلم جدًّا، ويكون معضلاً (عسر

الشفاء) ، وهو من أعظم الأسباب المؤدية للعقم في الرجل والمرأة - كما سبق -.

(3)

القرحة الأكالة:

هي قرحة مخصوصة تضاعف القروح الإفرنجية وغيرها؛ ولكن حصولها

في القروح الإفرنجية أكثر منه في غيرها، فإذا أصابت القضيب مثلاً أو الفرج

أكلته كله، أو بعضه وربما أفقدت الإنسان خاصية التناسل طول حياته فيضيع نسله.

(4)

القرحة الرخوة البسيطة:

هي قرحة أخرى لها ميكروب مستطيل الشكل أكثر ما تصيب الفرج في الذكر

والأنثى، فتذهب منه جزءًا صغيرًا، وكثيرًا ما تسبب خراجًا في الأربية أيضًا

وهي من أهون الأمراض الزهرية (أي التي تنشأ من الجماع) .

(5)

القمل:

يشاهد في كثير من الأشخاص قمل في رءوسهم وأجسامهم وعانتهم وهو ثلاثة

أنواع، وينتقل من شخص إلى آخر بالملامسة أو المجاورة، وقمل الجسم هو

السبب الوحيد لنقل الحمى الراجعة قطعًا، فلذا يجب العناية بتنظيف الجسم منه،

زد على ذلك كونه يُحْدِث حكة في الجسم، ويقلق راحة الإنسان، وقد تنشأ عنه

حمى غير الحميات المذكورة آنفًا لسم فيه، أو لاضطراب عصبي يحدث من قرصه

ومن الطرق لإزالته غلي الملابس وحلق الشعر والإدهان بزيت الصخر (البترول)

ومرهم الراسب الأبيض - إذا كان الجزء المصاب محدودًا - وإلا اكْتُفِيَ بما ذُكر

قبله خوفًا من امتصاص الزئبق الذي في هذا المرهم فيسمم الجسم، وتجب إطالة

مدة غلي الملابس؛ فإنه شوهد أن بعضه يعيش في طيات الثياب وإن وضعت في

الماء الغالي مدة خمس دقائق أو أكثر، وبيض قمل الجسم (الصئبان) يشتمل أيضًا

على ميكروب الحمى التيفوسية، والحمى الراجعة، فإذا فقس وخرج منه قمل جديد

كان ناقلاً أيضًا لهذين النوعين من الحمى.

(6)

الجرب:

الجرب داء يصيب الجلد خصوصًا ما بين الأصابع والفخذين وأعضاء

التناسل، وينشأ من حُييوين أصغر بكثير من القمل العاني، يسمى باليونانية

أكروس [Acarus](ومعناها لا يتجزأ) وله ذكر وأنثى، أما الأنثى فبعد أن

يلقحها الذكر تتخذ من الجلد جحورًا تبيض فيها نحو خمسين بويضة، ويبقى الذكر

فوق سطح الجلد، فإذا أفرخت البويضات خرجت حييوينات جديدة، وإنما تفرخ

البويضات حينما تظهر على سطح الجلد بزوال البشرة وتأكلها بالتدريج، وتحمل

الإناث من جديد وتثقب الجلد أيضًا كأمهاتها وهلم جرا، وما تُحْدِثه هذه الحييوينات

في الجلد من التهيج يكون سببًا تحصل به حكة شديدة تنشأ عنها قروح وبثور تؤذي

الإنسان كثيرًا.

ومن أحسن طرق علاجه الاستحمام بالماء والصابون مع الدلك الشديد جدًّا

حتى يزول جزء من البشرة، وتنفتح الجحور بقدر الإمكان، ثم يُدهن الجسم بمرهم

الكبريت، ويجب غلي جميع الملابس، وكل ما لامس جسم المصاب منعًا لتكرار

العدوى له، أو انتقالها إلى غيره، ويتكرر الاستحمام والإدهان بالمرهم بضعة

بضعة أيام حتى يزول الداء.

(7)

الأرضة:

الأرضة داء - يسمى باللاتينية تينيا Tinea [5]- يصيب الجلد أو الرأس أو

الأظفار، فيحدث بهما التهابًا وحكة، وهو ينشأ من نمو فطر (أحياء نباتية مجهرية)

في هذه الأجزاء وأحسن علاج له النظافة التامة، والأدوية المطهرة كالمراهم

الزئبقية والكبريتية وصبغة اليود ونحو ذلك، ولكن يجب قبل ذلك نتف شعر المكان

المصاب أو حلقه - والنتف أولى - وكذلك تُغلى الملابس لمنع تكرار العدوى.

(8)

السل:

سنفصل القول في السل تفصيلاً في باب الأمراض المعدية، إن شاء الله.

ويكفي أن نقول هنا كلمة مختصرة في عدواه بطريق التنفس:

ينشأ هذا الداء من ميكروب مستطيل الشكل كالعصية ولذلك يسمى باللاتينية

باسيلس (Bacillus) أي العصا الصغيرة [6] اكتشفه البكتيريولوجي الألماني

الشهير المسمى كوخ (Koch) سنة 1882 م، وهو يوجد كثيرًا في بصاق

المصابين بالسل، ويخرج أثناء السعال في ذرات البلغم وينتشر حول المصاب إلى

بعد متر ونصف تقريبًا، فيكون الجو حوله ملوثًا به، فإذا دخل مع التنفس في رئة

شخص مستعد لهذا الداء أصيب به، وذلك بتكون درنات صغيرة بيضاء اللون في

الرئة أو غيرها، وهذه الدرنات تكبر وتتكاثر وينضم بعضها إلى بعض وتُحْدِث

فيها تجاويف تسمى بالكهوف، ويحصل سعال شديد مصحوب بدم أو صديد،

وترتفع حرارة المريض، وتضعف قواه، وينحف جسمه ويصاب بالأرق من كثرة

السعال وغيره بالعرق الكثير بالليل، وقد يحصل له إسهال متعاصٍ، أو بحة في

الصوت من التهاب الحنجرة وتقرحها وغير ذلك حتى تنهك قواه فيموت.

***

مضار الزنا الاجتماعية

هذا وإننا نختم هذا المبحث بذكرى ونصيحة، إذا لم تكن من وظيفة الطبيب

من حيث هو طبيب، فهي مما يحسن منه من حيث هو إنسان، وهي التحذير من

مضار الزنا الاجتماعية، وليس من غرضنا التكلم عليها هنا تفصيلاً - كما قلنا -

إلا أننا نُذَكِّر الناس إجمالاً بحقيقة لا تعزب عن عقل المفكر: تلك أن الزنا يُفقد

المحبة الأبوية لنسل الزانيات، فلا يهتم المرء بحياة الأطفال، ولا بصحتهم، ولا

بتربيتهم، ولا بمستقبلهم اهتمام من يعلم أن المولود هو ابنه، حتى يؤثره على نفسه

في كل شيء غالبًا، فيكثر بسبب ذلك موت الأطفال أو قتلهم، وتسُوء صحتهم وتفسد

أخلاقهم، ويصبحون عالة على المجتمع، أو متشردين مفسدين، ولا تحسن الأم

وحدها القيام بتلك الشؤون على ما لديها من الشواغل والصوارف عنها، كتحسين

منظرها وملاقاة الرجال المتنوعين، والملق لكل منهم، والتحبب إليهم، فهذه

الشؤون لا تدع لها وقتًا، ولا قلبًا توجهه إلى شيء آخر، ولذلك ترغب الزانيات

عن النسل ويقتلنه إذا وجد، أو يلقين به في الطرقات، وفي ذلك من الأضرار

بالأمة ما فيه، زد على ذلك أن الزنا يُحْدِث البغض والحقد والحسد بين الأفراد

والبيوت، ويقطع كل رابطة للمودة والرحمة بين المرء وزوجه، ويحمل الناس

على خيانة بعضهم بعضًا، وعلى الكذب ويضيع الحقوق في المواريث المالية

وغيرها، فتفسد الأخلاق، وتكثر الشحناء والمخاصمات التي تسفك فيها الدماء،

وتستباح الأموال والأعراض، فتتنافر الأمة ويتناقص عددها، وتزول روابط

المحبة من بين أفرادها، وفي ذلك هدم وإزالة لعزها وسلطانها، وتقويض لدعائم

بنيانها، فتهوي في مهاوي الفساد حتى تستقر في الدرك الأسفل من الفقر والضعف

والانحطاط والتأخر لذلك وصف الله تعالى الزنا بقوله: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ

سَبِيلاً} (الإسراء: 32) لِمَا يُوجِده بين الناس من البغض والحقد والكره فيهدم

أركان الأسرة أولاً، والأمة ثانيًا، والمجتمع الإنساني ثالثًا.

***

اللواط

الأمراض التي تنشأ عنه، هي عين الأمراض السابقة تمامًا، وتزيد عنها

غالبًا في إحداث جروح في الذكر وفي الشرج، وإذا تضاعفت هذه الجروح ببعض

الأمراض نشأ عنها ما لا تُحْمَد عقباه، وترتخي عضلات الشرج حتى قد يسهل

نزول البراز وغيره بغير إرادة الإنسان، وهو مفسد للأخلاق، ومبيد للشهامة

والرجولية، وقاضٍ على الآداب كافة، وما انغمست فيها أمة إلا انحطت وتدهورت

لتخنث رجالها، وذهاب نجدتهم، ومروءتهم، وهمتهم، فلا تصلح بعد ذلك لمقاومة

أعدائها؛ فيتغلبون عليها وتبيد شيئًا فشيئًا، زد على هذا أن الرجال المنغمسين في

تلك الشهوة الدنيئة يقل ميلهم إلى النساء كثيرًا؛ فيقل عدد الأمة فتضعف أيضًا من

هذه الوجهة، نعم إن اللواط أخف ضررًا من الزنا من وجهة واحدة اجتماعية،

وهي أنه لا تضيع بسببه الأنساب، ولا توجد به اللقطاء، فهو أقل بذلك إضاعة

لحقوق العباد والأولاد، أما تحريمه فيكفي في بيانه ما ورد في القرآن الشريف في

قصة لوط، وأما حده فقد ورد فيه قوله تعالى على أصح التفاسير: {وَالَّلذَانِ

يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا} (النساء: 16) الآية ، فلوِليّ الأمر أن يؤذي أهل اللواطة

بما يتفق عليه الأمة من العقاب الرادع لأهل هذه الطائفة المحتقرة الدنيئة.

وقد أجمعت الأمم على استقباح هذه الشهوة البهيمية حتى سماها الإنجليز

(الرذيلة المغايرة للطبيعة)[Unna tural Vice] .

***

سن الزواج بالفتيات

كتبت مقالة بهذا العنوان حينما أراد أحد المحامين المصريين (زكريا بك نامق)

أن يطلب من الحكومة سَن قانون تحدد فيه سِن الزواج للبنات بالسنة السادسة

عشرة، ولاشتمال هذه المقالة على عدة فوائد تناسب الفصول السابقة في الكلام على

الجهاز التناسلي أردت إثباتها هنا لإفادة قراء محاضراتي هذه وقد أنصف هذا

المحامي الفاضل فكف عن اقتراحه هذا بعد ظهور مقالتي هذه في الجرائد ومقالات

غيري من أفاضل الأطباء والفقهاء و [سحبه] بعد أن قدمه للجمعية التشريعية.

وهاك نص مقالتي كما نُشرت في عدد 10956 من جريدة الأهرام الصادر

يوم الخميس 12 مارس سنة 1914 - 15 ربيع الآخر سنة 1332:

لما لهذا الموضوع من العلاقة الكبرى بالشريعة الإسلامية الغراء، وبالمسائل

العلمية والاجتماعية والقانونية أردت أن أمحصه تمحيصًا، وأحرر مسألته تحريرًا،

ليصل حكمنا فيه إلى نتيجة نافعة لأمة مبنية على أساس متين من البحث والنقد حتى

لا يكون مبنيًّا على التسرع، وحب التقليد فأقول:

من المعلوم أن سن البلوغ تختلف باختلاف حرارة الجو والبيئة والوراثة،

ففي الهند مثلاً كثيرًا ما تبلغ الفتاة في السنة التاسعة من عمرها، ولكن في البلاد

الباردة كإنجلترة تجد أن سن البلوغ هو من 14 - 16 سنة، وفي البلاد التي هي

أشد بردًا منها يحصل البلوغ في السنة السابعة عشرة أو الثامنة عشرة، أما في

مصر فالغالب أن يكون في السنة الثانية عشرة إلى الرابعة عشرة، وذلك في مثل

مديرية الجيزة لا في مديرية أسوان، وللبيئة أيضًا تأثير في زمن المحيض، فإنك

ترى أن الفتيات اللاتي يكثرن من الاختلاط بالشبان يُسرع مجيء المحيض إليهن،

وكذلك اللاتي يكثرن من قراءة الروايات الغرامية ونحوها ومشاهدة تمثيلها، أما

الوراثة فهي تؤثر أيضًا في قرب زمن البلوغ، فإذا بلغت الأم وهي صغيرة جدًّا

كانت ابنتها مثلها في ذلك.

وفي سن البلوغ يكبر الحوض، ويظهر شعر العانة، وتكبر أعضاء التناسل

والثديان، وتستعد المرأة للقيام بوظيفتها التناسلية التي خُلقت لأجلها، وقد اتفقت

كلمة علماء التشريح على أن نمو عظام الحوض الذي من شأنه أن يؤثر في سعة

أقطاره يتم في زمن البلوغ أو بعده بقليل، وذلك لا ينافي أن التحام عظام الحوض

لا يتم إلا في نحو الخامسة والعشرين غالبًا، وإذا حملت المرأة لانت مفاصل

حوضها، وتمددت لا فرق في ذلك بين الصغيرة والكبيرة، وإنما إذا تأخرت المرأة

في الزواج يبست عضلات العجان والرحم، وربما نشأ عن ذلك إجهاض أو عسر

في الولادة بسبب عسر تمدد هذه الأجزاء التي تفقد مرونتها الطبيعية كلما كبرت

البنت، ويغلب العقم أيضًا فيمن يتأخرون عن الزواج.

وقد وجد بعض الباحثين مثل (بروس ودنلوب) في بلاد الحبشة والبنغال

أمهات لا يزيد عمر إحداهن عن إحدى عشرة سنة، وكذلك وجد في أوربة - وإن

كان ذلك قليلاً - أمهات ولدن أولادًا أصحاء في السنة الثالثة عشرة من عمرهن،

حتى وجدوا بنتًا حاملاً في سويسرة في السنة التاسعة، وظهور الحيض في هذه

السنة ليس نادرًا في أوربة كما تقول كتبهم.

لذلك كله ولغيره اعتبرت الشريعة الإنكليزية مثلاً أن السن القانونية للزواج

(عندهم) هو 14 للذكور و12 للإناث، أما زواج الأطفال القاصرين فتعتبره صحيحًا

بشرط أن لا يبدو من الطرفين إذا وصلا إلى سن البلوغ طعن في العقد السابق

(راجع صفحة 56 من كتاب أصول الطب الشرعي لمؤلفيه جاي وفرير

الإنكليزيين) ، فمن أعجب العجائب بعد ذلك أن يقوم بعضنا في هذه الأيام

ويطلب تضييق شريعتنا الإسلامية الغراء بما لم يفعله الإنكليز في بلادهم الباردة،

وهم أرقى منا بكثير في سائر شؤونهم العلمية والمدنية والاجتماعية! !

أما زعم هؤلاء المضيقين أن الفتاة إذا تزوجت قبل تمام نموها وقف هذا النمو

فهو غير صحيح، بل تكذبه المشاهدة العامة، فإن الحمل لا شك يسرع في تمام نمو

الجسم كله؛ ولذلك تجد الفتاة بعد الولادة يكبر جسمها بأسرع من الفتاة التي لم

تتزوج، أما دعوى أن الفتاة إذا حملت وهي صغيرة ضعف جسمها عما إذا حملت

وهي كبيرة فهي غير مُسَلَّمة، ولا يمكن إثباتها إثباتًا قطعيًّا، وإنما هي دعوى

يرددها بعض الأطباء تقليدًا لبعض بلا بحث ولا تمحيص، فإن الفتاة الكبيرة تكون

ليبس أعضائها أكثر عرضة للعقم وللإجهاض أو عسر الولادة من الفتاة الصغيرة -

كما سبق- ولا يخفى ما ينشأ عن الإجهاض وعسر الولادة من المضاعفات المرضية

كفقر الدم الشديد بسبب النزف الرحمي والتمزقات العجانية وما يتبعها كالنواصير

وسقوط المهبل أو الرحم وغير ذلك، بل ربما قضت المرأة نحبها في الإجهاض أو

الولادة العسرة، نعم إن الطفل المولود من الفتاة الصغيرة يكون في أول الأمر

أصغر جرمًا من الذي ولد من الفتاة الكبيرة؛ ولكنه لا يكون أقل صحة منه،

وصغر حجمه هذا لا يلبث طويلاً بل يزول شيئًا فشيئًا.

مدة التربية: أما علم الوالدة بتربية الطفل فذلك يتوقف على مقدار ما اكتسبته

في هذا الموضوع ودرجة صلاحيته وسهولة تلقينه لها أثناء دراستها المدرسية أو

البيتية، فإن كانت تلقت شيئًا نافعًا في هذا الأمر، ولو كان مختصرًا أفادها أكثر

من التي قضت سنين عديدة من حياتها الأولى في دراسة الجغرافيا مثلاً والهندسة

والجبر.

وإذا كانت الطبيعة لم تبخل على الفتاة الصغيرة بإعطائها الحمل والولد فكيف

نحظر عليها الزواج، ولسنا أعلم باستعدادها، ولا أشفق عليها من الطبيعة [7] ، وأي

شيء جرى عليه الناس طِبْق سنن الكون ونواميس الوجود وكان ضرره غالبًا على

نفعه، ومحققًا كما يدعون في هذه المسألة؟ أليس التضييق الذي يطلبونه مصادمًا

للشرائع الإلهية، والقوانين الوضعية، بل والسنن الكونية؟ فأي دليل قطعي عندهم

عليه يعتمدون؟ .

أما مضار تأخير زواج الفتاة بعد بلوغها في السنة الثانية عشرة أو الثالثة

عشرة كما هو الغالب عندنا في مصر، فمنها زيادة الشهوة عندها التي قد تفسد

أخلاقها أو تجرها إلى الفسق أو الألطاف (استمناء المرأة بيدها) أو السحاق وكلها

أشياء يشتد الميل إليها في أول البلوغ؛ ولذلك يكثر وجودها في البلاد التي تتأخر

فيها البنات عن الزواج، ولا حاجة بي هنا للتكلم على ما ينشأ عنها من المضار

والمفاسد فإنها معروفة شهيرة، والإمساك عن الجماع مع فرط الشهوة مضعف

للجسم والأعصاب مؤدٍّ إلى سوء الخلق، وضعف العقل، مورث للهستيريا، أو

الجنون، والشقيقة، وعسر الطمث، وغير ذلك.

وهناك بعض أسباب كثيرًا ما تحمل الناس على التعجيل بالزواج كالفقر أو فقد

من يقوم بشئون البنت وتربيتها وكفالتها وحفظها من الوقوع في مهاوي الدنس

والعار، ولذلك نرى أن الشريعة الإسلامية وغيرها كالإنكليزية أباحته في جميع

الأعمار حتى للأطفال، إلا إذا كانت البنت غير مطيقة للجماع، فيحرم في شريعتنا

تسليمها للزوج حتى تطيق، وإذا عقد أولياء الأمر على طفل وطفلة أباح لهما

الإسلام فسخ العقد إذا بلغا، ما لم يكن الذي تولى الأمر الأب أو الجد فإنهما أدرى

الأولياء وأعلمهم بمصلحة البنت، وأشدهم محافظة عليها، وأكثرهم رغبة في نفعها

الصحيح، وإبعاد كل ضرر عنها، فأي عيب في هذه الشريعة حتى أردنا الخروج

عنها، والاشمئزاز منها، مع أنها تشبه شريعة الإنكليز في ذلك، وهم من أرقى أمم

الأرض الآن! !

وإذا علمت أن سن البلوغ تختلف باختلاف البلاد، وأحوال أهلها تبين لك

السبب في عدم تحديد الشريعة الإسلامية لهذه السن لشرطت بل اشترطت الإطاقة،

ولم تمنع العقد على الأطفال، لما في ذلك من المنفعة للناس، كأن يريد شخص أن

يضمن لنفسه الانتفاع بمال بنت، أو جاهها، أو الانتساب إلى بيتها، أو نحو ذلك،

أو يكون له غرض آخر كالرغبة في النفقة عليها، وإحسان تربيتها لجمالها، أو

لفقدها الأهل والمعين من أقاربها.

وبسبب سرعة البلوغ في البلاد الحارة كالهند، وبلاد العرب فشت في الشرق

عادة تزويج البنات الصغار كما هو معلوم حتى أن عائشة رضي الله عنها

كانت خطبت قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمرها سبع سنوات لجبير

بن مطعم بن عدي، وهو يدل على أنها كانت قد قاربت البلوغ في تلك السن؛

ولذلك عقد عليها الرسول صلى الله عليه وسلم وقتئذ، ودخل عليها في التاسعة

من عمرها، فالظاهر أنها كانت قد بلغت حينئذ كما هو الغالب في بنات العرب،

وأهل الهند، وغيرهم من أهل الشرق كما سبق بيانه.

أما المضار التي يذكرها المضادون لذلك الزواج، فهي في الحقيقة ناشئة عن

أحد أمرين أو عنهما معا (الأول منهما) الدخول بالبنت قبل الإطاقة، أو قبل

البلوغ (الثاني) طريقة المصريين الوحشية في افتضاض البكارة، حتى أني

شاهدت مرة بنتًا كادت تموت بنزيف شديد من تمزق في مهبلها نشأ من إصبع

زوجها الوحش القاسي؛ ولكن العيب في ذلك ليس على الشريعة نفسها، بل العيب

إنما نشأ من الجهل والقسوة وعدم التزام حدود هذه الشريعة الغراء التي فيها الكفاية

لتقويم المعوج.

وهناك فوائد أخرى غير ما تقدم لتزويج الفتيات الصغيرات البالغات (منها)

أنهن يحرضن الشهوة في ضعاف الرجال، حتى أنهن يكن سببًا في تقوية أجسامهم

وعودة الحياة إليهم، فتزيد قوة الباه عندهم، ويتحسن نسلهم، وقد عرف ذلك

الأقدمون، حتى أنه ذكر في الكتاب المقدس عند اليهود والنصارى أن داود - عليه

السلام - شاخ، وكانوا يدثرونه بالثياب فلا يدفأ لشدة ضعفه فأشار عليه عبيده

بإحضار فتاة جميلة لتحضنه ليدفأ، ففعل ذلك وعاش بضعة شهور مع أنه كان في

غاية الضعف والبرودة والاضمحلال (راجع الإصحاح الأول والثاني من سفر

الملوك الأول) ، وكذلك فعل الإمبراطور (طيباريوس) ليستعيد جسمه الضعيف

حرارته الأولية، وقد أشار (بورهاف) الشهير على عمدة بلدة (ساردام) الذي

كان مبتليا بالنقرس بأن يبيت مع بنات فتيات، ولما عمل بمشورته تحسنت حاله،

وزال مرضه (راجع صفحة 462 من كتاب تاريخ الإنسان الطبيعي) ، وقد جربوا

ذلك العلاج أيضًا في الروماتزم المزمن للشيوخ، فأفاد كثيرًا بعد أن يئسوا من

الطب والدواء، وقال الكتاب المذكور ما محصله:

(إن مساكنة البنات الفتيات ذوات الدم الوافر، والصحة الجيدة يتطاير منها

نشأة منعشة تخترق جسم الشيخ الجاف، وتسخن دمه الضعيف الفاتر، وتحرك فيه

الأعضاء الذابلة) .

وذكر بعض العلماء أن من الشيوخ من اسود شعره، ونبتت أسنانه مرة ثالثة

بعد سقوطها بسبب معاشرة الفتيات الصغيرات، وعادت إليه قوة الجماع، ولا شك

أن صحة البنات في وقت البلوغ تكون أحسن منها في جميع الأوقات الأخرى؛

فيؤثرون في الرجل تأثيرًا قويًّا مصلحًا؛ فينتفع هو؛ وينتفعن هن بماله، أو جاهه

خصوصًا إذا كان من أصحاب الملايين، أو الملوك، وإذا تزوج رجل مسن بعجوز

مثله ساء نسلهما جدًّا بخلاف ما إذا كانت هي صبية.

هذا وليعلم القارئ أني لا أذكر هذه الأمثلة هنا لكوني ممن يريد أن ينفض

الشيوخ عيش الفتيات بالتزوج بهن كلا! بل الغرض من ذكرها تتميم البحث،

وبيان فوائد زواج البنات البالغات الصغيرات، واستقصاء تلك الفوائد كلها.

والخلاصة أني أرى أنه ليس من الصواب تحديد سن الزواج بالسنة السادسة

عشرة من العمر، بل الأصوب عندي أن توضع طريقة تحمل الناس على شدة

مراعاة حدود الشريعة الإسلامية، وأن يتركوا عاداتنا المصرية القاسية المعروفة في

الزواج، وإن كان لا مندوحة عن التحديد، فليكن ذلك بعد بلوغ البنت بسنة، أو

ليجروا في ذلك حسب القانون المصري الحالي في مسألة عقوبة الفسق، بأن يجعلوا

سن الزواج (14) سنة فما فوق، وهذا هو رأيي بإخلاص، والله ولي التوفيق،

الهادي لأقوم طريق.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

كلمة يونانية معناها الشاة؛ لأنه يقال إنه اكتشف فيها أولاً؛ أو لأن ملمسه ناعم كصوف الشاة.

(2)

يجوز أن يراد بالعلق في قوله تعالى: [خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ](العلق: 2) الحيوانات المنوية التي تلقح البويضة.

(3)

اكتشف هذا الميكروب سنة 1905، وهو أدق وألطف من كثير من الميكروبات الحلزونية، يسمى (Spirochaeta Pallida) والكلمة الأولى يونانية بمعنى الحلزون، والثانية لاتينية معناها الأكمد (الباهت) لتعسر رؤيته بالمجهر.

(4)

اخترعت سنة 1909 ميلادية، وسميت بذلك لأن مخترعها وفق إليها بعد عمل 606 من التجاريب.

(5)

معناها الحرفي: (الدودة القارضة) .

(6)

وبعضهم يقول (باشلس) .

(7)

المنار كان ينبغي لصديقنا الدكتور أن يقول هنا: وإذا كان الخالق العليم الحكيم قد أعد الفتاة في سن كذا للحمل إلخ.

ص: 353

الكاتب: ابن القيم الجوزية

مقام المشاهدة وعين الجمع [*]

الدرجة العليا في المشاهدة

والفرق فيها بين التوحيد وتخيلات وحدة الوجود

قال [1] : (الدرجة الثالثة مشاهدة جمع تجذب إلى عين الجمع، مالكة لصحة

الورود، راكبة بحر الوجود) صاحب هذه الدرجة أثبت عند الشيخ في مقام

المشاهدة، وأمكن في مقام الجمع الذي هو حضرة الوجود، وأملك لحمل ما يرد

عليه في مقامه من أنواع الكشوفات والمعارف؛ ولذلك كانت مشاهدته مالكة لصحة

الورود، أي تشهد لنفسها بصحة ورودها إلى حضرة الجمع، وتشهد كلها لها

بالصدق، ويشهد المشهود أيضًا لها بذلك، فلا يبقى عندها احتمال شك ولا ريب.

وهذا أيضًا مورد للملحد والموحد، فالملحد يقول: مشاهدة الجمع هي مشاهدة

الوجود الواحد الجامع لجميع المعاني، والصور، والقوى، والأفعال الخمسة،

والأسماء، وحضرة الجمع عنده هي حضرة هذا الوجود، ومشاهدة الجمع تجذب

إلى عينه - قال - وصفة هذا الجذب أن يحل الحق تعالى عقد خليقته بيد حقيقته،

فيرجع النور على صورة خليقته إلى أصله، ويرجع العبد إلى عدميته، فيبقى

الوجود للحق، والفناء للخلق، ويقيم الحق تعالى وصفًا من أوصافه نائبًا عنه في

استجلاء ذاته، فيكون الحق هو المشاهد ذاته بذاته، في طور من أطوار ظهوره

وهي مرتبة عبده، فإذا ثبت الحق تعالى عبده بعد نفيه ومحوه، وأبقاه بعد فنائه،

فعاد كما يعود السكران إلى صحوه وجد في ذات أسرار ربه، وطور صفاته،

وحقائق ذاته، ومعالم وجوده ومطارح أشعة نوره، ووجد خليقته أسماء مسمى ذاته

وعوده إليه، فيرى العبد ثبوت ذلك الاسم في حضرة سائر الأسماء المشيرة بدلالتها

إلى الوجود المنزه الأصل الموهم الفرع، فيؤدي استصحاب النظر إلى أصله، أن

الفرع لم يفارقه هو إلا بشكله، والشكل على اختلاف ضروبه، فمعنى عدمي لتعين

إمكانه في وجوبه.

فانظر ما في الكلام من الإلحاد والكفر الصراح، وجعل عين المخلوق نفس

عين الخالق، وأن الرب سبحانه أقام نفس أوصافه نائبة عنه في استجلاء ذاته،

وأنه شاهد ذاته بذاته في مراتب الخلق، وأن الإنسان إذا صحا من سكره وجد في

ذاته حقائق ذات الرب، ووجد خليقته أسماء مسمى ذاته، فيرى ثبوت ذلك الاسم

في حضرة سائر الأسماء المشيرة بدلالتها إلى الوجود (المنزه الأصل) يعني عن

الانقسام والتكثر (الموهم الفرع) يعني الذي يوهم فروعه، وتكثر مظاهره،

واختلاف أشكاله أنه متعدد، وإنما هو وجود واحد، والأشكال على اختلاف

ضروبها أمور عدمية؛ لأنها ممكنة وإمكانها يفنى في وجوبها، فلم يبق إلا وجوب

واجب الوجود، وهو واحد وإن اختلفت الأشكال التي ظهر فيها، والأسماء التي

أشارت إليه، فالاتحادي يشاهد وجودًا واحدًا جامعًا لجميع الصور، والأنواع،

والأجناس فاض عليها كلها فظهر فيها بحسب قوابلها واستعداداتها، وذلك الشهود

يجذبه إلى انحلال عزمه عن التقيد بمعبود معين، أو عبادة معينة، بل يبقى معبوده

الوجود المطلق الساري في الموجودات بأي معنى ظهر وفي أي ماهية تحقق، فلا

فرق عنده بين السجود للصنم، والشمس، والقمر، والنجوم، وغيرها كما قال

شاعر القوم [2] :

وإن خر للأحجار في البيد عاكف

فلا تعد بالإنكار بالعصبية

وإن عبد النار المجوس وما انطفت

كما جاء في الأخبار مذ ألف حجة

فما عبدوا غيري وما كان قصدهم

سواي وإن لم يظهروا عقد نية

وما عقد الزنار حكما سوى يدي

وإن حل بالإقرار لي فهي بيعتي

وكما قال عارفهم [3] : واعلم أن للحق في كل معبود وجهًا يعرفه من عرفه،

ويجهله من جهله، فالعارف يعرف من عبد، وفي أي صور ظهر قال: {وَقَضَى

رَبُّكَ أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ إِيَّاه} (الإسراء: 23) قال وما قضى الله شيئًا إلا وقع [4] ، وما

عبد غير لله في كل معبود، فهذا مشهد الملحد.

والموحد يشاهد بإيمانه ويقينه ذاتًا جامعة للأسماء الحسنى، والصفات العلى،

لها صفة كل كمال [5] ، وكل اسم حسن، وذلك يجذبه إلى نفس اجتماع همه على الله

وعلى القيام بفرائضه، والطريق بمجموعها لا تخرج عن هذين السببين، وإن

طوّلوا العبارات، ودققوا الإشارات، فالأمر كله دائر على جمع الهمة [6] على الله،

واستفراغ الوسع بغاية النصيحة في التقرب إليه بالنوافل، بعد تكميل الفرائض،

فلا تطوِّل، ولا يُطول عليك.

وشيخ الإسلام مراده بالجمع الجاذب إلى عين الجمع أمر آخر بين هذا وبين

جمع أهل الوحدة وعين جمعهم، لا هو هذا ولا هذا، فهو دائر على الفناء لا تأخذه

فيه لومة لائم، وهو الجمع الذي يدندن حوله، وعين الجمع عنده هو تفرد الرب

سبحانه بالأزلية بالدوام [7] ، وبالخلق والفعل، فكان ولا شيء، ويكون بعد كل شيء،

وهو المكون لكل شيء، فلا وجود في الحقيقة لغيره، ولا فعل لغيره، بل وجود

غيره كالخيال والظلال، وفعل غيره في الحقيقة كحركات الأشجار والنبات، وهذا

تحقيق الفناء في شهود الربوبية والأزلية والأبدية، وطي بساط شهود الأكوان، فإذا

ظهر هذا الحكم انمحق وجود العبد في وجود الحق، وتدبيره في تدبير الحق،

فصار سبحانه هو المشهود بوجود من العبد متلاشٍ مضمحل كالخيال والظلال، ولا

يستعد لهذا عندهم إلا من اجتمعت إرادته على المراد وحده حالاً، لا تكلفًا، وطبعًا،

لا تطبعًا، فقد تنبعث الهمة إلى أمر وتتعلق به، وصاحبها معرض عن غير مطلبه

متحلٍّ به، ولكن إرادة السوى كامنة فيه، قد توارى حكمها واستتر، ولما يزل،

فإن القلب إذا اشتغل بشيء اشتغالاً تامًّا توارى عنه إرادته لغيره والتفاته إلى ما

سواه مع كونه كامنًا في نفسه، مادته حاضرة عنده، فإذا وجد فجوة وأدنى تخلٍّ من

شاغله ظهر حكم تلك الإرادات التي كان سلطان شهوده يحول بينه وبينها.

فإذا الجمع وعين الجمع مراتب (أعلاها) جمع الهمم على الله إرادة، ومحبة

وإنابة، وجمع القلب، والروح، والجوارح على استفراغ الوسع في التقرب إليه

بما يحبه ويرضاه، دون رسوم الناس وعوائدهم، فهذا جمع خواص المقربين

وساداتهم، (والثاني) الاستغراق في الفناء في شهود الربوبية، وتفرد الرب

سبحانه بالأزلية والدوام، وإن الوجود الحقيقي له وحده، وهذا الجمع دون الجمع

الأول بمراتب كثيرة (الثالث) جمع الملاحدة الاتحادية وعين جمعهم، وهو جمع

الشهود في وحدة الوجود، فعليك بتمييز المراتب، لتسلم من المعاطب، وسيأتي

ذكر مراتب الجمع والتمييز بين صحيحها وفاسدها في آخر باب التوحيد من هذا

الكتاب إن شاء الله تعالى والله المستعان.

قوله (مالكة لصحة الورود) أي ضامنة لصحة ورودها، شاهدة بذلك مشهودًا

لها به، لأنها فوق مشاهدة المعرفة، وفوق مشاهدة المعاينة.

قوله (راكبة بحر الوجود) يعني تلك المشاهدة راكبة بحر الوجود، فهي في

لجة بحره، لا في أنواره، ولا في بوارقه، وقد تقدم الكلام على مراده بالوجود،

وأنه وجود علم، ووجود عين، ووجود مقام، وسيأتي تمام الكلام عليه في بابه إن

شاء الله تعالى.

***

منزلة المعاينة أو مقامها

(من مدارج السالكين أيضًا)

قال شيخ الإسلام [8](باب المعاينة) قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ

مَدَّ الظِّلّ} (الفرقان: 45) قلت: المعاينة مفاعلة من العيان، وأصلها من الرؤية

بالعين، يقال: عاينه إذا وقعت عينه عليه، كما يقال: شافهه. إذا كلمه شفاها،

وواجهه، إذا قابله بوجهه، وهذا مستحيل في هذه الدار أن يظفر به بشر، وأما

قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلّ} (الفرقان: 45) ، فالرؤية واقعة على

نفس مد الظل [9] لا على الذي مده سبحانه، كما قال: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ

سَمَوَاتٍ طِبَاقاً} (نوح: 15) وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ

الفِيلِ} (الفيل: 1) فهاهنا أوقع الرؤية على نفس الفعل، وفي قوله: {أَلَمْ تَرَ

إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} (الفرقان: 45) أوقعها في اللفظ عليه سبحانه والمراد

فعله من مد الظل، هذا كلام عربي بين معناها غير محتمل ولا مجمل، كما قيل في

العُزَّى: (كفرانك اليوم لا سبحانك * إني رأيت الله قد أهانك) وهو كثير في

كلامهم، يقولون: رأيت الله قد فعل كذا وكذا، والمراد رأيت فعله، فالعيان

والرؤية واقع على المفعول لا على ذات الفاعل وصفته، ولا فعله القائم به

***

فصل

قال صاحب المنازل (المعاينة [10] ثلاث (إحداها) معاينة الأبصار (الثانية)

معاينة عين القلب، وهي معرفة عين الشيء [11] على نعته علمًا يقطع الريبة، ولا

تشوبه حيرة [12](الثالثة) معاينة عين الروح، وهي التي تعاين الحق عيانًا محضًا،

والأرواح إنما طهرت وأكرمت بالبقاء لتعاين [13] سناء الحضرة، وتشاهد بهاء

العزة، وتجذب القلوب إلى فناء الحضرة) جعل الشيخ المعاينة للعين والقلب

والروح، وجعل لكل معاينة منها حكمًا، فمعاينة العين هي رؤية الشيء عيانًا إما

بانطباع صورة المرئي في القوة الباصرة عند أصحاب الانطباع، وإما باتصال

الشعاع المنبسط من العين المتصل بالمرئي عند أصحاب الشعاع، وإما بالنسبة

والإضافة الخاصة بين العين وبين المرئي عند كثير من المتكلمين، والأقوال الثلاثة

لا تخلو عن خطأ وصواب، والحق شيء غيرها، وأن الله سبحانه جعل في العين

قوة باصرة كما جعل في الأذن قوة سامعة، وفي الأنف قوة شامة، وفي اللسان قوة

ناطقة، فهذه قوى أودعها الله سبحانه في هذه الأعضاء وجعل بينها وبينها رابطة،

وجعل لها أسبابًا من خارج، وموانع تمنع حكمها، وكل ما ذكروه من انطباع

ومقابلة وشعاع ونسبة وإضافة فهو سبب وشرط، والمقتضي هو القوة القائمة

بالمحل، وليس الغرض ذكر هذه المسألة فالمقصود أمر آخر.

وأما معاينة القلب فهي انكشاف صورة المعلوم له بحيث تكون نسبته إلى

القلب كنسبة المرئي إلى العين، وقد جعل الله سبحانه القلب يبصر ويعمى كما

تبصر العين وكما تعمى، قال تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ

الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46) فالقلب يرى، ويسمع، ويعمى، ويصم،

وعماه، وصممُه أَبْلَغُ من عمى البصر، وصممه.

وأما ما يثبته متأخرو القوم من هذا القسم الثالث (وهو رؤية الروح، وسمعها

وإرادتها، وأحكامها التي هي أخص من أحكام القلب) فهؤلاء اعتقادهم أن الروح

غير النفس والقلب [14] ، ولا ريب أن ها هنا أمورًا معلومة، وهي البدن وروحه

القائم به، والقلب المشاهد فيه وفي سائر الحيوان، والغريزة وهي القوة العاقلة التي

محلها القلب ، ونسبتها إلى القلب كنسبة القوة الباصرة إلى العين، والقوة السامعة

إلى الأذن، ولهذا تسمى تلك القوة قلبًا، كما تسمى القوة الباصرة بصرًا، قال تعالى

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} (ق: 37) ولم يرد شكل القلب فإنه لكل

أحد، وإنما أريد القوة والغريزة المودعة فيه، والروح هي الحاملة للبدن، ولهذه

القوى كلها، فلا قوام للبدن، ولا لقواه إلا بها، ولها باعتبار إضافتها إلى كل محل

حكم، واسم يخصها هناك، وإذا أضيفت إلى محل البصر سميت بصرًا وكان لها

حكم يخصها هناك، وإذا أضيفت إلى محل العقل - وهو القلب - سميت قلبًا، ولها

حكم يخصها، وهي في ذلك كله روح، فالقوة الباصرة والعاقلة، والسامعة،

والناطقة روح باصرة، وسامعة، وعاقلة، وناطقة، فهي في الحقيقة [15] هذا العاقل

الفَهِم المدرك المحب العارف المحرك للبدن الذي هو محل الخطاب، والأمر،

والنهي - هو شيء واحد له [16] صفات متعددة بحسب متعلقاته، فإنه يسمى نفسًا

مطمئنة، ونفسًا لوامة، ونفسًا أمارة، وليس هو ثلاثة أنفس بالذات والحقيقة؛

ولكن هي نفس واحدة لها صفات متعددة، وهم يشيرون بالنفس إلى الأخلاق

والصفات المذمومة فيقولون: فلان له نفس، وفلان ليس له نفس، ومعلوم أنه لو

فارق نفسه لمات؛ ولكن يريدون تجرده عن صفات النفس المذمومة والمحققون منهم

يقولون: إن النفس إذا تلطفت، وفارقت الرذائل صارت روحًا. ومعلوم أنها لم

تعدم، ويخلق لها مكانها روح لم تكن؛ ولكن عدمت منها الصفات المذمومة،

وصار مكانها الصفات المحمودة فسميت روحًا.

وهذا اصطلاح مجرد وإلا فالله سبحانه سماها نفسًا في القرآن في جميع

أحوالها (أمارة، ولوامة، ومطمئنة) وقال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ

مَوْتِهَا} (الزمر: 42) ويدخل في هذا جميع أنفس العباد حتى الأنبياء، وسماها

رسول الله صلى الله عليه وسلم روحًا على الإطلاق مؤمنة كانت أو كافرة،

برة أو فاجرة، كقوله:(أن الروح إذا قبض تبعه البصر)، وقوله: (إن الله

قبض أرواحنا حيث شاء وردها حيث شاء) ، وقوله: في حديث قبض الروح

وصفته، إن كان [17] مؤمنًا كان كذا وكذا، وإن كان كافرًا كان كذا وكذا، فسمى

المقبوض روحًا، كما سماه الله في كتابه نفسًا، وهذا المقبوض والمتوفى شيء واحد،

لا ثلاثة، ولا اثنان، وإذا قبض تبعته القوى كلها - العقل وما دونه، لأنه كان

حامل الجميع، ومركبه.

إذا عرف هذا فالمعاينة نوعان: معاينة بصر، ومعاينة بصيرة، فمعاينة

البصر وقوعه على نفس المرئي، أو مثاله الخارجي كرؤية مثال الصورة في

المرآة والماء، ومعاينة البصيرة وقوع القوة العاقلة على المثال العلمي المطابق

للخارجي، فيكون إدراكه له بمنزلة إدراك العين للصورة الخارجية، وقد يقوى

سلطان هذه الإدراك الباطن بحيث يصير الحكم له، ويقوى استحضار القوة العاقلة

لمدركها بحيث يستغرق فيه، فيغلب حكم القلب على حكم الحس والمشاهدة؛

فيستولي على السمع والبصر بحيث يراه، ويسمع خطابه في الخارج، وهو في

النفس والذهن؛ لكن لغلبة الشهود وقوة الاستحضار، وتمكن حكم القلب واستيلائه

على القوى صار كأنه مرئي بالعين، مسموع بالأذن، بحيث لا يشك المدرك في

ذلك، ولا يرتاب البتة، ولا يقبل عدلاً.

وحقيقة الأمر أن ذلك كله شواهد وأمثلة علمية تابعة للمعتقد، فذلك الذي أدرك

بعين القلب والروح إنما هو شاهِدٌ دالٌّ على الحقيقة، وليس نفس الحقيقة، فإن

شاهد نور جلال الذات في قلب العبد ليس هو نفس نور الذات الذي لا تقوم له

السموات والأرض، فإنه لو ظهر لها لتدكدكت وأصابها ما أصاب الجبل، وكذلك

شاهد نور العظمة في القلب إنما هو نور التعظيم والإجلال، لا نور نفس المعظم

ذي الجلال والإكرام، وليس مع القوم إلا الشواهد والأمثلة العلمية والدقائق [18] التي

هي ثمرة قرب القلب من الرب، وأنسه به واستغراقه في محبته، وذكره واستيلاء

سلطان معرفته عليه، والرب تبارك وتعالى وراء ذلك كله، منزه مقدس عن اطلاع

البشر على ذاته، أو أنوار ذاته، أو صفاته أو أنوار صفاته، وإنما هي الشواهد

التي تقوم بقلب العبد كما يقوم بقلبه شاهد من الآخرة والجنة والنار وما أعد الله

لأهلهما، وهذا الذي وجده عبد الله بن حرام يوم أحد لما قال: واها لريح الجنة!

إني أجد ريحها دون أحد، ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم (إذا مررتم

برياض الجنة فارتعوا - قالوا وما رياض الجنة؟ قال: - حلق الذكر) ومن قوله:

(ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة) فهو روضة لأهل العلم والإيمان

لما يقوم بقلوبهم من شواهد الجنة، حتى كأنها لهم رأي عين، وإذا قعد المنافق

هناك لم يكن ذلك المكان في حقه روضة من رياض الجنة، ومن هذا قوله: (الجنة

تحت ظلال السيوف) فالعمل إنما هو على الشواهد، وعلى حسب شاهد العبد يكون

عمله. اهـ. المراد منه.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) مقتبس من الجزء الثالث من كتاب مدارج السالكين.

(1)

يعني صاحب كتاب منازل السائرين.

(2)

كتب في هامش ب (هو ابن الفارض) .

(3)

وفي هامشها أيضًا (لعله ابن عربي صاحب الفصوص، المشتمل على مخالفة النصوص) .

(4)

حمل القضاء على التكويني، وإنما هو بمعنى التشريعي، فحجته داحضة.

(5)

في ب (كل صفة كمال) .

(6)

وفيها (الهم) .

(7)

وفيها (والدوام) .

(8)

أي أبو إسماعيل الهروي صاحب المنازل.

(9)

في ب (نفس هذا الظل) .

(10)

في المتن وب (المعاينات) .

(11)

في المتن (معرفة الشيء) .

(12)

زاد فيه هنا (وهذه معاينة بشواهد العلم) .

(13)

في ب (لتناغي) .

(14)

سقط من ب كلمة (والقلب) .

(15)

في ب (ففي الحقيقة) ولعله الصواب.

(16)

وفيها (وله) .

(17)

في ب (فإن كان) .

(18)

في ب (الرقائق) .

ص: 372

الكاتب: محمد رشيد رضا

أصول الفقه عند الظاهرية

وهي المسائل التي جعلها الإمام أبو محمد علي بن حزم مقدمة لكتابه (المُحَلَّى)

وعناوين المسائل من زيادة المنار

مآخذ الإسلام ودلائله:

(مسألة) دين الإسلام اللازم لكل أحد لا يؤخذ إلا من القرآن، أو مما يصح

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إما برواية جميع علماء الأمة عنه عليه

السلام - وهو الإجماع - وإما بنقل جماعة عنه عليه السلام وهو نقل الكافة -

وإما برواية الثقات واحدًا عن واحد، حتى يبلغ إليه عليه السلام، ولا مزيد.

قال تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَاّ وَحْيٌ يُوحَى} (النجم:

3-

4) ، وقال تعالى:{اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} (الأعراف: 3) وقال تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: 3) فإن

تعارض - فيما يرى المرء - آيتان، أو حديثان صحيحان، أو حديث صحيح وآية،

فالواجب استعمالهما جميعًا؛ لأن طاعتهما سواءٌ في الوجوب، فلا يحل ترك

أحدهما للآخر ما دمنا نقدر على ذلك، وليس هذا إلا بأن يستثنى الأقل معاني من

الأكثر، فإن لم يقدر على ذلك وجب الأخذ بالزائد حكمًا؛ لأنه متيقن وجوبه، ولا

يحل ترك اليقين بالظنون، ولا إشكال في الدين، قد بين الله دينه، قال تعالى:

{اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: 3) وقال تعالى: {تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ} (النحل: 89) .

***

الحديث المُرْسَل والموقوف والضعيف:

(مسألة) والمرسل والموقوف لا تقوم بهما حجة، وكذلك ما لم يروه إلا من

لم يوثق بدينه وبحفظه، ولا يحل ترك ما جاء في القرآن، أو صح عن رسول الله

صلى الله عليه وسلم لقول صاحب أو غيره، سواء كان هو راوي ذلك

الحديث أو لم يكن.

والمرسل: هو ما كان بين أحد رواته، وبين غيره، أو بين الراوي وبين

النبي صلى الله عليه وسلم من لا يعرف، والموقوف: هو ما لم يبلغ به إلى

النبي، صلى الله عليه وسلم.

برهان بطلان الموقوف قول الله عز وجل: {لِئَلَاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ

حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (النساء: 165) فلا حجة في أحد دون رسول الله - صلى الله

عليه وسلم - ولا يحل لأحد أن يضيف ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه

وسلم - لأنه ظن، وقد قال تعالى:{إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً} (يونس:

36) ، وقال تعالى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (الإسراء: 36) .

وأما المرسل [1]، ومن في رواته من لا يوثق بدينه وحفظه - فلقول الله تعالى:

{فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا

إِلَيْهِمْ} (التوبة: 122) فأوجب الله تعالى قبول نذارة النافر للتفقه في الدين،

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً

بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (الحجرات: 6) وليس في العالم إلا عدل

أو فاسق، فحرم الله تعالى علينا قبول خبر الفاسق فلم يبق إلا العدل، فصح أنه هو

المأمور بقبول نذارته.

وأما المجهول فلسنا على ثقة من أنه على الصفة التي أمر الله تعالى معها

بقبول نذارته، وهو التفقه في الدين، فلا يحل لنا قبول نذارته حتى يصح عندنا

فقهه في الدين، وحفظه لما ضبط من ذلك، وبراءته من الفسق، وبالله تعالى

التوفيق.

ولم يختلف أحد من الأمة في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث

إلى الملوك رسولاً رسولاً واحدًا إلى كل مملكة يدعوهم الإسلام، وواحدًا واحدًا إلى

كل مدينة، وإلى كل قبيلة - كصنعاء والجنَد [2] ، وحضرموت، وتيماء،

ونجران، والبحرين، وعُمان، وغيرها، يعلمها أحكام الدين كلها، وافترض على

أهل كل جهة قبول رواية أميرهم ومعلمهم، فصح قبول خبر الواحد الثقة عن مثله

مبلغًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن ترك القرآن أو ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول

صاحب أو غيره سواء كان راوي ذلك الخبر، أو غيره فقد ترك ما أمره الله تعالى

باتباعه، لقول لم يأمره الله تعالى قط بطاعته ولا باتباعه، وهذا خلاف لأمر الله

تعالى.

وليس فضل الصاحب عند الله بموجب تقليد قوله وتأويله، لأنه تعالى لم يأمر

بذلك؛ لكنه موجب تعظيمه ومحبته وقبول روايته فقط؛ لأن هذا هو الذي أوجب

الله تعالى.

***

النسخ:

(مسألة) والقرآن ينسخ القرآن والسنة، والسنة تنسخ السنة والقرآن، قال

الله عز وجل: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (البقرة:

106) ، وقال تعالى:{لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) ، وقال

تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَاّ وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: 3-4)

وأمره تعالى أن يقول: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَاّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} (الأنعام: 50) ، وقال

تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ

الوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} (الحاقة: 44-47) فصح أن كل ما

قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن الله تعالى قاله، والنسخ بعض من

أبعاض البيان، وكل ذلك من عند الله تعالى.

***

منع دعوى النسخ والتخصيص والتأويل:

(مسألة) ولا يحل لأحد أن يقول في آية، أو في خبر عن رسول الله -

صلى الله عليه وسلم ثابت: هذا منسوخ أو هذا مخصوص في بعض ما يقتضيه

ظاهر لفظه، ولا أن لهذا النص تأويلاً غير مقتضى ظاهر لفظه، ولا أن هذا الحكم

غير واجب علينا من حين وروده إلا بنص آخر وارد بأن هذا النص كما ذكر، أو

بإجماع متيقن بأنه كما ذكر، أو بضرورة حس موجبة أنه كما ذكر، وإلا فهو كاذب،

برهان ذلك قول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَاّ لِيُطَاعَ} (النساء: 64) ،

وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (إبراهيم:4) ،

وقال تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (الشعراء: 195)، وقال تعالى:

{وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} (البقرة:

75) ، وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ

عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور: 63) .

فقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَاّ لِيُطَاعَ} (النساء: 64) موجب

طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ما أمر به، وقوله: {أَطِيعُوا

اللَّهَ} (آل عمران: 32) موجب طاعة القرآن، ومن ادعى في آية أو خبر نسخًا،

فقد أسقط وجوب طاعتهما، فهو مخالف لأمر الله تعالى في ذلك، وقوله تعالى:

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (إبراهيم: 4) موجب أخذ

كل نص في القرآن والأخبار على ظاهره، ومقتضاه في اللغة العربية، فمن ادعى

في شيء من ذلك أن المراد به غير ما يقتضيه لفظه في اللغة العربية فقد خالف قول

الله تعالى وحكمه، وقال عليه عز وجل الباطل وخالف قوله عز وجل، ومن ادعى

أن المراد بالنص بعض ما يقتضيه في اللغة العربية، لا كل ما يقتضيه فقد أسقط

بيان النص، وأسقط وجوب الطاعة له بدعواه الكاذبة، وهذا قول على الله تعالى

بالباطل، وليس بعض ما يقتضيه النص بأولى بالاقتصار عليه من سائر ما يقتضيه،

وقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} (النور: 63) موجب

الوعيد على من قال لا يجب عليّ موافقة أمره،، وموجب أن جميع النصوص

على الوجوب، ومن ادعى تأخير الوجوب مدة ما، فقد أسقط وجوب الطاعة لله

تعالى، ووجوب ما أوجب الله عز وجل من طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم

في تلك المدة، وهذا خلاف لأمر الله عز وجل، فإذا شهد لدعوى من ادعى بعض

ما ذكرنا قرآنٌ، وسنة ثابتة، إما بإجماع، وإما بنقل صحيح فقد صح قوله،

ووجب طاعة الله تعالى في ذلك، وكذلك من شهدت له ضرورة الحس لأنها فعل الله

تعالى في النفوس، وإلا فهي أقوال مؤدية إلى إبطال الإسلام، وإبطال جميع العلوم، وإبطال جميع اللغات كلها، وكفى بهذا فسادًا، وبالله تعالى التوفيق.

***

إنما الإجماع إجماع الصحابة:

(مسألة) والإجماع هو ما تيقن أن جميع أصحاب رسول الله - صلى الله

عليه وسلم - عرفوه وقالوا به، ولم يختلف منهم أحد، كتيقننا أنهم كلهم - رضي

الله عنهم - صلوا معه عليه السلام الصلوات الخمس كما هي في عدد ركوعها،

وسجودها، أو علموا أنه صلاها مع الناس كذلك، وأنهم كلهم صاموا معه أو علموا

أنه صام مع الناس رمضان في الحضر، وكذلك سائر الشرائع التي تيقنت مثل هذا

اليقين، والتي من لم يقر بها لم يكن من المؤمنين، وهذا ما لا يختلف أحد في أنه

إجماع، وهم كانوا حينئذ جميع المؤمنين لا مؤمن في الأرض غيرهم، ومن ادعى

أن غير هذا هو إجماع كلف البرهان على ما يدعي ولا سبيل له إليه.

(مسألة) وما صح فيه خلاف من واحد منهم رضي الله عنهم، ولم

يتيقن أن كل واحد منهم رضي الله عنهم عرفه ودان به فليس إجماعًا، لأن من

ادعى الإجماع هاهنا فقد كذب، وَقَفَا ما لا علم له به، والله تعالى يقول: {وَلَا

تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (الإسراء: 36)

الإجماع بعد الصحابة متعذر:

(مسألة) ولو جاز أن يتيقن إجماع أهل عصر بعدهم أولهم عن آخرهم

على حكم نص ولا يقطع فيه بإجماع الصحابة رضي الله عنهم لوجب القطع

بأنه حق وحجة، وليس كان يكون إجماعًا، وأما القطع بأنه حق وحجة فلما ذكرناه

قبل بإسناده من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (لن تزال طائفة من أمتي

ظاهرة على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله) فصح من هذا أنه لا

يجوز البتة أن يُجْمِع أهل عصر ولو طرفة عين على خطأ، ولا بد من قائل بالحق

فيهم، وإما أنه ليس إجماعًا فلأن أهل كل عصر بعد عصر الصحابة - رضي الله

عنهم - ليس جميع المؤمنين، وإنما هم بعض المؤمنين، والإجماع إنما هو إجماع

جميع المؤمنين لا إجماع بعضهم.

ولو جاز أن يسمى إجماعًا ما خرج عن الجملة واحد لا يعرف أيوافق سائرهم

أو يخالفهم - لجاز أن يسمى إجماعًا ما خرج عنهم فيه اثنان وثلاثة وأربعة، وهكذا

أبدًا حتى يرجع الأمر أن يسمى إجماعًا ما قاله واحد، وهذا باطل، ولكن لا سبيل

إلى تيقن إجماع جميع أهل عصر بعد الصحابة رضي الله عنهم لكثرة أعداد

الناس بعدهم؛ ولأنهم طبقوا ما بين المغرب والمشرق، ولم تكن الصحابة - رضي

الله عنهم - كذلك، بل كانوا عددًا ممكنًا حَصْره، وضَبْطه، وضبط أقوالهم في

المسألة، وبالله تعالى التوفيق.

وقد قال بعض الناس: يعلم ذلك من حيث يعلم رضاء أصحاب مالك،

وأصحاب أبي حنيفة، وأصحاب الشافعي بأقوال هؤلاء (قال عليّ) وهذا خطأ؛

لأنه لا سبيل إلى أن تكون مسألة قال بها أحد من هؤلاء الفقهاء إلا وفي أصحابه من

يمكن أن يخالفه فيها وإن وافقه في سائر أقواله.

رد المتنازع فيه إلى الكتاب والسنة:

(مسألة) والواجب إذا اختلف الناس، أو نازع واحد في مسألة ما أن يرجع

إلى القرآن، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا إلى شيء غيرهما، ولا

يجوز الرجوع إلى عمل أهل المدينة ولا غيرهم، برهان ذلك قول الله عز وجل:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ

فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (النساء:

59) فصح أنه لا يحل الرد عند التنازع إلى شيء غير كلام الله تعالى، وسنة

رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا تحريم الرجوع إلى قول أحد دون

رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن من رجع إلى قول إنسان دونه - عليه

السلام - فقد خالف أمر الله تعالى بالرد إليه وإلى رسوله، لا سيما مع تعليقه تعالى

ذلك بقوله: {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (النساء: 59) ولم يأمر الله

تعالى قط بالرجوع إلى قول بعض المؤمنين دون جميعهم، وقد كان الخلفاء -

رضي الله عنهم كأبي بكر، وعمر، وعثمان بالمدينة وعمالهم باليمن، ومكة

وسائر البلاد وعمال عمر وعثمان بالبصرة، والكوفة، ومصر، والشام، ومن

الباطل المتيقن الممتنع الذي لا يمكن - أن يكونوا رضي الله عنهم طووا علم

الواجب، والحلال، والحرام عن سائر الأمصار واقتصروا به على أهل المدينة،

فهذه وصفة سوء قد أعاذهم الله تعالى منها، وقد عمل ملوك بني أمية بإسقاط بعض

التكبير من الصلاة، وبتقديم الخطبة على الصلاة في العيدين، حتى فشا ذلك في

الأرض، فصح أنه لا حجة في عمل أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

أي وأما بطلان الاستدلال بالحديث المرسل إلخ، أي والحديث الضعيف.

(2)

الجَنَد بالتحريك: مدينة باليمن كانت عاصمة أعظم ولاياتها الثلاث في صدر الإسلام، قال في معجم البلدان عند الكلام عليها: وأعمال اليمن في الإسلام مقصورة على ثلاثة ولاة: فوالٍ على الجند ومخاليفها، وهو أعظمها، ووالٍ على صنعاء ومخاليفها، وهو أوسطها، ووالٍ على حضرموت ومخاليفها، وهو أدناها، والجند مسماة بجند بن شهران - بطن من المعافر، قال عمارة: وبالجند مسجد بناه معاذ بن جبل إلخ.

ص: 379

الكاتب: حسن كمال

‌مقارنة بين

اللغة المصرية القديمة واللغة العربية

(2)

الأثر المصري الذي ذكر فيه اسم بني إسرائيل

المحفوظ الآن بمتحف القاهرة - عدد 34025

(وبعض ما فيه من الاتفاق بين لغة قدماء المصريين واللغة العربية)[*]

إني تلقيت عن والدي في مدارس الحكومة الدروس الهيروغليفية التي ألقاها

في نيف وثلاث سنين، وثابرت بعد ذلك على الاهتمام بها، ولا سيما في أيام العطلة

الدراسية، ثم صرفت أيام هذه الإجازة الأخيرة في ترجمة وجه واحد من الحجر

الكبير المنقوش عليه اسم بني إسرائيل، وطبقت قدر استطاعتي بين الكثير من

ألفاظه على ما يقابلها في اللغة العربية؛ ليعلم وجه الشبه بين اللغتين وجعلت كل

كلمة مصرية موافقة للعربية بين علامتين هكذا [] ، فجاء بحمد الله باكورة عمل

أزفها لأبناء وطني راجيًا منهم أن يصفحوا عما يرونه فيه من زلة القلم وفقنا الله

وإياهم لنشر العلوم والمعارف، آمين.

***

وصف الأثر بالإجمال:

صنع هذا الأثر الملك (أمنوفيس الرابع) من الأسرة الثامنة عشرة، ونقش

على وجه منه وصف بعض أعمال دينية قام بأدائها، ثم جاء من بعده (منفتاح)

الذي هو فرعون سيدنا موسى عليه السلام على القول الأرجح، وكتب على

الوجه الآخر كيفية حربه مع اللوبيين، واستطرد إلى بيان أحوال مصر وقتئذ، مع

الإلماع إلى ذكر ولايات أخرى أخضعها لحكمه، وهذا النقش الأخير هو الذي عنيت

بترجمته، فظهر لي أن الكاتب المصري تحرى فيه أساليب الإنشاء التي كانت

شائعة في عهد الأسرة التاسعة عشرة، وكان السبب في نقشه وتسطيره انتصارًا

عظيمًا أحرزه فرعون (منفتاح) على اللوبيين، فأمر بتدوين هذا النصر لتخليد

ذكره بين الخلف، وكان ذلك في السنة الخامسة من حكمه؛ لكن عبارات نصه لم

تزدنا شيئًا جديدًا عما كتبه عن نتيجة هذه الحرب في نقوش الكرنك، غير أنه تكلم

بصراحة هنا عما حصل في أيامه من الفرح، والسرور، والحرية للبلاد المصرية،

ولولا النص المنقوش في معبد الكرنك المشروح فيه حوادث هذه الحرب بالتفصيل

لما تيسر لنا الوقوف من هذا الأثر على مكانة الفوز المبين الذي ناله منفتاح، ولا

على الحالة الحرجة التي وقعت فيها البلاد المصرية عند نشوب هذه الحرب الطاحنة.

ومن تأمل معاني العبارات الواردة في نص هذا الأثر النفيس علم بعض

أحوال البلاد المصرية وقت السلم، وعلى الأخص العبارة التي ذكر فيها اسم بني

إسرائيل المدرجة في آخره؛ لأنها استوجبت توجيه النظر من الأثريين لكونها أول

عبارة أخبرتنا بهذا الاسم المشهور في الكتب الدينية.

وذلك أنه ورد في الأثر إشارة إجمالية إلى ذكر خضوع بعض الأمم الأجنبية

ومن جملتهم بنو إسرائيل؛ لكن العبارة التي ذكر فيها هذا الاسم جاءت في غاية

الإيجاز، حتى تعذر علينا استنتاج فائدة كبيرة منها، على أنها صيغت في أسلوب

متداول الاستعمال في اللغة المصرية القديمة طالما عبر به عن أمم أخرى في

نصوص غير هذا.

ومعنى هذه العبارة أن بني إسرائيل (لم تبق لهم بزرة) أي ذرية في الأرض

فاجتهد بعض الأثريين في تأويلها، فقالوا: إنها تفيد محو نسل بني إسرائيل بذبح

أبنائهم واستحياء نسائهم؛ لكن نرى من جهة أخرى أن هذه العبارة نفسها ذكرت

كثيرًا في الآثار المصرية عن أمم أخرى أجنبية كما ترى في الأمثلة الآتية:

(الأول) ما جاء في حرب رمسيس الثالث من حكمه لسكان البحر الأبيض

في السنة الثامنة من حكمه إذ قال ما ترجمته: (والذين وصلوا حدود بلدي تبدد

شملهم، ولم تبق لهم بزرة) .

(الثاني) ما جاء في كتاب (دمخن)[1] من أن اللوبيين والسيديين مُزقوا

ولم تبق لهم بزرة.

(الثالث) ما جاء أيضًا في الكتاب المذكور [2] من قولهم (وصارت بلادهم

رمادًا قفرًا بلقعًا فلم تبق لهم بزرة) .

(الرابع) ما جاء في حرب رمسيس الثالث، وذلك في السنة الخامسة من

حكمه من أن - رئيس عمورة المدعو (جورو ....) لم تبق له بزرة.

فيُعلم مما تقدم أن التعبير بلفظ لم تبق له بزرة هو تعبير عندهم لا يراد به في

الأثر الذي نحن بصدده محق ذرية بني إسرائيل من هذه الدنيا بذبح الأبناء واستحياء

النساء، ومن الواضح الجلي أن موطن بني إسرائيل كان في فلسطين حسب نص

الأثر، وأن منفتاح قهرهم فيها وسلب أموالهم كما فعل بغيرهم من الأمم المجاورة

لهم بالكيفية المبينة بعد.

***

ترجمة الأثر [3]

(النهار) الثالث من (أبيب) للسنة الخامسة من حكم (الحر - أي الباشق -

القوي المرقي للعدل) الملك منفتاح العظيم (البأس المرقى بقوة) الإله حوريس

(القوي) ضارب (البدو) ذو الاسم السرمدي الذي تحدث (الناس بنجداته) في

جميع البحار؛ لأنه جعلهم يرون الدنيا كلها (منضمة) له؛ ولأنه استعمل قواته

فيما فيه النفع فهو (الصيدن القب - منفتاح - الناب [4] القوي) ذو (البأس)

المهلك (لشانئيه) ذو الحسن في شدة (القوة) الذي (ينهض) نهوض الشمس

(ليكف) عن مصر ما يحل بها من العواصف، وليجعلها ناظرة لقرص الشمس عند

(سطوعه) ، وليدفع جبل النحاس عن أعناق الأهالي [5] فيمنح الحرية للناس

الواقعين في الضيق، وليعاف سكان منف من فعل أعدائهم، وليجعل (أسوريس)

(أَشِرًا)(أي فرحًا) في (صُيبه)[6] ، الفاتح الذي يفتح الحصون، ويوصل

لمعابده أرزاقها، فهو الملك منفتاح الوحيد الذي يطمئن (ألباب) الجم الغفير فيدخل

عند رؤيته نفس الحياة في أنوفهم، فهو (السائد) على أرض التمحو [7] ملقي

(الهول) السرمدي في (ألباب) المشواش، المذل للوبيين المتوغلين في مصر،

حتى جعل (روع) القطر المصري العظيم في (لبهم) ، وجعل مقدمة جيشهم

ومؤخره لم يبرح الأرض في سيرهم على أرجلهم، بل ظلوا على أقدامهم واقفين

حتى وقعت رماتهم وأقواسهم، وصارت قلوب المسرعين منهم أذلة من المشي،

ففكوا قِرَب الماء، وألقوها على الأرض، وأخذت جلودها ورميت.

أما الوالي (الخسيس) حاكم لوبيا (فخارت) قواه وهرب تحت (جنح)

(الليل) بلا ريشة على رأسه، وكانت رجلاه تسير سيرًا ثقيلاً، وأخذت أمامه

(حامته) - أي نساؤه -، ونهبت حبوب محصولاته، فلا (ماء) في القرب

(للمعيشة) ، فكانت وجوه (أصنائه تهصص)[8] بعيونهم، ويقتل الواحد من

(هداته [9] ثانيه) في حرب نشبت بينهم، وحرقت (أحياؤه) وجميع (أشيائه) من

طعام الجنود، ولما وصل بلده تحدث في حقه الكثيرون في جميع (الأرض)

فلحقته الخيبة (وخسفته النأنأة)[10] ، وسلبه سوء الحظ (الريشة) - أي من

رأسه - فتحدث فيه الكل من سكان مدينته قائلين: إنه تحت (بأو أزوان منف)

(أي سيطرة معبوداتها) .

لقد (ساوروا) مريري [11] ؛ لأنه كان (بذيئًا) لمنف من ابن إلى ابن

(نتج) في أسرته إلى (الأزل) - لذلك مثّل منفتاح بأولاده (وشياه)[12] ، فصار

يُضرب به المثل في لوبيا، وأصبحت الذرية يقول بعضها لبعض: لم يُفْعل لنا مثل

ذلك منذ المعبود (رع)[13]، وكان كل كبير يقول لابنه:(اندب لوبيا) -

فامتنعوا عن (المشي) ، والسير الطيب (أي التنزه) داخل الحقول فوقف (مشيهم)

في يوم واحد، وحرقت التحنو في سنة واحدة، فأعطى المعبود (سوتخ) ظهره

لرئيسهم، وتمزقت (أحياؤه) حسب (مشيئة)(هذا المعبود) فلم تبق حاجة -

لحمل - (القناة) في هذه الأيام وأصبحت السلامة في (الاختفاء والتعوذ

بالبيقرة) [14] وصار (يلوذ) بسيد مصر الكبير منفتاح (الأزر)[15] والانتصار؛

لأنه يحارب وهو عارف (شطنه)[16] ، والذي يعاديه (يعد) خائنًا لا (لب)

له - ومن تعدى حدود مصر لا يقيم إلى صباح لأنها (السليلة الوحيدة) للمعبود

(رع) منذ وجود الآلهة، ولأن (سليله) - أيضًا - هو منفتاح الجالس على (سدة) المعبود (شو) فلا (حجا يقدي ليهوي) بين (ناس مصر)[17] ؛ لأن (عين) كل معبود متجهة في (سه من يعنوها)[18] ولأنها (تعني كاتفيها)[19] ؛

ولأنها تعطي الخير لأولي (البأو) العالمين العارفين لغتهم كلها (الرانون)

لأهوائهم - ونالت مصر (باؤا) فخرًا كبيرًا؛ لأن يدها (حبت) - دنت - من

رئيس لوبيا فأسرته حيًّا هكذا ظفر الملك المقدس (العادل) أمام المعبود (رع)

(بكاتفه)[19] مريري - فاعل (السوء) الذي (سخط) عليه (الزون رب منف [20]

فوفاه) - حسابه - في مدينة عين شمس، وبذلك حكم عليه التتسيع المقدس (وهو

المؤلف من تسعة آلهة) بسبب (عثوه البذيء) فقال السيد الكلي (أي رئيس الآلهة)

سأعطي (الخشيب)[21] لابني منفتاح (القوي اللب الآين)[22] الرءوف المدافع

عن منف (المجاوب عن مدينة عين شمس الفاتح (المعني)[23] الذي (يفك)

أسارى الكثير من المقيدين في كل بلد، ويعطي (الإطابات)[24] للبرابي (أي

المعابد) ، ويدخل (الكندر)[25] أمام (الزون) ويجعل (السراة تقتمي أشياءها)[26] ،

ويدخل الفقراء بلادهم) .

فقالت الآلهة على مشهد من أرباب مدينة عين شمس بخصوص ابنهم منفتاح

ليعط الحياة مثل (رع)(وليجاوب) عن كل من (رديء) - أي اختلس - لأنه

(وصي) على مصر لحسبانها جزءًا تابعًا له إلى الأزل - أي الأبد - (ولينجد) أهلها

(وليلمأ [27] بالطول) متقاعديها في (لوقته) فتكون أنفاس الحياة (بقوة) ذراعيها

(وتخبط الأشياء)[28] للمستحق بلا (جور) ولا (قمأ) والذين (يونّ [29] لبهم)

الصغير ويلقون بزور العسف (يحبون)[30] إليك بالأشياء بلا أطفال لهم) هكذا

يقال فيهم -وقد (تأياّ) مريري الملعون (الخسيس الخارّ)[31] رئيس لوبيا

(ليهوي) في أسوار ملك مصر وسيدها وهو (اللقب) الذي أطلقه المعبود (رع)

على (سليله) هذا وهو (الصيدن والقب)[32] منفتاح (المتربع) على (سدته)

ويقول يتاح (أي الفتاح) عن لوبيا: إن (خار) لوبيا - أي العاثر بعد استقامته -

(ستحصى) جميع بذاته (وتطوف - فوق - نطابه) - أي رأسه - وليجعل في (يد)

منفتاح (وليبق ما يقم)[33] مثلما - يفعل - التمساح لأن (الشوشاءة تعنو

الشوشاء) في شبكته ولو كان (نابًا)[34] لأن أمون (يلخ بحسه فيطفه)[35] من (يده) ، ويجعله تحت (قوة) منفتاح في أرمنت.

وقع (أشر)[36] كبير في مصر (وبرز النهيم)[37] في (مدن) مصر،

وتحدث الناس بنجدات منفتاح التي حازها على التحنو - ما أطيبه من (حاكم

نجد) [38] ، ما أعظمه من (صيدن بين الأزوان) ، وما أسعده حظًّا (الناب

الناهي) اجلس أيها الملك متنعمًا وتكلم (وامش شطنا) على (المتن)[39] فلا (زأد)

في (لب النات)[40] فالقلاع تركت ونفسها (والقلائب)[41] فتحت، وأخذ

(يطوف الوافدون) الاستحكامات ذات الأسوار (متفيحين) من الشمس حتى تصحى

حراسها (والماصعون ينكرون وينامون)[42] وقوم (نوو) و (تكتينوا) يكونون

في الحقل (كأبابهم)[43] ، وحيوانات الحقل تترك بلا راع (فتذئ [44] مياه

الغدير) ، ولا (صاخب) يصيح في (جنح) - أي من الليل - (هيا إمق الآتي

بلغة) الأجنبي [45](اءت) واذهب (محظوظًا) فلا (نياحة) من (نات مهمومة) قد

(عنت) المدن ثانيًا، وسيقم الفلاح محصوله والتفت (رع) إلى مصر فوُلد

منفتاح ملك مصر، وشيء له بأن يكون (مناضلاً) عنها، وأن تكون (الولاة

منبطحة) - له - وتقول (سلامًا) ، وأن (لا يرفع أحد من البدو نطابه)[46]

(فانفكت التحنو وتحفظت) خِيتا [47](واقتحيت كنعان لوبنتها [48] وعنيت عسقلان) ،

وقبض على جزال، وصارت ينعمام عدمًا في الوجود (وانفك الإسرائيليون فلا

بزر لهم، وأصبحت فلسطين خلية) [49] لمصر، (والأراضي) كلها (مضمومة)

في (حفظ) وكل (أشم وعفه [50] الصيدن القب منفتاح سليل) الشمس معطي

المعيشة كل نهار مثل الغورة (أي الشمس) . اهـ.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) بقلم حسن أفندي كمال الطالب بمدرسة الملك في لندرة نجل الأثري أحمد كمال بك أمين دار الآثار المصرية، وقد جعلناه مكان النبذة الثانية مما وعد به والده، وأوضحنا تفسير بعض الكلمات.

(1)

هذا الكتاب حاوٍ لنقوش مصرية تاريخية، فراجع هذه العبارة في السطر 36 من الباب 34 من الجزء الأول.

(2)

راجع في الجزء الأول من الكتاب المذكور السطر الثاني من الباب المتمم للعشرين.

(3)

إننا أتينا في الترجمة بالألفاظ المصرية القديمة (الهيروغليفية) الموافقة للألفاظ العربية، ومن هذه الألفاظ ما هو مستعمل الآن، ومنها ما هو غريب غير مستعمل، أو قليل الاستعمال فاضطررنا إلى تفسيره في أثناء الكلام، أو في الهوامش، فلهذا لا غرابة فيما يوجد في الترجمة من ضعف وركاكة؛ لأن هذه أول مرة حوفظ فيها على الألفاظ المتفقة في اللغتين بنصها فيهما.

(4)

الصيدن: الملك، والقب: رئيس القوم وسيدهم، وقيل الملك وقيل الخليفة، والناب: السيد الوجيه، وهو مجاز أصله المسن من الإبل.

(5)

المقصود من جبل النحاس الأمور الشاقة الثقيلة العبء كأنها من حيث الثقل جبل من نحاس، فهي استعارة مستعملة عندنا في قول البعض ثقيل كالجبل.

(6)

جمع صابّ، وهم الذين يميلون إلى الفتن ويحبون التقدم فيها والبراز.

(7)

هي القيروان وما يليها.

(8)

الأصناء: كالصنوان جمع صِنْو بالكسر، ومعناها في المصرية والعربية الأخوة، وأصله فسائل النخل التي تخرج من أصل واحد، وتهصص معناها في اللغتين تبرق.

(9)

هداته قواده، والمراد بثانيه الذي يليه.

(10)

الخسف: النقص، والنأنأة: الضعف والعجز في كل من اللغتين، ومن المعاني المناسبة لذلك في العربية قولهم: خسف فلانًا أي أذله وحمله ما يكرهه، وخسف الدابة حبسها بلا علف، ونأنأ فلان قصر وعجز، وناناه: كفه ومنعه عن الأمر، والناناء: العاجز الجبان، والزون: الصنم (راجع عدد 5 في هامش الصفحة التالية) .

(11)

ساوره: كلمه بكلام يصدع رأسه، ومريري اسم رئيس اللوبيين.

(12)

شياه بالتشديد: قبحه.

(13)

يراد بهذه العبارة المتداولة عندهم أنه لم يحصل مثل ذلك من ابتداء الدنيا.

(14)

المراد بالاختفاء: العزلة، وبالبيقرة: سكنى الدور، ويقال في العربية بيقر إذا نزل الحضر وأقام تاركًا البادية.

(15)

الأزر بالفتح: القوة.

(16)

الشطن بالفتح مصدر شطن (كنصر)، يقال: شطن في الأرض أي دخلها، إما راسخًا، وإما واغلاً، وهذا هو المعنى بالمصرية.

(17)

الحجا في اللغتين العقل، والمراد هنا ذو الحجا على حذف المضاف، ويقدي يجيء مقحمًا من البادية، وقوله: يهوي بين ناس مصر أي يهبط مصر وينزل بين أهلها، فهذه الجملة كلها عربية ومحصل معناها أنه لا يوجد عقل يغرر بصاحبه فيحمله على اقتحام البادية لهبوط مصر أي على سبيل الفتح والاستعمار، والتعليل الآتي معظم ألفاظه عربية مصرية أيضًا.

(18)

المراد بالسه: الخلف والوراء وهذا المعنى مجازي بالعربية، ويعنوها: يضعفها.

(19)

أي تأسر مبغضيها وكارهيها أي أعداءَها.

(20)

رب منف تفسير للزون، والزون بالضم يطلق في العربية على الصنم، وكل ما يتخذ للعبادة وعلى الموضع الذي تجمع فيه الأصنام وتنصب وتزين.

(21)

هو بوزن أمير السيف، ويطلق في العربية على السيف الصقيل، والسيف الذي عرض له الطبع أي الصدأ - ضد، والمراد هنا الأول بقرينة المدح.

(22)

الآئن اسم فاعل آن على نفسه أونا رفق بها في السير، ويستعمل بمعنى الرأفة والوداع، وهو الموافق للغة المصرية.

(23)

هو الذي يؤخذ عنوة، يقال: أعناه بمعنى أخضعه، وبمعنى أبقاه أسيرًا.

(24)

ورد بمعنى أحاسن الأشياء، فالظاهر أنه محرف عن الأطايب جمع أطيب.

(25)

الكندر بضم الكاف والدال: اللبان الذي كان يستعمل بخورًا في المعابد في عهد المصريين، ولا يزال يستعمله النصارى.

(26)

السراة: جمع سري كغني وقيل اسم جمع له، وهم أشراف القوم في اللغتين، وتقتمي ورد في الأثر بمعنى تجمع، ويظهر أن أصله في العربية تقتم من أقتم الشيء؛ فإن الميم الثانية تقلب ألفًا وورد بمعنى الكنس، وأكل جميع ما على المائدة ففيه معنى الجمع.

(27)

يلمأ: يلمح بنظره، والطَّوْل بالفتح الفضل والعطاء والسعة واللوقة الساعة، يقال: ذهب فلان في لوقة - أي ساعة.

(28)

تخيط من: خاط إليه الشيء إذا مر عليه سريعًا لا يلوي على غيره، والقمأ الذل والصغار.

(29)

يون ورد بمعنى يضعف، ويقال في العربية بمعنى ضعف وفتر، ووني التشديد أيضًا.

(30)

أي يدنون من الحبو، وهو أحد معانيه.

(31)

تاياه قصد شخصه وتعمده، والخارّ اسم فاعل من خر أي وقع وسقط.

(32)

اللقبان يطلقان بمعنى الملك، والقب رئيس القوم وسيدهم.

(33)

أي يقذف من فيه كل ما يأكله، يقال بق ما في فيه إذا قذفه بعنف، وهو مستعمل الآن في بلاد الشام، وقم ما على المائدة أكله كله.

(34)

أي العجلة تدفع المستعجل في شرك أعماله، ولو كان نابًا - أي سيدًا وجيهًا، والشوشاء أو الشوشاة في العربية الناقة السريعة، والناب المسن من الإبل ويطلق مجازًا على السيد.

(35)

يلخ: يعرف، وبالعربية لخ الخبر تخبره تخبيرًا واستقصاه، وبحسه: جرأته، ويطفه: يربطه تقول العرب: طف الناقة إذا شد قوائمها.

(36)

أي فرح وهو في العربية البطر من الفرح.

(37)

النهيم الصوت وهو بالعربية صوت الأسد ونحوه.

(38)

النجد كضخم وككتف ذو النجدة، ورجل نجد: شجاع ماضٍ فيما يعجز عنه غيره، سريع الإجابة إلى ما يدعى إليه وهي النجدة.

(39)

تقدم تفسير الشطن وهو هنا التوغل، والمتن: الطريق.

(40)

الزأد: الفزع، واللب: القلب، والنات: الناس على الإبدال في اللغتين.

(41)

الآبار والقليب في العربية البئر مطلقًا أو القديمة، جمعها قلب بضم القاف وسكون اللام وضمها، وأقلبة، وقلائب جمع الجمع، وهو غير مستعمل بالعربية.

(42)

الماصعون المقاتلون بالسيوف، تقول العرب: مصع فلانًا إذا ضربه بالسيف أو بالسوط ويتكرون يتكلفون الكرى وهو النوم، يفسره قوله: وينامون.

(43)

أبابهم رغبتهم وقصدهم.

(44)

أي تمر مرًّا بطيئًا أو سريعًا.

(45)

معناه: هيا فانظر كل أجنبي أتى متكلمًا بلغته (كذا فسره المترجم) .

(46)

رأسه وفي معاجم العربية: النطاب ككتاب الرأس وحبل العنق أو العاتق.

(47)

التحنو: هم سكان القيروان وما بعدها، والخيتا: هم الحيثيون المذكرون في التوراة.

(48)

قحا المال: واقتحاه أخذه كله، الوبنة: الأذى يقول نهبت أموال كنعان لأذاها وضرها وأسرت عسقلان.

(49)

الخلية التي لا زوج لها.

(50)

وعفه أضعفه، هكذا ورد بالمصرية، والوعف: بالمهملة والمعجمة في العربية ضعف البصر يقال: وعفه وأوعفه وأوغفه وبقية الألفاظ فسرت قبل.

ص: 387

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌جواب على استفتاء المنار

(جزء 2 مجلد 18) في قول الشاعر

جدير (كذا) ببهرٍ والتفاتٍ وسعلةٍ

ومسحة عثنون وفتل والأصابع

وإنما قال الشاعر (مَليء ببهرٍ) ، فقوله (جدير) سهو منه في اللفظ، لا

في المعنى لأن مليء معناها عنده جدير، أو حري، أو أو، وتفسيره مليء بهذا

المعنى هو الذي حمله على استغراب التقدير في البيت مع أنه لم يرد في كتاب من

كتب اللغة مليء بمعنى جدير، أو حري، أو ما يصح به معنى البيت بالعطف على

بهر، ولم يسمع هذا المعنى حقيقة، ولا مجازًا، إلا إذا استعمله بعضهم وحمله على

المجاز من عنده تجوزًا، ولا يخفى أن اللغة سماعية توقيفية لا يحتج بالاصطلاح

والاستعمال فيها، وحاصل ما ورد في كتب اللغة أن مليء (؟) من ملئ كسمع

فعيل بمعنى مفعول، ومعناه مملوء، ومنه مليء للغني لامتلاء خزائنه بالمال

والحسنى القضاء لامتلائهم علمًا وحكمة، فيقال فلان مملوء بالبهر والعي، ولا يقال

مملوء بالالتفات، ومسح اللحية، وفتل الأصابع، فإذا سخف المعنى وجب التقدير

وإن استقام النظم، وبحث خطأ المعاني وصوابها والحذف والتقدير لذلك مذكور في

محله من كتب البلاغة، وإليك خلاصة ما ورد في معنى ملئ بالهمز قال في

القاموس ملأه كمنع ملأً ومِلأة بالفتح والكسر، وملّأه تملئة فامتلأ وتملّأ ومليء كسمع

أقول (ومليءٌ من ملئَ) هذه، وقال في تاج العروس: ورجل مليء جليل يملأ العين

وفلان أملأ لعيني، وهو رجل مالئ للعين، ومنه حديث عمران إنه ليخيل إلينا أنه

أشد ملئة، إلى أن قال في آخر المادة وهو ملآن من الكرم ومَليء.

فلا وجه لاستغراب التقدير في البيت حينئذ إلا إذا جوزنا قول من يقول فلان

مملوء بمسح العثنون وفتل الأصابع، ولم نستسخفه، أو وجدنا معنى لمليء يصح به

العطف على بهر، وكان هذا المعنى واردًا في اللغة حقيقة، أو مجازًا، واستعمله

من يُعتد ويُحتج به.

(المنار)

صححنا البيت في الجزء الماضي، فلم يبق محل لما ذكر في هذا الجواب في

شأن استبدال كلمة جدير بكلمة مليء، والواجب حصر الكلام في ضبط البيت وبيان

معناه بالألفاظ التي ورد فيها.

ادعى (المتأدب) المجيب أن حاصل ما ورد في كتب اللغة أن مليء معناه

مملوء، وأنه ملئ كسمع، وأنه يصح أن يقال: مملوء بالبهر، ولا يصح أن يقال

مملوء بالالتفات ومسح اللحية وفتل الأصابع؛ فلهذا وجب التقدير عنده وهو الذي

قال إن التقدير: وله التفات وسعلة

إلخ، ولا وجه لاستغراب التقدير عنده إلا

في الحالتين اللتين ذكرهما في الجواب، وهما عنده في حيز النفي، هذا حاصل

جوابه.

ما ذكره وبنى عليه جوابه من أن حاصل ما في كتب اللغة أن (مليء) معناه

مملوء، وأنه من ملئ كسمع، غير صحيح فما كل مملوء يسمى مليئًا، ولا كل ما

أطلق عليه لفظ مليء يصح أن يطلق عليه لفظ مملوء، وإن كان لا يخلو الاستعمال

من المناسبة لأصل معنى المادة، ولا مليء من ملئ كسمع قال في لسان العرب:

والملاء الزكام يصيب من امتلاء المعدة، وقد ملؤ فهو مليء، ومُلئ فلان وأملأه

الله: أزكمه فهو مملوء على غير قياس، ثم قال: وقد ملُوء الرجل يملُؤ ملاءة فهو

مَلئ: صار مليئًا، أي ثقة فهو غني مليء بَيِّنُ الملاءِ والملاءةِ - ممدوان - وفي

حديث الدين " إذا اتبع أحدكم على مليء فليتبع " المليء بالهمز الثقة الغني، وقد

أولع فيه الناس بترك الهمز، وتشديد الياء، وفي حديث عليّ - كرم الله وجهه -:

(لا مليء والله بإصدار ما ورد عليه) . اهـ.

وفى القاموس المحيط: والملآء الأغنياء المتمولون، أو الحسنو القضاء منهم،

الواحد مليء. اهـ، وقد غفل (المتأدب) المجيب عن قوله (منهم) فظن أن

المليء يطلق على الحاكم الحسن القضاء لامتلائه علمًا وحكمة، على أن له أن يقول

هذا من تلقاء نفسه تجوزًا، وإن كان في جوابه ما يدل على عدم الجواز، فالقول

الثاني من قولي القاموس إن المليء يطلق على الغني الحسن القضاء أي الوفاء لا

على كل غني، ومثل هذا لا يجوز أن يقال فيه مملوء، وفسر الجوهري المليء

بكثير المال أو الثقة الغني، والفيومي بالغني المقتدر، حكاهما شارح القاموس.

وفي مجاز الأساس ما نصه: وما كان هذا الأمر عن ملأ منا أي ممالأة

ومشاورة، ومنه: هو مليء بكذا: مضطلع به، وقد ملؤ به ملاءة، وهم مليئون به

وملآء. اهـ.

هذا حاصل ما ورد في كتب اللغة في الكلمة لا ما قاله المجيب، ومنه يعلم أن

أظهر هذه الأقوال في تفسير البيت أن (مليء) فيه بمعنى مضطلع، وحاصل

المعنى أن هذا الخطيب الذي يذمه الشاعر لا قوة له على الخطابة، لا اضطلاع له

بها وإنما هو مليء مضطلع بصفات العي والحصر كلها، وهي البهر الذي هو

انقطاع النفس وتردده من الإعياء والالتفات، ومسح اللحية، وفتل الأصابع،

فالمضلع بالأمر هو القوي عليه القادر على احتماله، ويصح أيضًا أن يقال إنه غني

وثقة بهذه الصفات، أي لأنه فقير من الفصاحة والبلاغة، وما به تكون الخطابة،

أوْ لا ثقة به في ذلك.

ومن البديهي أن كلمة مملوء لا تحل محل كلمة مضطلع، ولا كلمة ثقة، ولا

كلمة حسن القضاء، أي لما عليه من الحق، بل ولا محل كلمة غني ومزكوم،

ولكن معنى الامتلاء يناسب هذا المعنى في الجملة دون معنى المضطلع والثقة، ولم

يرد عنهم: إناء أو دلو أو ذق مليء، كما يقال مملوء، فالفرق بين مليء ومملوء

مثل الصبح ظاهر.

ثم إننا نقول إذا جرى (المتأدب) في فهم كل استعمالات اللغة على الطريقة

التي جرى عليها في فهم هذه الكلمة (مليء) فاته الفهم الصحيح في أكثرها،

وأعني بهذه الطريقة أن يعمد إلى كلمة من أصل المادة، ويحمل عليها كل معنى

حقيقي ومجازي لها، مثال ذلك قولهم: اضطلع بالأمر، أصل معناها الاشتقاقي:

احتملته أضلاعه؛ ولكنه يقال في الأمور المعنوية، ومنه قول عليّ - كرم الله

وجهه - في صفة النبي صلى الله عليه وسلم فاضطلع بأمرك لطاعتك فسروه

في كتب اللغة والحديث بقولهم: قوي عليه ينهض به، وليس أمر الوحي والدين

مما تحمله الأضلاع، وإنما يحمله العقل والروح ويؤديه اللسان.

هذا ما ظهر لنا، فما يقول في البيت أدباء مصر كالشيخ المرصفي، والشيخ

محمد المهدي، وإسماعيل باشا صبري، وحفني بك ناصف، وأحمد بك تيمور،

وحافظ بك إبراهيم، ومحمد بك المويلحي، وسائر الكتاب والشعراء؟ .

_________

ص: 396

الكاتب: صالح مخلص رضا

‌تقريظ المطبوعات الجديدة [*]

(الواجب)

(مؤلفه الفيلسوف الفرنسي جول سيمون، وقد ترجم الجزء الأول منه

بالعربية محمد أفندي رمضان، والشيخ طه حسين، وطُبع بمطبعة الجريدة،

وصفحاته 74، وللمترجمين مقدمة وترجمة للمؤلف في بضع صفحات.

الكتاب من أشهر كتب الفلسفة التي نقحها عقل ذلك الفيلسوف الفرنسي الشهير

وموضوع الجزء الأول المُترجَم منه مبحث الاختيار، ومذهبه فيه كمذهب أهل

السنة وسط بين مذهبي الجبرية والقدرية، وقد عقد فيه فصلاً طويلاً للكلام في

العادة، ومكان الاختيار منها، وتأثيرها في أعمال الإنسان.

***

(شرح ابن عقيل على الألفية)

هذا الكتاب من أشهر كتب النحو، وأكثرها تداولاً، وقد طُبع مرارًا كثيرة

طبعات لا تستحق الذكر حتى طبعه منذ عامين صاحب المكتبة الأزهرية الشيخ

محمد سعيد الرافعي بمطبعة السعادة طبعة جميلة على ورق جيد بقطع أصغر من

قطع المنار، وأكبر من قطع رسالة التوحيد، ووضع له في أدنى الصفحات حواشي

في إعراب ما يشكل من أبيات الألفية وأبيات الشواهد، وتفسير الكلمات الغريبة في

أبيات الشواهد مع عزو الأبيات إلى قائليها، ومتن الألفية في هذا الشرح مضبوط

بالشكل الكامل، فنرجو لهذه الطبعة ما تستحق من الانتشار، وهو يُطلب من طابعه،

ومن مكتبة المنار بمصر.

***

(ديوان الحماسة)

أعاد الرافعي أيضًا طبع ديوان الحماسة في مطبعة السعادة، مع شرح غريبة

له المختصر من شرح التبريزي، طبعه على ورق جيد، وضبط الأبيات ضبطًا

تامًّا نادر الغلط، وقد امتازت هذه الطبعة على طبعته الأولى له بتراجم معظم

شعراء الحماسة، وبذكر سبب الشعر، وصفحاته 432 بقطع شرح ابن عقيل

ويطلب من طابعه، ومكتبة المنار بمصر.

ولعمر الله إن هذا الديوان بهذا الشرح لمن أنفع الكتب لطالب العربية، حتى

أنه كاد ليغني عن شرح التبريزي نفسه، وقد عُني الرافعي بتصحيحه عناية عظيمة

***

(المزهر)

في علوم العربية وأنواعها للعلامة جلال الدين السيوطي (جزآن) وبهذه

المناسبة نقول: إن الرافعي أعاد طبع كتاب المزهر النفيس الشهير منذ بضع سنين

على ورق جيد بمطبعة السعادة بمصر.

***

(دستور معالم الحكم ومأثور مكارم الشيم)

من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه

هذا الكتاب من جمع ورواية الإمام القاضي أبي عبد الله محمد بن سلامة

القضاعي الفقيه الشافعي المتوفى سنة 454، وهو منقول بالرواية سماعًا من ناسخه

عن القاضي سناء الدين أبي عبد الله محمد العامري بمصر نسخه له - من الشريف

القاضي الخطيب فخر الدولة أبي الفتوح ناصر بن الحسن بن إسماعيل الحسيني

الزيدي، عن أبي عبد الله محمد بن بركات هلال السعيدي اللغوي عن المؤلف.

طبع الرافعي هذا الكتاب لأول مرة عن نسخة نفيسة وجدت عند البحَّاثة جميل

بك العظم مكتوبة بخط حسن على ورق جيد، مضبوطة بالشكل التام، كتبها محمد

بن منصور بن خليفة بن منهال برسم ولده منهال، وفرغ منها في 8 ذي القعدة سنة

611 عن نسخة عليها خط الشريف الخطيب أحد رواة الكتاب، وصورة سماع

رواتها، والإجازات بها، طبعه بمطبعة السعادة، وص 208 بقطع ما ذكر آنفًا من

مطبوعاته، ويُطلب من طابعه ومن مكتبة المنار.

وحسبنا أن نقول: إن هذا الكتاب من نخب كلام أمير المؤمنين الذي أنزل الله

الحكمة على قلبه، ونطق بها لسانه، ولا يجهل أحد أن كلام الإمام يعد بعد كلام الله

ورسوله في أعلى ذروة البلاغة، والفصاحة، والحكمة البالغة، والآداب الجامعة.

_________

(*) عهدنا بتقريظ المطبوعات إلى شقيقنا السيد صالح مخلص رضا.

ص: 399

الكاتب: محمد رشيد رضا

أصول الفقه عند الظاهرية

وهي المسائل التي جعلها الإمام أبو محمد علي بن حزم مقدمة لكتابه (المُحَلَّى)

وعناوين المسائل من زيادة المنار

(2)

أفعال النبي صلى الله عليه وسلم :

(مسألة) وأفعال النبي صلى الله عليه وسلم ليست فرضًا، إلا ما كان

منها بيانًا لأمر، فهو حينئذ أمر؛ لكن الائتساء به عليه السلام فيها حسن،

برهان ذلك هذا الخبر الذي ذكرنا آنفًا من أنه لا يلزمنا شيء إلا ما أَمَرَنا به، أو

نهانا عنه، وإن ما سكت عنه فهو ساقط عنا، قال الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ

لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب: 21)

***

شرع من قبلنا ليس شرعًا لنا:

(مسألة) ولا يحل لنا اتباع شريعة نبي قبل نبينا، عليه السلام. قال

الله عز وجل: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} (المائدة: 48) حدثنا

أحمد بن محمد بن الجسور، نا وهب بن مرة، نا محمد بن وضاح، نا أبو بكر بن

أبي شيبة، نا هشيم، نا بشار، نا يزيد الفقير: أخبرني جابر بن عبد الله أن

رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي:

نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من

أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأُحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت

الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبُعثت إلى الناس عامة " فإذا صح

أن الأنبياء عليهم السلام كلهم لم يبعث أحد منهم إلا إلى قومه خاصة، فقد صح

أن شرائعهم لم تلزم إلا من بُعثوا إليه فقط، وإذا لم يبعثوا إلينا، فلم يخاطبونا قط

بشيء، ولا أمرونا ولا نهونا، ولو أمرونا ونهونا وخاطبونا لما كان لنبينا - عليه

السلام فضيلة - عليهم في هذا الباب، ومن قال بهذا فقد كذَّب هذا الحديث وأبطل

هذه الفضيلة التي خصنا الله تعالى بها.

فإن صح أنهم عليهم السلام لم يخاطبونا بشيء، فقد صح يقينًا أن

شرائعهم لا تلزمنا أصلاً، وبالله تعالى التوفيق.

***

تحريم التقليد:

(مسألة) ولا يحل لأحد أن يقلد أحدًا، لا حيًّا، ولا ميتًا، وعلى كل أحد

من الناس الاجتهاد حسب طاقته، فمن سأل عن دينه فإنما يريد معرفة ما ألزمه الله

عز وجل في هذا الدين، ففرض عليه إن كان أجهل البرية أن يسأل عن أعلم

أهل بلده بالدين الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا دُل عليه سأله،

فإذا أفتاه قال له: هكذا قال الله ورسوله؟ ، فإن قال له: نعم، أخذ بذلك وعمل

به أبدًا، وإن قال له: هذا رأيي، أو هذا قياس، أو هذا قول فلان، وذكر له

صاحبًا، أو تابعًا، أو فقيهًا قديمًا أو حديثًا، أو سكت أو انتهره، أو قال له لا

أدري، فلا يحل له أن يأخذ بقوله؛ ولكن يسأل غيره، وبرهان ذلك قوله - عز

وجل -:] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ [[1]

(النساء: 59) ، فلم يأمر عز وجل قط بطاعة بعض أولي الأمر، فمن قلد عالمًا،

أو جماعة علماء فلم يطع الله تعالى، ولا رسوله _ صلى الله عليه وسلم، ولا أولي

الأمر، وإذا لم يردا إلى ما ذكرنا فقد خالف أمر الله عز وجل، ولم يأمر الله -

عز وجل قط بطاعة بعض أولي الأمر دون بعض.

فإن قيل فإن الله تعالى قال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (النحل: 43)، وقال تعالى:{لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} (التوبة: 122) قلنا نعم ولم يأمر الله عز وجل أن تقبل من النافر للتفقه

في الدين رأيه، ولا أن يطاع أهل الذكر في رأيهم ولا في دين يشرعونه لم يأذن به

الله عز وجل، وإنما أمر تعالى أن نسأل أهل الذكر عما لا نعلم من الذكر

الوارد من عند الله تعالى فقط، لا عما قاله [2] من لا سمع له ولا طاعة، وإنما أمر

تعالى بقبول نذارة النافر للتفقه في الدين فيما تفقه فيه من دين الله تعالى الذي أتى به

رسوله صلى الله عليه وسلم لا في دين لم يشرعه الله عز وجل.

ومن ادَّعى وجوب تقليد العامي للمفتي، فقد ادعى الباطل، وقال قولاً لم يأت

به قط نص قرآن، ولا سنة، ولا إجماع، ولا قياس، وما كان هكذا فهو باطل

لأنه قول بلا دليل، بل البرهان قد جاء بإبطاله، قال الله تعالى ذامًّا لقوم: {إِنَّا

أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ} (الأحزاب: 67) .

والاجتهاد إنما معناه بلوغ الجهد في طلب دين الله تعالى الذي أوجبه على

عباده، وبالضرورة يدري كل ذي حس سليم أن المسلم لا يكون مسلمًا إلا حتى يُقر

بأن الله تعالى إلهه لا إله له غيره، وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم

فهذا الدين إليه وإلى غيره، فإذ لا شك في هذا ففرض عليه أن يسأل إذا سمع فتيا:

أهذا هو حكم الله تعالى، وحكم رسوله؟ ، وهذا لا يعجز عنه من يدري بالإسلام

ولو أنه كما جلب من (قوقو) ، وبالله تعالى التوفيق.

***

استفتاء أهل الحديث لا الرأي:

(مسألة) وإن قيل له إذا سأل عن أعلم بلده في الدين: هذا صاحب حديث

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا صاحب رأي وقياس، فليسأل

صاحب الحديث، ولا يحل له أن يسأل صاحب الرأي أصلاً، وبرهان ذلك قول الله

تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: 3) ، وقوله تعالى {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا

نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) فهذا هو الدين لا دين سوى ذلك، والرأي والقياس

ظن، والظن باطل.

حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور، نا أحمد بن سعيد، نا ابن وضَّاح، نا

يحيى بن يحيى، نا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله

صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث) .

حدثنا يونس بن عبد الله، نا يحيى بن مالك بن عائذ، نا أبو عبد الله بن أبي

حنيفة، نا أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي، نا يوسف بن يزيد

القراطيسي، نا سعيد بن منصور، نا جرير بن عبد الحميد عن المغيرة بن مقسم

عن الشعبي قال (السنة لم توضع بالمقاييس) حدثنا محمد بن سعيد بن ثبات نا

إسماعيل بن إسحاق البصري، نا أحمد بن سعيد بن حزم، نا محمد بن إبراهيم بن

حمون الحجازي، نا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سمعت أبي يقول (الحديث

الضعيف أحب إلينا من الرأي) [3] ، حدثنا همام بن أحمد، نا عباس بن أصبغ، نا

محمد بن عبد الملك بن أعين، نا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال سألت أبي عن

الرجل يكون ببلد لا يجد فيه إلا صاحب حديث، لا يعرف صحيحه من سقيمه،

وأصحاب رأي فتنزل به النازلة: من يسأل؟ فقال أبي: يسأل صاحب الحديث،

ولا يسأل أصحاب الرأي، ضعيف الحديث أقوى من رأي أبي حنيفة.

***

رفع الخطأ والنسيان:

(مسألة) ولا حكم للخطأ ولا للنسيان إلا حيث جاء في القرآن أو السنة لهما

حكم قال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} (الأحزاب: 5)، وقال تعالى:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (البقرة:

286) .

***

إنما التكليف بالاستطاعة:

(مسألة) وكل فرض كلفه الله تعالى الإنسان، فإن قدر عليه لزمه، وإن

عجز عن جميعه سقط عنه، وإن قوي على بعضه، وعجز عن بعضه سقط عنه ما

عجز عنه، ولزمه ما قدر عليه منه سواء كان أقله أو أكثره، برهان ذلك قول الله

تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا} (البقرة: 286) ، وقول رسول الله -

صلى الله عليه وسلم (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) وقد ذكرناه قبل

بإسناده، وبالله تعالى التوفيق.

***

لا يقدم الموقت على وقته:

(مسألة) لا يجوز أن يعمل أحد شيئًا من الدين موقتًا بوقت قبل وقته، فإن

كان موقتًا الأول من وقته، والآخر من وقته لم يجز أن يعمل لا قبل وقته ولا بعد

وقته، لقول الله عز وجل:{وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (الطلاق:1) ،

وقال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} (البقرة: 229) والأوقات

حدود فمن تعدى بالعمل وقته الذي حده الله تعالى له، فقد تعدى حدود الله [4]- حدثنا

عبد الله بن يوسف، نا أحمد بن فتح، نا عبد الوهاب بن عيسى، نا أحمد بن محمد،

نا أحمد بن علي، نا مسلم بن الحجاج، نا إسحق بن إبراهيم - هو ابن راهويه-

عن أبي عامر العقدي، نا عبد الله بن جعفر الزهري، عن سعيد بن إبراهيم بن

عبد الرحمن بن عوف، قال سألت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق قال:

أخبرتني عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من عمل عملاً ليس

عليه أمرنا فهو رد) .

(قال علي) ومن أمره الله تعالى أن يعمل عملاً في وقت سماه له، فعمله

في غير ذلك الوقت، إما قبل الوقت، وإما بعد الوقت، فقد عمل عملاً ليس عليه

أمر الله تعالى، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فهو مردود باطل غير

مقبول، وهو غير العمل الذي أمر به.

فإن جاء نص بأنه يجزئ في وقت آخر، فهو وقته أيضًا حينئذ، وإنما الذي

لا يكون وقتًا للعمل، فهو ما لا نص فيه، وبالله تعالى التوفيق.

***

المجتهد المخطئ خير من المقلد المصيب:

(مسألة) والمجتهد المخطئ أفضل عند الله من المقلد المصيب، هذا في

أهل الإسلام خاصة، وأما غير أهل الإسلام فلا عذر للمجتهد المستدل، ولا للمقلد،

وكلاهما هالك، برهان هذا ما ذكرناه آنفًا بإسناده من قول رسول الله - صلى الله

عليه وسلم - (إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر) ، وذم الله تعالى التقليد جملة،

فالمقلد عاصٍ، والمجتهد مأجور.

وليس من اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم مقلدًا لأنه فعل ما أمره

الله تعالى به، وإنما المقلد من اتبع دون رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه فعل

ما لم يأمره الله تعالى به، وأما غير أهل الإسلام فإن الله تعالى يقول: {وَمَن يَبْتَغِ

غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ} (آل عمران:

85) .

***

الحق واحد لا يتعدد:

(مسألة) والحق من الأقوال في واحد منها وسائرها خطأ، وبالله تعالى

التوفيق، قال الله تعالى:{فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلَاّ الضَّلالُ} (يونس: 32) وقال

تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: 82) ،

وذم تعالى الاختلاف فقال: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} (آل عمران:

105) ، وقال تعالى:{وَلَا تَنَازَعُوا} (الأنفال: 46) ، وقال تعالى {تِبْيَاناً

لِّكُلِّ شَيْءٍ} (النحل: 89) فصح أن الحق في الأقوال هو ما حكم الله تعالى به

فيه، وهو واحد لا يختلف، وأن الخطأ ما لم يكن من عند الله تعالى، ومن ادعى

أن الأقوال كلها حق، وأن كل مجتهد مصيب، فقد قال قولاً لم يأت به قرآن، ولا

سنة، ولا إجماع، ولا معقول.

وما كان هذا فهو باطل ويبطله أيضًا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم

(إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر) فنص عليه السلام أن المجتهد قد يخطئ.

ومن قال: إن الناس لم يكلفوا إلا اجتهادهم فقد أخطأ، بل ما كُلفوا إلا إصابة ما

أمر الله تعالى به، قال الله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن

دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} (الأعراف: 3) فافترض عز وجل اتباع ما أنزل إلينا، وأن

لا نتبع غيره، وألا نتعدى حدوده.

وإنما أُجِرَ المجتهد المخطئ أجرًا واحدًا على نيته في طلب الحق فقط، ولم

يأثم إذ حرم الإصابة. فلو أصاب الحق أجر أجرًا آخر، كما قال عليه السلام إنه

إذا أصاب أجر أجرًا ثانيًا، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد، نا إبراهيم بن

أحمد، نا الضريري، نا البخاري، نا عبد الله بن يزيد المقري، نا حيون بن

شريح، نا يزيد بن عبد الله بن الهادي، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث عن بشر

بن سعيد عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص عن عمرو بن العاص أنه سمع

رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله

أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر " ولا يحل الحكم بالظن أصلاً لقول الله -

عز وجل: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً} (النجم:

28) ، ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (إياكم والظن فإن الظن أكذب

الحديث) ، وبالله تعالى التوفيق. اهـ.

_________

(1)

في الأصل: وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم.

(2)

في الأصل عن من قاله.

(3)

الحديث الضعيف عند أحمد هو الحسن عند الجمهور.

(4)

الحدود المكانية أولى بهذا الحكم من الحدود الزمانية كمواقيت الحج، وقد عبر عنها في الأحاديث بمادة الحد، كما في حديث ابن عمر في البخاري (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حد لأهل نجد قرنا) ، وقد مضى عمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على ذلك فيصدق على مخالفة الحديث الآتي (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) وقد أنكر عثمان على من أحرم من خراسان، وأنكر مالك على من أراد الإحرام من مسجد الرسول بالمدينة وقال له: أخشى عليك الفتنة، وحديث أم سلمة في الإهلال من المسجد الأقصى لا يصح، وما روي في تفسير إتمام الحج والعمرة، (أن تحرم من دويرة أهلك) فمعناه أن تنوي الحج منها كما يفسره ما روي عن ابن عباس وغيره من قوله:

(أن تحرم من دويرة أهلك) لا تريد إلا الحج والعمرة، وتهل من الميقات، ليس أن تخرج لتجارة، ولا لحاجة حتى إذا كنت قريبًا من مكة، قلت لو حججت أو اعتمرت! وذلك يجزئ؛ ولكن التمام أن تخرج له لا لغيره "، وبهذا تتفق هذه الرواية مع تفسير الجمهور وظواهر النصوص والسنة العملية.

ص: 401

الكاتب: أحمد كمال

ال‌

‌مقارنة بين

اللغة المصرية القديمة واللغة العربية [*]

(3)

نص وترجمة الوصفة الطبية المدرجة في القرطاس الطبي المحفوظ بمتحف

برلين، وهي التاسعة والتسعون بعد المائة، وكانت كتابة هذا القرطاس في زمن

العائلة التاسعة عشرة، واسم الوصفة الطبية بلسانهم (بخر)[1] .

لمأة [2] تمشؤ الست لا تمشؤ [3]

بُرٌّ [4] وعُضٌّ [5] تفوحهما [6] الست بمائها رفاء [7] مثل البرني [8] والعيش [9] في

غلافين [10] ، فإن ذرءا [11] لوفرتهما [12] ، فإنها تمشؤ وإن ذرأ البر فهو ذكر، وإن

ذرأ العض فهو ست، وإن عدم الذرء لا تمشؤ.

والمعنى: إن أُريد أن يُعرف هل تلد المرأة أم لا تلد، وماذا تلد إن ولدت،

فليوضع في غلاف أي إناء شيء من البر، وفي إناء آخر شيء من الشعير، كما

يُفعل في نقع التمر والعيش، وتبول المرأة عليهما كل يوم، فإن نبتا معًا فإنها تلد

وإن نبت القمح وحده تلد ذكرًا، وإن نبت الشعير وحده تلد أنثى، وإن لم ينبتا لا

تلد.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) لأحمد كمال بك أمين المتحف المصري.

(1)

البخر: مقلوب الخبر بالضم أي الاختبار بالتجربة ونحوها.

(2)

اللمأة: اللمحة، فالهمزة مقلوبة عن الحاء، وهذا القلب معهود في اللغتين العربية والمصرية، وقد ورد في العربية لمأة ولمحة بمعنى واحد، بل هو فعل واحد.

(3)

هو من المشاء بالفتح وهو بالعربية النماء، ومنه الماشية، قال في لسان العرب: وأصل المشاء النماء، والكثرة، والتناسل؛ ولكن فعله بالعربية يائي يقال مشت إبل بني فلان تمشي مشاء إذا كثرت، والمصريون همزوا الفعل وقد اختلف علماء اللغة العربية في إطلاق لفظ الست على المرأة فقيل إنه مأخوذ من الجهات الست كما قال البهاء زهير:

ولكن غادة ملكت جهاتي

فلا عجب إذا ما قلت ستي

وقيل لحن أو عامي، وقال الفيروزآبادي الصواب أن أصله سيدتي، وظاهر كلامه أنه مخصوص بالنداء، وخالفه غيره في هذا، واستعمال هذه الكلمة بمصر أكثر من استعمالها في سائر البلاد العربية، ولا يبعد أن تكون مما أخذ العرب عن قدماء المصريين لا العكس.

(4)

البر والقمح والحنطة واحد في اللغتين كما تقدم في النبذة الأولى.

(5)

العض: بضم العين المهملة من أسماء الشعير بالعربية والمصرية وهو المراد هنا.

(6)

المراد بالتفويح بالماء هنا إراقة البول، ومادته فوح تدل في العربية على الإراقة لكنه استعمل في الدم، يقال أفاح الدم إذا أراقه وسفكه، وفاح الجرح على انتشار الرائحة، وهو المشهور، وعلى السعة وقالوا بحر فواح.

(7)

قال أحمد كمال بك: رفاء معناه كل يوم، ولا نعرف له أصلاً في العربية بهذا المعنى، ويقرب منه الرفاء (بالكسر) وهو الاتصال والالتحام.

(8)

البرني: أجود التمر، وذكر في النبذة الأولى.

(9)

العيش: أطلق على الخبز في اللغتين؛ لأنه المادة التي يعيش بها أكثر الناس.

(10)

الغلاف بوزن كتاب الصوان، والغشاء الذي يصان به الشيء، يقال غلاف الكتاب، وغلاف السيف، واستعمل بالمصرية بهذا المعنى.

(11)

يقال بالعربية ذرأ الأرض بمعنى بذرها، ويقال بذرت الأرض إذا أخرجت نباتها متفرقًا.

(12)

معناه بالمصرية كلاهما، والوفرة بالعربية الكثرة.

ص: 431

الكاتب: محمد توفيق صدقي

مدرسة دار الدعوة والإرشاد

دروس سنن الكائنات

محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صدقي

(8)

الأعضاء التي لا قناة لها

علم مما سبق أن في جسم الإنسان نوعين من الأعضاء:

(النوع الأول) : هو الذي له قناة تحمل إفرازه سواء أكان هذا الإفراز

صالحًا للجسم، أم ضارًّا به، فمثال الصالح إفراز البنكرياس، ومثال الضار إفراز

الكُلية، وتسمى هذه الأعضاء (بالغدد التي لها قناة) ، وإفرازها يسمى (بالإفراز

الخارجي) ؛ لأنه يُرى خارجًا منها، ويجري في قنواتها، وأكثر هذه الأعضاء له

إفراز آخر يسمى (بالإفراز الداخلي) ، وهو الذي يجري في الأوردة الدموية، أو

في الأوعية اللمفاوية، وله فوائد سنذكرها - إن شاء الله تعالى -، مثال ذلك

الخصية فإن لها إفراز خارجيًّا، وهو المني يجري في قنواتها المعروفة، وإفرازًا

داخليًّا لا يُرى، وله تأثير في بنية الشخص، وهيئته، وصوته، وشعر وجهه،

ونحو ذلك من مميزات الذكور التي تُفْقَد بالخصاء.

(النوع الثاني) : الأعضاء التي لا قناة لها كالطحال وغيره، وهذه لها

إفراز واحد يسمى (بالإفراز الداخلي) له منافع عظيمة في الجسم، وقال آخرون: إن

المراد من هذه الأعضاء الأخيرة ليس إفراز مواد نافعة للجسم، بل إخراج بعض

فضلاته لضرر بقائها فيه، والظاهر أن كلتا النظريتين صحيحة من بعض الوجوه،

ولكن الأولى أكثر قبولاً عند الجمهور الآن من الثانية، وهاك بيان وظيفة تلك

الأعضاء التي لا قناة لها:

(1)

الطحال: عضو شهير، وهو أكبر الغدد التي لا قناة لها، وموضعه

في الجهة اليسرى من البطن بين المعدة والحجاب الحاجز، أما وظائفه فخمس:

(أولها) تكوين كريات بيضاء للدم.

(ثانيها) توليد بعض الكريات الحمراء في بعض الحيوانات.

(ثالثها) إتلاف الكريات الحمراء القديمة التي قاربت الفساد.

(رابعها) تكوين بعض مواد نيتروجينية كحامض البوليك لإخراجها من الجسم لضرر بقائها فيه.

(خامسها) يقوم الطحال بوظيفة مستودع للدم يجتمع فيه إذا انتهى الهضم فيمتلئ به ويكبر حجمه، وإذا ابتدأ الهضم يندفع الدم منه الى المعدة.

(2)

الغدة الصعترية: غدة مؤقتة تكبر عقب ولادة الطفل إلى نهاية السنة

الثانية، إذ يتم نموها، ثم تأخذ في التناقص شيئًا فشيئًا؛ حتى لا يبقى إلا أثرها في

زمن البلوغ، موضعها في الجزء الأمامي من الصدر وراء القفص تمتد إلى أسفل

العنق، ولونها يميل إلى الحمرة، أو يقرب من السنجابي.

ووظيفتها تكوين كريات بيضاء كباقي الغدد اللمفاوية، وفي الحيوانات التي

تسبت (Hibern ate)[1] تبقى فيها هذه الغدة الصعترية مدة الحياة كلها، وفي

أثناء يقظتها يتراكم فيها جزء عظيم من الشحم، وهذا يستعمل في أثناء سباتها فيأخذ

في الاحتراق شيئًا فشيئًا.

فيظهر من ذلك أنها تجتمع فيها بعض المواد التي تلزم للحياة في أثناء هذا

النوم الطويل في تلك الحيوانات.

ويقول بعض العلماء: إنها تولد أيضًا بعض الكريات الحمراء في الأطفال،

وإذا أُزيلت هذه الغدة من بعض الحيوانات كالضفادع مثلاً حصل لها ضعف عضلي

شديد مع شلل ينتهي بالموت.

(3)

الغدة الدرقية: تُشاهد في أسفل العنق من الأمام على القصبة الهوائية،

وشكلها يشبه الدرقة؛ ولذلك سميت بهذا الاسم، وهي في النساء أكبر منها في

الرجال، وفي زمن الحيض تنتفخ قليلاً، وقد تصاب بمرض فتحصل فيها ضخامة

عظيمة تسمى بلسان الأطباء (جواتر) Gositre [2] ، وهو مرض عسير الشفاء،

ولا يزول غالبًا إلا بعملية جراحية، فيُستأصل من العنق المسماة (بتفاحة آدم)[3]

فإن هذه الغدة التي نتكلم عليها هي تحت التفاحة بقليل.

أما مادتها فمركبة من منسوج مخصوص مشتمل على حويصلات صغيرة جدًا

مملوءة بمادة غروية مركبة من الزلال وعنصر اليود.

ووظيفة هذه الغدة أن تفرز إفرازًا داخليًّا له تأثير عظيم في بنية الشخص

وقواه العقلية، فإذا مرضت أو استُؤْصِلَتْ في الأطفال وقف جسمهم عن النمو،

وأصيبوا بالبله، وإذا أصابها المرض في الكبر حدث للإنسان ما يسمى (بالتورم

المخاطي) [Myxoedema] في جسمه؛ فتضخم جميع الأنسجة تحت الجلد حتى

يتورم جسمه، ويصاب بالضعف العام في جميع قواه الجسمانية والعقلية؛ ولذلك

يجب الاحتراس في أثناء العمليات الجراحية من استئصال هذه الغدة كلها، بل

يتحتم ترك جزء منها ليقوم بهذه الوظيفة المهمة.

وإنما سمي هذا المرض الأخير بالتورم المخاطي لظنهم أن هذا الورم ناشئ

عن زيادة المواد المخاطية تحت الجلد، والحقيقة أن المنسوج الضام الذي تحت

الجلد بجميع أجزائه هو الذي يضخم، لا المادة المخاطية التي فيه وحدها.

ولعلاج هذه الأحوال يجب استمرار حقن خلاصة من الغدة الدرقية تحت جلد

المصاب، أو تستعار له هذه الغدة من أحد الحيوانات، وتلصق بجسمه جراحيًّا

(وهي طريقة قليلة النجاح) ، وأحسن من ذلك كله أن يأكل المريض من هذه الغدة ما

دام حيًّا.

ويوجد للغدة الدرقية أخوات صغيرة بجوارها، أو فيها، والراجح عند بعض

العلماء أن التأثير الأعظم في المجموع العصبي وغيره هو لهذه الغدد الصغيرة.

(4)

الغدة التي فوق الكلية: هي جسم شكله كالقلنسوة المضغوطة من

الجانبين يُرى على قمة كل من الكُليتين، أما وظيفتها فأول من اهتدى إليها طبيب

إنكليزي يسمى (أديسون) Addiso في سنة 1855م؛ ولذلك سُمي المرض

الناشئ من إصابة هذه الغدة باسمه إلى اليوم، وأعراضه ضعف في المجموع

العضلي كله، وفي المجموع الدوري للدم، وفي الأعصاب، وإصابة الجلد بلون

السمرة بحيث تشبه النحاس.

وإذا اُستخلص من هذه الغدة خلاصة، وحُقنت تحت الجلد أحدثت انقباضًا في

الأوعية الدموية الصغيرة، فهي لذلك تنفع في منع النزيف، وكذلك إذا وُضِعَتْ هذه

الخلاصة على الأغشية المخاطية صيرت لونها أكمد لانقباض الأوعية الدموية فيها

ومنعت النزيف، وأشهر الأمراض التي تصيبها هو التدرن.

(5)

الجسم النخامي أو المخاطي: هو جسم في الدماغ أحمر سنجابي،

يُشاهد على السرج التركي للعظم الوتدي من عظام الجمجمة أسفل المخ، ومرض

هذا الجسم يُحْدِث ضخامة فظيعة في عظام الأطراف العليا والسفلى، وكذلك في

عظام الوجه.

(6)

الغدة الصنوبرية: هي أيضًا داخل الجمجمة تحت مؤخر الجسم

المندمل الموصل بين فصي المخ، في وسطها تجويف صغير، ولم تُعْلَم لهذا الجسم

وظيفة إلى الآن، وغاية ما يُعْرَف عنه أنه أثر ضامر لعين ثالثة.

وتوجد هذه العين في حال أحسن منا في الإنسان في الأورال (الغطاء)

[Lizards] خصوصًا في النوع المسمى بالإفرنجية (هتيريا)[Hatteria] ، وهي

فيها مغطاة بالجلد، وفي الحرباء وبعض الزواحف تتصل الغدة الصنوبرية بعين

ثالثة في وسط سطح الرأس؛ ولكنها في الحالة الأثرية أيضًا.

وهذا العضو هو من أعظم، وأشهر الأعضاء الأثرية التي بني عليها مذهب

دارون.

(7)

الجسم العصعصي: يوجد عند نهاية العصعص، وفيه منسوج ضام

مشتمل على كثير من أوعية دموية صغيرة، وهذا الجسم لا تُعْرَف له وظيفة أيضًا

(8)

الجسم السباتي: هو جسم عند انقسام الشريان السباتي [4] الذي في

جانبي العنق الأيمن والأيسر.

وهذا الجسم يشبه في تركيبه الجسم العصعصي وهو مثله أيضًا في جهلنا

وظيفته جهلاً تامًّا

***

الجلد

تركيبه ووظيفته

يتركب الجلد من طبقتين: العليا تسمى البشرة، والسفلى تسمى الأدمة،

وفيهما الشعر، والأظفار، والغدد الدهنية، وغدد العرق، أما البشرة: فهي مركبة

من طبقات عديدة، كل منها مركب من خلايا بعضها بجانب بعض كالبلاط.

وأما الطبقات السطحية: فهي كالقشور الميتة، وتُفْقَد منها نوياتها، وتنفصل

عن الجلد شيئًا فشيئًا، ويحصل نمو البشرة من طبقاتها السفلى، وفي هذه الطبقات

ترى المواد الملونة لبعض أنواع البشر، وفيها أيضًا تحفظ المواد التي يستعملها

الناس للوشم، وطبقات البشرة تتغذى بالمادة اللمفاوية، ولها مجار دقيقة جدًّا بين

خلياتها، ولا يوجد في البشرة عروق للدم؛ ولكن يوجد في الطبقات السفلى منها

أعصاب دقيقة جدًّا.

وأما الأدمة: فهي مركبة من منسوج ليفي كثيف، وهذه الكثافة تتناقص شيئًا

فشيئًا حتى تصل إلى المنسوج الخلوي الذي تحت الجلد وبه الشحم، وفي الأدمة

حلمات صغيرة توجد بكثرة في راحة الكفين، وفي أخمص القدمين، وهي أكبر

الحلمات الجلدية، ويكون بعضها بجوار بعض صفًّا صفًّا، وهي السبب فيما نشاهده

في جلد الراحة مثلا من القنوات الصغيرة، وهذه القنوات لها أشكال متنوعة في يد

كل شخص، بحيث يتعذر وجود شخصين متماثلين فيها من جميع الوجوه؛ ولذلك

يختبر بها تحقيق الشخصية.

وفي الحلمات الجلدية لفائف من الأوعية الشعرية الدموية، وفي بعض

الأجزاء كالأخمصين، والراحتين، وغيرهما أجسام بيضاوية لها علاقة مخصوصة

بحاسة اللمس.

وفي الطبقات السفلى من أدمة الصفن، والقضيب، وحلمة الثديين ألياف

عضلية غير اختيارية، وهي التي تُحْدِث الانكماش في جلد تلك الأعضاء بانقباضها

وأما الأظفار: فهي عبارة عن بعض طبقات من طبقات البشرة تنوعت

تنوعًا خاصًّا.

وأما الشعر: فهو أيضًا طبقات من البشرة تنوعت تنوعًا مخصوصًا، وكل

شعرة تنبت من بصيلة في حفرة مخصوصة تسمى الحويصلة الشعرية، والشعر

يوجد في جميع أجزاء الجسم بدرجات مختلفة ما عدا الراحتين، والأخمصين،

والقضيب، أما لونه فهو ناشئ عن وجود مادة ملونة في خلاياه، وسبب الشيب فقد

هذه المادة، وقد يتولد في الشعر فقاقيع هوائية، وهي التي تُظْهِر أن لونه أبيض

عند حصول فزع للإنسان مثلاً.

وكل حويصلة من حويصلات الشعر لها ليفة عضلية صغيرة تجذبها في بعض

الأحوال؛ فينتصب الشعر كما يحصل عند البرد أو الفزع.

وأما الغدد الدهنية: فهي غدد كيسية موضعها في الأدمة، وتنفتح قنواتها في

أعلى حويصلات الشعر، وهي تفرز مادة دهنية فائدتها تليين الشعر والجلد،

وبانسداد هذه الغدد، والتهابها يحصل (حب الشباب) بسبب كثرة إفراز المادة

الدهنية في هذا الطور من العمر، وبعد سن الثلاثين يندر وجود هذا المرض.

وأما غدد العرق: فتوجد في جميع سطح الجلد، وتكثر جدًّا في الأماكن التي

لا شعر فيها كالراحتين، وكل منها عبارة عن أنبوبة ملتفة على نفسها، موضعها

في الأدمة أو فيما تحتها - وهو الغالب - وتنفتح قنواتها في سطح البشرة.

وأما المادة التي تفرز في داخل الأذن فلها غدد تشبه غدد العرق.

وظائف الجلد:

(1)

أن يكون وقاية للجسم، ومركزًا للحس باللمس.

(2)

عليه مدار تنظيم حرارة الجسم، كما سبق.

(3)

يتنفس الجسم منه، فإنه يخرج منه غاز ثاني أكسيد الفحم، ويمتص

الجسم أكسجين من الهواء، وهذه الوظيفة في الحيوانات ذوات الجلد السميك ضعيفة

جدًّا؛ ولكن لها في ذوات الجلد الرقيق أهمية عظمى، حتى إذا نُزع منها الرئتان

عاش الحيوان مدة بالتنفس الجلدي فقط كما في الضفادع.

(4)

الامتصاص: وهذه الوظيفة لها أهمية في العلاج؛ فإن كثيرًا من

المواد إذا وُضعت على الجلد دخلت البنية كالزئبق مثلاً، وكذلك الزيوت وغيرها

كثير، فبامتصاص الزئبق من هذا الطريق يمكن معالجة الداء الإفرنجي، وكذلك

يُعَالَج الأطفال النحفاء بدلك أجسامهم بالزيوت خصوصًا زيت السمك، وهي طريقة

لطيفة لتوقي طعمها المبغوض، ومن هنا نفهم سبب سمن أكثر المشتغلين بمس

الزيوت، والشحوم كالجزارين مثلاً؛ فإن أجسامهم تمتص شيئًا منها، والامتصاص

بالجلد هو بالضرورة أضعف من الامتصاص بالأغشية المخاطية.

(5)

الإفراز: ومعناها خروج بعض المواد الضارة بطريق الجلد من جسم

الإنسان في العرق وغيره.

***

العرق

توجد غدد العرق بكثرة في الإنسان في راحتيه وأخمصيه - كما سبق -

ولذلك يكثر العرق فيهما، ولكن يوجد اختلاف بين الحيوانات في كمية العرق التي

تفرزه، وفي الأماكن التي يفرز منها بكثرة - فالثور يعرق أقل من الحصان،

والغنم، والفئران، والأرانب، والماعز لا تعرق، والخنزير إنما يعرق أنفه بكثرة،

وأما الكلاب والقطط فتعرق براحة أرجلها.

وإذا خرج العرق من الجسم تبخر في الهواء، وفي تبخره يجتذب جزءًا من

حرارة الجسم؛ فتعرض له البرودة، وإذا كان الهواء جافًّا وحارًّا ومتحركًا كان

التبخر عظيمًا، والعكس بالعكس.

ومقدار العرق في اليوم نحو 720 جراما.

تركيب العرق:

إذا خرج العرق من الجسم يخرج معه شيء كثير من الفضلات الضارة، وهو

يمتزج بالمادة الدهنية التي تفرزها الغدد المذكورة سابقًا، ويختلط كذلك ببعض

خلايا البشرة التي انفصلت عنها، وهذه الخلايا فيها كثير من مادة الكبريت، وهذه

هي إحدى الطرق لإخراج هذا العنصر من الجسم.

أما العرق فيشتمل على ماء كثير، وأملاح متعددة أشهرها ملح الطعام،

وحوامض دهنية، ومادة البولينا، وهي التي تخرج بكثرة في البول، وهي من

أشهر فضلات الجسم المتخلفة عن احتراق المواد الزلالية فيه - كما سبق -

ومما سبق تعرف العلاقة بين إفراز الكُلى، وإفراز الجلد، فإذا كثر العرق قل

البول، وبالعكس، وهذا هو السبب في قلة إفراز البول إذا اشتد الحر في زمن

الصيف؛ لذلك كان من أحسن طرق علاج المصاب بمرض في الكُلى أن تكثر

عرقه بالتدفئة، أو بالحمامات الساخنة، أو ببعض الأدوية التي يعرفها الأطباء،

وبهذه الوسيلة تخرج بعض الفضلات الضارة من الجسم بطريق الجلد فتستريح

الكُلى حتى يتم شفاؤها.

وتوجد مواد كثيرة إذا تعاطاها الإنسان خرجت بكثرة في العرق مثل الجاوي،

وبعض الأدوية حين خروجها من الجسم تهيج الجلد، وتُحْدِث فيه طفحًا مخصوصًا

كالزرنيخ مثلاً، ومثل ذلك سموم بعض الأمراض؛ فإنها تُحْدِث طفحًا في الجلد،

وسيأتي الكلام عليها في الجزء الثاني - إن شاء الله -.

وثم مواد أخرى غير ما ذكر تخرج مع العرق في بعض الأحوال، فقد شوهد

أن بعض الناس يتلون عرقهم بلون مغاير للون الطبيعي؛ بسبب خروج دم فيه أو

بخروج المادة الحمراء الملونة للدم، وقد يخرج في العرق مادة زلالية، وذلك في

مرض الرثية (الروماتزم) الذي يكون فيه العرق أشد حموضة من المعتاد، وقد

يخرج فيه أيضًا حامض اللبنيك، وذلك في الحمى النفاسية، أو في داء الكساح، أو

الخنازير.

الاستحمام:

علم مما سبق أن الاغتسال ضروري للإنسان؛ لأن تركه يسبب تراكم تلك

المواد المذكورة آنفًا على سطح الجلد؛ فتسد قنوات الغدد، وتعوق إفرازها، وإذا

قل إفراز الجلد كثر مجهود الرئتين، والكليتين فتصاب بالعطب، زد على ذلك كون

القذارة تحط من قدر المرء، وتنفر الناس منه، وتحدث بعض أمراض في الجلد

نفسه كالحكة.

ومن فوائد الاستحمام غير ما ذكر أنه ينشط الجسم، وينبه المجموع العصبي

والدوري؛ ولذلك أوجبه الشارع الحكيم بعد الجنابة لإزالة ما يحدث للجسم من

الفتور بعد الجماع، والاستحمام يقوي المرضى والضعفاء، ومن ذلك تظهر حكمة

اغتسال الحائض والنفساء لأن هاتين الحالتين هما - من غير شك - مرضيتان.

وأحسن طريقة لإزالة أوساخ الجسم هي استعمال الماء الفاتر، أو الساخن مع

الصابون، والدلك بالليف، أو نحوه، ولا يخفى أن الدلك من أحسن الوسائل

المستعملة في الطب الحديث لتقوية الأعصاب، والعضلات، وإزالة بعض الآلام؛

ولذلك يمدح بعض أطباء الإفرنج الإمام مالكًا رضي الله عنه لجعله الدلك من

فرائض الغسل؛ فإنه أكثر تقوية للجسم من الغسل وحده.

أما الصابون فإنه يتولد من تأثير البوتاسيوم، والصوديوم في المواد الدهنية أو

الزيتية.

أنواع الحمَّامَات هي:

(1)

البارد: وحرارته تكون أقل من حرارة الجسم بكثير.

(2)

الفاتر: وحرارته أقل بقليل.

(3)

الساخن: وحرارته مثل حرارة الجسم.

(4)

الحار: وهي مثل حرارة الجسم إذا أصابته الحمى الشديدة.

والمياه الساخنة منبهة للجسم مزيلة لآلام الروماتزم وغيرها، ويصح لكل

إنسان أن يستعملها.

أما المياه الباردة فالأولى أن لا يستعملها الإنسان إلا في زمن الصيف بشرط

أن يكون صحيح البنية سليم الكُليتين والرئتين، وإذا أحس الإنسان بعدها بحرارة

في جسمه كان ذلك دليلاً على أن بنيته تتحملها بشرط السلامة من المرض.

وينبغي أن يستعمل الإنسان بعد الحمَّام البارد الدلك الشديد، والتدفئة بالملابس

الكافية، والرياضة البدنية نحو نصف ساعة.

وكذلك يجب في جميع الحمَّامَات تنشيف الجسم من الماء تنشيفًا جيدًا؛ فإن في

ذلك وقايته من البرد، ويجب في الحمام الساخن أن لا يخرج الإنسان منه دفعة

واحدة إلى الهواء البارد، وأحسن وقت للاستحمام أن يكون في الصباح قبل الفطور

أو بعد تناول لقيمات قليلة جدًّا مع فنجان من القهوة أو الشاي، ومن الضرر البليغ

أن يغتسل الإنسان بعد الجوع الشديد، أو التعب الكبير، أو بعد امتلاء المعدة

بالطعام، ولا يصح دخول الحمَّام عقب الأكل إلا بعد مضي ساعة، أو ساعتين على

الأقل.

ولا يجوز استعمال الماء البارد للشيوخ، والعجائز، ولا للمصابين بضعف

القلب.

والماء البارد نافع جدًّا في الحميات، وكذلك الفاتر، وهذا مصدق للحديث

القائل (الحمى من فيح جهنم، فأبردوها بالماء) - كما سبق - والمعالجة بالماء

Hydrotherapy نجحت نجاحًا عظيمًا في شفاء كثير من الأمراض الضعيفة،

والأمراض التي تنهك القوى العقلية، ولإزالة مضار الحياة الجلوسية.

أما السبب في إحساس الإنسان بالحرارة عقب استحمامه بالماء البارد، فهو

تمدد أوعية الجلد، وامتلاؤها بالدم بعد انقباضها عند استعمال الماء البارد، وهو ما

يسمى (برد الفعل) .

والواجب أن يكون زمن الحمام البارد قصيرًا جدًّا (أي بضع دقائق) ؛ فإن

الغرض منه ليس تنظيف الجسم، بل تقويته، ويجب أن لا يكون الحمام الساخن

في مكان فاسد الهواء، كأن توضع فيه النار مثلاً.

وينبغي الاستحمام في الصيف مرتين في الأسبوع على الأقل، وفي الشتاء

مرة واحدة، وينبغي تغيير الملابس بعد الاستحمام، ومن هنا نفهم حكمة الشارع في

سن غُسل الجمعة، ولبس أحسن الثياب يومه، وفي فرض الغسل بعد كل جنابة

ولو بالاحتلام، وفرض طهارة الثوب.

***

الملابس

الغرض من الملابس حفظ الجسم من البرد، والحر، والرياح، والمطر،

والقاذورات، وهي تدفئه، وتحفظه من بعض العوارض، وكذلك تزينه.

وتُتخذ الملابس إما من الحيوان، أو من النبات:

(1)

ما يتخذ من الحيوان:

فهو الصوف والوبر والشعر:

وهي تؤخذ من الأنعام كما هو معروف، وهذه الأشياء جميعا تغزل، ثم تنسج

ما عدا اللباد؛ فإنه يصنع بلا غزل، ولا نسج، ولتمييز هذه الأشياء عن المواد

النباتية يُوضع جزء منها في محلول القلويات [5] الكاوية، فإذا ذاب علم أنه من

أصل حيواني.

والكشمير:

يتخذ من شعر ماعز بلاد التبت.

وهذه الأصناف جميعًا موصلة رديئة للحرارة، وتمتص الرطوبة بسهولة،

وسرعة؛ ولكنها تتبخر منها ببطئ؛ فلذلك كانت نافعة جدًّا في التدفئة، ومن

معايبها أنها تيبس، وتنكمش بالغسل.

الحرير:

يُفْرَز من غدتين بأسفل جسم دودة القز، ولهما قناتان تنفتح في الشفة السفلى

لفم الدودة، والخيط الواحد عبارة عن خيطين دقيقين جدًّا ملتصق أحدهما بالآخر

وطوله نحو 4000 ياردة.

وتفرز بالدودة هذا الخيط لتبني به بيتًا حولها يحيط بها، ويخفيها عن الأعين

ويحفظها من كل ما يؤثر فيها مدة تحولها إلى فراش، ويسمى هذا البيت بالشرنقة،

فإذا تحولت إلى فراش ثقب هذا البيت، وخرج منه، فتتزاوج ذكوره بإناثه،

وتضع الإناث بيضًا صغيرًا جدًّا كحجم رأس الدبوس الصغير يشبه بزور الخشخاش

(أبي النوم) ، وهذه البويضات تفقس؛ فتخرج منها ديدان دقيقة، وهي ديدان القز،

ولا تفزر الحرير إلا بعد كبرها، وتمام نموها، وتتغذى هذه الديدان بورق التوت،

وفي بلاد المغول نوع آخر منها يتغذى بورق البلوط، وهاك تفصيل حياة هذه

الدودة كما علمته بالمشاهدة أثناء تربيتي لها:

يبدأ بيض القز يفقس في أواخر شهر فبراير، أو أوائل مارس وقت ظهور

ورق التوت، ويكون الدود صغيرًا جدًّا كالنمل، ثم يكبر حتى يصير طول الواحدة

نحو 6 - 8 سنتيمتر، ويخرج الحرير في أوائل شهر إبريل، ويقال إنه يمكن

تربيته أيضًا على ورق الخص؛ ولكن حريره يكون أقل، وتتكون الشرانق فإذا

تمت خرج الفراش منها بعد نحو 18 أو 19 يومًا، وتبدأ الإناث بوضع بيضها بعد

نحو 24 ساعة من خروجها، وعدد بيض كل نحو 200 على الأقل، ويموت الذكر

والأنثى من الفراش بعد خروجه بنحو عشرة أيام، والأنثى أكبر قليلاً، وأصفى

بياضًا.

أما لون البيض الجديد، فهو مصفر فإذا قَدُم صار رماديًّا، وهو مفرطح،

ومنبعج في وسطه، ولا يأكل الدود داخل الشرنقة شيئًا، ولا يشرب، وكذلك

الفراش.

ولون الشرنقة أبيض، أو مصفر قليلاً أو كثيرًا، وشكله بيضاوي مخصر،

وطول الشرنقة من اثنين ونصف إلى ثلاثة ونصف سنتيمترا، وعرضها واحد

ونصف تقريبًا، وقد يفقس البيض مرة أخرى في مايو.

أما خيط الحرير فله قلب محاط بمادة شمعية زلالية، ولتمييز هذه الخيوط

الحريرية عن الخيوط النباتية يُوضع عليها حامض البكريك Picric [6] ، ولونه

أصفر، فإذا تلونت به كانت حريرًا صحيحًا، وإلا فلا.

ولتمييز الحرير عن الصوف مثلاً يُوضع القماش في محلول قلوي من أكسيد

الرصاص؛ فإذا تلون باللون الأسود دل ذلك على أنه صوف لوجود مادة الكبريت

فيه؛ فتتحد مع الرصاص؛ وتحدث هذا اللون الأسود، أما الحرير فليس فيه هذه

المادة الكبريتية.

والحرير يمتص الرطوبة بكثرة، وهو موصل رديء للكهرباء، ويقال إنه

يحفظ الروائح، وجراثيم الأمراض.

ولا يحتاج الجسم إلى لبس الحرير إلا إذا كان مصابًا بداء الحكة، ولا شك أن

الشارع يبيحه في مثل هذا المرض، فقد لبسه بعض الصحابة بأمر رسول الله -

صلى الله عليه وسلم في ذلك المرض، لأن الضرورات تبيح المحظورات.

ويؤخذ من الحيوانات أيضًا الفرو، والريش، والجلود، أما الفرو فيُستعمل

في البلاد القطبية، والريش يُستعمل للزينة غالبًا، والجلود تستعمل في الأحذية

وغيرها.

(2)

ما يتخذ من النبات:

القطن:

وهو خيوط تحيط ببزور شجرة معروفة تنبت في البلاد الحارة والمعتدلة

كمصر، وهذه الشجرة هي حقيقة شجرة مباركة، فقطنها ضروري للملابس

والأثاث وغير ذلك، وبزورها يُستخرج منها زيت جيد نافع في التغذية يسمى في

مصر بالزيت الحلو، وهذه البروز تُستخرج منها خلاصة تدر لبن المراضع،

وكذلك إذا أُعطيت للأنعام كثر لبنها، وهذه الخلاصة تباع باسم (Lactagol)

تصنع في المعامل الإفرنجية، وتُستعمل سيقان هذه الشجرة في الوقود، وقشر

جذورها مجهض للحبالى.

والقطن كالصوف يُغزل أولاً، ثم يُنسج لصناعة الأقمشة منه، وهو عبارة

عن مادة السللولوز المتقدم ذكرها.

وإذا وضع القطن في محلول الصودا الكاوية تحول إلى مادة تشبه الحرير،

وهي التي تصنع منها أكثر الأقمشة المسماة كذبًا حريرًا.

وخيوط القطن تتحمل الغسل والغلي، وهي تمتص الرطوبة امتصاصًا رديئًا

وتوصل الحرارة جيدًا؛ ولذلك كانت الملابس القطنية مبردة.

الكتان:

يؤخذ من سيقان شجرة مخصوصة، بأن تخمر هذه السيقان في مكان رطب

ثم تدق إلى أن تتفرق خيوطها، ثم تمشط، ومن بزور هذه الشجرة يُستخرج الزيت

المسمى بالزيت الحار، وهو فضلاً على كونه مغذيًا مدر للبول، ومنفث للبلغم،

وتستعمل هذه البزور أيضًا في عمل الضمادات (اللبخ) ، والمنسوجات الكتانية

موصلة جيدًا للحرارة، وامتصاصها للرطوبة رديء كالقطن؛ ولكنها أغلى ثمنًا منه

لنعومتها وبريقها.

القنب:

يؤخذ من سيقان شجرة أخرى، كما يؤخذ الكتان؛ ولكنه خشن جدًّا، وقل أن

يستعمل إلا في الحبال، والقلاع، والأكياس الخيشية، ومن هذا النبات يؤخذ

الحشيش، وهو تلك المادة المغيبة الملعونة، وبزر القنب يستعمل لغذاء الطيور.

ألوان الملابس وسعتها:

أما ألوان الملابس فتأثيرها في الحرارة كما يأتي: الأبيض يمتص الحرارة

امتصاصًا رديئًا جدًّا فهو أبردها، ويليه الأصفر، فالأحمر، فالأخضر، فالأزرق،

فالأسود؛ ولذلك إذا وضعت قطعة من ثلج في قماش أسود، وقطعة أخرى في

قماش أبيض ذابت الأولى أسرع من الثانية؛ لأن الأبيض يطرد الحرارة، الأسود

يمتصها، وتنفذ منه إلى الثلج، وكذلك يرتفع زئبق الثرمومتر درجات أكثر إذا

وُضع على قماش أسود.

ومن الخطأ لبس الملابس الملونة فوق الجلد مباشرة؛ فإن أكثر الألوان تشتمل

على مادة سامة؛ فتهيج الجلد، وإذا امتصت منه أفسدت الصحة.

ويجب أن تكون الملابس غير ضيقة؛ وإلا عاقت الدورة، والتنفس،

وشوهت شكل الأعضاء كمشدات الإفرنج، وأحذية أهل الصين، ولبس الأحذية

الضيقة ضار جدًّا بالأقدام؛ فقد يغوص بعض الأظفار في اللحم، ويُحْدِث قروحًا،

والتهابات تؤذي الشخص أذى بليغًا، وعلى هذا ما تُحْدِثه الأحذية الضيقة في بشرة

القدم من الحلمات الصلبة المؤلمة.

نظافة الملابس:

أما نظافة الملابس، فهي واجبة طبًّا، وشرعًا لقوله تعالى:{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (المدثر: 4) فهي فرض على المسلم، وإن لم يشترطها بعضهم في صحة

الصلاة.

وأما المضار الناشئة من قذارة الثوب فهي عديدة، وإليك بيان بعضها:

(1)

إذا تراكم العرق، والإفراز الدهني في الملابس، منعها امتصاص

العرق، وعاق الجلد عن تأدية وظيفته، وأحدث حكة فبثورًا، أو دمامل، وهذا هو

أهون المضار.

(2)

إذا اتسخت الملابس كثر فيها القمل والبراغيث، وهما من أشد

الحيوانات فتكًا بالإنسان، فإن القمل ينقل إلى الإنسان الحمى التيفوسية، والحمى

الراجعة، والبراغيث تنقل إليه الطاعون، فللوقاية من هذه الأمراض الفتاكة يجب

تطهير الملابس من سائر الحشرات.

(3)

الملابس القذرة كثيرًا ما تكون سببًا في نقل العدوى من شخص إلى

آخر إذا تناقلاها، أو لمساها، فمثلاً الجرب، والأرضة الجلدية (تينيا) كثيرًا ما

تُنقل بهذا الطريق، وإذا تنجس الثوب بالبول، أو البراز، أو الصديد، أو الدم كان

سببًا في نقل الحمى التيفودية، والدوسنطارية، والديدان الخيطية، والرمد

الصديدي، والزهري، وغير ذلك، وإذا كان الشخص من حاملي الأمراض -

وسيأتي بيان ذلك - كانت بعض مفرزاته معدية، ولو كانت صحته جيدة.

وحيث إن طهارة الثوب فرض، وهذه الطهارة لا تكون تامة إلا إذا خلا

الثوب من البول، والبراز، وغيرهما، وخلوه منهما لا يكون إلا بالاستنجاء؛

فينتج من ذلك أن الاستنجاء فرض على المسلم.

وأحسن طريقة لتطهير الثوب أن يُغْلَى غليًا جيدًا نحوًا من نصف ساعة، ثم

بعد ذلك يُغسل بالماء والصابون، ثم ينشر في الشمس كالمعتاد، ولا عيب في هذه

الطريقة إلا أنها تجمد المواد الزلالية كالدم والصديد؛ فيتعسر إزالتهما تمامًا من

الثوب، أما غسله بالماء البارد قبل الغلي؛ فيذهب تلك المواد بسهولة؛ ولكنه يلوث

الأيدي والماء؛ فإذا اتبعت هذه الطريقة الأخيرة وجب غسل الأيدي غسلاً جيدًّا،

وتطهيرها بوضعها في مادة مطهرة كالغول (الكحول) وغيره، والواجب أن يغلى

الماء الذي غسلت فيه قبل أن يلقى منعًا لانتشار الأمراض بين الناس.

***

فصل

في تنظيف الجسم كله تفصيلاً

(مع بيان فوائد ذلك وتطبيقها على الدين الحنيف)

نظافة الرأس:

تكون بحلقه، أو قصه، ثم يُغسل بالماء الساخن والصابون، مع الدلك بشيء

خشن كالليف، ولم ينه الشارع عن الحلق إلا في الإحرام؛ ولكنه أباحه لمن به

مرض، أو أذى من رأسه، والحلق واجب طبًّا لإزالة الحشرات، ولتمكين الأدوية

من برء أمراض الشواة (جلدة الرأس) ، ولعلاج جروحها، أو كسور عظامها،

ولوضع الضمادات الباردة فوقها في الصداع، أو ضربة الشمس، أو النزف المخي

أو غير ذلك؛ وإذا أبت امرأة حلق رأسها لوجود قمل أو صئبان فيه أمكن إذهاب

ذلك بصب زيت البترول فوق شعرها؛ فإن ذلك قاتل للقمل، وحمض الخليك بنسبة

1 -

4 يسهل استخراج الصئبان من الشعر - كما سبق -.

وإذا تُركت نظافة الرأس أضر الإنسان القمل، وحدث برأسه قروح، وبثور

وأمراض أخرى كالقراع؛ فيتسمم دمه بما في رأسه من القروح؛ وقد تصيبه

الحمرة، أو تلتهب العقد اللمفاوية في العنق، أو يصيبه داء الخنازير.

غسل الوجه:

واجب كذلك، وخصوصًا لتنظيف العينين؛ فإن ذلك يقيهما من أرماد كثيرة،

والأحسن أن تُغسل العينان في كل يوم مرة، أو مرتين بمحلول حامض البوريك

المشبع (أي بنسبة 4 في المائدة) بعد الغسل بالماء والصابون.

أما نظافة الأذن:

فيكفي أن تغسل، كما تغسل في الوضوء، ولا يجوز اللعب في داخلها بشيء

فإن ذلك قد يحدث التهابًا فيها، أو يثقب طبلتها، وحركة الفكين في المضغ وغيره

كفيلة بإخراج آفها (وسخ الآذان) وعندئذ يسهل غسله؛ وإذا أُهملت الآذان من

الغسل يعرض لها صمم من تراكم الأوساخ فيها، وطنين مع دوار، وقد يحدث ألم

فيها، وسعال مستمر.

غسل الأنف:

يكون بالاستنشاق، والاستنثار، أما نتف شعره فمذموم، وقد ورد في بعض

الآثار ما يفيد مدح نبات شعر الأنف، وحكمته أن هذا الشعر ينقي هواء التنفس من

التراب، والميكروبات، وغيرهما.

نظافة الفم:

هي من أكبر المهمات، وتكون بالمضمضة، والسواك؛ ولذلك كاد الشارع أن

يفرضه، ويرى بعض أطباء الإفرنج الآن أن السواك خير من مسفرتهم (فرشتهم)

لأن السواك يمكن تجديد طرفه المستعمل مرارًا كثيرة لرخص ثمنه، أما الفرشة فلا

يمكن تجديد شعرها؛ فتتراكم فيها أنواع الميكروبات الضارة بالأسنان؛ ولذلك قال

بعض أطباء الأسنان: إن السبب في انتشار أمراضها بينهم هو استعمال هذه الفرشة،

ونصحهم باستعمال السواك، وتجديده كثيرًا، أو بغلي الفرشة بعد كل استياك.

أما مرض الأسنان فإنه مؤلم جدًّا، ومفسد للهضم، ويحدث منه تسمم في الدم

فيصفر لون الشخص؛ وتضعف قواه؛ وقد يصيبه داء الخنازير أيضًا، وإذا مرض

ضعفت مقاومة جسمه، عن احتمال الأمراض فلذا كان الواجب العناية بنظافة

الأسنان نظافة تامة.

أما الشارب فالأفضل قصه فإنه تتراكم فيه الأوساخ، والميكروبات فتصل إلى

طعام الإنسان وشرابه، ولا بأس بترك اللحية لأنها بعيدة عن ذلك وهي مظهر من

مظاهر الرجولية.

الإبطان:

يجب نتفهما، أو حلقهما منعًا لتراكم القمل، أو الميكروبات فيهما؛ وقد تتولد

عفونات فيهما تُحْدِث روائح كريهة، ومن الميكروبات التي تنمو في الإبط ما يُحْدِث

العرق الأحمر.

وكذلك يجب تقليم الأظافر وتخليل ما في الأيدي من الثنيات فإن وجود

الميكروبات فيها وتحت الأظافر ضار جدًّا لسهولة وصولها إلى طعام الإنسان،

وشرابه، ومن أشهر الأمراض التي تصل بهذا الطريق هي الحمى التيفودية؛

ولذلك يجب غسل اليدين غسلاً جيدًا قبل كل طعام، ومن الأمراض التي كثيرًا ما

تصيب الأيدي داء الجرب؛ فإن حييوينه إذا وصل إلى الأيدي، ولم يُطْرَد عنها

بالتنظيف المتوالي ثقب الجلد، وأحدث هذا الداء، وأحسن الوسائل المتبعة لوقاية

الطعام من كثير من الميكروبات الأكل بالشوكات، والملاعق، واستعمال السكاكين

ويجب حلق العانة وكذلك الختان منعًا لتراكم القمل، والصئبان في شعر العانة،

وتجمع القاذورات تحت القلفة، وقمل العانة هذا هو كقمل الإبط واللحية وغيرهما؛

فلذا يمكن انتشاره من العانة إلى مواضع أخرى من الجسم حتى الحواجب،

وأهداب العين، ولا يخفى ما في ذلك من الضرر العظيم، وفي حلق العانة شيء

من تحريك داعية الوقاع لتهيج هذا المكان عند نبات الشعر.

ومن مستلزمات نظافة السبيلين الاستنجاء، وذلك للمحافظة على طهارة الثوب

المفروضة، ومنع الروائح الكريهة، وانتشار الأمراض، وقد يقي الإنسان أيضًا

من السيلان والإفرنجي، ويكون الاستنجاء باليد اليسرى، ولا ينبغي الأكل بها،

ويتحتم غسل الأيدي بعد كل استنجاء غسلاً جيدًا، وكذلك يجب بلها بالماء قبله لمنع

تشرب اليد للمواد الكريهة وللميكروبات بقدر الإمكان.

ومن الواجب أيضًا نظافة القدمين وتكون بالغسل الجيد المتكرر والتخليل،

فإن ذلك مانع لتسلخاتهما، ولروائحهما الكريهة؛ فإنه إذا تراكمت الأوساخ فيهما؛

فقد يعرض للأخمصين، ولما بين الأصابع تسلخات، ربما أدت إلى التهاب في

العقد الأربية، ونشأ عنه حمى، وخراج في ذلك الموضع، وتلك التسلخات مؤلمة

وتعوق الإنسان عن المشي، وتعطله عن أعماله.

وبعد ذكر هذه النظافة التفصيلية يجب علينا تكرار الحض على تنظيف سائر

الجسم، ودلكه جيدًا بالماء والصابون؛ فإن نفع ذلك معلوم مما سبق، ويجب علينا

تكرار ذكر ما للقمل من المضار - خصوصًا قمل الجسم أو الملابس - فإنه فضلاً

عن نقله للحميات المذكورة قد يكون هو وحده سببًا في إحداث حمى شديدة - كما

قلنا - وذلك إما بسبب تهييج أعصاب الجسم بلدغه، أو بحقن سموم في الجسم من

إفرازه، فقد شوهد أن بعض الناس قد أصابته حمى في منتهى الشدة، حتى زادت

حرارته عن أربعين، وعند البحث في جسمه لم يوجد به مرض، ولم يكن هناك

سبب لتلك الحمى سوى وجود قمل كثير في الجسم، وبعد النظافة التامة زالت عنه

الحمى في الحال.

زد على ذلك ما للقمل من المضار الأخرى، كإقلاق راحة الإنسان، ومنع

النوم عنه، وإحداث بثور في الجسم.

***

القاذورات والنجاسات

القاذورات التي نعتبرها ضارة طبًّا، هي عين النجاسات المعروفة شرعًا،

وأشهرها البول، والبراز، والدم، والقيح، أو الصديد، والقيء، والمني، ولم

يعتبر اللعاب، والمخاط من الشخص السليم ضارًّا في الشرع؛ لأنه حقيقة لا يوجد

فيه ميكروب يضر الإنسان ضررًا بليغًا، اللهم إلا ميكروب الالتهاب الرئوي

والميكروب اللعابي (الذي ذكر في صفحة 69 من هذا الكتاب) ، ولكن هذين

الميكروبين، وغيرهما يسكنان عادة في فم كل شخص، ولا يضرانه إلا إذا ضعفت

بنيته عن مقاومتهما؛ ولذلك كان الاحتراس من لعاب الشخص السليم، ومخاطه لا

فائدة كبيرة فيه، أما البلغم فهو شيء غير المخاط العادي إذ أنه يشتمل على شيء

من الصديد، وغيره كبلغم المسلولين، وهو خطر جدًّا، فيجب اعتباره نجسًا

لاشتماله على الصديد، أو الدم كما ثبت ذلك بالبحث المجهري، وقد نص الفقهاء

على أن كل ما يخرج من الصدر من نخامة وغيرها نجس.

وقال فقهاء الحنفية: إن ما زاد من هذه النجاسات عن قدر الدرهم وجب تطهير

الثوب وغيره منه، ولا يخفى أن المصاب بالسل، وغيره من الأمراض الصدرية

يخرج من فمه كثيرًا من الصديد، الذي قد يزيد عن قدر الدرهم

فإذا كان الواجب عندهم أن يتطهر الإنسان من البلغم إذا أصاب ثوبه بهذا

المقدار، كما يتطهر من البول والبراز؛ فإنه لا فرق بينهما، وكلاهما ضار ضررًا

بليغًا، على أن الإمام الشافعي يرى أن القليل والكثير من النجاسات سواء، فيجب

التطهر حتى من قليل البلغم الذي يخرج من الصدر.

***

نظافة البيوت وشروطها الصحية

من مقتضى الطهارة في الإسلام أن يكون مكان الشخص نظيفًا طاهرًا لئلا

يتنجس ثوبه فطهارة البيوت - فضلاً عن كونها واجبة طبًّا - هي واجبة شرعًا.

ومن أكثر الأسباب نشرًا للأمراض أن يدوس الإنسان في الطريق على ما

يُلقى فيه من القاذورات، وميكروبات الأمراض، ثم يأتي إلى بيته ولا يخلع نعليه

فإن ذلك مما ينشر في البيوت أكثر الأمراض كالدفثيريا، والسل، وكثيرًا من

الحميات العفنة.

فالواجب أن تكون أرض البيت، وفرشه، وحيطانه، وسقفه وكل ما حوى

في غاية النظافة، بحيث لا تتلوث بشيء من النجاسات المذكورة آنفًا، وكذلك يجب

أن تنظف من القمل، والبق، والبعوض (الناموس) ، والذباب والفئران،

والبراغيث، وغير ذلك بأن تسد جميع شقوقها، ويتكرر تنظيفها خصوصًا بالجير

أو نحوه، وتغسل أرضها، ويصب في مراحيضها شيء من البترول [7] لقتل العلق

(صغار الناموس) ، وبيضه.

وينبغي أن تكون المساكن طلقة الهواء، ذات منافذ كثيرة معرضة لأشعة

الشمس بعيدة عن الأماكن الرطبة، والأفضل أن تكون مراحيضها في الجهة

الجنوبية بمصر - أو ما يقابل الجهة التي يكثر الهواء منها في كل بلد - وتكون

حيطان هذه المراحيض مصقولة صقلاً جيدًا بحيث لا تنفذ المياه منها إلى أرض

المنزل؛ فتملأه بالرطوبات، والروائح الكريهة، وتفسد هواءه، ويجب أن يكون

لمثل هذه المراحيض منافذ كالمداخن تعلو فوق سطح المنزل من الجهة الجنوبية

لتصريف الروائح الكريهة؛ فإذا اُتبعت جميع هذه الشروط، وكانت الشوارع متسعة

كانت المساكن صحية.

ومن الناس من يجمع المواد البرازية، وغيرها في أواني مخصوصة، ثم

تحمل إلى خارج المدن، وذلك خير من تلويث أرضها بها، والأفضل من ذلك كله

أن يعمل لها مجارٍ صقيلة (كقنوات مواسير) الحديد لتحمل هذه المواد إلى مستودع

بعيد عن المدينة كلها بعدًا شاسعًا، وينبغي الانتباه إلى هذه المواسير جيدًا بحيث لا

ينفذ منها شيء إلى ما يجاورها عادة من قنوات الماء.

والسكنى في الأماكن الرطبة العفنة مضعفة للصحة بإفسادها الهواء، وإحداثها

البرودة، ولإكثار الميكروبات فيصاب الشخص بالنزلات الشعبية، والرئوية،

ونزلات الأنف، والحلق، والتهاب اللوزتين، بل الدفتيريا أيضًا، والروماتزم،

وغير ذلك.

والواجب أن تكون أفواه المراحيض حيث يتبرز الإنسان مسدودة بمثل

المنجنيق أو السيفون [8] Siphon المستعملين الآن.

وماء السيفون يذيب الغازات، ويمنع أكثرها من الدخول في البيت، وكذلك

يعوق خروج البعوض، والخنافس، والصراصير، والفئران، ويجب تجديد ماء

السيفون مرارًا حتى في اليوم الواحد.

وأعظم ضرر للنوع المسمى (ANOPHELES) من البعوض - الناموس-

هو إحداث حمى النافض (الملاريا أو الحمى الأجمية) ومن الناموس ما ينقل

أيضًا الحمى المالطية والجذام - كما سيأتي -.

وأما أهم ضرر للجرذان (الفئران الضخمة) فهو أنها تصاب بالطاعون الذي

ينتقل منها إلى الإنسان بواسطة بعض أنواع البراغيث.

وأما البق فقد ينقل الطاعون، أو الجذام، وغيرهما.

وأما الخنافس، والصراصير، والنمل فضررها الأكبر أنها تنقل القاذورات،

والميكروبات من المراحيض، وغيرها إلى طعام الإنسان، وشرابه، وملبسه

وفرشه، وكفى بذلك ضررًا عظيمًا.

***

المطهرات

علم مما سبق أن أصل جل الأمراض - إن لم نقل كلها - هو القاذورات بما

فيها من الميكروبات [9] ، وسمومها، فلذا تجب معرفة بعض الأشياء القاتلة لهذه

الأحياء الدنيئة، وهي المسماة بالمطهرات.

وأشهر هذه المطهرات وأكثرها استعمالاً ما يأتي:

(1)

الشمس فإن أشعتها تقتل الميكروبات.

(2)

النار وهي أقوى المطهرات، وأسهلها، وتستعمل كثيرًا في غلي

الأشياء الملوثة.

ولما كان بعض بزور الميكروبات (حبيباتها) قد يقاوم درجة الغليان (أي

درجة 100) لمدة 5 أو 10 دقائق؛ فلذا يجب إطالة مدة الغلي فوق ذلك، فإذا

أصيب شخص بمرض معد فللوقاية منه يجب غلي ملابسه، وفرشه، وجميع ما

استعمله في مرضه كالأواني وغيرها، أما الأشياء التي لا يمكن غليها كقطن

الفراش، ونحوه فهذه تطهر بوضعها في أفران مخصوصة يسلط عليها البخار في

درجة الغليان مدة ساعة حتى ينفذ إلى باطن ما فيها من الأشياء.

(3)

الحوامض كحامض الهيدروكلوريك والنيتريك (ماء النار) وهي كلها

مطهرة تطهيرًا شديدًا؛ ولذلك جعل الله تعالى في عصير المعدة حامض

الهيدروكلوريك - بنسبة 2 في الألف - فإن من أعظم فوائده تطهير الطعام

والشراب.

(4)

الجير ويستعمل لطلاء الحيطان، والسقف، وغير ذلك، وإذا وُضع

في سطول (جرادل) المواد البرازية نفع نفعًا عظيمًا، ويُستعمل لهذا الغرض

بنسبة واحد، أو اثنين منه إلى عشرة من الماء.

أما ماء الجير - وهو الذي يتحصل عليه بإذابة الجير في الماء المقطر حتى

يتشبع به، ثم يصفى - فإنه مطهر، مانع للقيء والإسهال، مصلح لهضم اللبن في

معدة الأطفال، مقوٍ لعظامهم، ويمكن مزجه باللبن بنسبة واحد إلى واحد أو واحد

إلى اثنين من اللبن، ويمكن أيضًا شربه بدون مزج باللبن بمقدار أربع أواقي، وإذا

مزج مع ماء الجير بزيت الزيتون، أو بزيت بزر الكتان بنسبة واحد إلى واحد من

كل منهما كان دهانًا نافعًا في الحروق - كما سيأتي -

(5)

الغول النقي (الكحول الخالص) مطهر عظيم يسهل الحصول عليه

لغسل الأيدي كلما مست مريضًا.

(6)

البوريك بنسبة 4 في 100 مطهر لطيف للأعين - كما سبق -، وإذا

وُضع في اللبن بنسبة واحد إلى ألف مثلاً حفظه من الفساد مدة؛ ولذلك يستعملونه

في حفظ كثير من الأطعمة؛ ولكن استعماله لمدة طويلة قد يضر بالجسم وينقص

وزنه.

(7)

الفنيك يستعمل بنسبة واحد إلى عشرين لغسل الأيدي، وغيرها.

(8)

الليزول - ولونه وقوامه كالعسل الأسود - يستعمل بنسبة واحد إلى

المئة عادة.

(9)

الإيزال - ولونه كالطحينة المضاف إليها شيء من الماء - يستعمل

بنسبة واحد إلى مئتين، أو واحد إلى أربع مئة، ويستعمل في الإسهال بإضافة 15

نقطة منه على كل رطل مصري من اللبن؛ فإنه نافع فيه، وكذلك في الدوسنطاريا

وهذه المواد الثلاثة الأخيرة تُستخرج من قطران الفحم الحجري.

ومن المطهرات أيضًا السليماني (وهو مركب زئبقي يستعمل عادة بنسبة 1

إلى 2000) ، وأملاح النحاس (كالتوتيا الزرقاء) ، واليود، والغلسرين، وغير

ذلك كثير، وكلها مطهرات عظيمة النفع.

***

النظافة والعلاج

كما أن النظافة عليها مدار حفظ الصحة هي أيضًا الأصل الأصيل لعلاج

جميع الأمراض، والجروح، وسائر العوارض الجراحية؛ فإن علاج ذلك كله

مبني على النظافة والتطهير، إذ يكفي لعلاج أي جرح، وعمل أي عملية جراحية

أن يكون كل ما تستعمله مطهرًا طهارة تامة، حتى إذا بُقرت البطن بآلة طاهرة

أمكن درء الموت عن المصاب بكل سهولة بالتزام النظافة، ويكفي في علاج جميع

الإصابات والحروق ونحوها أن تُنظف نظافة تامة، ويتكرر ذلك يوميًّا حتى يبرأ

الجرح، ويكفي في الغالب أيضًا لعلاج أي جرح أو سحج أن يُغسل بالماء المغلي،

وأن يضمد بالقطن، والأربطة المطهرة - إما بالغلي أو بالبخار الساخن - بدون

احتياج إلى أي دواء آخر.

وفائدة تضميد الجروح، هي منع كل ما يوصل الميكروبات إلى الجرح

كالأتربة، والذباب، والهواء، والأيدي، والماء غير المغلي، وبالضماد أيضًا يقف

النزف بسبب الضغط على الجرح، وبه أيضًا تحصل راحة المكان المجروح من

الحركة، وهذه الأشياء كلها هي أهم ما يطلبه الجرح من العلاج، وأسها كلها

النظافة التامة.

وخلاصة ما تقدم كله أن العاقل يجب عليه أن يكون نظيفًا في جسمه، وملبسه،

وفراشه، ومسكنه، ومأكله، ومشربه، وفيما يعالج به أمراضه، وإصاباته.

***

تذييل للفصول السابقة

في الذباب ومضاره

لا يخفى أن من عادة الذباب أن يجتمع على القاذورات، والنجاسات، ثم

ينتقل منها إلى طعام الإنسان، أو يسقط في شرابه، أو يقف حول عينيه؛ وبذلك

تنتقل جراثيم الأمراض إلى الإنسان، وتنتشر بين أفراد هذا النوع، ومن أمثلة ذلك

وقوفه على أعين المصابين بالرمد الصديدي، ثم انتقاله إلى الأعين السليمة؛

فتصاب بهذا الرمد، ومن أسباب انتشار الحمى التيفودية بشكل وبائي وقوف الذباب

على البراز مثلاً - إذا لم يدفن في الأرض دفنًا جيدًا - فيتلوث الذباب بميكروب

التيفود، وبعد ذلك يقف على الخبز مثلاً، ومثل التيفود الهيضة (الكوليرا)

والدوسنطاريا.

ومن الذباب ما يلدغ بعض الحيوانات المصابة بالجمرة الخبيثة، ثم يأتي إلى

الإنسان فيلقحه بها، ومنه ما ينقل بلدغه مرض النوم، وغيره من شخص لآخر،

ويقال: إن البللغرا تنتقل أيضًا بلدغ بعض أنواعه - كما سبق - ومن المحقق أن

حمى ثلاثة الأيام، وسبعة الأيام، والحمى البسيطة المستمرة في الهند كلها تنتقل

بلدغه، وحمى ثلاثة الأيام تسمى أيضًا باباتتسي، وسميت بذلك من اسم الذباب

الذي يحدثها (Phlebotomus pappatasii) ، وميكروب هذه الحميات وراء

المجهر على ما يظهر.

ومن مضار الذباب أيضًا أنه قد يضع بيضه في الجروح، أو في الآذان أو

في تجاويف الأنف؛ فيفقس هذا البيض، ويخرج منه النغف (وهو ما يسمى الآن

باليرقات ويشبه الدود) ، وهذه الديدان تأكل من جسم الإنسان، وتحدث فيه التهابًا

شديدًا، وإذا أصابت جروحه آلمته إيلامًا شديدًا، ويحصل بسببها أيضًا التهاب

الجرح وحمى، وتعوق برء الجرح مدة مديدة؛ حتى أن الجرح لا يشفى إلا إذا

خلص منها، ومن أنواع هذه الديدان ما يأكل جثث الموتى.

وقد قرر أطباء الإنكليز أن من أعظم أسباب انتشار الحمى التيفودية بين

الجنود في حرب الترنسفال (من سنة 1899 - 1902) كان الذباب وساعده في

ذلك الريح بنقل الأتربة الملوثة بالبراز إلى طعام الجنود.

فلذا يجب إزالة جميع القاذورات من حول الإنسان، ودفن المواد البرازية

ونحوها دفنًا جيدًا، أو إبادتها بأية طريقة، بحيث نأمن وقوف الذباب عليها وانتقاله

إلينا، وأحسن الطرق حرق القاذورات، أو وضع الفنيك، أو الفورمالين عليها.

وإذا وقف الذباب على الأعين وجب طرده في الحال، وإذا وقف على الطعام

أو سقط في الشراب فالأسلم تطهيرهما بالنار، وكلما كثر الذباب وجب السعي في

إبادته بقدر الإمكان، واعلم أن الذبابة الواحدة تضع نحو 900 بيضة، وحياتها لا

تتجاوز ثلاثة أسابيع.

أما ما رواه البخاري عن أبي هريرة من أن النبي صلى الله عليه وسلم

(إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله، ثم ليطرحه؛ فإن في أحد جناحيه شفاء

، وفي الآخر داء) فهذا الحديث مشكل؛ إن كان سنده صحيحًا، فكم في الصحيحين

من أحاديث اتضح لعلماء الحديث غلط الرواة فيها كحديث (خلق الله التربة يوم

السبت) مثلاً وغيره مما ذكره المححقون، وكم فيهما من أحاديث لم يأخذ بها الأئمة في

مذاهبهم، فليس ورود هذا الحديث في البخاري دليلاً قاطعًا على أن النبي - صلى الله

عليه وسلم - قاله بلفظه مع منافاته للعلم، وعدم إمكان تأويله، على أن مضمونه

يناقض حديث أبي هريرة وميمونة وهو أن النبي سئل عن الفأرة تقع في السمن فقال: (إن كان جامدًا فاطرحوها وما حولها وكلوا الباقي، وإن كان ذائبًا فأريقوه، أو

لا تقربوه) فالذي يقول ذلك لا يبيح أكل الشيء إذا وقع فيه الذباب؛ فإن ضرر كل

من الذباب والفئران عظيم، على أن حديث الذباب هذا رواه أبو هريرة، وفي حديثه

وتحديثه مقال بين الصحابة أنفسهم خصوصًا فيما انفرد به، كما يعلم ذلك من

سيرته [10] وغاية ما تقتضيه صحة السند في أحاديث الآحاد الظن، فلا قطع بأن هذا

الحديث من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا يروون الحديث بالمعنى

فيجوز أن يكون لفظ الراوي لم يؤد المعني المراد، والله أعلم.

وهب أن الرسول قال ذلك حقيقة فمن المعلوم أن المسلم لا يجب عليه الأخذ

بكلام الأنبياء في المسائل الدنيوية المحضة التي ليست من التشريع، بل الواجب

عليه أن يمحصها، ويعرضها على العلم والتجربة؛ فإن اتضح له صحتها أخذ بها

والأعلم أنها مما قاله الأنبياء عليهم السلام بحسب رأيهم، وهم يجوز عليهم

الخطأ في مثل ذلك وقد حقق هذه المسألة القاضي عياض في كتابه الشفاء فليراجعه

من شاء، ومما رواه فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (إنما أنا بشر

فما حدثتكم عن الله فهو حق وما قلت فيه من قبل نفسي فإنما أنا بشر أخطئ

وأصيب) [*] .

***

الحرق

الحرق يحصل عادة إما بالنار، أو بالسوائل المغلية، وهو خطر جدًّا على

الحياة، وخطره يختلف بحسب اتساعه، وعمقه، ومكانه، وعمر المصاب، فإذا

أصاب الشخص حرق بسيط، وعم جسمه كان خطرًا على الحياة خصوصًا في زمن

الصغر، وحروق الرأس، والصدر، والبطن هي أشد الحروق خطرًا، الغالب أن

الحروق النارية أشد أذى بالجسم من حروق المياه المغلية؛ لأن المياه تبرد بسرعة

وتسيل من على الجسم، أما السوائل التي كالزيت أو المعادن المصهورة فلالتصاقها

بالجسم تفتك به فتكًا ذريعًا، ويتميز الحرق الناري عن الحرق المائي بأن الأول

يحترق فيه الشعر والملابس بخلاف الثاني.

وللحرق أعراض موضعية وأعارض عمومية

أما الأعراض الموضعية فتنقسم إلى ست درجات:

(1)

احمرار الجلد بدون إتلافه، والاحمرار يحصل بسبب كثرة ورود الدم

إليه.

(2)

تكوُّن الفقاقيع بالجلد، وذلك بانسكاب بعض السوائل من أوعية الدم

تحت الطبقات العليا للبشرة، وعند شفاء مثل هذه الدرجة تتولد طبقات جديدة للبشرة

من الطبقات التي تحتها، وقد يتلون الجلد بلون يخالف المعتاد.

(3)

احتراق البشرة كلها، وبعض الأدمة، وهو أشد الحروق ألمًا.

(4)

احتراق الأدمة مع البشرة كليهما، وعند شفاء مثل هذا الحرق يحصل

انكماش شديد في الجلد مكان الحرق.

(5)

احتراق الجلد كله مع بعض الأنسجة التي تحته حتى العضلات

(6)

احتراق العضو كله وصيرورته فحمًا.

وقد شوهد أن بعض النساء السمينات المدمنات شرب الخمور يحترقن بسرعة

عجيبة، بحيث يتعذر إطفاؤهن ولو بالماء إلى أن يحترق الجسم كله تقريبًا،

ويحصل هذا الاحتراق عند وجود أقل سبب له كالاقتراب من فتيلة مشتعلة حتى ظن

بعض الأطباء أنه يحصل بلا نار مطلقًا، ويسمونه (الاحتراق الذاتي) .

وأما أعراض الحرق العامة فهي ثلاث درجات:

(1)

الصدمة العصبية: فيصاب الشخص ببرودة شديدة، وذهول حتى إنه

قد لا يشعر بشيء من الألم، وتضعف ضربات قلبه ونبضه، وقد يقع في الغيبوبة

ويموت.

(2)

رد الفعل والالتهاب: وذلك يحصل بعد مضي يوم أو يومين، فترتفع

حرارة الشخص، وتصيبه الحمى، ويقوى نبضه ويسرع، وقد يحصل له التهاب

في الأحشاء كالتهاب الرئتين، أو البريتون، أو سحايا المخ، وفي هذه الدرجة قد

يصاب أيضًا بقرحة ثاقبة للاثني عشري.

(3)

تكوُّن الصديد: وهو إذا طال، وكان المكان متسعًا أدى إلى

الاضمحلال فالموت.

***

المعالجة

يُطفأ المحروق أولاً بأن يلف جسمه في الحال بشيء سميك ليمنع وصول

الهواء إليه؛ فتطفأ النار، والأحسن أن يُبل هذا الشيء الذي يُلف به، ويشترط أن

لا يلف الوجه بشيء خوفًا من الاختناق، وإن لم يوجد شيء يتلفف به يُمَرَّغ

الشخص على الأرض، وإن وجدت قطعة لا تكفي إلا لجزء من الجسم فينبغي

التلفف بها مع التمرغ.

وبعد إطفاء النار يجب الاحتراس التام من أن يمس جسم المحروق أي شيء

غير مطهر، ثم تُبَطّ الفقاعات إن وجدت، ويصفى السائل منها، ولكن الأحسن

ترك البشرة بدون إزالتها فإنها تكون كالوقاية للجسم، ثم يدهن الجسم كله بزيت بعد

غليه وتبريده، أو يستعمل مروخ الجير الذي تقدم ذكره.

وهناك عدة طرق لتضميد الحروق تُذْكَر في فن الجراحة، ومن أحسنها

استعمال حامض البكريك (وهو مادة متبلورة صفراء اللون مركبة من الفنيك مع

حامض النيتريك) يذاب في الماء بنسبة 5 إلى 1000 أي يكون الماء مشبعًا به،

ثم يدفأ ويغمس فيه الموصلي (الشاش) ، أو قماش آخر يسمى لنت Lint، ويلف

به المحروق، ويوضع فوق ذلك ورق زيتي، أو حِبَرة زيتية فقطن، ويترك هذا

الضماد نحو 3 أو 4 أيام، ثم يجدد ويترك لمدة أسبوع، وفائدة حامض البكريك هذا

هي أنه مطهر مجفف للحرق مسكن للألم، وذلك هو كل ما نبغي.

ولعلاج حالة المصاب العمومية في الطور الأول (طور الهبوط والرجة

العصبية) يجب استعمال المنعشات، فيُلَف الشخص بالملابس والأغطية السميكة

حتى يدفأ، وتوضع زجاجات الماء الساخن حول رجليه وجنبيه، ويُعطى له مثل

القهوة أو الشاي الساخنين أو بعض الخمور - إذا لم يوجد ما يغني المسلم عنها -

ويُمنع عن الأغذية ما عدا اللبن وغيره من السوائل كالمراق، ولا بأس من إعطائه

جزءًا من الأفيون - قدر قمحة أو قمحتين - إن كان الألم شديدًا، ويجب بعد ذلك أن

يتولى باقي علاجه الطبيب حتى يشفى أو يموت.

وأسباب الوفاة في الحرق عند حدوثه مباشرة متنوعة منها الاختناق بالدخان

والغازات، أو الفزع الشديد، أو الرجة العصبية بسبب ألم الحرق.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

كلمة لاتينية معناها حرفيًّا (تشتي) ، والمراد بها السبات الذي يصيب بعض الحيوانات مدة الشتاء كالخفاش (الوطواط) .

(2)

كلمة فرنسية معناها الحرفي البلعوم.

(3)

سميت بذلك لظهورها في الرجل أكثر منها في الأنثى.

(4)

سمي بذلك لأن الضغط على هذا الشريان ضغطًا يقلل الدم عن الدماغ يُحْدِث نومًا عميقًا

(أي سباتًا) ، أو غيبوبة.

(5)

كمحلول الصودا الكاوية أو البوتاسا الكاوية، وهما عبارة عن هيدرات البوتاسيوم، أو الصوديوم.

(6)

كلمة يونانية معناها (مر) .

(7)

وذلك بنسبة أوقية من هذا الزيت لكل 15 قدمًا مربعة من سطح ماء المرحاض أو غيره كالمستنقعات.

(8)

كلمة يونانية معناها الأجوف أو الفارغ.

(9)

لفظ يوناني معناه حرفيًّا الأحياء الصغيرة، يطلق في الاصطلاح على الأحياء الأولية التي تتركب في الغالب من خلية واحدة، وعبر عنها المنار بالجِنة والجِن - بالكسر فيهما - لدلالة مادتها على العوالم الخفية.

(10)

إليك شيئًا من تاريخ حياته: أسلم رضي الله عنه سنة (7) هجرية، فصحب النبي ثلاث سنين، ولم يكتب شيئًا من الحديث، وقال عن نفسه إنه كان كثير النسيان، فدعا له الرسول - كما

قال - فذهب عنه ذلك، وكان فقيرًا أكولاً، يطعم كل يوم من بيت النبي، أو من بيت أحد أصحابه، فكان يحب أن يتودد إلى الناس ويسليهم بكثرة التحديث والإغراب في القول ليشتد ميلهم إليه، وربما كان مصابًا بالصرع - كما يستفاد من بعض الروايات الواردة في ترجمته - والصرع مرض مشهور عند الأطباء يورث ضعف العقل أو الجنون روى بعد وفاة رسول الله (5384) حديثًا؛ حتى ضج منه كبار الصحابة رضي الله عنهم وملوا كثرة حديثه، وقالت له عائشة:(إنك لتحدث بشيء ما سمعته)، ولما سمع الزبير بعض حديثه قال:(صدق كذب؛ لأنه سمع هذا من رسول الله ولكن منه ما وضعه في غير موضعه) - راجع تاريخه في كتاب (الإصابة في تمييز الصحابة) لابن حجر وروى ابن عساكر في تاريخه عن السائب بن يزيد قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لأبي هريرة (لتتركن الحديث عن رسول الله، أو لألحقنك بأرض دوس)، ومما روي عنه أنه قال: (لقد حدثتكم بأحاديث

لو حدثت بها زمن عمر بن الخطاب لضربني عمر بالدرة) يعني السوط، وروى الطبراني في الكبير عنه أنه قال: قال رسول الله: (إذا لم تحلوا حرامًا ولم تحرموا حلالاً، وأصبتم المعنى فلا بأس)، وقال أيضًا إنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:(من حدث عني حديثًا هو لله عز وجل رضا، فأنا قلته وإن لم أكن قلته) كما رواه ابن عساكر في تاريخه عنه، مع أن المروي بالتواتر عن رسول الله أنه قال:(من كذب علي متعمدًا؛ فليتبوأ مقعده في النار) رواه مائتان من الصحابة، وهو ينافي ما قاله أبو هريرة، وهذا الحديث اضطر عمر لتذكيره به حينما بلغته كثرة حديثه كما في

(الإصابة) أيضًا مات رضي الله عنه بالمدينة سنة 57 هجرية هذا وإنما نقلنا ما نقلناه هنا من تاريخ أبي هريرة؛ ليكون تذكرة وهداية لأهل العقول الراجحة الحرة، والنقد الصحيح، لكيلا يغتر أحد بمثل تلك الأحاديث المنافية للعلوم العصرية المبنية على الحس، والمشاهدة، والبحث الدقيق، ومن شاء زيادة الإيضاح فليقرأ ما كتبته في مجلة الحياة في الجزء الخامس من المجلد الرابع الصادر سنة 1325 هجرية.

(*) المنار: إذا كان حديث الذباب مرويًّا بلفظه، فيحتمل أن يكون مبنيًّا على رأي كان منقولاً فذكر على ظاهره، ويحتمل أن يظهر بعد ما يزيل ما فيه من الإشكال، وهو على كل حال ليس من عقائد الدين، ولا من أحكامه، بل هو من قبيل مسألة تلقيح النخل، فقد رآهم صلى الله عليه وسلم يلقحون فقال:(ما أظن ذلك يغني شيئًا) فتركوه، فأخبر بذلك فقال:(إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه؛ فإني إنما ظننت ظنًا فلا تؤاخذوني بالظن ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئًا فخذوا به فإني لن أكذب على الله) ، وفي حديث رافع بن خديج أنه صلى الله عليه وسلم أنكر ذلك لما قدم المدينة مهاجرًا، أي ولم يكن يعلم من أمر النخل شيئًا، وأنه قال لهم (لعلكم لو لم تفعلوا لكان خيرًا) فتركوه فنقضت أو فنقصت فذكروا له ذلك فقال:(إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من أمر دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر) وفي حديث عائشة وأنس أنه قال: (لو لم تفعلوا لصلح) فخرج شيصًا (أي خرج التمر رديئًا) فمر بهم فقال: (ما لنخلكم؟) قالوا له قلت كذا وكذا، قال (أنتم أعلم بأمر دنياكم) روى ذلك كله مسلم في صحيحه وأما كلام الكاتب في أبي هريرة رضي الله عنه فهو كلام من يسيئ الظن، فجمع من الأقوال ما يؤيد ظنه، وفي نقوله نظر، فأما الصرع أو الإغماء فقد صح أنه كان من الجوع لا من المرض، وأما ما روي عن الطبراني، وابن عساكر من إسناده حديثين يدلان على استحلاله أن يقول على النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقله فنمنع أن يكون قد صح عنه، وقد رووا عنه أنه كان يبدأ تحديثه بحديث (من كذب علي متعمدًا) إلخ، وأما استغراب بعض الصحابة لكثرة حديثه، فقد بين هو لهم سببه، وهو ملازمته للنبي صلى الله عليه وسلم أي مع جودة حفظه، وأما عمر فقد أنكر على غيره كما أنكر عليه كثرة التحديث لحكمة ليس هذا محل بيانها وقد ثبت أنه كان من أجود الناس حفظًا، ولا يسهل الحكم فيما روي عنه من المشكلات التي انفرد بها إلا إذا جمعت وأحصيت أسانيدها، وقد كان يروي عن كعب الأحبار مصدر الغرائب الإسرائيلية الكثيرة، وقد كان من أسباب الغلط في الحديث حسبان الموقوف الذي لا يحال للرأي فيه من قبيل المرفوع، وقد يغلط بعضهم فيسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو من الإسرائيليات لا من الرأي، فينظر في ذلك وغيره عند تمحيص تلك المشكلات.

ص: 433

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أصناف الأقلام العربية في الإسلام

نموذج من كتاب انتشار الخط العربي

في العالم الشرقي والعالم الغربي [*]

بقي الخط العربي على حالته القديمة غير بالغ مبلغه من الإحكام والإتقان في

زمن الرسول، والخلفاء الراشدين؛ لاشتغال المسلمين بالحروب حتى زمن بني

أمية فابتدأ الخط يسمو ويرتقي، وكثر عدد المشتغلين به، وفي أواخر أيامهم تفرع

الخط الكوفي، وكانت تكتب به المصاحف منذ أيام الراشدين إلى أربعة أقلام اشتقها

بعضها من بعض كاتب اسمه قطبة المحرر كان أَكْتَبَ أهل زمانه، ثم اشتهر بعده

في أوائل الدولة العباسية رجلان من أهل الشام انتهت إليهما الرئاسة في جودة الخط

وهما: الضحاك بن عجلان كان في خلافة السفاح، فزاد على قطبة، وإسحاق بن

حماد، وكان في خلافة المنصور والمهدي فزاد بعد الضحاك، وزاد غيره حتى بلغ

عدد الأقلام العربية إلى أوائل الدولة العباسية 12 قلمًا، كان لكل قلم عمل خاص

وهي:

(1)

قلم الجليل: كان يكتب به في المحاريب، وعلى أبواب المساجد،

وجدران القصور ونحوها، وهو ما يسميه العامة الآن بالخط الجلي.

(2)

قلم السجلات.

(3)

قلم الديباج.

(4)

قلم أسطومار الكبير.

(5)

قلم الثلثين.

(6)

قلم الزنبور.

(7)

قلم المفتح.

(8)

قلم الحرم: كان يكتب به إلى الأميرات من بيت الملك.

(9)

قلم المؤامرات: كان لاستشارة الأمراء ومناقشتهم.

(10)

قلم العهود: كان لكتابة العهود والبيعات.

(11)

قلم القصص.

(12)

قلم الخرفاج.

ولما ازدان عصر العباسيين بأنوار العلوم والعرفان، وخصوصًا في أيام

المأمون، أخذت صناعة الخط تنمو وتنتشر وتتقدم كسائر العلوم التي ضرب فيها

المسلمون بسهام نافذة لاحتياجهم إليها؛ فتنافس الكتاب في أيامه في تجويد الخط؛

فحدث القلم المرصع، وقلم الناسخ، وقلم الرياسي [1] نسبة إلى مخترعه ذي

الرئاستين الوزير الفضل بن سهل، وقلم الرقاع وقلم غبار الحلبة [2] ، وكان يكتب

به بطائق حمام الرسائل، وهكذا كان كل قلم معدًّا لنوع من الكتابة، كما تكتب الآن

الإنعامات بالرتب بقلم خاص ، والأوراق الديوانية بقلم خاص، وألواح الحجر بخط

آخر، وكتب التعليم بآخر.

فزادت الخطوط العربية على عشرين شكلاً، وكلها تعد من الخط الكوفي فهو

إذ ذاك كان خط الدين والدولة، وقد كان يُكتب به القرآن منذ أيام الراشدين - كما

أسلفنا - حتى أواسط العصور الإسلامية (ش4) ، وأما الخط النسخي فقد كان

مستعملاً بين الناس لغير المخطوطات الرسمية حتى نبغ الوزير أبو علي محمد بن

مقلة المتوفى سنة 328هـ فأدخل في الخط المذكور تحسينًا كبيرًا بعد أن كان في

غاية الاختلال، وأدخله في المصاحف، وكتابة الدواوين، وقد اشتهر بعد ابن مقلة

جماعة كثيرة من الخطاطين هذبوا طريقته، وكسوها حلاوة وطلاوة، أشهرهم علي

بن هلال المعروف بابن البواب المتوفى سنة 413هـ - 1031م، وقد اخترع عدة

أقلام، وياقوت بن عبد الله الرومي المستعصمي المتوفى سنة 698هـ وغيرهما

كثير، وقد تفرع الخط النسخي المذكور بتوالي الأعوام إلى فروع كثيرة وأصبحت

الأقلام الرئيسية في الخط العربي اثنين: الكوفي والنسخي، ولكل منهما فروع

كثيرة اشتهر منها بعد القرن السابع للهجرة ستة أقلام بين المتأخرين وهي: الثلث،

والنسخ، والتعليق، والريحاني، والمحقق، والرقاع.

آية من مصحف كتبه أبو بكر الغزنوي سنة 566 هـ، وتوضيحها: (بسم الله الرحمن الرحيم

{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى

} (الإسراء: 1)

برز في هذه الأقلام جملة من العلماء، وما زال الخط يتفرع إلى الآن، فقد

ظهر بعد هذه الستة الأقلام القلم الديواني، والقلم الدشتي، والقلم الفارسي، وغيره،

وبقي الأمر تابعًا لارتفاع الدولة، وانخفاض شأنها (انظر شكل 5) ، فإنه لما

تضعضعت خلافة بغداد، وانتقلت الخلافة إلى مصر والقاهرة انتقل الخط والكتابة

والعلم إليها، وسرى منها إلى مضافاتها من البلاد التابعة لدولتها وإلى ما جاورها،

وما زال الخط في جميع هذه الأماكن آخذًا في الجودة إلى هذا العهد، وصار

للحروف قوانين في وضعها، وأشكالها متعارفة بين الخطاطين، وقد حفظ لنا

القلقشندي بيانات صحيحة عن أواسط عصر المماليك (أواخر القرن الثامن للهجرة)

فذكر في الجزء الثالث [3] من كتابه صبح الأعشى أنواع الخطوط المستعملة في

الدواوين، وعلق عليها معتمدًا على نماذج منها نشرت في هذا الكتاب وهي ستة

أنواع:

(1)

الطومار الكامل: ويشتمل على جملة أنواع، وكان يكتب به السلطان

علاماته على المكاتبات، والولايات، ومناشير الإقطاع.

(2)

مختصر الطومار: وهو على نوعين: الثلث والمحقق، وكان يكتب

به في عهود الملوك عن الخلفاء، والمكاتبة إلى القانات العظام من ملوك بلاد الشرق.

(3)

الثلث: وهو نوعان من الثقيل والخفيف.

(4)

التوقيع: وهو على ثلاثة أنواع، وكانت توقع به الخلفاء، والوزراء

على ظهور القصص.

(5)

الرقاع: وهو على ثلاثة أنواع أيضًا، وكان يكتب به في الرِّقاع جمع

رُقعة، وهي الورقة الصغيرة التي تكتب فيها المكاتبات اللطيفة، والقصص، وما

في معناها.

(6)

الغبار: وهو نوع واحد، وكان يكتب به بطائق الحمام، والملطِّفات،

وما في معناها، ونرى من الكتابات المنقوشة على الأحجار في أيام المماليك جمال

هذا الخط، وبهاءه، وهو وإن كانت حروفه مستطيلة، فهي ربما أجمل مما كانت

عليه في أيام العباسيين.

ولما آلت الخلافة إلى الأتراك بعد زوال دولة المماليك بمصر، ورثوا بقايا

التمدن الإسلامي، فكان لهم اعتناء خاص بالخط، وقد أخذوا في إتقانه على أيدي

الأساتذة الفارسيين الذين اعتمدوا عليهم في الآداب والفنون، وقد حفظ الأتراك عدة

قرون في مصالح حكومتهم، ودوائرهم الملكية، والعسكرية أنواع الخطوط التي

كانت مستعملة في القرون الوسطى، فكان يُعْرَف عندهم في القرن الحادي عشر

للهجرة 30 نوعًا تقريبًا إلا أنه أهمل أكثرها أثناء القرنين الثاني عشر، والثالث

عشر، ولم يبق مستعملاً منها في الوقت الحاضر إلا ما سنذكره في الفصل الآتي،

والأتراك هم الذين أحدثوا الخط الرقعة، والخط الهمايوني، وإليهم انتهت الرئاسة

في الخط على أنواعه إلى عهدنا هذا، وقد أخذنا عنهم الخط المعروف بالإسلامبولي

ولا يزال الخط يتفرع إلى ما شاء الله عملاً بسنة الارتقاء.

***

الأقلام المستعملة الآن

(1)

الخط النسخي: أما الآن فقد أُهمل الخط الكوفي، وصار الخط

النسخي هو الأكثر استعمالاً في كتابة اللغة العربية أينما وجدت، وكذلك في كتابة

اللغة التركية، والتترية، والأفغانية، والهندية، وغيرها من لغات العالم الإسلامي،

فإنه يستعمل فيها الخط النسخي في الكتب العلمية، وغيرها، وعلى الخصوص

في المواضيع الدينية والشرعية كما سيأتي.

(2)

القلم الفارسي: وهو مشتق من الخط القيراموز المتولد من الخط

الكوفي في صدر الإسلام، وتكتب به الآن اللغة الفارسية، ويستعمل غالبًا عند

الهنود في كتابة لغتهم الهندستانية (الأوردية) ، وسيأتي تفصيل تاريخه وفروعه

عند الكلام على اللغة الفارسية.

(3)

القلم المغربي: المستعمل في مراكش، والجزائر، وتونس،وطرابلس

لكتابة العربية والبربرية معًا، وسيأتي ذكره بالتفصيل عند الكلام على

لغات المغرب.

(4، 5) القلم الرقعة والقلم الثلث: الرقعة هو خط الدواوين في تركيا،

وغيرها، ويغلب استعماله أيضًا في المراسلات الاعتيادية، وقد أسلفنا أنه، والقلم

الهمايوني من مستحدثات الأتراك، وهما يُستعملان عندهم إلى الآن، وقد انتشر

الرقعة بسلطة الأتراك في جزء من البلدان العربية، ومع أنه مكروه من بعض

العرب الخلص لأنه خط تركي [4] ، فهو مستعمل في مصر، والعراق، وسوريا

مثل القلم الثلث المستعمل عند الجميع، إلا أن الثلث يستعمل في الزخرفة والتزويق

أكثر من استعماله في الكتابة العادية.

(6)

قلم التعليق: أو الكتابة الفارسية المحرفة، وهو يستعمل في تركيا

لكتابة الأوراق، والأعمال القضائية الشرعية، وكذلك في الكتب وخصوصًا في

كتب الأشعار والدواوين (ش6) كما سترى عند الكلام على الخط الفارسي.

ش 6: قلم التعليق

بيت من أشعار الفردوسي الشاعر الفارسي المشهور، ويقرأ هكذا:

(همين جشم دارم زخوانتد كان/كه نامم به نيكوبرند برزبان)

(7)

القلم الديواني: الذي اشتق مباشرة من خط التوقيع القديم وهو على

ش 7: القلم الديواني الجلي (القسم الأعلى) والقلم الديواني (القسم الأسفل)

ويقرأ القسم الأعلى هكذا: " نشأن شريف عاليشان سامي مكان وطغراى غراي جهان ستان خاقاني نفذ بالعون الرباني والصون الصمداني حكمى أولدركه "

نوعين: أحدهما كبير قليلاً، وهو المستعمل في الدواوين السلطانية بتركيا

لكتابة المراسيم، والدبلومات Les diplomes (الفرمانات والبراءات) على

جميع أنواعها، والآخر أصغر منه، وهو وإن يكن قد قل استخدامه بعض الشيء

إلا أنه مستعمل كثيرًا في المحاكم الدينية والشرعية التي تستعمل أيضًا خط التعليق،

أما الهمايوني المتقدم ذكره فهو نفسه الخط الديواني الكبير، ويسمى عندهم (جلي

ديواني) أي القلم الديواني الجلي (ش7و8) وهو يستعمل لكتابة الفرمانات

السلطانية المتعلقة بالوسامات.

وتمتد الحروف النهائية في الخط الديواني، وخصوصًا الجيم، والحاء،

والخاء، والعين، والغين إذا جاءت في أواخر الكلم، وكذلك أطراف السين،

والشين، والصاد، والضاد كما ترى في شكل 9.

(8)

القلم النستعليق: أو الخط الفارسي المنسوخ، وهو يستعمل عند

الفرس وسيأتي ذكره عند الكلام على الخط الفارسي وفروعه.

(9)

قلم الإجازات: وهو يتألف من الخط النسخي، والخط الثلث بتصرف

مع بعض زيادات لا توجد في غيره، وهو يستعمل عند الأتراك أحيانًا.

والخط في تركيا لم يزل مشرفًا، وأعمال الخطاطين الكبار أمثال حمد الله

المتوفى سنة (936 = 1530) ، وحافظ عثمان المتوفى سنة (1110=

1698 -

1669) لم تزل معتبرة كنماذج تُقَلَّد، أما في البلدان العربية،

وخصوصًا في مصر فإن الاعتناء بالخط أخذ في الضعف والإهمال بسبب سرعة

انتشار المطابع.

***

حروف الهجاء العربية وترتيبها

أما ترتيب حروف الهجاء العربية فهو مخالف لترتيب الحروف الأخرى

المرتبة على أبجد هوز

إلخ، وهو الترتيب القديم المعروف عند أكثر الأمم

السامية، وأما العربية فتبتدئ هكذا: اب ت ث

إلخ، مع أن التاء في اللغات

الأخرى هي آخر حروفها، وهذا الترتيب حديث في اللغة العربية وضعه نصر بن

عاصم، ويحيى بن يعمر العدواني في زمن عبد الملك بن مروان، وهو مبني على

مشابهة الحروف في الشكل، فابتدأ بالألف والباء؛ لأنهما أول الحروف في ترتيب

أبجد، وعقبا بالتاء والثاء لمشابهتهما الباء، ثم ذكر الجيم من حروف أبجد، وعقبا

بالحاء والخاء للمشابهة، ثم ذكرا الدال، وعقبا بالذال، ولكون الهاء تشبه أحرف

العلة في الخاء أخراها معها لآخر الحروف، وقبل أن يذكرا الزاي ذكرا الراء

المشابهة لها لتكون الزاي مع باقي أحرف الصفير؛ ولذلك ذكرا السين بعد الزاي،

وعقبا بالشين للمشابهة، ثم ذكرا الصاد، وعقبا بالضاد، ثم رجعا للطاء من أبجد،

وعقبا بالظاء وأخرا أحرف (كلمن) حتى يفرغا من الأحرف المتشابهة، وذكرا

العين، وعقبا بالغين، ثم ذكرا الفاء، وعقبا بالقاف، ثم ذكرا أحرف كلمن والهاء

وأحرف العلة.

ولكون ترتيب أبجد يختلف عند المغاربة [5] عن ترتيبها عند المشارقة كان

ترتيب الحروف عند المغاربة بعد ضم كل حرف إلى ما يشابهه في الشكل هكذا:

اب ت ث ج ح خ د ذ ر ز ط ظ ك ل م ن ص ض ع غ ف ق س ش هـ وي

***

الأحرف الخاصة بالعربية

واللغات الأخرى

وفي الخط العربي فضلاً عن الحروف الشرقية الأخرى ستة أحرف هي:

الثاء والخاء والذال والضاد والظاء والغين (ثخذ ضظغ) ، وقد اقتضتها طبيعة اللغة

العربية، وهذه الأحرف لا مخرج لها في اللغات الأخرى إلا بتركيب مع حرف

آخر، والضاد منها خاصة باللغة العربية دون سواها؛ وهذا هو سبب تلقيب العرب

أو المتكلمين بالعربية بلقب (الناطقون بالضاد) ، وتمييزهم بها، وفي الحديث (أنا

أفصح من نطق بالضاد) إشارة إلى ذلك.

وهنا ملاحظة ينبغي الإشارة إليها، وهي أن هذه الأحرف الستة لا تستعمل

غالبًا في اللغات الإسلامية الآتية (التي تكتب بالخط العربي) إلا لكتابة الكلمات

العربية الدخيلة في لغاتهم؛ ولذلك فهم لا ينطقون بها تمامًا إذا قرأوها في نصوص

عربية، بل يشركونها مع حرف آخر، فمثلاً إذا أرادوا النطق (بالطاء) أو

(بالضاد) تكلفوهما، فالطاء تخرج بين التاء والطاء كالسلطان والطوفان، والضاد

تخرج كالزاي المفخمة في نحو رمضان وهكذا: ولما كانت هذه الأحرف معدومة

عندهم فهم يستعملون حروفًا [6] أخرى معدومة في العربية تقتضيها طبيعة لغاتهم،

ولهذا كان من الضروري لنا أن نذكر هذه الأحرف عند ذكر لغاتها؛ لأنها تتكون

بمثابة تكملة لحروف الهجاء العربي عندهم.

***

النقط والحركات في الخط العربي

الحركات:

لما اقتبس العرب الخط من الأنباط والسريان كان خاليًا من الحركات

والإعجام، فالحركات فيه حادثة في الإسلام، والمشهور أن أول من وضعها أبو

الأسود الدؤلي المتوفى سنة 69هـ، لما كثر اللحن في الكلام؛ لاختلاط العرب

بالأعاجم في صدر الإسلام، فكانت الحركات إذ ذاك نقطًا يميزون بها بين الضم

والفتح والكسر، فكانت النقطة فوق الحرف دليلاً على الفتح، وإلى جانبه دليلاً على

الضم، وتحته دليلاً على الكسر، ولم تشتهر طريقة أبي الأسود هذه إلا في

المصاحف حرصًا على إعراب القرآن، أما الكتب العادية فكانوا يفضلون ترك

الحركات، والنقط فيها لأن المكتوب إليهم كانوا يعدون ذلك تجهيلاً لهم قال بعضهم:

(شكل الكتاب سوء ظن بالمكتوب إليه)

أما استبدال النقط بالحركات الحديثة، فالغالب أنه حدث تنويعًا للحركات عن

النقط التي يميزون بها الباء عن التاء خوفًا من الالتباس، فالحركات الحديثة

وضعت بعد ذلك لتقوم مقام حروف العلة لمشابهة الحركات لها فجعلوا للضمة التي

يشبه لفظها الواو علامة تشبه الواو، والتي يشبه لفظها الألف وهي الفتحة علامة

تشبه الألف؛ لكنها مستقيمة، ومثلها للكسرة من تحت وهكذا [7] .

***

الإعجام

وضبط الحروف العربية

أما الإعجام أو النقط فيظن أنها كانت موجودة في بعض الحروف قبل الإسلام

وتُنُوسِيَتْ، ولكن المشهور أن اختراعها كان في زمن عبد الملك بن مروان، وذلك

لما كثر التصحيف خصوصًا في العراق، والتبست القرءاة على الناس لتكاثر

الأعاجم من القراء، والعربية ليست لغتهم، فصعب عليهم التمييز بين الأحرف

المتشابهة ففزع الحجاج إلى كتابه، وسألهم أن يضعوا لهذه الأحرف المتشابهة

علامات، ودعا نصر بن عاصم الليثي، ويحيى بن يعمر العدواني (تلميذي أبي

الأسود) لهذا الأمر فوضعا النقط أو الإعجام أزواجًا وأفرادًا بعضها فوق الحروف،

وبعضها تحتها، وسمي الإعجام إعجامًا؛ لأن الإعجام في المعنى الأصلي هو التكلم

على طريقة الأعاجم، كما أن الإعراب هو التكلم على طريقة العرب، وكان

الجمهور يكره كما قلنا الإعجام والحركات في الكتابة، وينفر منهما، ولكن الناس

رجعوا بعد ذلك على هذا الرأي حتى كانوا يعدون إهمال الإعجام خطأ في الكتابة،

واستمر الأمر على اتباع هذا الإعجام إلى الآن.

***

الكتابة

واتجاه السطور فيها

لم يتقرر لاتجاه السطور في الكتابة نظام إلا بعد ترقيها؛ ولذلك كانت الكتابة

يدونها الأولون أنى اتفق لا يراعون لها نظامًا في اتجاه سطورها، كما كان عند

قدماء اليونان؛ فإنهم كانوا يكتبون تارة من اليسار إلى اليمين، وطورًا من اليمين

إلى اليسار، وأحيانًا يجمعون بينهما.

فلما ترقت الكتابة، وتقرر نظامها عند الأمم اتخذت كل أمة منها طريقًا

مخصوصًا في كيفية سيرها: فأهل الصين، وأتباعهم صاروا يكتبون من الأعلى

إلى الأسفل، ومن اليمين إلى اليسار على الخط الرأسي؛ ولذلك سميت كتابتهم

(بالمشجر) ، ولهم في ذلك اعتقاد خاص حيث يعتقدون أن الله سبحانه وتعالى

موجود في السماء العليا، فكل شيء لا بد وأن يأتيهم من جهته، ولذلك صاروا

يكتبون من أعلى إلى أسفل.

وأهل أوربا صاروا يكتبون من اليسار إلى اليمين لكون الدورة الدموية تبتدئ

من القلب الموجود في الجهة اليسرى، والقلب في بعض الروايات مركز العقل،

فوجب أن تكون الكتابة من الجهة المقابلة للعقل الذي يستمد منه البنان؛ فلذلك

صاروا يكتبون من اليسار إلى اليمين.

أما العرب والسريان وغيرهم من الأمم السامية، فصاروا يكتبون من اليمين

إلى اليسار بالنسبة لكون الطبيعة قضت بأن كل شيء لا يعمله الإنسان إلا بيده

اليمنى، كما وأنه لا ينتقل من جهة إلى أخرى إلا بالرجل اليمنى؛ فلذلك صاروا

يكتبون من اليمين إلى اليسار [8] .

فالكتابة العربية الحالية متصلة من القديم، وتُكتب أينما وجدت من اليمين إلى

الشمال على السطر الأفقي، وقد روى الدكتور بشارة زلزل في كتابه تنوير الأذهان

أنه (لم تزل بعض الأمم كالصومال تكتب الخط العربي من أعلى إلى أسفل (أي

على السطر الرأسي) وتقرؤه من اليمين إلى اليسار [9] ، وهذا غريب يحتاج

لإثبات.

_________

(*) المنار: تجد تقريظ هذا الكتاب في مكان آخر.

(1)

يصح أن يقال ريس في رئيس قال الكميت يمدح محمد بن سليمان الهاشمي

تلقى الأمان عن حياض محمد

ثولاء مخرفة وذئب أطلس

لا ذي تخاف ولا لهذا جرأة تهدي الرعية ما استقام الريس

والثولاء النعجة والمخرفة لها خروف يتبعها، ضرب لذلك مثلاً لعدله وإنصافه حتى أنه ليشرب الذئب والشاة من ماء واحد، استشهد به الجوهري، والزبيدي (في تاج العروس) وغيره على ما قلناه أن الرئيس يقال فيه ريس.

(2)

كشف الظنون 466 ج 1.

(3)

ص 51 وما بعدها من طبعة المطبعة الأميرية سنة 1332هـ.

(4)

encyclopedie de l`islam ،art (arabie) page:393.

(5)

ترتيب المغاربة في أبجد يختلف قليلاً عن ترتيبها عند المشارقة فيقولون: (أبجد هوز حطي كلمن صعفض قرست ثخذ طغش) وسبب هذا الاختلاف أن المغاربة يرون الترتيب عن الأمم القديمة على خلاف ما يرويه عنهم المشارقة.

(6)

هذه الأحرف عربية شكلاً لا نطقًا، وهم يميزونها بالكتابة عن أشباهها بوضع نقط أو علامات فوق الحرف أو تحته كما سترى بعد.

(7)

راجع محاضرات الأستاذ حفني بك ناصف (تاريخ الأدب أو حياة اللغة العربية) .

(8)

الكتابة والكتاب للشهيدي وانظر صبح الأعشى (ج3 ص21) .

(9)

تنوير الأذهان في علم حياة الحيوان والإنسان ص238.

ص: 461

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الدولة والألمان

والسِّكتان المتضادتان الشبيهتان بالجمع

بين الكفر والإيمان

للسلطان عبد الحميد حسنة عظيمة في البلاد العربية، لا يصدنا عن

الاعتراف بها، ما قيل من نيته فيها وغرضه منها، ألا وهي سكة الحديد الحجازية،

التي كان يظن ويقال إنه كان الباعث له على إنشائها جعل الحجاز كسائر البلاد

العثمانية في الخضوع لحكومته، والتمكن من سوق الجيوش إليها عند الحاجة،

والمعروف من رأي كثير من رجال الدولة إزالة إمارة الشرفاء من الحجاز منهم

أحمد مختار باشا الغازي، ولا يكون ذلك سهلاً مأمون العاقبة إلا بإتمام هذه السكة،

وهذا هو السبب فيما اشتهر من معارضة شرفاء مكة لمد هذه السكة بين الحرمين

الشريفين.

كنا ولا نزال نرى أن هذه السكة من أكبر الحسنات، على علمنا بما هنالك

من الأقوال والظنون والنيات؛ ولكن للسلطان عبد الحميد سيئة من جنس هذه

الحسنة يزيد وزرها على أجر هذه - إن حسنت النية فيها - أضعافًا كثيرة لعلها

تزيد على سبع مئة ضِعْف، ألا وهي سكة الحديد الألمانية بين الآستانة، والعراق.

من شروط هذه السكة أن الشركة الألمانية تملك عشرين ألف متر (20 كيلو)

عن جانبيها ملكًا خالصًا، فعشرون ألف متر تمتد من أقصى مغرب المملكة الشمالي

إلى أقصى مشرقها الجنوبي، يكوِّن مملكة كبيرة في قلب المملكة العثمانية مساحتها

ضعفا مساحة الأرض التي تزرع في المملكة المصرية، وهي منها في أعز مكان،

كالقلب من بدن الإنسان، فكما أن القلب مصدر الحياة للبدن، كذلك تكون هذه السكة

مصدر الثروة والقوة والعمران في المملكة، فكيف يعيش من يكون قلبه في قبضة

أجنبي عنه، وقد كانت بريطانية العظمى على قوتها تعد وصول هذه السكة إلى

الكويت، أو البصرة خطرًا على مصالحها التجارية في العراق وخليج فارس، بل

خطرًا على ممالكها الهندية، أفلا تكون هذه السكة في قلب مملكة خطرًا عليها؟ بل

إنها وهي لغيرنا أعظم الأخطار لو كانت غفلاً عن ذلك الشرط، فكيف تكون مع

ذلك الشرط؟

قرأنا في أثناء هذه الحرب أخبارًا عن الألمان تدل على أن امتلاكهم لقليل من

الأرض في غير بلادهم أعظم خطرًا عليها مما كان لا يستنبطه إلا أبعد السياسيين

رأيًا، وأشدهم فطنة وحذرًا.

قد امتلك بعض الألمانيين أرضًا في فرنسة، وبلجيكة فظهر بعد الحرب أنها

أعدت في وقت السلم لحرب أهل البلاد التي هي فيها، فكان منها خنادق،

وسراديب، ومواضع لنصب المدافع الضخمة، حتى قيل إن مكانًا أعده رجل

ألماني في بلجيكة للعب الكرة في داره ظهر بعد الحرب أنه أعد لنصب أثقل المدافع

وأقواها، وأنه وضع على البعد المناسب بينه وبين الحصون البلجيكية، وما كان

يمكن دكها وتدميرها إلا منه.

كنا قرأنا في المقطم أن من شروط التحالف بين ألمانية، والدولة العثمانية أن

الأولى لا ترضى بعقد صلح إلا إذا اشترط فيه سلامة أملاك الثانية، وأنها تعطيها

خمس الغرامة الحربية التي ترجو أن تأخذها، على كونها هي التي تقدم لها السلاح،

والذخيرة، والمال لأجل الحرب، وقرأنا وسمعنا أنها وعدتها ببلاد القوقاس،

وغير القوقاس من البلاد الإسلامية، وكنا نفضل على كل هذه العطايا الغيبية لو

اشترطت عليها الدولة أن تبطل من شروط سكة الحديد البغدادية امتلاك عشرين

ألف متر عن جانبيها، إذا لم يمكن أن تترك لها هذه السكة كلها، فإن كون قلب

بلادنا خالصًا لنا أهم وأنفع لنا من ضم بلاد أخرى إليها، فلأن أملك مئة فدان من

الأرض ملكًا خالصًا أستطيع أن أعمرها كما يجب، أفضل وأنفع لي من ألف فدان

فيها حقوق للأجانب الذين يستطيعون من عمارتها ما لا أستطيع، ويخشى أن يَئُول

أمرها كلها إليهم، على أن بلاد الدولة أوسع من بلاد عدة دول من الدول الكبرى،

فلو عمرت لكانت غنية بها عن سواها.

فنحن نتمنى لو تقترح الدولة على حليفتها القوية أن تعطيها هذه السكة أو تلغي

من شروط امتيازها ذلك الشرط لتجعل هذا دليلاً على إخلاصها في محالفتها،

ورغبتها في بقائها مستقلة قوية بعد انتصارها معها، وإلا كان الخوف منها أكبر من

الرجاء فيها.

_________

ص: 472

الكاتب: صالح مخلص رضا

‌تقريظ المطبوعات الجديدة [*]

(المطبوعات التي باسم دار الكتب الخديوية [1] )

1-

صُبْح الأعشى في كتابة الإنشا

هو تأليف الشيخ أبي العباس أحمد القلقشندي المصري، والمراد بكتابة

الإنشاء الكتابة الرسمية للملوك والسلاطين، وما يحتاج إليه القائم بها من العلوم

والفنون، فهذا الكتاب تاريخ للسياسة، والإدارة العامة، وجميع العلوم، والفنون،

والآداب، ولا يمكن بيان كليات فوائده، والتعريف بمجامع مزاياه، إلا في مقال

طويل لعل المنار يقوم به بعد إتمام طبع الكتاب، وهو يطبع في المطبعة الأميرية

بحروفها الجديدة الجميلة على أجود ورق يوجد بمصر، وقد تم من طبعه أربعة

أجزاء من القطع الكامل.

صفحات الأول 481، والثاني 477، والثالث 532، والرابع 487، وهو

يباع في دار الكتب نفسها، وفي مكتبة المنار وغيرها، وثمن كل جزء منه 15

قرشًا.

وهو لا يكاد يزيد عن نفقة الطبع إلا قليلاً، فنحث كل محب للعلم والأدب

والتاريخ إلى المبادرة لاقتنائه ومطالعته، أو الإحاطة بما في كل باب، وكل فصل

من المباحث النفيسة لأجل الرجوع إليها عند الحاجة لمن لا يتيسر له مطالعة الكتاب

كله، أو مطالعة ما يرى نفسه أحوج إلى معرفته.

ولما كان هذا الكتاب من قَبِيل الموسوعات التي يطلقون عليها اسم (دائرة

المعارف) نقترح على دار الكتب أن تجعل له فهرسًا عامًّا مرتبًا على حروف

المعجم.

***

2-

الإحكام في أصول الأحكام

تأليف الشيخ العلامة سيف الدين أبي الحسن علي بن أبي علي الآمدي المتوفى

سنة 551 للهجرة.

طُبع في مطبعة المعارف طبعًا نظيفًا على ورق جيد، في أربعة أجزاء

صفحات الجزء الأول 407، والثاني 495، والثالث 437، والرابع 392،

وثمنه 48 قرشًا لكل جزء 12 قرشًا.

الآمدي رحمه الله من أعلام العلماء وأساطين الحكماء له اليد الطولى في

الحديث، وعلم النظر، والخلاف، والفلسفة، قال ابن خلكان: ولم يكن في زمانه

أحفظ منه لهذه العلوم، وكان العز بن عبد السلام يقول: ما سمعت أحدًا يلقي

الدرس أحسن منه كأنه يخطب، وإنْ غَيَّرَ لفظًا من (الوسيط) - للغزالي وكان

يحفظه - كان لفظه أمسَّ بالمعنى من لفظ صاحبه، وقال العز أيضًا: ما علمنا

قواعد البحث إلا سيف الدين، وقال أيضًا: لو ورد على الإسلام متزندق يشكك ما

تعين لمناظرته غير الآمدي، وله مؤلفات في غاية الإتقان والتنقيح منها كتابه هذا

(الإحكام) في أصول الفقه، وهو من أبسطها عبارة، وأكثرها تقسيمًا، وأحسنها

ترتيبًا، وأجمعها لمسائل الخلاف ودلائلها.

وهو كالكتابين المذكورين بعده من الكتب التي طبعت بعناية أحمد حشمت باشا

في عهد وزارته للمعارف، وتُطلب كلها من دار الكتب السلطانية ومن مكتبة المنار

وغيرها.

***

3-

الطراز، المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الأعجاز

تأليف (السيد الإمام، إمام الأئمة الكرام، أمير المؤمنين يحيى بن حمزة بن

علي بن إبراهيم العلوي اليمني) المتوفى سنة 459 للهجرة طبع في مطبعة

المقتطف بمصر طبعًا جيدًا على ورق أبيض جيد في ثلاثة أجزاء، صفحات الجزء

الأول 435، والثاني ص 408، والثالث 466، وثمنه 36 قرشًا صحيحًا، لكل

جزء 12 قرشًا.

هذا الكتاب من كتب البلاغة الممتعة، التي ينفق مؤلفوها من سعة، ضم بين

قطريه علوم البيان، وجمع بين دفتيه دلائل إعجاز القرآن، والمراد بعلوم البيان

علوم البلاغة الثلاثة: المعاني، والبيان، والبديع، رتبه مؤلفه رحمه الله

أحسن ترتيب، وجاء على مسائله بالشواهد والأمثلة، حتى سهل ما تناول من

مسائل الفن من أقرب السبيل؛ ولذلك قال: إنه يرجو أن يكون متميزًا عن سائر

الكتب بأمرين: أحدهما ترتيبه العجيب، وتنسيقه الذي يطلع قارئه من أول وهلة

على مقاصد هذا الفن، وثانيهما ما فيه من التسهيل، والتيسير، والإيضاح للمباحث

الدقيقة، فهو يجري في الإيضاح والبسط على نسق إمام الفن، وواضعه الشيخ عبد

القاهر الجرجاني، وقد اعترف المصنف - رحمه الله تعالى - بأن عبد القاهر هو

الواضع لهذا الفن، وأنه لم يطلع على كتابيه فيه، ولعله لو اطلع عليهما لكان

أحسن بيانًا، وأغزر فوائد، قال:

وأول من أسس من هذا العلم قواعده، وأوضح براهينه، وأظهر فوائده،

ورتب أفانينه، الشيخ العالم النحرير عَلم المحققين عبد القاهر الجرجاني، فلقد فك

قيد الغرائب بالتقييد، وهد من سور المشكلات بالتسوير المَشيد، وفتح أزهاره من

أكمامه، وفتق أزراره بعد استغلاقها واستبهامها، فجزاه الله عن الإسلام، أفضل

الجزاء، وجعل نصيبه من ثوابه أوفر النصيب والإجزاء، وله من المصنفات فيه

كتابان، أحدهما لقَّبه (بدلائل الإعجاز) ، والآخر لقَّبه (بأسرار البلاغة) ، ولم

أقف على شيء منهما مع شغفي بحبهما، وشدة إعجابي بهما، إلا ما نقله العلماء في

تعاليقهم منهما. اهـ.

ثم بين موضوع الكتاب وطريقته فيه فقال:

ولما كان كل علم لا ينفك عن مبادئ، ومقدمات تكون فاتحة لأمره،

ومقاصد تكون خلاصة لسره، وتكملات تكون نهاية لحاله، لا جرم اخترت في

ترتيب هذا الكتاب أن يكون مرتبًا على فنون ثلاثة، ولعلها تكون وافية بالمطلوب

محصلة للبغية بعون الله.

فالفن الأول منها مرسوم المقدمات السابقة نذكر فيها تفسير علم البيان، ونشير

فيها إلى بيان ماهيته، وموضوعه، ومنزلته من العلوم الأدبية، والطريق إلى

الوصول إليه، وبيان ثمرته وما يتعلق بذلك، من بيان ماهية البلاغة، والفصاحة،

والتفرقة بينهما، ونشير إلى معاني الحقيقة والمجاز وبيان أقسامهما، إلى غير ذلك

مما يكون تمهيدًا، وقاعدة لما نريده من المقاصد.

الفن الثاني منها مرسوم المقاصد اللائقة، نذكر منه ونشير فيه إلى ما يتعلق

بالمباحث المتعلقة بالمعاني، وعلومها، ونردفه بالمباحث المتعلقة بعلوم البيان

وأقاسهما، ونشرح فيه ما يتعلق به من المباحث بعلم البديع، ونذكر فيه خصائصه

وأقسامه، وأحكامه اللائقة به بمعونة الله تعالى ولطفه.

الفن الثالث نذكر فيه ما يكون جاريًا مجرى التتمة، والتكملة لهذه العلوم

الثلاثة، نذكر فيه فصاحة القرآن العظيم؛ وأنه قد وصل الغاية التي لا غاية فوقها،

وأن شيئًا من الكلام وإن عظم دخوله في البلاغة والفصاحة، فإنه لا يدانيه ولا

يماثله، ونذكر كونه معجزًا للخلق لا يأتي أحد بمثله، ونذكر وجه إعجازه، ونذكر

أقاويل العلماء في ذلك، ونظهر الوجه المختار فيه، إلى غير ذلك من الفوائد

الكثيرة، والنكت الغزيرة، التي نلحقها على جهة الردف والتكملة لما سبقها من

المقاصد.

فالفن الثالث للثاني على جهة الإكمال والتتميم، والفن الأول للثاني على جهة

التمهيد، والتوطئة، والسر، واللباب، والمقصد لذوي الألباب، ما يكون مودعًا

في الفن الثاني، وهو فن المقاصد، وأنا أسأل الله تعالى بجوده الذي هو غاية

مطلب الطلاب، وكرمه الواسع الذي لا يحول دونه ستر، ولا حجاب، أن يجعله

من العلوم النافعة في إصلاح الدين، ورجحانًا في ميزاني عند خفة الموازين، إنه

خير مأمول، وأكرم مسؤول) .

***

4-

الخصائص

تأليف أبي الفتح عثمان بن جني طُبع الجزء الأول منه بمطبعة الهلال سنة

1332 هـ، صفحاته 569 ثمنه 15 قرشًا.

ابن جني من أساطين أئمة اللغة، وفحولها، وقد قال فيه الباخرزي في دمية

القصر: ليس لأحد من أئمة الأدب في فتح المقفلات، وشرح المشكلات، ما لأبي

الفتح لا سيما في علم الإعراب، ومن قول المتنبي فيه أيضًا: هذا رجل لا يعرف

قدره كثير من الناس، وقال الأستاذ الإمام من كتاب يُعَرِّض فيه بصاحب له وقع فيه

عندما أخذ بتهمة المسألة العرابية: وأما فلان فقد أكننته كني، وأدنيته مني،

وجعلته في مكان النحو من ابن جني، ثم هو يصرح بسبي ولا يكني.

وكتابه هذا (الخصائص) علم، وأدب، وفقه لغة، وفلسفة، لأنه يعطي

المُطالع علمًا باللغة العربية، وأساليبها، وآدابها، ويلهمه بلاغة بأسلوبه الذي هو

في أعلا ذروة منها.

ومن رأيه في (باب القول على أصل اللغة إلهام أم اصطلاح) ما نصه:

(وذهب بعضهم إلى أن أصل اللغات كلها إنما هو من الأصوات المسموعات،

كدوي الريح، وحنين الرعد، وخرير الماء، وشحيح الحمار، ونعيق الغراب،

وصهيل الفرس، ونزيب [2] الظبي ونحو ذلك، ثم ولدت اللغات عن ذلك فيما بعد،

وهذا عندي وجه صالح، ومذهب متقبل.

واعلم فيما بعد، أنني على تقادم الوقت، دائم التنقير والبحث عن هذا

الموضع، فأجد الدواعي والخوالج قوية التجاذب لي، مختلفة جهات التغوّل على

فكري، وذلك أنني إذا تأملت حال هذه اللغة الشريفة، الكريمة اللطيفة؛ وجدت فيها

من الحكمة والدقة، والإرهاف والرقة، ما يملك عليّ جانب الفكر، حتى يكاد

يطمح به أمام غلوة السحر، فمن ذلك ما نبه عليه أصحابنا رحمهم الله، ومنه ما

حذوته على أمثلتهم، فعرفت بتتابعه وانقياده، وبُعْد مراميه وآماده، صحة ما وفقوا

لتقديمه منه، ولطف ما أسعدوا به، وفرق لهم عنه، وانضاف إلى ذلك وارد

الأخبار المأثورة، بأنها من عند الله جل وعز، فقَوِيَ في نفسي اعتقاد كونها توقيفًا

من الله سبحانه، وأنها وحي.

ثم أقول في هذا كما وقع لأصحابنا ولنا، وتنبهوا وتنبهنا، على تأمل هذه

الحكمة الرائحة الباهرة. كذلك لا ننكر أن يكون الله تعالى قد خَلَقَ مِنْ قبلنا، وإن

بعد مداه عنا، من كان ألطف منا أذهانًا، وأسرع خواطر وأجرأ جنانًا، فأقف بين

تين الخلتين حسيرًا، وأكاثرهما فأنكفئ مكثورًا، وإن خطر خاطر فيما بعد، يعلق

الكف بإحدى الجهتين، ويكفها عن صاحبتها، قلنا به، وبالله التوفيق) اهـ.

أما المذهب الذي تقبله أولاً فهو الذي يرجحه الباحثون في فلسفة الخلق ولغاتهم،

وأما ما تعارض رأيه فيه بعد ذلك فهو موضوع آخر، وهو أن ارتقاء اللغة

العربية في أبنية كلمها، وقوانين جملها وأساليبها، هل كان بمواضعة واصطلاح

من أناس من الأولين بذُّوا مَن بعدهم في العلم والفلسفة والذوق؟ أم كان بوحي

إلهامي من الله تعالى؟ ولكل رأي وجه، والمعقول أن الله تعالى ألهم تلك النفوس

ذات الذكاء، والذوق أن تجري في كلامها على سنن ترتقي فيها بالتدريج إلى أن

وصلت إلى تلك الدرجات العلى التي بين المصنف خصائصها في كتابه.

***

5-

الاعتصام

كتاب الاعتصام للإمام أبي إسحاق إبراهيم اللخمي الشاطبي، ثم الغرناطي

الأندلسي المتوفى سنة 790.

طبع طبعًا حسنًا على ورق جيد في مطبعة المنار في ثلاثة أجزاء، صفحات

الأول منها 388 ما عدا الفهرس، ومقالة التعريف بالكتاب، وترجمة مؤلفه،

وصفحات الثاني 356 ما عدا الفهرس، وصفحات الثالث 280 ماعدا الفهرس،

وخاتمة الطبع، وثمن كل جزء منها 10 قروش، ويُطلب من دار الكتب، ومن

مكتبة المنار.

قد سبق تقريظ هذا الكتاب، وبيان مزاياه في منار العام الماضي، ونقول الآن

إننا لا نعلم أن أحدًا ألف مثله في بيان حقيقة البدع، وأقسامها، وأحكامها، فهو

ركن من أركان الإصلاح الإسلامي لعله لا يقرؤه مسلم إلا ويكره البدع، وينفر منها،

ويحب السنة، ويرغب في الاعتصام بها، على علم وبصيرة تنتفي بهما الشبهات

التي راجت والتبست على كثير من المشتغلين بالفقه، لا على العوام وحدهم، فهذا

الكتاب أعم مطبوعات دار الكتب نفعًا لا يستغني عنه عالم، ولا عامي من المسلمين.

طبعت هذه الكتب للمرة الأولى فهي كنوز علم وأدب قد فُتِحَتْ للطالبين

ورياضُ فضلٍ أُدنيت للناس أجمعين؛ ليجتنوا يانع ثمراتها فجزى الله الساعين

بطبعها خير الجزاء، ونفع بها، آمين.

***

(انتشار الخط العربي)

تأليف عبد الفتاح أفندي عبادة صاحب كتاب (سفن الأسطول الإسلامي)

مزينًا بالرسوم، والخرط طبع سنة 1333 في مطبعة هندية ص 168، ويُطلب

من مكتبة المنار، بمصر، وثمنه 12 قرشًا.

لعبد الفتاح أفندي عبادة عناية بالمباحث التاريخية، والفنية المبتكرة التي لم

تفرد في التأليف في لغتنا من قبل، وقد أتحف أبناء العربية بكتابه (سفن الأسطول

الإسلامي) ، ثم أبرز لهم اليوم هذا المؤلف النفيس الذي أبان فيه منشأ الخط العربي،

وتطوره بتطور المسلمين، وما تفرع منه، وأحصى عدد الذين يكتبون بالخط

العربي من البشر، فإذا هم 243 مليونًا، ولعلهم يزيدون فإن وثنيي الهند يكتبون

بها كالمسلمين، فكتابه هذا كتاب أدب لا تاريخ.

نعم إنه قد اعتمد في معظم مباحثه على ما كتبه علماء أوربة وغيرهم، وربما

أخطأ بعض هؤلاء العلماء، أو ربما أخطأ هو في بعض النقل كتسمية الخط

الديواني الجلبي [الخط الديواني الجلي](انظر شكل 7 و 8) ؛ ولكنه خطأ يقع في

مثله كثير من الناس، وقد نُشر في المنار نموذج من مباحث هذا الكتاب.

_________

(*) عهدنا بتقريظ المطبوعات إلى شقيقنا السيد صالح مخلص رضا.

(1)

أُسست دار الكتب العامة في عهد الخديو إسماعيل باشا بعناية محمود سامي باشا البارودي، وسميت الكتبخانة الخديوية، ثم سميت المكتبة المصرية، ثم دار الكتب الخديوية، ثم دار الكتب السلطانية.

(2)

النزيب (صوت تيس الظباء عند السفاد) .

ص: 474

الكاتب: محمد علي أبو زيد

البرهان على خروج تارك الصلاة

ومانع الزكاة من الإيمان [*]

جمع أدلته من الكتاب والسنة / محمد علي أبو زيد

الطالب بكلية دار الدعوة والإرشاد

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله أنعم علينا بالإسلام، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي قام

بتبليغ الدين خير قيام.

أما بعد فإن الصلاة والزكاة أهم أركان الدين، وأعظم الشعائر للمسلمين،

بهما تزكية النفوس، وصلاح حال الجمهور.

جمع الله تعالى كل الخير فيهما؛ لأن من اتصف بهما يتصف بكل فضيلة

سواهما.

فمن تركهما فلا حظ له في الإسلام، ولا الإيمان، فهلمّ اسمعْ في ذلك

نصوص القرآن.

ولأقدم لك تعريف الصلاة والزكاة، ومقصود الشارع الحكيم منهما، على

طريق السؤال والجواب، عسى أن تأنس به، وترتاح نفسك إلى تدبره، فأعرني

سمعك، واستعمل عقلك.

س: ما حقيقة الصلاة؟

ج: هي مناجاة الله تعالى، وذكره، ودعاؤه، والخضوع له بالصفة المأثورة

عن النبي صلى الله عليه وسلم.

س: لم جُعلت الصلاة بالكيفية المخصوصة، ولم تُترك إلى اختيار

المؤمنين؟

ج: لئلا يتشعب الخلاف بين الناس فيها، فيفوت غرض الدين من اتحادهم

عليها، المساعدِ لهم على الاتحاد في غيرها.

فالناس كلما كثر ما يشتركون فيه كان اتحادهم عليه أقوى، وانجذابهم بعضهم

إلى بعض أقرب وأمتن.

س: ما دليل وجوبها، وحكمة مشروعيتها؟

ج: قال الله تعالى في سورة العنكبوت: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى

عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} (العنكبوت: 45) .

س: كيف تنهى عن الفحشاء والمنكر؟

ج: انظر إلى نفسك حين تواجه القبلة، وتتهيأ لإقامة الصلاة، فتستفتحها

بقولك: الله أكبر، ألا تراك مُلِئت خشية لذكرك ربك وكبرياءه، وغشيتك السكينة

لوقوفك بين يدي سيدك مستصغرًا كل شيء دونه، وغاضًّا الطرف عما سواه.

فإذا قرأت الفاتحة ذَكَّرتك معانيها بإلهك الذي خلقك بقدرته، وربك الذي رباك

على نعمه - رباك لا ليستبد بك، ولا لينتفع منك، بل ليجعلك موضع رحمته،

ومحل وإحسانه، وهناك ترى سيدًا عظيمًا، ومالكًا للجزاء وحيدًا، جميع الكون في

قبضة يده، وكل العالم تحت تصرفه وقهره، لا إرادة فوق إرادته، ولا ينفع أحد

أحدًا عنده، فبينما أنت ترجو رحمته، إذا بك تخاف عذابه، قوته فوق الأسباب،

فلا تجد ملجأ إلا إليه، ولا تستعين إلا به، فهو الذي يهديك طريقه المستقيم، ويأخذ

بيدك فيه، ما دمت فيه، مرافقًا لأهله الذين أنعم عليهم من النبيين، والصديقين،

والشهداء، والصالحين، بعيدًا عن طرق المعاندين، والحيرانين، المغضوب عليهم

والضالين، أضف إلى ذلك ما في ركوعك وسجودك، وقيامك طوع أمره وقعودك،

كل هذا يا مقيم الصلاة يؤثر فيك تأثيرًا، ويأخذ منك مأخذًا كبيرًا، فلا تلبث أن

تتربى في نفسك ملكة المراقبة لله، تثبتك على صراطه، وتقيك الوقوع في عصيانه،

فإذا مسَّك طائف من الشيطان، أو دعاك داعٍ من الشهوة إلى العصيان، ناداك

صوت من ضميرك: اذكر ربك واتقه، واحذر أن يراك حيث نهاك! فإذا أنت من

المبصرين.

س: يظهر من هذا أن المرء إذا حافظ على إقامة الصلاة تصفو نفسه

وتحسن أخلاقه؟

ج: من غير شك، وذلك هو مقصود الدين من تكرار الصلاة كل يوم

خمس مرات، وتدبر القرآن فيها.

وقد علمت أن الله لم يسقطها عن المؤمنين، وهم في مقاتلة أعدائهم، ولا عن

المرضى، وهم في موتهم، وما ذلك إلا لحاجتهم إليها، وعدم استغنائهم عنها،

فإنها تشجعهم، وتجعلهم أكثر تحملاً للمشاق، وأقوى صبرًا على الشدائد، وأقرب

إلى الرجاء، وأبعد عن اليأس.

س: صلينا كثيرًا فلماذا لم تنهنا صلاتنا عما نحن فيه من المنكرات؟

ج: سبب ذلك أننا لم نلاحظ المقصود منها، فغفلنا عن التدبر والخشوع فيها

فما لنا من الصلاة الآن إلا اسمها، وليس في مساجدنا منها إلا صورتها ورسمها.

وإن شئت فقل: إنها أصبحت عندنا عادة من العادات، التي يقلد فيها الولد

أباه، وغيره ممن ينشأ فيهم.

وقد وصل الجهل بناس إلى أن يتركوا الصلاة طول حياتهم، اعتمادًا على أنه

يمكن إسقاطها عنهم بعد مماتهم بالطريقة المشهورة بإسقاط الصلاة - ذلك بأن يؤتى

بمن يسمونهم فقهاء، وهم قراء القبور، الذين اتخذوا القراءة على القبور،

والصياح في الجنازات بنشيد البردة وغيرها صناعة، فيحسبوا ما ترك الميت من

الصلوات في سني عمره، ثم يطاف عليهم بصرة فيها عدد من النقود، فيقبل كل

منهم أن يتحمل عددًا من تلك الصلوات عن الميت نظير مبلغ يأخذه مما في الصرة،

حتى إذا تحمل الجميع ما على الميت من الصلوات فرق عليهم عدد النقود، وبهذا

يزعمون أن الصلاة سقطت عن الميت، وأن الله عفا عمن تحملوها.

وفي هذا من العجب ما ترى، وقد ذكرته ليظهر لك كيف يؤدي الجهل بحكمة

الله إلى إضاعة شرعه، والاستهزاء بدينه، وكأن هؤلاء لم يعقلوا أن تارك الصلاة

قد صدئت نفسه، وتلوثت روحه، فلم يعد يستحق مقام الكرامة، و {أَلَاّ تَزِرُ

وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَاّ مَا سَعَى} (النجم: 38-39) فهل

للقبوريين عهد من الله أن يقبل منهم ما يقبلون، ويحط عنهم ما يتحملون؟ فرحماك

اللهم! فإن القوم لا يعلمون وعساهم عن ذلك يرجعون.

س: عرفنا الصلاة، فما معنى الزكاة؟

ج: الزكاة جزء من مال الأغنياء، يصرف في مصالح المسلمين،

كالفقراء والمساكين، وأبناء السبيل، والغارمين، وغير ذلك من مهمات الدين.

س: ما دليل وجوبها، وحكمة شرعيتها؟

ج: قال الله تعالى في سورة براءة {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم

بِهَا} (التوبة: 103) .

س: ما معنى التطهير والتزكية بها؟

ج: {إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} (العلق: 6-7) فكلما كثر

جمعه للمال، زاد حبه له، وطمعه فيه، حتى لا يُؤْثِر شيئًا عليه، ولا يكون له

هم في سواه، فتنقطع العلائق بينه وبين الله، فتخبث نفسه، فيكسب المال من أي

وجه حلالاً كان أو حرامًا، فإذا هو جعل نصيبًا من ماله لله على حبه إياه، استحى

أن يكسبه من طريق يبغضه الله، وكان حب الله في نفسه متغلبًا على حب المال،

فهذا ينظف النفس من الأرجاس العالقة بها، ويزكيها بإنماء الفضائل فيها.

وهذه تزكية روحية، وهناك تزكية أدبية اجتماعية - وهي أن الأغنياء الذين

يقبضون أيديهم عن الفقراء يُعَرِّضون أموالهم للسلب، وأعراضهم وأنفسهم للإهانة؛

لأن الفقراء يبغضونهم، ويكيدون لهم، وإذا اشتد الجوع بهم، ولم يجدوا وسيلة لسد

الرمق إلا بالاعتداء على الأموال والأنفس اعتدوا، ولا يخفى ما في ذلك من اختلال

الأمن، وتزعزع النظام، فيمسي الأغنياء ويصبحون لا يهدأ لهم بال، ولا يرتاح

لهم ضمير، فيموتون أو يموت الفقراء جوعًا وذلاًّ، وكل ذلك - كما تعلم - سبب

في ضعف الأمة، وانقراضها، فإذا هم بذلوا، وأنفقوا، حفظوا حياتهم، وهدءوا

روعهم، وجعلوا الفقراء إخوانهم، يهتمون لهم، ويتعاونون معهم، فببسط أيديهم

يتبدل ضعفهم قوة، وتنقلب قلتهم كثرة، أضف إلى ذلك ما يتوفر للأمة فيصرف في

منافعها العامة، ومصالحها المدنية، وما يعود عليها من بسط الأمن في ربوعها،

وتوثيق عرى المحبة بين أفرادها، وحسبك دليلاً على ذلك أن المسلمين لما تهاونوا

في إخراج الزكاة انحلت رابطتهم، وتأخرت مدنيتهم.

س: إذا كان في الزكاة ما ذكرت من رابط الود بين الأفراد، ومن مصالح

جماعة الأمة، وكانت بذلك من أعظم أركان العمران، فما بالنا نرى الإفرنج وقد

استبحرعمرانهم ليس عندهم زكاة مثلنا؟

ج: لعلك لم تنظر إلى ما عندهم من الجمعيات الخيرية، والملاجئ،

والمستشفيات المجانية، وغير ذلك مما يُقصد به تحسين حال الأيتام والفقراء،

وغير ذلك من المنافع، والمصالح، وهل هذا إلا بمعنى الزكاة عندنا؟ وهل تقوم

لأمة قائمة من غير أن يكون فيها هذا الركن الاقتصادي العمراني الجليل؟

ألا تعجب حينما ترى الإفرنج يعرفون قيمة هذا الركن، وقومنا عنه غافلون؟

ألا يزيد عجبك عندما تسمع مقلدة الفقهاء يُعَلِّمُون الناس إسقاط فرضية الزكاة بما

يوحي إليهم الشياطين من الحيل؟ ولعلك شاهدت كثيرًا ممن تجب عليهم زكاة المال

يأتي قبل الحول الذي تجب بحلوله الزكاة؛ فيتنازل لامرأته عن ماله، ثم بعد أن

يفوت الحول يستوهبها إياه، ويزعم أنه بذلك قد خرج عن دائرة المالكين فلم يُكَلَّف

وأن حيلته صحت عند الله.

وأغرب من ذلك أن الرجل يضع زكاة ماله نقودًا في داخل كمية من الحبوب،

ويأتي ببعض المستحقين فيعرض عليه تلك الكمية من الحبوب من غير أن يريه

المال المدفون فيها، فيقول له: هذه زكاة مالي فاقبلها، وبعد قبوله إياها يبتاعها منه

بضعف ثمنها، فيفرح المسكين، ويرجع المكلف بدفع الزكاة زاعمًا أنه قد تخلص

منها، ولم يعد يُسأل عنها.

فيا حسرة على هؤلاء الذين فضلاً عن تضييعهم للشريعة، وقضائهم على

أحكامها، قد هزئوا بربهم، وسخروا بخالقهم، فاكتسبوا جريمتين بعملهم هذا،

إحداهما تضييع دينه، والأخرى الاحتيال عليه، {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا

يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ} (إبراهيم: 42)

يوم يتقاضاهم الفقراء والمساكين، ويحكم الله بينهم وبين المستحقين، يوم يحمى

على أموالهم في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم ويقال لهم: {هَذَا

مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} (التوبة: 35) .

حكم تارك الصلاة والزكاة:

س: حسبنا ما وقفنا عليه من معنى الصلاة والزكاة، وما وراءهما من المنافع

وما انطوتا عليه من الحكم، فما حكم تارك الصلاة، أو مانع الزكاة؟

ج: كلاهما مُعْرِض عن الإسلام هادم لأعظم أركانه، وقد ذهب جماهير العلماء

إلى وجوب قتله إن لم يتب - قيل كفرا وقيل عقوبة - وقد أجمع الصحابة رضوان

الله عليهم على قتال مانعي الزكاة، والخلاف في كفر تارك الصلاة أقوى.

س: كيف يعد تارك عبادة من عبادات الإسلام مرتدًّا عن الدين، تاركًا

له؟

ج: لأن الإسلام ليس له معنى إلا الانقياد لله تعالى، فيما يزكي النفوس،

ويصلح الاجتماع، وذلك إنما يتجلى في الصلاة والزكاة - كما علمت - وغيرهما

تابع لهما، بل من أقام الصلاة وحدها، أقام كل أمر بعدها.

س: هذا صحيح وفهمناه مما سبق، فأين الأدلة على أن تارك الصلاة، أو مانع الزكاة خارج عن الملة الإسلامية؟

ج: ذكر الله سبحانه الصلاة، والزكاة في أكثر من خمسين موضعًا من

كتابه، وكلها يدل على الاهتمام بهما، وبناء الإسلام عليهما، غير أننا نكتفي هنا

بذكر الصريح من الآيات في موضوعنا فنقول:

ما جاء في الصلاة وحدها:

من ذلك قوله تعالى في سورة الروم {فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا

تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ

وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} (الروم: 30-

32) الآية، وفي قراءة (من الذين فارقوا دينهم) ، فانظر كيف أراك عز شأنه أنه

لا يعدل عن إقامة الصلاة إلا المشركون [1] ، ولا يتصف بها إلا المتقون، من أقامها

صاحب الدين، ومن لم يقمها فارق الدين، فهي الصفة المميزة، والحد الفاصل بين

المسلم والمشرك.

(لها بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) المنار: قرأنا هذه الرسالة كلها، وانتقدنا على كاتبها مسائل منها، وبينا له رأينا في تصحيحها وإصلاحها، قولاً وكتابة، على أن يكون مستقلاًّ في ذلك، يأخذ ما يأخذ، ويترك ما يترك

عن بينة، كما هو شأننا مع تلاميذنا ومريدينا، لأجل هذا نشير في حواشي الرسالة إلى المهم مما

بقي من خطأ أو ضعف فيها.

(1)

المنار: الآية لا تدل على هذا الحصر، ولا هو صحيح في نفسه، ولا تدل على الحصر الذي

ذكر بعده، وإن كان معناه صحيحًا.

ص: 505

الكاتب: محمد توفيق صدقي

مدرسة دار الدعوة والإرشاد

دروس سنن الكائنات

محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صدقي

(9)

الراحة والتعب

النوم والرياضة الجثمانية

النوم:

جميع أعضاء الجسم تحتاج للراحة بعد العمل، وذلك بأن المواد الضرورية

لحياتها تقل شيئًا فشيئًا بسبب العمل، وكذلك تتراكم فيها فضلات الاحتراق،

فبالراحة تجمع من الدم مواد أخرى صالحة لتغذيتها، وتخرج إليه تلك الفضلات

المؤذية، وأعظم أنواع الراحة، وأشدها نفعًا للجسم النوم، ففيه يبطل عمل المخ إلا

فيما ندر (كالأحلام) ، ويقل ورود الدم إليه، وتقل مرات التنفس، والنبض

فتستريح الرئتان والقلب، وكذلك يقل إفراز جميع الأعضاء الأخرى كالبول مثلاً

وترتخي جميع العضلات؛ وبذلك تحصل الراحة لها، ولجميع الأعصاب

والأعضاء؛ فتتجدد قوى الجسم وينتعش بسببه.

قال بعض العلماء: إن المخ في أثناء النوم يكون محتقنًا بالدم، ولكن هذا غير

صحيح فإن الدم إنما يكثر وروده إلى الأعضاء وقت العمل، وأما في زمن النوم

فيقل الدم من المخ وغيره، ويهرب السائل الذي تحت العنكبوتية إلى القناة الفقرية.

وإذا أريد جلب النوم لشخص مصاب بالأرق فأحسن طريقة له أن يجتهد

الإنسان في تحويل الدم عن المخ، بأن يترك الشخص التفكير، ويصب الماء البارد

على دماغه، ويغسل جسمه بالماء الساخن، أو يضع قدميه فيه، أو يتعب نفسه

بمثل المشي وغيره؛ فإن ذلك يجذب الدم إلى العضلات والأطراف، ولمثل هذا

السبب يميل الشخص إلى النوم عادة بعد الأكل بسبب ذهاب الدم إلى المعدة.

ومدة النوم تختلف بحسب السن ففي الأطفال المولودين حديثًا تستغرق اليوم

كله تقريبًا، وفي الغلمان قد تمتد إلى 12 ساعة، وفي الفتيان تكون نحو 9 ساعات،

وفي الشبان من 7 إلى 8 ساعات، وفي الشيوخ تكون من 5 إلى 6 ساعات

وأحسن وقت للنوم هو الليل بين ذهاب الشفق وطلوع الفجر، أي بعد صلاة العشاء

وقبل صلاة الفجر فإن هذا الوقت تكون الظلمة فيه أشد، والسكون شاملاً للبلاد فلا

ينبه المخ بمنبه يقلق راحته، ولا يحتاج الإنسان للنوم في النهار إلا في زمن

الصيف؛ وذلك لقصر الليل، وطول النهار، واشتداد الحر فيه؛ فيتوارد بسبب

ذلك الدم إلى الجلد؛ ولذلك يميل الإنسان إلى النعاس في الحر، ويستحسن أيضًا أن

يكون هذا النوم بعد الظهر في مكان بعيد عن الضوضاء، وأن يوجد الإنسان فيه

ظلمة بقدر الإمكان بإرخاء ستائره مثلاً، وهذا النوم هو ما يسمى بالقيلولة.

وفي التبكير في القيام فوائد عظيمة، منها فوائد اقتصادية كمزاولة الأعمال

المختلفة قبل فوات الوقت بسبب قصر النهار في الشتاء، أو فواته بسبب اشتداد

الحر في الصيف، وعدم تمكن الإنسان من العمل، ومنها فوائد صحية أهمها

الخروج من المكان الذي بات فيه الإنسان إلى هواء أصح؛ فينتعش جسمه بشم

نسيم السحر، ومن ذلك تجدون أن فرائض الشريعة الإسلامية في الصلاة موافقة

لمصالح الناس الاقتصادية والصحية، على فوائدها الروحية التهذيبية.

ويجب أن تكون غرفة النوم خالية من الأثاث بقدر الإمكان، وأن تكون

أرضها خشبية، وطلاؤها بالجير فقط، وتكون بعيدة عن الروائح الكريهة، وتدخلها

الشمس بالنهار، وكذلك الهواء ليلاً ونهارًا، ولا يصح طلاؤها بغير الجير أو نحوه؛

فإن المواد الأخرى البيضاء، أو ذوات الألوان تشتمل عادة على الرصاص، أو

الزرنيخ والنحاس، وهذه المواد تنتشر في هواء الغرفة فتسمم جسم الإنسان،

وباستمرار استنشاقها تحدث له أعراض قد تكون خطرة، ويجب أيضًا أن تكون

الغرفة جافة؛ فإن استنشاق هواء الغرف الرطبة يؤدي إلى اعتلال الصحة حتى قد

تصاب الأطفال بالدفتيريا؛ إذا سكنت في بيوت حديثة البناء حديثة الطلاء، فيجب

اتقاء السكنى في هذه المنازل إلا بعد تمام جفافها.

هذا ولا يخفى أن الهواء الذي يُستعمل في التنفس، أو في الاحتراق هو أخف

لسخونته من الهواء الذي لم يُستعمل فلذا يصعد إلى أعلى الحجرات؛ ولذلك كان من

الواجب أن تفتح بعض النوافذ بقرب السقف والتجربة المشهورة المُثْبِتة لصحة هذه

النظرية أن يأتي الإنسان بشمعة مشتعلة، ويمسكها بيده، ويقف على باب الغرفة

المسكونة، ويضعها عند الباب بقرب الأرض؛ فيجد أن الشعلة تندفع إلى داخل

الغرفة بسبب دخول الهواء من هذا المكان، فإذا أمسك الشمعة في أعلى الباب وجد

أن الشعلة تندفع إلى الخارج بسبب خروج الهواء من الغرفة، وإذا أمسك بها في

منتصف الباب وجد أن الشعلة تثبت في مكانها.

ومن ذلك يُعْلَم أن الهواء يدور في الغرف من أعلاها كما قلنا، وينبغي أن لا

ينام الإنسان في تيار الهواء أمام النافذة التي يدخل منها؛ فإن ذلك يُحْدِث برودة

عظيمة في الجسم تؤدي إلى بعض الأمراض، ويستحسن أن تكون النوافذ التي

يدخل منها الهواء أعلى من رأس الإنسان، أي على علو نحو تسع أقدام، وأن

تكون نوافذ التصريف ملاصقة للسقف.

وينبغي أن لا يبقى أحد في غرفة النوم نهارًا لئلا يفسد هواؤها، وأن تُترك

نوافذها مفتحة ليدخل منها الهواء والشمس، ولا يجوز أن يوضع فيها ليلاً أزهار

ولا أشجار، وكذلك لا يجوز أن تكون محاطة بحدائق غناء، فإن النبات من نجم

وشجر - وإن كان ينقي الهواء في النهار - يتنفس في الليل تنفس الحيوان

فيمتص أكسجين الهواء، ويفرز ثاني أكسيد الفحم؛ وبذلك يفسد الهواء، ويجب

عدم وضع حيوانات في غرفة النوم؛ فإنها أيضًا تفسد الهواء بتنفسها، وقد تنقل

إلى الإنسان بعض الأمراض كالقرَع والأَرَضَة الجلدية؛ فإنهما يصيبان القطط

والكلاب، والدفتيريا تصيب القطط كثيرًا، وفي بعض الكلاب ديدان تُخْرِج بيضًا

إذا وصل شيء منها إلى بطن الإنسان أحدث عنده أكياسًا عظيمة في الكبد وغيره.

ومن أوجب الواجبات أن يُطفأ السراج وقت النوم كما وصى بذلك رسول الله

صلى الله عليه وسلم فإن النار من أشد ما يفسد الهواء، بل قد تقتل الشخص

بالاختناق، على أنها قد تحدث الحريق، وفي إيقادها إسراف وضرر؛ فإن مجرد

وجود النور في الغرفة مما يقلق راحة المخ.

أما النور الكهربائي الصادر من بعض المصابيح، وهي المغلقة إغلاقًا تامًّا؛

فإنه لا يحدث أي إفساد للهواء، وهو أيضًا أبعد عن إحداث الحريق من سائر أنواع

النور، إلا أن في الاستضاءة به إسرافًا كبيرًا، وهو يقلق راحة النائم أيضًا.

ومن القواعد الصحية أن لا ينام الإنسان إلا على الأَسِرَّة، وحكمة ذلك أن

يكون أبعد عن الرطوبة، والأقذار، وعن الدواب المؤذية كالعقارب، وكذا عن

استنشاق الهواء الفاسد؛ فإن غاز ثاني أكسيد الفحم الذي يتولد من الاحتراق

والتنفس، هو أثقل من الهواء؛ ولذلك يكثر بقرب الأرض، وينبغي أن يحيط

بالأَسِرّة ما يسمى عندنا بالناموسية (الكلَّة) ؛ وذلك لمنع البعوض فإنه يذهب النوم

عن الإنسان، وقد ينقل إليه الملاريا - كما سبق - ولا بد أن يكون الفِرَاش نظيفًا

جدًّا خاليًا من جميع الحشرات لما سبق بيانه في باب النظافة.

وللإنسان أن ينام على أي جنب شاء بحسب راحته؛ ولكن التزام جانب واحد

قد يؤدي إلى ضرر، فإذا التزم الإنسان الجانب الأيمن مثلاً حصل احتقان في

أجزاء الجسم اليمنى؛ فتختل الموازنة التي بين جهتيه، وتتعب الرئة اليسرى

وتكون الجهة اليمنى من الدماغ عرضة للاحتقان، وربما أدى ذلك إلى الفالج إذا

كان الشخص مستعدًّا له، كأن كان كبيرًا وشرايينه متصلبة، وكذلك الحال إذا

التزم النوم على الجهة اليسرى، فالأحسن أن يتقلب الإنسان في الفراش، ولكن

يفضل الإكثار من النوم على الجهة اليمنى خصوصًا إذا كان في المعدة طعام؛ فإن

ضغط الكبد والمعدة على الحجاب الحاجز، وعلى القلب يعوق حركة التنفس،

ويضايق الإنسان، ويتعسر أيضًا خروج الطعام من المعدة؛ لأن البواب في جهتها

اليمنى، والنوم على الظهر يسبب الشخير والاحتلام فالأولى تركه إلا قليلاً، ولا

يجوز النوم على الوجه؛ فإن ذلك يسبب ضغطًا على الأحشاء يضر الإنسان

ويضايقه، ولا بد من وضع الرأس على شيء عالٍ كالمخدة بحيث تكون في محاذاة

الجسم لمنع احتقان الدماغ.

وكذلك ينبغي للإنسان أن لا ينام على طعام كثير؛ فإن النوم يعوق حركة

الهضم، وإفراز العصير المعدي، ويتعب المعدة في وقت يجب أن تستريح فيه

جميع الأعضاء، وهذا فضلاً عن كون ضغط المعدة، وهي ممتلئة بالطعام على

الحجاب الحاجز يحدث ضيقًا يتسبب عنه الكابوس، والأحلام المزعجة، أو

الاستيقاظ فجأة كأن الإنسان يخاف من الموت العاجل، ولا سيما إذا كان مصابًا

بالربو (ضيق النفس) ، أو بمرض في القلب أو الرئتين، والأحسن أن يكون النوم

بعد تمام الهضم في المعدة أي بعد نحو أربع ساعات.

وينبغي أن يكون الرأس مغطى بغطاء خفيف لمنع توارد الدم بكثرة إلى المخ،

ويرى بعض الناس أن الأحسن كشفه، ولا يجوز بحال من الأحوال أن يغطى

الوجه، أما الجسم والأقدام فيجب أن تدفأ جيدًا؛ فإن ذلك يمنع تأثير البرد الضار،

ويجلب النوم أيضًا.

وإذا عرق النائم وجب عليه تغيير ملابسه بغيرها عقب الاستيقاظ مباشرة،

ولا بأس من وضع إناء في حجرة النوم للتبول فيه (مبولة) كما كان يفعل ذلك

رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن القيام إلى مكان بعيد لأجل البول قد يحدث

أرقًا، ويعرض الإنسان لضرر البرد وغيره؛ وذلك الضرر لا شك أعظم من

استنشاق بعض تلك الرائحة التي تنبعث من البول.

ومن المستحسن أن يبيت الإنسان في فراش وحده لما تقدم بيانه، وأيضًا فإن

المبيت مع الزوجة في فراش واحد يحرك الشهوة؛ فيضطر الإنسان إلى الإسراف

في الجماع، وفي ذلك ضرر عظيم.

هذا ومن الناس من يقوم ويمشي في أثناء نومه، ويأتي بأعمال عديدة لا يقدر

أن يأتيها في اليقظة كالمشي على حائط مرتفع، وهذه الحالة قلما تحدث إلا

للمصابين ببعض الأمراض العصبية كالمرض المسمى بالهستيريا [1] ، ويسمى هذا

النوع من النوم (بالجولان النومي)(somnambulism) .

الأحلام وعلم الغيب:

الأحلام معروفة، والظاهر من الكتب المقدسة خصوصًا القرآن أن ما يراه

الإنسان في النوم قد يكون مطابقًا للواقع، أو لما سيقع كما يستفاد من سورة يوسف

مثلاً، وورد في حديث أن الأحلام ثلاثة:(1) هواجس النفس، و (2) وسوسة

الشيطان، و (3) الرؤيا الحق، وقال صلى الله عليه وسلم: (رؤيا الرجل

الصالح جزء من ست وأربعين جزءًا من النبوة) أي فهي تشبه أن تكون جزءًا من

الوحي.

وسبب الأحلام الفسيولوجي هو بقاء بعض خلايا المخ يقظة في أثناء النوم.

هذا واعلم أن الغيب حقيقي وإضافي، فالحقيقي هو ما ليس له وجود في

الكون مطلقًا، ولا يمكن الاستدلال عليه بشيء موجود، وهذا الغيب الحقيقي هو

الذي استأثر بعلمه الله تعالى فلا يعلمه أحد إلا بإعلام من الله، وليس كل ما غاب

عنك وهو موجود يعتبر غيبًا حقيقيًّا؛ فإن الإنسان خصوصًا في الأعصر الأخيرة

أمكنه العلم بأشياء غير واقعة تحت حواسه، ومن أمثلة ذلك تلغراف ماركوني [2]

(Marconi) أو التلغراف اللاسلكي، وهو مبني على نظرية شهيرة في العلم

الطبيعي، وهي أن هذا العالم مملوء بالأثير، ولولا وجود هذا الأثير ما أمكن الجسم

أن يؤثر في جسم آخر بعيد عنه، ففي هذا الأثير تحصل تموجات عديدة ينشأ منها

النور، والكهرباء، والأخرى تتأثر به مهما بعدت عنها فإن هذا التأثير الكهربائي

يسري في الأثير.

وكذلك عُرفت الآن أشياء تخترق حجب المادة الكثيفة، وتصل إلى باطنها

بواسطة الأثير أيضًا مثال ذلك أشعة الراديو وأشعة رونتجن Rontgen، وهو

عالم ألماني من مدينة ورزبرج wurrzburg اكتشفها في سنة 1895 م، وهي

عبارة عن أشعة لم يُعرف كُنْهها تنبعث من القطب السالب إذا مرت الكهرباء في

أنبوبة مفرغة، وهي لا تضيء فلا ترى؛ ولكنها تخترق كثيرًا من الأجسام؛

فترتسم صورها على حائل يوضع خلفها، وهذا الحائل مصنوع من لوح زجاجي

مغطى بمادة كيماوية هي بلاتينو - سينور- الباريوم Platino - of Barium أو

البوتاسيوم بدل الباريوم أو غيره، وفوقها غطاء من الورق يوضع عليه الجسم

المراد رؤيته، ومن خواص هذه المادة أنها تضيء إذا مرت فيها تلك الأشعة

المظلمة، فإذا وضعت اليد مثلاً أمام هذه الأنبوبة المفزعة خرجت الأشعة منها،

واخترقت اللحم والشحم وغيره؛ فيرتسم ظل العظم على الوجه الزجاجي للحائل؛

لأن العظم يقاوم مرور الأشعة فيه أكثر من غيره من الأنسجة الرخوة فيظهر مظلمًا،

ويمكن طبع الظل وحفظه بطريقة التصوير الفوتوغرافي حتى بدون واسطة

الحائل المذكور، ومثل هذه الأشعة في تأثيرها أشعة الراديوم، وهو عنصر اكتشف

حديثًا تنبعث منه أشعة متنوعة كالكهرباء، والحرارة، والنور، وأشعة تخترق

الحجب كاختراق أشعة رونتجن، ولجهل مكتشف هذه الأشعة الأخيرة بحقيقتها

سماها أشعة X، أو الأشعة المجهولة كما نقول في اللغة العربية لكمية الحساب

المجهولة في بعض المسائل الرياضية الكمية (س) .

إذا علم ذلك أمكننا الآن أن نشبه مخ الإنسان بآلة كهربائية تنبعث منها في

أثناء العمل تموجات مخصوصة كتموجات تلغراف مركوني، وهذه التموجات قد

تتلقاها مخاخ بعض الناس بعد أن تنفذ إلى باطن جماجمهم، ومن المعلوم في علم

الفسيولوجيا أن جميع أعمال الجسم الكبيرة والصغيرة ليست إلا حركات متنوعة في

ذراته وفي جواهره الفردة، ففي أثناء النوم إذا انقطع عن الإنسان ما يشغله مما

يوجد في هذا العالم، واستراح مخه كان حينئذ صالحًا لتلقي بعض تموجات أثيرية

مما ينشأ من حوادث هذا العالم، فرؤية شخص لشخص يمشي في مكان خطر أو

يسقط في البحر مثلاً قد تكون مطابقة للواقع ونفس الأمر، هذا في الأشياء الحاصلة

في العالم، وقد يستدل من بعضها المخ على البعض الآخر الذي لم يوجد فيخيل له

أنه واقع بالفعل فيراه، ولكن كل ذلك لا يدل على أنه علم الغيب بمقتضى التعريف

السابق.

أما حوادث العلم في المنام بالغيب الحقيقي فلا يمكن تعليلها بهذا التعليل السابق؛

وإنما هي من إلهام الله لبعض النفوس الصافية؛ فإن الغيب الحقيقي لا يعلمه إلا

الله كما نص على ذلك القرآن، وهو الذي يطلع من يشاء من عباده على ما يشاء

فلا يعلمه أحد من ذاته بل بإعلام الله، ومثل ذلك الوحي والنبوة (اقرأ آخر سورة

الجن) .

والأحلام منها ما يحدث بسبب وداعية، ومنها ما يحدث بغير سبب معروف،

والسبب إما أن يكون كثرة اشتغال العقل بشيء في اليقظة، وإما أن يكون شيئًا طرأ

على الإنسان في نومه، كأن توضع شمعة مشتعلة أمام عين النائم؛ فإنه ربما يحلم

بحريق، أو رعد، أو برق، أو نحو ذلك.

ويؤيد ما قلناه في الأحلام، وما تنبئ به من الغيب مسألة التنويم المغنطيسي.

التنويم المغنطيسي:

يحدث هذا التنويم لأنواع الحيوانات المختلفة إذا انحصر فكرها في شيء واحد

مخصوص، وأطاعت النفس شعورها بالميل لهذا النوع من النوم، فإذا حصر

الإنسان أو غيره فكره في جسم مضيء مثلاً حصل له هذا النوم، وكذلك يمكن

تنويم مثل الديكة والخيل وغيرهما، ويُنوم الديك برسم خط طويل أمام عينيه

ويوضع منقاره عليه، ويمسك برأسه في هذا الوضع مدة فإنه ينام نومًا مغنطيسيًا.

ويمكن أحيانًا تنويم الأطفال الرضع بإلقائهم على ظهورهم.

والنائم هذا النوم يمكن إيذاؤه بأشياء كثيرة، وهو لا يشعر بها حتى قد تعمل

له بعض العمليات الجراحية وهو لا يدري.

وهذا النوم له درجات ست (وقسمها بعضهم إلى ثلاث فقط) وآخرها من

أغرب ما يكون، فإن النائم يرى فيها البعيد كما يرى القريب، ويسمي الإفرنج تلك

الحالة (Clairvoyance) ومعناها الحرفي " الرؤيا الواضحة "، وفيها يشعر

الإنسان أيضًا بالأشياء، وإن كانت عيناه مغمضتين، بل يمكنه القراءة بأي جزء

من جسمه، فقد حدث في محاكم مصر بتاريخ 3 ديسمبر سنة 1913 أن نُومت فتاة

قبطية نومًا مغنطيسيًّا، فكانت تقرأ الساعة بمعدتها أمام القضاة، وكانت ترى من

خلفها، ورأت ما بيد أحد المحامين، وأعينها معصوبة ويد المحامي مقبوضة.

ومن فوائد هذا التنويم أنه قد يُستعمل لشفاء بعض الأمراض، فمثلاً إذا

أُصيب الإنسان بمرض جلد عميرة (الاستمناء باليد) حتى أنه لم يقدر على كبح

جماح نفسه، ونوّم، وأمر أن لا يأتيه؛ فإنه يُشفى من ذلك شفاء تامًّا، وكذلك من

تعود التدخين أو تعاطي الأفيون مثلاً.

وفي التنويم المغنطيسي يمكن للإنسان أن يخاطب غيره إذا كان نائمًا مثله

على بعد شاسع، ويسمى ذلك بالتلغراف الإنساني، أو انتقال الأفكار، وتسميه

الإفرنج (Telepathy) ومعناه الحرفي (الشعور على بُعْد) وهذا التأثير على

البعد قد يحصل حتى للأيقاظ، فإذا اتفق شخصان على التخاطب على بعد في وقت

ومكان معينين أمكن ذلك بالمزاولة، والرياضة الطويلة، وقد يؤثر الشخص في

شخص آخر بعيد عنه بدون اتفاق بينهما أيضًا؛ ولكن ذلك نادر جدًّا.

وهذه المسألة تفهمنا تأثير العين [3] الذي ورد فيه بعض الأحاديث النبوية

وتواترت روايات أمم العالمين على حصوله، وإن أنكره بعض المتأخرين، على

أن إنكار تأثير العين مطلقًا مكابرة، فمن ذا الذي ينكر تأثير نظرة الرضا، والحقد،

أو المحبة، والبغض في النفوس، وتأثير النظر إلى الجميل والقبيح، أو الفَرِح أو

الحزين، وإلى النشيط والكسلان المتثائب، إلى غير ذلك مما هو معروف، ولذلك

قال صلى الله عليه وسلم (العين حق) ، وأما ما زاد عن ذلك القدر من

الحديث، فإما أنه لم يثبت عنه عليه السلام، أو أنه يراد به تأكيد ما للعين من

التأثير في النفس، أو المبالغة فيه.

ومثل التأثير على البعد أيضًا بعض أنواع السحر كالنوع المسمى بمصر

(بالشبشبة) .

ومن النوادر التاريخية التي لا تبعد صحتها ما روي أن عمر رضي الله عنه

كان يخطب بالمدينة فصاح في أثناء خطبته (يا سارية الجبل، يا سارية الجبل،

من استرعى الذئب الغنم فقد ظلم) ثم عاد إلى الخطبة حتى قال فيه بعض

الصحابة: إنه جُنَّ، ولما سئل رضي الله عنه عن ذلك أجاب بأنه رأى جيوش

المسلمين تكاد تفتك بها الأعاجم على أبواب (نهاوند) فصاح بقائدهم - ولم يتمالك

نفسه - ليتحصن بالجبل، وبعد ذلك جاءت الأخبار بأن المسلمين كادوا ينهزمون،

لولا أن سارية القائد سمع مع بعضهم هاتفًا يرشدهم إلى الجبل، فدهش الناس لذلك،

وعلموا منه مقدار نفس عمر وكبر روحه، وهذه من أعظم مناقبه رضي الله عنه.

واعلم أن جميع هذه التأثيرات تصل بين النفوس بعضها ببعض بواسطة

الأثير - كما سبق- والظاهر أن جميع المخلوقات ليس فيها شيء آخر سوى المادة

الكثيفة أو اللطيفة، وهي التي تأتي بكل ما في هذا العالم من المشاهد العجيبة.

أما اعتقاد عامتنا، وبعض خاصة المليين بأن في الإنسان، أو في هذا العالم

شيئًا آخر مخلوقًا يغاير مادة الكون، فأرى أنه بعيد عن الصواب بعيد عن القرآن،

فإن هذا الكتاب الشريف لم يثبت وجود شيء ما يغاير مادة الكون سوى الله (2:

114) حتى أنه نص على أن بعض ما يسمونه بالأرواح كالجن مخلوق من مارج

النار، وهو من مادة هذا الكون [4] .

وإذا لاحظنا أنه نص على أن الله أمر الملائكة بالسجود لآدم، ثم استثنى

الشيطان أمكننا الاستدلال بذلك على أن الشيطان كان أحد الملائكة، وقد نص في

آية أخرى (18: 50) على أنه كان من الجن؛ فيستنتج من ذلك أن لفظ الجن

كان يُطلق على جميع ما استتر من هذه العوالم؛ فإن مادته تطلق على كل ما خفي

كالجنين مثلاً، ومما يؤيد كون الملائكة من الجن قوله تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ

الجِنَّةِ نَسَباً} (الصافات: 158)، وقوله تعالى:{وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الجِنّ} (الأنعام: 100) مع أن العرب أشركت بالله الملائكة، فلولا أن لفظ الجن يُطلق

عليهم أيضًا لما صح هذا التعبير في الآيتين السابقتين.

ولا ينافي ذلك نسبة الذرية للشيطان مع العلم بأن الملائكة لا توصف بالذكورة

ولا بالأنوثة (43: 19) فإن الذرية قد تكون بغير اجتماع الذكر بالأنثى، كما

سيأتي بيانه في علم الميكروبات.

نعم إن لفظ الجن إذا أطلق انصرف غالبًا إلى عالم مخصوص معروف في

الذهن غير الملائكة، كما في قوله تعالى عن لسان الملائكة: {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ

الجِنّ} (سبأ: 41) الآية.

أما مسألة استحضار الأرواح فكثير من العلماء إلى الآن يشكون فيها، وهي

إذا صحت لا تنافي ما ذهبنا إليه؛ الأرواح التي تستحضر لم تخرج عن كونها من

عالم الأثير باعتراف مستحضريها أنفسهم، حتى زعم بعضهم إمكان تصويرها

بالآلة الفوتوغرافية، بل حاولوا ذلك فعلاً، وقد رأيت بنفسي هذه الصورة في

بعض المجلات العلمية.

والأرواح التي تستحضر منها ما هو للبشر، ومنها ما هو من العوالم الأخرى

كالشياطين.

ومسألة استحضار الأرواح - إذا صحت أيضًا - كانت دليلاً على صحة ما

ورد في القرآن الشريف، وصحة الأخبار، والآثار عن الكهانة، فإن الكاهن

العربي، أو غيره كان يسعى في إحداث علاقة بينه وبين الشياطين فيخبرونه عن

بعض أشياء غيبية، أو يعملون له بعض الأعاجيب، كأن يحضروا له شيئًا بعيدًا

عنه.

ويؤيد ذلك أيضًا ما ورد في أسفار موسى صلى الله عليه وسلم كما في

سفر التثنية (11: 18) وكذلك القصة الواردة في سفر صموئيل الأول (28:11و

12) فكل هذه الأشياء تضافرت على القول بإمكان الاتصال بذاك العالم الأثيري،

وليس ثَمَّ مانع في العلم الحقيقي منه

واعلم أن الأثير هو مادة العالم الأصلية التي خلقت منها العناصر، والأكوان

وهي لا شك حادثة، كما سيأتي إثباته - إن شاء الله تعالى - في الجزء الثالث.

الرياضة البدنية:

من قوانين الكون أن العضو المستعمل ينمو ويحسن حاله، والعضو الذي

يُهمل يضمر شيئًا فشيئًا، حتى قد يزول من النسل بعد حين من الدهر، لذلك كانت

الرياضة البدنية من أوجب الواجبات لبقاء الجسم في الصحة والعافية، حتى أن

الأطفال يجدون أنفسهم مدفوعين بإلهام إلهي إلى كثرة اللعب، لما في ذلك من

الرياضة لأبدانهم.

وتأثير الرياضة أنها تسرع في دورة الدم فيقوى القلب والعروق، وتكثر تغذية

جميع الأعضاء، ويتم الاحتراق بها، وتذهب عنها الفضلات الضارة التي يكثر

إفرازها في البول، والعرق، وفي الهواء الخارج من الرئتين؛ ولذلك يحتاج

الإنسان إلى الإكثار من الطعام، والشراب، واستنشاق أكسجين الهواء، وتقوى

جميع عضلات الجسم، وتسمن، ويزول التشحم الذي قد يتراكم على القلب حتى

يضعفه بل قد يكون سببًا في الموت الفجائي بالسكتة القلبية.

وتمام الاحتراق الذي يحصل بالرياضة يمنع تراكم حامض البوليك في الدم،

وهذا الحامض هو الذي يسبب أعراض المرض المسمى بالنقرس، وقد يرسب في

بعض الأعضاء كالكُليتين؛ فيتكون فيهما حصيات ضارة جدًّا، وكثيرًا ما تؤدي إلى

الهلاك.

وبالجملة فإن الرياضة تقوي جميع أعضاء الجسم، وتُذْهِب عنها المواد

الضارة؛ فتصح، ويجب أن تكون الرياضة في الهواء النقي، وإلا لاستنشق

الإنسان ما يضره من العفونات.

ولا يصح أن تعمل في وقت الحر الشديد؛ فإن الحر كثيرًا ما يقتل الإنسان،

ولا يجوز أن يتعرض الإنسان بعد الرياضة وكثرة العرق للهواء؛ فإن ذلك من

أعظم الأسباب لإحداث التهاب الأعضاء، والنزلات المتنوعة، كذلك لا يجوز

شرب الماء البارد عقبها؛ فإن من الناس من مات بسبب ذلك لحصول سكتة قلبية له.

وإذا أحس الإنسان بتعب منها فالواجب أن لا يأكل بعد الراحة؛ فإن المعدة

تشترك مع الجسم في التعب، فإذا وُضِع فيها الطعام حينئذ؛ فإنها لا تقدر على

الهضم، وكثيرًا ما يحصل القيء بسبب ذلك، وإن لم يتقايأ الشخص نزل الطعام

الفاسد إلى الأمعاء؛ فأحدث فيها تهيجًا من آثاره المغص والإسهال.

ومن الخطأ الكبير الجماع أيضًا عقب الرياضة مباشرة؛ فإن ذلك يزيد في

إنهاك قوى الجسم، فالواجب أن يتبع الرياضة الراحة، أو النوم فإن ذلك نافع جدًّا

ولا يجوز عمل الرياضة الشاقة عقب الأكل مباشرة كما سبق بيانه.

والاعتدال في الرياضة ضروري جدًّا - كما في سائر الأشياء - ومدتها

للشبان الأصحاء نحو من ساعة في اليوم نصف في أوائل النهار، ونصف في آخره،

هذا إذا كانت بالمشي السريع، أما إذا كان المشي معتدلاً فتكون ساعتين ومن

الأمراض ما لا توافقه الرياضة كأمراض صمامات القلب.

وأنواع الرياضة عديدة منها المشي، ومنها العدو، ومنها السباحة وركوب

الخيل، وغير ذلك، ولا يتوهم أحد أن المشي لا يكفي، وكيف لا يكفي وبه تتحرك

جميع العضلات تقريبًا، ويسرع القلب والتنفس.

***

النبذة الرابعة

في علم الأنسجة أو التشريح الدقيق

الهستولوجيا Histology

الهستولوجيا كلمة يونانية، ومعناها (علم الأنسجة) وبعبارة أخرى علم

التشريح الدقيق للجسم، وقد سبق ذكر أشياء كثيرة منه في النبذة الثالثة

وهذا العلم لا يمكن دراسته إلا بالمجهر المسمى بالميكروسكوب، أي المنظار

الدقيق ليتيسر للإنسان الوقوف على جميع دقائق الجسم.

أما المجهر فهو مبني على الحقيقة الطبيعية الآتية، وهي أن الجسم إذا وضع

على بعد مخصوص من العدسة المحدبة تجمعت الأشعة المنبعثة منه، ورُسم كبيرًا

في الجهة الأخرى، وهذه الصورة الكبيرة تمكن رؤيتها بالعين المجردة، وقد تُرى

بعدسة أخرى؛ فتزداد كبرًا؛ لذلك كان الميكروسكوب عبارة عن أنبوبة معدنية في

طرفها عدسة محدبة، وكذلك في الطرف الآخر، إلا أن الغالب أن تكون العدسة

التي في الطرف الأول محدبة من الجانبين، وفي الطرف الثاني محدبة من الجهة

الداخلية فقط.

وتكون العدستان على أبعاد مخصوصة معروفة في علم الطبيعة، فإذا أُريد

رؤية أي جزء من أجزاء الجسم قُطِعَت منه طبقات رقيقة بآلة كالموسى، وتُوضَع

القطعة منها على لوح من الزجاج بعد أن تلون بألوان مخصوصة أو بدون تلوين.

ثم يُوضع هذا اللوح على حامل في المجهر له ثقب مستدير في وسطه،

وتحت هذا الثقب مرآة لعكس الأشعة لتنفذ خلال القطعة الرقيقة التي فوق اللوح

الزجاجي؛ فتكبر صورتها العدسة الأولى، ثم تكبر هذه الصورة العدسة الثانية

فيراها الإنسان كبيرة جدًّا.

وبهذه الآلة أمكن الوقوف على دقائق عالمي الحيوان والنبات، وبها اُكْتِشَفَتْ

الميكروبات، فلها الفضل الأكبر في علم الطب الحديث.

فإذا نُظِرَ بالمجهر إلى أجزاء الجسم المختلفة وُجد أنها تتركب من الأنسجة

الآتية:

(1)

إبيثيليوم (Epithelium) : وهذه كلمة يونانية معناها الغطاء؛ لأن

هذا المنسوج يغطي جميع أجزاء الجسم من الظاهر والباطن كما في الجلد، وفي

قناة الهضم، وغير ذلك.

(2)

المنسوج الضام: وهو الذي يربط أجزاء الجسم بعضها ببعض.

(3)

المنسوج العضلي: وهو الذي تحصل به الحركة، كما سبق.

(4)

المنسوج العصبي: وهو المخ والنخاع وسائر الأعصاب.

وكما أن جميع المنسوجات كالأقمشة مثلاً تتركب من أجزاء دقيقة جدًّا، وهي

الخيوط، كذلك هذه الأنسجة تتركب من خيوط تسمى الألياف، ومن كتل صغيرة

جدًّا تسمى الخلايا، وبينهما مواد تربط الواحد منهما بالآخر، وأصل جميع ما في

الجسم من الألياف وغيرها ناشئ من الخلايا، فالخلايا في الحقيقة هي عنصر

الأجسام الحية نباتية كانت أو حيوانية، إذ من الثابت أن الإنسان يتكون من بيضة

واحدة وهي في الحقيقة خلية حية.

ففي بعض أجزاء الجسم نجد أن هذه الخلايا منضودة صفوفًا بعضها فوق

بعض، ويتكون منها الإبيثيليوم المذكور، وفي الأجزاء الأخرى تمتط هذه الخلايا

فيتكون منها العضلات، أو الأعصاب، أو المنسوج الضام بتغيرات مختلفة تحصل

فيها، وقد يتكون في داخلها مواد دهنية؛ فينشأ من ذلك منسوج الشحم.

ومن الناس من يعتقد أن ألياف المنسوج الضام كانت خلايا فامتطت - كما قلنا-

ومنهم من يرى أنها إفرازات من الخلايا ترسب فيما بينها، كما ترسب بعض

الأملاح في السوائل، والقول بأنها رواسب هو الراجح الآن عند العلماء.

أما الخلية فهي الأصل لجميع الأحياء - كما سبق - وتتركب من البروتبلازم [5]

Protoplasm، وهو مادة يدخل في تركيبها جميع ما ذكرناه سابقًا من

العناصر التي في جسم الإنسان، فهي كإنسان صغير، ففيها الماء، والزلال،

والدهن، والمواد الكربوهيدراتية، وأملاح عديدة، وغير ذلك، ولها جميع خواص

الحياة، وهي التنفس، والتغذي، والإفراز، والحركة، وجميع هذه الأعمال يمكن

لكل جزء من أجزاء جسمها أن يقوم بها على حد سواء، فمثلاً التغذي يحصل بجميع

جسمها، وفي حركتها ترسل من أي جزء من جسمها أذنابًا تتحرك بها كالمجاديف

وكلما ارتقت الحيوانات تخصصت بعض هذه الخلايا بعمل مخصوص كما نرى في

الإنسان، فمثلا نرى أن الحركة في الإنسان خُصت بها أعضاء، وكذلك القول في

التغذية، إلا أن الخواص المذكورة للحياة تبقى لكل خلية، وإن لم تظهر فيها ظهورًا

بينًا، بمعنى أن بعض الوظائف قد يبقى كامنًا في الخلايا، وتظهر بعض الخواص

الأخرى ظهورًا بينًا كالإحساس مثلاً؛ فإن جميع الخلايا الحية تحس إلا أن

الإحساس في المجموع العصبي أظهر بكثير مما هو في المنسوج الضام مثلاً.

وأول الأحياء كانت قطعًا بروتوبلازمية مجردة من كل شيء آخر، وفي

الأحياء التي أرقى من ذلك يتكون في وسط الخلية بقعة قاتمة تسمى (النواة) ، وهي

تغاير في تركيبها بعض التغاير لمواد البروتوبلازم، ويصير لهذه النواة التأثير في

تغذية الخلايا، وفي انقسامها فلا يُبْتَدَأُ الانقسام في الخلية إلا إذا انقسمت نواتها،

وإذا فُصل جزء منها عن النواة أصابه الفساد، وفي وسط هذه النواة نواة صغرى

تسمى النُّوَيَّة.

ويتصلب الجزء الذي على سطح البروتوبلازم، حتى يصير كحائط للخلية.

والخلايا تتكاثر بالانقسام، وهذا الانقسام يبدأ بانقسام النواة، ثم ينقسم

البروتوبلازم؛ فتصير الخلية الواحدة خليتين، والخلايا التي لا نواة لها لا يكون

جزء منها مسيطرًا على الباقي.

ومن الخلايا ما ينقسم داخل الغشاء الكاذب المحيط بالخلية، ومنها ما ينقسم

مع نفس هذا الغشاء، فمثال الأول جنين الإنسان؛ فإن البويضة تنقسم بدون انقسام

الغلاف، ومثال الثاني الحيوان المسمى (الأميبا [6] ) ، وهو مركب من خلية واحدة

تنقسم كلها؛ فيصير الواحد اثنين، ثم أكثر فأكثر، وهو يوجد في بعض المياه

الآسنة.

والفرق بين أبسط النباتات، وأبسط الحيوانات هو عسر التحديد، إلا أنه

يمكن أن يقال فيه ما يأتي:

(1)

إن خلايا النباتات محاطة بطبقة من مادة السللولوز، وهي المادة

التي يتركب منها الخشب، وتشبه في تركيبها الكيماوي النشاء، ولكن من الحيوانات

ما فيه هذه المادة أيضًا.

(2)

في خلايا النباتات الراقية مادة خضراء تسمى (الكلوروفيل) ، وهي كلمة يونانية معناها (خضرة الورق) .

(3)

إن الخلايا النباتية تكوِّن - بواسطة الكلوروفيل مع تأثير أشعة الشمس -

من بعض العناصر البسيطة أجسامًا عجيبة التركيب مثل السكر الذي تُولِّده النباتات

من غاز ثاني أكسيد الفحم الموجود في الهواء، والنباتات تُولِّد أيضًا من

الأملاح النيتروجينية البسيطة- مثل نترات الصوديوم - مواد زلالية معقدة

التركيب، أما الحيوانات فلا يمكنها هذا العمل، وهي تعتمد في غذائها بالمواد

الزلالية، وغيرها كل الاعتماد على النباتات التي لولاها لهلكت جميع الحيوانات.

هذا وقد سبق أن الجسم الإنساني كله مُولَّد من البويضة بانقسام نواتها

وبروتوبلازمها كله، ومن الحيوانات كالدجاج مثلاً ما يتولد بانقسام النواة مع جزء

صغير مما يحيط بها من البروتوبلازم، وتتغذى بالباقي منه.

والإبثيليوم مركب - كما قلنا - من خلايا مرصوص بعضها بجانب بعض،

وقد يتكون منها عدة طبقات أو طبقة واحدة، كما في إبثيليوم البريتون، وفي الجلد

طبقات عديدة منه، وفي غشاء المثانة تكون الطبقات أقل من طبقات الجلد، وفي

بعض أعضاء الجسم يكون لخلايا الطبقة العليا منه أهداب تتحرك بنفسها، وهي

عبارة عن زوائد ممتدة من نفس البروتوبلازم - كما تقدم -

أما المنسوج الضام فيراد به أشياء كثيرة، منها أربطة المفاصل، وأوتار

العضلات، والعظام، والغضاريف، والشحم، ومن الناس من يعد الدم من

المنسوج الضام أيضًا، وأعظم ما يتميز به العظم عن غيره رسوب مواد جيرية في

المادة التي بين خلاياه.

وأما المنسوج العضلي - وهو اللحم - والمنسوج العصبي فقد سبق الكلام

عليهما فلا حاجة إلى التكرار، وتبارك الله الذي خلق الخلق في هذه الأطوار.

(انتهى الجزء الأول)

***

الجزء الثاني

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على سيدنا محمد نبي الرحمة، ومعلم

الحكمة، وعلى آله، وصحبه هداة الأمة (وبعد) فقد جعلت هذا الجزء الثاني من

محاضراتي خاصًّا بالكلام على الأحياء التسلقية من ميكروبات، وديدان، وغيرهما،

وما ينشأ عنها من الأمراض المعدية، وأعراضها، وعلاجها، وطرق اتقائها -

إلى غير ذلك من المباحث العالية الضرورية لحياة الأفراد والأمم.

ولما كانت لغتنا العربية في أشد الحاجة إلى مثل هذه المباحث الراقية التي

قتلها الإفرنج بحثًا وتمحيصًا - لم أقتصر في هذا الجزء على ما ألقي منها على

طلبة مدرستنا (دار الدعوة والإرشاد) بل توسعت فيها بما سيكون - إن شاء الله -

نافعًا حتى للخاصة، ونقلت إلى لغتنا الشريفة أهم ما كتبه الإفرنج في هذه المسائل

راجيًا بذلك خدمة اللغة والأمة بإرشادها إلى ما يجب اتباعه لاتقاء شر تلك الأمراض

التي تفني كثيرًا من الناس في كل يوم، وتضعف الأمم التي لم تلتفت إلى سنن الله

تعالى فيها، وأهملتها إهمالاً شنيعًا.

وقد جريت في هذا الجزء على طريقتي في الجزء الأول من التدقيق في

التعريب، واختيار أوضح العبارات، وأقربها إلى تناول جمهور القراء ليسهل على

كل مطلع على الكتاب فهم المراد منها، مراعيًا في كل ما أكتب نصوص الشريعة

الإسلامية الغراء، وأساليبها، ممحصًا لها، وموفقًا بين تلك النصوص، وبين

الحقائق العلمية، والله الهادي إلى أقوم طريق.

***

البكتيريولوجيا

Bacteriology

علم الأحياء الدقيقة الخفية

البكتيريولوجيا لفظ يوناني معناه علم البكتيريا، والبكتيريا معناها العِصِيّ

(جمع عصا) ويراد بها غالبًا الأحياء الدنيئة النباتية، التي أكثرها مركب من خلية

واحدة، وإنما سميت بذلك لكون شكل كثير منها مستقيمًا كالعصا، ولفظ ميكروب

معناه الحي الدقيق [7] ، والذي وضع هذا اللفظ شخص يسمى سيدللوت Sedillot

في سنة 1878م، ويطلق على جميع الأحياء الدنيئة سواء أكانت نباتية، أم

حيوانية، أم في المنطقة التي بينهما، وجمهور العلماء يطلقون لفظ (البكتيريولوجيا)

على علم الميكروبات كلها مع اختلاف أنواعها.

أما علم البكتيريولوجيا الحالي فمؤسسه الحقيقي هو العلامة لويس باستور

Pasteur Louis الفرنسي عاش بين سنة 1822و1895 واشتغل كثيرًا

بالبحث في داء الكلب، والهيضة (الكوليرا) فهذا العلم تأسس في القرن التاسع

عشر، وأما وما كتب فيه من قبل فلم يكن مما يعول عليه كثيرًا.

وممن نبغ فيه أيضًا الأستاذ روبرت كوخ الألماني Koch Robert وكان

من أعلم علماء عصره، واكتشف ميكروب الدرن، وبحث بحثًا دقيقًا في الهيضة،

والطاعون عاش بين سنة 1843 وسنة 1910 م.

وقد عُرِفَ الآن أن الميكروبات هي السبب في أكثر الأمراض، والذي هدى

الناس إلى العلم بهذه الأحياء هو المجهر (الميكروسكوب) ولكن اختراعه الذي

كان في سنة 1590 قد سبق علم البكتيريولوجيا ببضعة قرون، ولم يكن في ذلك

الوقت مرتقيًا إلى حيث يكشف لنا عن أكثر هذه الأحياء الدنيئة، وأقوى أنواعه الآن

ما يكبر الشيء 10000 ضعف.

كيفية دراسة الميكروبات:

لدراسة الميكروبات تُوضع على لوح من الزجاج، ثم تثبت بإحدى الطرق

المشهورة في هذا الفن، ثم تُلون بألوان مخصوصة لإظهارها جيدًا، وإن كان يمكن

رؤيتها حية بدون تلوين، وطريقة ذلك أن يُصنع لوح سميك من الزجاج به حفرة

صغيرة (تقعير) في وسطه، ثم يؤتى بلوح آخر رقيق جدًّا، وتُوضع نقطة من

السائل الذي فيه الميكروب على هذا اللوح، ثم تُغَطَّى الحفرة بهذا اللوح الرقيق،

بحيث تكون النقطة متجهة إلى الأسفل، أي تكون في تجويف الحفرة المغطاة باللوح

الرقيق، ويسمي علماء هذا الفن هذه الطريقة (بطريقة النقطة المعلقة) وفائدتها أن

تحفظ السائل من التبخر، وتوجد هواء محيطًا به لتنفس الميكروب وبهذه الطريقة

يمكن مراقبة نمو الميكروب وحركاته - إن كان متحركًا - وغير ذلك.

أما المادة الملونة، فهي تكون غالبًا مما يسمى بالأنيلين (aniline) وهي

كلمة برتغالية معناها النيلة، وتلك المادة من مستخرجات قطران الفحم الحجري

وسميت بذلك لأنها صنعت في أول الأمر من النيلة التي تستخرج من ورق شجرة

معروفة، وعيدانها، ومادة الأنيلين هذه بتأكسدها يُستخرج منها ألوان عديدة

كالأخضر والأصفر

إلخ.

تعريف الميكروبات:

أكثر ميكروبات الأمراض أحياء بين عالمي الحيوان، والنبات؛ ولكنها أميل

إلى النباتية منها إلى الحيوانية، وهي في الغالب مركبة من خلية واحدة لا نواة [8]

لها، ومحاطة بغلاف من السللولوز [9] ؛ ولكنها خالية من مادة الكلوروفيل مطلقًا؛

ولذلك اختلفت الميكروبات عن النباتات العالية، فلا يمكنها تحليل غاز ثاني أكسيد

الفحم الموجود في الهواء، فهي في ذلك تشبه المواد الفطرية المركبة من عدة خلايا

نباتية، وأيضًا بعض الميكروبات يمكنها أن تركب مواد أزوتية عضوية من مثل

النوشادر، وحامض النيتريك، وهي مواد غير عضوية، فأشبهت بذلك النبات

شبهًا عظيمًا، وغايرت الحيوان بذلك، وبغلافها السللولوزي، ومنها طائفة تأخذ

الأزوت الضروري لها من الهواء.

والمواد العضوية منسوبة إلى أعضاء النبات والحيوان؛ لأنها تتولد بواسطة

هذه الأعضاء، مثال ذلك غرقئ (زلال) البيض والسكر وغيره.

وأما المواد غير العضوية، فهي التي توجد في الكون بدون واسطة النبات،

أو الحيوان كملح الطعام.

فترى من هذا أن أهم مميزات النبات عن الحيوان أنه يمكنه توليد المواد

العضوية من المواد غير العضوية مباشرة، والحيوان لا يمكنه ذلك البتة، وهو في

غذائه مضطر إلى أكل النبات، ولتوضيح ذلك نقول: يوجد في الأرض أملاح

تسمى النيترات أي يوجد فيها النيتروجين (الأزوت) والأكسجين متحدين معًا

ومع معدن من المعادن كالبوتاسيوم مثلاً، فإذا صُب عليها الماء ذابت فيه؛ فيمتصها

النبات، ويتغذى بها، ويحولها إلى مواد زلالية؛ وبذلك يمكنها أن تعيش بالاستقلال

عن سائر الأحياء الأخرى، وفي الهواء آثار من مادة النوشادر، وهي مركبة من

النيتروجين، والهيدروجين، وسهلة الذوبان في الماء؛ فتذوب في ماء المطر،

وتسقط إلى الأرض؛ فيتغذى بها النبات أيضًا، ويولد منها مواد زلالية.

وأما الحيوان فإذا منعت عنه المواد الزلالية؛ فإنه يهلك بسرعة.

وعليه فأصل الوجود الحيواني متوقف على النباتات، وهي لا شك خُلقت قبله،

ولنرجع إلى ما كنا فيه:

أشكال الميكروبات:

للميكروبات أشكال عديدة أهمها:

(1)

الشكل الباسيلي: أي المستطيل، وكلمة باسيل (Bacillus) لاتينية

معناها العُصَيَّة (تصغير عصا) وذلك لأن ميكروبات هذا النوع تحاكي خطوطًا

مستطيلة صغيرة جدًّا، فإذا قيل باسيل الدرن فمعناه عصبات الدرن، أي ميكروبه

الذي شكله مستطيل.

(2)

البزور (cocci) : وميكروبات هذا الشكل كنقط صغيرة، وهذه

النقط قد يلتصق بعضها بجانب بعض؛ فيتكون منها خيوط تسمى البزور السلسلية

[Streptococci] ، وقد تجمع مثنى مثل ميكروب الالتهاب الرئوي، والروماتزم

والالتهاب السحائي الوبائي، والسيلان إلا أن هذا الأخير شكل بزوره كلوي (أي

كشكل الكلية) ، وقد تجتمع رباع، وقد تجتمع على أشكال غير منتظمة؛ فيتكون

منها ما يسمى بالبزور العنقودية (Staphylococci) .

والبزور المربعة توجد عادة في القيء الناشئ من تمدد المعدة، والبزور

الأخرى السلسلية، والعنقودية توجد في الالتهابات، والخراجات، ونحو ذلك،

وأشدها خطرًا البزور السلسلية؛ فإنها هي التي تُحْدِث المرض المعروف بالحُمْرَة

وهو من الأمراض المعدية الفتاكة، وتوجد أيضًا في بعض التهابات الرحم العفنة

عقب الولادة.

(3)

الشكل الحلزوني (spirilla) :وميكروبه يكون دقيقًا مستطيلاً ملتويًا

على نفسه كالثعبان، ومن هذا الشكل ميكروب الهيضة (الكوليرا) ، وهذا

الميكروب كثيرًا ما يُشاهد مقسمًا إلى قطع صغيرة كل قطعة منها تشبه الضمة، أو

الشولة؛ ولذلك يسمونه بالباسيل الضمي (Comma) ، فإذا اجتمع من هذا

الميكروب اثنان مثلاً؛ فقد يتكون منهما شكل يشبه حرف (s) .

ومن الشكل الحلزوني أيضًا ميكروب الزهري، وميكروب الحمى الراجعة.

والجمهور يعد الآن بعض الحلزونيات من نوع الحيوان لا من نوع النبات، وهو

الراجح.

وبعض الميكروبات لها أهداب (Flaglla) تتحرك بها فمثلا ًميكروب الحمى

التيفودية له أهداب عديدة تبلغ 8 أو 12، وطول كل منها نحو من ضعف طول

الميكروب نفسه، وهو يتحرك بهذه الأهداب حركة شديدة، ولضمة الكوليرا هدب

أو اثنان في طرف واحد منها، وكذلك الأشكال الأخرى قد يكون لبعضها أهداب.

ويقال: إن لميكروب الحمى الراجعة أربعة أهداب، اثنان في كل طرف، ولا

فرق بين طرف وطرف في هذه الميكروبات، بل يمكنها أن تسير بأي شاءت.

تربية الميكروبات:

والميكروبات يمكن تربيتها تربية صناعية، ويسمى ذلك في اصطلاح هذا

العلم (زرع الميكروب) أو إنباته لأنها نباتات كما قلنا.

ومن السوائل المستعملة في تربية الميكروب المرق، واللبن، والبول،

ومصل الدم.

وأما المياه الجيدة فقد شوهد أن الميكروبات لا تعيش فيها أكثر من 14 إلى

40 يومًا، وربما كان ذلك لقلة المواد المغذية لها فيها.

ويمكن تربيتها أيضًا على الجلاتين، وهو مادة تستخرج بغلي العظام،

والأنسجة الضامة كالأربطة وغيرها، وكلمة جلاتين إيطالية معناها الفالوذج،

ويمكن تسمية هذه المادة في لغتنا (بالودك) ، وهي مادة تشبه المواد الزلالية في

تركيبها، أي أنها تشتمل على النيتروجين.

ومن المواد الصلبة أيضًا التي تُرَبَّى عليها الميكروبات، ما يسمى (بالأجار

أجار) (Agar-agar) وهو صمغ يستخرج من نباتات بحرية تنبت في الشرق

كاليابان وجاوة، ومن هذه المواد أيضًا البطاطس، وغرقئ البيض المسلوق

(زلاله) .

والميكروبات المرضية تحتاج في نموها إلى حرارة مثل حرارة الإنسان تقريبًا

(أي نحو 35 - 39) ؛ ولذلك تُوضع في آلة مخصوصة تسمى آلة التفريخ

(Incubator) تكون الحرارة فيها مرتفعة إلى درجة مخصوصة.

ومن الميكروبات ما يحتاج لأكسجين خالص، أي غير متحد بشيء كما في

الهواء ليستنشقه، ومنها ما يضره الأكسجين الخالص ويمنع نموه.

وهذه المسألة من أغرب مسائل العلم الطبيعي؛ فإن الناس كانوا يظنون أن

الهواء ضروري لجميع الأحياء كضرورة الماء لها، وقد ظهر بطلان ذلك، ومن

آيات بيان القرآن للحقائق أنه قال: {وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} (الأنبياء:

30) ولم يقل في موضع ما منه إن الهواء ضروري للأحياء

ومن الميكروبات ما يعيش في الهواء، وفي غير الهواء، وهذا النوع هو

والنوع الذي يضره الأكسجين يمكن زرعه (تربيته) في الفراغ.

ومن أمثلة ما لا ينمو في الهواء باسيل التيتانوس، وهو مرض يحدث من

دخول هذا الميكروب في أي جرح في الجسم؛ فيصاب الجسم بالتشنج الذي يبتدئ

بتقلص عضلات العنق، وبانقباض الفكين حتى لا يمكن للإنسان أن يفتح فاه؛

ولذلك يسمى هذا المرض بالعربية الكُزاز، وميكروبه يعيش في الطين، والوحل،

والأتربة المختبئة في الأماكن المظلمة، وتعريض هذا الميكروب للهواء يضعفه

ويمنع نموه، أما ميكروب الدفتيريا مثلاً (التي منها الخناق) فإنه يعيش في

الأكسجين، وفي غيره.

تولد الميكروبات:

وأشهر طرائق توالد الميكروبات اثنتان:

الطريقة الأولى:

الانقسام: - وهي عامة في الجميع - فتنقسم كل خلية منها بالعرض [10] إلى

اثنتين والاثنتان إلى أربع، وهلم جرّا.

والطريقة الثانية: تكون بتولد حبيبة (Sqore) في داخل كل ميكروب،

وبعدها ينفلق الميكروب، وتبقى هذه الحبيبة قابلة للنمو مرة أخرى.

وهذه الطريقة تحصل في بعض الأشكال الباسيلية، وفي قليل من الحلزونية.

والحبيبات تقاوم درجة الغليان (100 سنتيجراد) لمدة تختلف من خمس إلى عشر

دقائق، وهي تقاوم المواد المطهرة كالسليماني، والفنيك مقاومة كبيرة؛ ولذلك يجب

أن تكون نسبة السليماني إلى الماء أكبر من النسب المعتادة لإبادة حبيبات تلك

الميكروبات، وكذلك يجب إبقاء الشيء المراد تطهيره في المحلول مدة طويلة.

وطريقة التوالد الأولى تكثر الميكروبات، والثانية تُبْقِي النوع فقط، ولا تكثره.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

مرض يصيب النساء كثيرًا، وكان القدماء يظنون أنه من آثار أمراض جهازهن التناسلي؛ فلذلك سموه بهذا الاسم المشتق من اسم الرحم باليونانية.

(2)

عالم إيطالي لا يزال حيًّا.

(3)

هذا التأثير قاصر على التأثير النفساني، أو العصبي فقط، والذي نعتقده أنه لا يُحْدِث مباشرة مرضًا جوهريًّا عضويًّا، فهو كتأثير وسوسة الشياطين.

(4)

المنار: مادة الكون مؤلفة من عناصر كثيرة ما أحاط البشر بها علمًا، ولما اكتشفوا من سنين قليلة الراديوم بدا لهم من العلم الجديد بها ما لم يكونوا يتصورون ولا يصدقون، فرجعوا به عن كثير مما كانوا يظنون، ولا يبعد أن يكون في غير هذه الأرض من عوالم الكون ما ليس فيها، ولم أر فائدة لحرص الكاتب على إثبات أن أرواح البشر، والملائكة، والجن من مادة الكون التي يعد منها الأثير الذي عرف بالعقل لا بالحس، ولم يقل أحد من علمائنا إن هذه الأشياء ليست من مادة الكون، وكيف يقولون ذلك، وهم مجمعون على أن الوجود: واجب أزلي، وهو خالق الكون، وممكن مخلوق، وهو الكون، وأكثرهم يُعَرِّف الملائكة بأنهم أجسام نورانية، فإذا كانوا يعبرون عنهم بالأجسام فهل يمكن أن يقولوا إنهم ليسوا من الكون؟ أما النسبة بين الملائكة والجن فهي العموم والخصوص

المطلق، فكل الملائكة من الجن، وليس كل الجن من الملائكة، وليس المراد بكونهم من الجن أن كل

ما يسمى جنًّا مخلوق من مادة واحدة، بل معناه أن كل ذلك من العوالم الخفية المجتنة، وأما القرآن فإنه يثبت أن العالم قسمان: عالم الغيب، وعالم الشهادة، والملائكة، والجنة، والجحيم من عالم الغيب الذي لا نعلم من أمره إلا ما عرفنا الوحي، وإنما نعرف بكسبنا شيئًا قليلاً من أحوال عالم الشهادة، فعلينا أن نجتهد لنزداد علمًا فيما ينفعنا منه، ونكتفي من أمر عالم الغيب بما صح خبر الوحي به، ولا نقيس ما نجهل كنهه، على ما لا نعلم إلا بعض الشيء عنه.

(5)

كلمة يونانية معناها المكون الأول لاعتقاد العلماء أنها أول مظهر من مظاهر الحياة في هذا العالم.

(6)

كلمة يونانية معناها المتغير لتغير شكله دائمًا، كما سبق في حاشية ص68.

(7)

المنار: اختار بعض كتاب العصر اسم الجراثيم للميكروبات، واستحسنا من قبل إطلاق اسم الجن أو الجنة عليها لخفائها.

(8)

يرى الآن بعض العلماء أنها ليست مجردة من النواة خلافًا لما كان قد ذهب إليه الجمهور.

(9)

كون هذا الغلاف من السللولوز فيه نظر، حتى أنكر ذلك الآن بعض العلماء.

(10)

هذا في الميكروبات النباتية، أما الحيوانية كميكروب الزهري، والحمى الراجعة فينقسم بالطول، وفي البيئة الصالحة قد يحدث انقسام الميكروبات مرة في كل عشرين أو ثلاثين دقيقة.

ص: 513

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أثارة من تاريخ العرب في الأندلس

تنبئ عن هدي الخليفة عبد الرحمن الناصر لدين الله،وجمعه بين الدين

والدنيا، ومكانة علماء الدين في عهده، وقبوله منهم الإغلاظ في وعظه، وعن

سيرة قضاة العدل وعلماء الآخرة الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم، ولا يخافون

في الحق صولة حاكم، على ورع يزينه ظرف ولطف ودعابة لا مهانة فيها ولا

سخف، يتمثل ذلك كله في ترجمة الوزير الفتح بن خاقان للقاضي البلوطي في كتابه مطمح الأنفس ومسرح التأنس في ملح أهل الأندلس. قال عفا الله عما

تكلف من إبداع، وما صنعه من أسجاع:

الفقيه القاضي أبو الحسن منذر بن سعيد البلوطي

رحمه الله تعالى

أية حركة في سكون، وبركة لم تكن معدة ولا تكون! ، وأية سفاهة في تحلم،

وجهامة ورع في طي تبسم، إذا جد تجرد، وإذا هزل نزل، وفي كلتا الحالتين

لم ينزل للورع عن مرقب، ولا اكتسب إثمًا، ولا احتقب، ولي قضاء الجماعة

بقرطبة أيام عبد الرحمن، وناهيك من عدل أظهر، ومن فضل اشتهر، ومن جور

قبض، ومن حق رفع، ومن باطل خفض، وكان مهيبًا طيبًا صارمًا غير جبان،

ولا عاجز، ولا مراقب لأحد من خلق الله في استخراج حق ورفع ظلم، واستمر

في القضاء إلى أن مات الناصر لدين الله، ثم ولي ابنه الحكم فأقره، وفي خلافته

توفي، بعد أن استعفى مرارًا فما أُعفي، فلم يُحفظ عليه مدة ولايته قضية جور،

ولا عدت عليه في حكومته زلة، وكان غزير العلم كثير الأدب، متكلمًا بالحق،

متبينًا بالصدق، له كتب مؤلفة في السنة والقرآن والورع، والرد على أهل الأهواء

والبدع، وكان خطيبًا بليغًا، وشاعرًا محسنًا، وُلِد سنة ثلاث وعشرين (ومائتين)

عند ولاية المنذر بن محمد، وتوفي يوم الخميس لليلتين بقيتا من ذي القعدة سنة

خمس وثلاثين وثلاثمائة.

(ومن شعره في الزهد)

كم تَصابى وقد علاك المشيب

وتعامى عمدًا وأنت اللبيب

كيف تلهو وقد أتاك نذير

أن يوم الحمام منك قريب

يا سفيهًا قد حان منه رحيل

بعد ذاك الرحيل يوم عصيب

إن للموت سكرة فارتقبها

لا يداويك إن أتتك طبيب

كم تراني [1] حتى تصير رهينًا

ثم تأتيك دعوة فتجيب

بأمور المعاد أنت عليم

فاعملن جاهدًا لها يا رتيب

وتذكر يومًا تحاسب فيه

إن من يذَّكر فسوف ينيب

ليس من ساعة من الدهر إلا

للمنايا عليك فيها رقيب

الخطابة في الاحتفالات الرسمية:

وذكر أن أول سببه في التعلق في الناصر لدين الله، ومعرفته به وزلفاه، أن

الناصر لما احتفل لدخول رسول ملك الروم، وصاحب القسطنطينية بقصر قرطبة

الاحتفال الذي اشتهر ذكره، وانبهر أمره، أحب أن تقوم الخطباء والشعراء بين

يديه تذكر جلالة مقعده، ووصف ما تهيأ له من توطد الخلافة، ورمي الملوك

بآمالها، وتقدم إلى الأمير الحكم ابنه بإعداد من يقوم لذلك من الخطباء، ويقدمه أمام

نشيد الشعراء [2] ، فتقدم الحكم إلى أبي علي البغدادي [3] ضيف الخلافة، وأمير

الكلام، وبحر اللغة أن يقام، فقام رحمه الله، وأثنى على الله، وصلى على النبي

صلى الله عليه وسلم ثم انقطع، وبهت فما وصل إلا قطع، ووقف ساكتًا

متفكرًا، وتشوف لا ناسيًا ولا متذكرًا.

ارتجال العلماء الخطابة حتى في السياسة:

فلما رأى ذلك منذر بن سعيد قام بذاته، بدرجة من مرقاته، فوصل افتتاح

أبي علي البغدادي بكلام عجيب، ونادى من الإحسان في ذلك المقام كل مجيب،

وقال: أما بعد فإن لكل حادثة مقامًا، ولكل مقام مقال، وليس بعد الحق إلا الضلال،

وإني قد قمت في مقام كريم، بين يدي ملك عظيم، فأصغوا لي بأسماعكم،

وأمنوا علي بأفئدتكم، معاشر الملأ! إن من الحق أن يقال للمحق صدقت، وللمبطل

كذبت، وإن الجليل تعالى في أسمائه، وتصدق بصفاته [4] أمر كليمه موسى صلى

الله على نبينا، وعليه، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين أن يذكر بنعم الله - عز

وجل - عندهم، وأنا أذكركم نعم الله تعالى عليكم، وتلافيه لكم، بخلافة أمير

المؤمنين التي آمنت سربكم، ورفعت خوفكم، وكنتم قليلاً فكثركم، ومستضعفين

فقواكم، ومستذلين فنصركم، ولاه الله رعايتكم، وأسند إليه إمامتكم، أيام ضربت

الفتنة سرادقها على الآفاق، وأحاطت بكم تشعل النفاق، حتى صرتم في مثل حدقة

البعير، مع ضيق الحال ونكد العيش والتغيير، فاستبدلتم بخلافته من الشدة بالرخاء

، وانتقلتم بيمن سياسته إلى كنف العافية بعد استيطان البلاء، ناشدتكم يا معشر الملأ

ألم تكن الدماء مسفوكة فحقنها، والسبل مخوفة فأمَّنها، والأموال منتهبة فأحرزها

وحصنها؟ ألم تكن البلاد خرابًا فعمرها، وثغور المسلمين مهتضمة فحماها

ونصرها؟ فاذكروا آلاء الله عليكم بخلافته، وتلافيه جمع كلمتكم بعد افتراقها

بإمامته، حتى أذهب عنكم غيظكم، وشفى صدوركم، وصرتم يدًا على عدوكم،

بطوية خالصة، وبصيرة ثابتة وافرة، فقد فتح الله عليكم أبواب البركات،

وتواترت عليكم أسباب الفتوحات، وصارت وفود الروم وافدة عليكم، وآمال

الأقصين والأدنين إليكم، يأتون من كل فج عميق، وبلد سحيق، ولا أحد يحيل

بينه وبينكم ليقضي الله أمرًا كان مفعولاً، ولن يخلف الله وعده، ولهذا الأمر ما بعده

، وتلك أسباب ظاهرة تدل على أمور باطنة، دليلها قائم، وغيبها عالم {وَعَدَ اللَّهُ

الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن

قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} (النور:

55) وليس في تصديق ما وعد الله عز وجل ارتياب، ولكل نبأ مستقر،

ولكل أجل كتاب، فاحمدوا الله أيها الناس على آلائه، وسلوه المزيد من نعمائه،

فقد أصبحتم بين خلافة أمير المؤمنين أيده الله تعالى بالعصمة والسداد، وألهمه

بخالص التوفيق سبيل الرشاد، فاستعينوا على صلاح أحوالكم، بالمناصحة لإمامكم،

والتزام الطاعة لخليفتكم، وابن عم نبيكم صلى الله عليه وسلم فإن من نزع

يده من طاعة، وسعى في فرقة الجماعة، وفر من الديانة، فقد خسر الدنيا والآخرة،

ألا ذلك هو الخسران المبين. وقد علمتم ما أحاط بكم في جزيرتكم هذه من

ضروب المشركين، وصنوف الملحدين، الساعين في شق عصاكم، وتفريق ملتكم،

وهتك حرمتكم، وتوهين دعوة نبيكم صلى الله عليه وسلم وعلى جميع

النبيين والمرسلين، أقول قولي هذا والحمد لله رب العالمين وأنشد يقول:

مقال كحد السيف وسط المحافل

فرقت به ما بين حق وباطل

بقلب ذكي ترتمي جنباته

كبارق رعد عند نقش الأناصل

فما دحضت رجلي ولا زل مقولي

ولا طار عقلي يوم تلك البلابل

بخير إمام كان أو هو كائن

لمقتبل أو في العصور الأوائل

وقد حدَّقت نحوي عيونٌ أخالها

كمثل سهام أثبتت في المقاتل

ترى الناس أفواجًا يؤمون داره

وكلهم ما بين راضٍ وآمل

وفود مليك الروم وسط فنائه

مخافة بأس أو رجاء لسائل

فعش سالمًا أقصى حياة معمر

فأنت غياث كل حافٍ وناعل

فقال العلج: هذا والله كبش الدولة، وخرج الناس يتحدثون عن حسن مقامه،

وثبات جنانه، وبلاغة لسانه.

خطبة ارتجالية قربت عالمًا من الخليفة:

وكان الخليفة الناصر لدين الله أشد تعجبًا منه، وأقبل على ابنه الحكم، ولم

يكن يثبت معرفة عينه، وقد سمع باسمه، فقال الحكم: هذا منذر بن سعيد البلوطي،

فقال والله لقد أحسن ما أنشأ [5] ، ولئن أبقاني الله تعالى لأرفعن من ذكره، فضع

يدك يا حاكم واستخلصه وذكرني بشأنه، فما للصنيعة مذهب عنه، فلما انتهى

الناصر إلى الجامع بالزهراء ولاه الصلاة فيها والخطبة، ثم توفي محمد بن عيسى

القاضي فولاه قضاء الجماعة بقرطبة وأقره على الصلاة بالزهراء.

جهر القاضي بإنكار إسراف الخليفة:

وكان الخليفة الناصر كَلِفًا بعمارة الأرض، وإقامة معاملها، وتكثير مياهها،

واستجلابها من أبعد بقاعها، وتخليد الآثار الدالة على قوة ملكه، وعزة سلطانه

وعلو همته، فأفضى به الإغراق في ذلك إلى ابتناء مدينة الزهراء الشائع ذكره،

الذائع خبره، المنتشر في الأرض أثره، واستفرغ وسعه في تنجيدها، وإتقان

قصورها، وزخرفة مصانعها؛ فانهمك في ذلك حتى عطل شهود الجمعة بالمسجد

الجامع الذي اتخذه، فأراد القاضي منذر بن سعيد رحمه الله وجه الله في أن يعظه،

ويُقَرِّعه في التأنيب، ويقص منه بما يتناوله من الموعظة بفصل الخطابة،

والتذكير بالإنابة.

فابتدأ أول خطبته بقوله تعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ

مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا

الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ

عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (الشعراء: 128-135) ووصل ذلك بكلام جزل، وقول

فصل، جاش به صدره، وقذف به على لسانه بحره، وأفضى في ذلك إلى ذم

المشيد والاستغراق في زخرفته، والسرف في الإنفاق عليه، فجرى في ذلك طلقًا،

وتلا في ذلك قوله تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم

مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ

الظَّالِمِينَ * لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَاّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ

حَكِيمٌ} (التوبة: 109-110) وأتى بما شاكل المعنى من التخويف للموت،

والتحذير منه، والدعاء إلى الله عز وجل في الزهد في هذه الدنيا الفانية،

والحض على اعتزالها، والتبيين لظاهر معانيها، والترغيب في الآخرة وباقيها،

والتقصير عن طلب الدنيا، ونهي النفس عن اتباع الشهوات، وتلا من القرآن

العظيم ما يوافقه، وجلب من الحديث والأثر ما يشاكله ويطابقه، حتى بكى الناس

وخشعوا، وضجوا وتضرعوا، وأعلنوا الدعاء إلى الله تعالى.

فعلم الخليفة أنه المقصود به، والمتعمد بسببه، فاستجدى وبكى، وندم على

ما سلف منه من فرطه، واستعاذ بالله من سخطه، واستعصمه برحمته: إلا أنه

وجد على منذر بن سعيد للفظه الذي قرعه به، فشكا ذلك إلى ولده الحكم بعد

انصرافه، وقال: والله لقد تعمدني منذر بخطبته، وأسرف في ترويعي، وأفرط

في تقريعي، ولم يحسن السياسة في وعظي وصيانتي عن توبيخه، ثم استشاط،

وأقسم أن لا يصلي خلفه الجمعة أبدًا، فقال له الحكم: وما الذي يمنعك عن عزل

منذر بن سعيد والاستبدال به؟ فزجره وانتهره، وقال: أمثل منذر بن سعيد في

فضله وورعه وعلمه وحلمه - لا أمّ لك - يُعْزَل في إرضاء نفس ناكبة عن الرشد،

سالكة غير القصد؟ هذا ما لا يكون، وإني لأستحيي من الله تعالى أن لا أجعل

بيني وبينه شفيعًا في صلاة الجمعة مثل منذر بن سعيد؛ ولكنه وقذ نفسي وكاد

يذهبها، والله لوددت أن أجد سبيلاً إلى كفارة يميني بملكي، بل يصلي بالناس

حياته وحياتنا فما أظننا نعتاض منه أبدًا.

وعذله قوم من إخوانه لتكنيته لرجل كان يسبه فقال:

لا تعجبوا من أنني كنيته

من بعد ما قد سبَّنا وهجانا

فالله قد كنى أبا لهب وما

كناه إلا خزية وهوانا

ومن قوله في الزهد:

ثلاث وستون قد حزتها

فماذا تؤمل أن تنتظر

وحل عليك نذير المشيب

فما ترعوي بل وما تزدجر

تمر لياليك مرًّا حثيثًا

وأنت على ما أرى مستمر

فلو كنت تعقل ما ينقضي

من العمر ما اعتضت خيرًا بشر

فما لك لا تستعد إذًا

لدار المقام ودار المقر

أترغب في فجأة المنون؟

وتعلم أن ليس منها وزر

فإما إلى جنة أزلفت

وإما إلى سقر يستعر

استسقاء القاضي بالناس مع الخليفة:

وقحط الناس في بعض السنين آخر مدة الناصر لدين الله أمير المؤمنين، فأمر

القاضي منذر بن سعيد بالبروز إلى الاستسقاء، فتأهب لذلك، وصام بين يديه ثلاثة

أيام تنفلاً، وإنابة، واستجداء، ورهبة، واجتمع الناس له في مصلى بقرطبة

بارزين إلى الله تعالى في جمع عظيم، وصعد الخليفة الناصر في أعلى مصانع

القصر المشرفة ليشرك الناس في الدعاء إلى الله تعالى والضراعة - فلما سرح

طرفه في ملاء الناس، وقد شخصوا إليه بأبصارهم قال:

يا أيها الناس - وكررها مشيرًا بيده في نواحيهم - ثم قال: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ

كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ

وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الأنعام: 54) ، {أَنتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ

الغَنِيُّ الحَمِيدُ * إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} (فاطر: 15-17) فضج الناس بالدعاء، وارتفعت الأصوات بالاستغفار،

والتضرع إلى الله تعالى بالسؤال والرغبة في إرسال الغيث، ووصل الحال [6] ،

ومضى على تمام خطبته، فأفزع النفوس بوعظه، وانبعث الإخلاص بتذكيره، فما

أتم خطبته حتى بللهم الغيث.

وذكروا أن الخليفة الناصر لدين الله جاء غداة ذلك اليوم، فحركه للخروج

وذكر له عزمه عليه، والسابقون متسابقون إلى المصلى، فقال للرسول - وكان من

خواص حلفاء الصفاء إليه-: ياليت شعري! ما الذي يصنعه الخليفة سيدنا؟ فقال

له: ما رأينا قط أخشع منه في يومنا هذا، فإنه لمنتبذ حائر، متفرد بنفسه لابس

أخشن الثياب، مفترش التراب، قد رمى به على رأسه وعلى لحيته، وبكى

واعترف بذنوبه وهو يقول: هذه ناصيتي بيدك، أتراك تعذب الرعية وأنت أحكم

الحاكمين لن يفوتك شيء مني؟ [7] قال: فتهلل وجه القاضي منذر بن سعيد عندما

سمع من قوله، وقال يا غلام! احمل الممطر [8] معك فقد أذن الله تعالى بالسقيا، إذا

خشع جبار الأرض فقد رحم جبار السماء، وكان كما قال فلم ننصرف إلا عن

السقيا.

استقلال القضاء وإيثار القاضي مصلحة اليتيم على رغبة الخليفة:

قال: وكان القاضي منذر بن سعيد من ذوي الصلابة في أحكامه، والمهابة

في أقضيته، وقوة القلب في القيام بالحق في جميع ما يجري على يديه، لا يهاب

في ذلك الأمير الأعظم فمن دونه، ومن مشهور ما جرى لفه في ذلك قصته

المشهورة في أيتام أخي نجدة، حدثني بها جماعة من أهل العلم والرواية، وهي أن

الخليفة الناصر لدين الله عبد الرحمن بن محمد احتاج إلى شراء دار بقرطبة لحظية

من نسائه تكرم عليه، فوقع استحسانه على دار كانت لأولاد زكريا أخي نجدة كانت

بقرب النشارين في الربض الشرقي منفصلة عن دور يتصل بها حمام العامة له غلة

واسعة، وكان أولاد زكريا أيتامًا في حجر القاضي، فأرسل الخليفة له من قيمتها

بعدد ما طابت به نفسه، وأرسل ناسًا وأمرهم بمداخلة وصي الأيتام في بيعها عليهم،

فذكر أنه لا يجوز إلا بأمر القاضي، إذ لم يجز بيع الأصل إلا عن رأيه ومشورته،

فأرسل الخليفة إلى القاضي منذر في بيع هذه الدار، فقال لرسوله: البيع على

الأيتام لا يصح إلا لوجوه، منها الحاجة ومنها الوهي الشديد [9] ، ومنها الغبطة10]

أما الحاجة فلا حاجة بهؤلاء الأيتام إلى البيع، وأما الوهي فليس فيها، وأما

الغبطة فهذا مكانها؛ فإن أعطاهم أمير المؤمنين فيها ما يستبين به الغبطة، أمرت

وصيهم بالبيع، وإلا فلا، فنقل جوابه هذا إلى الخليفة، فأظهر الزهد في شراء

الدار طمعًا أن تتراخى رغبته فيها، وخاف القاضي أن تنبعث منه عزيمة تلحق

الأولاد سورتها، فأمر وصي الأيتام بنقض الدار، وبيع أنقاضها ففعل ذلك، وباع

الأنقاض، وكانت لها قيمة بأكثر مما قُومت به للسلطان، فاتصل الخبر به فعز

عليه خرابها، وأمر بتوقيف الوصي على ما أحدثه فيها، فأحال الوصي على

القاضي أنه أمر بذلك، فأرسل عند ذلك للقاضي وقال له: أنت أمرت بنقض دار

أخي نجدة؟ فقال له: نعم، قال له: وما دعاك إلى ذلك؟ قال أخذت فيها بقول الله

تبارك وتعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي البَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا

وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} (الكهف: 79) فمقوّمك لم يقدرها إلا

بكذا؛ وبذلك تعلق وهمك، فقد نص في أنقاضها أكثر من ذلك [11] ، وبقيت الدار،

والحمَّام فضلاً، ونظر الله تعالى للأيتام، فصبر الخليفة على ما أتى من ذلك، وقال:

نحن أول من انقاد إلى الحق فجزاك الله تعالى عنا وعن أمانتك خيرًا.

الوقار والديانة، مع الظرف والدعابة:

قال: وكان على متانته وجزالته حسن الخلق كثير الدعابة، فربما ساء ظن

من لا يعرفه حتى إذا رام أن يصيب من دينه شعرة ثار عليه ثورة الأسد الضاري.

فمن ذلك ما حَدَّث به سعيد ابنه قال: قعدنا ليلة من ليالي شهر رمضان المعظم

مع أبينا للإفطار بداره البرانية، فإذا بسائل يقول: يا أهل هذه الدار الصالحين

أطعمونا من عشائكم أطعمكم الله تعالى من ثمار الجنة هذه الليلة، وأكثر من ذلك

فقال القاضي: إن استجيب لهذا السائل فيكم فليس يصبح منا واحد.

وحكى عنه قاسم بن أحمد الجهني أنه ركب يومًا لحيازة أرض محبسة في

ركب من وجوه الفقهاء وأهل العدالة، فيهم أبو إبراهيم اللؤلؤي، قال: فسِرنا نقفوه

وهو أمامنا، وأمامه يحملون خرائطه [12] وعلى ذويه السكينة والوقار، وكانت

القضاة حينئذ لا تراكب ولا تماشى [13] فعرض له في بعض الطريق كلاب مستوحمة،

وهي تلعق منها وتدور حوله، فوقف وصرف وجهه إلينا وقال: ترون يا

أصحابنا ما أبر الكلاب بالهن الذي تلعقه وتكرمه، ونحن لا نفعل ذلك! ! ثم لوى

عنان دابته وقد أضحكنا، وبقينا متعجبين من هزله.

وحضر عند الحكم المستنصر بالله يومًا في خلوة له في بستان الزهراء على

بركة ماء طافحة، وسط روضة نافحة، في يوم شديد الوهج، وذلك إثر منصرفه

من صلاة الجمعة فشكا إلى الخليفة من وهج الحر الجهد، وبث منه ما تجاوز الحد

فأمره بخلع ثيابه، والتخفف من جسمه، ففعل ولم يطفئ ذلك ما به، فقال له:

الصواب أن تنغمس في وسط الصهريج انغماسة يبرد بها جسمك، ولم يكن مع

الخليفة إلا الحاجب جعفر الخادم الصقلي أمينه، والحكم لا رابع لهم؛ فكأنه استحيا

من ذلك وانقبض عنه وقارًا، وأقصر عنه إقصارا، فأمر الخليفة حاجبه جعفرًا

بسبقه بالنزول في الصهريج، وكان يحسن السباحة، فجعل يجول يمينًا وشمالاً،

فلم يسع القاضي إلا إنفاذ أمر الخليفة، فقام وألقى بنفسه خلف جعفر، ولاذ بالقعود

في درج الصهريج، وتدرج فيه بعض تدريج، ولم ينبسط في السباحة، وجعفر

يمر مصعدًا ومصوبًا، فدسه الحكم على القاضي، وحمله على مساجلته في العوم -

فهو يعجزه في إخلاده إلى القعود، ويعاتبه بإلقاء الماء عليه، والإرشاد بالجذب إليه

وهو لا ينبعث معه، ولا يفارق موضعه، إلى أن كلمه الحكم، وقال له: ما لك لا

تساعد الحاجب في فعله وتقفز معه، وتتقيل صنعه، فمن أجلك نزل، وبسببك تبذل؟

فقال له: يا سيدي يا أمير المؤمنين الحاجب - سلمه الله - لا هوجل [14] معه،

وأنا بهذا الهوجل الذي معي يعلقني، ويمنعني من أن أجول معه مجاله، فاستفرغ

الحكم ضحكًا من نادرته، ولطيف تعريضه لجعفر، وخجل جعفر من قوله وسبه

سب الأشراف، وخرجا من الماء، وأمر لهما الخليفة بخلع ووصلهما بصلات سنية

تشاكل كل واحد منهما.

وذكر أن الخليفة الحكم قال له يومًا: لقد بلغني أنك لا تجتهد للأيتام، وأنك

تقدم لهم أوصياء سوء يأكلون أموالهم قال: نعم وإن أمكنهم ...... أمهاتهم لم يعفوا

عنهن؟ قال: وكيف تقدم مثل هؤلاء، قال: لست أجد غيرهم؛ ولكن أحلني على

اللؤلؤي، وأبي إبراهيم، ومثل هؤلاء فإن أبوا جبرتهم بالسوط والسجن ثم لا

تسمع إلا خيرًا.

إنكار القاضي على الخليفة، وإنصاف الناصر وقوة دينه:

ومن أخبار منذر بن سعيد المحفوظة مع الخليفة عبد الرحمن في إنكاره عليه

الإسراف في البناء - أن عبد الرحمن كان قد اتخذ إلى السطح العتبة الصغرى التي

كانت مائلة إلى الصرح الممرد المعروف بقصر الزهراء المشهور بأن له قرامد

ذهب، وفضة أنفق عليها مالاً جسيمًا، وجعل سقفها صفراء فاقعة، إلى بيضاء

ناصعة، تسلب الأبصار بمطارح أنوارها المشعشعة، وجعل فيها إثر إتمامها لأهل

مملكته مشهدًا، فقال لقرابته ومن حضره من الوزراء وأهل الخدمة مفتخرًا عليهم

بما صنعه من ذلك مع ما يتصل به من البدائع الفتانة: هل رأيتم قبلي أو سمعتم من

فعل مثل فعلي هذا أو قدر عليه؟ فقالوا: لا والله يا أمير المؤمنين، إنك لأوحد في

شأنك كله، ولا سبقك في مبتدعاتك هذه ملك رأيناه، ولا انتهى إلينا خبره، فأبهجه

قولهم.

وبينا هو كذلك سارٌّ ضاحك إذ دخل عليه القاضي منذر بن سعيد واجمًا ناكسًا

ذقنه، فلما أخذ محله قال له كالذي قال لوزرائه من ذكر السقف واقتداره على إبداعه،

فجرت دموع القاضي تنحدر على لحيته، وقال: والله يا أمير المؤمنين ما ظننت

أن الشيطان - أخزاه الله - يبلغ بك هذا المبلغ، ولا أن تُمَكِّنه من قيادك هذا

التمكين، مع ما آتاك الله، وفَضَّلَك على العالمين، حتى أنزلك منازل الكافرين! !

قال: فاقشعر عبد الرحمن من قوله، وقال: انظر ما تقول كيف أنزلني منازلهم؟

قال: نعم أليس الله تبارك وتعالى يقول {وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا

لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً

وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ} (الزخرف: 33-34) قال: فوجم الخليفة، ونكس رأسه

مليًّا، ودموعه تجري على لحيته خشوعًا لله تبارك، وندمًا إليه، ثم أقبل على منذر،

وقال له: جزاك الله تعالى يا قاضي خيرًا عنا، وعن المسلمين والدين، وكثَّر في

الناس أمثالك، فالذي قلت هو والله الحق وقام من مجلسه ذلك وهو يستغفر الله

تعالى، وأمر بنقض سقف القبة وأعاد قرامدها ترابًا. اهـ.

_________

(1)

كذا وربما كان الأصل " كم توانى ".

(2)

يُعْلَم من هذا أن عادتهم في الاحتفالات كعادة أهل هذا الزمان في الخطابة، وكان منظم هذا الاحتفال الحكم ولي عهد الخليفة.

(3)

فيه أن وحدة الأمة ما كانت تمنع في ذلك الزمن تقديم الغريب عن البلاد عن أمثاله من أهلها إذا كان أهلاً، وإن كان تابعًا لحكومة أخرى، ولا يكون مثل هذا في مصر الآن، لأن التعصب للبلاد أضعف وحدة الأمة.

(4)

لعل الأصل: وتقدس بصفاته.

(5)

لعل الأصل: أحسن ما شاء.

(6)

لعل الأصل: ووصل الكلام.

(7)

إنما لم يقل وأنت أرحم الراحمين مع كونه المناسب لمقام الاستسقاء، لأن مراده أتعذب الرعية بذنبي إذ أنا حاكمهم، وأنت الحاكم علي وعليهم، لو شئت أن تعاقبني على ذنوبي فيهم لفعلت، وإذ عاملتني بالرحمة والفضل فالرعية أولى بذلك، هذا مراده قطعًا.

(8)

الممطر: الثوب الذي يتقى به المطر.

(9)

الضعف كأن تكون الدار متداعية.

(10)

الغبطة تتحقق بما فيه مصلحة الأيتام، وهو الزيادة على ثمن المثل.

(11)

يريد أن الذي قوّم الدار للخليفة حاباه، وهو يتوهم أنه قوّمها بما تساوي، مع أن ثمن أنقاضها وحده قد زاد على ذلك، وهو يريد أكثر مما تساوي لمصلحة الأيتام.

(12)

لعل اصله: وأمامه خدمه إلخ، والخرائط: أوعية من الجلد، أو غيره لها عرى تشد، وتربط على ما يوضع فيه من المتاع، واحدها خريطة.

(13)

أي كانوا يتقدمون الناس فلا يركب ولا يمشي معهم أحد مساويًا لهم.

(14)

الهوجل: الأنجر الثقيل الذي ترسى به السفينة، وفي العبارة من حسن الاستعارة، ونزاهة التعريض ما ترى، هذا وقد خجل منه الحاجب، وغضب حتى أنه لم يملك لسانه أن سب القاضي والأشراف على مسمع من الخليفة! وناهيك بهذا برهانًا على نزاهة حاشية الخليفة، وبعدهم عن المجون والخلاعة، وعلى دقة ذلك الأعجمي الأصل في فهم اللغة العربية.

ص: 537

الكاتب: أحمد كمال

ال‌

‌مقارنة بين

اللغة المصرية القديمة واللغة العربية [*]

(4)

الكلمات المبدوءة بهذا الحرف، وهو نسر يقرأ ألفًا، أو كسرة، أو همزة، أو

واوًا، وهذا الأخير نادر.

أبَّ - أبًّا وأبابَةً وأبابًا: اشتاق إلى الشيء، قالوا:(أبَّ لُبِّي لمئك) أي

اشتاق قلبي إلى رؤيتك (قرطاس رند لوحة 12 سطر 22) ومنها

أبابة - قصد.

أبخَ - يقابلها في العربية عبق؛ لأن الخاء تنوب عن القاف والكاف،

فيقولون خَبٌّ، وكَبٌّ لكف اليد: عبق المكان بالطيب انتشرت رائحته فيه، فيقال

في المصرية (أبَخَ شمَّاماتها) أي عبق وانتشر كل ما يشم من الروائح الطيبة،

عبق به: لزق، وقالوا:(عبق المعبود منتو في حذتك) أي لحمك، و (عبقت

المشاة بالمشاة) أي التصقت والتحمت (عن حجر الملك يعنخي الزنجي) وعبق

بالمكان: أقام، نحو قولهم:(عبق الأرضان في عيشة الملك السليمة) أي بقي

القُطران وهما الوجه القبلي والبحري في عيشة راضية.

أبَخَ - يقابلها في العربية أبَقَ: هرب، قالوا:(تأْبَقُ مُطَوَّل الرِّتْوَة) أي تأبق

حال كونك مطولاً الخطوة في سيرك (عن نقوش الملك تيتي) .

آبدة - ج أوابد، وهي الطير المقيمة بأرض شتاها وصيفها، يكثر ذكرها في

النصوص المصرية، ولا سيما فيما كان على صفائح القبور، ومنه قولهم (آبدة

دئيصة) أي سمينة، و (آبدة مائية) والأثريون يصرفونها إلى جماعة الطير، إذ

وجد بجانبها رسم طيور متنوعة اتباعًا لقاعدة الخط عندهم؛ لأن كل اسم جنس

يرسم بعده بعض أنواعه للدلالة عليه، مثال ذلك كلمة حَمْس - وأصلها في

المصرية حمت؛ لأن التاء تنوب عن السين - واحدته خَمْسة اسم لدواب البحر،

فتراهم يرسمون بعده ثلاث سمكات متنوعة، كما أنهم يرسمون بعد كلمة " أعضاء "

بعض أجزاء الجسم، وبعد كلمة (كراع) - وهو السلاح في اللغتين - بعض أنواع

الأسلحة، وهلم جرّا.

آبي - قيل عنه في كتب اللغة العربية إنه اسم للأسد، وصوابه النمر؛

لوجود صورة هذا الحيوان مرسومة بعد الكلمة في النصوص المصرية.

أتا - عتا عتوًّا: استكبر وجاوز الحد.

أتَّ - وبالعربية أثَّ أثاثًا وأثوثًا وأثاثة: التفّ، وكثر، ويقال لها بالقبطية

أتا.

أتف - وبالعربية عطاف ج عُطُف وأعطفة: السيف (عن العدد 1377)

من الجزء الأول من كتاب الجغرافية) .

أجاب - وبالقبطية أجب - وجب وجوبًا: سقط ومات، وأصل الوجوب

السقوط والوقوع، والوجبة السقطة.

أجاب - إجابة وجاب جوابًا: رد الجواب (عن لوح قبر موجود في متحف

مدينة مِتّرنيخ) .

أجر - وأجراء وأجرية واحده جرو - وهو ولد الكلب.

إجَّانة - ج أجاجين هو مركن من خشب، ومنه قولهم (إجانة ماء تخمد اللوب)

أي الظمأ (عن قرطاس بريس اللوحة 1 والسطر 5) .

آخ أش - مقلوبة ومحرفة عن شيء بالعربية (عن قاموس بروكش الجزء

11 والصفحة 117 والجزء الخامس الصفحة 12) وفي الغالب يقولون: خ - أو

- ش بالإمالة بمعنى شيء.

آخَ - وفي العربية آق عليهم أوْقًا: أتاهم بالشؤم، فيقولون مَعَتْ (أي العدل)

يؤخ عليك لو مشى عن سأوه [1] والمعنى: لو حاد العدل عن وطنه لآق عليك، أي

لأتاك بالشؤم (عن شكاية الفلاح الصحيفة 92) .

أخط - وفي العربية خطا خطوًا واختطى (عن قرطاس في متحف فينا) .

أخط - ويقابله في العربية خطَّ خطًّا: رسم، وخط: كتب، ويقال بالمصرية

خَطَّ أيضًا، وهو الأكثر في آثارهم [2] .

أخُف - قفية: طعام، ومثلها كفية ج كفى.

أدأبهُ - لغة في أتابهُ: أغضبه (عن ورقة بريس اللوحة 6 والسطر

1) .

أدَّ - الرجل في الأرض أدًّا: ذهب وسار سيرًا شديدًا (عن رحلة

أسنوهيت الصحيفة 44) .

أذا - إيذاء: أضر (عن ورقة بريس اللوحة 6 والسطر 1) .

أرُ - ألُو: البعيدة المرعى، ويقال إنها عين واحد العِلّيين، وهو اسم لأعلى

الجنة، وفي المصرية تُكتب بالراء وباللام (عن نقوش هرم أناس السطر

588) .

أرجا - أرجاء جمع رجا، وهو الجانب والناحية، وبالقبطية أفريجو

(راجع قاموس بيّره الصحيفة 3 نقلاً عن كتاب بريس) .

أرض - ج أرضون وأروض وأراضٍ

أرّف - (وتكتب عند المصريين بالعين أيضًا؛ لأن الألف عندهم تنوب عن

العين) عَرّف يقال أرَّف الحبل أي عقده، ويقرب منها في العربية أرَّب العقدة:

شدها لأن الباء تنوب عن الفاء، ويقابلها في القبطية أَرْفٌ أرب (عن نقوش

منتوحُيتِب.

أراق - وريَّق: أسال وأهرق.

أسد - ويقابلها في العربية زأد - فهي مقلوبة وسينها زاي - زأدًا وزؤدًا:

أفزع (عن نقوش هرم أناس السطر 379)، ويقابلها في اللغتين شَئف وجأف:

خاف، هاد في الشيء هيدا أفزع وأكرب، وحذر: أرهب كلها ألفاظ عربية

ومصرية.

أسْ - هي مقلوب ساء سأوا: عدا، وسأي يسأي سأيًا: عدا في المشي

(عن نقوش هرم بيبي السطر 296) .

أسَّ - أسًّا: سلح (عن قرطاس برلين الطبي 19، 2) وسلَحَ أيضًا كلمة

مصرية وعربية كألفاظ أخرى بمعناها.

أَسِىٌّ -: خرثي الدار أي متاعه (عن نقوش إدفو) .

آشى - أوشى المكان: ظهر فيه وشيٌ من النبات.

أشى - وبالعربية عشا وعسى الليل: أظلم وأغشى يغشي: أظلم.

أصِبَ - وبالعربية عَصِبَ عصْبًا: احمرّ في النار (عن كتاب الموتى) .

أطاب - للضيف إطابة: قدم له طعامًا طيبًا (قاموس ليفي الجزء 8 ص12) .

إطلٌ - وإطالٌ. وأيطل: الخاصرة، الجنب، قال امرؤ القيس في وصف ناقته

لها أيطلا ظبي وساقا نعامة

أفا - مقصور، وبالعربية فاء فيئًا: أخذ الغنيمة، واغتنمها (عن جريدة

السيتشرفت لسنة 1872 ص25) .

أفت - أبت الشمس، وآفت لغة في غابت (عن قاموس بروكش الجزء 1 ص

7)

أف - أوفًا: أضر وأفسد.

أفيَه - كثير الأكل، وبالعربية فَيِّه وفُيَّهَةٌ، والفوه النهم الذي لا يشبع،

واستفاه الرجل اشتد أكله بعد قلة يستفيه في الطعام والشراب (راجع قرطاس بريس

اللوح 1ص8) .

أَقح - وبالعربية أوكح: حفر (عن قرطاس إيرس الطبي عدد 2) .

اكهى - حجر لا صدع فيه.

أقس - عكس، قُلبت عينه همزة، وفُخمت كافه فصارت قافًا، يقال بالعربية

عكس البعير إذا شد حبلاً في خطمه إلى رسغ يده لينزل وعكس الخيل أقذعها (عن تابوت سيتي المحفوظ بمتحف لندرة) .

أقّ - عجّ، يقال عجت المرأة صبيها عجًّا لغة في عجته عجوًا، أي أسقته

اللبن، ورسم بعد الكلمة امرأة تُرْضِع ابنها.

أكَنَّ - الشيء وكنه كنًّا وكنُونا وكننه: ستره في كنه وغطاه وأخفاه وصانه،

واكتنى: استتر (عن نقوش الملك بيبي الأول السطر 146) ومنها الكِنّ، وجمعه

أكنان وأكنة.

أكَّ -: ضاق صدره، ومنه قولهم (أك لبُّه وخسّ حُزَّه) أي ضاق صدره،

ونقص لحمه (عن ورقة بريس اللوحة 8 والسطر 12)

ألب - ولبَّ لبًّا أقام (عن ص43 من رحلة سنوهيت لماسبرو) .

ألَّقَ - وتألق: لمع، وفي المصرية تكتب بالراء أيضًا (عن جريدة مجموعة

أعمال العاديات جزء 5 صحيفة 94) .

ألكِةً - وبالقبطية أليكو، وبالعربية عُلَّيْقٌ عُلَّيقَى: نبت يتعلق بالشجر

(عن القرطاس الثاني السحري) .

ألَّ - ألَّة ألاًّ: طعنه بالألة أي الحربة، عن قرطاس أسوريس بمتحف فينا)

أمَأ- (بين القوم) : أفسد، مقلوب مأى مأيًا ومأوًا (واوي يائي بالعربية)

(عن رحلة سنوهيت السطر 1 من الصفحة 2 لماسبرو) .

أمرَّ - الشيء: شده بالمِرار، وهو الحبل، وبالقبطية مُوز.

أماه - ماه الشيء وأماهه: خلطه، كلمة تُذْكَر كثيرًا في قراطيس الطب

القديمة فيقولون: (يُنْخَز ويماه في المروخ) أي يصحن في الهاون [3] .

أمِي - عمي يعمى: ذهب بصره كله من عينيه، قلبت العين همزة.

أنأى - إناء أبعد (عن القرطاس السحري السطر 7 من ظهره) .

أنأى ونأى وانتأى - حفر أو عمل النؤيا أي الحفرة (عن نقوش مقبرة في

الكاب) .

أهَد - وفي العربية هود تهويدًا: رجع الصوت في لين، وغنّى (عن تتمة

قاموس ليفي ج2) .

أهَد - وفي العربية هدَّ البناء هدًّا وهدودًا هدمه: ويقال هدته المصيبة أي

أوهنت ركنه (عن كتاب نافيل في إبادة الجنس البشري بالشمس) .

أهط - وهط وفي العربية وَهط: الأرض المطمئنة التي تزرع (عن نقوش

معبد دندرة)

أهَّ - أهًّا وآهَةً: توجّع (عن نقوش دندرة وقرطاس بريس - السطر 1 من

اللوح 15) .

أوقم - وقم الرجل ووكمه: قهره وأذله، وحزنه أشد الحزن فهو موقوم،

ووكم له: اغتم وجزع (عن جريدة السيشر فت لسنة 1878 الصفحة 49) ومنه

قولهم (أقوال موكمة لاختلال سخت)[4]

آوى (المنزل أو إلى المنزل) وغيره أويًّا نزل به، ولجأ إليه، وتأوّى اجتمع عن

قرطاس برلين اللوح 15 / 16) .

إي حرف جواب بمعنى نعم (يقع قبل القَسَم في العربية) ويقابله في اللغة العامية

(إيوَ) .

أيَا - تأيّا (المتعدي بعلى) : انصرف في تُؤَدة (عن نقوش الملك مر نرع

السطر

748) .

أيِّل - وأيَّلٌ: الأيِّل (وبالقبطية إيول) ، وهو الحيوان المعروف الذي يشبه الوَعْل

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) مختارات من معجم أحمد كمال بك الأثري المصري للغة المصرية القديمة فيما وافقت فيه اللغة العربية بالنص، أو بضرب من القلب والإبدال، فالكلمة الأولى من هذه الكلم المرتبة على حروف المعجم هي المستعملة في النصوص المصرية القديمة مما هو عربي، فإن كان فيه قلب أو إبدال يذكر بعده الأصل العربي، وما بعد النقطتين هكذا: تفسير لما قبلهما.

(1)

المنار: في هذه الجملة المصرية ثلاث كلمات عربية، وهي يؤخ المحرف عن يؤق ومشى والسأو وهو الوطن.

(2)

علم من هذه الأمثلة، ومما سيأتي أن معتل العين أو اللام، وكذا الفاء، أو المضاعف بالعربية يقلب حرف العلة، أو المضاعفة فيه بالمصرية همزة، وينقل إلى الفاء إنْ لم يكن هو الفاء.

(3)

نحز الشيء دقه بالمنحاز، وهو الهاون، والمروخ (كصبور) ما يمرخ به البدن من دهن وغيره.

(4)

سخت معبودة من معبوداتهم.

ص: 548

الكاتب: القاسمي

الخطب الدينية

اشتغالنا بانتقادها وإصلاحها:

قد كان مما وفقنا الله تعالى له في أثناء الاشتغال بطلب العلم انتقاد خطباء

المساجد، ودواوينهم التي يحفظون خطبها، ويقرءونها على المنابر غيبًا، أو في

الأوراق المخطوطة أو المطبوعة؛ فإن كل هذه الخطب أو جلها في ذم الدنيا،

والتزهيد فيها، والتذكير بالموت، ومدح الشهور والمواسم حتى المبتدعة منها،

وأكثر ما فيها من الأحاديث ضعيف أو موضوع، وقد عقدت في كتاب (الحكمة

الشرعية) الذي ألفته في ذلك العهد فصلاً طويلاً في الخطابة، بينت فيه حكمتها،

ومنفعتها، وكيفية تحصيل ملكة الارتجال فيها، وما ينبغي أن تشتمل عليه الخطب

الدينية في المساجد، وأنشأت عدة خطب خرجت فيها من المضيق الذي حبس

خطباؤنا فيه أنفسهم، واخترت لأحد الخطباء أحاديث صحيحة وحسنة لديوان أنشأه

عزوتها إلى مخرجيها، فكان أول خطيب سمعناه في بلادنا يلتزم الأحاديث

الصحيحة والحسنة في خطبه معزوة إلى مخرجيها، على أن التزام الأحاديث في

آخر الخطبة غير واجب ولا مسنون، بل هو عادة ينبغي تركها أحيانًا لئلا يظن أنها

مشروعة فيكون الالتزام من البدع التي سماها صاحب الاعتصام البدع الإضافية.

ثم إننا بعد إنشاء المنار نوهنا فيه بهذه المسألة مرارًا، واتفق لنا أن خطبنا في

بعض المساجد خطبًا مرتجلة، مناسبة لحال عصرنا، موافقة لما كان عليه سلفنا

الصالح، فكان هذا وذلك باعثًا لكثير من محبي الإصلاح على مطالبتنا بإنشاء

خطب إصلاحية تُنْشَر في المنار، عسى أن يقتبسها، أو يقتبس منها الخطباء، فلم

نجبهم إلى ذلك؛ لاعتقادنا أن الغرض منه لا يتم إلا إذا جاء من جانب السلطة

الرسمية.

مثال ذلك أننا أنشأنا خطبة في الاقتصاد في المال، وقضاء الدين اقترحها

علينا الشيخ علي يوسف، وأخذها منا، ثم علمنا أنها نُشِرَت في القطر بأمر

الحكومة بعد استحسان شيخ الأزهر، وإجازته.

وكنا قد مهدنا السبيل إلى مثل ذلك في ديوان الأوقاف؛ ولكن علمنا أنه لا ينفذ

إلا إذا اقتنع به الأمير، وأحب تنفيذه، فكنا ننتظر الفرصة لعرض ذلك عليه،

وإقناعه به ولم تسنح لنا، ثم شرعنا فيما هو خير من ذلك إصلاحًا، وهو مدرسة

الدعوة والإرشاد التي يتربى فيها الخطباء المرتجلون، ولا نزال نعاني في هذه

السبيل من تمهيد العقبات، ومكافحة الحساد، وأعداء الإصلاح، ما نرجو أن

ينتصر فيه الحق على الباطل، والإخلاص على النفاق.

***

ديوان خطب المصلح القاسمي

اطلعنا في هذه الأيام على ديوان خطب عالم الشام صديقنا المرحوم الشيخ

جمال الدين القاسمي تغمده الله برحمته، وكان أُهْدِيَ إلينا مطبوعًا منذ أعوام، فلم

يتح لنا التأمل فيه، فرأيناه أفضل ما نُشِر من دواوين الخطب، بخلوه من البدع

والخرافات، ومن الأحاديث الواهية والموضوعات، واشتماله على الموعظة

الحسنة التي يحتاج الناس إليها في جميع الأوقات، ولو كان للخطابة والتأليف حرية

في بلاد الشام أيام إنشائه رحمه الله تعالى لتلك الخطب لَأودعها كثيرًا من المسائل

الاجتماعية والأدبية التي اشتدت الحاجة إليها في هذا العصر، وقد رأينا أن نقتبس

بعض مقدمات هذا الديوان النفيس وخطبه فيما يلي فهاكها بنصها:

المقدمة الأولى في الهدي النبوي في الخطبة:

قال الإمام ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد في هدي خير العباد في هديه

صلى الله عليه وسلم في خطبه: كان صلوات الله عليه إذا خطب احمرت عيناه،

وعلا صوته، واشتد غضبه؛ حتى كأنه منذر جيش، وكان يقصر الخطبة،

ويطيل الصلاة، ويكثر ويقصد الكلمات الجوامع، وكان يعلم أصحابه - في خطبته-

قواعد الإسلام وشرائعه، ويأمرهم وينهاهم في خطبته إذا عرض له أمر أو نهي،

وكان يأمرهم بمقتضى الحال في خطبته، فإذا رأى منهم ذا فاقة وحاجة أمرهم

بالصدقة، وحضهم عليها، وكان يمهل يوم الجمعة حتى يجتمع الناس، فإذا

اجتمعوا خرج إليهم، فإذا دخل المسجد سلم عليهم، فإذا صعد المنبر استقبل الناس

بوجهه وسلم عليهم، ثم يجلس ويأخذ بلال رضي الله عنه في الأذان، فإن فرغ منه

قام النبي صلى الله عليه وسلم فخطب، وكان في الجمعة يعتمد على عصا أو

قوس، وكان منبره صلوات الله عليه ثلاث درجات، وكان يأمر الناس بالدنو منه،

ويأمرهم بالإنصات، وكان صلى الله عليه وسلم إذا صلى الجمعة دخل إلى منزله

فصلى ركعتين، وفي رواية كان إذا صلى في المسجد صلى أربعًا، وإن صلى في

بيته صلى ركعتين. انتهى ملخصًا.

الثانية في سنن الخطبة:

قال الإمام النووي في الروضة في سنن الخطبة: منها أن تكون على منبر،

والسنة أن يكون المنبر على يمين الموضع الذي يصلي فيه الإمام، ويكره المنبر

الكبير الذي يضيق على المصلين إذا لم يكن المسجد متسع الخِطة، فإن لم يكن منبر

خطب على موضع مرتفع، ومنها أن يُسَلِّم على من عند المنبر إذا انتهى إليه،

ومنها إذا بلغ في صعوده الدرجة التي تلي موضع القعود أقبل على الناس بوجهه،

وسَلَّم عليهم، ومنها أن يجلس بعد السلام، ومنها أنه إذا جلس اشتغل المؤذن

بالأذان، ويديم الجلوس إلى فراغ المؤذن، ومنها أن تكون الخطبة بليغة غير مؤلفة

من الكلمات المبتذلة، ولا من الكلمات الوحشية، بل قريبة من الإفهام، ومنها أن لا

يطولها، ولا يمحقها، بل تكون متوسطة، ومنها أن يستدبر القبلة، ويستقبل الناس

في خطبتيه، ولا يلتفت يمينًا، ولا شمالاً، ومنها أنه يُستحب أن يكون جلوسه بين

الخطبتين قد سورة الإخلاص، ومنها أن يعتمد على عصا أو نحوه، ومنها أنه

ينبغي للقوم أن يقبلوا على الخطيب مستمعين لا يشتغلون بشيء آخر، حتى يكره

الشرب للتلذذ، ولا بأس به للعطش لا للخطيب، ولا للقوم ومنها أن يأخذ في

النزول بعد الفراغ، ويأخذ المؤذن في الإقامة، ويبتدر ليبلغ المحراب مع فراغ

المقيم. اهـ.

الثالثة فيما يكره في الخطبة وفروع أخرى:

قال الإمام النووي رحمه الله في الروضة، يُكْرَه في الخطبة أمور

ابتدعها الجهلة، منها التفاتهم في الخطبة الثانية، والدق على درج المنبر في

صعوده، والدعاء إذا انتهى صعوده قبل أن يجلس، ومنها مبالغتهم في الإسراع في

الخطبة الثانية، ويستحب إذا كان المنبر واسعًا أن يقوم على يمينه، ويُكْرَه للخطيب

أن يشير بيده، ويُسْتَحب أن يختم الخطبة بقوله: أستغفر الله لي ولكم، وذكر

بعضهم أن يستحب للخطيب إذا وصل المنبر أن يصلي تحية المسجد، ثم يصعد،

وهو قول غريب وشاذ مردود، فإنه خلاف ظاهر المنقول عن فعل رسول الله -

صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدين فمن بعدهم، ولو أغمي على الخطيب

فهل يبني غيره على خطبته، أو يستأنفها؟ قولان. اهـ. ملخصًا.

ويُكْرَه أن يتخطى المصلي رقاب الناس لما فيه من سوء الأدب، والأذى،

ويحرم الكلام في الخطبتين والإمام يخطب، وله الصلاة على النبي - صلى الله

عليه وسلم - إذا سمعها، ويسن سرًّا، ويجوز تأمينه على الدعاء، ورفع الصوت

قدام بعض الخطباء مكروه اتفاقًا كذا في الإقناع [1] .

الرابعة (حكم تعدد الجمعة) :

الحاجة في هذه البلاد في هذه الأوقات تدعو إلى أكثر من جمعة، إذ ليس

للناس جامع واحد يسعهم، ولا يمكنهم جمعة واحدة أصلاً، إلا أن خروجها إلى حد

أن لا فرق بينها وبين بقية الصلوات في كثير من المساجد الصغيرة التي لم تشيد

لمثلها قد هوَّل فيه السبكي في فتاويه؛ لأنه مما تأباه مشروعيتها وما مضى عليه

عمل القرون الثلاثة، بل وتسميتها جمعة؛ فإن صيغة فُعُلة في اللغة للمبالغة،

وبالجملة فالجوامع الكبار التي تؤمها الأفواج يوم الجمعة، ويحتاج لإقامتها فيها

حاجة بينة لمجاوريها، هي التي لا خلاف في جوازها مهما تعددت، والتي لا تعاد

الظهر بعدها، كما أشار له العلامة البجيرمي رحمه الله تعالى، وقد بسطناه في

كتابنا (إصلاح المساجد من البدع والعوائد)

الخامسة: ما يُسن يوم الجُمُعة:

يسن تنظيف يوم الجمعة، وتطيب ولبس أحسن الثياب، وإكثار الصلاة على

النبي صلى الله عليه وسلم ليذكر الرحمة ببعثته، والفضل بهدايته، والمِنَّة

باقتفاء هديه وسنته، والصلاح الأعظم برسالته، والجهاد للحق بسيرته، ومكارم

الأخلاق بحكمته، وسعادة الدارين بدعوته، صلى الله عليه وعلى آله ما ذاق عارف

سر شريعته، وأشرق ضياء الحق على بصيرته، فسعد في دنياه وآخرته. آمين.

***

طلائع الخطب النبوية

(1)

إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات

أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضْلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا

الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله رواه الإمام أحمد، ومسلم، عن

ابن عباس.

(2)

الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونستهديه ونستنصره، ونعوذ بالله من شرور

أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له،

وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، من يطع الله ورسوله فقد

رشد، ومن يعصْ الله ورسوله فقد غوى، حتى يفيء إلى أمر الله رواه الشافعي،

والبيهقي، عن ابن عباس.

(3)

إن الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهد الله

فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا

عبده ورسوله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ

كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (النساء: 1) ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا

تَمُوتُنَّ إِلَاّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (آل عمران: 102) ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ

وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ

فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} (الأحزاب: 70-71) رواه الإمام أحمد، والترمذي عن ابن

مسعود.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

المنار: لأهل هذا العصر بدع ومنكرات أخرى كثيرة قبل الخطبة، وبعدها، وفي أثنائها، بعضها من البدع الحقيقية، وبعضها من الإضافية، فمنها التزام ذكر الخطباء الملوك والسلاطين في الخطبة الثانية بالتعظيم، ورفع المؤذنين أصواتهم بالدعاء لهم، وإطالتهم في ذلك، والخطيب مسترسل في خطبته، وفي ذلك منكرات مبتدعة، ومنها أن بعض الحاضرين يقومون في أثناء الخطبة الثانية فيصلون، ومنها الدعاء برفع الأيدي بين الخطبتين، والاستمرار على ذلك بعد شروع الخطيب في الخطبة الثانية، ومنها صياح بعضهم في أثناء الخطبة باسم الله، أو أسماء بعض الصالحين، ومنها المصافحة عقب السلام من الصلاة إلى غير ذلك.

ص: 555

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌السيد محمد شفيع آل رضا

في ضحوة يوم الإثنين أول أيام العَشْر الأخيرة من شهر رمضان المبارك سنة

1333 هجرية قمرية، وأواخر العشر الأول من شهر الصيف الأول (الدرجة

التاسعة من برج الأسد) سنة 1292 هجرية شمسية، الموافق لليوم الثاني من شهر

(تموز) 1915 مسيحية، وهب الله تعالى لصاحب هذه المجلة غلامًا سويًّا أطلق

عليه اسم (محمد شفيع) .

ولد محمد شفيع تام البنية، ممتلئ الجسم، أبيض اللون مشوبًا بصفرة كما هي

العادة، أحمر الشعر، أسود العينين إلى زرقة، بارز الجبهة، طويل الغُرة، رافعًا

إصبعه السبابة، ولم يلبث أن رضعها، ولم ينقض الأسبوع الأول إلا وقد تبدلت

الصفرة حمرة؛ فصار أزهر اللون.

فالله أسأل أن ينبته نباتًا حسنًا، ويوفقنا لتربيته تربية صالحة، ويجعله قرة

عين لوالديه، وآل بيته وأمته، ويستجيب لنا به وبغيره، ما دعوناه وندعو به من

أدعية كتابه {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} (الفرقان: 74)

_________

ص: 560

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌حال المسلمين مع غيرهم في العصر الأول

إن حالة الأمم الاجتماعية والسياسية، والأدبية لها شأن كبير في تطبيق

الأحكام على الوقائع، وهو ما يسميه علماء الأصول " تحقيق المناط "، ومن عرف

التاريخ، وفَقِهَ قواعد علم الاجتماع منه؛ فإنه هو الذي يفقه سبب إعراض الفقهاء

والحكام عن قبول شهادة غير المسلمين عليهم، وأحق ما يجب فقهه من تلك القواعد

أربع ينبغي التأمل فيها بعين العقل والإنصاف.

(أحدها) ما كان عليه المسلمون في القرون الأولى للإسلام من الاستمساك

بعروة الحق، وإقامة ميزان العدل، وعدم المحاباة والتفرقة في ذلك بين مؤمن

وكافر، وقريب وبعيد، وصديق وعدو.

(ثانيها) ما كانت عليه جميع الأمم التي فتحوا بلادها، وأقاموا شريعتهم

فيها، من ضعف وازع الدين، وفساد الأخلاق والآداب، وقد قرر ذلك مؤرخو

الإفرنج، وغيرهم، وجعلوه أول الأسباب الاجتماعية لسرعة الفتح الإسلامي في

الخافقين.

(ثالثها) ما جرى عليه الفاتحون من المسلمين من المبالغة في التوسعة على

أهل ذمتهم في الاستقلال الديني والمدني، إذ كانوا يسمحون لهم بأن يتحاكموا إلى

رؤسائهم في الأمور الشخصية وغيرها - فكان من المعقول مع هذا أن لا يشهدوهم

على قضايا أنفسهم الخاصة، وأن يمنعهم نظرهم إلى ما بينهما من التفاوت في

الأحوال الدينية، والأدبية التي أشرنا إليها آنفًا من قبول شهادتهم على أنفسهم، مع

عدم ثقتهم بتدينهم وعدالتهم.

(رابعها) تأثير عزة السلطان، وعهد الفتح الذي كانت الأحكام فيه أشبه بما

يسمونه الآن بالأحكام العسكرية، واعتبر ذلك بأحكام دول الإفرنج في أيام الحرب،

بل في المستعمرات التي طال عليها عهد الفتح، أو ما يشبه الفتح يتبين لك أن أشد

أحكام فقهاء المسلمين وحكامهم على غيرهم هي أقرب إلى العدل والرحمة من أحكام

أرقى أمم المدنية من دونهم.

وقد عُلم من حال البشر أن الغالب قلما يرى شيئًا من فضائل المغلوب، وإن

كثرت، فكيف يرجى أن يرى قليلها الضئيل الخفي؟ والجماعات الكبيرة والصغيرة

كالأفراد في نظر كل إلى نفسه، وإلى أبناء جنسه بعين الرضا، وإلى مخالفه بعين

السخط، مثال ذلك أن امرأة من فضليات نساء سويسرة دينًا، وأدبًا، وعلمًا راقبت

أحوال الأستاذ الإمام، وسيرته مدة طويلة إذ كان يختلف إلى مدرسة جنيف لتلقي

آداب اللغة الفرنسية، وكَلَّمَتْه مرارًا في مسائل من علم الأخلاق والتربية، وكانت

بارعة ومصنفة فيهما، فأعجبها رأيه، كما أعجبها فضله وهديه، ثم قالت له بعد

ذلك: إنني لم أكن أظن قبل أن عرفتك أن القداسة توجد في غير المسيحيين.

فمن تأمل ما ذُكِر تجلت له الأسباب المعنوية والاجتماعية التي صدت الحكام

والفقهاء عن قبول شهادة غير المسلم على المسلم، وتعجب من سعة أحكام القرآن،

التي يتوهم الجاهلون أنها ضد ما هي عليه من الإطلاق وموافقة كل زمان ومكان،

فتراهم ينسبون إلى القرآن كل ما ينكرونه على المسلمين من آرائهم، وأعمالهم،

وأحكامهم بالحق أو بالباطل، ولو كان المسلمون عاملين بالقرآن كما يجب، لَمَا

أنكر عليهم أحد، بل لاتبعهم الناس في هديهم، كما اتبعوا سلفهم من قبلهم، بل

لكانوا أشد اتباعًا لهم بما يظهر لهم من موافقة هدايته لهذا الزمان، وموافقتها لأرقى

ما وصل إليه من نظام وأحكام، وهذا من أجل معجزاته التي تتجدد بتجدد الأزمان.

_________

ص: 561

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌إعراب الآية الثانية الذي اضطرب فيه النحاة

قد تبين مما فصلناه أن الذين عدوا الآيتين في غاية الصعوبة لمخالفة مذاهبهم

لهما مخطئون، وأن الواجب رد المذاهب إليهما، لا تأويلهما لتوافقا المذاهب، وأما

الذين استشكلوا إعراب جملة من الآية الثانية، وعدوا لأجلها الآية أو الآيات في

غاية الصعوبة؛ فإنما أوقعهم في ذلك احتمال التركيب لعدة وجوه من الإعراب، بما

فيها من تعدد القراءات، مع اعتيادهم تقديم الإعراب على المعنى، وجعله هو

المبين له، وقد استحسنا بعد إيضاح تفسير الآيات بما تقدم أن نذكر ملخص ما قيل

في إعراب تلك الجملة نقلاً عن " روح البيان " الذي يلتزم تحقيق المباحث النحوية

في جميع الآيات، عسى أن يستغني القارئ به عن مراجعة تفسير آخر، ونبدأ

بجواب الشرط لأنه مبدأ ما استشكلوه من الإعراب، قال المؤلف -رحمه الله تعالى-:

{فَآخَرَانِ} (المائدة: 107) أي فرجلان آخران، وهو مبتدأ خبره قوله

تعالى: {يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا} (المائدة: 107) والفاء جزائية، وهي إحدى

مسوغات الابتداء بالنكرة، ولا محذور في الفصل بالخبر بين المبتدأ وصفته، وهو

قوله سبحانه: {مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ} (المائدة: 107) وقيل هو

خبر مبتدأ محذوف أي فالشاهدان آخران، وجملة يقومان صفته، والجار والمجرور

صفة أخرى، وجوَّز أبو البقاء أن يكون حالاً من ضمير يقومان، وقيل هو فاعل

فعل محذوف، أي فليشهد آخران، وما بعده صفة له، وقيل مبتدأ خبره الجار

والمجرور والجملة الفعلية صفته، وضمير مقامهما في جميع هذه الأوجه مستحق

للذين استحقا، وليس المراد بمقامهما مقام أداء الشهادة التي تولياها ولم يؤدياها كما

هي، بل هو مقام الحبس والتحليف، واستحق بالبناء للفاعل على قراءة عاصم في

رواية حفص عنه، وبها قرأ علي كرم الله تعالى وجهه، وابن عباس وأُبيّ -

رضي الله تعالى - عنهم، وفاعله (الأوليان) والمراد من الموصول أهل الميت،

ومن الأوليين الأقربان إليه، الوارثان له، الأَحَقَّان بالشهادة لقربهما واطلاعهما،

وهما في الحقيقة الآخران القائمان مقام اللذين استحقا إثمًا، إلا أنه أقيم المظهر مقام

ضميرهما للتنبيه على وصفهما بهذا الوصف، ومفعول استحق محذوف، واختلفوا

في تقديره فقدره الزمخشري أن يجردوهما للقيام بالشهادة؛ ليظهروا بهما كذب

الكاذبين، وقدره أبو البقاء وصيتهما، وقدره ابن عطية مالهم وتركتهم، وقال الإمام:

إن المراد بالأوليان الوصيان اللذان ظهرت خيانتهما؛ وسبب أولويتهما أن الميت

عينهما للوصية، فمعنى {اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ} (المائدة: 107) خان في

مالهم وجنى عليهم الوصيان اللذان عثر على خيانتهما، وعلى هذا لا ضرورة إلى

القول بحذف المفعول، وقرأ الجمهور {اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ} (المائدة:

107) ببناء استحق للمفعول، واختلفوا في مرجع ضميره، والأكثرون أنه الإثم،

والمراد من الموصول الورثة؛ لأن استحقاق الأثم عليهم كناية عن الجناية عليهم،

ولا شك أن الذين جُني عليهم، وارتكب الذنب بالقياس إليهم هم الورثة، وقيل إنه

الإيصاء، وقيل الوصية لتأويلها بما ذكر، وقيل المال، وقيل: إن الفعل مسند إلى

الجار والمجرور، وكذا اختلفوا في توجيه رفع الأوليان؛ فقيل: إنه مبتدأ خبره

(آخران) أي الأوليان بأمر الميت آخران، وقيل بالعكس، واعترض بأنه فيه

الإخبار عن النكرة بالمعرفة، وهو مما اتفق على منعه في مثله، وقيل خبر مبتدأ

مقدر أي هما الآخران على الاستئناف البياني، وقيل بدل من آخران، وقيل عطف

بيان عليه، ويلزمه عدم اتفاق البيان والمبين في التعريف والتنكير مع أنهم شرطوه

فيه حتى مَنْ جَوَّزَ تنكيره، نعم نقل عن نزر عدم الاشتراط، وقيل هو بدل من

فاعل يقومان، وكون المبدل منه في حكم الطرح ليس من كل الوجوه، حتى يلزم

خلوّ تلك الجملة الواقعة خبرًا أو صفة عن الضمير على أنه لو طرح، وقام هذا

مقامه، كان من وضع الظاهر موضع الضمير فيكون رابطًا، وقيل هو صفة

آخران، وفيه وصف النكرة بالمعرفة، والأخفش أجازه هنا؛ لأن النكرة بالوصف

قربت من المعرفة، قيل وهذا على عكس، ولقد أمر على اللئيم يسبني فإنه يؤول

فيه المعرفة بالنكرة، وهذا أُوِّلَ فيه النكرة بالمعرفة، أو جعلت في حكمها للوصف،

ويمكن - كما قال بعض المحققين - أن يكون منه بأن يجعل الأوليان لعدم تعينهما

كالنكرة، وعن أبي علي الفارسي أنه نائب فاعل (استحق) ، والمراد على هذا

استحق عليهم انتداب الأوليين منهم للشهادة، كما قال الزمخشري، أو إثم الأوليين

كما قيل، وهو تثنية الأولى قلبت ألفه ياء عندها، وفي على في (عليهم) أوجه

الأول: أنها على بابها، والثاني أنها بمعنى في، والثالث أنها بمعنى من، وفسر

استحق بطلب الحق، وبحق وغلب، وقرأ يعقوب، وخَلَفٌ، وحمزة وعاصم في

رواية أبي بكر عنه (استحق عليهم الأوليين) ببناء استحق للمفعول، والأولين جمع

أول المقابل للآخر، وهو مجرور على أنه صفة الذين، أو بدل منه أو من ضمير

عليهم، أو منصوب على المدح، ومعنى الأولية التقدم على الأجانب في الشهادة،

وقيل التقدم في الذكر لدخولهم في (يا أيها الذين آمنوا) وقرأ الحسن (الأولان)

بالرفع، وهو كما قدمنا في الأوليان، وقرئ (الأولين) بالتثنية والنصب، وقرأ

ابن سيرين (الأوليين) بياءين تثنية أولى منصوبًا، وقرأ (الأولين) بسكون الواو

وفتح اللام جمع أولى كأعلين وإعراب ذلك ظاهر.

_________

ص: 584

الكاتب: محمد علي أبو زيد

البرهان على خروج تارك الصلاة

ومانع الزكاة من الإيمان

جمع أدلته من الكتاب والسنة / محمد علي أبو زيد

الطالب بكلية دار الدعوة والإرشاد

(2)

يزيدك بيانًا لهذه الآية قول النبي صلى الله عليه وسلم (بين الرجل وبين

الشرك ترك الصلاة) خَرَّجَه مسلم [1] ولا تحتاج بعده إلى شرح وبيان، ومنه قوله

تعالى في سورة البقرة: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَاّ عَلَى

الخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (البقرة: 45-

46) .

تراه في الآية جعل الصلاة يُستعان بها، ولم يذكر ما يستعان عليه؛ ليشمل

كل الأمور الدينية والدنيوية، وذلك - كما بينا قريبًا - أنها تشغل النفس بذكر الله

تعالى فتصقلها كصقل الجلَاّء للمرآة؛ فيرى صاحبها بقربه من ربه ما لا يراه صديء

النفس؛ فتقوى فيه الروحانية والمرء متى قويت روحه، قويت إرادته، واشتدت

عزيمته؛ فتسهل أمامه كل صعوبة، ويفوز في كل عمل تطلبه الحياة، وهذا كله

هو حظ الشارع الحكيم ممن يخضع لأمره، ويؤمن بثوابه وعقابه.

وقد أفاد جل شأنه بقوله: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَاّ عَلَى الخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ

أَنَّهُم مُّلاقُوا رَبِّهِمْ} (البقرة: 45-46) الآية، أن الصلاة إنما تكبر وتثقل على

من لم يؤمن بالآخرة، ومن لم يصدق بملاقاة ربه وجزائه {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ

لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ} (الانفطار: 19) وحده.

وهاهنا نكتة بليغة في قوله: {يَظُنُّونَ} (البقرة: 46) فإنه لم يقل

(يوقنون) ليفيد أن الظن - وإن كان لا يغني من الحق شيئًا - يكفي حاملاً للمرء

على العمل احتياطًا، ما دام يترجح عنده أنه سيرجع إلى الله فيحاسبه ويجازيه، فكأنه

تعالى يقول: إن من يعتقد اعتقاد ظن ورجحان [2] لم يصل فيه إلى درجة اليقين

بالبرهان، أنه سيلاقي ربه فيحاسبه ويجازيه، لم تثقل عليه الصلاة ولا تشق، بل

يقيمها بنشاط على خشوع وراحة.

هذا مبني على سنة الله تعالى في النفس، متى ترجح عندها الأجر والمنفعة

في العمل نشطت إليه، وهشت له، وإن كان سخرة أو ضرًّا، كبر عليها،

وجزعت منه، وإذا كان ذلك حال الظان - لا يترك الصلاة ولا تثقل عليه إقامتها

بل يحافظ عليها ويرتاح بها - فما بالك بالموقن هل يترك الصلاة، أو يثقل عليه

شيء منها؟ أم ينتظر أوقاتها، ويقول كما قال الرسول، صلى الله عليه وسلم:

(أرحنا بها يا بلال) .

ومنه قوله تعالى في سورة الأنعام: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي

بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ القُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى

صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} (الأنعام: 92) .

جعل سبحانه المحافظة على الصلوات شأنًا من شؤون أهل الإيمان بالآخرة

وبالقرآن، وجعل هذا الإيمان داعيًا إليها، وباعثًا عليها، وذلك أن قوله: {وَهُمْ

عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} (الأنعام: 92) يفيد أن الذي يؤمن باليوم الآخر،

ويصدق بأن فيه الجزاء الأوفى: الطيب للطيب، والخبيث للخبيث، لا بد أن

يصدق بالقرآن، ولا بد أن يكون على تلك الحالة، ومتصفًا بتلك الصفة:

المحافظة على الصلاة.

واختيار التعبير بالفعل (يحافظون) على الوصف (محافظون) يدل على

الدوام والاستمرار، أي أنه لا ينفك عنها في وقت من الأوقات، والآية وما قبلها

نص في أن الإيمان بالآخرة يستلزم الإيمان بالقرآن، والإيمان به يستلزم إقامة

الصلاة، ومفهومه أن من لم يحافظ عليها كافر، وعلى هذا يكون القرآن قد بين أن

الصلاة هي الفارق بين المؤمن والكافر، ويُجلِّي لك هذا قول النبي - صلى الله

عليه وسلم - (بين الكفر والإيمان ترك الصلاة) رواه مسلم، وأبو داود،

والترمذي، وفي رواية (بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة) ، وقوله - صلى الله

عليه وسلم - (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) رواه الترمذي،

والنسائي وصححه، فتأمل هذه التصريحات في هذه الأحاديث، وانظر التحقيق

من النبي صلى الله عليه وسلم بلفظة (فقد كفر) وكلها في معنى الآيات التي

سمعت.

وأزيدك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ترك صلاة العصر فقد

حبط عمله) رواه البخاري، والنسائي، ومن المعلوم في الشرع أن الذي يحبط

عمله هو الكافر، قال تعالى في سورة المائدة:{وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} (المائدة: 5) فإذا كان تارك العصر كافرًا، فما ظنك بتارك جميع الصلوات؟

ولما جاء وفد ثقيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليسلموا، قالوا: اسمح لنا

في أن ندع الصلاة، وألا نكسر أصنامنا بأيدينا فقال: صلى الله عليه وسلم (أما

كسر أصنامكم بأيديكم فقد عفوناكم منه، وأما الصلاة فلا خير في دين لا صلاة فيه،

وأنت ترى أن في قوله (لا خير في دين لا صلاة فيه) أن تارك الصلاة لا يعتد

بتدينه، وعلى هذا قد درج الصحابة، رضوان الله عليهم. فقد روى الترمذي

عن عبد الله بن شقيق [3] أنه قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفرًا إلا الصلاة؛ وذلك لما قدمنا من أن الصلاة

أصل، فالمحافظة عليها تستلزم المحافظة على كل الدين.

وقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكتب إلى عماله:

إن أهم أمركم عندي الصلاة، من حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها

كان لما سواها أشد إضاعة، رواه مالك وغيره.

س: إن ما تقدم من الأدلة كله صريح في أن تارك الصلاة غير مسلم مطلقًا،

ولا أراني أشك بعد في ذلك، إذًا ما معنى قول بعضهم: من تركها كسلاً لا يكفر،

وما معنى التفريق بين من يتركها بكسل أو غيره؟

ج: لا معنى لذلك إلا مخالفة النصوص الصريحة، وعدم تدبر القرآن،

والسنة الصحيحة [4]، وما دمنا نقول كما قال القرآن: إن المحافظة على الصلوات

من شأن المؤمن، ومن صفاته الملازمة له، فالمجرد منها، المتخلي عنها، غير

مؤمن ضرورة، لكونه عري من صفة الإيمان الفعلية، على أن الله سبحانه قد

صرح بأن الكسل في الصلاة من شأن المنافقين وصفاتهم، فقال عز شأنه في سورة

النساء: {إِنَّ المُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا

كُسَالَى} (النساء: 142) .

وليس المنافقون بأقل من الكافرين، قال تعالى في سورة براءة: {إِنَّ

المُنَافِقِينَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (التوبة: 67) -أي الخارجون عن الدين - {وَعَدَ اللَّهُ

المُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ

عَذَابٌ مُّقِيمٌ} (التوبة: 68) .

قرن الله تعالى في هذه الآية المنافقين مع الكافرين، ووعد الجميع معًا الخلود

في جهنم والعذاب الدائم، بل قد حطهم عنهم فقال في سورة النساء: {إِنَّ المُنَافِقِينَ

فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً} (النساء: 145) .

إلى هنا انتهينا من أدلة الصلاة وحدها

***

فإليك ما جاء في الزكاة أختها

قال الله تعالى في سورة فصلت: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا

إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ

وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} (فصلت: 6-7) فتأمل كيف جعل منع الزكاة من

صفات المشركين وشأنهم، وإنما كان منعها من شأن المشرك بربه؛ لأنه يؤثر

المال على حبه، وقد قرن منع الزكاة بالكفر بالآخرة؛ لأنهم لو كانوا واثقين بخبر

الله، ومؤمنين بجزائه، لأنفقوا من مالهم رغبة في ثوابه، وخوفًا من الكي بناره

وقال تعالى: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ

وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} (التوبة: 35) .

(وقال) جل ثناؤه في سورة آل عمران: {لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا

تُحِبُّونَ} (آل عمران: 92) علَّق نيل البر على الإنفاق مما يحب، فمن لم ينفق

مما يحب، لا حظ له من البر، والبر نعيم الله ورضوانه فمانع الزكاة - وهي أول

مقصود بالإنفاق - محروم من نعيم الله ورضوانه كافر [5] .

ولعلك تلاحظ الحكمة في تقييده الإنفاق بأن يكون المنفَق منه محبوبًا عند

المنفِق، إذْ المرء لو أنفق لله ما يكره، لا يكون إنفاقه له بسبب حبه إياه، بل

يعتبر غرمًا ومظلمة، أو شيئًا كريهًا رغب الخلاص منه بهذه الطريقة رياء، أما لو

أنفق من شيء محبوب له، يكون حبه الله قد رجح في نفسه على حبه المال، فدعاه

إلى بذل المال على حبه إياه، وهناك يظهر الفضل بالتوحيد والإخلاص.

(وقال) تعالى في سورة الأعراف: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا

لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} (الأعراف: 156) بيَّن أن رحمته واسعة؛ ولكنها

لا تكتب لكل الناس، بل كتابها وإيجابها خاص بالأتقياء المعطين الزكاة، فالذي

يمنع الزكاة، تمنع كتابة الرحمة له؛ فلا يكون له حظ فيها بل يكون بعيدًا عنها،

ومحرومًا منها.

(لها بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

المنار: رواه مسلم عن جابر بن عبد الله من طريق أبي الزبير محمد بن مسلم بن تدرس، وهو ثقة عند الجمهور روَوْا له إلا البخاري، فإنه لم يرو له إلا متابعة، وكان ابن حزم يرد من حديثه ما يقول فيه: عن جابر، لأنه مدلس وههنا صرح بسماعه منه، وطعن فيه شعبة ونهى عن الكتابة عنه قال: لأنه لا يحسن يصلي، ولكونه يسيء صلاته، بل قال: إنه كذب على رجل، واعتذر عن ذلك بأنه أغضبه واحتج على الشافعي بحديثه فغضب وقال: أبو الزبير يحتاج إلى دعامة، وقال: أبو زرعة وأبو حاتم: لا يحتج به، ورواه أيضًا من طريق أبي سفيان طلحة بن نافع، وقد روى له الجماعة إلا أن البخاري لم يرو له في الصحيح إلا مقرونًا بغيره، وقال سفيان بن عيينة: حديثه عن جابر إنما هو صحيفة أي لم يسمع منه مع أنه صرح بالسماع في مسلم وقال ابن معين فيه: لا شيء وقال ابن المديني: كانوا يضعفونه، أما لفظ الحديث من الطريق الأول فهو (إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة) ، ومن الطريق الثاني (بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة)، قال النووي في شرحه: هكذا هو في جميع الأصول من صحيح مسلم - الشرك والكفر بالواو - وفي مخرج أبي عوانة الإسفرايني، وأبي نعيم الأصبهاني (أو الكفر) بأو ولكل منهما وجه، ومعنى بينه وبين الشرك ترك الصلاة - أن الذي يمنع من كفره كونه لم يترك الصلاة، فإذا تركها لم يبق بينه وبين الشرك حائل، ثم إن الشرك والكفر قد يطلقان بمعنى واحد وهو الكفر بالله تعالى، وقد يفرق بينهما فيخص الشرك بعبدة الأوثان وغيرها من المخلوقات، مع اعترافهم بالله تعالى ككفار قريش، فيكون الكفر أعم من الشرك والله أعلم، وذكر قبل ذلك أن الجمهور من السلف والخلف لا يقولون بكفر تارك الصلاة إلا إذا جحد وجوبها، وحملوا مثل هذا الحديث على ما رأيت في تفسيره له من كون تركها قد يفضي إلى الكفر أو إذا كان جاحدًا، وقال بعض السلف بكفره، وروي ذلك عن علي كرم الله وجهه وعن عبد الله بن المبارك، وإسحاق بن راهويه، قال النووي وهو رواية عن أحمد، ووجه لبعض أصحاب الشافعي، وسيأتي جمعنا بين الأقوال.

(2)

الظن: الاعتقاد الراجح، ولا يشترط تصور مقابل مرجوح.

(3)

المنار: قد كان عبد الله هذا ناصبيًّا يبغض عليًّا عليه السلام، وقد صح الحديث عن مسلم (أنه لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق) فأخذ الكاتب بظواهر مثل هذا الحديث يقتضي ألا يحتج بما يرويه عبد الله بن شقيق، ولا يعتد بإيمانه، وما تقدم عن النووي يفيد أن جمهور الصحابة لا يعدون مجرد ترك الصلاة كفرًا بمعنى الردة عن الإسلام، وحسب التارك لها أنهم اختلفوا في إيمانه، وسيأتي الجمع بين الأقوال في ذلك.

(4)

المنار: هذا تهور عظيم، والصواب أن سببه تعارض النصوص كما سنبينه بعد.

(5)

المنار: الآية لا تدل على ذلك، فالعمل بها يتم بما دون الزكاة الشرعية.

ص: 586

الكاتب: محمد توفيق صدقي

مدرسة دار الدعوة والإرشاد

دروس سنن الكائنات

محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صدقي

(10)

سموم الميكروبات:

تحدث بنمو كل نوع من الميكروبات مواد عديدة في السائل الذي تربى فيه،

ومن أضرها مواد زلالية، ومواد آزوتية تشبه المواد الآزوتية النباتية المسماة

[Alkaloids] أي الشبيهة بالقلوية كمادة الإستركنين، وهي مواد تفتك بالأحياء

فتكًا ذريعًا مهما تكن قليلة، وهذه المواد تتولد بطريقتين: الأولى أنها تتولد في نفس

جسم الميكروب، ثم تخرج منه شيئًا فشيئًا، والثانية أنها تتولد في السائل نفسه؛

وذلك بإفراز الميكروب مادة ثم (خميرة) تشبه الخمائر - المذكورة في الجزء

الأول - وهذه الخميرة لها تأثير كيماوي مخصوص في المواد المحيطة بها، فتحدث

فيها تركيبًا وتحليلاً ينشأ منه مواد متنوعة.

ومن الميكروبات ما يبقى جل سمه في جسمه، ولا يخرج إلا إذا استخلص

منه ببعض الطرق العلمية، وذلك مثل ميكروب الطاعون، والكوليرا، والحمى

التيفودية، ويسمى مثل هذا السم (بالسم الكامن)(Endotoxin) وفي الجسم

المريض تنحل بعض هذه الميكروبات، فتخرج منها سمومها وتسري فيه؛ فتُحْدِث

المرض.

ومن المواد التي تتولد في السائل الذي يربى فيه الميكروب ما يقتل الميكروب

نفسه؛ فإنها قد تولد حامض الفنيك أو الغول (الكحول) أو الخل إلى غير ذلك من

المواد التي تُستعمل مطهرات لقتل الميكروبات.

الميكروبات والبيئة:

تنقسم الميكروبات - باعتبار ما تعيش فيه - إلى ثلاثة أقسام: فمنها ما لا

ينمو عادة إلا في الحي [1] ، ومنها ما لا ينمو إلا في الميت، ومنها ما يمكنه أن ينمو

في الاثنين معا، فمثال الأول ميكروب الحمى الراجعة، ومثال الثاني بعض

ميكروبات الحمى النفاسية، وهي التي تعيش في الدم والسوائل المنتنة التي تتخلف

أحيانًا في الرحم عقب الولادة.

ومن هذا النوع الميكروبات التي تُحْدِث تحليل جثث الموتى، والتي تفسد

اللبن فيخثر، ومنها ما يحول البولينا إلى كربونات النوشادر، والخمر إلى خل،

ولهذه الميكروبات فائدة كبرى في العالم؛ فإنها تحول الأجسام المركبة إلى بسائط

فتعود إلى عالمي الحيوان والنبات؛ فينتفعان بها؛ ولذلك وجد العلماء طريقة عظيمة

لتحليل المواد البرازية؛ فإنها تُلقى في مستودعات مخصوصة؛ فيتسلط عليها في

أولاها الميكروبات التي لا تنمو في الأكسجين، وفي الثانية الميكروبات التي تنمو

فيه؛ فبذلك تتحلل جميع المواد البرازية، وتستحيل إلى ماء وغاز ثاني أكسيد الفحم،

وأملاح النيترات.

وهذه الأشياء كلها صالحة للنبات؛ فيسقى بها الزرع، وفيه تتحول مرة

أخرى إلى مواد مضاعفة التركيب ضرورية للحيوان والنبات، فكأن نظام هذا العالم

موقوف على عمل الميكروبات والنباتات، ولولاها لفسد وبطل.

فالنباتات الدنيئة (البكتيريا) تركب قليلاً، وتحلل كثيرًا، والنباتات الكبيرة

تركب كثيرًا، وتحلل قليلاً كتحليلها بعض غازات الهواء، فعلى النبات مدار الحياة

ومثال الميكروب الذي يعيش عادة في الحي والميت باسيل التيتانوس، وكذلك

باسيل الدفثيريا (والتي منها الخناق) فإن هذين الميكروبين يعيشان كثيرًا في الطين،

وقد ينتقلان منه إلى الإنسان، إلا أن ميكروب التيتانوس لا يعيش في جسم

الإنسان بعد ظهور أعراض هذا المرض إلا قليلاً، ومن طرق وصول ميكروب

الدفثيريا إلى الإنسان أنه يكون مختلطًا بالطين؛ فإذا زادت المياه التي في جوف

الأرض كما يحصل عند فيضان الأنهار ضغطت على الهواء الموجود خلال الطين

فيندفع منها إلى جو المدن حاملاً لهذا الميكروب الخبيث؛ فيصاب كثيرون بهذا

المرض.

والميكروبات لا تموت ما لم يقتلها شيء، وأكثرها مقاومة للطوارئ ما كان له

حبيبات، وهذه الحبيبات نفسها تعيش مدة طويلة من الشهور أو السنين حتى في

الأحوال غير المناسبة للحياة كالجفاف والبرد، ولا عجب في ذلك فقد عُرِفَ أن

بعض حبوب النباتات الكبيرة عاش نحو مئة سنة.

ولا يُعْلَم بالتحقيق أن الحبوب يمكنها أن تعيش (أعني تبقى حية) أكثر من

ذلك، وما قيل من أن حبوب بعض الهياكل، أو القبور القديمة نبت بعد ألوف من

السنين فهو كذب محض، وقد ثبت أن حبوب القمح تعيش نحو سبع سنين على

الأكثر، وعليه فالقمح الذي خزنه المصريون في زمن يوسف عليه السلام كان يمكن

إنباته في نهاية السنة السابعة، وأكثر الميكروبات التي لا حبيبات لها تُقْتَل عادة

بحرارة 65 سنتغراد في نحو نصف ساعة.

وميكروبات التعفن تقتل الميكروبات المرضية عادة، وهذه الميكروبات

التعفنية تكون في الغالب من النوع الباسيلي (المستطيل) ، فإذا أصيب إنسان

بالتسمم الصديدي الناشئ على الأكثر من البذور السلسلية ومات، فأراد طبيب أن

يشرح جسمه عقب الوفاة مباشرة، كان من أشد الخطر على هذا الطبيب أن يجرح

ويتلقح جسمه بشيء من الجثة، وأما إذا تركت هذا الجثة زمنًا حتى تتعفن؛ فإن

ميكروبات المرض التي فيها تقتلها ميكروبات التعفن شيئًا فشيئًا، حتى تزول من

الجثة، وحينئذ لا يكون في تشريحها خطر على حياة الطبيب.

أبواب دخول الميكروبات في الجسم:

لدخول الميكروبات في الجسم أبواب عديدة، وهي الرئتان (لمثل ميكروب

الحمى القرمزية) والجهاز الهضمي (لمثل ميكروب الحمى التيفودية) والجلد

(لمثل الزهري) والأغشية المخاطية كأغشية أعضاء التناسل أو العين وغيرها

(لمثل السيلان والدفثيريا) .

ولا يشترط أن يكون سطح الجسم، أو الأغشية المخاطية مجروحة، فقد

يدخل الميكروب من الأماكن ذات الجلدة الرقيقة، أو من مسامها؛ ولكن الجرح أو

السحج مما يسهل دخوله كثيرًا كما هو ظاهر.

فإذا دخل الميكروب من هذه المنافذ، فمنه ما يبقى في مكان دخوله، ومنه ما

يصل إلى الدم، أو المادة اللمفاوية، ويدور معها حيث دارت، وفي كلتا الحالتين

يولد الميكروب سمًّا زعافًا، وهو الذي يقتل الحيوانات، ويحدث فيها جميع

الحميات، إلا أن بعض هذه الميكروبات يحدث أمراضًا ليست الحمى شرطًا فيها

مثل مرض (الكُزاز) .

فمثال ما يدور في الدم ميكروب (التسمم الصديدي وميكروب الحمى الراجعة)

ومثال الذي لا يدور في الدم (التيتانوس والدفثيريا) فإن ميكروبهما يبقى على

الأكثر في مكامن التلقيح إلا أنه بعد الموت قد ينفذ إلى جميع أجزاء الجثة، وإذا نفذ

إلى الدم في أثناء الحياة التهمته كريات الدم البيضاء، أو بقي في بعض الأعضاء

التي تعتقله فيها، وتقتله غالبًا بخلاياها، كالكبد والطحال.

زمن التفريخ:

إذا دخل الجسم أي نوع من الميكروبات لا يحدث المرض فيه في الحال، بل

لا بد من أن يمكث زمنًا يتراوح بين يوم أو عدة أسابيع أو عدة سنين (كما في داء

الكَلَب والجذام) فإنهما أطول الأمراض مدة [2] ، وفي هذا الزمن يتكاثر الميكروب

في الجسم، ويحمل عليه بسمومه فإذا بلغت درجة مخصوصة ابتدأ المرض في

الظهور، فمن الناس من يختلط مثلاً بمصاب بالجدري، ولا يظهر فيه المرض إلا

بعد نحو 12 يومًا عادة، وهذا الزمن يختلف باختلاف الأمراض؛ فإن لكل منها

زمنًا مخصوصًا، ويسمى هذا الزمن بزمن التفريخ أو الحضانة.

وقد عُرفت ميكروبات كثير من الأمراض، ولبعضها ميكروبات لم تُعْرَف إلى

الآن (كالحصبة) ؛ فإن الدلائل تدل على أن لها ميكروبًا لم يُكْتَشَف إلى الآن.

وهذه الأمراض التي عرفت ميكروباتها منها ما له ميكروب مخصوص

كمرض الدرن، ومرض الحمى التيفودية، ومنها ما يشترك فيه عدة ميكروبات

كمرض (التهاب الغشاء المبطن للقلب) ، و (الخراجات) فإنهما يحدثان من

ميكروبات مختلفة.

أمارات اختصاص الميكروب المعين بالمرض المعين:

يدل على اختصاص بعض الميكروبات ببعض الأمراض أمور كثيرة منها:

(1)

وجود الميكروب دائمًا في هذا المرض.

(2)

إذا حقن حيوان بهذا الميكروب وكان مستعدًّا للمرض حصل له ووجد

هذا الميكروب المخصوص في جسمه.

(3)

عدم وجود هذا الميكروب في الجسم السليم أو المريض بغير هذا المرض، ويستثنى من ذلك بعض الميكروبات، كالبزور المزدوجة المسببة للالتهاب الرئوي فإنها توجد في فم الصحيح وأنفه،وتوجد أيضًا في غير الالتهاب الرئوي كما في التهاب الشَّغاف (الغشاء المحيط بالقلب الذي يسمونه الآن التامور) وكذلك تستثنى مسألة حاملي الأمراض التي سنفصلها.

مصادر الميكروبات:

تتصل الميكروبات بالإنسان من عدة جهات (1) الهواء (2) الشراب

(3)

الطعام (4) التراب (5) سائر أجسام الأحياء، والجمادات كالملابس مثلاً،

وسيأتي - إن شاء الله - في باب الحميات بيان طرق وصول الأمراض المختلفة

إلى الإنسان تفصيلاً.

شرط تأثير الميكروبات والوقاية منها:

ما كل أحد يتصل به ميكروب مرض يصاب بذلك المرض، بل هناك وقاية

للحيوانات من فتك هذه الميكروبات بها دفعة واحدة، ولولا ذلك لهلكت الأحياء في

زمن قصير.

وهذه الوقاية (وتسمى أيضًا المناعة) منها ما هو فطري (أي يولد بها

الإنسان) ومنها ما هو مكتسب، أما المناعة الفطرية فقد تكون خاصة بالجنس أو

النوع كبعض الأمراض، فالجذام مثلاً خاص بالإنسان لا يصيب أي حيوان آخر،

وبعض الأمراض يصيب بعض الأنواع دون بعض، كالحمى الصفراء فإنها لا

تصيب السود إلا قليلاً، وبعض الأمراض تصيب بعض البيوت (الأسر) أو

الأفراد دون البعض الآخر، وكل ذلك لأسباب لا نعلمها على وجه التحقيق، وخير

الوقاية ما كان فطريًّا:

وقاية الله أغنت عن مضاعفة

من الدروع وعن عالٍ من الأُطُم

ومما يهيئ الجسم للعدوى التعب، والجوع، والبرد، وكل ما ينهك القوى

والإدمان على الخمور، إلا أن بعض الأشخاص قد يكونون سليمين من كل عيب،

ومع ذلك يصابون ببعض الأمراض، فمثلاً قد نجد أن أسمن الأطفال، وأحسنهم

صحة يصابون بالقرمزية، وتفتك بهم كثيرًا بينما الأطفال الآخرون الضعاف لا

يصابون بها، أو إذا أصيبوا كانت إصابتهم خفيفة.

أما المناعة المكتسبة وما في معناها كالعارضة بسبب يشبه الكسبي

فتكون بما يأتي:

(1)

من الأمراض ما إذا أصيب به الإنسان مرة واحدة حمى جسمه من

الإصابة بهذا المرض مرة أخرى كالزهري والحصبة والجدري مثلاً.

(2)

من الأمراض ما إذا أصيب به الإنسان حمى جسمه من أمراض أخرى

تغايره بعض المغايرة، فمنها جدري البقر إذا أصاب الإنسان أو لُقح به حماه من

الجدري الإنساني، ومنها الحمى الراجعة إذا أصيب بها شخص حمته غالبًا من

التيفوس؛ ولكنها لا تحميه من نفسها.

(3)

بحقن سم الميكروب، أو مصل يُستخرج من الحيوانات بطريقة

مخصوصة، كما في مرض الدفثيريا مثلاً، وبيان ذلك أن يُزرع ميكروب الدفثيريا

في سائل (كالمرق) ، ثم يصفى هذا السائل من الميكروب، ويُحقن حصان بجزء

صغير من هذا السائل المصفى، ونظرًا لوجود سم ميكروب الدفثيريا في السائل

المحقون به يُصاب الحصان ببعض أعراض مرضية خفيفة تزول سريعًا كالحمى

وورم في مكان الحقن، ثم يُحقن هذا الحصان بمقدار من السائل أكبر، فأكبر حتى

يصل الحصان إلى حالة لا يتأثر معها بهذا السم المحقون فيها؛ وعندئذ يتولد في

دمه مادة مضادة لسم الدفثيريا، فإذا أُخذ دم هذا الحصان، واُستخرج مصله كان هذا

المصل نافعًا لإفساد سم الدفثيريا، وإذا حقن به الإنسان وقت انتشار هذا المرض

حفظه منه لمدة ثلاثة أسابيع عادة؛ وكذلك إذا حقن به المصاب بالدفثيريا نفعه نفعًا

عظيمًا، وأدى إلى شفائه.

(4)

حقن ميكروب المرض نفسه ميتًا، أو بعد إضعاف تأثيره بطرق

سيأتي الكلام عليها في داء الكلب، وتسمى المادة المحقونة " باللقاح " ومن ذلك حقن

ميكروب التيفود بعد قتله، وحقن ميكروب الكلب بعد إضعافه، وإن كان ميكروب

الكلب إلى الآن لم يُكتشف، بمعنى أنه لم يره أحد؛ ولكننا موقنون بوجوده، فإذا

لُقح الشخص تولدت في جسمه مادة مضادة لهذا الميكروب المحقون، وبذلك لا

يكون له تأثير في إحداث المرض، وقد يحقن الميكروب بدون إضعافه؛ ولكن

بمقادير قليلة جدًّا تزاد تدريجًا.

والميكروبات التي تزرع بقصد الحقن منها ما يفرز سمًّا في السائل المزروع

فيه، ومنها ما يكون سمه كامنًا في جسمه - كما تقدم - وذلك مثل سم ميكروب

الطاعون، ولا بد من ملاحظة هذه المسألة قبل الحقن، فإذا أريد حقن حصان

لاستخراج مصل منه نافع للطاعون، فلا يجوز حقنه بالسائل الذي يربى فيه

الميكروب، فإنه يكاد يكون خاليًا من السم إذا لا يخرج منه شيء يذكر من جسم

الميكروب؛ ولذلك يجب أن تستعمل طريقة أخرى للوقاية من الطاعون، كأن يحقن

الشخص المراد وقايته بنفس السائل بدون تصفيته بعد قتل ميكروب الطاعون الذي

فيه، وذلك بتعريضه مدة ساعة لحرارة درجتها 65 بالمقياس المئيني، ولا يصح

قتل الميكروب بالغلي فإن ذلك يفسد سمه، أو يغيره تغييرًا يجعله غير صالح لما

نريد.

وقد ذهب علماء هذا العلم في تفسير مسألة الوقاية مذاهب عديدة، نذكر

هنا أشهرها:

(1)

مذهب القائلين (بنفاد السَّماد) ، ومعنى ذلك أنهم يقولون إن في جسم

الإنسان بعض مواد لازمة لحياة الميكروبات تكون كالسماد لها؛ فإذا أصيب الإنسان

يمرض ما كالجدري مثلاً نفد هذا السماد الضروري لحياة ميكروبه من جسم الإنسان؛

ولذلك لا يصاب به عادة مرة أخرى، وهذا التفسير أصبح الآن مردودًا عند

جمهور العلماء.

(2)

مذهب القائلين باحتباس سم الميكروب في جسم الإنسان، وذلك أن

الإنسان إذا أصيب بمرض ما تولد من الميكروب سم يُهلك نفس هذا الميكروب

ويفسرون بذلك سبب شفائه من المرض، ويقولون إن هذا السم يبقى في جسمه بعد

ذلك، ويقتل هذا الميكروب الخاص إذا دخل في جسمه مرة أخرى.

(3)

مذهب الفرنسويين، وهم يقولون إن الكريات البيضاء في دم الإنسان

تقتل الميكروبات لاسيما إذا تعودت أكل نوع مخصوص منها؛ فإنها تلتهمه بشراهة

قوية.

(4)

مذهب الألمانيين، وهم يقولون: إن الإنسان أو الحيوان إذا أصيب

بمرض ما أفرزت منسوجات الجسم المختلفة مواد تجري في دمه، وهذه المواد منها

ما يهلك الميكروب، ومنها ما يفسد سمه، كالمادة المتولدة في مصل الحصان التي

ذكرت سابقًا للوقاية من الدفثيريا أو لشفائها.

والحق شائع بين مذهبي الفرنسويين والألمانيين، وأحسن المذاهب مذهب من

يجمع بينهما كمذهب بعض علماء الإنكليز، وغيرهم بأن يقول: إن الإنسان إذا

أُصيب بمرض تولدت في جسمه تلك المواد التي قال بها الألمانيون، وهذه المواد

تُفْسِد سم الميكروب أولاً، وتضعف نفس الميكروب أو تقتله ثانيًا؛ حتى تقوى عليه

كريات الدم البيضاء؛ فيسهل عليها أن تلتهمه وتهضمه هضمًا.

وقد عرف من عهد قريب أنه يوجد في دم الإنسان في الحالة الطبيعية مواد

تسمى المواد الإدامية (Opsonins) وهذه المواد تؤثر في الميكروبات تأثيرًا

مخصوصًا حتى تجعلها كأنها طعام لذيذ للكريات البيضاء، ولذلك سميت بهذا الاسم

تشبيهًا لها بالإدام.

ومقدار هذه المواد يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، وكلما كثرت كانت

البنية أشد مقاومة للميكروب، وهي تزيد بالحقن باللقاح، وبالمرض إذا قاومته

البنية أو غلبته.

ومدة الوقاية من الأمراض تختلف كثيرًا، فإذا أصيب الإنسان بالزهري أو

الجدري فقل أن يعود إليه هذا المرض طول حياته، وإذا أصيب بالدفثيريا أو

الالتهاب الرئوي فقد يعاوده المرض.

ومن الناس من يجتمع في جسمه مرضان، أو أكثر كاجتماع الدفثيريا مع

الحمى القرمزية، وكانوا يظنون سابقًا أن ذلك غير ممكن؛ ولكن الحقيقة أن الجسم

إذا أصيب بمرض كان أكثر تعرضًا للأمراض الأخرى، مما إذا كان سليمًا، وذلك

لضعف قوة المقاومة.

ومن الأمراض ما تُورَّث إما بنفسها كالزهري، وإما بالاستعداد لها كالسل،

فإذا كان أب الإنسان مثلاً مصابًا بالزهري وُلد ابنه مصابًا به أيضًا، وإذا كان

مصابًا بالدرن الرئوي (السل) كان ابنه غالبًا خاليًا من ميكروب هذا الداء؛ ولكن

جسمه يكون مستعدًّا له كل الاستعداد؛ فيصاب به عادة عاجلاً أو آجلاً.

حاملو الأمراض:

إذا أصيب المرء بمرض كالحمى التيفودية، أو كان جسمه ممتنعًا عليه لسبب

ما، ودخلت الميكروبات في أمعائه فمن الجائز أن تعيش في جوفه أشهرًا عديدة،

أو سنين كثيرة، ربما بلغت الخمسين بدون أن يشعر بمرض منها؛ ولكنه يكون

خطرًا على غيره من المستعدين لهذا الداء، وذلك لأن الميكروب يتكاثر في بعض

أحشائه كالأمعاء، أو المرارة، أو الكلى، والمثانة، ويخرج في برازه أو بوله

فيصل إلى طعام الآخرين أو شرابهم ويوردهم موارد الهلاك، ويسمي العلماء

أمثال هؤلاء الناس (حاملي الأمراض) ومنهم من يتكون عنده حصيات في المرارة

بسبب هذه الميكروبات، ولبعض الأمراض الأخرى حاملون كالدفثيريا والكوليرا

وغيرهما.

ومن ذلك يُعْلَم أن الحاملين نوعان:

(1)

الحاملون الأصحاء: وهم الذين لم يصابوا بالمرض مطلقًا؛ وإنما كمن

فيهم ميكروبه من غير أذى.

(2)

الحاملون الناقهون: وهم الذين يوجد فيهم الميكروب في أثناء

النقاهة من المرض، أو بعدها بمدة مديدة، ويسمون حينئذ بالحاملين المزمنين.

***

الفطر

نوع من الميكروب له خلايا عديدة، وهو أيضًا من فصيلة النبات، إلا أنه

خالٍ من الكلوروفيل، ويتركب من خيوط دقيقة جدًّا، مشتبك بعضها بالبعض الآخر

بغير نظام - وهو الأكثر - كميكروب القرع، أو ببعض نظام - كما في الفطر

الشعاعي (fungus - Ray) .

وبين هذه الخيوط، أو عند مركزها توجد حبيبات كالتي ذكرت في

الميكروبات السابقة، وهي بزور الفطر، ومن الفطر ما يصيب الجلد فيحدث فيه

أمراضًا متنوعة كالقرع، ومنه ما يصيب الفم أو الرئتين وغير ذلك مما سيأتي بيانه

في باب الأمراض المعدية.

ولخلو الفطر من الكلوروفيل لا يمكنه تحليل غاز ثاني أكسيد الفحم، فهو بذلك

يشبه البكتيريا.

ضرورة الكلوروفيل والشمس للحياة:

اعلم أن الكلوروفيل من أوجب ضروريات الحياة في هذا العالم، إذ بوجوده

في النبات يمكنه تركيب النشاء الضروري لتكوين مواد أخرى كثيرة مما في النبات

وهي ضرورية للحيوانات أيضًا، وذلك بتأثير أشعة الشمس معه في الأجسام،

ويحتاج الكلوروفيل لوجود مادة الحديد في الأرض، وإن كانت لا تدخل في تركيبه،

بخلاف حمرة الدم؛ فإن الحديد داخل فيها.

وإذا تأمل الإنسان في هذا العالم وجد أن الحياة تفاعل في قوى المادة كتفاعل

النار تبعًا لسنن مخصوصة، ومن الصعب أن يضع الإنسان تعريفًا لها جامعًا مانعًا

لدخول مثل النار فيه، فإنها تشبه الأحياء في احتياجها إلى غذاء (وقود) ، وتخرج

منها أجسام كما تخرج إفرازات الأحياء وتنقسم كانقسامها وتتحرك كحركتها إلى غير

ذلك من الصفات المشتركة، إلا أن حركتها لا تدل على شيء من الإرادة كحركة

بعض الأحياء (راجع صفحة 42 و 43 من الجزء الأول) .

هذا - وكان المتقدمون يرون أن الشمس ضرورة لتكون الكلوروفيل في

النبات؛ ولكن وجد أنه قد يتكون بحرارة عالية في الظلام التام، ومن هذا نرى أن

الحرارة أو النار سواء أكانت من الشمس أم من غيرها هي الأصل الأصيل للأحياء

قاطبة، ويصعب فصل مفهوم إحداهما (الأحياء والنار) عن الأخرى بالدلائل

المقنعة.

***

الملائكة

كان القدماء لصغر عقولهم لا يقدرون على الاعتقاد بأن إلهًا واحدًا يمكنه تدبير

هذا الكون العظيم كله؛ فلهذا أشركوا به تعالى غيره فجعلوا لكل شيء إلهًا، وكذلك

لكل قوة من قوى هذا الوجود، حتى جعلوا لبعض أعمال الإنسان آلهة، ومن ذلك

ما نراه من أساطير اليونان مثلاً، فإن لهم إلهًا للرياح، وآخر للحرب، وثالثًا للنوم

ورابعًا للنار، وخامسًا للزواج إلى غير ذلك من الآلهة التي تكاد لا تُعَدّ، ولكل من

هذه الآلهة اسم باليونانية يعرفه العالمون بتلك اللغة.

ولما جاءت الرسل إلى الناس كان من أكبر مقاصدهم أن يردوهم عن الشرك

إلى التوحيد، فأبى أكثرهم ترك ما هم عليه، ومن آمن منهم صعب عليه أن يترك

جميع هذه الآلهة مرة واحدة، فأخذوا يسمونها بأسماء أخرى؛ ولكنهم بقوا معتقدين

بوجودها، وتدبيرها لهذا الكون العظيم، ومن ذلك ما نراه في إسرائيليات اليهود

فإنهم ذهبوا إلى أن لكل شيء في هذا العالم مَلَكًا قائمًا بتدبيره، فقالوا إن للمرض

ملكًا، وكذلك للنار، وللماء، وللوحوش، وللطيور، ولسائر الحيوانات، وللريح

وللرعد، وللشجر لكل منها ملك، وللموت ملكان واحد يقبض أرواح القاطنين

بأرض إسرائيل، وآخر يقبض أرواح غيرهم من الساكنين في سائر البقاع الأخرى

ولم يكفهم ذلك، بل زعموا أن الوباء (الطاعون) إذا انتشر فيهم؛ كان بسبب

ملاك يرسله الله تعالى إليهم، ومن ذلك ما روي في سفر صموئيل الثاني (إصحاح

24: 15 - 17) أن داود رأى الملاك الذي ضرب بني إسرائيل بالوباء فمات

منهم 70 ألف رجل.

وقد دخلت هذه الإسرائيليات في الإسلام مع من دخلوا فيه من أهل الكتاب،

وقال المسلمون بملائكة كملائكة اليهود، مع أن القرآن الشريف لم يثبت إلا وجود

القليل منها كما هو معلوم، على أن لنا في فهم معنى كلمة " مَلَك " وجهًا آخر غير

ما يفهمه أكثر الناس، وذلك أن هذا اللفظ مشتق من (مألك) بضم اللام وفتحها،

وهو اسم الرسالة، وقيل مأخوذ من لفظ (لأك) إذا أرسل، وعليه فكلمة ملك تطلق

على كل رسول [3] .

فما يرسله الله تعالى إلى هذا العالم من المادة، أو قواها يصح لغة أن يسمى

ملكًا بلا نزاع، فالريح يُسمى ملكًا، أو رسولاً من الله؛ ولذلك قال تعالى في الرياح:

{وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً} (المرسلات: 1) والرعد كذلك مَلَك؛ لأنه يرسله الله

تعالى لتخويف عباده، وهكذا مما في هذا الكون من قوى المادة العظيمة كالمغنطيس

والكهرباء، وإلى هذا الرأي يشير قوله تعالى: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ

خِيفَتِهِ} (الرعد: 13) فإن الواجب أن تكون بين المعطوفات مناسبة، فعطف

الملائكة على الرعد يشير إلى أن المراد منها بعض القوى الطبيعية كالكهرباء التي

تحدث الرعد والبرق، ولعدم فهم المفسرين هذه المناسبة في هذا العطف زعموا أن

للرعد ملكًا بالمعنى الذي يفهمونه [4]، ونحن إذا سمعنا قوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم

مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} (السجدة: 11) لا يتعين عندنا أن نفهم منه ما

يفهمون فعزرائيل [5] لم يرد ذكر اسمه في القرآن، ولا في سنة صحيحة، وإنما هو

اسم مشهور عند اليهود كانوا يسمون به بعض الناس وله عندهم عدة صيغ أخرى؛

ولذلك لا نؤمن بوجوده.

والذي أراه أن الميكروبات هي من رسل الله في هذا العالم، فيجوز أن تسمى

ملائكة، ومنها ما يحدث الأمراض المختلفة، ولا تتحلل جثث جميع الموتى إلا

بالميكروبات، فإذا انحلت الجثث خرجت منها غازات، وعناصر، وأجسام متنوعة،

وإذا ذهبنا إلى أن الروح عبارة عن جزء من مادة الأثير متحد بالجسم لا نستبعد

خروج الروح عند انحلال الجسم بسبب عمل الميكروبات فيه، وعلى ذلك يحمل

قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ المَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ

أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ اليَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهُونِ} (الأنعام: 93) الآية.

فغمرات الموت من (غمر) ومعناها وجود الجسم في أشد درجات الموت

التي تغمره، وهو وقت انحلال الجثة، وبسط اليد كناية عما تفعله الميكروبات بها

من التحليل والإفساد، وقد ورد مثل هذه العبارة كناية أو مجازًا حتى في حق من

هو منزه عن الأعضاء والجوارح فقال تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} (المائدة:

64) (وراجع 17: 30) وقوله: {أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ} (الأنعام: 93) هو ما

تقوله الميكروبات بلسان حالها، كما قالت السموات والأرض {أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (فصلت: 11) والتعبير عن الميكروبات بضمير العاقل هو سنة القرآن من أوله

إلى آخره؛ فإنه يعبر غالبًا عن كل ما يعمل عملاً من أعمال العقلاء بضميرهم،

ومن ذلك قوله تعالى في الكواكب وهي أجرام جامدة: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (الأنبياء: 33)، وقوله في الأَصنام:{فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ} (الصافات: 93) لأن المشركين كانوا يعتقدون أنها عاقلة مدبرة.

ولرفع التناقض الظاهري بين قوله تعالى: {مَّلَكُ المَوْت} (السجدة: 11)

بالإفراد، وبين قوله تعالى:{تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} (الأنعام: 61) بالجمع نقول: إن

المفرد المضاف يعم كقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ} (البقرة: 187) أي

لياليه؛ فكذلك يصح أن يكون المراد من ملك الموت ملائكته، أو رسله أي

ميكروباته، وهي عادة من النوع الباسيلي، كما تقدم.

ومن أمثلة ذلك قولهم (حلت دودة القطن بأرض فلان) أي دُودُه، فالمراد

الجنس لا الفرد.

ولا يتوهم أحد مما ذكر أننا ننكر وجود بعض أنواع أخرى من جنود الله التي

لا يعلمها إلا هو، كلا ثم كلا، فإن الإيمان بالملائكة بالمعنى المشهور فرض على

المسلم، ومما يجب علينا الإيمان به أن للوحي ملكًا (جبريل) وهو ليس من قبيل

ما ذكرناه، وإنما مرادنا أن الميكروبات مما يدخل تحت لفظ الملائكة، وليسوا هم

كل الملائكة.

وآية فاطر التي ورد فيها ذكر الأجنحة للملائكة يمكننا أيضًا تطبيقها على

الميكروبات، فقد سبق أن لبعض الميكروبات أهدابًا مثنى (كما في ميكروبات

الكوليرا) فإن لها هدبين أحيانًا في طرف منها، وإذا اجتمع اثنان منها، والتصقا

معًا جاز أن يكون لهما ثلاثة أهداب، ولميكروب الحمى الراجعة أربعة أهداب،

وللتيفود أهداب عديدة، يزيد في الخلق ما يشاء، ولا شك أن الجناح يُطلق على

الجنب، واليد، والعضد، والإبط ومنه قوله تعالى:{وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ} (طه: 22) فلا مانع من إطلاقها على هذه الأهداب التي هي بمثابة الأيدي

للميكروبات، على أننا لسنا في حاجة إلى تطبيق هذه الآية على الميكروبات، فإنه

ليس المراد من كون الميكروبات من الملائكة أن كل ما يسمى ملكًا يكون له أجنحة،

ويكون عاقلاً مكرمًا عند الله، بل المراد أن كل ما هو خاضع لأمر الله يرسله

متى شاء، فهو من ملائكته أي رسله.

هذا - ولا يتوهم من قوله تعالى في سورة العنكبوت مثلاً عن لسان الملائكة

{إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ القَرْيَةِ} (العنكبوت: 31) ونحن أعلم بمن فيها {إِنَّا

مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ القَرْيَةِ رِجْزاً} (العنكبوت: 34) الآيات أن القرآن -

ككتب الأمم الأخرى - يَنْسب إلى الملائكة الأعمال التي تجري في هذا العالم حسب

السنن الإلهية المعتادة، كنسف القرى، وقلب الأرض بالثورات البركانية؛ فإن

هؤلاء الملائكة كانت وظيفتهم قاصرة على إخبار إبراهيم ولوط بما قدره الله لقوم

لوط ولزوجه، وعلى إرشاده إلى ما يجب عمله حتى ينجو مما سيحل بهم؛ وإنما

عبروا بتلك العبارات التي يُفهم منها أنهم أنفسهم هم الفاعلون لكيت وكيت؛ لأنهم

رسل الله أُرسلوا بأمره وإرشاده؛ ليكونوا نائبين عنه تعالى في تبليغ ما أراد للوط

فهم متكلمون عن الله وبلسانه جل شأنه، فالمهلك والعالم بحال الناس، والمنزل

الرجز هو الله الذي أمرهم أن يقولوا عنه ذلك، وقد تقدم لهذه المسألة نظير في

قصة مريم وجبريل عليهما السلام (راجع صفحة 118 من الجزء الأول) ولذلك

قالت الملائكة للوط {إِلَاّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الغَابِرِينَ} (الحجر: 60) كما في

سورة الحجر، مع العلم بأن الله تعالى وحده هو الذي قدر كل شيء؛ وإنما هم

مبلِّغون بأمره عن قدره.

وعليه فالتقدير في سورة العنكبوت هو هكذا: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ

بِالْبُشْرَى قَالُوا} (العنكبوت: 31) تبليغًا عنا {إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ القَرْيَةِ} (العنكبوت: 31) .. {قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا} (العنكبوت:

32) أي قالوا عنا إننا نعلم بمن فيها {وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ

إِلَاّ امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الغَابِرِينَ * إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ القَرْيَةِ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاءِ

بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (العنكبوت:

33-

35) فالمتكلم الحقيقي في كل هذه الآيات هو الله تعالى كما هو ظاهر من

آخرها، والملائكة إنما يرددون هذه العبارات لتبليغها إلى لوط بالنيابة عن الله تعالى،

فافهم ذلك، ولا تكن من الجاهلين.

***

الجن

هذا اللفظ مشتق من مادة الجيم والنون، وهذه المادة تفيد معنى الستر، ومن

ذلك قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} (الأنعام: 76) أي ستره، وأجن

الشيء في صدره أي أكنه، والجنين:المخلوق ما دام في البطن، والجنة:السترة،

والجنان القلب لاستتاره، واستجن أي استتر بستره، والمجن الترس، وكلها تفيد

معنى الخفاء والاستتار، فلفظ الجن يطلق أيضًا على الميكروبات لاستتارها، فهي

ملائكة مرسلة من الله، ومستترة عن أعين البشر.

ومن ذلك حديث (الطاعون وخز أعدائكم من الجن) وفيه إشعار بأن للإنسان

أعداء من غير الجن، وهو صحيح.

ونقول في خلقها إننا إذا لاحظنا أن الميكروبات نباتات، والنباتات سابقة

لجميع الحيوانات، فهي مخلوقة من الأرض بعد أن أخذت في البرودة.

وإذا لاحظنا أن القرآن الشريف نص على أن الله تعالى جعل من الماء كل

شيء حي، أمكننا أن نقول إنها خُلقت باتحاد بعض العناصر مع الماء أو بخاره في

وقت كانت الأرض فيه شديدة الحرارة ، أو آخذة في البرودة.

ولا يخفى على المطلعين على العلوم الطبيعية أن الراجح أن الأرض كانت

شعلة من النار مشتقة من الشمس، فإذا قلنا: إن هذه النباتات هي أول ما كُوِّن من

الأحياء في الأرض فهمنا معنَى أنها مخلوقة من النار، إذ ليس معنى هذا الخلق أنها

خُلقت مباشرة منها، بل خلقت أطوارًا، كما أن الإنسان لم يُخلق مباشرة من التراب،

بل خُلق منه طورًا بعد طور، فالحق أن جميع الأحياء مخلوقة من الأرض ،

والأرض مخلوقة من النار، ولما كانت النباتات أول المخلوقات كانت أسبق منا إلى

طور النار، وأقرب بها عهدًا منا، على أنه ليس المراد بكون الميكروبات أو

غيرها من الجن أن كل ما يسمى جنًّا مخلوق من مادة واحدة، بل معناه أن كل ذلك

من العوالم الخفية المجتنة.

***

العدوى

قبل الكلام في هذا الموضوع يجب أن نذكر ما ورد من الأحاديث المثبتة

للعدوى والنافية لها، ثم نجمع بينهما بما يفتح الله به علينا.

فمن الأحاديث المثبتة للعدوى: (قوله صلى الله عليه وسلم : (كَلِّمْ المجذوم

وبينك وبينه قدر رمح أو رمحين) [6] وقوله صلى الله عليه وسلم : (إن كان

شيء من الداء يعدي فهو هذا) يعني الجُذام (وقوله صلى الله عليه وسلم :

(اتقوا المجذوم كما يُتقى الأسد) وقوله صلى الله عليه وسلم لرجل مجذوم كان

في وفد ثقيف: (ارجع فقد بايعناك) وقوله صلى الله عليه وسلم : (إذا سمعتم

بالطاعون بأرض فلا تخرجوا منها فرارًا منه) وهذا الحديث يصح أن يعتبر مبدأ

يجري عليه الناس في مسألة الحجر المسمى باللاتينية (Quarantine) ومعناه

الأصلي (أربعون) لأن السفن الآتية من البلاد الموبوءة كانت تمنع من الاقتراب

من شاطئ البلاد السليمة مدة أربعين يومًا، فالرسول صلى الله عليه وسلم يريد

بهذا الحديث أن يعمل المسلمون أيضًا مثل هذا الحجر على البلاد الموبوءة، فلا

يدخلوا فيها لئلا يصابوا، ولا يخرج الناس منها لئلا ينشروا العدوى بين الآخرين.

وورد أن أبا عبيدة قال لعمر حينما خاف من طاعون الشام: أفرارًا من قدر

الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نعم فرارًا من قدر الله إلى قدر الله،

وورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يُورَدَن مُمرض على مُصح)

وفي لفظ (لا يوردن ذو عاهة على مصح) .

ومن الأحاديث النافية للعدوى: - قوله صلى الله عليه وسلم : (لا يعدي

شيء شيئا فمن أجرب الأول؟ لا عدوى ولا صفر، خلق الله كل نفس فكتب حياتها،

ورزقها، ومصائبها) ، وفي حديث آخر (فمن أعدى الأول؟) وقوله - صلى

الله عليه وسلم - (لا عدوى ولا هامة، ولا صفر، ولا يحل الممرض على

المصح، وليحل المصح حيث شاء. قيل: ولم ذاك؟ قال لأنه أذى. وقوله: لا

عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، قيل: يا رسول الله! أرأيت البعير يكون به

الجرب؛ فيجرب الإبل كله؟ قال - ذلكم القدر، فمن أجرب الأول؟) .

هذا شيء مما ورد في هذه المسألة، وقبل الخوض فيها يجب أن نتذكر ما

روي عن أنس أن الرسول قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم فعلى فرض أننا لا يمكننا

تأويل الأحاديث النافية للعدوى، فالمسلم لا يتحتم عليه أن يأخذ بها - كما سبق في

صفحة 165 من الجزء الأول - فإنه أَدْرَى بأمور دنياه يأخذ منها ما ثبت عنده

بالبرهان، على أننا إذا راجعنا جميع هذه الأحاديث ظهر لنا أن النبي - صلى الله

عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم كانوا يعتقدون بالعدوى كما هو صريح

ما ذكرناه منها.

أما نفي العدوى فيقال فيه ما يأتي:

العدوى لغة: هي انتقال المرض من شخص إلى آخر، وكانت العرب تعتقد

أن المرض لا يأتي إلا من مريض؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لهم فمن

أعدى الأول؟ ، ولا يخفى أن المرض عرض لا يمكن أن يقوم بذاته، وعليه

فيستحيل أن ينتقل المرض من شخص إلى آخر، وهذا مما يُفهم من قوله (صلى

الله عليه وسلم) لا عدوى أي لا ينتقل المرض، وهذا حق.

أما انتقال جراثيمه، فهو أمر كانت تجهله العرب، فلم يكن حديثهم، ولا

حديث الرسل فيه، وأيضًا قد ينتقل الميكروب، ولا يحدث المرض كما سبق في

باب الوقاية، فليس انتقال الميكروب شرطًا لحدوث المرض، ومن الميكروبات ما

يكون منتشرًا في الهواء أو الطين أو غيرهما، وهي التي أصابت الأول المذكور

في الحديث [7] ، والميكروبات التي تصل إلى الإنسان لا تحدث فيه المرض إلا إذا

كان مستعدًّا له، والاستعداد يكون بأسباب وأحوال أرادها الله تعالى، وجعل السبب

فيها على قدر المسبب، وذلك ما يسمى بالقدر في الأحاديث، فالأساس الأصيل في

حدوث الأمراض هو القدر، ولولاه لما فعلت الميكروبات بالجسم شيئًا مطلقًا،

وحكمة ذكر هذه الأحاديث بعد نصه صلى الله عليه وسلم على وجوب الابتعاد

عن المرضى، وتعليله ذلك بأنه أذى، أي ضرر، هي أن الإنسان يجب عليه أن

لا يتغالى في أمر العدوى بمجرد اقترابه من المريض؛ فإن ذلك يحدث في الجسم

وهمًا، ووسوسة، قد يؤديان إلى ضعف حقيقي في الجسم أو العقل، ويؤدي بالناس

إلى الامتناع عن تمريض المريض، أو معالجته لمجرد الوهم، وفي ذلك ما فيه من

الضرر.

ولذلك تجد الأطباء لا يبالون بالوسوسة في أمر العدوى، ويقابلون كل مريض

ويقتربون منه أشد القرب، بل ويمسكون بأيديهم ما فيه الميكروبات، ولا يجبنون

فإن العاقل يجب أن لا يكون جبانًا، ولولا ذلك لما تقدمت الأبحاث العملية كل هذا

التقدم.

والخلاصة أن الخوف من العدوى يجب أن يكون في دائرة العقل، فلا يجوز

أن يفرط الإنسان فيها، ولا يجوز أن يفرط من الرعب منها؛ فإن ما قدر الله

للإنسان من حيث قوة بنيته أو ضعفها ومقاومتها للأمراض، لا بد أن يكون، وإذا

فرض أن امرأ كان مستعدًّا لمرض لما أتاه المرض من حيث لا يحتسب؛ فلذا كان

الواجب الاعتدال في العدوى كما هو واجب في كل شيء.

وعبارة عمر رضي الله عنه السابقة في القدر، صريحة في وجوب

العناية بأوامر الطب وعدم مخالفتها اعتمادًا على القدر، وهي من أعلى الحكم

الفلسفية.

ومن مضار شدة الوسوسة في مسألة العدوى أن الموسوس يمتنع عن ملامسة

كل شيء مما في هذا العالم إلا بشروط مخصوصة توجب الإعياء والإعنات، فمثلا

يتجنب لمس النقود ونحوها كالأوراق المالية، ويتجنب محادثة الناس واستنشاق

الهواء خوفًا من أن يكون مر على مرضى أو موتى، ويتجنب الأكل، أو الشرب،

أو النوم، أو الركوب في الحضر والسفر حيث يفعل الناس كل ذلك، وفيه من

الضرر البليغ ما لا يخفى على المفكر.

أما الصَّفَر (بفتحتين) فهو ما كانت تزعمه العرب من أن في البطن حية

تعض الإنسان إذا جاع، واللذع الذي يجده عند الجوع من عضها ، وهذه الحية لا

وجود لها في الإنسان السليم، وإنما قد يوجد في البطن أنواع كثيرة من الديدان،

منها نوع يشبه الثعبان الصغير؛ ولكنه غير موجود في جميع أفراد الإنسان كما

توهموا، وليس هو السبب في الإحساس بالجوع كما كانت تزعم العرب، وقيل:

إن معنى (لا صفر) أن الأمور الرديئة لا تقع في صفر دون غيره من الشهور،

بل هو كغيره، ولاعتقاد العرب أن هذا الشهر مشؤوم كانوا يحرمونه، ويستحلون

المحرم بدله.

فأنت ترى من كلا التفسيرين أن ليس المراد نفي (صَفر) مطلقًا، بل نفي ما

كان تعتقده العرب فيه، سواء أكان اعتقادهم أنه دودة في بطن كل امرئ تحدث

عنده الجوع، أم كان شهرًا مشؤمًا دون الشهور، فكذلك ليس المراد من نفي العدوى

نفيها مطلقًا، بل نفي ما كانت تعتقده العرب فيها من أن الأمراض تنتقل بنفسها،

وأنه يتحتم حصول المرض بمجرد الاقتراب من المريض، وأنه لا مرض يصلح

إلا من مريض سابق، وكلها أوهام باطلة نفاها رسول الله صلى الله عليه وسلم

وهو محق في ذلك كل الحق كما نفى الصفر، وكما نفى الهامة.

وأما الهامة فهي لغة الرأس، وطير من طيور الليل يسمى الصدى، وهو ذَكَر

البوم، وهو المراد في الحديث، وكانت تزعم العرب أن روح القتيل الذي لا يُدرك

بثأره تصير هامة، وتصيح على قبره -: اسقوني! اسقوني! ، فإذا أُدرك بثأره

طارت، وهذا أيضًا من الخرافات التي جاء الإسلام بتطهير العقول منها.

***

استدراك على حياة الميكروبات

ظهر مما سبق أن العلماء يعتقدون أن الميكروبات خالدة - كما يعبرون - وهم

كذلك يعتقدون أن المادة وقواها خالدة، أفليس من أعجب العجب بعد ذلك أن يعتقدوا

أن الإنسان غير خالد مع أنه أرقاها، ولم تعتن الطبيعة بمخلوق اعتناءها به؟ -

كما يقولون - أليس في محافظة الميكروبات على نوعها بالحبيبات (Spores)

إشارة لنا إلى أن روح الإنسان هي كحبيبة الميكروب؟ وكما أن الميكروب ينتقل

بذلك من طور إلى طور، فكذلك الإنسان ينتقل بروحه من طور إلى آخر.

فهل بعد ذلك يكون في عقيدة البعث شيء من الغرابة أو المنافاة لسنن الكون

حتى ينكرها المنكرون؟ ! .

***

الأحياء الطفيلية أو التسلقية

هي التي تتسلق غيرها (أي تعلوه) ، وتتطفل عليه فتتغذى منه، وهي نباتية

وحيوانية، والنباتية أكثرها فتكًا بالإنسان وغيره، وأشدها خطرًا.

النباتية:

تشمل بعض أنواع البكتيريا التي يتركب أكثرها من خلية واحدة -كما سبق-

والفطر الذي يتركب من خلايا متعددة - وقد تقدم البيان الشافي عنهما - ويلاحظ

في هذه الأحياء النباتية والحيوانية أنها كلما دقت وصغرت كانت أشد خطرًا من

الكبيرة، ولله في خلقه شؤون، فكأنه تعالى قد وضع سره في أصغر خلقه (كما

تقول العامة) .

الحيوانية، وأشهر أنواعها:

(1)

ذوات الخلية الواحدة، وتسمى بالإفرنجية (Protozoa) ، وهو

لفظ يوناني معناه الحرفي (الحيوانات الأولى) ، وأشهر أمثلتها جرثومة (الملاريا)

وتسمى بالعربية (النافض) أي ذات الرعدة، وأحد نوعي (الدوسنطاريا) وتسمى

بالعربية (الزحار) أي التي تحدث الزحير، وبعض الحلزونيات كحلزوني

الزهري، والحمى الراجعة، وهذه هي التي تنقسم بالطول - كما قلنا - بخلاف

البكتيريا؛ فإنها تنقسم بالعرض، وذلك من أهم ما يميز الواحد منهما عن الآخر.

(2)

حشرات صغيرة مركبة من خلايا عديدة، تكوِّن حيوانًا صغيرًا مثل

أكروس الجرب والقردان، كما في بلاد السودان (Ticks) ، وهو جمع قُراد،

وكلاهما من الفصيلة العنكبوتية.

(3)

حشرات كبيرة كالقمل والبراغيث والبق.

(4)

النَّغف: وهو الذي يسميه الأطباء المحدثون (اليرقات) ، وهي الدود

الذي يخرج من بيض بعض أنواع الذباب، ويعيش في جلد الإنسان أو أذنيه، أو

أنفه.

(5)

الديدان بأنواعها والأكياس الدودية: ومن أشهر أنواع الديدان:

...

(أ) المعوية: كالدودة الشريطية.

(ب) الدموية: كالبلهارزية وهي دودة اكتشفها في مصر الباحث الشهير

ثيودور بلهارز (Bilharz Theodor) سنة 1851، وهي توجد في بعض

أوردة الإنسان (كالوريد الباب) وهي السبب في ما يصيب أكثر المصريين من

البول الدموي، أو البراز الدموي أيضًا.

(ج) اللمفاوية: كالفلاريا (Filaria) وهي كلمة مأخوذة من اللاتينية

ومعناها الخيط، وهذه الدودة هي السبب في البول اللبني، وداء الفيل.

(د) الصفراوية: كالدودة الورقية (Hepaticum Distoma) التي

توجد في مرارة البهائم، ومجرى المِرّة (الصفراء) فيها، وقد توجد في الإنسان

نادرًا، وهي تشبه الورقة الصغيرة شبهًا تامًّا، وطولها نحو 25 مليمترًا، وعرضها

12 مليمترًا، وتكون مطوية على نفسها، وقد تسد مجرى الصفراء في الإنسان؛

فتحدث عنده اليرقان، وتنزل الصفراء في بوله.

(هـ) الجلدية: كالعرق المدني، وهو نوع من الفلاريا يسكن تحت جلد

الإنسان خصوصًا في أرجله، وهي كثيرة الوجود في سكان المدينة المنورة، وبلاد

الهند، وغينيا (بأفريقية) ، والسودان.

(و) العضلية: كدودة الشعرة الحلزونية (Spiralis Trichina) طول

الذكر منها 1.5 مليمتر، وطول الأنثى نحو 3 مليمترات، وهذه الدودة تسكن

كبارها في أمعاء الإنسان، وصغارها في عضلاته، وإنما ذُكرت على حدة؛ لأن

وجودها في الأمعاء لا ينشأ عنه ضرر يذكر، وكل الضرر من وجود صغارها في

العضلات؛ فإنها تحدث ألمًا شديدًا، وحمى تشبه الحمى التيفودية، والمرض

الناشئ منها شديد الخطر على الحياة، وصغار هذه الدودة التي تسكن العضلات

تُرى فيها بالعين المجردة كنقط مبيضة صغيرة جدًّا، طولها جزء من ثمانية وسبعين

جزءًا من البوصة، وهذه النقط هي الديدان، وما أحاط بها من الغلف، وتصل هذه

الدودة إلى الناس من أكل لحم الخنزير، ويكثر وجودها بعض الكثرة في بلاد ألمانية

لكثرة أكل أهلها لحم الخنزير، وتصاب الفئران بهذه الدودة أيضًا؛ فتنتشر في

عضلاتها، والفئران يأكل بعضها البعض الميت؛ فتنتشر الدودة بينها، وهي تأوي

إلى زرائب الخنازير، وتموت فيها، والخنازير مولعة بأكلها أيضًا؛ فينتشر فيها

المرض لذلك، ومنها يصل إلى الإنسان، وسيأتي - إن شاء الله - البيان الشافي

عن جميع هذه الديدان، وتواريخ حياتها، والأمراض التي تنشأ عنها تفصيلاً.

***

الأمراض التي تنشأ من الأحياء الطفيلية

(مقدمة في الحمى)

ذكرنا في الجزء الأول (صفحة 11و12) حقيقة الحمى، ومنشأها، وغير

ذلك مما يتعلق بها إجمالاً، ونريد الآن أن نفصل القول فيها تفصيلاً، فنقول:

الحمى هو ارتفاع حرارة الإنسان عن الدرجة الطبيعية، وتكون مصحوبة

بأعراض كثيرة تصيب أجزاء الجسم المختلفة، وإليك تفصيلها:

الجلد:

يكون ساخنًا وجافًّا غالبًا، وقد يُندى بالعرق، وفي بعض الحميات يكون

العرق غزيرًا، ولون الوجه محمرًّا، وفي بعضها يظهر في الجلد ما يسمى

(بالطفح) وهو أنواع كثيرة، منها نقط حمراء تزول بالضغط عليها، أو نقط ناشئة

من نزف تحت الجلد، وهذه لا تزول بالضغط، ومنها بثور كما في الجدري،

والظاهر أن سموم الميكروبات تحدث شللاً في الأوعية الدموية للجلد أثناء محاولتها

الخروج من البنية أو تحدث تهيجًا أو التهابًا في الجلد؛ فينشأ من ذلك الشلل، أو ذلك

التهيج أو الالتهاب أنواع من الطفح تختلف باختلاف كل مرض، وسيأتي بيانها، وفي

بعض الحميات التي يكثر فيها العرق كالحمى التيفودية والرثية (الروماتزم) تشاهد

حبوب صغيرة جدًّا في الجلد ممتلئة بسائل رائق، وهي تتكون من ارتفاع الطبقات

العليا للبشرة بتراكم العرق تحتها.

الجهاز الهضمي:

يكون اللسان مغطى في أول الأمر بطبقة بيضاء، ثم يجف، وتزول هذه

الطبقة من مقدم اللسان وحوافيه؛ فيرى لونه أحمر، ثم يشتد الجفاف، ويسمر لون

اللسان، ويتشقق، وتجتمع عليه وعلى الأسنان والشفتين أوساخ مسودة، ويفقد

المصاب شهوة الطعام، وقد يصيبه القيء، ويكون الهضم ضعيفًا جدًّا، ويمسك

البطن، ويعظم حجم الطحال.

الدورة الدموية:

يسرع القلب في ضرباته في أول الأمر، ثم يضعف، ويصل النبض إلى 80

أو 120 فأكثر في الدقيقة، وتتمدد عضلة القلب بسبب الضعف.

التنفس:

يسرع أيضًا التنفس، فيصل إلى 30 أو 40 مرة في الدقيقة، وإذا طالت مدة

الحمى تحتقن قاعدتا الرئتين، وتكثر النزلات الشعبية أو الرئوية.

البول:

يقل مقداره، ويشتد لونه، وترسب فيه أملاح حمراء من حامض البوليك،

وتكثر البولينا، وتكون أملاح الكلوريد (كملح الطعام) قليلة عادة خصوصًا في

التهاب الرئة، أما في الملاريا فتزيد هذه الأملاح عند ارتفاع الحرارة فيها.

الجهاز العصبي:

يكثر الصداع في أول الحمى، ويشعر الإنسان بتكسر في جميع الجسم،

ويسأم كل عمل جثماني أو عقلي، وبعد قليل يصيبه ضعف في قواه العقلية، ويميل

إلى النعاس، وإذا نام ابتدأ يهذي، وبعد ذلك يكثر الهيجان، ويزول النوم ويشتد

الهذيان؛ فيكثر المريض من اللغو، ويصاب بما يشبه الجنون، وقد يقوم من فراشه،

ويتشاجر مع ممرضيه أو أطبائه، وقد يحاول أن يلقي بنفسه من نافدة المكان، ثم

تهمد قواه، ويصاب بالغيبوبة؛ فيفقد كل شعوره، وقبل تمام الغيبوبة يصاب

بارتعاش في حركاته، وتقلص في العضلات (يسمى بالاهتزاز الوتري) ويلتقط

أشياء وهمية يراها أمامه في الهواء، وينتهي الأمر به إلى أن يتبرز بدون شعوره،

ولعدم إحساس المثانة بما فيها يتراكم البول حتى تُفْعَم به.

(اختلاف الحرارة اليومي)

كما أن الحرارة الطبيعية تختلف في المساء عن الصباح [8] ، كذلك حرارة

المحموم تكون غالبًا في المساء أعلى منها في الصباح، وفي بعض الأمراض تكون

بالعكس؛ فترتفع صباحًا، وتنخفض مساء، ويسمى ذلك (بالطراز المقلوب)

(Inversus Typus) كما في الدرن العام المسمَّى بالدرن الدخني.

ومن الحرارة ما يكون دائم الارتفاع بكثير عن الدرجة الطبيعية، ومنها ما

يقرب في الصباح من الدرجة الطبيعية، ومنها ما تصل في الصباح إلى الدرجة

الطبيعية أو تحتها؛ ولكن ترتفع في المساء كثيرًا، وعند ارتفاعها يزداد التنفس

والنبض كما سبق، وقد تحصل للمحموم قشعريرة لإحساسه بالبرد، وإن كانت

درجة الحرارة في الحقيقة عالية؛ ولكن لانقباض أوعية الدم التي في الجلد يحصل

له هذا الإحساس بالبرد.

ومن الحميات ما يزول بالتدريج؛ فتأخذ الحرارة في النقص يومًا بعد يوم

حتى تصير طبيعية، ومنها ما يزول دفعة واحدة؛ فيشفى الإنسان في ظرف 12

ساعة أو 36 ساعة، وعندئذ قد يصاب الإنسان بالإسهال، أو بالعرق الغزير أو

يحصل له الرُّعاف، ويسمى انخفاض الحرارة الفجائي (بالبحران) وبعد انخفاض

الحرارة قد تبقى بضعة أيام أقل قليلاً من الدرجة الطبيعية.

(درجات الحرارة المختلفة)

درجة الهمود أو الهبوط

...

35.5ْ أو أقل

الدرجة التي تحت الطبيعية

... 36.4 ْ

الطبيعية

...

...

36.5ْ إلى 37.2ْ

الحمى الخفيفة ما كانت فوق

... 37.5 ْ بقليل

الحمى الشديدة

...

...

39ْ إلى 40ْ

الحممى الأشد

...

...

40ْ إلى 43ْ وفي النادر جدًّا 44ْ

فإذا زادت الحرارة على 44 درجة، فلا أمل في الحياة غالبًا، ما لم تُستعمل

أشد العلاجات الفعالة، وهي التبريد السريع بالماء والثلج.

(الموت بالحميات)

يحصل الموت - إما من نهك الحمى للقوى بسمها، مع طول المرض أو بشدة

تسمم الدم في أيام قليلة - أو من زيادة الحرارة زيادة فاحشة كأن تصل إلى 44 مثلاً،

واعلم أن طول التعرض لحرارة فوق 40ْ سنتجراد يقتل (البروتوبلازم) ويجمده،

ويسمى ذلك بتيبس الحرارة Heat Rigor)) (انظر ص 15 من كتاب

فسيولوجيا هليبرتون) (Hallibtrton) - أو من شلل القلب - أو من

المضاعفات الرئوية، أو غيرها.

ويكون الدم بعد الوفاة رقيقًا مسودًّا، وتقل كرياته الحمراء، وتكثر البيضاء

وتشاهد أنزفة نقطية كلدغ البراغيث (Petechiae) ، أو أكبر في الأغشية

المصلية كالبليورا أو الشفاف، أما الأحشاء (الكبد والحال والكُليتان) فتكون كبيرة

رخوة، ويحصل في خلاياها استحالات [9] حبيبية أو دهنية، وكذلك تصاب

العضلات بتلف في منسوجها، سنتكلم عليه في بحث الحمى التيفودية.

(المضاعفات والعواقب)

كثيرًا ما يطرأ على الإنسان في أثناء الحمى بعض أعراض أخرى مرضية

تزيد المرض شدة فوق شدة، وقد يصاب الإنسان أيضًا بعدها ببعض أمراض تكون

كالنتيجة لها، ويسمى النوع الأول بالمضاعفات، ومثاله التهاب البريتون في الحمى

التيفودية، ويسمى النوع الثاني بالعواقب أو العقابيل، كالشلل عقب الدفثيريا؛ فإنه

يصيب المريض بعد شفائه منها ببضعة أيام أو أسابيع.

(معالجة الحمى)

يوضع المريض على فراشه ليستريح راحة تامة في مكان صحي طلق الهواء

وتخفف عنه أغطيته وملابسه - بعكس ما يتوهم الجاهلون - نعم ينبغي أن تدفأ

الأطراف السفلى خصوصًا إذا ضعفت قوى المريض، وأصابتها البرودة.

والغذاء يكون من السوائل المغذية السهلة الهضم مثل اللبن والمرق [10] ، وماء

الشعير، ولا بأس من طبخها بقليل من دقيق بعض الحبوب أو بمسحوق ناعم من

الخبز الإسفنجي الهش، ويحسن تحلية اللبن بالسكر، أو عسل النحل المصفى،

ويعطى للمريض أيضًا المياه الغازية؛ فإنها نافعة للمعدة، ومن المستحسن أيضًا

إعطاؤه بعض الأشربة الحلوة كشراب التمر الهندي، والسكر مع الليمون، وعصير

البرتقال المصفى، ويشترط في هذه السوائل الحامضة أن يُفصل بينها وبين تعاطي

اللبن بنحو ساعتين لئلا يتجبن؛ فيتقيأه المريض، وليشرب من الماء ما يريد فإنه

منعش مغذٍّ غاسل للسموم، واللبن الخاثر (لبن الزبادي) نافع جدًّا، ومن أسهل

الأغذية هضمًا وأنفعها أن يُمزج بياض بيضتين بنحو ربع لتر من ماء راشح،

ويحلى بعسل النحل النقي، ويضاف عليه جزء من عصير الليمون، ثم يثلج

ويشرب منه المريض، ويجب أن تعطى هذه السوائل المغذية بمقادير صغيرة في

فترات قصيرة متعددة، كأن يعطى له اللبن قدر ملء خمسة فناجين كل ساعتين مرة،

ويكون مقداره في اليوم نحو ثلاثة أرطال (مصري) أو أربعة، وتبريده بالثلج

محمود كثيرًا.

ولا يتوهمن أحد أنه يوجد لأكثر هذه الحميات الآن دواء قاطع لسيرها في

الحال [11] ، بل لا بد أن تتم أطوارها، وإنما يمكننا تخفيف وطأتها، وإضعاف شدتها

لكيلا تفسد الأحشاء، وكذلك يمكننا ملافاة كثير من أعراضها الخطرة كالتهاب الرئة

أو ضعف القلب، أو ما ينشأ من بعضها من الأنزفة كالنزف المعوي في الحمى

التيفودية.

ومن الأدوية ما يخفض الحرارة مؤقتًا بعد استعماله بساعتين أو ثلاث

ككبريتات الكينين (من 20 إلى 30 قمحة) ولكن استعمال الماء البارد أفضل من

جميع هذه الأدوية، وطريقة ذلك أن تؤخذ حرارة المريض كل 3 ساعات مرة،

وكلما وُجدت 39ْ فأكثر يوضع في الماء البارد مدة 10 دقائق أو 15 دقيقة، ثم

يُرفع منها، وينشف جيدًا، ويوضع على فراشه بالراحة، فنجد أن الحرارة صارت

طبيعية، أو أقل؛ ولكنها لا تلبث إلا قليلاً وترفع، وكلما عادت عدنا، ويجوز أن

يُلف المريض مدة ربع ساعة بمثل ملاءة بعد غمسها في الماء المثلوج، لا يخيفنا

من استعمال الماء البارد إلا أشياء قليلة جدًّا، وهي الهمود الشديد، والنزف المعوي

، والمضاعفات الرئوية البالغة، وظاهر أنه في حال الهمود أو النزف الشديد تكون

الحرارة منخفضة، وإذًا يكون استعمال الماء البارد لا مسوغ له من أول الأمر،

وفائدة هذا التبريد تحسين الأعراض عمومًا، وتقليل حدوث المضاعفات،

والاستحالة الحبيبية للأعضاء.

وإذا أصاب المريض همود في قواه يتعين استعمال المنعشات، وأقربها إلينا

القهوة والشاي والخمر؛ ولكن يشترط في استعمال الخمر أن لا تعطى بمقادير كبيرة

لأيام كثيرة، وإلا حدث منها سرعة في النبض، وشدة في الهذيان، ومقدارها

المعتاد من 2-8 أواقي (أو فناجين قهوة) في اليوم.

ومن الأدوية التي يستعملها الطبيب النافعة في الهمود الديجيتالا [12] ،

والنوشادر، والأثير، والإستركنين، ويستحسن إعطاء شيء من الببسين مع

حامض الهيدروكلوريك [13] لتقوية هضم المعدة لقلة إفراز هذين الجوهرين في

الحميات، ويجب عند ابتداء المرض في جميع الحميات أن يعطى مسهلاً كالملح

الإنكليزي، أو زيت الخروع لتنظيف القناة الهضمية والجسم.

وإذا تعذر تغذية المريض في أثناء الغيبوبة غُذي بالحُقن الشرجية المغذية،

وحقن بالمنبهات، وبمحلول ملح الطعام الطبيعي؛ فإنه منعش مدر للبول مزيل

لبعض سموم الميكروبات، وغرقئ (بياض) البيضة إذا حقن في الشرج مع جرام

ملح امتص منه، ونفع المريض.

(تنبيهان)

الأول: في جميع الحميات يجب عزل المريض في مكان خاص، بحيث لا

يختلط به أحد من الناس مطلقًا إلا القائمون بتمريضه أو مداواته، ولا يُسمح لأحد

بزيارته، وذلك واجب طبًّا وقانونًا منعًا لانتشار العدوى بين الناس، وليس فيه

مخالفة لآداب الإسلام في عيادة المريض، فقد ذكرنا من الأحاديث، ومن أقوال

الصحابة كعمر رضي الله عنه ما يدل صريحًا على أن الإنسان إذا خشي

العدوى وجب عليه أن يتَّقي القرب من المريض، على أن الحميات إذا اشتدت

أحدثت ذهولاً عند المريض، بحيث لا يقدر على تمييز زائريه أو محادثتهم بالعقل

والحكمة، وأيضًا فمن آداب عيادة المريض في الإسلام أن لا يُطيل العائد المُكث

عنده حتى لو كان مرضه غير معدٍ؛ لأن ذلك يكون سببًا في مضايقة المريض،

وفي الحديث أن قومًا شكوا إليه صلى الله عليه وسلم وباء أرضهم فقال: (تحولوا فإن

من القرف التلف) .

والقرف مداناة المريض، فصريح هذه الحديث يدل على وجوب البعد عن

المرض لاجتناب التلف.

الثاني: الواجب أن يطهر الطعام الذي يعطى للمرضى بالغلي جيدًا، ثم يبرد

بسرعة؛ فإن من الميكروبات ما يسمى (محب الحرارة)(Thermophilic) ؛

وذلك لأنها تتكاثر في حرارة 60ْ إلى 70ْ سنتجراد، فإذا لم يطهر اللبن مثلاً بالغلي،

ولم يُبرَّد سريعًا انتهزت هذه الميكروبات فرصة سخونة اللبن إذا تُرِك يَبرد بنفسه؛

فتتكاثر فيه، وتُحْدِث مواد تؤذي الصحة، وهذه الميكروبات توجد في الطين

والماء وغيرهما، ومنهما تصل إلى اللبن، فلذا يجب قتلها بالغلي.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

هذا لا ينافي أن أكثرها يمكن تربيته تربية صناعية على أشياء غير حية كالمرق، كما تقدم.

(2)

قد تمتد مدة التفريخ في الجذام إلى عشر سنين، وفي الكلب إلى عشرين سنة.

(3)

المنار: ما قاله الكاتب في هذا البحث ضعيف لغة وشرعًا، إلا أنه مذهب له واصطلاح خالف فيه الناس كما قال؛ ولكن له فائدة لأجلها أجزنا نشره، وهي أن المغرورين بما أصابوا من علم البشر القليل بشؤون الكون يتوهمون أنهم بذلك القليل من القليل قد أحاطوا علمًا بهذا العالم العظيم وبخالقه أيضًا، وأن ما لا ينطبق على علمهم لا يكون صحيحًا، وإن كان ممكنًا في نفسه، فمثل هذه التأويلات تقطع ألسنة هؤلاء الواهمين المغرورين دون الاعتراض على النصوص، أو تزيل شبهاتهم فلا يصعب عليهم الجمع بين علمهم، وبين الدين، ولأن يكون أحدهم متدينًا مؤولاً، خير من أن يكون زنديقًا معطلاً أما بيان ضعف ما ذكر لغة فلأن الألفاظ التي صارت حقيقة شرعية أو عرفية لا يجوز أن يدخل في مفهومها كل ما يناسب الأصل الذي اشتقت منه، وأما ضعفه شرعًا فهو أظهر، والملائكة من عالم الغيب الذي يجب على كل مؤمن الإيمان به كما ورد في خبر الوحي من غير تأويل ولا تحريف، ويكفي في ذلك كونه ممكنًا عقلاً، والإيمان بالملائكة هو الركن الثاني من أركان الإيمان، والأول هو الإيمان بالله تعالى، فهل يدخل في مفهومه هذه الميكروبات التي يصفها الكاتب بالدنيئة الحقيرة؟ كلا، وأما إدخالها في مفهوم كلمة الجن فليس ببعيد لغة، ولا ممنوع شرعًا، فقد ورد في الآثار أن الجن أنواع ومنه ما هو من خشاش الأرض، ولا مانع في العقل، ولا العلم من كون بعض عوالم الغيب من الملائكة موكلاً ببعض شؤون الكون، وسببًا له، وتفصيل هذا البحث لا تتسع له هذه الحاشية.

(4)

إن قول بعض المفسرين بأن الرعد ملك لم يكن مخترعًا ومستنبطًا بسبب عدم فهم ما فهمه الكاتب، بل هي رواية نقلها أهل التفسير المأثور الذين ينقلون كل ما بلغهم، وتلك منة لهم علينا وهم لم يصححوها، وتسبيح الرعد من قبيل تسبيح الجبال في سورة ص، وتسبيح كل شيء في سورة بني إسرائيل.

(5)

معناه في العبرية من يعينه (يهوه) أي الله.

(6)

يقول الأطباء إن ميكروب السل يندر وجوده في الهواء حول المصاب بعد متر ونصف منه، وربما كان الأمر كذلك في الجذام.

(7)

المنار: إن من يمرض بوصول الميكروب إليه من الهواء أو الطين لا ينطبق عليه تعريف العدوى السابق، فإن قيل: إن الميكروب الذي كان في الهواء أو الطين قد انتقل إليهما من شخص مصاب نقول: ومن أعدى أول من أصيب بذلك المرض من البشر أو من الحيوان؟ لا يمكن الجواب عن هذا السؤال إلا بنفي حصر المرض بالعدوى المعروفة، وإثبات أن من المرض ما حدث بأسباب أخرى، إلا إن أمكن إثبات أن أول البشر مثلاً كان مصابًا بجميع الأمراض المعدية، ولن يثبت هذا أبدًا.

(8)

سبب ذلك أن عمل جميع أعضاء الجسم في هذا الوقت يكون أقل بكثير من عملها في سائر الأوقات، وإذا عكس الحال بأن اشتغل الناس ليلاً تصير الحارة مرتفعة صباحًا إلى الثانية بعد الظهر وتبقى على حالتها إلى السابعة أو الثامنة مساء، ثم تنخفض إلى الثانية بعد نصف الليل، وتبقى كذلك إلى الساعة السابعة صباحًا.

(9)

وذلك بتحول بروتوبلازم الخلايا إلى حبيبات دقيقة جدًّا، وهي خطوة في سبيل الاستحالة إلى شحم وبذلك يبطل عمل هذه الخلايا.

(10)

يقال إن المرق قد يزيد الإسهال في بعض أحوال الحمى التيفودية ، وإنما تستعمل السوائل السهلة المغذية في الحميات لضعف المريض عن المضغ والبلع، ولجفاف الأعضاء وضعفها وقلة العصارات الهاضمة.

(11)

ولكن في مثل الحمى الراجعة تقطع سيرها حقنة 606 في 7-20 ساعة، والكينين يزيل حمى الملاريا في الغالب.

(12)

هي كلمة لاتينية معناها الإصبع لأن أزهار هذا النبات كالأصابع.

(13)

لذلك كان اللبن الخاثر (لبن الزبادي) من أفضل الأغذية للمحموم لوجود حامض اللبنيك فيه فيسهل هضمه لذلك؛ ولقلة مائه، فلا يضعف العصير المعدي، وهو مطهر بحموضته، ونافع لنزلات المثانة، والميكروبات التي تحدث حموضته مطهرة للأمعاء نافعة في أمراضها خصوصًا في التهاب الأمعاء الغليظة؛ فتمنع نمو الميكروبات فيها، وما تحدثه من حامض اللبنيك بتأثيرها في سكر اللبن أو العنب قاتل للمكروبات أيضًا، وسكر العنب هذا يوجد في الأمعاء بعد أكل النشاء أو سكر القصب (راجع صفحة 82 من الجزء الأول) .

ص: 593

الكاتب: القاسمي

‌الخطب الدينية

(2)

شذرة من الخطب النبوية

(مقتبس من مقدمة ديوان خُطب القاسمي)

والحواشي له إلا ما زدناه بعد اسم المنار

(1)

أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأوثق العرى كلمة التقوى،

وخير الملل ملة إبراهيم، وخير السنن سنة محمد، وأشرف الحديث ذكر الله تعالى،

وأحسن القَصص هذا القرآن، وخير الأمور عوازمها، وشر الأمور محدثاتها،

وأحسن الهدي هدي الأنبياء، وأشرف الموت قتل الشهداء، وأعمى العمى الضلالة

بعد الهدى، وخير العلم ما نفع، وخير الهدي ما اتُّبِع، وشر العمى عمى القلب،

واليد العليا خير من اليد السفلى، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وشر المعذرة

حين يحضر الموت، وشر الندامة يوم القيامة، ومن الناس من لا يأتي الصلاة إلا

دَابرًا [1] ، ومنهم من لا يذكر الله إلا هُجْرًا [2] ، وأعظم الخطايا اللسان الكذوب،

وخير الغنى غنى النفس، وخير الزاد التقوى، ورأس الحكمة مخافة الله تعالى،

وخير ما وقر في القلوب اليقين، والارتياب من الكفر، والنياحة من عمل الجاهلية،

والغُلول من جثاء جهنم [3] ، والكنز كيّ من النار، والشِّعر من مزامير إبليس [4] ،

والخمر جماع الإثم، والنساء حبائل الشيطان، والشباب شعبة من الجنون، وشر

المكاسب كسب الربا، وشر المآكل مال اليتيم، والسعيد من وُعِظ بغيره، والشقي

من شقي في بطن أمه، وإنما يصير أحدكم إلى موضع أربعة أذرع، والأمر بآخره،

وملاك العمل خواتمه، وشر الروايا روايا الكذب [5] ، وكل ما هو آت قريب،

وسباب المؤمن فسوق، وقتال المؤمن كفر، وأكل لحمه من معصية الله [6] وحرمة

ماله كحرمة دمه، ومن يتأل على الله يكذبه [7] ، ومن يغفر يغفر الله له، ومن يعف

يعف الله عنه، ومن يكظم الغيظ يأجره الله، ومن يصبر على الرزية يعوضه الله

ومن يتبع السمعة يسمع الله به [8] ، ومن يصبر يضعف الله له، ومن يعص الله

يعذبه الله، اللهم اغفر لي ولأمتي، اللهم اغفر لي ولأمتي، أستغفر الله لي ولكم

رواه البيهقي عن عقبة بن عامر، والسجزي عن أبي الدرداء، وابن أبي شيبة

عن ابن مسعود.

***

(2)

أما بعد فإن الدنيا خضرة حُلوة، وإن الله تعالى مستخلفكم فيها فناظر كيف

تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء،

ألا إن الغضب جمرة توقد في جوف ابن آدم، ألا ترون إلى حمرة عينيه، وانتفاخ

أوداجه؟ فإذا وجد أحدكم شيئًا من ذلك فالأرض الأرض، ألا إن خير الرجال من

كان بطيء الغضب سريع الرضا، وشر الرجال من كان سريع الغضب بطيء

الرضا، فإذا كان الرجل بطيء الغضب بطيء الفيء، وسريع الغضب سريع

الفيء فإنها بها [9] ، ألا إن خير التجار من كان حسن القضاء حسن الطلب، وشر

التجار من كان سيئ القضاء سيئ الطلب، فإذا كان الرجل حسن القضاء سيئ

الطلب، أو كان سيئ القضاء حسن الطلب فإنها بها، ألا إن لكل غادر لواءً يوم

القيامة بقدر غدرته، ألا وأكبر الغدر غدر أمير عامة، ألا لا يمنعن رجلا مهابة

الناس أن يتكلم بالحق إذا علمه، ألا إن أفضل الجهاد كلمة حق عند أمير جائر.

رواه الإمام أحمد، والترمذي عن أبي سعيد.

***

(3)

إنما هما اثنتان: الكلام والهدي، فأحسن الكلام كلام الله وأحسن الهدي [10]

هدي محمد، ألا وإياكم ومحدثات الأمور فإن شر الأمور محدثاتها، وكل محدثة

بدعة، وكل بدعة ضلالة، ألا لا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم، ألا إن كل ما

هو آتٍ قريب، وإنما البعيد ما ليس بآتٍ، إنما الشقي من شقي في بطن أمه، وإنما

السعيد من وُعِظَ بغيره، ألا إن قتال المؤمن كفر وسبابه فسوق، ولا يحل لمسلم أن

يهجر أخاه فوق ثلاثة، ألا وإياكم والكذب، فإن الكذب لا يصلح لا بالجد ولا

بالهزل، ولا يَعِد الرجل صبيه ولا يفي له، وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن

الفجور يهدي إلى النار، وإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة،

وإنه ليقال للصادق: صدَقَ وَبَرَّ، ويقال للكاذب: كذب وفجر، ألا وإن العبد يكذب

حتى يكتب عند الله كذابًا. رواه ابن ماجه عن ابن مسعود.

***

(4)

يا أيها الناس كأن الموت على غيرنا فيها كُتِبَ، وكأن الحق على غيرنا

وجب، وكأن الذي نشيع من الأموات سَفْرٌ عما قليل إلينا راجعون، نأويهم أجداثهم،

ونأكل تراثهم كأنا مخلدون، قد نسينا كل واعظة، وأمِنَّا كل جائحة، طوبى لمن شغله

عيبه عن عيوب الناس، طوبى لمن طاب كسبه، وصلحت سريرته، وحسنت

علانيته، واستقامت طريقته، طوبى لمن تواضع لله من غير منقصة، وأنفق مالاً

جمعه من غير معصية، وخالط أهل الفقه والحكمة، ورحم أهل الذل والمسكنة،

طوبى لمن أنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله، ووسعته السنة، ولم يَعْدُ

عنها إلى البدعة. رواه أبو نعيم عن علي.

***

(5)

إن الحمد لله أحمده وأستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا،

من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله

وحده لا شريك له، إن أحسن الحديث كتاب الله، قد أفلح من زينه الله في قلبه،

وأدخله في الإسلام بعد الكفر، واختاره على من سواه من أحاديث الناس، إنه

لأحسن الحديث وأبلغه، أَحِبُّوا من أحب الله، أحبوا الله تعالى من قلوبكم، ولا

تملوا كلام الله وذكره، ولا تقسى قلوبكم، فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، واتقوه

حق تقاته، واصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم، وتحابوا بروح الله عز وجل

بينكم، إن الله يغضب أن ينكث عهده، فالسلام عليكم ورحمة الله. رواه هناد عن

أبي سلمة مرسلاً.

***

نُخَب من الخطب النبوية

في غير يوم الجمعة

كان صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يخطب في غير يوم الجمعة لمصلحة

تَعْرِضُ، أو منكر يظهر، أو أمر بصدقة أو إصلاح، كما هو معروف في دواوين

السنة ولخدمتها (؟) فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:

(أما بعد فوالله إني لأعطي الرجل وأدع الرجل، والذي أدع أحب إليّ من

الذي أعطي؛ ولكن أعطي أقوامًا لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع، وأكِل

أقوامًا إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير، منهم عمرو بن تغلب) رواه

الإمام أحمد، والبخاري وغيرهما.

وقوله صلى الله عليه وسلم:

(أما بعد فما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، ما كان شرط

ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله

أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق) رواه الشيخان في صحيحيهما.

وقوله صلى الله عليه وسلم:

(أما بعد فما بال العامل نستعمله فيأتينا فيقول هذا من عملكم وهذا أُهدي لي،

أفلا قعد في بيت أبيه وأمه؛ فينظر هل يهدى له أم لا؟ فوالذي نفس محمد بيده لا

يغل أحدكم منها (أي الزكاة) شيئًا إلا جاء يوم القيامة يحمله على عنقه) الحديث

(رواه الشيخان) .

وقوله صلى الله عليه وسلم:

(أيها الناس اتقوا الله فوالله لا يظلم مؤمن مؤمنًا إلا انتقم الله تعالى منه يوم القيامة) . رواه ابن حميد في مسنده.

***

من خُطَب الصديق

رضي الله عنه

الحمد لله رب العالمين أحمده وأستعينه، ونسأله الكرامة فيما بعد الموت،

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالحق

بشيرًا ونذيرًا، وسراجًا منيرًا، لينذر من كان حيًّا، ويحق القول على الكافرين،

ومن يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد ضل ضلالاً مبينًا، أوصيكم

بتقوى الله، والاعتصام بأمر الله الذي شرع لكم وهداكم به، فإنه جوامع هدى

للإسلام بعد كلمة الإخلاص، السمع والطاعة لمن ولاه الله أمركم، فإنه من يطع

والي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد أفلح، وأدى الذي عليه من الحق،

وإياكم واتباع الهوى، فقد أفلح من حُفظ من الهوى والطمع والغضب، وإياكم

والفخر، وما فخر من خلق من تراب ثم إلى التراب يعود، ثم يأكله الدود، ثم هو

اليوم حي، وغدًا ميت؛ فاعملوا يومًا بيوم وساعة بساعة، وتوقوا دعاء المظلوم،

وعُدُّوا أنفسكم في الموتى، واصبروا فإن العمل كله بالصبر، واحذروا فالحذر ينفع،

واعملوا فالعمل يُقبل، واحذروا ما حذركم الله من عذابه، وسارعوا فيما وعدكم

الله من رحمته، وافهموا تفهموا، واتقوا توقوا، وإن الله قد بيَّن لكم ما أهلك به من

كان قبلكم، وما نجا به من نجا قبلكم، قد بين لكم في كتابه حلاله وحرامه، وما

يحب من الأعمال وما يكره، فإني لا آلوكم ونفسي، والله المستعان ولا حول ولا

قوة إلا بالله، واعلموا أنكم ما أخلصتم لله من أعمالكم فربكم أطعتم، وحظكم حفظتم

واغتبطتم، وما تطوعتم به فاجعلوه نوافل بين أيديكم، تستوفوا بسلفكم، وتعطوا

جزاءكم حين فقركم وحاجتكم إليها، ثم تفكروا عباد الله في إخوانكم وصحابتكم

الذين مضوا، قد وردوا على ما قدموا فأقاموا عليه، وأحلوا في الشقاء والسعادة فيما

بعد الموت، إن الله ليس له شريك، وليس بينه وبين أحد من خلقه نسب يعطيه به

خيرًا، ولا يصرف عنه سوءًا إلا بطاعته واتباع أمره؛ فإنه لا خير في خير بعده

النار، ولا شر في شر بعده الجنة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم وصلوا

على نبيكم محمد، صلى الله عليه وسلم ورحمة الله وبركاته.رواه ابن أبي الدنيا

وابن عساكر عن موسى بن عقبة.

***

من خطب الفاروق

رضي الله عنه [11]

أما بعد فإني أوصيكم بتقوى الله، الذي يبقى ويفنى ما سواه، الذي بطاعته

يكرم أولياءه، وبمعصيته يضل أعداءه، فليس لهالك معذرة في فعل ضلالة حسبها

هدى، ولا في ترك حق حسبه ضلالة، تعلموا القرآن تعرفوا به، واعملوا به

تكونوا من أهله، فإنه لم تَبْلُغْ منزلةُ ذي حق أن يطاع في معصية الله، واعلموا ن

بين العبد وبين رزقه حجابًا؛ فإن صبر أتاه رزقه، وإن اقتحم هتك الحجاب ولم

يدرك فوق رزقه، فأدبوا الخيل وانتضلوا وانتعلوا وتسوكوا وتمعددوا [12] ، وإياكم

وأخلاق العجم، ومجاورة الجبارين، وأن تجلسوا على مائدة يشرب عليها الخمر

وتدخلوا الحمَّام بغير مئزر، وإياكم والصَّغار أن تجعلوه في رقابكم، واعلموا أن

سباب المسلم فسوق وقتاله كفر [13] ، ولا يحل لك أن تهجر أخاك فوق ثلاثة أيام،

ومن أتى ساحرًا أو كاهنًا أو عرافًا فصَدَّقَه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمد -

صلى الله عليه وسلم لا يخلون رجل بامرأة فإن الشيطان ثالثهما، ومن ساءَتْه

سيئته، وسرته حسنته فهو أمارة المسلم المؤمن، وشر الأمور مبتدعاتها، وإن

الاقتصاد في سنة خير من الاجتهاد في بدعة، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا فإنه

أهون لحسابكم، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وتزينوا للعرض الأكبر يوم

تعرضون لا تخفى منكم خافية، عليكم بهذا القرآن؛ فإن فيه نورًا وشفاء، وغيره

الشقاء، وقد قضيت الذي عليّ فيما ولاني الله عز وجل من أموركم ووعظتكم

نصحًا لكم، أقول هذا، وأستغفر الله لي ولكم رواه الحاكم، وابن عساكر.

***

من خطب ذي النورين

رضي الله عنه

أيها الناس اتقوا الله فإن تقوى الله غنم، وإن أكيس الكيس من دان نفسه

وعمل لما بعد الموت [14] ، واكتسب من نور الله نورًا لظلمة القبر، وليخش عبد

أن يحشره الله أعمى وقد كان بصيرًا، وقد يكفي الحكيم من جوامع الكلم، والأصم

يُنَادى من مكان بعيد، واعلم أن من كان الله معه لم يخف شيئًا، ومن كان الله عليه

فمن يرجو بعده - رواه ابن عساكر -

***

من خطب الإمام أبي الحسن علي

كرم الله وجهه

أما بعد فإن المضمار اليوم وغدًا السباق، ألا وإنكم في أيام عمل، من ورائه

أجل، فمن قَصَّر في أيام أمله قبل حضور أجله فقد خيب عمله، ألا فاعملوا لله في

الرغبة كما تعملون في الرهبة، ألا وإني لم أر كالجنة نام طالبها، ولم أر كالنار نام

هاربها، ألا وإن من لم ينفعه الحق ضره الباطل، ومن لم يستقم به الهدى جار به

الضلال، ألا وإنكم قد أُمرتم بالظعن ودُللتهم على الزاد، ألا أيها الناس إنما الدنيا

عَرَض حاضر، يأكل منها البر والفاجر، وإن الآخرة وعد صادق، يحكم فيها ملك

قادر، ألا إن الشيطان يعدكم الفقر، ويأمركم بالفحشاء، والله يعدكم مغفرة منه

وفضلاً والله واسع عليم، أيها الناس أحسنوا في عمركم تُحفظوا في عقبكم، فإن الله

تبارك وتعالى وعد جنته من أطاعه، ووعد ناره من عصاه، إنها نار لا يهدأ

زفيرها، ولا يفك أسيرها، حرها شديد، وقعرها بعيد، وماؤها صديد، وإن

أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى، وطول الأمل، ألا لا يستحي الرجل أن يتعلم

ومن يُسْأل عما لا يعلم أن يقول لا أعلم. رواه ابن عساكر.

ومن خطبه كرم الله وجهه:

حمدت وعظَّمت من عظمت مِنَّته، وسبغت نعمته، وسبقت غضبَه رحمتُهُ،

وتمت كلمته، ونفذت مشيئته، حَمْدَ عَبْدٍ مُقِرٌ بربوبيته، متخضع لعبوديته،

ويستعينه، ويسترشده، ويستهديه، ويؤمن به، ويتوكل عليه، وشهدت له تشهد

مخلص موقن، وبعزته مؤمن، ووحدت له توحيد عبد مذعن، ليس له شريك في

ملكه، ولم يكن له ولي في صنعه، جل عن مشير ووزير، وعن عون معين

ونظير، وشهدت ببعث محمد عبده ورسوله، وصفيه، ونبيه، وحبيبه، وخليله،

صلى الله عليه صلاة تحظيه، وتزلفه وتعليه، وتقربه وتدنيه، بعثه في خير عصر،

وحين فترة وكفر، رحمة منه لعبيده، ومنة لمزيده، ختم به نبوته، ووضح به

حجته، فوعظ ونصح، وبلغ وكدح، عليه رحمة وتسليم، وبركة وتكريم.

وصَّيتكم معشر من حضرني بوصية ربكم، وذكرتكم سنة نبيكم، فعليكم

برهبة تسكن قلوبكم، وخشية تذري دموعكم، وتقاة تنجيكم، قبل يوم يذهلكم

ويبليكم، يوم يفوز فيه من ثقل وزن حسنته، وخف وزن سيئته، ولتكن مسألتكم

وتملقكم مسألة ذل وخضوع وشكر وخشوع، وتوبة ونزوع، وندم ورجوع،

وليغتنم كل مغتنم منكم صحته قبل سقمه، وشبيبته قبل هرمه وكبره، وسعته قبل

فقره، وفرغته قبل شغله، قبل أن تُجذب نفسه، ويحفر رِمْسه، وينفخ في الصور،

ويدعى للنشور، في موقف مهيل، ومشهد جليل، بين يدي ملك عظيم، بكل

صغيرة وكبيرة عليم، حينئذ يلجمه عرقه فعبرته غير مرحومة، وضرعته غير

مسموعة، وحجته غير مقبولة، فورد جهنم بكرب وشدة، ندم حيث لم ينفعه ندمه،

نعوذ برب قدير من شر كل مصير، ونسأله عفو من رضي عنه، ومغفرة مَنْ قَبِلَ

منه، فمن زُحزح عن تعذيب ربه جُعل في جنة بقربه، وخلد في قصور مشيدة،

وملك حور عين وحفدة، وطِيف عليه بكؤوس، وسكن حظيرة قدس في فردوس

وتقلب في نعيم، وسُقي من تسنيم، هذه منزلة من خشي ربه، وحذر نفسه، وتلك

عقوبة من عصَى مُنْشِئَهُ، وسولت له نفسه معصيته، لهو قول فصل، وحكم

عدل، خير قصص قص، ووعد نص، تنزيل من حكيم حميد، نزل به روح قدس

على قلب نبي مهتدٍ رشيد، صلت عليه سفرة، مكرمون بررة، يتضرع متضرعكم،

ويبتهل مبتهلكم، وأستغفر رب كل مربوب لي ولكم، ثم قرأ {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ

نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُواًّ فِي الأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (القصص:

83) رواه الخفاف في مشيخته [15]

***

مختارات من خطب القاسمي

(خطبة في الحذر من التطير والتشاؤم

يخطب بها أول صفر)

الحمد لله الذي بسط لنا موائد كرمه وأفضاله، وعمنا بجوده وغمرنا بنواله،

فسبحانه من إله تاهت العقول في سبحات جلاله، أحمده وأشكره، وأتوب إليه

وأستغفره، وأسأله أن يجعلنا ممن وفقه لصالح أعماله، وأشهد أن لا إله إلا الله

وحده لا شريك له شهادة موحد له في غده وآصاله، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده

ورسوله نبي ميّز حرام الشرع من حلاله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه

صلاة تمنح قائلها الفوز في مآله، وسلم تسليمًا.

أما بعد أيها الناس فاتقوا الله، واعلموا أن جميع ما يتقلب فيه الإنسانُ طول

عمره، إنما هو بمحض قضاء الله وقدره، ألا وإنه قد دخل عليكم شهر مباركة

أوقاته، ميمونة ساعاته، لا ينسب إليه شر ولا ضير، بل هو صفر الخير، وقد

كانت الجاهلية يتشاءمون به وهو مبارك، ويتطيرون منه وليس لله جل جلاله في

مشيئته وتقديره بمشارك، وإنما هو إلى شركهم وشرهم، وسخافة عقولهم، ومحض

كفرهم، وكيف ينسب فعل إلى شهر أو زمان، والله خالق الزمان والمكان، وقد

بطل التطير والتشاؤم ولم يبق له أثر، بما رواه البخاري في صحيحه عن رسول

الله صلى الله عليه وسلم سيد البشر، أنه قال:(لا عدوى ولا طيرة ولا صفر)

وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا ظننتم فلا تحققوا، وإذا

حسدتم فلا تبغوا، وإذا تطيرتم فامضوا، وعلى الله فتوكلوا) وعن النبي - صلى

الله عليه وسلم - أنه قال: (إن سبعين ألفًا من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب

فسُئل صلى الله عليه وسلم عنهم فقال: هم الذين لا يَكْتَوُونَ، ولا يسترقون، ولا

يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون) [16]، وقال صلى الله عليه وسلم: (الطيرة

شرك) فمن اعتقد ما يتشاءم به سببًا مؤثرًا في حصول المكروه، فقد أشرك،

ولعقيدة التوحيد والموحدين ترك، إذ لا فاعل إلا الله، ولا مؤثر في الكائنات سواه،

وإنما الزمان ليالٍ وأيام، تختلف بتقدير العزيز العلام، فلا شؤم لصفر، ولا جمود

لجمادى، ولا بلاء، ولا نحس ليوم أربعاء، بل ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن،

قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَاّ بِإِذْنِ اللَّهِ} (التغابن: 11) ، وقال جل

جلاله: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَاّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ} (التوبة: 51)

خطبة لأول ربيع في وجوب تعظيم النبي

صلى الله عليه وسلم

وعلائم محبته

الحمد الله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو

كره المشركون، ومنَّ على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم

آياته، ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين،

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في جلال إلهيته، ولا مثيل له في عز

ربوبيته، ولا كفوء له في أحديته، ولا كيف له في صفات مجده وصمديته، وأشهد

أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله الذي دعا إلى ثوابه وبشر، وحذر من عقابه وأنذر،

وأوضح سبيل الرشاد، وجاهد فيه حق الجهاد، حتى ظهر دين الله وعلت كلمته،

وشملت رحمته وتمت نعمته، صلى الله عليه وعلى آله الأبرار، وصحبه الأخيار،

وسلم تسليمًا.

أما بعد فيا عباد الله اتقوا الله، واعلموا أن الله تعالى أكمل المنة على المؤمنين،

وأتم نعمته عليهم بإرسال خاتم الأنبياء رحمة للعالمين، فهداهم من الضلالة،

وأنقذهم بمكانه (؟) من الجهالة، وفتح به أعينا عميًا، وآذانًا صمًّا، وقلوبًا غلفًا

منة وطَوْلاً، وأرشد به السبيل، وأقام به معالم البرهان والدليل، نعمة وفضلاً،

ورفع به للتوحيد أعلامًا، ومحا به من الشرك ظلامًا، ثم جعل محبته مشروطة

بمحبته، وطاعته منوطة بطاعته، وذكره مقرونًا بذكره، وبيعته مقرونة ببيعته،

فقال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران: 31)

وقال تعالى: {مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه} (النساء: 80) وقال تعالى:

{وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} (الشرح: 4) وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ

اللَّه} (الفتح: 10) ثم بين جل جلاله أن مخالفة أمر نبيه ضلال وخسران،

وأوعد عليه بالعذاب والخسران [17] فقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ

أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور: 63) وقال سبحانه: {فَلَا

وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا

قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء: 65) فحذر سبحانه وأوعد، وأقسم، وأكد،

ليعلموا أن من شُعب الإيمان، وكمال الإسلام، والإيقان، اتباع سنته، والتسليم

لقضيته، وتوقيره وتعظيمه، وإجلاله وتكريمه، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا

أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} (الأحزاب: 45) ، {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ

وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} (الفتح: 9) قال ابن عباس: وغيره: أي تبالغوا في

تعظيمه، ألا وإن من تعظيمه وتوقيره المطلوب، إيثار حبه على كل محبوب، فقد

قال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده

والناس أجمعين) ومن توقيره وحبه ذكر شمائله التي تهز أعطاف المحبين، ونشر

فضائله التي تزيد في إيمان المؤمنين، وإيراد سيرته وما كان عليه من الأخلاق

تسليكًا للمتَّبِعين، ثم هل تدرون مَنْ المحب للنبي صلى الله عليه وسلم

والصادق في محبته وإجلال قدره المعظم؟ المحب للنبي صلى الله عليه وسلم

هو القائم بامتثال أوامره، ونشر هديه الأكمل، والاعتصام بسنته، والحض عليها،

وإحيائها بالطلب والعمل، المحب للنبي صلى الله عليه وسلم هو المتخلق

بأخلاقه الجليلة، والمتحقق بآدابه الجميلة، المحب للنبي صلى الله عليه وسلم

هو من تظهر علامات الحب على أحواله، من الاقتداء به واتباع أقواله وأفعاله،

فليتخلق بأخلاقه الطاهرة من كان صادق الحب، مخلص اليقين، سليم القلب؛

ولكن ما أكثر المدعين، وما أقل المخلصين، عجبًا لابن آدم يفهم ما يضره مما

ينفعه، ويسمع ولكن قلما يعمل بما يسمعه، ويحضره العزم في مجلس الذكر، إلا

أنه يقوم ويدعه، فإلى كم تهزه العبر وهو كالطفل كلما حُرِّك نام، ويقتحم المعاصي

الكبر، ويقول إن الله ذو مغفرة، وينسى أنه ذو انتقام، فواخجل المقصرين من

التوبيخ في محفل القيامة، ويا سوء منقلب الظالمين عند حلول الندامة، ويا

حسرات الهالكين إذا عاينوا أهل السلامة، ويا هوان المتكبرين إذا حرموا دار

الكرامة، فرحم الله امرأ رجع إلى ربه سريعًا، قبل أن يقع لجنبه صريعًا، وألقى

إلى الموعظة قلبًا وسمعًا سميعًا، قبل أن لا يسمع في مقام السؤال إلا توبيخًا

وتقريعًا، اللهم تداركنا برحمتك إنك أرحم الراحمين، وجُد علينا بمغفرتك إنك خير

الغافرين.

***

خطبة في شمائل رسول الله صلى الله عليه وسلم

وأخلاقه المأثورة

الحمد لله الذي خلق كل شيء فأحسن خلقه وترتيبه، وأشهد أن لا إله إلا الله

وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، نبي أدَّبه ربه فأحسن

تأديبه، وزكى أوصافه وأخلاقه، ثم اتخذه صفيه وحبيبه، ووفق للاقتداء به من

أراد تهذيبه، وحرم عن التخلق بأخلاقه من أراد تخييبه، فصلَّى الله عليه وآله

الطيبين الطاهرين وسلم تسليمًا، أما بعد فيا عباد الله اتقوا الله، واعلموا أن آداب

الظواهر عنوان آداب البواطن، وحركات الجوارح ثمرات الخواطر، والأعمال

نتيجة أخلاق، ومن لم يخشع قلبه لم تخشع جوارحه، ومن لم يكن صدره مشكاة

الأنوار الإلهية، لم يفض على ظاهره جمال الآداب النبوية، وقد أُدِّبَ صلوات الله

عليه بالقرآن، وأُدِّب الخلق به، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم " بعثت لأتمم

مكارم الأخلاق " ثم رغب الخلق في محاسن الأخلاق، ولما أكمل تعالى خلقه أثنى

عليه فقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4) فكان صلى الله عليه

وسلم أحلم الناس، وأشجع الناس، وأعدل الناس، وأعف الناس، لم تمس يده قط

امرأة لا يملك رقها، أو عصمة نكاحها، أو تكون ذات محرم منه، وكان أسخى

الناس لا يبيت عنده دينار ولا درهم، ولا يأخذ مما آتاه الله إلا قوت عامه، ويضع

سائر ذلك في سبيل الله، ولا يُسْأَل شيئًا إلا أعطاه، وكان يخصف نعله، ويرقع

ثوبه، ويخدم في مهنة أهله، وكان أشد الناس حياء لا يثبت بصره في وجه أحد،

ويجيب دعوة العبد الحر، يغضب لربه ولا يغضب لنفسه، يأكل ما حضر، ولا

يرد ما وجد، يركب ما أمكنه، ويردف خلفه، يحب الطيب ويجالس الفقراء

ويؤاكل المساكين، ويكرم أهل الفضل، ويتألف أهل الشرف بالبر لهم، يصل

رحمه، لا يجفو على أحد، يقبل معذرة المعتذر إليه، ولا يقول إلا حقًّا، يضحك

من غير قهقهة، يخرج إلى بساتين أصحابه ويعود مرضاهم ويشهد جنائزهم، ما

لعن خادمًا ولا امرأة، ولا ضرب بيده أحدًا إلا في سبيل الله، يبدأ من لقيه بالسلام

والمصافحة، يكرم من يدخل عليه، حتى ربما بسط له ثوبه يجلسه عليه، وكان

أفصح الناس منطقًا، وأحلاهم كلامًا، يتكلم بجوامع الكلم، ولا يتكلم في غير حاجة،

إذا سكت تكلم جلساؤه، وكان أحسن الناس نغمة، يعظ بالجد والنصيحة، وكان

إذا لبس ثوبًا جديدًا أعطى خلق ثيابه مسكينًا، وكان أرغب الناس في العفو مع

القدرة، أبعد الناس غضبًا، وأسرعهم رضاء، يمر على الصبيان فيسلم عليهم،

وكان أزهر اللون ليس بالطويل ولا بالقصير، بين كتفيه خاتم النبوة، وكان لا

يمضي له وقت في غير عمل لله تعالى أو فيما لا بد منه من صلاح نفسه، وبالجملة

فأخلاقه الكاملة لا تحصى، وشمائله الحسنى لا تستقصى، وكل من أصغى إليها

علم علو منصبه، وعظم مكانته، وقد ظهر من آياته ومعجزاته ما استفاضت به

الأخبار، وكان أعظمها معجزة القرآن الكريم، والذكر الحكيم، أعجز البلغاء عن

مماثلته في عبارته، وأفحم الحكماء عن محاكاته في عظته وهدايته وتشريعه للناس

أحكامًا تنطبق على مصالحهم ما دامت الدنيا، وانتظام السعادة بالمحافظة عليها في

الأولى والأخرى، ولما لم يدع قاعدة من أصول الفضائل إلا جلاها، ولا أما من

أمهات الصالحات إلا أحياها، ختمت النبوات بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم

وانتهت الرسالات برسالته، قال الله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ

وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} (الأحزاب: 40) ،

وقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو

عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (آل عمران: 164) .

(للخطب بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

بفتحتين، وتسكين الياء وضَمها لحن كما في القاموس، أي في آخر وقتها.

(2)

بضم فسكون وهو القبيح من الكلام (المنار: ضبطوه بفتح الهاء وفسروه بالترك) والاستثناء

منقطع.

(3)

الجثا بضم الجيم وكسرها ثم مثلثة، ما اجتمع من الحجارة والجذوة (المنار: الجثى الأكوام

والمعنى أن ما يؤخذ من الغول وهو الخيانة في الغنيمة، إنما هو أكوام من النار أي ليس ربحًا بل

خسارة؛ لأنه سبب لدخول النار، كقوله تعالى:{إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} (النساء: 10)

(4)

يعني بالشعر معهودًا من أفراده، وهو ما يتغنى به في محرم أو عليه أو ما يدفع إليه.

(5)

جمع راوية مبالغة في راوٍ، وهو من يروي الحديث (المنار: رجح ابن الأثير أن الروايا جمع

روية، وهي التروي والتفكير في الأمر، وإذا كان الكذب عن روية كان أشد إثما وأشد ضررًا) .

(6)

كناية عن اغتيابه وذكره بما يكره، وفي تصوير الاغتياب بأكل لحمه إبراز له على أفحش وجه

وأشنعه طبعًا وعقلاً وشرعًا.

(7)

تألى أي أقسم به بأنه يفعل كذا ألبتة.

(8)

السمعة: الشهرة ونشر الذكر.

(9)

المنار: أي واحدة بواحدة جزاء فخير الخلصتين يكفر شرهما.

(10)

المنار: الهدي بفتح فسكون: السيرة والطريقة.

(11)

خطبها في الجابية قاعدة بلاد حوران في عهده رضي الله عنه، وإليها ينسب باب الجابية

أحد أبواب مدينة دمشق الشام؛ لأن المسافر إلى الجابية يخرج منه، وقد خربت وانتقل عمرانها إلى

ما جاورها من قرية نوى والشيخ سعد.

(12)

المنار: في حاشية الأصل (أي تَزَيَّوْا بزِيّ معد في تخوشنهم وتقشفهم) والمراد كونوا مثل

مَعْد بن عدنان فيما ذكر فاستعمل التزيي في التشبه والزي في الشبه.

(13)

المنار: هذا وما بعده بضعة جمل مقتبسة من الأحاديث المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه

وسلم.

(14)

المنار: مقتبس من حديث مرفوع رواه أحمد والترمذي وابن ماجه.

(15)

المنار: الظاهر أن هذه الخطبة موضوعة على أمير المؤمنين كرم الله وجهه، فأين هذا

السجع المتكلف من خطبه التي تعد في أعلى مراتب البلاغة بعد كلام الله ورسوله.

(16)

الخطبة من أولها إلى هنا من ديوان جد جدتي لأبي الإمام الكبير والولي الشهير السيد محمد

الدسوقي نسبًا الدمشقي إمام جامع حسان وخطيبه المتوفى 1241 بمنزلة هدية قبيل المدينة المنورة

ذهابًا إلى الحجاز، وقد بسطت ترجمته في تاريخي) تعطير المشام في مآثر دمشق الشام.

(17)

المنار: لعله أراد أن يقول (وافتتان) فسبق القلم، أو قاله فحُرف في الطبع.

ص: 621

الكاتب: أحمد كمال

ال‌

‌مقارنة بين

اللغة المصرية القديمة واللغة العربية [*]

(5)

وصفتان طبيتان مصريتان

(الأولى) ورد في القرطاس الطبي الذي نقلت عنه الوصفة الطبية التي

نُشرت في الجزء السادس من المنار وصفة أخرى بمعناها، وهي الثالثة والتسعون

بعد المئة، وهذا نصها ويليه تفسيره:

تمييز ست تمشأ عن ست لا تمشأ

بطيكا [1] ينت [2] ويخمط [3] على إرُد [4] التي مشأت ذكرًا يؤري [5] مثل سعم [6]

تسعم الست، إن كرأت [7] مشأت وإن زعت [8](؟) لا تمشأ إلى نح [9] .

(المعنى)

لتمييز المرأة التي تلد عن المرأة التي لا تلد، يدهق البطيخ، ويخلط على لبن

امرأة ولدت ذكرًا، ويجعل طعامًا تأكله المرأة المراد اختبارها؛ فإن قاءت ولدت،

وإن حصل لها رياح في المعدة لا تلد ألبتة.

(الثانية) وورد فيه أيضًا وصفة أخرى، وهي الرابعة والتسعون بعد المئة،

وهذا نصها ويليه تفسيره:

بطيكا يخمط على إرُد التي مشأت ذكرًا ويتوج [10] في قطاتها [11] فإن جشأت

مشأت، وإن قاست [12] لا تمشأ.

(المعنى)

بطيخ يخلط على در (أي لبن) امرأة ولدت ذكرًا، ويوتح في فرجها أي

يحقن فيه؛ فإن غاثت وتقيأت ولدت، وإن وجدت في جوفها رياحًا لا تلد.

_________

(*) لعلامة الآثار المصرية أحمد بك كمال.

(1)

بطيخ.

(2)

أي يلتّ، فاؤها لام، من لتّ الشيء إذا دقه أو سحقه.

(3)

خمط يقابله في العربية شمط بمعنى خلط.

(4)

إرد مقلوب در وهو اللبن جعل أحد حرفي المضاعفة همزة في أول الكلمة كما مر نظيره في الجزء السابع.

(5)

أرَّى: جمع الطعام.

(6)

سعمه: غذاه وسعمه تسعيمًا: غذاؤه المسعم حسن الغذاء، والغين المعجمة لغة فيه، والعين في المصرية تنوب عن الغين، فيقال عني بمعنى غني غناء.

(7)

كرأت يقالها في العربية كرعت بمعنى أمطرت " السماء " وهنا تفيد القيء.

(8)

زع فعل يقصد به خروج الريح الذي يوجد في المعدة، ومنه في العربية الزعزاع وهي الريح الشديدة.

(9)

نح مقلوب حان يحين حينًا وإلى حين، أي إلى دهر مديد.

(10)

وتح: أعطى قليلاً أي شيئًا فشيئًا.

(11)

قطاة: ما بين الوركين والعجز ومقعد الرديف من الدابة وتدل هنا على الفرج.

(12)

قاس أي غاث وغثي وجأش أو جشأ؛ لأن القاف تقلب غينًا أو جيمًا، كما أن السين تقلب تاء أو شِينًا، فيقال في العربية الديس (عراقية) مقلوب الثدي فالسين فيها بدل الثاء وبالمصرية الشدي بالشين المعجمة، ومن هنا يعلم أن التاء والشين والسين ينوب بعضها عن بعض.

ص: 634

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌عدل الإسلام

مقالة لإنكليزية مسلمة ترجمت للمؤيد عن مجلة (إسلاميك ريفيو - أي المجلة

الإسلامية) التي تصدر في وكنج بإنكلترة فنشرناها مع تصحيح لبعض الألفاظ

وهي:

إذا أخلص قلب الإنسان (ضميره) في مطالعة تعاليم الدين الإسلامي وجدها

أشد الأديان عدلاً وصدقًا، وقد قضت تعاليم هذا الدين بأن العبد يخلق مجردًا من كل

خطيئة، فهو لا يرث ذنوب والديه، ولا خبث أجداده.

الإسلام يُعَلِّم أهله الاستقلال الشخصي (الاعتماد على النفس) ويجرد من

نفس الإنسان حكمًا عليها، فهو يمكنه خلاص نفسه، أو إهلاكها بأعماله، فإذا عمل

الخير، وتحرى الصواب جنى ثمار الجزاء الحق، وإذا عمل سوءًا، يُجزى به.

وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} (المدثر:

38) وينطوي في معنى هذه الآية كل ما يقتضيه العدل؛ لأن من الظلم أن

يتحمل الإنسان أوزار غيره، ويسأل عما ارتكب سواه، وقد قررت جميع الشرائع

العادلة الجديرة بهذا الوصف أن من الظلم أن يعد أحد مجرمًا بجريمة غيره، وهذا

من أصول الشرعية المحمدية أيضًا، ولا يزال هذا المظهر مظهر السيد المسيح

الذي ينظر إليه المسيحيون باعتباره المُخَلِّص للعالم.

وإذا ولد الشخص من غير إرادة خاصة فيه، وعجز عن تعرّف مواطن

الصواب، ومقاومة الخطأ، كان في عقابه أو إثابته كل ما يتصوره الخيال من

الظلم، وكان من العبث نفخ روح العقل والضمير فيه، ولكن تعاليم الإسلام

صريحة في أن خالق العالم - وهو ربهم الحق - خلق للإنسان إرادة واختيارًا

{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} (البلد: 10) وسيُسْأَل عن نتائج الطريق الذي فضله وسار فيه،

فإذا اهتدى صفا ضميره وصفت سعادته، وإذا شقي وسار في الطريق المعوج

كانت عاقبة أمره خُسرًا، ولكن الحكم على طفل صغير لا يفرق بين الغث والسمين

لا يمكن أن يقال إنه عدل، نعم إنه ليس من العدل ولا من الشجاعة أن يحمَّل أحد

أوزار غيره، ثم يُسْأَل عنها، ومتى؟ وُكِّلَ الإنسان بأمر نفسه تعلم وجوب الاعتماد

عليها، ومن المحتمل أن العبد إذا علم بأن غيره سيُسْأَل عما اقترفه هو أطاع هواه،

ولم يحترم نفسه، فكيف يكون فخورًا بمولده وحياته؟

والجواب على هذا أنه يوجد نوعان من الفخر: الفخر الوهمي الخاطئ،

والفخر الصحيح، والأول منهما هو فخر الغطرسة وغش النفس، وهو مقبول

الطعم يجعل صاحبه أو صاحبته ينظر إلى الناس بغير العين التي ينظر بها إلى

نفسه، ثم يحتقر الجار والفقير، وهي خطيئة فظيعة طالما حض النبي - صلى الله

عليه وسلم - على اجتنابها.

أضف إلى هذا أن الفخر الخاطئ؛ يكون مجلبة للغيرة والطمع الكاذب، ويملأ

أوداج صاحبه بالفخفخة الخارجة عن الحد.

والفرق بين هذا الفخر، وبين الفخر الصحيح هو أن الذي يبذل مجهوده في

أداء الواجب بإرضاء الله، ومساعدة النوع البشري يثبت في قلبه حب السلام الذي

لا يعطيه الله إلا للمجتهدين من عباده، وإذا عمل العبد نهاية الخير لم يسأله الله أكثر

من ذلك، ولم يؤاخذه إذا قصر طوقه عما ليس في مقدور أمثاله من البشر، وهو

القائل على لسان نبيه: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 78)

الإسلام دين حق يُعَلِّم الناس العدل، وأُسست مبادئه على العدل، فهو يحرم

الخمر والمقامرة والزنا.

_________

ص: 636

الكاتب: إسماعيل بك عاصم

‌تاريخ ميلاد ولدنا محمد شفيع

(لصديقي الوفي شيخ الخطباء والمحامين (وكلاء الدعاوي) إسماعيل بك

عاصم) .

تاريخ ميلاد محمد شفيع نجل حضرة صديقي العزيز الأستاذ العلامة السيد محمد

رشيد رضا صاحب مجلة المنار الزهراء:

سر يا بشير التهاني للرشيد وقل

(بشرى فقد أنجز الإقبال ما وعدا)

قد لاح نور ابنه نعم الشفيع به

(وكوكب السعد في أفق العلا صعدا)

فرع نما عن أصول طاب عنصرها

أنعم بمولده أكرم بمن ولدا

وكان في رمضان يمن طالعه

كليلة القدر فيها للنفوس هدى

محمد دام يسمو للفضائل عن

أب يقر به عينًا وقد حمدا

عساه يأتي بنفع مثل والده

وإنه يتحرى مثله رشدا

وعاصم عن رضاء عنه أرَّخه

رشيد بُشراك في نجل سناه بدا

سنة 1333

...

...

514 523 90 83 116 7

الشطران اللذان كل منهما بين قوسين هما مطلع أحسن قصيدة قيلت تهنئة

لأحد الخلفاء بميلاد ولده، كما قال صاحب كتاب خزانة الأدب، وقد ضمنهما هنا

أحسن تضمين.

...

...

...

...

إسماعيل عاصم

_________

ص: 637

الكاتب: صالح مخلص رضا

‌تقريظ المطبوعات الجديدة [*]

(كتاب كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة)

تأليف الشيخ الإمام العالم الزاهد أبي الفرج عبد الرحمن بن رجب الحنبلي

وهو شرح لحديث (بدأ الإسلام غريبًا) وقد قام بطبعه واعتنى بتصحيحه الشيخ

أحمد محمد شاكر، فطبعه بمطبعة النهضة طبعًا نظيفًا على ورق متوسط صفحاته

30، وثمنه قرش واحد، ويُطلب من مكتبة المنار خاصة.

***

(كتاب المبادئ النافعة في تصحيح المطالعة)

ألفه الأستاذ الشيخ هارون عبد الرازق شيخ رواق الصعايدة بالأزهر عندما

كان مدرسًا للعلوم العربية بالمدارس الأميرية، وقد قرر المجلس العالي في اللائحة

الداخلية للمعاهد الدينية تدريسه لطلبة السنة الأولى.

طبع في المطبعة المصرية في الإسكندرية، وصفحاته 40، وثمنه قرشان.

***

(عنوان الظرف في فن الصرف)

للأستاذ الشيخ هارون عبد الرازق المذكور ثمنه نصف قرش.

***

(الدروس الأولية في العقائد الدينية)

طبع للمرة الثانية في المطبعة السابقة الذكر سنة 1326 هجرية، وصفحاته

46 بالقطع الصغير، وثمنه قرش واحد، ومباحثه هي:

1-

في حقوق الأستاذ والوالدين.

2-

في حقوق الله تعالى.

3-

في حدوث العالم.

4-

في الوحدانية.

5-

إجمال الصفات.

6-

أول ما يجب على الخلق لخالقهم.

7-

في الوجود والقدم والبقاء إلى آخر مباحث الصفات.

8-

في الصفات والأسماء الحسنى.

9-

في معرفة الله وطاعته، وفي بعثة الرسل وصفاتهم إلى آخر المباحث التوحيدية المشهورة.

***

(الدروس الأولية في السيرة النبوية)

طبع للمرة الثانية بمطبعة الجمالية بمصر صفحاته 47 بالقطع الصغير،

ومباحثه هي:

نسب النبي صلى الله عليه وسلم، ونشأته، وبعثته، وخروجه من الشِّعْب

إلى دخول الأنصار في الإسلام، وبيعتي العقبة إلى الهجرة، والهجرة والغزوات

وصلح الحديبية، ومرضه صلى الله عليه وسلم، وموته، والاهتداء بهديه،

وخلافة الصديق وعمر وعثمان وعليّ، ثم دول الإسلام الكبرى، وفي ولاية مصر

من فتحها إلى الآن.

***

(الدروس الأولية في الأخلاق المرضية)

طبع للمرة الأولى بمطبعة جاليتي بالإسكندرية صفحاته 48 بالقطع الصغير

ومباحثه هي: نصيحة الأستاذ لتلميذه، الوصية بتقوى الله، حقوق الله ورسوله،

حقوق الوالدين، حقوق الإخوان، آداب طلب العلم، آداب المطالعة والمذاكرة،

آداب الرياضة والمشي في الطرقات، آداب المجالس والحديث، آداب الطعام

والشراب، آداب العبادة والمساجد، وفضيلة الصدق والأمانة والعفة، والمروءة

والشهامة وعزة النفس

إلخ.

هذه الرسائل تأليف الأستاذ الشيخ محمد شاكر الذي كان شيخ علماء

الإسكندرية، ثم وكيل مشيخة الأزهر، وثمن كل منها 1 قرش، وتُطلب من مكتبة

المنار وغيرها.

***

(ديوان غصن النقا)

من نظم الشاعر الذكي اللوذعي، الشيخ رشيد مصوبع اللبناني، طبع بمطبعة

المقتطف سنة 1915، على ورق جيد صفحاته 88 بالقطع الوسط، ويطلب من

مكاتب مصر، ومن ناظمه.

عرفنا الناظم من أذكى شعراء العصر، وباريس من أجمل مدن العالم كما هو

معلوم بالتواتر، وناهيك بشاعر ذكي عربي أمَّ هذه العاصمة الزاهرة فجمع في

مخيلته جمال التصوير المعنوي والحسي، فنظم هنالك ديوانًا فاق ما نظم قبله من

الدواوين.

جعل الناظم ديوانه هذا هدية إلى الموسيو دلكاسيه نابغة ساسة فرنسة ووزير

خارجيتها، وقد نظم معظمه في باريس، فمن قصائده ما مدح به الموسيو بيشون

والموسيو دلكاسيه، ومنها ما عنوانه (باريس والجمال) ، و (وداع باريس) ،

و (وصف باري وانتقادها) ، و (المحل وباريس) ، و (باريس ووقتها) ،

و (في مفتون في باريس) ، و (موحش باريس) وغير ذلك.

وحسبنا نموذجًا من الديوان هذه الأبيات التي مدح بها صاحبه الموسيو دلكاسيه

ناظر الخارجية الفرنسية، فإنها على كونها تعد من المقاطيع لا القصائد تمثل ذوق

الناظم في الغزل والرثاء والمدح والفخر قال:

تحكي الإمام اليازجيّ بطلعة

تزهو وبالقد الرشيق العادل

فإذا حزنت عليه قمت مقامه

فأعدت لي فرحي بذاك الراحل

يا طرف إبراهيم أذبلك الثرى

أسفي على طرف الحبيب الذابل

قم وانظر اليوم الرشيدَ فإنه

يختال مثل السمهري المائل

يختال في أكناف دلكاسه الذي

هز الحسام بوجه ذاك العاهل

هذا بفضلك يا حبيب ولم أصل

لولا التفاتك للوزير الفاضل

قلدتني سيف البيان فكان لي

يوم المنى أمضى جميع رسائلي

إن كان بدر الوجه عني آفلاً

فبدور علمك فيّ غير أوافل

حاكاك في الشكل الوزير ودونه

في ود قلبك كان خير مشاكل

فرنا إليّ بأعين مملوءة

عطفًا علي وكان أكرم باذل

وأجل منزلتي وأعجب بي كما

أُعجبت بي وأشدت بي بمحافل

إن كان ركن العلم مال فلا هوى

ركن السياسة والعلى والنائل

_________

(*) عهدنا بتقريظ المطبوعات إلى شقيقنا السيد صالح مخلص رضا.

ص: 638

الكاتب: محمد علي أبو زيد

البرهان على خروج تارك الصلاة

ومانع الزكاة من الإيمان

جمع أدلته من الكتاب والسنة / محمد علي أبو زيد

الطالب بكلية دار الدعوة والإرشاد

(3)

فها أنت ذا قد سمعت من الآيات ما يدلك على أن مانع الزكاة مشرك بالله،

لأنه آثر المال على الله [1] ، وكافر بيوم المعاد؛ لأنه لو كان عنده جزم بل ظن به

لَحَمَلَهُ على الإنفاق، فلا أخالك تشك في أنه محروم من الجنة، وأن {مَأْوَاهُ جَهَنَّمُ

وَبِئْسَ المَصِيرُ} (الأنفال: 16) .

وهاك أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الدالة على ما قلنا،

المؤيدة لما ذكرنا.

أخرج ابن عساكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (أقسم

الله تعالى ألا يدخل الجنة بخيل) وفي رواية للخطيب (يحلف الله بعزته وجلاله

ألا يدخل الجنة شحيح ولا بخيل) .

وأخرج ابن أبي شيبة، وهناد، والنسائي، والحاكم، والبيهقي عنه -

صلى الله عليه وسلم (لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدًا) ، وفي رواية

لابن عدي: (لا يجتمع الإيمان والبخل في قلب رجل مؤمن أبدًا) .

فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم المبين للدين، الناطق عن الله،

أراك أن البخيل لا يدخل الجنة، ولم يأت بالخبر إلا مؤكدًا بالقسم عن الله تعالى.

ولا يخفى أن البخل خلق في النفس يمنع صاحبه من بذل فضله لمن يحتاج

إليه، والشح أشد من البخل، فهو أكثر منعًا منه لصاحبه، وكلاهما ضد للإيمان

الذي يحمل صاحبه على بذل روحه في سبيل ربه، فضلاً عن بذل ماله وفضله،

فكيف يكون المانع للزكاة مؤمنًا، وهو لم يمنع الزكاة إلا حرصًا على المال،

وإيثارًا له، وشحًّا به على الله؟ فلا شك في كفره وحرمانه من الجنة كما أخبر الله

ورسوله.

وهنا ربما تقول: أتيتنا بآيات في الصلاة وصفت تاركها بالشرك والكفر

والنفاق، ولم تصف آيات الزكاة مانعها إلا بالشرك والكفر فقط، فأقول لك: قد جاء

في القرآن أيضًا وصف المنافقين بمنع الزكاة، قال عز شأنه في سورة التوبة:

{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ

وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} (التوبة: 67) فقبض اليد هو إمساكها عن الإنفاق الواجب من

زكاة وغيرها، وقد علمت حال المنافقين ودرجتهم مما سبق، فلا حاجة إلى الإعادة،

وإلى هنا ننتهي من أدلة الزكاة وحدها.

وإني أتلو عليك آيات في الصلاة والزكاة معًا

(قال) الله تعالى في سورة البقرة: {لَيْسَ البِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ

المَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (البقرة: 177) إلى أن

قال: {وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي

البَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ} (البقرة:

177) فانظر كيف جعل البر الإيمان بالله واليوم الآخر، وإقام الصلاة، وإيتاء

الزكاة، والوفاء بالعهد، والصبر في الشدائد، وتراه قد ابتدأ بالإيمان، وعقَّبه

بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة لأنهما تابعان له، لا ينفكان عنه، ثم ذكر بعدهما

الوفاء بالعهد، والصبر في الشدائد، وهما من الأخلاق التي تدعو إليها الصلاة،

وتثبتها في النفس، وقد عرفت ذلك فيما تقدم من الحكمة.

ولما كان الإيمان يستلزم إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وما يتبعهما من

الأعمال والأخلاق، وكان محالاً - بحسب سنة الله تعالى - أن يوجد الإيمان في

قلب المرء، ويستقر من غير أن يحرك الجوارح لتلك الأعمال، ذيل الآية بقوله:

{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ} (البقرة: 177) أي أولئك الذي أقاموا

الصلاة، فأتوا بها معدلة مقومة، وآتوا الزكاة لمستحقيها بنفس طيبة، واتصفوا

بهذه الأخلاق الفاضلة، هم الذين صدقوا في إيمانهم، وهم الذين فعلوا ما يقيهم

عذاب ربهم، دون غيرهم، وهذا نص صريح في أن من يدعي الإيمان من غير أن

يكون مصليًا لله مزكيًا، تكون دعواه باطلة كاذبة، إذ لم يأت عليها من أعماله

بشاهد أو بينة [2] .

وقد قضت حكمة الله تعالى أن يكون الإيمان حياة للروح، كما أن الدم حياة

للجسم، وكلاهما يحتاج إلى ما يمده ويقويه، فكما أن الدم يطلب بطبيعته أن تأتي

له الأعضاء بمواد تجهزها له، وتمده بها ليقوى ويزاد صلاحًا لتقوية الجسم على

حاجاته، كذلك الإيمان يطلب عملاً صحيحًا تقوم به الجوارح من الصلاة والزكاة

وغيرهما ليغذيه ويزيده قوة؛ فتقوى بقوته الروح، وتستعد بزيادته النفس لأن تكون

ملكية صالحة لجوار الله تعالى، وأهلاً للتمتع بجناته ورضوانه.

وهذا هو السر في أن الإيمان متى قام بالنفس صرّف الجوارح في العمل

حتمًا، وأن الإيمان لا يوجد في قلب امرئ لا يصلي أو لا يزكي، كما سمعت من

الآيات التي تقرن الإيمان بالعمل على الدوام، وتكذب من يدعي الإيمان ولا يعمل؛

لأنه لو كان صادقًا لأتى بالصلاة والزكاة التي تصدقه وتشهد له، وقد علمت أن

غير الصلاة والزكاة من الفضائل هو تابع لهما بالضرورة؛ ولذلك تجد الآيات

تقرنهما بالإيمان، وتذكر غيرهما بعدهما، وفي كثير من الآيات يُستغنَى بذكرهما

بعد الإيمان، للإشارة إلى ذلك.

(قال) تعالى في وصف المؤمنين في سورة النساء: {وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ

بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ

وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً} (النساء: 162) .

س: لِمَ قال (والمقيمين) فأتى بها منصوبة على غير المألوف لنا من قواعد النحو في العطف؟

ج: لتنبيه الذهن، فهو تخصيص يظهر لك به قيمة المقيم للصلاة، وتأكيد للعناية بها،إذ هي الأصل للفضائل كما أسلفنا، والناهية عن الفحشاء والمنكر، وقد أردفها بأختها الزكاة وجعلهما معًا وسطًا بين الإيمان بالكتب المنزلة من السماء وبين الإيمان بالله وبالجزاء، ليفيد أنهما مظهر الإيمانين، وأن المؤمن لا بد أن

يتصف بالصفتين.

وكأنه يقول: إن من لم يتحل بالصلاة والزكاة، لا يكون مؤمنًا بالله، ولا

خائفًا من عذاب الله، اسمع قوله تعالى في سورة النور: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن

تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لَاّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا

بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ

وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ} (النور: 36-

38) الآية.

تجد أنه جعل خوف هؤلاء الرجال من يوم القيامة وهوله، وما يلاقيهم هناك

من حسابه، سببًا في ذكرهم ربهم، وإقامة صلاتهم، وإيتاء زكاتهم، كما أن فعلهم

الصلاة والزكاة نتيجة ثقتهم بأن الله يشكرهم على فعلهم، ويمتعهم بثمرة أعمالهم،

فالآيات تنادي بأن من لم يقم الصلاة، ولم يؤت الزكاة، ولا يخاف ذلك اليوم - يوم

الدين - ولا يثق بثواب رب العالمين، إذ النفس مفطورة على فعل الشيء متى

ترجح لها فيه الخير، والابتعاد عنه إذا علمت منه الضرر، وهذه قاعدة نفسية،

تجرى عليها جميع الأعمال البشرية، فمن ادعى خلافها فهو كاذب، ألا تراك حين

تعلم أنك إذا وضعت يدك في جحر الثعبان؛ فإنه يلدغك، أو أكلت طعامًا فيه سم؛

فإنه يقتلك، لا تستطيع بحسب فطرتك أن تقدم عليه البتة، اللهم إلا إذا زال من

نفسك هذا العلم بالضرر، أو أصابك شيء في العقل؛ فترجح لك النفع في الموت،

ولكن ما دام العقل سليمًا، والضرر مرجحًا؛ فإنك لن يمكنك الإقدام عليه، فارجع

إلى وجدانك، وحقق منه ذلك، فإنك لا تشكّ في أن تارك الصلاة ومانع الزكاة، لم

يمنعه من أدائهما، إلا ما قام بنفسه من ترجيح الخير في تركهما، وعدم يقينه بأنه

سيعذب على عدم المبالاة بهما، ولو قرأت قوله تعالى عقب هذه الآية مباشرة:

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} (النور: 39) الآية؛ لرأيت أنه يقابل الآية

التي قبلها، ومن المعلوم في سنة القرآن أن يذكر الكافرين، في مقابل المؤمنين،

فيريك أن من يتخلى عن تلك الصفات إنما هم الكفار، ولا بد للمؤمنين من

الاتصاف بها، فبها يعرفون، وبها يميزون.

قال تعالى في سورة المؤمنين: {قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي

صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} (المؤمنون: 1-4) .

جعل الفلاح للمؤمنين الخاشعين في صلاتهم، الفاعلين لزكاتهم، فافهم ألا

فلاح لغير المؤمن، كما أنه لا إيمان لمن لا يصلي خاشعًا، ويزكي محبًّا.

س: عهدنا من القرآن أن يذكر الزكاة بعد الصلاة من غير فصل، فلماذا فصل بينهما هنا بقوله:( {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} (المؤمنون: 3)

ج: لينبهك إلى نكتة جميلة وحكمة جليلة، وهي أن الصلاة التي ليس فيها خشوع لا يعبأ بها وأنها لغو يتنزه المؤمنون عنها، فليكن لك من كلام الله عبرة

ترجع فيما تطالبك به نفسك إليه، وتقيس أخلاقك وما تأتي به من الأعمال عليه،

فما لك من قسطاس مستقيم يزن الأعمال بالضبط غيره، ولا مقياس صحيح يحدد

الصفات بالحق سواه {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقّ} (الجاثية: 29) ،

{وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} (المؤمنون: 62) .

(وقال) تعالى في سورة النمل: {طس تِلْكَ آيَاتُ القُرآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ *

هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ

يُوقِنُونَ} (النمل: 1-3) .

(وقال) في سورة لقمان: {الم * تِلْكَ آيَاتُ الكِتَابِ الحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةً

لِّلْمُحْسِنِينَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ

عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (لقمان: 1-5) .

تراه هنا قد حصر الفلاح فيهم، وأفادك أمرًا آخر، وهو أن الصلاة والزكاة

مع ملازمتهما للإيمان بالآخرة، قد يأتي بهما المرء عن غير داعية الإيمان، إما

للرياء أو الإكراه، وحينئذ لا يكون له حظ في هداية القرآن، ولا البشرى بالجنة

والرضوان، ومن كان هذا حاله، لا تنفعه صلاته، ولا تقبل منه نفقاته.

(قال) تعالى في سورة براءة: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَاّ أَنَّهُمْ

كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَاّ وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنفِقُونَ إِلَاّ وَهُمْ كَارِهُونَ

* فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ

أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} (التوبة: 54-55) .

أنزل الله ذلك في شأن المنافقين الذين لم تكن صلاتهم عن إيمان؛ فينشطوا

إليها، ويرتاحوا بها، ولم تكن نفقاتهم عن إخلاص؛ فينفقوا عن طيب نفس ورغبة

في القبول؛ فبذلك كفروا، وجعل الله أموالهم وأولادهم فتنة لهم، ووبالاً عليهم،

وسينتقم منهم {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَاّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (الشعراء: 88-89) من عيوب الشرك والنفاق.

هذا وقد تضافرت الآيات الناطقة بأن الصلاة والزكاة هما علامتا الإيمان بالله،

ودليلا الإخلاص له، وأنه لا يصح إيمان بدونهما، كما أنهما لا تقبلان من غير

أن يكون الإيمان باعثًا عليهما، وها أنا ذا أزيدك على ما تقدم منها ما تقطع بعد

تدبره بأن تارك الصلاة ومانع الزكاة لم يمس الإيمان قلبه.

قال العزيز الحكيم في سورة السجدة الم: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا

بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ

المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} (السجدة: 15-16)

(وقال) تعالى في سورة الأنفال {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ

قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ

الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقاًّ} (الأنفال: 2-4) وقد

أتى في الآيتين بلفظ (إنما) الذي يدل على الحصر، كأنه يقول سبحانه: إنه لا

يوجد الإيمان الصحيح إلا فيمن يكون هذا شأنهم، وتلك صفاتهم، فمن لم يهتز قلبه

لذكر الله، ولا يخضع ويذعن لأوامره، فيرجو ثوابه، ويخاف عقابه، فليس بمؤمن،

وإن سمى نفسه مؤمنًا؛ لأن المؤمن يدور دائمًا بين خوف ورجاء، فخوفُه عذابَ ربه

يزجره عن المنكرات، ورجاؤه ثوابه يدعوه إلى المسارعة في الخيرات، فمن لم يك

كذلك، فاعتقد كذبه في دعوى الإيمان، وحسبك شهادة الله لمن يقيم الصلاة ويعطي

الزكاة بعد ما تقدم بقوله: {أُوْلَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقاًّ} (الأنفال: 4) بالحصر

المؤكد بالحق، فهل بعد هذه أدلة، تشفي من الغلة، أو ينتظر برهان، أرقى من

القرآن؟

ولنختم الموضوع بآيات أخرى ودلائل، ولا تدع بعدها قولاً لقائل، فنتلو

قول الله الكريم: {بَرَاءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ المُشْرِكِينَ} (التوبة: 1) الآيات، ففيها يقول الله للمسلمين {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُوا

المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُوا

وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (التوبة: 5) ،

وفيها يقول: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} (التوبة: 7) - إلى أن قال -:

{لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلَا ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُعْتَدُونَ * فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ

وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} (التوبة: 10-11) .

أمرهم بألا يَعْتَدُّوا بتوبتهم من الشرك والاعتداء، إلا إذا اتبعوا التوحيد بإقامة

هذين الركنين للدين؛ لأنهم بهما يصيرون مسلمين متآخين، وعلى هذا سار

الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، وقتال الخليفة

أبي بكر بإجماع الصحابة لمانعي الزكاة، وعده إياهم خارجين بتركها مشهور، وبه

علم أن الإسلام أركانه متضامنة، لا يقام إلا بإقامتها جميعها، وينهدم بهدم أي ركن

منها، وقد عزز ذلك النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا بالحديث الذي خرَّجه

الإمام أحمد [3] (أربع فرضهن الله في الإسلام فمن جاء بثلاثة لم تغنين عنه شيئًا

حتى يأتي بهن جميعًا: الصلاة والزكاة وصوم رمضان وحج البيت) ، وقد علمت

مما تقدم أن من يقيم الصلاة بالخشوع، ويؤتي الزكاة بالإخلاص، لا يسعه أن يترك

غيرهما من الفروض، ولا يمتنع عن تقوى الله ما استطاع، ولذلك اختصرنا

عليهما إذ يوشك أن تضيع كل فضيلة بضياعهما، وعدم المبالاة بهما.

فاتقوا الله يا معشر المسلمين، واعملوا أنكم لستم بمأجورين، حتى تحذوا

حذو سلفكم الصالحين، فتكونوا بالصلاة والزكاة آمرين مؤتمرين، وعلى يد

التاركين لهما ضاربين، ( {فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي

الدِّينِ} (التوبة: 11) تتعاونون على نشره، وتتكاتفون في إحياء شعائره،

فتعلون كلمته، وتجنون ثمرته.

هذه نصيحتي أقدمها إليكم، عسى أن تكون وسيلة لديكم، فتطلبوا الحق من

القرآن، ولا تستبدلوا التقليد بالبرهان.

هداني الله وإياكم

...

...

...

... محمد علي أبو زيد

(المنار)

عنوان هذه الرسالة، والكثير من عباراتها مخالف في ظاهره لمذهب أهل

السنة في عدم تكفير المسلم بترك فريضة أو فعل معصية، وموافق لمذهب الخوارج

في تكفير مرتكب الكبيرة، كترك أحد أركان الإسلام، أو اقتراف القتل، أو الزنا،

أو شرب الخمر، وقد تعارضت ظواهر نصوص الكتاب والسنة في هذا الباب،

فأطلق اسم الكفر في بعض أحاديث صحيح مسلم على ترك الصلاة، وعلى الطعن

في النسب والنياحة على الميت، وفي حديث الصحيحين " سباب المسلم فسوق

وقتاله كفر " (وفيهما)(إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار) ،

وقال تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} (الحجرات:

9) فسماهما مؤمنين، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ

ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} (النساء: 48) فجمع أهل السنة بين هذه النصوص وأشباهها

بأن لفظ الكفر - ومثله الفسق والظلم - ورد في الكتاب والسنة بالمعنى اللغوي،

فأطلق على كفر النعمة، وعلى الشرك، وما في معناه من منافيات الإيمان بالله

ورسوله، وتصديق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى،

وكذلك الفسق والظلم، قال تعالى:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان: 13) ،

{وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (البقرة: 254) ، {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ

فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} (يونس: 33) ، وقال {َ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ

فِي الحَجِّ} (البقرة: 197) فهذا الفسق دون ما قبله، وكذلك لفظ الشرك، وهو

أقبحها أطلق على ما دون اتخاذ إله مع الله فسمي الرياء شركًا.

وجملة القول: إن أهل السنة لا يكفرون أحدًا من المسلمين بمعصية يرتكبها

فعلاً كانت أو تركًا وإن كانت من الكبائر، إلا أن بعض أئمة أهل السنة من

الصحابة والتابعين قالوا بكفر تارك الصلاة كما تقدم في تعليقنا على حديث مسلم في

أول هذه الرسالة، وأطلق جمهورهم كلمة (المرتدين) على مانعي الزكاة بعد وفاة

الرسول صلى الله عليه وسلم كما أطلقوه على من رجعوا عن الإسلام إلى

الشرك أو الإيمان بنبوة الكذابين مسيلمة والأسود العنسي؛ ولكن قال علماء السنة:

إن الذين منعوا الزكاة تأولاً بأن أخذها خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم لم

يسموا مرتدين إلا بالتبع لغيرهم، أو بمعنَى الارتداد اللغوي، وإن الإجماع انعقد في

عهد الصحابة بأن من منع الزكاة متأولاً - ومثله من جحد ما في معناها وحكمها -

تقام عليهم الحجة أولاً فإن اعترفوا بوجوبها ولم يؤدوها لا يحكم بكفرهم بل يقاتلون

قتال البغاة لا الكفار، كما قاتل الصحابة الخوارج ولم يكفروهم، ولا عاملوهم معاملة

الكفار في القتال.

هذا، وإن وراء هذه المسالة بحثًا آخر وهو: أنه لا يعقل أن يكون المرء

مؤمنًا بالله تعالى، وبرسوله، وباليوم الآخر على الوجه الحق الذي دعا إليه القرآن،

ومسلمًا مذعنًا في ظاهره وباطنه لما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام وهو

يترك الصلاة التي هي عماد الإسلام، وركنه الأعظم للعبادات الشخصية، والزكاة

وهي ركنه الأعظم الذي تقوم عليه حياته الاجتماعية، غير مبال بنصوص الكتاب

والسنة التي قرنتهما بالإيمان، وعدتهما أعظم أركان الإسلام، وقد عد السلف العمل

بما أمر الله ورسوله داخلاً في مفهوم الإيمان، والإذعان شرط لصحة الإيمان

بالاتفاق، وكيف يكون مذعنًا من لا سلطان للأمر والنهي على قلبه، ولا يظهر لهما

أثر في عمله؟

لقد أحسن من عبر عن المسألة بقوله (لا نكفر أحدًا من أهل القبلة) أي من

ثبت إسلامه بإذعانه لما جاء به نبينا، بأن كان يصلي معنا إلى قبلتنا، ويلتزم

أحكامنا وشعائرنا؛ فإننا لا نحكم بكفره لذنب يقترفه بجهالة كثورة غضب، أو نزوة

شهوة، أو فريضة يتركها بشغل عارض، أو برد قارس، ثم يتوب من قريب،

إذعانًا لمقتضى الوعد والوعيد {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ

يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} (النساء: 17) ، {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا

فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَاّ اللَّهُ وَلَمْ

يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (آل عمران: 135) لا إيمان لمن لا إذعان

له، ولا إذعان لمن لا إسلام له، ولا إسلام لمن لا عمل له، وأعمال الإسلام

قسمان أركان كأركان البيت يتوقف عليها وجوده، وواجبات ومندوبات يتوقف عليها

كماله، فهذا هو الإسلام الديني.

وهناك إسلام آخر هو عبارة عن جنسية سياسية أو اجتماعية تنال بالوراثة،

أو بالانتماء إلى قوم يسمون مسلمين، وهذا الإسلام لا يشترط فيه العلم بعقائد

الإسلام الديني، ولا القيام بأركانه وشعائره الظاهرة، ولا ترك محرماته المجمع

عليها، ولا استقباحها، ولا ينافيه إنكار شيء من القرآن، ولا استقباح شيء من

شرعه كتحريم تبرج النساء والخمر والقمار، وإنما يُعْرَف بالاسم وبمشاركة

المسلمين في بعض احتفالات أعيادهم، ومواسمهم المشروعة والمبتدعة، وبعدم

التزام شعائر دين آخر، وإننا نرى بعض الملاحدة من هذا الجنس يريدون هدم

الإسلام الديني بالإسلام الاصطلاحي الجنسي، حتى أنهم يبيحون جحد المجمع عليه

المعلوم منه بالضرورة، وأولئك هم المرتدون المنافقون.

_________

(1)

المنار: مثل هذا القول لا يمكن حمله على الشرك في الاعتقاد؛ وإنما هو من باب حديث (تعس عبد الدينار) وباب [أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ](الجاثية: 23) .

(2)

المنار: الاستدلال بعدم الإتيان بالبينة، وباستلزام الإيمان للعمل يجادل فيه المشتغلون بالعلم بقولهم إن عدم الإتيان بالدليل لا يقتضي عدم المدلول، وعدم البينة لا يقتضي كذب الدعوى، وعدم الملزوم يقتضي عدم اللازم دون العكس، ويعدون هذا الاستدلال من الخطابيات، وستعلم أن له وجهًا صحيحًا.

(3)

المنار: رواه عن زياد بن ربيعة بن نعيم مرسلاً.

ص: 662

الكاتب: محمد توفيق صدقي

مدرسة دار الدعوة والإرشاد

دروس سنن الكائنات

محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صدقي

(11)

أنواع أمراض الأحياء

الطفيلية الميكروبية

هذه الأمراض نوعان: منها ما عُرِفَ ميكروبه باليقين، ومنها ما لم يُعْرَف

إلى الآن، ومن أسباب ذلك أن جميع المجاهر أو النظارات المكبرة

(الميكروسكوبات) الحالية لا تكشف إلا ما بلغ طول قطره 16.0 من

الميكرومليمتر أو أكثر، أما ما قل عن ذلك فلا يمكن رؤيته إلى الآن مطلقًا،

ويسمى (بما وراء المجهر)(Ultra-microscopic) وهذه الميكروبات تمر

خلال أحكم النواضح (المرشحات) مثل ميكروب الكَلَب وجدري البقر.

أما الميكرومليمتر المذكور هنا، ويسمى أيضًا (الميكرون) فهو جزء من

ألف من المليمتر، ويُرمز إليه بهذه العلامة (u) في الإفرنجية، وبحرف (مك)

في العربية.

والميكروبات المعروفة إما نباتية أو حيوانية، كما سبق.

الأمراض التي تنشأ من الميكروبات النباتية

الحمى التيفودية fever Typhoid:

لفظ التيفود يوناني معناه (شبه التيفوس) ، ومعنى كلمة (تيفوس) الصاعقة سميت بذلك الحمى المعروفة؛ لأنها تصعق المريض.

هذه الحمى من الحميات الشهيرة المعدية، وتمكث عادة نحو ثلاثة أسابيع،

وقد يُنكَس فيها المريض مرة أو أكثر، وأهم مميزاتها طفح قرنفلي، وإسهال مع

التهاب، وتقرح في بقع (بايير) ، وفي الغدد المنعزلة للأمعاء، ولإصابة الأمعاء

فيها بالتقرح تسمى أيضًا بالحمى المعوية.

الأسباب:

هذه الحمى لا تُمَيز إلا قليلاً بين الذكر والأنثى، ولكن للعمر تأثيرًا كبيرًا فيها

فهي تكثر في سن الشباب إلى 30 سنة، وبعد ذلك تقل كثيرًا، غير أنها قليلاً ما

تصيب الأطفال والشيوخ، وإذا أصابت الأطفال كانت الإصابة خفيفة، ومدتها

قصيرة، وإضرارها بالأمعاء أقل مما في الشبان.

تكثر هذه الحمى بين شهري أغسطس ونوفمبر، أو في فصل الحر والجفاف،

وإذا أصيب بها المرء مرة وَقَتْهُ من الإصابة بها مرة أخرى، وميكروبها من

الشكل الباسيلي، كثير الحركة بأهدابه، طوله ميكرونان أو ثلاثة، ويتكاثر

بالانقسام، ولا حبيبات له، ويوجد بكثرة في البراز وفي البول [1] ، وفي اللعاب

أيضًا (في المضاعفات الرئوية) وفي العرق، ويوجد كذلك في قيح الخراجات

التي تنشأ من هذه الحمى، وقد ينتقل من الأم إلى جنينها.

فإذا وصل هذا الميكروب إلى أي شيء مما يأكله الإنسان، أو يشربه انتشر

المرض بين الناس، والذي اكتشفه هو (إيبرت Eberth) سنة 1880، وهذا

الميكروب يعيش حتى في الثلج، ولا يقتله عصير المعدة الحامض ويقاوم درجة 44

إلى 45 سنتيجراد مدة طويلة جدًّا؛ ولذلك قد يصل إلى الإنسان من مثل القشدة

المثلوجة وغيرها، ويدخل هذا الميكروب كثيرًا في الأسماك الصدفية أي المحار

(كأم الخلول) التي تؤكل عادة بلا طبخ، ويعيش فيها الميكروب وهي حية لغاية 18

يومًا بدون أن يظهر عليها عرض ما، وإذا جف الطين وصار بحيث تثيره الريح

عاش الميكروب فيه 25 يومًا؛ فينتقل بذلك إلى طعام الإنسان وشرابه، وكذلك

الذباب ينقله أيضًا، وقد يعلق هذا الميكروب بالخضروات كالفجل والجرجير

ونحوها مما يؤكل غضًّا، فكل هذه الأشياء هي مما ينقل المرض من شخص إلى

آخر، وكثيرًا ما تتلوث الآبار، أو الأنهار، أو أنابيب المياه من المراحيض التي

يُلقى فيها إفراز المرضى، وقد ثبت أنه يعيش في قذارة المراحيض من 3 إلى 5

أيام؛ ولكن يوجد في هذه المواد القذرة من الميكروبات ما يقتله بعد ذلك.

وإذا عُرِّض هذا الميكروب لنور الشمس مات بعد 4 ساعات، وقد يبقى إلى

8 ساعات، وإذا وجد في الأرض مختبئًا عاش شهرين كاملين.

ومن الناس من يحمل الميكروب في جسمه عدة أشهر، بل عدة سنوات بعد

الشفاء من الحمى، ويكون سببًا في عدوى الكثيرين ببوله وبرازه [2] ، ومن المحقق

أن المرارة هي غالبًا مسكن الميكروب في هؤلاء الحَمَلَة (خصوصًا من النساء)

وفيها يتكاثر بعد الشفاء (راجع 16 و 17 من هذا الجزء) .

والطريق الوحيد للعدوى بهذا المرض هو الجهاز الهضمي؛ فإذا وصل إلى

أي جزء منه كالفم مثلاً إذا ذرته الرياح فدخل غباره في جوف الإنسان فمن الجائز

أن يصاب بهذا المرض، وإن كان الغالب في العدوى أن يزدرده الإنسان في الطعام

أو الشراب.

الأعراض:

مدة التفريخ تكون في أكثر الأحوال نحو أسبوعين، وقد تكون 5 أيام فقط،

أو 22 يومًا، ويبتدئ المرض بإحساس المريض تدريجًا بضعف وتكسر في الجسم،

ويسأم العمل، ويشعر بصداع، وآلام في الأطراف والظهر، وبالإقهاء (فقد

شهوة الطعام) وقد يحصل له غثيان أو قيء، وفي أغلب الأحوال لا يمكن

للمريض أن يعين بالضبط مبدأ لهذه الأعراض بخلاف بعض الحميات الأخرى التي

تبتدئ فجأة ويكون الصداع شديدًا (وأكثر شكوى المريض منه) وفي كثير من

الأحوال يحصل له إسهال، وقد يحاول المريض في أول الأمر أن لا ينقطع عن

عمله إلا أنه في أواخر الأسبوع الأول يضطر إلى ذلك، ويلجأ إلى الفراش، وكذلك

تبتدئ الحرارة بالتدريج حتى تصير بعد أيام قلائل نحو 40، ويسرع النبض،

وتزداد مرات التنفس، وفي نحو اليوم السابع أو العاشر يكون عند المريض ذهول،

وضعف شديد، ويحتقن خداه، ويجف اللسان، ولا يزال يشتكي من الصداع،

ويحصل له أحيانًا عرق غزير، أو رعاف، ومن اليوم السادس إلى اليوم الثاني

عشر يظهر الطفح القرنفلي المخصوص، وهو نقط أو بقع صغيرة وردية مستديرة

مرتفعة قليلاً عن سطح الجلد تزول بالضغط عليها، ولا يحصل فيها نزف كما في

التيفوس، وتشاهد هذه النقط على البطن والصدر، وقد تُرى أيضًا على الجنبين

والظهر، أو العضدين والفخذين، ويتراوح عددها بين 6 إلى 20 أو 30، وقد

تزيد على ذلك بكثير، وفي بعض الأحوال لا يكون لهذا الطفح وجود خصوصًا في

مصر، وهو لا يظهر دفعة واحدة بل تدريجيًّا، وتمكث كل نقطة 3 أو 4 أيام، ثم

تزول، ويخلفها غيرها حتى نهاية الأسبوع الثالث أو بعده، وبعد الموت تزول هذه

النقط.

وفي الأسبوع الثاني يكون البطن منتفخًا، وبه آلام، وبالضغط على الحفرة

الحرقفية اليمنى يشعر المريض بالألم القليل، وقد يحس الطبيب بقراقر مخصوصة،

ويشتد الإسهال؛ ولكن في بعض الأحوال خصوصًا في مصر يكون البطن معتقلاً

من أول المرض إلى آخره، وللبراز في هذا المرض رائحة كريهة مخصوصة،

ولون أصفر يشبه حساء (شوربا) العدس المصري، وقد يحصل نزف من البطن

يكون سببًا في الموت أحيانًا، ويكبر الطحال، ويقل البول.

أما الصداع فإنه لا يمكث عادة بعد اليوم العاشر، وقد يصاب بالصمم الوقتي،

وفي أواخر الأسبوع الثاني تبتدئ الحرارة في النزول تدريجيًّا حتى تصبح طبيعية،

هذا في الأحوال الحسنة.

أما في الأحوال السيئة؛ فيشتد الهذيان والنعاس الذي تعقبه الغيبوبة ويحصل

الاهتزاز الوتري، وتجتمع الأوساخ على الأسنان والشفتين وغيرهما ويضعف القلب،

ويكثر السعال، ويعسر الشفاء.

وقد يُنْكَس الإنسان بعد الشفاء من هذا المرض، فإنه لوحظ أن نحوًا من 11

مريضًا في المئة يُنْكَسون، وقد تكون الفترة بين المرة الأولى والثانية 11 يومًا،

وفي الغالب تكون مدة النكس مثل المدة في طولها؛ ولكنها أخف منها، وقد ينكس

ثانية وثالثة ورابعة.

وأهم تغير يحصل في الجسم بهذا المرض هو التهاب بقع (بايير) المذكورة

والغدد المنعزلة، وفي اليوم العاشر أو بعده بقليل تتقرح هذه الأجزاء، وقد ينثقب

البريتون؛ فتخرق الأمعاء، ويحصل التهاب بريتوني شديد يعقبه الموت، أما

التغيرات في بقية الأعضاء فهي كما ذكر سابقًا في المقدمة، وكثيرًا ما يشاهد في

التيفود إذا طالت مدته تغير العضلات الذي ذكره (زنكر zenker) فتستحيل

أليافها إلى مادة شفافة كالشمع، ثم تتفتت، وتصير حبيبات صغيرة، وبذلك تفسد

العضلات، وقد يتولد فيها خراج.

المضاعفات والأشكال المختلفة:

مضاعفات هذا المرض كثيرة، منها النزلة الشعبية، والالتهاب الرئوي، أو

البليوراوي، أو البريتوني، أو السحائي، وغير ذلك كثير.

ومن أنواعها ما لا يمكث إلا عشرة أيام، ويسمى بالنوع المجهض

(abortive) أو يطول إلى 6 أسابيع، ومن الناس من لا يشعر بالمرض لشدة

خفته؛ ولكنه قد تُثقب أمعاؤه فجأة فيموت، وإذا شفي المريض لا تعود إليه قواه

العقلية والجسمية إلا تدريجًا؛ فيحتاج في الأحوال البسيطة إلى ثلاثة أشهر من مبدأ

المرض إلى تمام نقاهته، أما في الحالات الشديدة، أو المتضاعفة، أو ذات النكس

فيحتاج إلى5 أو 6 أشهر من مبدأ المرض.

الإنذار [3] :

عدد الوفيات بهذا المرض هو من خمس إلى عشرين في المئة، ومن أشد

الأشياء خطرًا على الحياة ثقب الأمعاء، والنزف.

المعالجة:

هي كما سبق في باب الحميات، إنما نُذَكِّر هنا بعدة مسائل:

(1)

أن لا يُعطى المريض مسهلاً إلا في أول المرض، وأفضل المسهلات

عندئذ زيت الخروع، ولا يجوز بحال من الأحوال إعطاء مسهل شديد

ألبتة.

(2)

يجب التزام الراحة التامة على الظهر؛ حتى يتبرز المريض في

إناء مفرطح منعًا لكل حركة، ويجب بقاء المريض على الغذاء السائل مدة 10 أيام

على الأقل بعد نهاية المرض، والغرض من ذلك كله منع الانثقاب والنزف.

(3)

من الأطباء من يعطي أدوية مطهرة للأمعاء (كالسالول) والزئبق

الحلو بمقادير صغيرة، ولكن نفع هذه الأشياء قليل، وغاية الأمر أنها قد تقلل

الإسهال والرائحة الكريهة للبراز.

(4)

إذا زاد الإسهال عن أربع مرات يوميًّا، وجب العلاج وإلا

فلا.

(5)

لا بأس من شرب الماء بكثرة؛ فإنه منعش، ويغسل سموم الجسم في

العرق والبول، وماء الجير نافع جدًّا إذا مُزج باللبن؛ فإنه يسهل هضمه، ويمنع

الغثيان، والقيء، ويمسك البطن، ويقوي خلايا الجسم؛ فإن الجير لازم لحياة جميع

الخلايا.

(6)

يُعالج الصداع بوضع الماء المثلوج على الرأس، أو بتعاطي

الفيناستين (بقدر5 - 10 قمحات) أو غيره.

للوقاية:

(1)

تطهر جميع مواد البراز والبول وغيرهما بوضع مثل الفنيك عليها

بنسبة 5 في المئة لمدة ساعتين على الأقل قبل إلقائها في المراحيض.

(2)

يُغلى كل ما يستعمله المريض من ملبس، وفرش، وأواني، وغيرها

مدة نصف ساعة على الأقل.

(3)

يجتنب إلقاء أي شيء مما يخرج من المريض، أو يمسه في مجاري

ماء الشرب، أو تركه مكشوفًا بحيث ينقله الذباب أو الريح، بل يجب تغطية

أواني البراز بخرقة مغمسة بمحلول الفنيك بنسبة 5 في المئة أيضًا منعًا لانتقال

الميكروب بواسطة الذباب إلى أهل المنزل.

(4)

يجب غسل يدي كل من خالط هذا المريض بالماء والصابون، ثم

بمحلول السليماني 1 في 1000، أو بمحلول الفنيك، أو بالغول (الكحول)

النقي بوضعهما فيه خمس دقائق قبل أن يمس أي شيء من طعامه.

(5)

في وقت انتشار هذا الوباء يجب غلي كل طعام وشراب، وأحسن

طريقة لتطهير الخبز ونحوه إمراره في لهب الكحول، أو وضعه على الفحم

الملتهب، وينبغي أيضًا الامتناع عن أكل الخضر كالفجل والجرجير والفاكهة إلا

إذا غسلت جيدًا بالماء الغالي، وأزيلت قشورها، وكذلك يجب اجتناب أكل

الحيوانات البحرية المذكورة سابقًا واللبن المثلوج.

(6)

يُلقح السليم بالحقن تحت الجلد بميكروب الحمى التيفودية بعد قتله،

وذلك بأن يربى ميكروب التيفود لمدة 42 ساعة، ثم يوضع في محلول الطعام 1

في 100 ويقتل بعد ذلك بحرارة درجتها 53 سنتيجراد لمدة ساعة، وليحترس من

رفع الحرارة أكثر من ذلك؛ لأنها تفسد مادة التطعيم، ويحقن المريض مرتين

بينهما فترة عشرة أيام، وعدد الميكروبات التي يجب أن تحقن في المرة الأولى

500 مليون، وفي الثانية نحو 1000 مليون، ويوصي بعضهم بحقنة ثالثة من

2000 مليون، وللحقن في زمن انتشار الوباء عيب، وهو أن القابلية للمرض

تزداد بعد الحقن لمدة قصيرة؛ فيكون الإنسان عُرضة للإصابة، وأحسن الأوقات

للحقن ما كان قبل قيام المسافر ونحوه إلى مكان الوباء ببضعة أيام.

(7)

تطهر الأواني إذا تعسر غليها بمحلول حامض الكبريتيك بنسبة 2 في

المئة ومزيته أن الآثار التي تبقى منه لا تضر صحة الإنسان مطلقًا بل إن طعمه

الحمضي مما يحرض شهوة الطعام، ويعين على الهضم.

(8)

لا يجوز للناقهين التبول، أو التغوط في الطرقات، ولذا يجب

تقصير الثياب وخلع المرء نعليه عند دخوله حجرات منزله، ولا يخفى أن من

آداب الإسلام تقصير الثياب فإن في إطالتها إسرافًا وخيلاء وضررًا صحيًّا

عظيمًا.

(9)

تتقى مخالطة الناقهين مدة ثلاثة أشهر على الأقل أو إلى أن يُظْهِر

البحث البكتيريولوجي طهارتهم من الميكروبات تمامًا بعد عمله عدة مرات متباعدة،

وإلا وجب منعهم عن مس أي طعام أو شراب، وتطهير أيديهم، وملابسهم،

وفرشهم، أو مفرزاتهم دائمًا، وغلي كل طعام أو شراب مسوه قبل تناوله.

***

طريقة فيدال لتشخيص الحميات

TEST WIDAL'S

هذه الطريقة مبنية على أن مصل دم المرضى بالتيفود يبطل حركة ميكروباته

في بعض دقائق، ثم يتراكم بعضها على بعض؛ فيتكون منها أكوام، وذلك ما يسمى

بالإفرنجية (Agglutination) وهي كلمة لاتينية معناها الحرفي (التغرية) ؛

لأن الميكروبات في اجتماعها تكون كأنها غريت بعضها ببعض بعد أن بطلت

حركتها، والأحسن أن نسمي ذلك (بالارتكام) والميكروبات في هذه الحالة لا تكون

ميتة كما يتوهم بعض الناس، وملخص هذه الطريقة عملاً أن يؤخذ جزء من دم

المريض في أنبوبة دقيقة مطهرة، ثم تمزج نقطة من مصله بجزء أكبر من السائل

الذي ربي فيه الميكروب بنسبة مخصوصة أفضلها ما كان (من 1 إلى 30)

وينظر إليه بالميكروسكوب بطريقة (النقطة المعلقة) فبعد نصف ساعة أو ساعة لا

يشاهد غالبًا ميكروب واحد منفردًا، وقد فسر العلماء ذلك بعدة تفاسير لا حاجة

لذكرها؛ لأن الحقيقة مجهولة، وهذه الطريقة لا تنجح إلا بعد مضي بضعة أيام من

المرض، والأحسن أن يؤخذ الدم بعد الأسبوع الأول، وفي بعض الأحوال لا تنجح

مطلقًا وتكون الحمى حينئذ شديدة ومميتة، وفي البعض الآخر يستمر نجاحها لعدة

أشهر بعد انتهاء المرض، وهي تستعمل في الحميات الأخرى التي عُرِف ميكروبها

باليقين كالحمى المالطية، ويؤخذ الدم من شحمة الأذن أو الإصبع بالوخز بإبرة أو

نحوها.

ولا يتعين استعمال المصل في طريقة فيدال هذه، بل يجوز أن تعمل بدم

متجمد؛ فيذاب بقليل من الماء المقطر، ويستعمل كالمصل، ويجوز أيضًا استعمال

الميكروب الميت؛ فإنه يتراكم أيضًا، وكذلك الميكروبات غير المتحركة.

الحمى الباراتيفودية typhoid - para:

كلمة (بارا) يونانية معناها (قريبة) ؛ لأن هذه الحمى تقرب جدًّا من

التيفودية في أعراضها وسيرها، بل في جميع مميزاتها تقريبًا غير أنها تكون عادة

أخف وطأة، وأقصر مدة، والبطن يكون - في النوع الأول منها - غالبًا معتقلاً،

وهي غير مميتة إلا نادرًا، وتنتشر أحيانًا بشكل وبائي، وقد تحصل في جميع بقاع

الأرض، وأهم الأسباب في انتشارها الماء الملوث، وميكروبها كميكروب الحمى

التيفودية إلا في بعض أشياء قليلة من الوجهة البكتريولجية، أما في الشكل والحركة

فهما سيان، وهذا الميكروب لا يتراكم بمصل دم الحمى التيفودية، وهو نوعان:

النوع الأول يسمى (أ) والثاني (ب) أما (أ) فإنه أشد شبهًا بميكروب التيفود،

وأما (ب) فإنه أضر، إذا مات الشخص بسبب هذه الحمى كان غالبًا مصابًا

بميكروب (ب) وقد تخرق أمعاء المصاب بسبب تقرح اللفائف؛ ولكن تكون بقع

بايير سليمة وفي بعض الحالات لا يوجد شيء في الأمعاء، وفي إصابة واحدة

شوهدت ضخامة غدد المساريقا، وفي كثير من الإصابات يكبر الطحال.

أما المعالجة والوقاية فهي كالتيفودية سواء بسواء، هذه الحمى تقي من أصيب

بها من مثلها، ولا تقي من التيفود.

الحمى المالطية Fever Malta:

تسمى هذه الحمى أيضًا بحمى البحر الأبيض المتوسط؛ لأنها كثيرة الحصول

في شواطئه، وفي جزائره؛ ولكنها توجد أيضًا في جنوب أفريقية، والهند،

والصين، وغير ذلك.

الأعراض:

طور التفريخ يتراوح بين بضعة أيام و 3 أو 4 أسابيع، وتبتدئ الأعراض

تدريجيًّا كما في الحمى التيفودية؛ ولكن لا يظهر فيها طفح، ويكون البطن ممسكًا،

ولا تتقرح فيه بقع (بايير) ولا تضخم، والوفيات فيها قليلة (نحو 2 في المئة) ؛

ولكنها تطول جدًّا فقد تمتد إلى 9 أشهر، ويشفى منها المريض بالتدريج، ويصير

ضعيفًا أصفر اللون وقد تلتهب مفاصله أو خصيتاه.

أسبابها:

لهذه الحمى ميكروب من النوع البزري، وهو لا حركة له، ولا أهداب (وإن

ادعى بعض الباحثين أن له أهدابًا) أما ما يُشاهد فيه من الحركة فهي حركة برون

(Brown) وهو اسم امرئ نباتي يسمى (روبرت برون) شاهدها في قطرات

الندى؛ ولكنها ظاهرة طبيعية يمكن مشاهدتها في كل سائل فيه ذرات دقيقة؛ فتهتز

هذه الذرات مع حركة رحوية قليلة حول نقطة معينة، وسببها اختلاف درجة

الحرارة في السائل بالتبخر القليل الذي يحصل من سطحه.

وأعظم ما ينقل ميكروب هذه الحمى إلى الإنسان هو لبن الماعز فإن الماعز

تصاب كثيرًا بهذا الميكروب في جزائر البحر الأبيض، وفي جنوب أفريقية

وغيرها بدون أن يظهر فيها عرض ما لهذا المرض (إلا ضعفًا في بعضها أو

التهابًا في ضروعها) ؛ ولكنها تفرز في لبنها كثيرًا من هذا الميكروب.

وللوقاية منه يجب اجتناب أكل أو شرب هذا اللبن أو ما يصنع منه كالزبدة أو

الجبن الحالوم إلا إذا كان اللبن غلي قبل صنع الجبن منه، ويجوز أن يدخل

الميكروب من جرح بالجلد إذا مسه هذا اللبن، أو ينتقل بواسطة الحشرات الماصة

للدم كالبعوض مثلاً فإن الميكروب يعيش فى جسمه أربعة أيام أو خمسة.

وهذه الحمى تصيب الذكر والأنثى على السواء تقريبًا، وهي أكثر حدوثًا في

سن الشباب منها في الكبر، ويكثر حصولها في أيام الحر.

***

الدفثيريا

Diphtheria

الدفثيريا كلمة يونانية معناها الغشاء، وهي عبارة عن مرض معدٍ رديء،

أهم مميزاته أنه يصيب الأغشية المخاطية للفم، أو الحلق، أو الأنف، أو الحنجرة،

أو غير ذلك فيتكون غشاء أبيض فوق هذه الأجزاء الملتهبة، وقد يصيب هذا

الغشاء أيضًا سحجات الجلد أو جروحه، وإذا أصاب الملتحمة (غشاء العين) أتلفها

في 24 ساعة.

الأسباب:

هذا المرض يصيب الأطفال خصوصًا بين السنة الثانية والعاشرة أو الثانية

عشرة، ويندر حصوله لغيرهم، وهو ينتشر بالهواء لمسافات قصيرة، ويخرج

الميكروب في إفرازات المصاب أثناء عطاسه أو سعاله مثلاً، أما نَفَسه الهادئ فلا

يضر، ويعيش ميكروب الدفثيريا مدة طويلة إذا سكن في طيات الثياب، وهي مما

ينقله إلى مسافات أبعد من مسافة انتقاله في الهواء، ويعدي هذا المرض حتى في

مبدئه قبل أن تظهر جميع أعراضه، ورطوبة المنازل، والأهوية الفاسدة مهيئات

له، وكذلك أمراض الحلق كالتهاب اللوزتين، وقد ينتقل الميكروب بالطعام أيضًا

إلى مسافات بعيدة، وتصاب بعض الحيوانات به خصوصًا القطط والبقر؛ فيعدي

لبنها حينئذ إذا لم يُغلَ، ويصاب الحمام، والدجاج، والخيل، والغنم بمرض يشبهه

والقول الراجح عند العلماء الآن إن مرض هذه الحيوانات المذكورة أخيرًا لا علاقة

له بمرض الإنسان، ولا ينتقل إليه، ولكن لا خلاف بينهم في إصابة القطط والبقر

به؛ فتظهر بثور وقروح دفثيرية في ضروعها، والفئران لا تصاب به، أما تلك

الحيوانات الداجنة التي لا تصاب به فقد تتلوث بميكروب دفثيريا الإنسان، وتكون

كحاملي الأمراض؛ فتنقله من مكان إلى آخر، ومن إنسان إلى إنسان.

ويرى بعض العلماء أن ميكروبها يعيش مدة طويلة في الطين، والهواء

المحتبس في جوف الأرض يخرجه منها إذا ارتفعت مياهها - كما سبق - ويكثر

هذا المرض في فصلي الخريف والشتاء، وهو الزمن الذي تكثر فيه القرمزية،

والتهاب الحلق، أو الحنجرة، أو اللوزتين.

ويجوز أن يعود المرض للمرء بعد شفائه، وميكروب هذا المرض يوجد في

الطبقات العليا للأغشية المذكورة، وإذا طال المرض وجد في الرئة والطحال

والكليتين، بل ربما وجد في الدم أيضًا، وهو من الشكل الباسيلي اكتشفه كل من

(كلبز klebs) سنة 1883 (ولفلر loiffler) سنة 1884، وهما عالمان من

علماء الألمان، وطول هذا الميكروب يختلف من 3 إلى 4 ميكرون، وهو غير

متحرك، ولا حبيبات له، بل يتكاثر بالانقسام، ويعيش في الهواء؛ ولكنه يمكنه

أن يعيش في غير الهواء حتى في الفراغ، ويبقى في السوائل المغذية وغيرها من

المزارع مدة شهر، وإذا جفف عاش 3 أو 4 أسابيع، ويقف نموه إذا زادت

الحرارة عن 40ْ أو نقصت عن 20ْ سنتجراد.

وإذا شفي المصاب وجد الميكروب في حلقه في نصف عدد الناقهين لمدة 3

أيام، وفي أحوال قليلة يبقى 3 أسابيع، وقد يستمر إلى 5 أشهر، بل 15 شهرًا،

ومن ذلك يُعلم خطر الإسراع في خلط المصاب بغيره من الأطفال قبل مضي مدة

طويلة، والأفضل أن يفحص حلق الطفل أو أي موضع آخر للإصابة مرتين أو

ثلاثًا فحصًا بكتيريولوجيًّا بأخذ جزء من إفرازاته، فإذا لم يوجد الميكروب بعد

الفحص مرتين أو ثلاث مرات متفرقة يؤذن للطفل بأن يختلط بغيره.

وممن يختلط بالمصاب أناس (8-30%) أصحاء يحملون الميكروب في

حلوقهم وأفواههم [4] لغيرهم ويبقون أصحاء؛ ولكن بعد زمن يصبح ميكروبهم غير

خطر غالبًا على غيرهم لفقده قواه السامة، ويسمي الأطباء مثل هؤلاء الناس

بالحملة الأصحاء، ويرى بعض العلماء أن باسيل هوفمان (Hofmann) الكاذب

الذي يوجد أحيانًا في حلوق الأصحاء وأنوفهم قد ينقلب فيصير صادقًا محدثًا

للدفثيريا الحقيقية.

الأعراض:

مدة التفريخ تختلف من يومين إلى ستة أيام، وقد تكون يومًا أو ثمانية،

ويبتدئ المرض بالإقهاء، وبسآمة وصداع، أو بغثيان وقيء ورعدة، ثم لا يلبث

المريض أن يشتكي من ألم في الحلق، فإذا نظر إلى حلقه في هذا الوقت شوهد

احمرار فيه وفي اللهاة، وانتفاخ أو احمرار والتهاب في اللوزتين، وبعد وقت

قصير يرى الغشاء يتكون على سطح الأغشية الملتهبة، وقد يظهر في وقت واحد

على اللوزتين معًا، وقد يبدأ بواحدة منهما قبل الأخرى، ومن الجائز أن يظهر على

غيرهما من أجزاء الحلق؛ وبسبب هذا الالتهاب تلتهب بعض الغدد اللمفاوية التي

في العنق [5] ، وقد يحدث من ذلك خراج فيها، أو تموت الغدد، وتسقط.

وحرارة الدفثيريا لا نظام لها، فقد تزيد عن 40ْ، ولكن الأغلب أنها تكون

أقل من ذلك، وهذا الارتفاع تصحبه الأغراض الأخرى للحمى، وفي كثير من

الإصابات يشتمل البول على زلال في وقت اشتداد المرض، أما إذا أصابت الأنف

فيعسر التنفس منه، وينتفخ غشاؤه المخاطي، ويسيل منه مخاط وقيح، أو دم

وصديد؛ فيتقرح بذلك جانبا الأنف وما جاورهما من الشفة، وخطر الالتهاب الأنفي

الغشائي نادر جدًّا ولا عواقب له، ويندر أن يعدي الآخرين، ولو أن الميكروبات

تكون فيه كثيرة كغيره.

وإذا أصابت الدفثيريا الحنجرة (وهذا ما يسمى بالخُناق) كثر السعال،

وصار له صوت مخصوص، وعسر التنفس، وبح الصوت، وكثيرًا ما يشتد

الضيق حتى يختنق المريض.

وفي الأحوال الحنجرية يكون هذا الضيق غالبًا هو السبب في الموت، وإذا

عُمل للمريض فتح في القصبة الهوائية؛ فقد يموت بسبب المضاعفات الرئوية أو

الضعف العام مع شلل القلب.

أما في الأحوال الحلقية فالموت فيها يكون بشلل القلب، وهو يحصل بسرعة

عجيبة.

المضاعفات:

كثيرة منها التهابات الرئة، والبليورا، والالتهاب الكلوي، والشلل الدفثيري،

وأهم أعراضه شلل في سقف الحلق الرخو؛ فيرجع الماء وغيره من السوائل من

الأنف ويصاب المريض بالحُنة أو الغُنة - وهي خروج صوته من أنفه - وتضعف

رجلاه فلا يقوى على المشي طويلاً، ولا القيام، ويصاب بالحَوَل لشلل بعض

عضلات العين، إلى غير ذلك من الأعراض التي تصيبه بسبب تأثير سم المرض

في الأعصاب، وهذه الأعراض تبتدئ بعد الشفاء الظاهري بأيام أو أسابيع.

المعالجة:

يُعْزَل المريض، وتعطى له السوائل المغذية، والمنعشات المنبهة للقلب؛ فإنه

عرضة لأن تحصل فيه استحالة شحمية، وتجب المبادرة إلى حقن المريض بمصل

الدفثيريا، وذلك من اختصاص الطبيب الذي يقدر الكمية المناسبة لحالة المريض،

ويجري عمل الحقن طبق الأصول الطبية.

والمبادرة إلى حقن المريض من أوجب الواجبات؛ لأن التأخير يفسد خلايا

الأعضاء وخصوصًا القلب، حتى إذا عُمل للمريض الحقن بعد ذلك لا ينفعه شيئًا،

والمصل يبقى نافعًا مدة سنة على الأقل إذا لم تفتح زجاجاته، وحفظ في مكان مظلم

بارد.

ويطهر الحلق بطرق كثيرة، ومن أحسنها استعمال أقراص (الفرمانت)

(Formamint) لسهولة تعاطيها عند الأطفال، وإذا احتيج إلى تطهير أقوى

ونزع لتلك الأغشية من الحلق، فالأَوْلَى أن يخدر الطفل بالكلورفورم لينظف حلقه

تنظيفًا تامًّا بغير إجهاد له.

أما الشلل الذي يعقب المرض؛ فإنه يزول من نفسه في شهرين، أو أربعة

أشهر، ومما يعجل في شفائه الراحة، والمقويات، والكهرباء، والأغذية الجيدة،

والهواء النقي.

الوقاية:

تُعرف من الكلام على أسباب هذا المرض، وإذا حقن الطفل الذي اختلط

بمريض وَقَتْهُ الحقنةُ لمدة 3 أسابيع تقريبًا، والكمية اللازمة للوقاية هي 500 إلى

1000 وحدة، أما الوحدة وتسمى وحدة (إرليخ [6] Ehrlich) وهو عالم ألماني

يهودي - فهي الكمية التي إذا مُزجت بمائة ضعف للكمية الكافية لقتل خنزير الهند

البالغ وزنه 250 جرامًا في 4 أيام وَقَتْهُ من الموت إذا حقنت تحت جلده.

***

سوء استعمال الحقن الواقي من الدفثيريا وغيرها

سبق قولنا إنه إذا أصيب طفل بهذا المرض بقي الميكروب في حلقه مدة

مختلفة بعد شفائه قد تمتد إلى عدة شهور، فقد روى العلَّامة هيولت الإنكليزي

(Howleltt) حادثة وجود الميكروب في أحد المصابين بعد شفائه بخمسة عشر

شهرًا.

فالواجب إذًا عزل المصاب عن غيره عزلاً تامًّا، وتطهير كل ما لامسه، أو

خرج منه تطهيرًا تامًّا، وعدم السماح له بالاختلاط بغيره إلا بعد فحص حلقه فحصًا

بكتيريولوجيًّا دقيقًا نحو ثلاث مرات متفرقات، والتيقن من عدم وجود الميكروب.

أما الحقن بمصل الدفثيريا للوقاية فله عيب كبير، ذلك أن الوقاية به لا

تتجاوز ثلاثة أسابيع، فإذا أصيب الطفل الذي عُمل له هذا الحقن بمرض الدفثيريا

بعد نهاية الثلاثة الأسابيع مثلاً، وعالجناه من مرضه بالحقن فقد يصاب الطفل فوق

مرضه بمرض آخر يسمى (مرض المصل)(Serum disease) أو (زيادة

التأثر بالحقن) (Supersensitiveness) وهذا المرض كثيرًا ما يكون خطرًا،

ولعله أحد أسباب كثرة المتوفين من الأطفال حتى بعد الحقن بمصل الدفثيريا.

وأعراضه هي: غثيان وقيء، وضعف في النبض مع سرعته، وإحساس

بالضجر والاختناق، وسرعة في التنفس مع ضيقه وهمود (هبوط) وتشنجات،

بل وغيبوبة، وهذه الأعراض تزول عادة بعد ساعة أو ساعتين؛ ولكنها قد تميت

الشخص خصوصًا بالاختناق لانقباض الشعب الرئوية الصغيرة، هذا ولو كان

الشخص المحقون مرتين سليمًا فما بالك إذا كان مصابًا مع هذه الأعراض بالدفثيريا

فإن الوفاة تكاد تكون محققة.

والمراد بهذا المرض المذكور هنا هو غير ما يحدث من الحقن (لنحو 7%)

في نهاية الأسبوع الأول، أو بعده مثل ظهور طفح متنوع الشكل، وألم في

المفاصل مع تورم فيها، وحمى خفيفة؛ فإن هذه الأعراض لا أهمية لها، وتزول

في نحو ثلاثة أيام، ولا خطر منها عادة.

أما المرض الذي نحن بصدده فيحدث إذا حقن شخص مرة للوقاية مثلاً من

الدفثيريا، ثم مضت مدة بعد حقنه نحو 12 يومًا أكثر، ثم عدنا إلى الحقن مرة ثانية،

وقد يحدث هذا المرض حتى إذا كانت الفترة بين الحقنين أربع سنوات، أو أكثر.

وهذا المرض لا ينشأ عن سم في المصل، بل عن نفس المصل، بحيث إذا

حقن مصل أي حيوان سليم مرتين متفرقتين بتلك الفترة، فقد يحدث هذا المرض،

لذلك ولغيره لا يجوز معاجلة النزف بالحقن بالمصل، أو بالدم كما سبق في صفحة

49 من الجزء الأول.

ومن طرائق اتقاء المرض المذكور أن يحقن نوعان مختلفان من المصل،

أعني أن يحقن للوقاية مصل مستخرج من الثور مثلاً، وللعلاج مصل آخر

مستخرج من الحصان كما هو المعتاد، وكذلك استعمال لبنات الكالسيوم قبيل الحقن

أو في أيام استعماله؛ فإن هذا الملح كثيرًا ما يمنع هذه الأعراض الخطرة، أو

يخفف من وطأتها، بل قد يمنع الأعراض الأخرى المذكورة كالطفح، وألم المفاصل،

وغيرهما أيضًا، ومقدار هذا الملح في كل جرعة من 10 إلى 30 قمحة أي

يختلف باختلاف السن، وهو يذوب في الماء، ويسهل امتصاصه في البنية، وإذا

تعسر إعطاؤه من طريق الفم كما في الدفثيريا أذيب في الماء، وحقن في الشرج،

أو أعطي مع اللبن؛ فإن المريض لا يشعر به.

ومن الطرق أيضًا لاتقاء تلك الأعراض التخدير العام بالأثير مثلاً وقت الحقن

الثاني؛ ولكنها طريقة رديئة جدًّا، وغير ميسورة في أكثر إصابات الأطفال

خصوصًا إذا أصابت الدفثيريا حناجرهم.

ويقال: إن الحقن بالمصل الذي أزيل منه بعض المواد الزلالية الأولية

(Proteins) يقلل التعرض للإصابة بتلك الأعراض، واعلم أن المصل الرقيق

الذي لم يتكاثف بالتبخر أسهل امتصاصًا من الغليظ، هذا ولا يتوهم القارئ أني أنفر

الناس من الحقن في الدفثيريا لعلاجها كلا! ثم كلا! بل الواجب المبادرة إلى الحقن

بالمصل المشتمل على وحدات كثيرة بحسب ما يراه الطبيب في الحالة [7] وإنما

كلامي السابق هو لبيان مضار الحقن للوقاية لا للعلاج.

وكذلك يجب حقن مُصُول أخرى كالمصل المضاد لسم البزور السلسلية إذا

وجدت في الحلق بالبحث الميكروسكوبي، أو عرفت بمثل الأعراض الآتية:

وهذه الميكروبات تصاحب ميكروب الدفثيريا في بعض الأحوال، فتكون

الحمى فيها شديدة، ورائحة الحلق كريهة جدًّا، فإن لم يعمل هذا الحقن أيضًا كان

مصل الدفثيريا وحده غير وافٍ بالغرض.

***

الطاعون

Plague

الطاعون - وقانا الله منه - داء اشتُهر كثيرًا حتى بين الأمم الغابرة، وكانوا

يخشونه أشد خشية لشدة فتكه بهم وسرعة انتشاره بينهم، ومن أشهر أوبئته التي

حدثت في أوربة ما حدث في عصر يوستنيانوس الروماني في القرن السادس بعد

الميلاد.

الأسباب:

هذا المرض ينشأ من ميكروب باسيلي اكتشفه (كيتاساتو)(Kitasato)

الياباني سنة 1894، وهو يوجد أثناء حياة المريض في الدم، وفي الغدد الملتهبة،

وفي البراز، والبول، وفي اللعاب إذا التهبت الرئة، وبعد الموت يوجد في جميع

أعضاء الجسم تقريبًا، طول هذا الميكروب من 1 إلى 1. 5 ميكرون، وهو لا

حبيبات له، ولا حركة، وإن زعم بعضهم أن له أهدابًا.

ينتقل هذا الميكروب من شخص إلى آخر بسرعة عظيمة، خصوصًا إذا

ساءت الأحوال الصحية بالازدحام، ونقص التهوية، وزيادة القاذورات في الأماكن

والملابس وغيرها، وهو يصيب الناس في جميع الأعمار إلى الخمسين، وبعد ذلك

يقل كثيرًا، والإصابة به مرة تحمي عادة من الإصابة ثانية، وشدة الحر تعوق

سيره أكثر من البرد.

هذا المرض يصيب كثيرًا من الحيوانات مثل القردة، والقطط، والجرذان

(جمع جُرَذ وهو الفأر الكبير) أما الخيل والأنعام فهي لا تصاب به إلا قليلاً، وكذلك

الطيور.

أهم مدخل لميكروب هذا المرض في الجسم طريقان: وهما طريق الرئة

وطريق الجلد، أما طريق المعدة، أو الأمعاء فهو من الندرة بمكان بحيث لا يستحق

الذكر.

وكيفية وصوله من طريق الرئة أن يستنشقه الإنسان مع الهواء الملوث به من

نفثات المصاب بالطاعون الرئوي، أما طريق الجلد فهو من أعظم الطرق لنشر هذا

المرض، ولإيضاح ذلك نقول: إن الفئران كثيرًا ما تصاب به فتموت، والفئران

يأكل بعضها بعضًا - كما سبق - فينتشر المرض بينها لهذا السبب ولغيره،

وللفئران براغيث تنتقل منها إلى الإنسان؛ فتلقحه بها، وكذلك تلقح الفئران الأخرى،

وقد تلقح شخصًا من شخص؛ ولكنه نادر، واسم هذا النوع من البراغيث

بالإفرنجية (Cheopis Pulex) وهو أشهر أنواع البراغيث التي تعيش بدم

الفئران في البلاد الحارة، ويتكاثر الميكروب في معدة البرغوث وأمعائه، ويخرج

في برازه فقط، فإذا علق بخرطومه، ووخز به إنسان لقحه بالمرض، وقد يتلوث

مكان الوخز من الإنسان ببراز البرغوث الذي فيه كثير من ميكروبات الطاعون،

ويبقى البرغوث قادرًا على التلقيح لمدة تتراوح بين سبعة أيام، و15 يومًا، وقد

ينقل البق أيضًا ميكروب الطاعون، ويُحتمل أيضًا أن يدخل الميكروب من بعض

الجروح والسحجات كما في الأقدام الحافية، فإن لم تُوقِف الغدد اللمفاوية

الميكروبات وصلت إلى الدم، وأحدثت تسممًا عامًّا كما سيأتي.

الأعراض:

مدة التفريخ من يومين إلى خمسة:

ولهذا المرض ثلاثة أشكال شهيرة وهي: الطاعون الدملي، والطاعون

الدموي، والطاعون الرئوي.

أما أعراض الشكل الأول - وهو أكثر حدوثًا - فهي الإحساس بالضعف العام،

والكلل، والصداع، والدوار، والرعدة التي يعقبها ارتفاع في الحرارة، وفي

بعض الأحوال يُصاب المريض في هذا الطور بشيء من الذهول، مع مشية كمشية

النشوان، وارتعاش في حديثه، وقد يصاب بتهيج ورعب لا يُعْرَف سببه، أو

يصاب بالغثيان، والقيء، أو الإسهال.

وتكون الحمى في هذا المرض عالية، ويصاحبها باقي أعراض الحمى

كجفاف اللسان واسوداده، ثم يصير المرء في حالة تشبه المصاب بالتيفوس،

فيهذي كثيرًا، ثم تصيبه الغيبوبة، وتكثر الأوساخ على الشفتين والأسنان،

ويضعف النبض، وتبرد الأطراف، ويقل البول، بل قد لا يُفْرَز مطلقًا في بعض

الأحوال المميتة، وبعد يومين أو ثلاثة تضخم الغدد اللمفاوية في الأُرْبيّة، أو الإبط،

أو العنق.

والغالب أن تصاب الغدد في جهة واحدة وهي الأربية، وحجم الورم الناشئ

من ذلك يكون كحجم بيضة الدجاجة، ويصحبه ألم شديد، وإذا طالت حياة المرء

حصل له خُراج في تلك الغدد في اليوم السابع عادة، وفي هذا الوقت قد تظهر

دمامل في الجلد أو جمرات خصوصًا في الأطراف السفلى، أو الأَلْيَتَيْنِ، أو القفا،

وفي الأحوال الشديدة جدًّا يحصل نزف تحت الجلد قُبيل الموت، أو يكون النزف

كنقط صغيرة كلدغ البراغيث، وكلاهما قد يعم الجسم كله، أو يكون ظاهرًا حول

الغدد الملتهبة، وقد يصاب المرء أيضًا بالرعاف، أو النزف الرئوي، أو المعدي،

أو المعوي.

والموت يحصل عادة قبل اليوم السادس، والشفاء يبتدئ من اليوم السادس

إلى العاشر؛ ولكن إذا تقيحت الغدد قد تطول مدة المرض بسبب المدة التي فيها.

أما أعراض الشكل الدموي فيصاب المرء فجأة بأعراض الحمى البالغة، وقد

يموت في ظرف 24 ساعة لتسمم دمه، وفي هذا الشكل قد تَرِمُ الغدد قليلاً؛ ولكن

لا تصل إلى حجم النوع الأول مطلقًا، ويسمى هذا النوع بالطاعون الصاعق؛ فإن

المريض يُصعق به فجأة؛ فيغيب عن الوجود، وترتفع حرارته؛ فيموت سريعًا.

أما أعراض الشكل الثالث فتبتدئ كالشكل الأول؛ ولكن بعد يوم أو يومين

تظهر الأعراض الرئوية؛ فيسرع التنفس، ويكثر السعال مع النفث الكثير المشوب

بالدم، ويزول النوم، ويكثر الهيجان والهذيان، ويموت المريض في ظرف ثلاثة

أيام، وتكون الرئة في هذا النوع مصابة بالتهابات متعددة في فصيصاتها.

ولا توجد الخيرجلات (وهي التهاب الغدد اللمفاوية) عادة في هذا الشكل،

وفيه يوجد الميكروب في القطع الملتهبة من الرئة، وفي البصاق.

وهناك نوع آخر لا يهمنا كثيرًا لقلته، وفيه تكون الحمى قليلة، والأعراض

خفيفة بحيث يمكن للمريض أن يغدو ويروح مدة من أيام مرضه، ويسمى هذا

الضرب بالطاعون الجولاني.

الإنذار:

عدد الوفيات في هذا المرض كثير جدًّا، فقد تصل إلى 50%، بل إلى

80 %، والموت بين الجنس الأبيض في الظروف الصحية الجيدة أقل منه في

غير ذلك.

المعالجة:

تُعالج الأعراض كل بما يناسبه حسب الأصول الطبية، وللطاعون مصل

كمصل الدفثيريا [8] يحقن منه في اليوم الأول ثلاثة مقادير كل منها خمسون سنتي

مترًا مكعبًا تحت الجلد أو في الأوردة - وهو الأفضل في الأحوال الشديدة -

ويتكرر بعد ذلك حقن مقادير صغيرة بضعة أيام، ومن أحسن أنواع هذا المصل

مصل) يرسين Yersin) ، ولكن فائدته ليست بكبيرة.

الوقاية:

تكون بأشياء كثيرة أهمها ما يأتي:

(1)

عزل المصاب.

(2)

النظافة التامة في كل شيء

(3)

إبادة الفئران، وأحسن طريقة لذلك أن تُصطاد بالأشراك، أو تسمم

بالزرنيخ أو الفسفور، إما اصطيادها بالقطط فعيبه أنها هي نفسها قد تصاب

بالطاعون؛ فتكون من العوامل الناشرة للمرض بدل المقللة له.

(4)

تنظيف الملابس ليتقي وجود البراغيت فيها.

(5)

إبادة الحشرات الأخرى بقدر الإمكان كالبق؛ فإنه قد ينقل الميكروب

من شخص إلى آخر.

(6)

يُحقن الأصحاء مرتين إذا حصل الوباء بلقاح الطاعون، وهو

ميكروبه المقتول بالحرارة؛ فتحصل المناعة بسرعة حتى لا يخشى كثيرًا من

حصول المرض قبلها.

(7)

يُطهر كل ما يوجد في غرفة المريض بالغلي، أو الحرق، أو غيرهما

وقتل الميكروب الذي يوجد في إفرازاته بالأدوية المطهرة وبالحرق.

(8)

لا يختلط المريض بالأصحاء إلا بعد شهر من شفائه؛ لأن الميكروب قد

وجد في دم المطعون بعد النقاهة بثلاثة أسابيع.

(9)

على الممرِّض للمطعون بالنوع الرئوي أن يتكمم بالقطن المنفوش ليحول

دون وصول الميكروب إلى رئته، ثم يحرق القطن.

(10)

تسد شقوق وفروج المنازل لكيلا تأوي إليها الجُرذان.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

وجوده في البول كثير خصوصًا في الأسبوع الثالث، وفي طور النقاهة، بل بعدها بسنين.

(2)

خروج الميكروب مع البراز ليس متتابعًا، بل متقطعًا، فإذا وقف زمنًا ما فقد يعود ثانية؛ ولذلك فمن المتعذر القطع بطهارة الحامل منه، وعدم عدواه لغيره.

(3)

لفظ اصطلاحي يراد به الإنباء بمصير المرض، وذلك مبني على ما يُذْكَر في الكتب الطبية - تحت هذ1 العنوان - من الإحصائيات والمشاهدات ونحوها.

(4)

خصوصًا في أسنانهم لا سيما إذا كانت مصابة بداء ريج (راجع ص 68 من الجزء الأول) ، وهو الذي يحدث سيلان قيح من السِّنخ (الحفرة التي فيها السن) .

(5)

إذا أصابت الحنجرة، أو الحلق، أو اللوزتين، أو الحفر الأنفية التهبت لهم الغدد العنقية العليا الغائرة، وإذا أصابت لثة الأسنان السفلى مثلاً أو مقدم اللسان (وذلك نادر) التهبت الغدد التي تحت الفك.

(6)

توفي هذه السنة (1915م) فجأة بينما هو يعمل في معمله.

(7)

في أحوال الدفثيريا الشديدة، أو التي تأخر علاجها يجب البدء بحقن 10000 إلى 30000 وحدة (Units) ، ويتكرر الحقن كل 6 أو 12 ساعة بحسب حالة المريض، وسرعة انفصال الأغشية، ولا يراعى في ذلك سن الطفل.

(8)

وإنما يختلف عنه بأنه يُستخرج من الحصان بعد حقنه بالميكروب المقتول لا بسم منه مصفى.

ص: 673