الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
الألقاب
بحث لغوي تاريخي في الألقاب الرسمية وغير الرسمية
منقول من الفصل الثاني من الباب الأول من المقالة الثالثة من الجزء الخامس
من كتاب صُبح الأعشى، وللكلام فيه طرفان، قال:
الطرف الأول
في أصول الألقاب وفيه جملتان
الجملة الأولى
في معنى اللقب والنعت، وما يجوز منه ويمتنع
أما اللقب فأصله في اللغة النبز، بفتح الباء، قال ابن حاجب النعمان في
(ذخيرة الكتاب) : والنبز ما يخاطب به الرجلُ الرجلَ من ذكر عيوبه، وما سَتْرُهُ
عنده أحب إليه من كشفه، وليس من باب الشتم والقذف.
***
وأما النعت فأصله في اللغة الصفة، يقال: نعته ينعته نعتًا إذا وصفه، قال
في (ذخيرة الكتاب) : وهو متفق على أنه ما يختاره الرجل ويؤثره ويزيد في
إجلاله ونباهته، بخلاف اللقب، قال: لكن العامة استعملت اللقب في موضع النعت
الحسن، وأوقعوه موقعه لكثرة استعمالهم إياه، حتى وقع الاتفاق والاصطلاح على
استعماله في التشريف والإجلال والتعظيم والزيادة في النباهة والتكرمة.
قلت: والتحقيق في ذلك أن اللقب والنعت يُستعملان في المدح والذم جميعًا
فمن الألقاب والنعوت ما هو صفة مدح، ومنها ما هو صفة ذم، وقد عرَّفت النحاة
اللقب بأنه ما أدى إلى مدح أو ذم، فالمؤدي إلى المدح كأمير المؤمنين، وزين
العابدين، والمؤدي إلى الذم كأنف الناقة وسعيد كرز، وما أشبه ذلك، والنعت تارة
يكون صفة مدح، وتارة يكون صفة ذم، ولا شك أن المراد هنا من اللقب والنعت
ما أدى إلى المدح دون الذم، وقد اصطلح الكُتاب على أن سموا صفات المدح التي
يوردونها في صدور المكاتبات ونحوها بصيغة الإفراد كالأمير والأميري، والآجل
والآجلي، والكبير والكبري، ونحو ذلك ألقابًا، وصفات المدح التي يوردونها على
صورة التركيب، كسيف أمير المؤمنين، وظهير الملوك والسلاطين، ونحو ذلك
نعوتًا، ولا معنى لتخصيص كل واحد منهما بالاسم الذي سموه به إلا مجرد
الاصطلاح، ولا نزاع في إطلاق اللقب والنعت عليهما باعتبارين: فمن حيث إنها
صفات مؤدية إلى المدح يطلق عليها اسم اللقب، ومن حيث إنها صفات لذوات
قائمة بها يطلق عليها اسم النعت.
***
وأما ما يجوز من ذلك ويمتنع، فالجائز منه ما أدى إلى المدح مما يحبه
صاحبه ويؤثره، بل ربما استحب، كما صرح به النووي في (الأذكار) للإطباق
على استعماله قديمًا وحديثًا، والممتنع منه ما أدى إلى الذم والنقيصة مما يكرهه
الإنسان، ولا يحب نسبته إليه، قال النووي: وهو حرام بالاتفاق، سواء كان صفة
له، كالأعمش، والأجلح، والأعمى، والأحول، والأبرص، والأشج، والأصفر،
والأحدب، والأصم، والأزرق، والأشتر، والأثرم، والأقطع، والزمِن،
والمُقْعَد، والأشل، وما أشبه ذلك، أو كان صفة لأبيه: كابن الأعمى، أو لأمه:
كابن الصوراء ونحو ذلك مما يكرهه قال تعالى: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ
الفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ} (الحجرات: 11) قال: واتفقوا على جواز ذكره بذلك على
جهة التعريف لمن لا يعرفه إلا بذلك، ودلائل ذكره كثيرة مشهورة، وهو أحد
المواضع التي تجوز فيها الغيبة.
***
الجملة الثانية
في أصل وضع الألقاب والنعوت المؤدية إلى المدح
واعلم أن ألقاب المدح ونعوته لم تزل واقعة على أشرف الناس، وجلة الخلق
في القديم والحديث، فقد ثبت تلقيب إبراهيم عليه السلام بـ (الخليل) ، وتلقيب
موسى عليه السلام بـ (الكليم) ، وتلقيب عيسى عليه السلام بـ (المسيح) ،
وتلقيب يونس عليه السلام بـ (ذي النون) ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يُلقب
قبل البعثة بـ (الأمين) ووردت التواريخ بذكر ألقاب جماعة من العرب في
الجاهلية: كذي يزن، وذي المنار، وذي نواس، وذي رعين، وذي جدن،
وغيرهم مما هو مشهور شائع، وكذلك وقعت ألقاب المدح على كثير من عظماء
الإسلام وأشرافه كالصحابة رضوان الله عليهم، فمن بعدهم من الخلفاء والوزراء
وغيرهم، فكان لقب أبي بكر (عتيقًا) ثم لُقِّب بـ (الصدِّيق) بعد ذلك، ولُقِّب
عمر (الفاروق) ، ولُقِّب عثمان (ذا النورين) ، ولُقِّب علي (حيدرة) ، ولُقِّب
حمزة بن عبد المطلب (أسد الله) ، ولُقِّب خالد بن الوليد (سيف الله) ، ولُقِّب
عمرو بن عمرو [1](ذا اليدين) ، ولُقِّب مالك بن التيهان الأنصاري (ذا السيفين) ،
ولُقِّب خزيمة بن ثابت الأنصاري (ذا الشهادتين) ، ولُقِّب جعفر بن أبي طالب بعد
استشهاده (ذا الجناحين) .
وأما الخلفاء، فخلفاء بني أمية لم يتلقب أحد منهم، فلما صارت الخلافة إلى
بني العباس، وأخذت البيعة لإبراهيم بن محمد لقب بـ (الإمام) ، ثم تلقب من
بعده من خلفائهم، فتلقب محمد بن علي بـ (السفاح) لكثرة ما سفح من دماء بني
أمية، واختلف في لقبه بالخلافة، فقيل (القائم) ، وقيل (المهتدي) ، وقيل
(المرتضي) ، وألقاب الخلفاء بعده وإلى زماننا معروفة مشهورة على ما مر ذكره في
المقالة الرابعة إن شاء الله تعالى.
ثم تعدت ألقاب الخلافة إلى كثير من ملوك الغرب بعد ذلك، وتلا الخلفاء في
الألقاب الوزراء، لاستقبال الدولة العباسية وما بعد ذلك، فلُقِّب أبو سلمة الخلال
(وزير السفاح) بـ (وزير آل محمد) ، ولقَّب المهدي وزيره يعقوب بن داود بن
طهمان (الأخ في الله) ولَقَّب المأمون الفضل بن سهل حين استوزره (ذا الكفايتين) ،
ولَقَّب أخاه الحسن بن سهل (ذا الرياستين) ولَقَّب المعتمد على الله وزيره صاعد
بن مخلد (ذا الوزارتين) إشارة إلى وزارة المتعمد والموفق، وكان لقب إسماعيل
بن بلبل الشكور (الناصر لدين الله) كألقاب الخلفاء.
وكذلك وقع التلقيب لجماعة من أرباب السيوف وقواد الجيوش، فتلقب أبو
مسلم الخراساني صاحب الدعوة بـ (أمير آل محمد) ، وقيل (سيف آل محمد) ،
وتلقب أبو الطيب بن الحسين بـ (ذي اليمنين) ، ولقب المعتصم بالله حيدر بن
كاووس بـ (الأفشين) لأنه أشروسني، والأفشين لقب على الملك بأشروسنة، ولقب
إسحاق بن كيداح أيام المعتمد بـ (ذي السيفين) ولقب مؤنس في أيام المقتدر
بـ (المظفر) ، ولقب سلامة أخو نجح أيام القاهر بـ (المؤتمن) ، ولقب أبو بكر
بن محمد طغج الراضي بالله [2] بـ (الإخشيد) والإخشيد لقب على الملك بفرغانة.
ثم وقع التلقيب بالإضافة إلى الدولة في أيام المكتفي بالله، فلقب المكتفي أبا
الحسين بن القاسم بن عبد الله [3](ولي الدولة) وهو أول من لُقِّب بالإضافة إلى
الدولة، ولقب المقتدر بالله علي بن أبي الحسين [3] المتقدم ذكره (عميد الدولة) .
ووافت الدولة البويهية أيام المطيع لله والأمر جار على التلقيب بالإضافة
للدول، فافتتحت ألقاب الملوك بالإضافة إلى الدولة، فكان أول من لقب بذلك من
الملوك بنو بويه الثلاثة: فلقب أبو الحسن علي بن بويه بـ (عماد الدولة) ، ولقب
أخوه أبو علي الحسن بـ (ركن الدولة) ، وأخوهما أبو الحسين بـ (معز الدولة)
ثم وافى [عضد الدولة] من بعده فاقترح أن يلقب بـ (تاج الدولة) فلم يجب إليه
وعدل به إلى (عضد الدولة) فلما بذل نفسه للمعاونة على الأتراك، اختار له أبو
إسحاق الصابي صاحب ديوان الإنشاء (تاج الملة) مضافًا إلى عضد الدولة، فكان
يقال (عضد الدولة وتاج الملة) ولقب أبو محمد الحسن بن حمدان أيام المتقي لله
(ناصر الدولة) ، ولقب أخوه أبو الحسن علي بن حمدان (سيف الدولة) .
وبقي الأمر على التلقيب بالإضافة إلى الدولة إلي أيام القادر بالله فافتتح
التلقيب بالإضافة إلى الدين، وكان أول من لقب بالإضافة إليه أبو نصر بهاء الدولة
ابن عضد الدولة بن بويه، زيد على لقبه بهاء الدولة (نظام الدين) فكان يقال (بهاء
الدولة ونظام الدين) قال ابن حاجب النعمان: ثم تزايد التلقيب به وأفرط، حتى
دخل فيه الكتاب والجند والأعراب والأكراد، وسائر من طلب وأراد، وكره (؟)
حتى صار لقبًا على الأصل، ولا شك أنه في زماننا قد خرج عن الحد حتى تعاطاه
أهل الأسواق ومن في معناهم، ولم تصر به ميزة لكبير على صغير، حتى قال
قائلهم.
طلع الدين مستغيثًا إلى الله وقال: العباد قد ظلموني يتسمون بي، وحقك لا
أعرف منهم شخصًا ولا يعرفوني!
أما الديار المصرية فكان جريهم في الألقاب على ما ينتهي إليهم خبره من
ألقاب الدولة العباسية ببغداد، فتلقب خلفاء الفاطميين بها بنحو ألقاب خلفاء بني
العباس ببغداد فكان لقب أول خلفائهم بها (المعز لدين الله) ، وثانيهم بها (العزيز
بالله) وعلى ذلك إلى أن كان آخرهم (العاضد لدين الله) على ما تقدم في المقالة
الثانية في الكلام على ملوك الديار المصرية.
وتلقب وزراؤهم وكتابهم بالإضافة إلى الدولة، وممن لقب بذلك في دولتهم
(ولي الدولة) ابن أبي كدينة وزير المستنصر، وأيضًا (ولي الدولة) ابن خيران
كاتب الإنشاء المشهور، ولما صارت الوزارة لبدر الجمالي تلقب بـ (أمير
الجيوش) ، ثم تلقب الوزراء بعده بنحو (الأفضل) و (المأمون) ، ثم تلقبوا
بالملك الفلاني، كـ (الملك الأفضل) و (الملك الصالح) ، ونحو ذلك على ما
سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
وكان الكتاب في أواخر الدولة الفاطمية إلى أثناء الدولة الأيوبية يلقبون بـ
(الفاضل والرشيد والعماد) وما أشبه ذلك. ثم دخلوا في عموم التلقيب بالإضافة إلى
الدين، واختص التلقيب بالإضافة إلى الدولة كولي الدولة بكتاب النصارى، والأمر
على ذلك إلى الآن.
***
الطرف الثاني
في بيان معاني الألقاب وفيه تسع جمل
الجملة الأولى في الألقاب الخاصة بأرباب الوظائف المعتبرة التي بها انتظام
أمور المملكة وقوامها، وهي قسمان (القسم الأول) الألقاب الإسلامية، وهي
نوعان:
(النوع الأول) الألقاب القديمة المتداولة الحكم إلى زماننا، هي صنفان:
الصنف الأول
ألقاب أرباب السيوف، وهي سبعة ألقاب
الأول - الخليفة: وهو لقب على الزعيم الأعظم القائم بأمور الأمة، وقد
اُختلف في معناه، فقيل: إنه فعيل بمعنى مفعول، كجريح بمعنى مجروح، وقتيل
بمعنى مقتول ويكون المعنى أنه يخلفه من بعده، وعليه مثل قوله تعالى: {إِنِّي
جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة: 30) على قول من قال: إن آدم عليه السلام
أول من عمر الأرض، وخلفه بنوه من بعده، وقيل: فعيل بمعنى فاعل، ويكون
المراد أن يخلف من بعده [4] وعليه حمل الآية من قال إنه كان قبله في الأرض الجن
وإنه خلفهم فيها، واختاره النحاس في (صناعة الكتاب) وعليه اقتصر البغوي في
(شرح السنة) ، والماوردي في (الأحكام السلطانية) قال النحاس وعليه خوطب أبو
بكر الصديق رضي الله عنه بخليفة رسول الله.
وقد أجازوا أن يقال في الخليفة: خليفة رسول الله، لأنه خلفه في أمته،
واختلفوا هل يجوز أن يقال فيه خليفة الله؟ فجوز بعضهم ذلك لقيامه بحقوقه في
خلقه محتجين بقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ} (الأنعام:
165) وامتنع جمهور الفقهاء من ذلك محتجين بأنه إنما يُستخلف من يغيب أو
يموت، والله تعالى باقٍ موجود إلى الأبد لا يغيب ولا يموت، ويؤيد ما نقل عن
الجمهور بما روي أنه قيل لأبي بكر رضي الله عنه: يا خليفة الله، فقال لست
بخليفة الله؛ ولكني خليفة رسول الله، وقال رجل لعمر بن عبد العزيز: يا خليفة
الله - فقال: ويلك! لقد تناولت متناولاً بعيدًا! إن أمي سمتني عمر، فلو دعوتني
بهذا الاسم قبلت، ثم كبرت فكنيت أبا حفص، فلو دعوتني به قبلت، ثم وليتموني
أموركم فسميتموني أمير المؤمنين، فلو دعوتني به كفاك، وخص البغوي جواز
إطلاق ذلك بآدم وداود عليهما السلام، محتجًّا بقوله تعالى في حق آدم: {إِنِّي
جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة: 30)، وقوله في حق داود: {يَا دَاوُودُ إِنَّا
جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ} (ص: 26) ، ثم قال ولا يسمى أحد خليفة الله
بعدهما، قال في (شرح السنة) ويسمى خليفة، وإن كان مخالفًا لسيرة أئمة العدل.
ثم قد كره جماعة من الفقهاء منهم أحمد بن حنبل إطلاق اسم الخليفة على ما
بعد خلافة الحسن بن علي رضي الله عنهما فيما حكاه النحاس وغيره، محتجين
بحديث (الخلافة بعدي ثلاثون) يعني ثلاثين سنة، وكان انقضاء الثلاثين بانقضاء
خلافة الحسن، ولما انقضت الخلافة صارت ملكًا قال المعافى بن إسماعيل في
تفسيره: وقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل طلحة، والزبير،
وكعبًا، وسلمان عن الفرق بن الخليفة والملك، فقال طلحة والزبير: لا ندري فقال
سلمان: الخليفة الذي يعدل في الرعية، ويقسم بينهم بالسوية، ويشفق عليهم شفقة
الرجل على أهله، والوالد على ولده، ويقضي بينهم بكتاب الله تعالى، فقال كعب:
ما كنت أحسب أن في هذا المجلس من يفرق بين الخليفة والملك، ولكن الله ألهم
سلمان حكمًا وعلمًا.
واختلف في الهاء في آخره، فقيل: أدخلت فيه للمبالغة كما أدخلت في رجل
داهية وراوية وعلامة ونسابة وهو قول الفرَّاء، واستحسنه النحاس ناقلاً له عن
أكثر النحويين، وخطأه علي بن سليمان محتجًّا بأنه لو كان كذلك لكان التأنيث فيه
حقيقيًّا، وقيل: الهاء فيه لتأنيث الصيغة، قال النحاس: وربما أسقطوا الهاء منه
وأضافوه فقالوا (فلان خليف فلان) يعنون خليفته.
ثم الأصل فيه التذكير نظرًا للمعنى؛ لأن المراد بالخليفة رجل وهو مذكر،
فيقال أمر الخليفة بكذا على التذكير، وأجاز الكوفيون فيه التأنيث على لفظ خليفة
فيقال أمرت الخليفة بكذا، وأنشد الفراء: أبوك خليفة ولدته أخرى
ومنعه البصريون محتجين بأنه لو جاز ذلك لجاز (قالت طلحة) في رجل
اسمه طلحة، وهو ممتنع فإن ظهر اسم الخليفة تعين التذكير باتفاق، فتقول قال أبو
جعفر الخليفة، أو: قال الراضي الخليفة ونحو ذلك، ويجمع على خلفاء ككريم
وكرماء ، عليه ورد قوله تعالى:{وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} (الأعراف: 69) وعلى خلائف كصحيفة وصحائف، وعليه جاء قوله تعالى:
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْض} (الأنعام: 165) والنسبة إليه خلفي كما ينسب
إلي حنيفة حنفي، وقول العامة درهم خليفتي ونحوه خطأ، إذ قاعدة النسب أن
يحذف من المنسوب إليه الياء وهاء التأنيث على ما هو مقرر في علم النحو، وممن
وهم في ذلك المقر الشهابي بن فضل الله رحمه الله في كتاب (التعريف) حيث قال:
وأول ما نبدأ بالمكاتبة إلى الأبواب الشريفة الخليفتية، ولعله سَبْق قلم منه، وإلا
فالمسألة أظهر من أن يجهلها أو تخفى عليه.
الثاني - الملك: وهو الزعيم الأعظم ممن لم يطلق عليه اسم الخلافة، وقد
نطق القرآن بذكره في غير موضع كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ
طَالُوتَ مَلِكاً} (البقرة: 247)، {وَقَالَ المَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} (يوسف: 50)
إلى غير ذلك من الآيات، ويقال فيه ملك بكسر اللام، وملك بإسكانها ومليك بزيادة
ياء، ومنه قوله تعالى:{عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} (القمر: 55) قال الجوهري:
والملك مقصور من مالك أو مليك، ويجمع على ملوك وأملاك، ويقال لموضع
الملك المملكة.
الثالث - السلطان: وهو اسم خاص في العرف العام بالملوك، ويقال: إن
أول من لقب به خالد بن برمك وزير الرشيد، لقبه به الرشيد تعظيمًا له، ثم انقطع
التلقيب به إلى أيام بني بويه فتلقب به ملوكهم، فمن بعدهم من الملوك السلاجقة
وغيرهم وهلم جرّا إلى زماننا.
وأصله في اللغة الحجة قال تعالى: {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ} (سبأ:
21) يعني من حجة، وسمي السلطان بذلك لأنه حجة على الرعية يجب عليهم
الانقياد إليه.
واختلف في اشتقاقه: فقيل إنه مشتق من السلاطة، وهي القهر والغلبة، لقهره
الرعية وانقيادهم له، وقيل مشتق من السليط، وهو الشيرج في لغة أهل اليمن لأنه
يستضاء به في خلاص الحقوق، وقيل من قولهم لسان سليط أي حاد ماضٍ لمضي
أمره ونفوذه، وقال محمد بن يزيد البصري السلطان جمع واحده سليط كقفيز
وقفزان، وبعير وبعران.
وحكى صاحب (ذخيرة الكتاب) أنه يكون واحدًا ويكون جمعًا، ثم هو يذكر
على معنى الرجل، ويؤنث على معنى الحجة، وحكى الكسائي والفراء على
التأنيث عن بعض العرب: قضت به عليكم السلطان قال العسكري في كتابه
(الفروق) في اللغة: والفرق بينه وبين الملك أن الملك يختص بالزعيم الأعظم،
والسلطان يطلق عليه وعلى غيره، وعلى ما ذكره العسكري عرف الفقهاء في كتبهم،
إذ يطلقونه على الحاكم من حيث هو حتى على القاضي، فيقولون فيمن ليس لها
ولي خاص يزوجها السلطان ونحو ذلك، ومن حيث إن السلطان أعم من الملك يقدم
عليه في قولهم السلطان الملك الفلاني، ليقع السلطان أولاً على الملك وعلى غيره،
ثم يخرج غير الملك بعد ذلك بذكر الملك.
الرابع - الوزير: وهو المتحدث للملك في أمر مملكته، واختلف في اشتقاقه:
فقيل مشتق من الوَزَر بفتح الواو والزاي وهو الملجأ، ومنه قوله تعالى: {كَلَاّ
لَا وَزَرَ} (القيامة: 11) سمي بذلك لأن الرعية يلجئون إليه في حوائجهم، وقيل
مشتق من الأوزار وهي الأمتعة، ومنه قوله تعالى: {وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ
القَوْمِ} (طه: 87) سمي بذلك لأنه متقلد بخزائن الملك وأمتعته، وقيل مشتق من
الوِزْر بكسر الواو وإسكان الزاي وهو الثقل، ومنه قوله تعالى: {حَتَّى تَضَعَ
الحَرْبُ أَوْزَارَهَا} (محمد: 4) سمي بذلك لأنه يتحمل أثقال الملك، وقيل مشتق
من الأزر: وهو الظهر، سمي بذلك لأن الملك يقوى بوزيره كقوة البدن بالظهر،
وتكون الواو فيه على هذا التقدير منقلبة عن همزة، وقد أوضحت القول في ذلك في
(النفحات النشرية في الوزارة البدرية) قال القضاعي في (عيون المعارف في
أخبار الخلائف) وأول من لقب بالوزارة في الإسلام أبو سلمة حفص بن سلمان
الخلال وزير السفاح، قال وإنما كانوا قبل يقولون كاتب، ثم هو إما وزير تفويض:
وهو الذي يفوض الإمام إليه تدبير الأمور برأيه وإمضاءها على اجتهاده، كما
كانت الوزراء بالديار المصرية من لدن وزارة بدر الجمالي وإلى حين انقراضها،
وإما وزير تنفيذ: وهو الذي يكون وسيطًا بين الإمام والرعايا معتمدًا على رأي
الإمام وتدبيره، وهذه هي التي كان أهل الدولة الفاطمية يعبرون عنها بالوساطة،
أما الوزارة في زماننا فقد تقاصرت عن ذلك كله حتى لم يبق منها إلا الاسم دون
الرسم، ولم تزل الوزارة في الدول تتردد بين أرباب السيوف والأقلام تارة وتارة إلا
أنها في زماننا في أرباب الأقلام.
الخامس - الأمير: وهو زعيم الجيش أو الناحية، ونحو ذلك ممن يوليه
الإمام، وأصله في اللغة ذو الأمر، وهو فعيل بمعنى فاعل، فيكون أمير بمعنى
آمر، سمي بذلك لامتثال قومه أمره، يقال: أُمِّر فلان، إذا صار أميرًا، والمصدر
الإمرة والإمارة بالكسر فيهما، والتأمير تولية الأمير، وهي وظيفة قديمة.
السادس - الحاجب: وهو في أصل الوضع عبارة عمن يبلغ الأخبار من
الرعية إلى الإمام، ويأخذ لهم الأذن منه، وهي وظيفة قديمة الوضع كانت لابتداء
الخلافة فقد ذكر القضاعي في (عيون المعارف) لكل خليفة حاجبًا من ابتداء الأمر
وإلى زمانه: فذكر أنه كان حاجب أبي بكر الصديق رضي الله عنه (شديدًا) مولاه،
وحاجب عمر (يرفأ) مولاه، وحاجب عثمان حمران مولاه، وحاجب علي
قنبرا مولاه، وعلى ذلك في كل خليفة، ما عدا الحسن بن علي رضي الله عنهما
فإنه لم يذكر له حاجبًا، وسمي الحاجب بذلك؛ لأنه يحجب الخليفة أو الملك عمن
يدخل إليه بغير إذن، وقال زياد لحاجبه (وَلَّيْتُكَ حجابي وعزلتك عن أربع: هذا
المنادي إلى الله في الصلاة والفلاح فلا تعوجنه عني ولا سلطان لك عليه، وطارق
الليل فلا تحجبه فشَرٌّ ما جاء به ولو كان خيرًا ما جاء في تلك الساعة، ورسول
الثغر فإنه إن أبطأ ساعة أفسد عمل سنة، فأدخله علي وإن كنت في لحافي،
وصاحب الطعام فإن الطعام إذا أعيد تسخينه فسد) .
ثم تصرف الناس في هذا اللقب ووضعوه في غير موضعه، حتى كان في
أعقاب خلافة بني أمية بـ الأندلس ربما أطلق على من قام مقام الخليفة في الأمر،
وكانوا في الدولة الفاطمية بالديار المصرية يعبرون عنه بصاحب الباب كما سبق بيانه
في المقالة الثانية في الكلام على ترتيب دولتهم، أما في زماننا فإنه عبارة عمن يقف
بين يدي السلطان ونحوه في المواكب، ليبلغ ضرورات الرعية إليه، ويركب
أمامه بعصا في يده، ويتصدى لفصل المظالم بين المتداعيين خصوصًا فيما لا
تسوغ الدعوى فيه من الأمور الديوانية ونحوها، وله ببلاد المغرب والأندلس
أوضاع تخصه في القديم والحديث، على ما سيأتي ذكره في الكلام على مكاتباتهم
في المقالة الرابعة إن شاء الله تعالى.
السابع - صاحب الشُرطة: بضم الشين المعجمة وإسكان الراء، وهو المعبر
عنه في زماننا بالوالي، وتجمع الشرطة على شُرَط بضم الشين المعجمة وفتح الراء،
وفي اشتقاقه قولان: أحدهما أنه مشتق من الشَرَط بفتح الشين والراء، وهي
العلامة، لأنهم يجعلون لأنفسهم علامات يُعرفون بها، ومنه أشراط الساعة يعني
علاماتها، وقيل من الشرط بالفتح أيضًا: وهو رُذَال المال، لأنهم يتحدثون في
أراذل الناس وسفلتهم ممن لا مال له من اللصوص ونحوهم.
_________
(1)
في كتب اللغة والحديث أن اسمه الخرباق فلعل فيه خلافًا.
(2)
معنى طغج عبد الرحمن كما في ابن خلكان.
(3)
لم يذكر في الضوء لفظ الأب في المحلين.
(4)
كذا في الضوء أيضًا وفي نسخة أخرى، وإلا ظهر من قبله.
الكاتب: محمد توفيق صدقي
مدرسة دار الدعوة والإرشاد
دروس سنن الكائنات
محاضرات علمية طبية إسلاميةللدكتور محمد توفيق صدقي
(12)
الهيضة أو الكوليرا
cholera
داء وبيل، سريع الانتشار، وأوبئته تفتك بالأمم فتكًا ذريعًا، وكلمة كوليرا
من كلمة يونانية معناها المِرّة (وهي إفراز الكبدالمعروف الآن بالصفراء) لأن القيء
والبراز يشتملان في أول الأمر على الصفراء، ويسمى هذا المرض باللغة العربية
(الهيضة) ويسميه المتأخرون من العرب (الهواء الأصفر) لأنهم توهموا أنه ينشأ
من تغير في الجو أو الهواء.
ومنبع هذا الداء بلاد الهند بآسية ولذلك يسمى بالهيضة الآسيوية، ومنها انتشر
في أقطار المسكونة، وقد دخل مصر عدة مرات.
الأسباب:
لهذا المرض ميكروب خاص يشبه الضمة اكتشفه (كوخ) سنة 1883، وهو
لا يصيب عادة غير الإنسان، وطول هذا الميكروب (ميكرون) واحد أو اثنان،
وقد يجتمع منه اثنان فأكثر فيتألف منهما حلزون، وهو متحرك وله هدب واحد
غالبًا في أحد طرفيه، ولا حبيبات له وإنما يتوالد بالانقسام.
يوجد هذا الميكروب في براز المصابين، وقد يوجد أحيانًا في القيء أيضًا ولا
يوجد في الدم، ولا في الأعضاء، ولا الأنسجة، وقد يستمر خروجه مع البراز
حتى بعد الشفاء بمدة، وهو يسكن في الأمعاء وأغشيتها المخاطية، وبعد الوفاة قد
يوجد في جميع أجزاء الجسم لأنه ينفذ من الأمعاء إليها.
يعيش هذا الميكروب في الهواء وفي غيره، والجفاف التام يقتله، وقد يعيش
في الطين الرطب إلى 68 يومًا، وفي ماء الشرب عدة أشهر، وفي البراز عدة
أسابيع.
وحامض العصير المعدي يقتله، ولكن هذا العصير لا يفرز إلا مع وجود
الطعام فإذا شرب الإنسان ماء على الجوع خيف عليه العدوى لعدم وجود هذا
الحامض حينئذ؛ فيصل الميكروب إلى الأمعاء، وأمراض الجهاز الهضمي أو
اضطراباته تهيئ المرء لقبول العدوى به.
ولا يميز هذا الداء بين الذكر والأنثى، ويصيب الناس في جميع الأعمار.
والفاقة والضعف والإدمان على الخمر مما يهيئ له، وكذلك الإفراط في الطعام
الكثير، ويكثر انتشاره في فصلي الخريف والصيف، ولكن البرد يوقف سيره.
والإصابة به مرة تحمي غالبًا من الإصابة به ثانية.
ولا يصل هذا الداء إلى الإنسان بطريق القناة الهضمية فهو في ذلك كالحمى
التيفودية سواء بسواء، ومما ينقله إلى الطعام أو الشراب الذباب والنمل وغيرهما.
الأعراض:
مدة التفريخ هي يومان عادة أو ثلاثة أيام، وقد تكون أكثر من ذلك أو أقل.
وقد يسبق جميع الأعراض إسهال، أو يصاب المرء بخمول وصداع ودوار
وطنين وغير ذلك، وتستمر هذه الحالة يومًا أو اثنين أو ثلاثة، ثم يشتد الإسهال
دفعة واحدة، وتزول الصفراء من البراز؛ فيصير لونه كحساء الأرز (أي مرق
الأرز المغلي) وتسمع في بطن المصاب قراقر كثيرة قلما يكون معها ألم، وبعد
الإسهال بساعة أو أكثر يبتدئ القيء؛ فلا يبقى في المعدة شيء ويصير لونه كلون
البراز، أي كحساء الأرز أيضًا، ويشتد العطش ويجف اللسان ويبيض، ويتألم
المريض من جس معدته، ويصاب بتقلص مؤلم جدًّا في عضلات الساقين والقدمين
أو الأيدي والجذع (أي باقي الجسم) ، ثم يصاب المرء بالهمود (الهبوط) فيبرد
الجسم ويزرق، وتغور العينان، ويبرد النفس، وتنخفض الحرارة، ويسرع
النبض، ويضعف جدًّا، ولا يقدر المريض على الكلام، ويزول الإسهال غالبًا،
ولكن القيء يستمر، ويقل إفراز البول أو ينقطع مطلقًا لشدة ضعف الدورة الدموية
ولنقص مائية الجسم بالقيء والإسهال، وكثيرًا ما يموت المصاب في هذا الطور.
فإذا جاوزه ترتفع الحرارة تدريجيًّا، ويعود لون الجلد إلى أصله، وترتفع
العينان بعد الغؤور، ويتحسن النبض، ويفرز البول ويزول الخطر شيئًا فشيئًا،
حتى يشفى المريض.
المضاعفات والعواقب:
كثيرة منها: الالتهاب الرئوي أو البليوراوي، وموت بعض الأجزاء
(غنغرينا) وسقوطها كالصفن والقضيب أو الأنف، وظلمة القرنية وتقرحها.
الإنذار:
تختلف الوفيات من 40 - 60 (في المائة) ، والمرض شديد الخطر على
الصغار والشيوخ، ومن كان ضعيف البنية أو سكيرًا.
المعالجة:
عند ظهور أعراض المرض الأولى تُعطى الأدوية القابضة، وأحسنها الأفيون
فإذا اشتد الإسهال والقيء وألم الساقين حُقن المريض بالمورفين [1] تحت الجلد
وأُعطي قطعًا صغيرة من الثلج لمصها.
أما في طور الهبوط فيُعطى المنعشات المنبهات، وما يملأ العروق مما سبق
ذكره في باب النزف (صفحة 55 من الجزء الأول) إما حقنًا تحت الجلد، أو في
الشرج، أو في الأوردة، وإما شربًا، ويُدفأ تدفئة جيدة بزجاجات الماء الساخن
والأغطية الثقيلة، وبالدلك للأطراف.
وقد وجد الماجور (ليونارد روجس Rogers Leonard) أن الحقن بمحلول
ملحي في الأوردة، وإعطاء البرمنجنات من الفم قد قلل الوفيات إلى 23 في المئة،
وفائدة هذا الحقن أن يزيل الهمود ويقوي القلب، ويعوض الجسم ما فقده من الأملاح،
وأما البرمنجنات فيظن أنها تؤكسد سموم ميكروب الكوليرا، وبذلك تبطل عملها
وتركيب هذا المحلول الملحي هو 120 قمحة من ملح الطعام، و6 قمحات من
كلوريد البوتاسيوم، و4 قمحات من كلوريد الكلسيوم، تذاب كلها في نصف لتر من
الماء العقيم، ثم يحقن منها نحو لترين في أحد أوردة الذارع (أعني عرق الباسليق
الأوسط وهو الأكحل بالعربية) وتكفي عادة حقنة واحدة، فإذا عاد الهمود عدنا
بأخرى، ولكن إذا كان الهمود قليلاً فالأولى الحقن تحت الجلد، وتكون حرارة
الحقنة أعلى بقليل من حرارة الجسم الطبيعية.
أما طريقة إعطاء البرمنجنات فهي أن يشرب المريض مقادير قليلة من
محلول برمنجات الكالسيوم بنسبة نصف قمحة في كل 500 جرام ماء، وتزاد هذه
النسبة تدريجًا إلى 4 أو 6 قمحات.
الوقاية:
خير من العلاج، وتكون بأمور:
(1)
عزل المرضى، وتطهير مواد قيئهم وبرازهم وسائر ما يستعملونه من
ملبس وآنية وفراش إلخ، وإلقاء تلك المواد حيث نأمن تلويثها لأي شيء آخر.
(2)
غسل الأيدي قبل مس أي طعام، وتطهير جميع ما يأكله الأصحاء،
أو يشربونه، أو يستعملونه في ذلك كله من أواني وغيرها بالغلي وخصوصًا ماء
الشرب؛ فيجب غليه دائمًا، ويجب تجنب التخم وكل ما يفسد الهضم.
(3)
إبادة الذباب والنمل ومنعهما من الوصول إلى مفرزات المرضى، ثم
إلى طعام الأصحاء وشرابهم.
(4)
عدم أكل شيء غير مطبوخ في زمن الوباء.
(5)
عدم الإذن للناقهين بالاختلاط بغيرهم إلا بعد خلو مفرزاتهم من
الميكروب بأن يعلم ذلك بالبحث البكتيريولوجي الدقيق، وبعد ذلك يستحمون وتغلى
ملابسهم، ويلبسون غيرها جديدًا، وكذلك يبحث عن (الحملة الأصحاء) وهم
الذين خالطوا بعض المرضى فوصل الميكروب إلى أمعائهم، ولم يصابوا بالمرض،
فهؤلاء يُعزلون وتطهر مفرزاتهم حتى تخلو من الميكروب.
(6)
أن تدفن الموتى بعيدًا جدًّا عن الأماكن المسكونة بشرط أن لا يتلوث
بجثثهم ماء الشرب أو غيره، ويغتسل (المغسِّل) ويطهر يديه بالمحاليل المطهرة،
وكذلك تطهر ملابسه بالغلي.
هذا ويرى بعض أئمة الدين وجوب الغسل بعد تغسيل الميت لما روي عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من غسل ميتًا فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ)
ولعل المراد بالوضوء هنا غسل اليدين كما في قوله صلى الله عليه وسلم:
(الوضوء قبل الطعام حسنة، وبعد الطعام حسنتان) وهذا كله مما يوافق قواعد
الصحة كل الموافقة، ومثل (المغسِّل) كل من قام بدفن الميت أو بتمريضه قبل
الوفاة فيجب عليه غسل يديه خصوصًا قبل أكله.
(7)
يعمل التلقيح الواقي لمن شاء بميكروبات الكوليرا حسب طريقة
هافكين (haffkine) فيحقن أولاً سنتيمتر مكعب، وبعد أربعة أيام أو خمسة يحقن
غيره أقوى منه، ويصاب الإنسان بعد الحقن بصداع وحمى وانحطاط مدة ثلاثة أيام
أو أربعة عقب كل حقنة منهما، وما قيل في عيب الحقن الواقي من التيفود يقال
مثله هنا أيضًا.
***
الكُزاز - التيتانوس
tetanus
التيتانوس كلمة يونانية معناها التشنج أو التقلص، وهو اسم داء يسمى
بالعربية (الكزاز) .
ينشأ هذا الداء من باسيل مخصوص يوجد في الطين وغيره كأوساخ الحدائق
والإسطبلات، طوله 4 أو 5 ميكرونات، وثخنه 4. من الميكرون وله أهداب،
غير أنه قليل الحركة، ولا ينمو في جو فيه أثر من الأكسجين الخالص، ويتكون
في داخله حبيبات عند أحد طرفيه، وهي كروية الشكل، وأغلظ منه حتى شبه
العلماء هذا الميكروب عند تكون الحبيبة بمطرقة الطبل.
الأسباب:
يصيب هذا المرض الإنسان في جميع الأعمار حتى الأطفال الرضع عقب
ولادتهم بقليل، وهو كثير في البلاد الحارة، والجنس الأسود أو الأسمر أكثر
عُرضة له من غيرهما، وأهم سبب لدخول الميكروب في الجسم إنما هو الجرح أو
السحج صغيرًا كان أو كبيرًا حتى لو كان كوخز الإبرة.
أما إصابة الأطفال الرضع به فسببها الغالب قذارة ما يقطع به الحبل السري،
أو تعرض السرة لشيء قذر.
وقد يصيب بعض الناس بدون أن تُشاهد في أجسامهم إصابة، ولعل السبب
في ذلك دخول الميكروب من سحج بسيط جدًّا لم يلتفت إليه أحد، أو دخوله من
بعض الأغشية المخاطية، فقد شاهد بعض الباحثين حبيباته في رجيع الإنسان،
وفي رجيع الأنعام والخيل وغيرها، والإنسان والخيل أكثر الحيوانات إصابة به.
وإذا دخل الميكروب من الجرح عاش حيث دخل مدة قصيرة ومات بعد بضعة
أيام، وهو لا ينتشر في البنية البتة، وغاية ما يمكنه الوصول إليه هو بعض الغدد
اللمفاوية القريبة من الجرح، وجميع الأعراض إنما تنشأ من امتصاص سمومه
وحبيبات هذا الميكروب تعيش عدة سنين ولو جفت، وتقاوم درجة 80 سنتجراد
مدة ساعة، ولكن درجة الغليان تقتلها بعد خمسة دقائق وحامض الفنيك بنسبة
1 / 20 لا يهلك هذه الحبيبات في أقل من 15 ساعة؛ ولذلك يجب تطهير الآلات
الجراحية بالغلي مدة طويلة حتى يُؤمن شره، فقد شوهد كثرة الإصابة بهذا الداء بعد
عمل الخزام أو عقب الحقن تحت الجلد أو في العضلات خصوصًا بمادة الكينين
لتأثير هذه المادة في كريات الدم البيضاء، وإعاقتها عن قتل هذا الميكروب؛ فيجد
بيئة صالحة لنموه، لا سيما وأن الأكسجين الخالص غير موجود في تلك البيئة.
وسكان جزائر سليمان في المحيط الأعظم في الشمال الشرقي من أسترالية قد
عرفوا شيئًا من هذه الحقائق؛ فلذلك يصنعون سهامًا ويغمسون طرفها في مادة لزجة،
ثم يلوثونها بقذارة المستنقعات ويجففونها فتوجد فيها بذور هذا الميكروب اللعين؛
فإذا أصابت شخصًا كانت السبب في موته غالبًا.
الأعراض:
بعد دخول هذا الميكروب في الجرح ببضعة أيام يشعر المريض بيبس في قفاه،
وفي فكيه بحيث يتعسر عليه المضغ، أو أن يفتح فاه، وقد تستمر الحال يومًا أو
يومين، وقد ينتقل إلى الطور الثاني بأسرع من ذلك، فتيبس عضلات الجذع يبسًا
شديدًا، وتيبس عضلات الأطراف يبسًا قليلاً، ثم يشتد تيبس الظهر وانقباض
عضلاته حتى يتقوس، ويكون تقعيره إلى الخلف، وتيبس كذلك عضلات البطن
والصدر حتى يتعسر التنفس وعضلات الأطراف السفلى، وأما الأطراف العليا
فيكون تيبسها حول الكتفين والمرفقين وتبقى حركة الأصابع ميسورة، وفي هذا
الوقت يشتد تقلص الفكين، حتى لا يمكن فتحهما إلا بشق الأنفس، ومع ذلك لا
يمكن الفصل بينهما بأكثر من 1⁄4 بوصة، وتتقلص كذلك عضلات الوجه حتى ينشأ
من تقلصها ما يشبه الضحك، ويسمى هذا الضحك المؤلم عند الأطباء (ضحك
سردينية) وهي تلك الجزيرة المشهورة في البحر الأبيض المتوسط لوجود عشب
سام فيها يُذْهِب العقل، ويحدث تشنجًا في عضلات الفم يشبه الضحك.
فإذا وصل المرض إلى هذا الحد صار المريض عُرضة لاشتداد تقلص
العضلات كلما مسه أي شيء، ولو أطراف الأصابع، أو كلما هز سريره، ومدة
اشتداد هذا التقلص لحظات يتعسر عدها بالثواني وفيها يخشى عليه من الاختناق،
والفترات بين هذه النوب تكون من نصف ساعة إلى ساعة أو أكثر، وكلما طال
المرض نقصت وازدادت شدة التقلصات، ويكون المريض في تلك الفترات متألمًا
جدًّا من انقباض عضلاته، ويكون تنفسه عسيرًا، وصوته ضعيفًا، ونبضه صغيرًا
سريعًا، ولكن حرارته تكون عادة طبيعية غير أنها قد ترتفع ارتفاعًا فاحشًا قبيل
الوفاة، وتستمر في الارتفاع حتى بعد الوفاة فتصل إلى أكثر من 43 درجة ويحتبس
البول أيضًا، ويكون إحساس المريض طول مدة المرض على أتمه، وكذلك عقله
إلا قُبيل الوفاة فقد يعتريه الهذيان، وأكثر إصابات الكزاز (التيتانوس) تنتهي
بالوفاة بعد يوم أو 12 يومًا ، وسبب الموت إما نهاكة قوى المريض أو اختناقه
لتشنج عضلات التنفس أو الحنجرة أو طروء بعض المضاعفات عليه كالالتهاب
الرئوي أو الشعبي، وقد تطول الحياة إلى 3 أو 4 أسابيع، وقد يشفى المريض.
الإنذار:
عدد الوفيات في الأحوال ذوات الجرح نحو 90%، وفي الأحوال التي لم
يُشاهد فيها جرح نحو من 50%، والكزاز من الأمراض القتالة جدًّا خصوصًا عقب
الإجهاض أو الوضع، وكلما كان الجرح شديدًا أو متسعًا كان الأمل في الحياة
ضعيفًا جدًّا.
المعالجة:
يوضع المريض في الفراش في مكان مظلم لا حركة فيه ولا صوت، ويغذى
بالسوائل، وإن اضطررنا إلى تغذيته بأنبوبة من أنفه أو بالحقن الشرجية،
والأحسن أن تدخل الأنبوبة من بين أسنانه إذا كان بعضها مفقودًا، ومن الأطباء من
يقلع بعضها من أجل ذلك؛ ولكنه عمل غير محمود.
ومن الواجب تنظيف الجرح قبل كل شيء، وتطهيره طهارة تامة لكي نقتل
أو نزيل بقدر الإمكان تلك الميكروبات منه؛ ولكن مما يوجب الأسف أن ظهور
الأعراض دليل كافٍ على أن السم قد وصل إلى المراكز العصبية واتحد بها.
وتُعطى المسكنات بمقادير كبيرة، ومن أحسنها بروميد البوتاسيوم، والأفيون
أو المورفين، ومن الأطباء من ينشق المريض الكلوروفورم مرة أو مرتين في اليوم
لتخديره حتى ترتخي عضلات الفكين، وحينئذ يمكن تغذيته.
وللكزاز مصل يستخرج بطريقة استخراج مصل الدفثيريا، وتجب المبادرة
بحقنه بمقادير كبيرة جدًّا، فيحقن منه 10 آلاف إلى 20 ألف وحدة في الأوردة أو
10 آلاف إلى 50 ألف تحت الجلد، ويتكرر الحقن يوميًّا حتى تتحسن الحالة،
ومن الناس من يحقن هذا المصل في النخاع، أو في المخ بإحداث ثقب في عظام
الجمجمة يسمى عند الجراحين بالتربنة (TREPHINING) ؛ ولكنه عمل عسير
مشكوك في نفعه.
والسبب في عسر شفاء هذا المرض أن سم الميكروب يسري في الأعصاب
المحركة، ويلتصق بالمراكز العصبية التصاقًا شديدًا بحيث يتعذر إزالته منها بعد
تمكنه، زد على هذا أن بعضه يدور في الدم، ويصل معه إلى المراكز العصبية
أيضًا.
الوقاية:
عقب إصابة أي شخص بأي جرح يجب تنظيفه جيدًا، ثم تطهيره بكل
الوسائل الممكنة، وإذا ظن أن الجرح تلوث بشيء قذر مما يحتمل وجود الميكروب
فيه وجبت المبادرة إلى الحقن قبل أن تبتدئ الأعراض؛ فيحقن 1500 وحدة تحت
الجلد؛ ولذلك بادرت الحكومة الإنكليزية باتباع هذه القاعدة مع جنودها، فترى
الأطباء الإنكليز يحقنون كل جريح اشتبه في جرحه في أقرب وقت ممكن في ميدان
القتال.
وتطهير الجرح بالكي عقب حدوثه مباشرة كما تفعل العرب عمل محمود.
***
الحمرة
اسم لداء يسمى باللغات الإفرنجية (Erysipelas) ، وهو لفظ يوناني معناه
الحرفي (الجلد الأحمر) ، ويسمي الإنكليز هذا المرض أيضًا بنار القديس
أنطونيوس (anthony) لتوهم عامتهم أنه قادر على شفائها، وهو من الأمراض
المعدية الشديدة، وينشأ من ميكروب من الشكل المسمى (البروز السلسلية)
(streptococcus erysipelatis) .
الأسباب:
أعظم الأسباب المهيئة لهذا المرض وجود أي جرح بالجسم يدخل منه هذا
الميكروب الخبيث مهما صغر الجرح، وفي أحوال قليلة جدًّا يحدث هذا المرض
بدون جرح ظاهر، ولكن إذا دقق في البحث فلا بد من وجود أي منفذ إلى الجسم
ولو سحج بسيط جدًّا، أو دمل صغير، أو خدش كخدش الدبوس، والعدوى لا تنتقل
إلا إلى المسافات القصيرة.
وهو يصيب الأطفال الرضع والكبار فوق الأربعين أكثر من غيرهم؛ ولكنه
لا يميز بين الذكر والأنثى.
ومما يجعل الشخص أكثر تعرضًا له من غيره إدمان الخمر، وأمراض الكبد
والكلى المزمنة، والضعف، أو الفاقة، وكذلك البرد، والرطوبة، وكثرة الازدحام
خصوصًا إذا كان المكان رديء الهواء أو قذرًا، ومن الأسباب أيضًا استعداد
مخصوص في الشخص نجهل حقيقته؛ فإن هذا المرض كثيرًا ما يعاود شخصًا عدة
مرات، فالوقاية منه لا تطول مدتها.
أما ميكروبه هذا البزري فهو عديم الحركة، وقطر كل بزرة نحو ميكرون
واحد، ويحصل الانقسام فيه في جهة واحدة فقط؛ ولذلك تتكون منه السلاسل
المذكورة، وهو يموت إذا بلغت الحرارة 53ْ إلى 55ْ سنتجراد وعرض لها 10
دقائق.
الأعراض:
في الأحوال التي يتعسر فيها مشاهدة الجرح أو السحج نرى أن هذا المرض
يصيب الوجه على الأكثر؛ ولذلك كان وصفنا الآتي قاصرًا على وصف هذا العضو
إذا أصيب به.
ومدة التفريخ أيام معدودة، فهي في أكثر الأحوال من 3 إلى 6، وإن كانت
تطول في بعضها، ويبتدئ المرض عادة بقشعريرة أو رعدة وصداع وغثيان
ويبيض اللسان، ويحس المريض بآلام عامة في جسمه، وبعد بضع ساعات تظهر
على الوجه بقعة حمراء مؤلمة خصوصًا حيث يلتقي الجلد بالغشاء المخاطي كفتحة
الفم أو الأذن أو الأنف، ثم تكبر هذه البقعة وترم ويشتد احمرارها وألمها، وإذا
ضغط عليها انبعجت، ثم يمتد الورم بسرعة متفاوتة؛ فترى أن السطح العالي
الأحمر كأنه يسير في باقي الجلد، وفي بضعة أيام قد يتغطى الوجه كله فتراه
منتفخًا جدًّا، وكذلك الجفون حتى تتدلى، وترم الأذنان والشَّواة (فروة الرأس)
وتتكون غالبًا فقاعات أو نفاخات ممتلئة بسائل مصلي صديدي على الخدين أو
الجفون، وقد تنفجر؛ فتزيد المصاب تشويهًا حتى تتعذر معرفته، وتضخم الغدد
اللمفاوية القريبة من المكان الملتهب وتكون مؤلمة، ويقال إنها تلتهب حتى قبل
ظهور التهاب الجلد.
وتكون الحمى عالية جدًّا حتى تزيد عن الأربعين في اليوم الثالث والرابع،
وفي السادس تميل للانخفاض فجأة ما لم يستمر التهاب الجلد، أو يظهر التهاب
جديد، فهي تابعة لحالة الالتهاب، وتكون الحمى مصحوبة بباقي أعراضها
المعروفة.
وهذا الالتهاب يمتد أيضًا إلى الأغشية المخاطية كأغشية الحلق أو اللوزتين
وأحيانًا إلى أغشية الحنجرة حتى يتعسر التنفس والازدراد، ويعتري المريض
الهذيان، وقد تطرأ عليه الغيبوبة، وبينما نرى الالتهاب يمتد في جهة قد نشاهده
يشفى حيث ابتدأ.
وسبب الموت نهاكة القوى مع الهذيان والغيبوبة خصوصًا في الشيوخ ومدمني
الخمر وغيرهم ممن ذكرنا من قبل.
وإذا شفي المريض تقشرت البشرة مكان الالتهاب، ويستمر التقشير بضعة
أيام، وكثيرًا ما نشاهد سقوط شعر الشواة.
المضاعفات والعواقب:
منها: الخراجات وموت الجلد، وسقوطه، وضخامة الغدد اللمفاوية أو
تقيحها في النادر والاختناق من تورم الحنجرة والالتهاب الرئوي أو البليوراوي في
بعض الأحوال، وكذلك الالتهاب السحائي.
ويقال إن امتداد هذا المرض في الجلد تابع لسير الأوعية اللمفاوية، ويقف
الالتهاب في الغالب حيث يلتصق الجلد التصاقًا شديدًا بالأنسجة التي تحته كما
يحصل في الأربية عن رباط (بوبارت Poupart)
وإنذار هذا المرض في أكثر الأحوال حميد، ولكن يختلف خطره باختلاف امتداد الالتهاب، وهو قاتل غالبًا للشيوخ والسكيرين وغيرهم ممن ذكرنا.
المعالجة:
المبدأ العام في معالجة هذا المرض هو استعمال المنعشات والمقويات للمريض،
فيعطى كثيرًا من اللبن والمرق وغيرهما من السوائل المغذية، وبعض المنعشات
كالخمر إذا لم يوجد ما يغني المسلم عنها والنوشادر والأثير والإستركنين وغيره،
وصبغة فوق كلوريد الحديد نافعة جدًّا في هذا المرض حتى كانوا يعدونها شفاء
قطعيًّا له، فيعطى منها من 30 40 نقطة للشبان والكهول كل 3 أو 4 ساعات، وقد
وصل بعضهم أيضًا باستعمال الكنيين، وظهرت حسنة من استعمال المصل المضاد
لبروز هذا المرض (SERUM ANTI-STREPTOCVVUS) فيحقن منه
تحت الجلد مرة أو مرتين يوميًّا 15 أو 20 سنتيمترًا مكعبًا، وهذا المصل يستخرج
من الحصان بطريقة تشبه استخراج مصل الدفثيريا، غير أنها تختلف عنها في أنه
في مصل الدفثيريا يحقن الحصان بسم الميكروب؛ ولكن هنا يحقن الحصان بنفس
الميكروب حيًّا؛ لأن ميكروب الدفثيريا يفرز سُمًّا في السائل الذي يُربى فيه، وأما
ميكروب هذا المرض فسمه كامن في جسمه، فإذا حقن السائل الذي يربى فيه لا
يفيد، وطريقة ذلك أن يُقوى ميكروب الحمرة بحقنه في عدة أرانب فيكون ما حقن
في الأخير أقوى مما حقن في الأول، ويزرع من كل منها جزء من الميكروب؛
فتكون قوته متفاوتة، ثم يحقن الحصان بأضعف الميكروبات سُمًّا، ونترقى منه
تدريجًا إلى أقواه، وفي نهاية سنة الحقن يؤخذ مصل هذا الحصان فيكون فيه سم
قاتل لميكروب الحمرة، فإذا حقن المريض به أفاده فائدة عظيمة.
وإذا اشتدت الحمى كان استعمال الماء البارد أو الفاتر نافعًا فيها أيضًا،
وعلاج مكان الحمرة نفسه قليل الجدوى، وغاية ما يعمل له أن يدهن ببعض
المراهم أو نحوها كمرهم البوريك، وإذا اشتد توتر الجلد جاز تشريطه قليلاً.
***
النزلة الوافدة الأنفليونزا
(INFLUENZA)
الأنفليونزا اسم إيطالي أو لاتيني لمرض كانوا يظنون أنه من تأثير الكواكب
في الإنسان؛ فلذا سموه بهذا الاسم الذي معناه (التأثير) ويسمي الأطباء المحدثون
من العرب هذا المرض بالنزلة الوافدة.
الأسباب:
هذا المرض كثيرًا ما ينتشر في البلاد بشكل وبائي سريع خصوصًا إذا كانت
القرى مزدحمة؛ فيصاب به في وقت واحد مئات من الناس.
وميكروب هذا المرض من النوع الباسيلي (المستطيل) اكتشفه (بفيفر
PFEIFFER) في سنة 1892م، وهو يوجد في بصاق المصابين وأنوفهم، وقل
أن يوجد في دمهم، وهو أدق الميكروبات وأصغرها حجمًا فإن طوله 0.5 إلى 1.5
ميكرون، وهو ساكن لا حركة له ولا حبيبات، ولا يعيش إلا في الأكسجين، وكثيرًا
ما يصاحبه ميكروبات أخرى في هذا المرض، وإذا شفي المريض زالت منه
الميكروبات بسرعة فلا يعدي بعد النقاهة كالدفثيريا مثلاً، وهو ينتقل من شخص إلى
آخر إذا اقترب منه بحيث يصل إليه بعض إفرازات الأنف أو الفم، والاستعداد لهذا
المرض يختلف باختلاف الأشخاص فمنهم من يعاوده مرارًا، ومنهم من لا يمسهم مرة
واحدة في حياتهم.
وكثير من الناس يطلقون اسم (أنفليونزا) على كل النزلات التي تعقب البرد
كالزكام أو السعال، ولكنه خطأ.
الأعراض:
مدة التفريخ ساعات معدودة، ويبتدئ هذا المرض فجأة بألم شديد في الجبهة،
ومؤخر العينين، وألم في عضلات القطن والفخذين، وقل أن تحدث فيه رعدة،
والحرارة ترتفع في ساعات قليلة إلى 39ْ أو 40ْ، وتكون مصحوبة بباقي أعراض
الحمى، ويلتهب الحلق واللوزتان وتصير رائحة النفس كريهة، وقد يكثر العرق
ولكن الغالب أن يكون الجلد جافًّا، وتضعف قوى المريض، ويشتد به الأرق والتألم،
وقد يقتصر المرض على هذه الأعراض، وتزول الحرارة فجأة بعد يوم أو يومين
غير أن آلام الأطراف تستمر بعدها مدة وكذلك الضعف، وقد تطول مدة الحمى
بضعة أيام، أو ينكس المريض، ومن الناس من يصابون فوق ذلك بالنزلات
الشعبية أو الرئوية، ومنهم وهم الأقل من يصابون باضطراب في الجهاز الهضمي
فيعتريهم مغص وقيء وإسهال وأحيانًا اليرقان، ومنهم أيضًا من يصابون في
جهازهم العصبي؛ فيعتريهم النعاس في أول الأمر والهذيان، ثم يزول عنهم النوم،
ويحل محله الأرق، وتشتد عندهم الآلام العصبية والعضلية.
وقد يحصل في المرض طفح في الجلد.
وإنذار هذا المرض في الغالب حميد.
والعلاج:
كعلاج باقي الحميات سواء بسواء.
أما الزكام والسعال العاديان:
فينشآن غالبًا من ميكروب آخر من الشكل البزري يسمى (البزور الصغيرة
النزلية) (micrococcus catarrhalis) وهو يوجد كثيرًا في الأنف والحلق في
إصابات البرد، وفي البصاق بعد السعال الناشئ من النزلات الشعبية، وقد يوجد
في الأشخاص الأصحاء، ويوجد أيضًا في الأطفال إذا أصيبوا بالنزلات الشعبية
الرئوية.
***
الحمى المخية الشوكية
أو الالتهاب السحائي الوبائي
هذا المرض عُرف أولاً في (جنيفا geneva) سنة 1805 ومنذ سنة 1860
صار منتشرًا في الولايات المتحدة، وألمانية وغيرهما، وهو كثيرًا ما يُشاهد أيضًا
في مصر خصوصًا في الأماكن التي يكثر فيها الازدحام كالسجون والمعاهد العلمية.
ينشأ هذا المرض من (بزور مزدوجة diploccus) تسمى البزور السحائية
(menigococci) تُشاهد في الكريات البيضاء التي توجد في السائل المستخرج
من النخاع في هذا المرض، وقد توجد هذه البزور أيضًا خارج الكريات في السائل
نفسه، وأحيانًا في دم المصاب، وفي مفاصله إذا التهبت وكذلك في الرئتين إذا
التهبتا، وفي الأنف والحلقوم والأذن الوسطى، وهذا الميكروب اُكتشف سنة 1887
هو يشبه ميكروب السيلان، ولا ينمو إلا بوجود الأكسجين، ولا في حرارة أقل من
25ْ سنتجراد.
الأسباب:
يدخل هذا الميكروب من الحلقوم سواء أوصل إليه من الفم أو من الأنف،
ويوجد في حلقوم المرضى والناقهين كذلك، وفي حلقوم بعض الأصحاء المخالطين
للمريض، وهو يصيب الصغار أكثر من غيرهم، حتى أن 80% من المصابين
منهم تجد أن عمرهم أقل من 16سنة، و5% فقط فوق 25 سنة، ولا يميز بين
الذكور والإناث، وهذا المرض كثير الحصول في أزمنة البرد؛ لأن الناس في تلك
الأزمنة يضطرون إلى السكنى في أماكن محتبسة الهواء؛ فيفسد وترتفع حرارته
وتكثر رطوبته؛ وبذلك يصير بيئة صالحة لنمو هذا الميكروب الخبيث، وإن كان
البرد الشديد يقتله؛ ولذلك لم يعرف هذا المرض بين سكان المنطقة القطبية؛ ولهذا
الهواء الفاسد تأثير سيئ في بنية المستنشقين له، وهو يجذب بسخونته الدم من
الأحشاء إلى ظاهر الجلد، وذلك أيضًا مما يضعف البنية ويعوق الأعضاء عن
إتمام وظائفها، فكأن الهواء الفاسد السُّخْن سبب للعدوى من وجهتين:
(1)
كونه بيئة صالحة لنمو الميكروب.
و (2) كونه مضعفًا للبنية عن مقاومته، مفسدًا للصحة، ولولا ذلك لما
كثر انتشار المرض في أزمنة الشتاء.
ومن أمثلة المشاهدات العجيبة في العدوى بهذا المرض أن الأشخاص الذين
يكونون في جهة معينة من المريض يصابون به، بينما غيرهم في الجهة الأخرى لا
يصابون، وما ذلك إلا لكون الهواء يهب على المريض من تلك الجهة التي فيها
السليمون فيمر عليهم أولا، ثم على المريض ويحمل ذرات فيها الميكروب من نفسه
أثناء الكلام أو السعال ونحوهما إلى الذين في الجهة الأخرى.
وقد وجد أن نحوًا من 40% ممن يخالطون المريض قد يصيرون من (الحملة
الأصحاء)
الأعراض:
في أحوال قليلة يتقدم المرض أعراض بسيطة كالصداع والغثيان، ولكن في
أكثر الأحوال يبتدئ هذا المرض فجأة بألم شديد في الدماغ، ورعدة أحيانًا؛
فيضطر المريض في الحال لملازمة الفراش، وترتفع الحرارة بسرعة حتى تصل
إلى 40ْ، ويشتد الصداع خصوصًا في مؤخر الرأس، وتيبس عضلات القفا حتى
يتعسر على المريض الانحناء إلى الإمام، ويبقى شاخصًا ببصره إلى السماء،
وكذلك يقعنسس المصاب، أي يتقوس الظهر، ويكون تقعيره إلى الخلف وتتشنج
الأيدي والأرجل، وتكثر الآلام في الظهر والأطراف، ويكون الجلد حساسًا
وقد يرتخي الجفنان أو أحدهما لشلل فيهما، وربما يشعر المريض بألم في أذنه
وطنين أو صمم، ويقل شمه، ويعتريه النعاس فالهذيان فالغيبوبة، وقد يصاب
بنوبات تشبه الصرع فيتخبط كما يتخبط المصروع، وفي كثير من الأحوال يظهر
على وجهه ما يسمى بالنملة (Herpes) وهي فقاعات صغيرة ممتلئة بسائل،
وتلتهب المفاصل أحيانًا وقد تتقيح، ويتقعر البطن حتى يصير كالزورق، ويعظم
الطحال ويكثر البول، وقد يوجد فيه زلال قليل أو أثر من السكر، وإذا رُفع فخذ
المريض - وهو ملقى على ظهره - بحيث يكون مع جسمه زاوية قائمة تعذر مد
الساق حتى تكون مع الفخذ على خط مستقيم، وهذه العلامة - وتسمى علامة
(كرنج Kernig) - من أهم ما يعرف به الالتهاب السحائي، وإذا مررت بإصبعك
على جسم المريض ظهر خط أحمر حيث مرت الإصبع، ويستمر نحو خمس دقائق
أو أكثر، ويسمى هذا الخط بالفرنسية (Tache Cerébrale) ومعناه (البقعة
المخية) وهي من أهم علامات الالتهاب السحائي أيضًا، وتنشأ من شلل في أوعية
الدم.
وهذا المرض خطر جدًّا على الحياة، وكثيرًا ما يموت به المصابون، بل
منهم من يموت في بضع ساعات أو بضعة أيام، وعدد الوفيات يختلف من 30 إلى
70%.
ويوجد نوع آخر منه يصيب الأطفال الرضع فيقتلهم غالبًا.
وإذا شُفي المريض منه قام غالبًا بصمم أو عمى أو استسقاء في الدماغ، مع
صداع وتشنجات وضعف شديد في العقل أو الجسم أو شلل بعض الأعضاء، وإذا
أصاب الصمم الأذنين قبل أن يتعلم الطفل الكلام بقي طول حياته أبكم أصم.
وقليل من الناس من يشفى منه ولا يصيبه شيء.
الصفة التشريحية:
إذا شُرِّحَت الجثة بعد الوفاة من هذا المرض يُشاهد التهاب حاد في الأم الحنون
للمخ والنخاع الشوكي، فترى الصديد والمواد اللمفاوية متراكمة على سطح المخ في
شقوقه (أي ما بين التلافيف) ، ويكون السطح الخلفي للنخاع ملتهبًا أكثر من
السطح الأمامي، وخصوصًا القسم القَطَني منه، وفي بطينات المخ يُشاهد مصل
عكر أو صديد، وفي القشرة السنجابية نقط نزفية أو بثور.
وترى الرئتين والكبد والطحال والكُليتين جميعًا محتقنة، مع استحالة شحمية
في خلايا الكلية واستحالة حبيبية في ألياف العضلات الاختيارية، وقد نرى أيضًا
نقطًا نزفية في الشغاف والبليورا وأحيانًا تقيحًا في المفاصل.
وكل هذه التغيرات المرضية التي تُشاهد في الأحشاء ما عدا المخ والنخاع هي
تابعة لالتهاب السحايا، وليست من أصل المرض؛ وإنما تنشأ من سموم الميكروب،
ومن شدة ارتفاع الحرارة ونحو ذلك.
المعالجة:
أحسن علاج لهذا الداء استعمال المصل الخاص به؛ فيصفى جزء من السائل
الذي في النخاع بالبزل القطني، ويستعاض عنه بحقن 30 سنتيمترًا مكعبًا كل يوم
أو كل يومين بحسب شدة المرض.
والبزل القطني وحده نافع في هذا المرض لتخفيف الضغط على المراكز
العصبية بسحب بعض المواد الالتهابية، ولإزالة بعض سموم المرض.
وباقي علاج هذا المرض كعلاج سائر الحميات، ومن النافع فيه أيضًا
استعمال مركبات الزئبق ويودور البوتاسيوم في بعض الأحوال.
الوقاية:
عزل المريض كما تقدم في الحميات، وتطهير كل إفرازاته، واتقاء القرب
منه.
والسكنَى في الأماكن النقية الهواء ذات النوافذ الكثيرة من أحسن ما يتقى به
هذا الداء؛ فلذا يجب تهوية الأماكن المسكونة ليلاً ونهارًا، صيفًا وشتاء، ولا
يتوهم أحد أن الهواء المطلق الذي نرغب فيه هو مما يسمونه (بتيار الهواء)
ويقولون إنه يجب اتقاؤه، بل التيار الضار يكون بتعريض جزء من الجسم لهواء
يغاير باقي الهواء المحيط بالجسم في سرعته، وفي درجة حرارته، كالجلوس أمام
إحدى النوافذ من بيت دافئ مع تعريض جزء من البدن لهواء النافذة البارد، وأما
خروج الإنسان إلى الأماكن الطلقة الهواء كالفلوات والبحار والمكث فيها زمنًا ما؛
فإنه لا يضر الصحيح البنية خصوصًا إذا كان جسمه مدفأ جيدًا بالملابس الكثيرة
الجافة؛ ولكن إذا ابتلت هذه الملابس بالعرق أو بالماء خيف على المرء من ضرر
البرد بالمكث في الهواء البارد.
***
الجُذام
Leprosy
مرض شهير منذ العصور الغابرة، سمي بذلك في العربية؛ لأنه يبتر
بعض الأعضاء، وهو من الأمراض المزمنة المتعذرة الشفاء، ينشأ من
ميكروب من الشكل الباسيلي اكتشفه (هانسن Hansen) سنة 1879م يشبه
ميكروب الدرن من عدة وجوه، وحقن هذا الميكروب في الحيوانات لم ينجح في
إحداث المرض فيها ما عدا القردة؛ فإنها تصاب بإصابة موضوعية وقتية،
ويوجد الميكروب في دم المجذوم، وفي الجلد والأغشية المخاطية والأعصاب
والغدد اللمفاوية والحنجرة والكبد والطحال والخصيتين والكُليتين، ونادرًا في
الرئتين، ولا يوجد في العظام ولا المفاصل ولا العضلات.
الأسباب:
هذا المرض قليل الوجود في أوربة ماعدا بلاد النرويج ويوجد في كثير من
البلدان الأفريقية والآسيوية والأمريكية وكثير من جزائر المحيط الهادئ، وهو
يصيب الذكور أكثر من الإناث، والصغار قبل سن الثلاثين أكثر من غيرهم، ومن
النادر جدًّا أن يصيب الأطفال، وللوراثة بعض التأثير في إحداثه.
يدخل ميكروب هذا الداء إلى الجسم من منفذ أو أكثر من المنافذ الآتية: الأنف،
أو أعلى الجهاز التنفسي، أو الفم، أو اللوزتين، أو سحجات الجلد، أو الجهاز
التناسلي.
ومن العلماء من يرى أن بعض الحشرات تنقل هذا المرض من شخص إلى
آخر فقد وجد ميكروبه في البعوض (الناموس) والبق، ولم يُشاهد ميكروبه في
الأرض، ولا في الهواء [2] ، ولا في الطعام، ولا في الشراب.
ويرى بعض العلماء أن الإفراط في أكل السمك خصوصًا الفاسد مما يهيئ
الجسم لقبول هذا الميكروب الخبيث.
ويسكن هذا الميكروب في جميع أجزاء الجسم المصاب، حيث توجد أنسجة
مريضة به، ويخرج من جسم المجذوم في مخاطه ودموعه ولعابه ولبنه ومنيه
وإفرازات الإحليل والمهبل، وفي البرازيل يخرج أيضًا مع خلايا البشرة التي
تنفصل بالتدريج من الجلد، هذا فضلا عن خروجه بالضرورة مع ما ينسكب من
قروح المريض.
ولكن أهم الأشياء التي يوجد فيها الميكروب هو إفراز الأنف؛ فإنه يوجد فيه
بكثرة عند أقل بحث فيه.
الأعراض:
يبدأ هذا المرض بتوعك عام مع حمى خفيفة، وتكسر في الجسم، ثم تظهر
بقع حمراء في الجلد قطرها يبلغ من نصف بوصة إلى ثلاث أو أربع بوصات
منتفخة قليلاً ومستديرة أو غير منتظمة، وقد يتكون من هذه البقع الحمراء حلقات
وذلك بشفاء الجلد الذي في وسطها، وتزول هذه البقع الحمراء أيضًا إذا زالت
الحمى، وكثيرًا ما تترك خلفها آثارًا ملونة أو بيضاء، وقد تعود الحمى وتظهر هذه
البقع آنًا بعد آن، وبعد ذلك تنقسم أعراض المرض إلى قسمين: فيصاب المريض
إما بالجذام الدرني، أو بالجذام الخدَري، وقد يجتمع فيه النوعان.
أما في الجذام الدرني فتظهر في الجلد درنات مرتفعة حجمها قدر حبة الحمص
أو البندق أو أكبر - تظهر أثناء ظهور البقع الحمراء أو بعدها بقليل، وهذه الدرنات
قد تمكث زمنًا طويلاً، وقد تزول تاركة خلفها بقعًا ملونة، وكثيرًا ما تتآكل؛
فيتكون منها قروح يسيل منها صديد (أي سائل رقيق) قليل، وهذه الدرنات تظهر
على الأكثر في الوجه، وفي ظهر اليدين والقدمين وغير ذلك، فتشوه الوجه،
وتغلظ الحواجب والأنف والخدود والآذان، ويكون شكل الوجه كوجه الأسد، ولذلك
يسمى هذا المرض عند المصريين بالأسد أيضًا.
وكثيرًا ما تتقرح الجفون حتى يصل المرض إلى طبقات العين، وإن كان
العصب البصري والشبكية والزجاجية والبلورية كلها تنجو منه عادة، وتصيب
الدرنات أيضًا الأغشية المخاطية للفم والحلق والحنجرة والأنف؛ فيغلظ الصوت أو
يضعف، وهذه القروح قد يزداد تآكلها حتى تصيب الأوتار فتقطعها، والعظام
فتنخرها، والمفاصل فتفتحها، وبذلك تبتر بعض الأجزاء.
أما الجذام الخدري: فتكون إصابة الأعصاب فيه أكثر، وفي أول الداء
يحصل إحساس في بقع كثيرة من الجسم يشبه الإحساس بمشي النمل، ووخز الإبر
يعقبه خدر، ويكون الجلد في البقع المصابة، إما أكمد (باهتًا) ، أو ملونًا ويضعف
الشعر ويزول لونه، ويكون سطح الجلد ناعمًا براقًا، وتضخم الأعصاب حتى
يمكن الإحساس ببعضها بغاية السهولة؛ وذلك لالتهابها بسبب المرض. وبسبب
مرض الأعصاب تضمر العضلات خصوصًا ما بين مشط اليدين والقدمين،
وترتخي الأيدي والأقدام ويكون شكل اليد كبرثن الأسد [3] ، وقد يحصل في هذا
النوع من الجذام قروح فوق المفاصل أيضًا؛ فتبتر الأعضاء خصوصًا أطراف
الأيدي والأقدام، وينجو من هذا البتر السلاميات الأولى للأصابع غالبًا، وكثيرًا ما
تشفى هذه القروح؛ فتبقى اليد بالسلاميات الأولى فقط.
وسير هذا الداء موجب لليأس، ويجعل الشخص المجذوم مكروهًا عند الناس
مخيفًا لهم بمنظره وبعد زمن قد يمتد إلى 15 سنة أو أكثر يموت المصاب
غالبًا بمضاعفات المرض، أو بطروء السل الرئوي، أو التهاب الكُلى، أو
بالدوسنتاريا وغير ذلك.
الإنذار:
هذا المرض لم يعرف أن أحدًا أُصيب به وشفي منه، غاية الأمر أنه قد
تتلطف الأعراض ويقف الداء مدة ما.
المعالجة:
تُعالج الأعراض بالطرق الطبية المعروفة عند الأطباء، وتُعطى للمريض
الأغذية الجيدة السهلة الهضم، ويوضع في مكان نقي الهواء بمعزل عن الناس.
ومما ينفع فيه بعض النفع زيت كبد الحوت، وزيت (حب الشلمغرا
chaulmoogra) وجرعته في اليوم تبتدئ من 20 نقطة إلى درهمين، ويجب
تعاطيه لمدة سنتين على الأقل، وهناك علاجات أخرى كالحقن باللقاح ونحو ذلك؛
ولكنها غير محقق نفعها.
ويجب مدة المرض استعمال المطهرات للقروح وتضميدها جميعًا.
الوقاية:
لما كانت كيفية العدوى بهذا الداء غير معروفة بالضبط وجب عزل المرضى
والاحتراس من كل من يلامسهم أو يوجد معهم، وهذا غاية ما يمكن أن يقال الآن
في أسباب الوقاية من هذا الداء، وفي الحديث (فر من المجذوم فرارك من الأسد)[*]
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
هو أهم الأصول الفعالة في الأفيون، سمي بذلك من كلمة يونانية معناها (إله الأحلام) لأنه يحدث نومًا مريحًا، وأحلامًا لذيذة.
(2)
اللهم إلا ما كان حول المريض مباشرة، فقد توجد فيه ذرات من مخاطه حاملة لهذا الميكروب.
(3)
البراثن للسباع بمنزلة الأصابع للناس.
(*) المنار: رواه البخاري من حديث أبي هريرة معلقًا أو موصولاً على طريقة ابن الصلاح ووصله آخرون، وأخرج ابن خزيمة له شاهدًا من حديث عائشة ويؤيد ما في صحيح مسلم من حديث عمر بن الشريد عن أبيه قال: كان في وفد ثقيف مجذوم فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنا قد بايعناك فارجع) واختلف العلماء في الجمع والترجيح بين هذه الأحاديث، وما في معناها كحديث أبي هريرة في الصحيحين (لا يوردن ممرض على مصح)(الممرض بصيغة اسم الفاعل صاحب الإبل المريضة بالجرب مثلاً، والمصح صاحب الإبل الصحيحة) وحديث النهي عند دخول أرض فيها الطاعون وبين حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيره (لا عدوى)، وحديث جابر أن النبي أخذ بيد مجذوم فوضعها في القصعة وقال:(كل) رواه الترمذي، فبعضهم يرجح العدوى ويؤول ما يعارضها، وبعضهم يعكس ومما قاله هؤلاء أن أبا هريرة رجع عن حديث (لا عدوى) وأنكره كما في البخاري، وبأن الترمذي ذكر الاختلاف في حديث جابر على راويه ورجح وقفه على عمر، وأقرب ما قالوه إلى الطب والعقل قول البيهقي، وغيره إن العدوى المنفية ما كانت تعتقده الجاهلية لا العدوى التي تحصل بالأسباب بقدر الله تعالى، وقول ابن قتيبة ومن وافقه: إن الأمر بالفرار من المجذوم ليس من باب العدوى في شيء، بل هو لأمر طبيعي وهو انتقال الداء من المريض إلى الصحيح بكثرة المخالطة، حكاهما الحافظ ابن حجر في شرح البخاري، وذكر أن جمهور الفقهاء أثبتوا الخيار لكل من الزوجين في فسخ النكاح إذا وُجد الجذام في الآخر.