الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
فاتحة المجلد الخامس والعشرين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الواحد القهار، العزيز الجبار، الرحيم الغفار، مقدر الآجال
والأعمار، {وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} (الرعد: 8) ، المحيط علمه بالجهات
والأقطار، النافذة مشيئته في البراري والبحار، البارزة حكمته في القرى والأمصار،
المطَّردة سنته في الأبرار والفجار، الفائضة نعمته على المؤمنين والكفار
{وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (إبراهيم: 34) .
والصلاة والسلام على المصلح الأعظم، والرسول الأعز الأكرم، سيد العرب
والعجم، محمد النبي الأمي معلم الكتاب والحكم، المبعوث رحمة لجميع الأمم،
وعلى آله الأطهار، وأصحابه المصطفين الأخيار، وعلى من اتبع هديهم من
المقربين والأبرار، وإنما الخزي والخسار، واللعنة وعذاب النار، على زمر
الأشرار، الذين آثروا الشهوات الحيوانية، والعصبيات الجنسية والوطنية، على
هذه الهداية الإلهية، المكملة للفطرة الإنسانية، والموحدة لسلائل الأسرة الآدمية،
غرورًا باللذات المادية، وجهلاً بالحياة الروحية {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا
بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (ص:
27 -
28) .
أما بعد فإنَّ المنار قد أوفى بفضل الله ونعمته على الخامسة والعشرين، فإن
كان ما توفاها في عدد المجلدات؛ فقد زاد عليها في عدد السنين، وكان حق هذه السنة
أن تكون السابعة والعشرين، لولا ما كان من إدغام بعض السنين في بعض، بما
كان من لأواء الحرب، وما تلا سنيها الأربع، فكان ألذع وأوجع، ناهيك بما
أعقبته من فساد الأخلاق، وضيق الأرزاق، والإعراض عن العلم والأدب، ورواج
اللهو واللعب، وكساد المجلات والكتب، على ما سبق ذلك من جور السلطان،
وكلب الزمان، وعدم الأعوان، وضعف الوفاء، والتهاون في الاقتضاء على قلة
المال، وكثرة العيال.
هذا وإنَّ الخامسة والعشرين هي السن التي تكمل بها بنية الإنسان، وتتم قوى
الأبدان، ولكن لم يكد يبلغ المنار سن الشباب، إلا وكان منشئه قد شاخ وشاب،
ونحمد الله أن كان وقع الشوائب الذي شيب الرأس، لم يشيب العزم والبأس، ولم
يشُب الهمة بشائبة من اليأس، على أن أسبابه من جهة الناس أكثر، وبما يوسوس
به الخناس أكبر، وإنما الإيمان واليأس ضدان لا يجتمعان، والتجارب والوهن
خصمان لا يتفقان، فقد ثبت المنار على دعوته، التي وضعناها له في أول نشأته،
فكلما وسوس إليَّ شيطان اليأس: ألم تر إلى سوء حال المسلمين، وتسللهم أفرادًا
وجماعاتٍ من هداية الدين، وجمود علمائهم، وخمود زعمائهم، وفساد أمرائهم،
وشح أغنيائهم، وضعف صلحائهم، وغباوة دهمائهم، وموت هممهم، وتفرق
جماعاتهم، وتعدد جنسياتهم، وعدم الرجاء في صلاح أمرهم، وشد أزرهم ،
صاحت به آياتُ القرآن، وما يشهد لها من عبر الزمان، وتكاثر الإخوان، فنكص
على عقبيه، وخنس يضرب أصدريه،
ما اعتنَّ لي يأس يناجي همتي
…
إلا تحداه رجاء فاكتمي
وقد تذكرت الآن أن أجعل ذكرى الإصلاح في هذه الفاتحة شيئًا من شعري في
أوائل عهد الرشد، وشعوري عند الاستواء وبلوغ الأشد، وأحمد الله تعالى أنني
شببتُ على حب الإصلاح والتفكر فيه، وشِبْتُ على الدعوة إلى مناهجه ومناحيه،
وذلك قولي في (المقصورة الرشيدية) التي عارضت بها (المقصورة الدريدية) :
كم ليلة أبيتها مفكرًا
…
يفي ليَ السهد ويُخلف الكرى
أطوي جناحيَّ على جمر اللظى
…
أرضك [1] عينيَّ على الماء الرِّوى
خلتهما ركيَّتين [2] كلما
…
نزحت هذا الماء فاض وطغى
وكل جفن ماتحًا فكلما أهوى بشبه الغمض يملأ الدلا [3]
تلك ليالٍ خنت عهد الصبر في
…
حِندسها وكنت أوفى من وفى
إذ خانني العزم الذي بلوته
…
في مبهم الخطب فما قط نبا
لو أنما أبكي لمحبوب جفا
…
أو مالٍ اغتيل وذي قربى قضى
وأعوز الصبر فقيل جازع
…
أشبه ربات الحجال في البكا
لراعني القول بصدقه وقد يقصد من يصدق إن قيل رمى [4]
لكنما أبكي لمجد أمة
…
ثلت عروشه [5] وحُلَّت العرى
ووطن ذل فأمسى حوضه
…
(مد عثر الأعضاد مهدوم الحبى)[6]
وملة حكيمة رحيمة
…
قد تركت للجهل كالشيء اللقى [7]
وقال فيها الأخسرون إنها علة هذا الانحطاط والشقا
فكيف كانت علة السعادة الـ
…
ـتي مضت لنا وذاك الارتقا
(بها) أصبنا الملك والحكمة والـ
…
ـعلم (بها) فما عدا مما بدا [8]
ألم توحد أممًا تفرقت واختلفت في الاعتقاد واللغى
فكيف عدتم وأنتم أخوة
…
لما تركتم هديها من العدى
أما بدت في أمة أمية
…
فجعلتهمو
…
أئمة الورى
في كل علم للعقول يقتنى
…
وعمل في الكائنات يقتفى
فكيف صرتم بترك هديها
…
أجهل مَنْ دَبَّ عليها ومشى
ألم يكن أسلافكم بعدلها
…
قد فتحوا الأمصار قبل والقرى
وعمروها فغدت بفضلهم
…
تفضل في الوجود كل ما عدا [9]
زراعة صناعة تجارة
…
علما وحكمة وعدلاً وعُلى
فلم أضعتم جُلَّ ما تَأثَّلوا
…
وأصبح الباقي لكم على شفا
شريعة القرآن دانٍ وِردُها الـ
…
ـعذب وتهلِكون من فرط الصدى
فإن أباها الحاكمون عن عمى
…
وصد عنها الجامدون عن هوى
فربما أيدها على هدى
…
كل صحيح الفكر من أولي النهى
وإنْ يكن قد عقها أبناؤها
…
وعاد مَنْ كان صديقًا في العدى
فارجعْ إلى تاريخ خيرِ أمةٍ
…
قد أُخرجتْ للناسِ وابعث الأسُى
يريك عصر الراشدين المثل ال
…
أعلى لِكُنْهِ العدل زانه الهدى
والمجد والزينة والقوة في الد
…
ين جوى قصرُ الرشيد ووعى
وجنة الزهراء [10] في أندلس
…
حيث الإمام الحكم العدل ثوى
والجمع ما بين علوم النقل والـ
…
ـعقل إلى المأمون عهده انتهى
أحيا ببغداد فنونًا درست
…
إذْ كان عمران ذويها قد عفا
والجامعُ الأعظم في قرطبةٍ
…
جامعة العلوم في ذاك الرجا [11]
أفاض نور شمسها فى أفق
…
طال عليه ليل جهل قد غسا [12]
كان يعادي الدين فيه العلم بل
…
يسوم أهله العذاب والأذى
فكم عليم صَلِيَ النار وكم
…
متهم بالعلم تفريه المدى [13]
واذكر على ذكر العلوم تونسًا
…
ومصر والشام (وسُرَّ مَنْ رَأَى)[14]
وكل قطر ساسه خلائف الْـ
…
ـعُرْب بما أوحاه شرع المصطفى
هم الذين عَمرُوا الأرض وبالـ
…
عدل مع الرحمة قد ساسوا الورى
فعالَم الشمال منهم قبس النـ
…
ور وعنهمُ العلوم قد روى
وسار كلُّ فاتحٍ مُستعمرٍ
…
وراءهم فلم يقف دون المدى
ولو أقاموه [15] ولم يبتدعوا
…
لدام ملكهم وأصلح الدُّنى
ولسرعان ما أمية أبتْ
…
إمامةَ الرشد فأنزت من نزا [16]
وجعلوها دولة موروثة
…
وعرضة لغصب أرباب القوى
فعاث فيها العجم مُذْ تفرقت
…
فيها قريش فغدت أيدي سبا [17]
وانقطع النظام جامعًا بهم
…
فانتثر العقد وشقت العصا
فبعث الله على بلادهم
…
من استذل واستباح ولحا [18]
الترك والتتار في الشرق وفي
…
أندلس أبيد من ثم ثوى [19]
وصدق الرسول في إنذارهم
…
وإن تمارى فيه قوم وامترى
واعتز بالإسلام بَعْدُ من عثا
…
فورث الأرض به إذ اعتزى
وامتد ملك
…
آل عثمان به
…
ثم تزوى آرزا حيث أتى [20]
ألا ترى أوطانهم تنقص من أطرافها ألا ترى ألا ترى
ما السأُوُ إلا برجاله فإِنْ
…
عزوا وإلا ساء حالاً وكصا [21]
فكيف حال وطن أبناؤه
…
ما فتؤوا أعق من ضب الكدى [22]
قد عضد العاضد منهم دوحه
…
وخضد الشوكة والعود التحى [23]
وغادر الأرض به موظوبة
…
وغمره الفرات ضحضاحًا جَوَى [24]
وُلِّيَ أمرَهُ إمامٌ جائرٌ
…
قد استبد بالأمور واعتدى [25]
إذ استخف قومه فأصبحوا
…
أطوعَ من ظل الحذاء يحتذى
يليه في الظلم ولاة أبصروا
…
بروقه ترجى لِرَيٍّ وَحَيَا
وسمعوا رعوده تنذر من
…
خالف أمره صواعق الردى
فآثروا ما عنده حتى على الأ
…
وطان والرحمن جلا وعلا
وجعلوا مال العباد دولة
…
فذالت الدولة منهم للعدى
من نال منهم حاجة لكرشه
…
وفرشه قال على الدنيا العفا
يريك عزة الأمين فإذا
…
لاح له المال استكان وضغا [26]
والوطن الذي امتروا أخلافه
…
أوشك أن يقضي وربما قضى [27]
وكيف لا يُسحته الله وهم
…
السُّحت أكَّالُون فيه والرُّشا [28]
قد بشمت بطونهم فأصبحوا
…
يشكون سوء الهضم منها والطَّسى [29]
ومشبعوها يشتكون سغبًا
…
قد أكلوا العلهز من طول الطوى [30]
فأصبحوا في شظف وضعة
…
ألانت القنا وأضوت البنى [31]
وعالم مبتدع منافق
…
لقد أضل قومه وما هدى
لا يأمر الحكام بالعرف ولا
…
ينهى عن المنكر فيهم فشا
وليس يوصي الناس بالحق ولا الصبر
…
سوى على المكوس والأذى
ومرشد غير رشيد دأبه
…
عزو الخرافات لأرباب الولا
والرجم بالغيوب مسندًا إلى
…
أضغاث أحلامٍ ومكذوب رؤى
أولئكم سادتنا الذين قد
…
أضلوا السبيل كل من قفا
فنسأله تعالى أن ينقذ هذه الأمة من إغواء هؤلاء الرؤساء الضالين، ويعيد
إليها سلطانها بعز الدنيا وهداية الدين، ويجعلنا فيها من الهداة المهتدين، آمين.
…
...
…
...
…
... محمد رشيد رضا الحسيني الحسني
_________
(1)
يقال أرضك فلان عينيه إذا أغمضهما وفتحهما المرة بعد المرة.
(2)
مثنى ركية بوزن قضية وهي البئر.
(3)
الماتح: المستسقي يخرج الدلو من البئر، والدلاء جميع دلو قصر لضرورة الوزن.
(4)
يُقصد بضم الياء: يصيب المرمى.
(5)
أي عروش المجد.
(6)
المدعثر المهدوم اسم مفعول، والأعضاد ما حول شفير البئر من البناء كالصفائح وغيرها، ومثله مهدوم الحبى وهي جمع حبوة ما يحيط بالبئر من البناء كالثوب الذي يحتبي به الإنسان، والشطر لابن دريد.
(7)
اللقى بالفتح ما يلقى ويطرح لهوانه وعدم الحاجة إليه.
(8)
بها الثانية توكيد للأولى التي تفيد الحصر بتقديمها على الفعل وجملة (فما عدا فما بدا) من كلام علي عليه السلام ومعناها هنا: فما الذي صرف هذه الملة عن مثل ما كان لها من التأثير مما بدا وظهر بعد ذلك؟ وهو رد على زعم متفرنجة العصر المرتدين أن الإسلام عائق عن العمران والعزة والقوة والثروة.
(9)
أي: ما عداها.
(10)
معطوف على قصر الرشيد.
(11)
الجانب وهو الأندلس.
(12)
أظلم.
(13)
البيتان إشارة لما كانت أنشأته الحكومة البابوية في أسبانية من المحكمة المعروفة بمحكمة التفتيش للعقاب على الاشتغال بالعلوم العقلية والكونية بالقتل والإحراق بالنار.
(14)
هي (سامراء) مدينة المعتصم العباسي.
(15)
الضمير لشرع المصطفى.
(16)
أي: ولكن ما كان أسرع بني أمية إلى إزالة خلافة الراشدين الشوروية فوثبوا على اغتصابها ، وأنزوا عليها غلمانهم الفساق والنزوان الوثبان إلى فوق ، وفيه إشارة إلى رؤيا أحد أئمة أهل البيت ، أنه رآهم ينزون على منبر جده عليه وعليهم السلام.
(17)
أي: تفرقوا تفرقًا لا اجتماع بعده كأهل سبأ من قدماء اليمن وأيديهم قواتهم.
(18)
أي: من استذل خلفاءهم وكبراءهم، واستباح أموالهم وأعراضهم، وخرب عمرانهم ، يقال: لحا الشجرة لحوًا ولحيًا، والتحاها إذا أزال قشرتَهَا ، ويستعار لأشد الإرهاق والتخريب، وفيه إشارة إلى حديث:(يا معشر قريش أنتم أهل هذا الأمر ما لم تحدثوا فإذا غيرتم بعث الله عليكم من يلحاكم كما يلحى القضيب) رواه أحمد وأبو يعلى بسند رجاله ثقات وفي آخر: (فإذا فعلتم ذلك سلط الله عليكم شرار خلقه فالتحوكم كما يلتحى القضيب) وحديث: (إِنَّ أَوَّلَ من يسلب أمتي ملكهم وما خولهم الله بنو قنطوراء) وأورده الحافظ في الفتح بلفظ: (أن بني قنطوراء أول من يسلب أمتي ملكهم) قال: وهو حديث أخرجه الطبراني من حديث معاوية، والمراد ببني قنطوراء الترك ثم قال: وكأنه يريد بقوله: أمتي. أمة النسب لا أمة الدعوة، يعني العرب اهـ، وفي معناه ما رواه عنه أبو يعلى مرفوعًا:(إن الترك تجلي العرب حتى تلحقها بمنابت الشيح) وقد فعلت فلم يبق الترك استقلالاً للعرب حتى زاحموها في عقر جزيرتها حيث ينبت الشيح.
(19)
الترك بدل أو عطف بيان لمن استذل إلخ.
(20)
تزَّوى: تقلص وتقبض، آرزا: منكمشًا راجعًا إلى وطنه.
(21)
السأو الوطن وكصا: خس بعد رفعة.
(22)
الكُدَى جمع كُدْيَة (كغرف جمع غرفة) وهي الأرض أو الصخرة الغليظة الصلبة.
(23)
العاضد لك من أعانك، وعضد الشجرة قطعها، والدوح: الشجر العظيم، جمع دوحة بالفتح وخضد الشوكة قطعها، والتحى العود قشره.
(24)
موظوبة: واظبت الراعية رعيها حتى لم يبق بها نبات، والغمر: الماء الكثير، والفرات: العذب وما بعدهما ضدهما، وجوى (كهوى) مصدر جوي (كرضي) الواو: أنتن.
(25)
هو السلطان عبد الحميد آخر سلاطين بني عثمان وقد كان من خلفه من الجماعات شرًّا منه وأضر.
(26)
ضغا: تذلل للخيانة.
(27)
امتروا أخلافه حلبوا ضروعه.
(28)
أسحتهم الله: أهلكهم واستأصلهم، والسحت الحرام الخسيس.
(29)
الطسى بالفتح مصدر طسي (كرضي) : التخمة من كثرة أكل الدسم، وجاء بالواو وبالهمز.
(30)
السغب بالتحريك الجوع كالطوى ، والعِلْهِز؛ بكسر العين والهاء: أحقر ما يؤكل كالقراد.
(31)
أي: فأصبحوا في ضيق عيش ومهانة نفس أخضعتهم وأهزلت أجسامهم.
الكاتب: محمد رشيد رضا
تجنس المسلم بجنسية تنافي الإسلام
(س 1) من الحزب الوطني التونسي
ما قول حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير الشيخ رشيد رضا أيده الله في
حكومة فرنسا المتسلطة على كثير من الشعوب الإسلامية؛ إذ عمدت أخيرًا إلى
وضع قانون يعرف بقانون التجنس، الغرض منه حمل سكان تلك البلاد من
المسلمين على الخروج من ملتهم ، وتكثير سواد أشياعها ، وقد جعلت هذا التجنس
شرطًا في نيل الحقوق السياسية التي كانت لهم من قبل ، وسلبتها منهم على وجه
الاستبداد الجائر ، مع أن اتباع المسلم لهذه الملة؛ يجعله ينكر بالفعل ما هو معلوم
من الدين بالضرورة ولا تتناوله الأحكام الشرعية ، بل يصير تابعًا لقوانين وضعية ،
نصوصها صريحة في إباحة الزنا وتعاطي الخمور ، وارتكاب الفجور ، وتحليل
الربا ، والاكتساب من الطرق غير المشروعة ، ومنع تعدد الزوجات، واعتبار ما
زاد عن الواحدة من قبيل الزنا المعاقب عليه ، وإنكار نسب ما ولد له من غيرها
حالة وجودها ، ولا حق له في نفقة ولا إرث ولو على فرض الاستلحاق ، وفك
العصمة من الزوج ، وإسنادها إلى المحكمة ، حتى إذا أوقع الطلاق بنفسه كان
لغوًا ، وقسمة المواريث على طريقة مخالفة للفرائض الشرعية وجعل أنصبائها على حد سواء بين الإناث والذكور.
وأشد بلاءً من هذا كله جعل المسلم مجبورًا على الخدمة العسكرية في جيش
عدُوٍّ معد لقتال المسلمين ، وإذلالهم وإكراههم على الخضوع، والإلقاء بأنفسهم في
قبضة من لا يرقب فيهم ذمةً ولا يحفظ معهم عهدًا.
فهل يعد إقدام تلك الحكومة على أمر كهذا نكثًا للمعاهدة الموضوعة على
أولئك المسلمين ، وفتنة لهم في دينهم وإخلالاً بنظام اجتماعهم؟
وهل يكون أولئك المسلمون إذا قبلوا هذا التجنس مرتدين عن دينهم ، فلا
نعاملهم معاملة المسلمين من مثل: المناكحة ، والتوارث ، وأكل ذبائحهم ، ودفن
أمواتهم في مقابر المسلمين؛ لأنهم رضوا بالانسلاخ عن أحكام الشريعة ، ولا
مكره لهم على ذلك؟ أم كيف الحال؟
وهل يجوز لمسلم يدرك عواقب هذه الفتنة العمياء ، وغوائل السكوت عنها أن يترك الإنكار عليها ، والحال أنه آمن على نفسه ، وقادر على مقاومتها ،
وإظهار النكير عليها؟
أفتونا في هذه الواقعة بما يقتضيه النظر الشرعي إرشادًا للحائرين، وتنبيهًا
للغافلين، أبقاكم الله لخدمة الإسلام والمسلمين.
الجواب:
إذا كانت الحال كما ذكر في السؤال، فلا خلاف بين المسلمين في أن قبول
هذه الجنسية ردةٌ صريحةٌ ، وخروج من الملة الإسلامية، حتى إن الاستفتاءَ فيها يعد
غريبًا في مثل البلاد التونسية ، التي يظن أن عوامها لا يجهلون حكم ما في السؤال
من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة ، ولعل المراد من الاستفتاء إعلام
الجمهور معنى هذه الجنسية ، وما تشتمل عليه من الأمور المذكورة المنافية للإسلام
نفسه ، لا للسياسة الإسلامية التونسية التي بدئ السؤال بذكر غوائلها فقط ، كقوله:
إن هذه الملةَ (يعني الجنسية التي هي بمعنى الملة في الأحكام المخالفة
للشريعة الإسلامية) تحمل صاحبها على إنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة.
على أنه قال: إنه ينكر ذلك بالفعل. ولعله أراد بهذا القيد الاحتراس عن الاعتقاد ،
وجعل هذا هو المراد من الاستفتاء لما هو مشهور بين أهل السنة من أن المعاصي
العملية لا تخرج صاحبها من الملة إذا لم يجحد تحريمها أو يستحلها، وإن كانت
مجمعًا عليها معلومة من الدين بالضرورة.
وهذه المسألة أهم عندنا من كل ما رتبه السائل على هذه الجنسية من الغوائل
كنكث الدولة الفرنسية للمعاهدة التونسية، فإن المعاهداتِ في هذا العصر حجة القوي
على الضعيف كما قال البرنس بسمارك، فهو يأخذ بها من الضعيف أضعاف ما جعله
لنفسه من الحقوق ، ولا يعطيه مما التزمه له إلا ما يريد هو ، ويوافق مصلحته
كما قلنا للسيد فيصل ابن السيد حسين الحجازي عندما أراد إقناعنا بقبول الوصاية
الفرنسية على سورية بمقتضى معاهدة وشروط
…
وقد بلغنا أن بعض المتفقهة أبى
الإفتاء بِرِدَّةِ من يقبل مثل هذه الجنسية ، ويرتكب ما يترتب عليها من ترك أحكام
الشريعة المشار إليها في السؤال بناءً على قول بعض الأئمة: لا نكفر مسلمًا
بذنب. ونظمه اللقاني في جوهرة التوحيد (فلا نكفر مسلمًا بالوزر) مع الغفلة
عن قوله فيها الذي نظم به قاعدة الردة العامة:
ومن لمعلوم ضرورة جحد
…
من ديننا يقتل كفرًا ليس حد
فإن هذه القاعدةَ وقع فيها اللبس والاشتباه حتى بين المشتغلين بالعلم، وفي
أحد فروعها وهو استحلال الحرام، فإنه إذا كان من المجمع عليه المعلوم من الدين
بالضرورة كان ردة عن الإسلام بلا خلاف، ولكن بعض المشتغلين بقشور العلم ،
والمجادلين في ألفاظ الكتب من يظنون أن الجحد والاستحلال من أعمال القلب،
فجاحد الصلاة ومستحل شرب الخمر والزنا عندهم هو من يعتقد أن وجوب
الصلاة، وتحريم الخمر والزنا ليسا من دين الإسلام، فلا الصلاة فريضة ولا الزنا
حرام.
وفي هذا الظن من التناقض والتهافت ما هو صريح، فإِنَّ فرضَ المسألةِ أن
الذي يستحل مخالفة ما يعلم أنه من الدين علمًا ضروريًّا ، غير قابل للتأويل سواء
كان فعلاً أو تركًا فإنه يكون به مرتدًّا عن الإسلام، والعلم الاعتقاد القطعي فكيف
يفسر الاستحلال بعدم الاعتقاد ، وهو جمع بين النقيضين؛ أعني اعتقادَ أنه من الدين ،
وعدم اعتقاد أنه من الدين؟ وقد سبق لنا تحقيق هذه المسألة في بابي التفسير
والفتاوى من المنار، ونقول الآن بإيجاز واختصار: إن حقيقة الجحد هو إنكار
الحق بالفعل، واشترط أن يكون المنكر معتقدًا له بالقلب.
قال الزمخشري في الأساس: جحده حقه وبحقه جحدًا وجحودًا. وقال
الراغب في مفردات القرآن: الجحود نفي ما في القلب إثباته، وإثبات ما في القلب
نفيه، يقال: جحد جحودًا وجحدًا قال عز وجل:] وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ
ظُلْمًا وَعُلُوًّا [ (النمل: 14) اهـ. وحسبنا الآية نصًّا في الموضوع وسنذكر غيرها
أيضًا.
وكذلك الاستحلال والاستباحة: أَنْ يفعل الشيء فعل الحلال والمباح؛ أي:
بغير تحرج ولا مبالاة، وهو يعتقد أنه حرام شرعًا ، ولو لم يكن مجمعًا عليه ،
فإنْ كان المستحل متأولاً لنص أوقاعدة شرعية اعتقد بها أنه حلال شرعًا ، لم
يحكم بردته، وإلا كان مرتدًّا، ويصدق في ادعائه الجهل بحرمته إلا إذا كان مجمعًا
عليه معلومًا من الدين بالضرورة.
والوجه في ذلك أن الإسلام هو الإذعان بالفعل لما علم أنه من دين الله في
جملته وهو الإيمان؛ إذ الاعتقاد القلبي وحده لا يكون به المعتقد مسلمًا ، ولا يكون
الاعتقاد إيمانًا حتى يكون نازعًا، ولهذا قالوا بترادف الإيمان والإسلام فيما يصدقان
عليه وإن اختلفا في المفهوم ، ورد بعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم
كرده كله {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} (البقرة: 85) .
وأما الذنب الذي لا يخرج به فاعله من الملة، فهو مفروض في المسلم،
وهو المذعن لدين الله وشرعه كله بالفعل إذا عمل سوءًا بجهالة من سورة غضب
أو ثورة شهوة، وهو لابد أن يحمله الإيمان على الندم والتوبة، ولا يدخل فيه غير
المذعن للأمر والنهي، كالمستحل لجملة المعاصي بالفعل، بحيث يترك ما يترك
منها لعدم الداعية ، قال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ
ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَيْسَتِ
التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلَا
الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} (النساء: 17-18) .
ومن تفسير الفقهاء لمسألة استحلال المحرم بالمعنى الذي وضحناه ما أورده
الفقيه ابن حجر في كتابه (الإعلام بقواطع الإسلام) قال: ومن ذلك أن يستحل
محرمًا بالإجماع كالخمر واللواط ولو في مملوكه - وإن كان أبو حنيفة لا يرى الحد
به؛ لأن مأخذ الحرمة عنده غير مأخذ الحد - أو يحرم حلالاً بالإجماع كالنكاح ،
أو ينفي وجوب مجمع على وجوبه كركعة من الصلوات الخمس، أو يعتقد وجوب
ما ليس بواجب بالإجماع ، كصلاة سادسة يعتقد فرضيتها كفرضية الخمس؛
ليخرج وجوب معتقد الوتر ونحوه كصوم شوال ، هذا ما ذكره الرافعي.
وزاد النووي في الروضة: أن الصواب تقييده بما إذا جحد مجمعًا عليه يعلم
من دين الإسلام ضرورة سواء كان فيه نص أم لا، بخلاف ما لا يعلم كذلك بأن لم
يعرفه كل أحد من المسلمين فإن جحده لا يكون كُفرًا اهـ؛ وما زاده ظاهر،
وخرج بالمجمع عليه الضروري المجمع عليه غير الضروي كاستحقاق بنت الابن
السدس مع بنت الصلب ، وتحريم نكاح المتعة؛ فلا يكفر جاحدهما كما بينته في
شرح الإرشاد، ومع بيان أنه هل الكلام في جاحدهما جهلاً أو عنادًا ، ومع بيان
رد قول البلقيني: إن تحريم نكاح المتعة معلوم من الدين بالضرورة ، وأنه قيد
استحلال الدماء والأموال ، بما لم ينشأ عن تأويل ظني البطلان كتأويل البغاة،
وللضروري أمثلة كثيرة استوعبتها في الفتاوى ، ومن ذلك أيضا ما لو أجمع أهل
عصر على حادثة فإنكارها لا يكون كفرًا.
ومحل هذا كله في غير من قرب عهده بالإسلام ، أو نشأ ببادية بعيدة، وإِلا
عُرِّف الصواب فإن أنكر بعد ذلك كفر فيما يظهر؛ لأن إنكاره حينئذ فيه تضليل
للأمة.
وسيأتي عن الروضة عن القاضي عياض أن كل ما كان فيه تضليل الأمة
يكون كفرًا ، ثم ما ذكره الشيخان كالأصحاب في استحلال الخمر استبعده الإمام بأنا
لا نكفر من رد أصل الإجماع، ثم أول ما ذكروه بما إذا صدق المجمعين على أن
التحريم ثابت في الشرع ثم حلله فإنه يكون ردًّا للشرع. قال الرافعي: وهذا إن
صح فليجر مثله في سائر ما حصل الإجماع على افتراضه أو تحريمه فنفاه،
وأجاب عنه أبو القاسم الزنجاني بأن ملحظ التكفير ليس مخالفة الإجماع بل استباحة
ما علم تحريمه من الدين ضرورة) اهـ ما أردت نقله من الإعلام.
فقول الزنجاني: (إن ملحظ التكفير ليس مخالفة الإجماع بل استباحة ما علم
تحريمه من الدين ضرورة) معناه استباحته بالعمل ، بأن يفعله كما يفعل المباح بغير
تأثم ولا مبالاة ولا توبة ، وقول الإمام (أي: إمام الحرمين) قبله: إن المراد من
الاستحلال للمجمع على تحريمه مبني على تصديق المجمعين ، على أن التحريم
ثابت في الشرع وتعليله إياه بأنه يكون ردًّا للشرع، فهو صريح في أن المراد برده
عدم الإذعان بالفعل لا عدم الاعتقاد؛ إذ الاعتقاد التصديق وهو مصدق بأنه من
الشرع ، وإلا سقطت المسألة من أصلها.
وإنما اشترطوا فيها الإجماع وكونها معلومة من الدين بالضرورة لإسقاط
عذر الجهل - ولذلك استثنوا قريب العهد بالإسلام ومن نشأ بعيدًا عن المسلمين -
وعذر احتمال التأول، وهم لا يختلفون في كون رد أي مسألة من الشرع ، يعتقد
رادها أنها منه، كرد المجمع عليه المعلوم بالضرورة عند جماعة المسلمين؛ إذ مدار
الردة في هذا المقام على رد الشرع ، وعدم الإذعان له؛ أي: عدم التلبس بالإسلام.
فالقاعدة الأساسية في هذه المسألة أن الإسلام الذي تجري على صاحبه أحكام
المسلمين هو الإذعان والخضوع بالفعل لكل ما علم أن النبي صلى الله عليه وسلم
جاء به عن الله تعالى من أمر الدين، وأن رد بعضه كرده كله {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ
الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} (البقرة: 85) فإن كان الخضوع بالفعل تابعًا للإذعان
النفسي، والاعتقاد القطعي بصدق الرسول في دعوى الرسالة كان إسلامًا وإيمانًا
منجيًا في الآخرة لمن مات عليه، وإن كان في الظاهر دون الباطن كان نفاقًا
تجري على صاحبه أحكام المسلمين في الدنيا ما لم يأت بما ينافيه ويثبت خلافه ،
وأما الاعتقاد في الباطن دون الإذعان في الظاهر لمن تمكن من العمل بأن لم يمت
عقبه فلا يعتد به في الدينا ولا في الآخرة، فإن كفر إبليس لم يكن عن عدم اعتقاد،
بل عن حسد وعناد، وكذلك كفر فرعون موسى والملأ من قومه؛ إذ قال الله
تعالى فيهم في سياق الكلام عن الآيات التي أيد الله نبيه موسى عليه السلام
بها: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} (النمل: 14) وكذلك كان
كفر طغاة قريش المستكبرين بالنبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {فَإِنَّهُمْ لَا
يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (الأنعام: 33) وتقدم أن الإلمام
بمعصية ما لا يعد استحلالاً يوجب الخروج من الملة، لأنها إنما تقع من المذعن
بجهالة من غضب أو شهوة، ويتبعها الندم والتوبة.
علم من هذا أن قبول المسلم لجنسية ذات أحكام مخالفة لشريعة الإسلام
خروج من الإسلام؛ فإنه رد له، وتفضيل لشريعة الجنسية الجديدة على شريعته،
ويكفي في هذا أن يكون عالمَا بكون تلك الأحكام التي آثر غيرها عليها هي أحكام
الإسلام ، ولكن يقبل اعتذاره بالجهل إن لم تكن مجمعًا عليها معلومة من
الدين بالضرورة ، كبعض ما ذكر في السؤال من قتال المسلمين ، وبعض أحكام
الإرث وإباحة تعدد الزوجات بشرطها ، فلا يعامل معاملة المسلمين في نكاح ولا
إرث ولا يصلى عليه إذا مات.
ومن أدلة ذلك في القرآن قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا
بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن
يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا
أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ المُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً} (النساء: 60-
61) .
الطاغوت مصدر الطغيان ومثاره ، ويدخل فيه كل ما خالف ما أنزله الله ،
وما حكم به رسوله صلى الله عليه وسلم ، فإنه جعل مقابلاً له هنا في آيات أخرى
ومنه بعض أحكام القانون الفرنسي كإباحة الزنا والربا، دع ما يستلزمه اتباع؛
أي: جنسية سياسية غير إسلامية من قتال المسلمين وسلب بلادهم منهم ، ومما ورد
في تفسير الآية بالمأثور: إن سبب نزولها تحاكم بعض المنافقين إلى بعض
كهان الجاهلية، وقد سمى سبحانه ادعاء هؤلاء المنافقين للإيمان زعمًا، والزعم
مطية الكذب ، وقد بينا في تفسيرنا للأولى منهما اقتضاء الإيمان الصحيح للعمل،
وأن الاستفهام فيها للتعجيب من أمر هؤلاء ، الذين يزعمون الإيمان ويعملون ما
ينافيه، وأن الأستاذ الإمام سئل في أثناء تفسيرها في الجامع الأزهر عن
القوانين والمحاكم الأهلية فقال: تلك عقوبة عوقب بها المسلمون أن خرجوا عن
هداية قوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُول} (النساء: 59) فإذا كنا تركنا هذه الهداية للقيل والقال وآراء الرجال ، من قبل أن نبتلى بهذه
القوانين ومنفذيها، فأي فرق بين آراء فلان وآراء فلان وكلها آراء منها الموافق لنصوص الكتاب والسنة ومنها المخالف له؟ ونحن الآن مكرهون على التحاكم
إلى هذه القوانين ، فما كان منها يخالف حكم الله تعالى يقال فيه: - أي في أهله - {إِلَاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَان} (النحل: 106) وانظر فيما هو موكول إلينا إلى الآن ، كالأحكام الشخصية والعادات والمعاملات بين الوالدين والأولاد
والأوزاج والزوجات، فهل ترجع في شيء من ذلك إلى الله ورسوله؟
…
إلخ ما
قاله ، وقد وضحت المراد منه فيراجع في الجزء الخامس من التفسير.
وأقول: إن إكراه المصريين على ما يخالف الكتاب والسنة من القوانين قد
زال الآن بالاستقلال ، فإثم ما يبقى منه بعد انعقاد البرلمان المصري في أعناق
أعضائه، وأعناق الأمة في جملتها؛ إذ هي قادرة على إلزامهم إلغاء إباحة الزنا
والخمر وغير ذلك من المحرمات بالإجماع ، هذا وإن المحاكم الأهلية
وقوانينها خاصة بالأحكام المدنية والعقوبات التي تقل فيها النصوص القطعية
المعلومة من الدين بالضرورة ، ومن حكم له فيها بربا محرم فليس ملزمًا أخذه،
ومن حكم عليه به وأكره على أدائه فهو معذور، ولا يمس عقيدته ولا عرضه منه
شيء، والحدود الشرعية في العقوبات خاصة بالإمام الحق، والتعزيرات مبنية
على اجتهاد الحكم ، فأين حكم المحاكم الأهلية بالقوانين من قبول جنسية تهدم ما
في القرآن من أحكام النكاح والطلاق والإرث وغير ذلك؟ وهي اختيارية
لا اضطرارية ، ومن اختارها فقد فضلها على أحكام الله تعالى في كتابه ، وعلى
لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، وفضل أهلها الكافرين على المؤمنين بالفعل.
(ومنها) قوله تعالى: (4: 64) {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ
فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء: 65) قال أبو بكر الجصاص من أئمة الحنفية في تفسيرها من كتابه
(أحكام القرآن) ما نصه:
(وفي هذه الآية دلالة على أن من رد شيئًا من أوامر الله تعالى ، أو أمر
رسوله صلى الله عليه وسلم ، فهو خارج من الإسلام، سواء رده من جهة الشك فيه،
أو من جهة ترك القبول والامتناع من التسليم، وذلك يوجب صحة ما ذهب
إليه الصحابة في حكمهم بارتداد من امتنع من أداء الزكاة ، وقتلهم وسبي ذراريهم؛
لأن الله تعالى حكم بأن من لم يسلم للنبي صلى الله عليه وسلم قضاءه وحكمه فليس
من أهل الإيمان) اهـ.
وقد بينا في تفسيرنا لهذه الآية ما ملخصه: إن الإيمان الصحيح الحقيقي وهو
إيمان الإذعان النفسي المقابل لما يدعيه المنافقون ، لا يتحقق إلا بثلاث:
(1)
تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم فيما شجر؛ أي: اختلط فيه
الأمر مما يتخاصم فيه الناس.
(2)
الرضاء بحكمه وانشراح الصدر له بحيث لا يكون في القلب أدنى
حرج، أي: ضيق وانكماش مما قضى به.
(3)
التسليم والانقياد بالفعل ، ولا خلاف بين المسلمين في اشتراط هذه
الثلاث في كل ما ثبت مجيئه به صلى الله عليه وسلم من أمر الدين؛ إذ لا يعقل
اجتماع الإيمان الصحيح برسالته ، مع إيثار حكم غيره على الحكم الذي جاء به
عن الله تعالى، ولا مع كراهة حكمه والامتعاض منه، ولا مع رده وعدم التسليم له
بالفعل.
وجملة القول: إن المسلم الذي يقبل الانتظام في سلك جنسية يتبدل أحكامها
بأحكام القرآن، فهو ممن يتبدل الكفر بالإيمان فلا يعامل معاملة المسلمين، وإذا
وقع من أهل بلد أو قبيلة، وجب قتالهم عليه حتى يرجعوا ، والمعقول أن هذا لا يقع
من مسلم صحيح الإيمان بل لا يجوز عقلاً أن يصدر عنه، ذلك بأن الإيمان القطعي
بأن أحكام النكاح والطلاق ، والإرث وتحريم الربا والزنا المنصوصة في القرآن من
عند الله العليم الحكيم ، يقتضي تفضيلها على كل ما خالفها، والعلم بأن التزامها من
أسباب رضوان الله وثوابه، وترك شيء منها من أسباب عذابه وسخطه، يقتضي
الحرص على الاستمساك بها فعلاً لما أوجب سبحانه، وتركًا لما حرم،
ودليله: أن العلم بالمضار والمنافع يقتضي فعل النافع وترك الضار بسائق الفطرة،
ويعرف ذلك كل إنسان من نفسه بالوجدان الطبيعي ، ومن سائر الناس بالتجربة
المطردة في جملة المنافع والمضار. وما يشذ من الجزئيات فله أسباب لا تنقض
القاعدة التي بيناها مرارًا.
ويلتبس الأمر على كثير من الباحثين في بعض هذه الجزئيات ، فيحسبها
ناقضة لقاعدة اقتضاء العلم القطعي أو الراجح للعمل، وجل هذا اللبس يرجع إلى
خفاء وجوه الترجيح الطبيعي ، فيما يتعارض فيه العلم القطعي والظن والوجدان
والفكر، مثال ذلك: ترك المريض الدواء النافع وفعله لضده كتناول الغذاء الضار
من أمور الدنيا، وتركه لبعض الواجبات أو اجتراحه لبعض السيئات من أمور
الدين، ومن محص المسألة يظهر له أن تارك الدواء لاستبشاع طعمه ، قاطع
بضرره المتعلق بالذوق وهو من الحسيات اليقينية ، وغير قاطع بنفعه بل هو إما
ظان وإما شاك فيه، وكذلك مرتكب المعصية وإن كان تحريمها قطعيًّا كالزنا ، فإن
الشك يعرض له في الوعيد عليه من باب الرجاء في العفو والمغفرة بفضل
الله تعالى ، أو بالتكفير عنه بالأعمال الصالحة، ولكن لذة الشهوة التي تعرض له لا
شك فيها، فيرجح العلم القطعي بالمنفعة وهي اللذة على الظن أو الشك في العقاب،
وإنما يقع هذا الترجيح في الكبائر لمن كان ضعيف الإيمان، وهو ما كان عقيدة لم
ترتق بها التربية العملية إلى الوجدان، وإنما الإيمان الكامل المقتضي للعمل في
أفراد الجزئيات ما كان فيه الاعتقاد الصحيح مصاحبًا للشعور الوجداني بالخوف
والرجاء في كل منها، وقد يتخلف في بعض دون بعض، فإن من يعيش بين قوم
يجاهرون بمعصية لا ينفر وجدانه منها ، كمن يعيش بين قوم لا يفعلونها إلا ما قد
يقع من بعضهم وراء الأستار.
فهذا ملخص ما يحتج به على استلزام الإيمان الصحيح للعمل بجملة ما ثبت
عند المؤمن أنه من الشرع، والأدلة الشرعية عليه كثيرة، وبها جعل جمهور
السلف العمل ركنًا من أركان الإيمان - وقد اختلف العلماء في معنى الحديث المتفق
عليه: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) إلخ بناء على اختلافهم في تعريف
الإيمان ، فذهب بعضهم إلى أن المنفي هو الإيمان الكامل وهو الوجداني الذي
يقتضي العمل فعلاً وتركًا - وقيل: إن الإيمان يفارق الزاني عند الزنا بحيث لو مات
في أثنائه مات كافرًا. وحقق الغزالي أنه لا يكون عند تلبسه بالزنا مؤمنًا بأنه
يستلزم سخط الله وعذابه ، وهو يصدق بنسيان الوعيد عند ذلك لغلبة الشهوة
التي يغيب صاحبها عن إدراك الحسيات أحيانًا. كما قال الشاعر:
قالت وأبثثتها وجدي فبحت به
…
قد كنت عندي تحب الستر فاستتر
ألست تبصر من حولي فقلت لها
…
غطى هواك وما ألقى على بصري
ويصدق بالشك في وقوع الوعيد بما بيناه آنفًا من رجاء المغفرة أو التكفير ،
ومثل هذا الشك والتأول لا يمكن أن يجري في جملة المأمور به والمنهي عنه ،
ولا في ترك الأحكام الكثيرة التي لا يغلب صاحبها عليها ثورة شهوة، ولا سورة
غضب كأحكام الإرث والنكاح والطلاق وثبوت النسب ونفيه - بل هي مما يتفق
الدليل العقلي والطبعي مع الدليل الشرعي على أن من رغب عنها إلى غيرها من
أحكام البشر لا يمكن أن يكون مؤمنًا، وعندي أن تركها بمثل اختيار الجنسية
المسؤول عنها ليس إنشاء للكفر وابتداء للردة ، بل هو أثر له ناشئ عنه، وإنما
أطلت في هذه المسألة التي سبق لي توضيحها مرارًا ، لما بلغني من توقف بعض
علماء تونس في الإفتاء بكون التجنس بالجنسية الفرنسية ردة.
جنسية الإسلام وإصلاحه للبشر
ويحسن ختم هذه الفتوى بالتذكير بما كنا نوهنا به مرارًا من الركن الأعظم
لإصلاح الإسلام لشؤون البشر ، وتمهيد طريق السعادة لهم ، وبيان ذلك بالإيجاز:
أن مثارات شقاء البشر محصورة في اختلافهم في مقومات الاجتماع ومشخصاته
من العقائد واللغات والأوطان والأحكام والحكومات والأنساب؛ أي: العناصر
والأجناس كما يقول أهل هذا العصر، والأصناف كما يعبر علماء المنطق
والطبقات والتقاليد والعادات ، وحسبك من هذا الأخير أن المختلفين في الأزياء من
أبناء الوطن الواحد المتفقين فيما عداه من روابط الاجتماع يتفاضلون فيه حتى يحتقر
بعضهم بعضًا
…
جاء دين التوحيد والسلام (الإسلام) يرشد الناس كافة إلى المخرج من كل
نوع من أنواع هذا الاختلاف المثيرة لشقائهم ، بالتعدي والتباغض بجمعهم على
دين واحد ، موافق للفطرة البشرية مُرَقٍّ لها بالجمع بين مصالح الروح والجسد
(وهو الجنسية الدينية) ، ولغة واحدة يتخاطبون بها ، ويتلقون معارفهم وآدابهم بها
(وهي الجنسية الاجتماعية الأدبية) وحكم واحد يساوي بينهم على اختلاف مللهم
ونحلهم (وهو الجنسية السياسية) ؛ فهو يزيل من بينهم التفاضل والتعالي بالأنساب
والامتياز بالطبقات، والتعادي باختلاف الأوطان والعادات، وأودع في تعاليمه
وأحكامه جواذب تجذبهم إلى ذلك باختيارهم بالتدريج الذي هو سنة الله في كل
تغيير يعرض لجماعات البشر {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم} (الرعد: 11) .
وحسبنا هنا من الحجة على ذلك ما هو معلوم بالتواتر من أثره في نشأته
الأولى في خير القرون؛ إذ انتشر مع لغته وآدابه وسياسته وأحكامه في العالم
القديم ، من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق، وطالما شرحنا أسباب ذلك من
آيات الكتاب والسنة وعمل الخلفاء وعلوم الأئمة.
وقد قلدته أمم الحضارة الكبرى في هذا العصر، فكل منها تبذل القناطر
المقنطرة من الذهب؛ لنشر دينها ولغتها ، وتشريعها وآدابها وأحكامها في جميع
أقطار الأرض ، مؤيدة ذلك بآلات القهر والتدمير البرية والبحرية والجوية، ولم
يبلغ تأثيرها في عدة قرون مع سهولة المواصلات ، وتقارب الأقطار ودقة النظام
ما بلغه الإسلام في أقل من قرن واحد مع فقد هذه الوسائل كلها - ولو وضع نظام
للإمامة الكبرى (الخلافة) يكفل أصولها وأحكامها الشرعية؛ لعم الإسلام ولغته
العالم كله ، ولتحققت به أمنية الحكماء فيما ينشدونه من المدنية الفاضلة قديمًا وحديثًا.
أهمل المسلمون هذه الفريضة الكافلة لجميع الفرائض والفضائل فما زالوا
يرجعون القهقرى، حتى بلغ بهم الخزي ما نسمع ونرى، وصار مستعبدوهم
ومستذلوهم يطمعون في تركهم ، لما بقي من شريعتهم اختيارًا في الوقت الذي آن
لهم فيه أن يعرفوا أنفسهم ، ويعرفوا قيمة دينهم وشرعهم ، وينهضوا به؛ لإصلاح
أنفسهم ، وتلافي سقوط حضارة العصر بإبادة بعض أهلها لبعض {فَاعْتَبِرُوا
يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} (الحشر: 2) .
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
خطاب عام فيما يجب على المسلمين
لبيت الله الحرام
بسم الله الرحمن الرحيم
{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وَضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ
بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ
سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ} (آل عمران: 96-97) ، {جَعَلَ
اللَّهُ الكَعْبَةَ البَيْتَ الحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ} (المائدة: 97) ، {وَإِذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً
لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (البقرة: 125) ، {إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً العَاكِفُ فِيهِ
وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الحج: 25) .
أخبر الله تعالى عباده في آخر كتاب أنزله وكفل حفظه ـ وهو القرآن ـ على
لسان آخر نبي أرسله وأكمل به دينه العام، وهو محمد عليه أفضل الصلاة
والسلام، أن هذا المعبد المعروف بمكة أم القرى من بلاد العرب باسم الكعبة،
والبيت الحرام، والمسجد الحرام، هو أول بيت وضعه تعالى للناس كافة، وجعله
قيامًا، ومثابةً، وأمنًا، ومسجدًا، للناس كافة، سواء العاكف فيه من المقيمين حوله،
والبادي ممن يؤمونه من مؤمني سائر الأقطار لعبادة الله وحده، فمن دخله كان
آمنًا بتأمين الله تعالى على نفسه وماله وعرضه وشرفه، وحريته في قوله وفعله،
لا مسيطر عليه غير دين الله وشرعه - وجعل حجه ركنًا من أركان الإسلام،
وجعل الصد عنه وعن سبيله من شأن الكفار، وجعل إرادة الظلم والإلحاد إليه فيه،
كاقتراف الظلم في غيره، وجعل السيئات فيه مضاعفة العقاب، كما جعل الحسنات
مضاعفة الثواب، بل حرم سبحانه على لسان إبراهيم خليله ومحمد خاتم رسله
(عليهما الصلاة والسلام وعلى آلهما) الاعتداء في ذلك الحرم المحيط ببيته على كل
ذي حياة حيوانية أو نباتية، فلا يُعْضَد شجره ولا يُخْتَلى خلاه [1] ولا يحل فيه
الصيد ولا ترويع الحيوان، ولا يقتل فيه إلا الفواسق الضارة التي تقتل في الحل،
والحرم كالحيات والعقارب والفيران.
وقد صح في الأحاديث النبوية أنه يحرم من المدينة مثل ما يحرم من مكة،
وأن الإسلام يأرز بين المسجدين ويأرز إلى الحجاز كما تأرز الحية إلى جحرها،
أي: ينكمش وينقبض فيه ويعود إليه، وأنه لا يجوز أن يكون هنالك ولا فيما حوله
دينان، كما جاء في آخر ما أوصى به عليه الصلاة والسلام.
وقد أجمع المسلمون على أن حج هذا البيت مفروض على كل من استطاع
إليه سبيلاً، وأن الأمة الإسلامية مطالبة به في جملتها، لا بد أن يؤديه في كل عام
بعض المستطيعين من أفرادها، وهو الركن الروحي البدني المالي الاجتماعي
السياسي من أركان دينها، فهي مطالبة بإقامة هذا الركن مع كل ما تتوقف عليه
إقامته، وكل ما أوجبه الله تعالى من حرمته وتأمينه، وتحقيق مقاصد الدين من ذلك.
ولا نطيل في تفصيل هذا، فهو مما لا يجهله مسلم في جملته، وإنما أتينا بهذه
المقدمة تمهيدًا لما نذكر بعدها من الخطر الحديث على هذا الركن الإسلامي ، وعلى
حرم الله وحرم رسوله، وعلى كل ما شرع الله تعالى هنالك من عبادة ونسك
وإجلال، وتعظيم للشعائر والمشاعر العظام، التي تجدد في قلوب الحجاج
والمعتمرين روح الإسلام.
ومن المسلمات التي لا نزاع فيها أن ما أوجبه الله تعالى وشرعه لهذه البلاد ،
وما أوجبه فيها مما أجملنا التذكير به ، لا يتم ولا يُضمَن في هذا الزمان إلا بجعل
هذه البلاد المقدسة مصونة من التعدي عليها، ومن جعلها عرضة للغزو
والقتال ـ ومحفوظة من أي تدخل أو نفوذ لغير المسلمين فيها، ولا سيما الدول
الاستعمارية القوية، وبإقامة حكومة شرعية لها تكون قادرة على حفظ الأمن والشرع،
وعاجزة عن الاستبداد والظلم، بمراقبة العالم الإسلامي لها، ومساعدته إياها بالرجال
والمال على الوجه الذي نقترحه بعد، فسكان الحجاز غير قادرين على ذلك حتمًا؛
لفقرهم وفقدهم المال والعلم اللذين يتوقف عليهما ذلك.
أيها المسلمون:
إنه لا يخفى على شعب من شعوبكم في مشارق الأرض ومغاربها أن الدولة
العثمانية كانت كافلة للحجاز، وممدة لحكومته وأهله بالرجال والمال، وكانت دولة
حربية مرهوبة، وذات حقوق دولية مرعية، ومعترف لها بمنصب الخلافة
الإسلامية، وهي مع هذا كله لم تؤد لهذا المكان، كل ما يجب له من الأمن
والعمران، ولم ترقِّ فيه العلم والعرفان، وإنما كان مصونًا بها من أن يهاجم بحرب
أو يمتد إليه نفوذ غير إسلامي، وقد زال بزوالها كل من الأمرين.
ذلك بأنها كانت قد نصبت في مكة أميرًا اسمه الشريف (حسين بن علي)
وأن هذا الأمير خرج عليها وحاربها في الحرب الأخيرة هو ومن أجاب دعوته إلى
قتالها، ووالى الدولة البريطانية وأحلافها، وأذاع بالدعاية العامة أنه يريد بذلك إنقاذ
البلاد العربية واستقلالها، وكانت دعواه في نفسها معقولة، ثم تبين أنها غير
صحيحة، فقد ظهر أنه استبد بالأمر، واتجر بالأمة وسمى نفسه (ملك البلاد
العربية) بغير مبايعة ولا رضا من أهل الحل والعقد في جزيرة العرب وهم الأئمة
والأمراء والعلماء في بلادها المستقلة كاليمن وتهامة ونجد، ولا في غيرها بالأولى،
بل جعل هؤلاء أعداء له ، وهم يحيطون بالحجاز من كل جانب كما نبينه لكم
بالوثائق الرسمية، ورفض ما دعاه إليه أهل البصيرة من عقد روابط الحلف ، وشد
أواخي الإخاء بينهم ، ليكونوا كلهم أعوانًا على حفظ الحرمين الشريفين، وسياجهما
من جزيرة العرب أن ينالها عدوان أجنبي، أو يتسرب إليها نفوذ غير إسلامي،
عملاً بوصية النبي صلى الله عليه وسلم قبيل لقاء ربه في الرفيق الأعلى.
إن هذا الرجل لم يقدم على ادعاء التملك على الأمة العربية بأسرها ، ويعادي
أمراء الجزيرة المقدسة على ما هو عليه من الضعف، ويعقد بانفراده مع الأجانب
المعاهدات السياسية والحربية باسم العرب ، فيعطيهم من الحقوق السياسية
والعسكرية ما شاء حتى في الحرمين الشريفين، ومن رقبة البلاد بالاحتلال ما شاء؛
لم يفعل هذا كله إلا اعتمادًا على قوة هؤلاء الأجانب، فقد تواطأ واتفق معهم على
اقتسام السلطان ، والنفوذ بينه وبينهم في مهد الإسلام من غير مشاورة أحد من
أصحاب الزعامة والسلطان كالأمراء والأئمة، ولا من أهل العلم والرأي في هذه
الأمة.
فهو بهذا وذاك قد أدخل النفوذ الأجنبي غير الإسلامي في الحجاز، وجعله
ملكًا سياسيًّا حربيًّا معرضًا للغزو والقتال، ولم يقف عند حد هاتين الجنايتين
الخارجيتين، بل استبد وظلم، وألحد في الحرم، كما نثبت ذلك بالحجج الآتية،
ولا غرض لنا إلَاّ بيان الواقع؛ ليعلم أمراء العرب وزعماؤهم. وعلماء المسلمين
وكبراؤهم ، ما يجب عليهم من تغيير المنكر ، ومنع الخطر المنتظر ، ولو بإقناع
هذا الرجل بما يجب ، وإقناع الحكومة الإنكليزية بترك معبد المسلمين الأكبر وقبلتهم
لهم ، وعدم تصديها لها بحيل المعاهدات وغيرها ، ونرى أن هذا خير لنا ولها من
ضم العداوة الدينية إلى العداوة السياسية ، وهذا ما نريد بيانه من الوثائق وقد سبق
نشر بعضها.
***
وثائق الجناية الأولى
وضع الحجاز تحت النفوذ والسلطان الأجنبي
الأولى مقررات النهضة:
من المعلوم المشهور أن هذا الرجل يسمي خروجه وثورته التي هي افتيات
على العرب والإسلام (بالنهضة) ، ومن أعياده الرسمية (عيد النهضة) ومن
أوسمته الملكية (وسام النهضة) ، ويسمي المواد التي عرضها على الدولة البريطانية
والتزمها وقيد نفسه وأمته وبلادها بها بغير حق ولا أهلية (مقررات النهضة)
و (أساس النهضة) ، وقد كان يكتم هذه المقررات ويضن بها على كل أحد حتى أولاده
قواد جيش ثورته - حتى إذا ما فثئت الحرب ، وجاء وقت اقتسام الغنائم ، ومنها
حصته من السلطان على البلاد العربية كلها في ظل الحماية البريطانية، أنكرت
عليه حليفته بريطانية العظمى ما يدعيه لنفسه منها - فحينئذ - سمح بإعطاء ولده
الأمير (فيصل) صورة (مقررات النهضة) ؛ ليناضل له بها، وقد اقتضت الحال
نشره إياها باسمه في جريدة المفيد التي كانت تصدر في دمشق على عهد إمارته لها،
ونقلتها عنها صحف كثيرة في مصر والهند وغيرها، وهذا نصها:
(1)
تتعهد بريطانيا العظمى بتشكيل حكومة عربية مستقلة بكل معاني
الاستقلال في داخليتها وخارجيتها ، وتكون حدودها شرقًا من بحر خليج فارس، ومن
الغرب بحر القلزم والحدود المصرية والبحر الأبيض، وشمالاً حدود ولاية حلب
والموصل الشمالية إلى نهر الفرات ، ومجتمعة مع الدجلة إلى مصبها في بحر فارس
ما عدا مستعمرة عدن فإنها خارجة عن هذه الحدود. وتتعهد هذه الحكومة برعاية
المعاهدات والمقاولات التي أجرتها بريطانيا العظمى مع أي شخص كان من العرب
في داخل هذه الحدود ، بأنها تحل في محلها في رعاية وصيانة تلك الحقوق وتلك
الاتفاقيات مع أربابها أميرًا كان أو من الأفراد.
(2)
تتعهد بريطانيا العظمى بالمحافظة على هذه الحكومة وصيانتها
من أي مداخلة ، بأي صورة كانت في داخليتها، وسلامة حدودها البرية والبحرية من
أي تعد بأي شكل يكون ، حتى ولو وقع قيام داخلي من دسائس الأعداء أو من حسد
بعض الأمراء فيه تساعد الحكومة المذكورة مادة ومعنى على دفع ذلك القيام لحين
اندفاعه ، وهذه المساعدة في القيامات أو الثورات الداخلية تكون مدتها محدودة؛ أي:
لحين يتم للحكومة العربية المذكورة تشكيلاتها المادية [2] .
(3)
تكون البصرة تحت إشغال العظمة البريطانية لحينما يتم للحكومة
الجديدة المذكورة تشكيلاتها المادية ، ويعين من جانب تلك العظمة مبلغ من النقود
يراعى فيه حالة احتياج الحكومة العربية ، التي هي حكمها قاصرة في حضن
بريطانيا ، وتلك المبالغ تكون في مقابلة ذلك الإشغال.
(4)
تتعهد بريطانيا العظمى بالقيام بكل ما تحتاجه ربيبتها الحكومة العربية
من الأسلحة ومهماتها والذخائر والنقود مدة الحرب.
(5)
تتعهد بريطانيا العظمى بقطع الخط من مرسين أو ما هو مناسب من
النقط في تلك المنطقة؛ لتخفيف وطأة الحرب عن البلاد؛ لعدم استعدادها اهـ.
فملخص هذه المقررات: أن الدولة الإنكليزية هي صاحبة البلاد العربية ،
وأنها بما لها من حق التصرف فيها تؤسس لواضعها (أمير مكة) حمايتها في داخلها
وخارجها، حتى لو حصل قيام داخلي على ملكها في حرم الله تعالى أو حرم رسوله
صلى الله عليه وسلم كان على الإنكليز أن يساعدوه مادة ومعنًى على قمعه، ويدخل
في هذا إدخال جيوشها في الحرمين الشريفين؛ لأجل حفظ ملكه فيهما.
فما تقولون أيها المسلمون فيمن يعطي هذه الحقوق لدولة غير مسلمة في
الحرمين الشريفين وسياجهما؟ هل هو مشروع موافق لتلك الآيات القرآنية،
والأحاديث النبوية، والوصية المحمدية، والأحكام الإسلامية، التي ذكرناكم بها في
مقدمة هذا الخطاب؟ أم هو جناية على الحرمين وسياجهما ومشاعرهما ، وعلى
الملة الإسلامية والأمة العربية فيجب عليكم السعي لإزالتها؟
إن الدولة البريطانية قد سجلت على هذا الرجل كل ما اعترف لها به من
الحقوق على أمته وبلادها في هذه المقررات وغيرها، ولكنها لم تجبه إلى كل ما
طلبه لنفسه منها، بل استثنت سورية الشمالية من المملكة العربية لأجل حليفتها
فرنسة، وحملته على الاعتراف بحقوق لها في سائر العراق، فلم تقنع بولاية البصرة
التي سمح لها من تلقاء نفسه.
***
الوثيقة الثانية
كونه موظفًا بريطانيًّا
إن هذا الرجل هو الذي انفرد بإعطاء الدولة الإنكليزية الحق بأن تؤسس له
دولة عربية تكون تحت حمايتها، وفي حكم القاصر في حضانتها، وهو الذي اختار
لنفسه أن يكون من جملة رؤساء الممالك المنضوية إلى كنف إمبراطوريتها، وكم
في هذه الإمبراطورية من ممالك تسمى مستقلة، وكم فيها من أمراء وملوك
وسلاطين ، فلا غرو ولا عجب منه إذا صرح ونشر في جريدته (القبلة) ما
يصرح بأنه عامل موظف عندها ، وأنه هو وأولاده كالبلاد رهن تصرفها ، ونكتفي
بشاهدين على ذلك من جريدته القبلة:
(الشاهد الأول) :
لما علم هذا الرجل أن الحكومة البريطانية قررت عرض مطالبه على مؤتمر
الصلح ، وإعطائه ما يقرره المجلس ، أرسل كتابًا منه إلى نائب ملكها بمصر
بتاريخ 20 ذي القعدة 1336 نشره بعد ذلك مرارًا في جريدة القبلة ، وقد جاء فيه ما
نصه:
(فإن كان ولابد (؟) من التعديل فلا لي (؟) سوى الاعتزال والانسحاب ،
ولا أشتبه في مجد بريطانيا أن يتلقى هذا منا إلا أنه أمر (؟) يتعلق بالحياة، لا
لقصد عرضي، ولا لفكر غرضي، وإنها لا ترتاب في أني وأولادي أصدقاؤها
الذين لا تغيرهم الطوارئ والأهواء، ثم تعينوا (؟) البلاد التي تستحسن إقامتنا
فيها بالسفر إليها في أول فرصة) .
(وإن رأت ذلك ولكن مشاكل الحرب الحاضرة تقتضي بتأجيله إلى ختامها،
فحقوق الوفاء والجميل يفرض علينا الثبات أمام ما سيتضاعف علينا من التهمات
ونحوه من العموم ، مما لا مقاومة لدينا أمامها إلا حُسْنَ النية، فالأمر إليها) .
(أما عطف الأمر وتعليقه بمؤتمر الصلح فالجواب عليه من الآن بأنه لا
علاقة لنا به ، ولا مناسبة بيننا وإياه حتى ننتظر منه سلبًا أو إيجابًا، ولو قرر
المؤتمر المذكور إضعاف مقرراتنا ، وكان ذلك من غير وساطتكم وقبلناها فنكن
(؟) من المطرودين من رحمة الباري جل شأنه الرقيب على قولي هذا) اهـ.
نقلنا هذا بحروفه حتى أغلاطه اللفظية عن العدد 391 من جريدة القبلة الذي
صدر بمكة المكرمة في 23 رمضان سنة 1338 ، وهو نص في جعل هذا الرجل
إخلاصه في التابعية البريطانية تعبدًا ، وأنه يقبل من الدولة الإنكليزية نفيه مع
أسرته من وطنه ، ولا يقبل من سائر الدول إضعاف مقررات استقلال الحماية
لمصلحة الأمة ، بل يعده كالكفر بالله والطرد من رحمته! ! !
(الشاهد الثاني) :
إنه قد استقال في هذا الكتاب من منصبه (ملك الحجاز) لدى الدولة
البريطانية استقالةً معلقةً ، ويظهر أنه قد رفع استقالته إلى الحكومة البريطانية بلندن
مباشرةً بعد الاستقالة الضمنية بهذا الكتاب كما يفهم من نص البرقية الآتية التي
أرسلها إلى مدير جريدة التيمس الإنكليزية يتوسل بها إلى قبول استقالته التي
تكررت ، وهذا نصها منقولاً من العدد 553 من جريدة القبلة:
المدير العمومي لصحيفة التيمس
(اطلعت على عددكم المشتمل الرد والقدح باتحاد العرب والتزامكم أحد
أمرائهم [3] ولزيادة إقناع حكومة جلالة الملك وإيضاح الحقيقة لعموم الشعب النجيب
البريطاني أكرر بهذا طلبي بواسطتكم من حكومة جلالته تأكيد تعيين الأمير المذكور
أو من تراه ليستلم البلاد فإن غايتي الراحة العمومية وخدمتها كما يعلم من أساسات
قيامي وشرائطه يؤيده طلبي هذا المثبت للحقيقة من سائر وجهاتها) .
وهذا نص صريح قطعي في اعتراف الملك حسين بأنه تابع للحكومة
الإنكليزية وخادم لها ، وبأنها هي صاحبة الحق في عزله وتولية من تشاء على
الحجاز وغيره من بلاد العرب، وبأن هذا من (أساسات قيامه وشرائطه) يعني ما
يسميه مقررات النهضة، ولو لم يكن له إلا هذه الخزية لما احتيج إلى حجة غيرها
على جعل الحرمين الشريفين تحت السيادة البريطانية ، ومن ضمن مستعمرات
التاج البريطاني، وكفى بذلك عداوة وإهانة للإسلام والمسلمين كافة، وإضاعة
لاستقلال العرب خاصة، توجب على مجموعهم التعاون على إزالة هذا المنكر
الأكبر والخطر الأعظم، فإن لم يفعلوا كانوا كلهم عصاة لله تعالى هادمين لأركان
دينه ، ومحقرين لما أوجب عليهم من حفظ شعائره ومشاعره.
***
الوثيقة الثالثة
المعاهدة الجديدة:
خاب أمل هذا الرجل في الإنكليز ، فلم يجعلوه ملكًا على جميع البلاد العربية
بقوتهم وسلطانهم كما اقترح عليهم في (مقررات النهضة) والحجاز وحده لا يشبع
مطامعه، وليس من مصلحة الإنكليز أن يقاتلوا أمراء جزيرة العرب لأجل
إخضاعهم له ، وتحقيق جعله ملكًا عليهم ، ولا أن يجعلوه حاكمًا من قلبهم على
العراق وفلسطين، لأنه على خضوعه لهم ليس عنده لين ولده فيصل ومرونته،
ولا فرق ولده عبد الله واستسلامه، وقد جعلوا الأول ملكًا على العراق؛ ليروض
لهم صعاب الشيعة الجامحة بشهرة نسبه وخلابة لسانه، ويسلس لهم قيادة رؤساء
الجند وزعماء الشعب ، بدماثة نفسه وجود بنانه ، وجعلوا الثاني أميرًا على شرق
الأردن؛ ليكف عن فلسطين عادية قبائل العرب ، ويمكن لهم السلطان في هذه
المنطقة؛ فيؤسسوا فيها حظيرة الطيارات التي هي العمدة الأخيرة لهم في تذليل
جزيرة العرب وأمثالها ، بدون نفقة كبيرة ولا سفك دماء من جندهم ـ ويمهدوا
بنفوذه في البدو طرق السيارات والدبابات في قلب البلاد العربية؛ تمهيدًا لما
سيشرعون به من مد سكة الحديد العسكرية الحربية بين فلسطين والعراق ليتصل
البحر الأحمر بخليج فارس، ولقد صدق عليه وعلى أخيه ظن وزير المستعمرات
البريطانية، فيما ضمنه لحكومته وأمته من تقليل نفقات الاستيلاء على هذه البلاد
العربية، ولكن أباهما لا يرضيه إلا أن يكون هو ملك البلاد العربية كلها كما لقب
نفسه، فهو ما زال يلح ويلحف في مطالبة الحكومة البريطانية بإنجاز وعدها له على
ما فيه، وما زالت تعرض عليه ما لا يرضيه، حتى جاءه الدكتور ناجي الأصيل
مندوبه لديها في شهر رمضان الماضي (سنة 1341) بالمعاهدة الجديدة فرضي بها ،
وأعلنها بمكة المكرمة في عيد الفطر ، وأمر بأن يكون يوم إعلانها عيدًا سياسيًّا
للأمة العربية بأسرها، وأمضاها بالتوقيع الابتدائي مع طلب تعديل جزئي غير
جوهري في بعض موادها غير الأساسية.
وإننا نذكر هنا أهم مقاصدها السياسية ، المنافية لمصلحة العرب والإسلام
المؤكدة لما تقدم من جعله الحجاز تحت سيادتها وحمايتها بمنتهى الإيجاز معتمدين
على ترجمة ما نشرته حكومة فلسطين الإنكليزية من الخلاصة الرسمية لها، وهي:
أهم غوائل المعاهدة الحجازية البريطانية:
(1)
(تنص المادة الأولى على منع استعمال بلاد كل من الحكومتين قاعدة
لأعمال موجهة ضد الحكومة الأخرى) هذا نص الخلاصة الرسمي ، وفيه الغنم
للإنكليز، والغرم على العرب وغيرهم من المسلمين، فهي تسلب أهل البلاد
وغيرهم من حجاج الآفاق حرية التعاون والتشاور هنالك في أي مصلحة لهم في
دينهم ودنياهم ، تعدها الدولة البريطانية (ضدها) وإن كانت خاصة بمصالح
المسلمين الدينية؛ كاضطهادها إياهم أو ظلمهم في أمر يتعلق بدينهم كالحج نفسه،
وما زال المستعمرون للبلاد الإسلامية يخافون أن يستيقظ المسلمون من رقادهم
الاجتماعي والسياسي ، ويتعاونوا على مصالحهم الإسلامية المشتركة في هذا المجمع
العام، عند بيت الله الحرام، فأعطى الملك حسين كبراهن المسلطة على زهاء مائة
مليون مسلم مأربها، وليس لأهل الحجاز ولا لغيرهم من العرب أو المسلمين ولا
للملك حسين أدنى فائدة في مقابلة هذه الغائلة، فإن الحكومة البريطانية لا تستطيع
أن تمنع أهل بلادها مثل هذه الحرية ، الذي يتعهد ملك الحجاز بمنعها منه؛ إذ يرى
أنه مالك لرقاب أهله ونواصي كل من لا حامي له من دول الأجانب ممن يحج بيت
الله فيه، فإن الحرية في بلاد الإنكليز أقوى من كل معاهدة تعقدها أي حكومة فيها،
ولكن ملك الحجاز يظن أن حكومة الإنكليز تستطيع أن تعمل في لندن وليفربول كل
ما يستطيع هو أن يفعله في أهل مكة وجدة المستضعفين المستعبدين.
على أن الإنكليز أبرع خلق الله في التفصي من قيود المعاهدات التي يعقدونها
مع الدول الكبرى بالتاويل كما قال أعظم ساسة أوربا في عصره: البرنس (بسمارك)
فكيف يبالون بضعيف رضي لنفسه ولقومه سيادتهم عليهم؟ فإذا فرضنا أن بعض
الإنكليز في بلادهم ، أو بعض رعاياهم من مسلمي الهند قاموا بعمل ضد حكومة
الحجاز ، ولم تمنعهم حكومتهم، فهل يستطيع ملك الحجاز أن يثبت ذلك ويكره
الحكومة الإنكليزية على منعهم؟ لا، لا، لا.
(2)
من قضايا المادة الثانية تعهد ملك الإنكليز بتعضيد استقلال البلاد
العربية التي اعترف باستقلالها، بالمعنى الذي لا ينافي الانتداب ، ولا الحماية بدليل
كون فلسطين والعراق منها، وهذا التعهد يعطيه حق التدخل في شؤون هذه البلاد
الداخلية باسم التعضيد ومنها الحجاز واليمن ونجد، كما جعلت حكومته وحكومة
فرنسا لأنفسهما حقًّا في عزل ملك اليونان ، بحجة أنهما وعدتا بتعضيد استقلالها، وأن
أعمال ذلك الملك تنافي الاستقلال.
(3)
تتضمن هذه المادة إقرار الانتداب على العراق وعلى فلسطين أيضًا،
وعبر عن هذا فيها بأن ملك الحجاز (يعترف بالمركز الخاص الذي لملك الإنكليز
فيهما) وما هو إلا الانتداب ولوازمه، ومنه الاعتراف بعهد بلفور في جعل هذه
البلاد وطنًا لليهود، وتتضمن فوق هذا تعهد ملك الحجاز ببذل غاية جهده في
التعاون مع ملك الإنكليز ، على القيام بتعهداته في البلاد العربية (ومنها عهد بلفور
والاتفاق مع فرنسة على سورية) .
(4)
في المادة الخامسة (يتعهد صاحب الجلالة البريطانية بأن يصد بجميع
الوسائل السلمية والممكنة أي اعتداء ، يقع على بلاد جلالته الهاشمية ضمن الحدود
التي تقرر نهائيًّا) وهذا نص صريح بإعطاء الإنكليز حق حماية الحجاز ، ولهذا
صرح الملك حسين بأن هذه المعاهدة مبنية على أساس مقررات النهضة ، وسيأتي
نص عبارته في هذا.
(5)
تنص المادة السادسة على تعيين وكلاء سياسيين ، وقناصل للإنكليز
في الحجاج ، وفي البلاد البريطانية للحجاز ـ والحجاز في غنى عن هذا التدخل
الأجنبي السياسي بما سيجيء بعد.
(6)
يعترف ملك الحجاز في المادة السابعة للإنكليز بحق الحجر الصحي
على حجاج الشرق والجنوب، ويعترف له ملك الإنكليز بالتدابير المتممة لذلك في
ثغور الحجاز، وفي كل من الأمرين سيادة لملك الإنكليز على الحجاز ، وتحكم في
الحجاز، فإن القانون الدولي يعطي لكل دولة الحق بأن تحجر على الموبوئين ،
الذين يريدون دخول بلادها، وملك الحجاز أعطى حقه هذا للإنكليز ، واستمد من
ملكهم حق الأعمال المتممة له في بلاده هو؛ أي: الحجاز ، ولم يسمح بمثل الحق
للحكومة المصرية الإسلامية، وما ذلك إلا أنه يعد نفسه تابعًا للدولة البريطانية كما تقدم
في الوثائق السابقة.
(7)
يتعهد ملك الحجاز في المادة الثامنة بأن لا يتدخل في التدابير التي
يتخذها ملك الحجاز للاعتناء بالحجاج، ويتعهد ملك الحجاز بتعضيد المساعي التي
يبذلها مسلمو الرعايا البريطانيين؛ لمساعدة الحجاج في الحجاز، فالأول مبني على
الاعتراف بسيادة ملك الإنكليز على الحجاز؛ إذ لا معنى لتعهده بعدم التدخل في
أمر الاعتناء بالحجاج ، إلا أن هذا وأمثاله من حقه وقد أباحه لملك الحجاز،
والثاني مما أنكر ملك الحجاز مثله على الحكومة المصرية؛ إذ أرسلت مع ركب
الحج المصري بعثة طبية ، فلم يقبلها محتجًّا بأن قبولها ينافي الاستقلال ، أليس معنى
هذا أن استقلاله واقع في ضمن دائرة الإمبراطورية البريطانية التي تضم
كثيرًا من المستعمرات التي تسمى مستقلة؟
(8)
المادة التاسعة (تنص على تعيين مبلغ محدود يفرض على كل حاج)
وهي معترضة من ثلاثة أوجه:
(أحدها) : أن ضرب إتاوة أو غرامة على كل من يحج بيت الله تعالى
محرم في الشريعة الإسلامية بالإجماع ، يدخل في عموم قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا
أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ} (البقرة: 188) وعموم {وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناًّ قَلِيلاً
وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} (البقرة: 41) فقد قال تعالى في شأن بيته: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} (آل عمران: 97) وهو كفرض الضرائب على الصلاة والصيام، ومن يستحل
ذلك يعد مرتدًّا عن الإسلام، ويعد أيضًا من الصد عن سبيل الله، ويدخل في عموم
قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ
لِلنَّاسِ} (الحج: 25)
…
إلخ.
(ثانيها) : أن وضع هذا التعدي على شرع الله ودينه ، وحجاج بيته
الداخلين في أمانه ـ في معاهدة مع دولة غير إسلامية ، لا يعقل له سبب إلا
الاستعانة بها على تنفيذه، والاعتماد على حمايتها في قهر جميع المسلمين على
الإذعان له.
(ثالثها) : أنه قد يكون مثار فتن بين الحكومات الإسلامية وبين ملك
الحجاز ، تؤدي إلى تدخل هذه الدولة الحامية في الحجاز؛ لتنفيذ عمل محرم في
الإسلام يعد مستحله والراضي به كافرًا خارجًا منه. ذلك بأنه إذا امتنع حجاج نجد
واليمن وتهامة من جيران الحجاز عن دفع هذه الضريبة ، فلا سبيل إلى تنفيذها إلا
أن يجبرهم ملك الحجاز عليها أو يصدهم عن أداء الفريضة بقوة السلاح وهو غير
قادر على ذلك بنفسه ، فإذا قاوموه وحاولوا دخول الحرم بالقوة ، لا يكون له معول
في صدهم إلا على إرسال الجند البريطاني؛ ليحيطوا بالحرم الشريف؛ ويصدوا
عنه هؤلاء الحجاج ، تنفيذًا لهذه المعاهدة ولمقررات النهضة.
(9)
المادة الحادية عشرة وما بعدها إلى السادسة عشرة ، في امتيازات
قضائية للدولة البريطانية في الحجاز ، تنافي الاستقلال الصحيح وتنفيذ الشرع
الإسلامي فيه، وتؤكد ما تقدم بيانه.
هذه بعض غوائل هذه المعاهدة ومفاسدها، وقد انفرد هذا الرجل المستبد في
حرم الله تعالى بالتعاقد مع الإنكليز عليها، كأن حرم الله تعالى وحرم رسوله ملك له
يتصرف فيه كما يشاء ، لا يتقيد بنص شرعي ولا بمشاورة أحد من أمراء المسلمين
وعلمائهم. فإن قيل: إن المعاهدة لما تمض وتوضع موضع التنفيذ. قلنا: نعم،
ولكن السبب الأول لذلك هو رفض الفلسطينيين لها، ولا تزال المفاوضات بين هذا
الرجل وبين الإنكليز دائرةً في حل المسألة الفلسطينية لأجل تنفيذها، والراجح أن
مجيئه إلى فلسطين يقصد به قبل كل شيء إقناع أهلها بنص خادع فيها؛ إذ لم
ينخدعوا بالنص الأول.
***
الوثيقة الثالثة
اتخاذ يوم إعلان هذه المعاهدة عيدًا
جاء في العدد 688 من جريدة القبلة الذي صدر بمكة المكرمة في 5 شوال
سنة 1342 بعد بيان الاحتفال الرسمي بعيد الفطر ما نصه:
عيد على عيد
إعلان استقلال العرب ووحدتهم في جميع الجزيرة العربية
ولما استقر بجلالة المنقذ المقام، في بهو الاستقبال العام، مثل بين يدي
جلالته الأشراف والسادة العلماء ، والأعيان والوجهاء وأماثل الأمة على اختلاف
طبقاتها حاضرها وباديها، وحينذاك تفضل جلالته ، ففاه بخطاب ملوكي سامٍ، حمد
الله فيه وأثنى عليه ، ثم أشار إلى أن هذا العيد المبارك لا شك في تضاعف يمنه
حيث صادق قبول المراجع الإجابية [4] لجميع المطالب العربية، فلا ريب في أنه
يوم اجتمع فيه عيدان: عيد الفطر السعيد ، وعيد الاعتراف باستقلال العرب
ووحدتهم ، وعليه فجلالته يعلن ذلك للأمة العربية حاضرها وباديها، وعلى أثر ذلك
أمر جلالته صاحب الإقبال رئيس الديوان العالي ، أن يلقي في ذلك المحفل الجليل
الخطاب الملوكي الهاشمي الآتي وهذا نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
(نصرح في هذا العيد المبارك بمآل المعاهدة العربية البريطانية ، المؤسسة
على مقرراتنا الأساسية والتي يعترف بها صاحب الجلالة البريطانية لنا ، باستقلال
العرب بجزيرتهم وسائر بلادهم، ويتعهد لنا حشمته الملوكية بالمعاضدة الفعلية؛
لتأسيس الوحدة العامة الشاملة ، لكل هذه البلاد بما فيها العراق وفلسطين وشرق
الأردن وسائر البلاد العربية في جزيرة العرب (ما خلا عدن) فنأمر أن يعتبر هذا
اليوم المبارك عيد الاعتراف باستقلال الأمة العربية والله ولي التوفيق) انتهى.
هذا نص خطاب الملك الرسمي بحروفه، وقد نشرت جريدة القبلة عقبه خطابًا
ألقاه الدكتور ناجي الأصيل ، سمسار هذه الخديعة ، وحسبنا التصريح الرسمي من
الملك حسين بأن هذا الاستقلال مبني على أساس نهضته؛ أي: حماية الإنكليز لبلاد
العرب ووصايتهم على أهلها ، كما علم من الوثيقة الأولى ، ولكن الناس يغفلون عند
القراءة فيظنون أن المراد الاستقلال الحقيقي المطلق من كل قيد.
ولهذا يتعجب بعضهم من تصريحه هو وأولاده وجريدته (القبلة) تسمية
العراق وشرق الأردن مستقلة ، فليس معنى الاستقلال عندهم ، إلا جعل الدولة
الإنكليزية إياهم ملوكًا وأمراءً في البلاد العربية تحت حمايتها؛ إذ يعدون هذه البلاد
ملكًا لها. فلو سمي عبد الله أو أخوه زيد ملكًا على سوريا؛ أي: المدن الأربع
منها صارت مستقلةً عندهم، وصار الانتداب مساعدةً ومحالفةً في عرفهم.
***
الوثيقة الرابعة
خداع أهل فلسطين
بينا أن المعاهدة العربية البريطانية مشتملة على إقرار الانتداب وعهد بلفور
ضمنًا ، ولكن الملك حُسَيْنًا قد أرسل البرقية الآتية إلى أهل فلسطين ونشرت في
جرائدها والجرائد المصرية وهذا نصها:
إلى عموم أهالي فلسطين
رغبةً في وقوفكم على الحقيقة ، وضرورة إعلانها للعموم ، لقد صرحنا
في هذا العيد المبارك بمآل معاهدتنا العربية البريطانية ، المؤسسة على مقرراتنا
الأساسية التي يعترف بها صاحب الجلالة البريطانية لنا باستقلال العرب في
جزيرتهم وسائر بلادهم ، ويتعهد لنا حشمته الملوكية بالمعاضدة الفعلية لتأسيس
الوحدة العامة الشاملة ، لكل هذه البلاد بما فيها العراق وفلسطين وشرق الأردن ،
وسائر البلاد العربية في جزيرة العرب ما خلا عدن. وهذا من منن الباري علينا،
وعلى عظمتها بالوفاء بمواعيدنا وأقوالنا للعرب رغمًا عما نسبوني، وعظمتها إليه ،
من هضم حقوقهم وكل ما يرمونا به ، ولا نشك أن هذا العيد المبارك سيعتبر أيضًا
عيدًا ميمونًا باستقلال الأمة العربية ، ولا أحتاج لتحذيركم عن إحداث أي شيء يخل
بالراحة والسكون بأي صورة كانت ، لما في ذلك من ضياع الحقوق ، فإنكم
المسؤولون عن ذلك وباقي المعاملات تردكم عقب هذا.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
حسين
هذه البرقية هي التي حملت حكومة فلسطين الإنكليزية الصهيونية على نشر
خلاصة المعاهدة ، التي كان الملك حسين قد كتمها ، وأراد إقناع أهل فلسطين
وسائر العرب بقبولها ، والإذعان لها ثقةً ببيانه هو ـ كما فعل بمقررات النهضة
منذ بدأ بالثورة فكانت جريدته (القبلة) ، وجريدة الكوكب التي أنشأها الإنكليز
بمصر وغيرها من الجرائد المستأجرة للإنكليز ، يُذِعْنَ في العالم أن الأمة العربية قد
ضمن لها استقلالها ، وإعادة مجدها بولائها لإنكلترة وحلفائها.
ولما نشرت خلاصة المعاهدة ، وعلم أنها مقررة للانتداب لا نافية له بلغ
رئيس اللجنة التنفيذية للمؤتمر الفلسطيني الملك حسين ذلك ، فأجابه الملك ببرقية
هذا نصها: (أحسنوا الظن) وفاته أن اليقين لا ينقض بالظن ، وأن تقليد أهل
فلسطين له وهم على علم بالحقيقة محال ، فهم لم يقبلوا برقيته ولا غيرها ، مما
نشر في جريدته الكاذبة الخاطئة من المكابرة ، وتكذيب حكومة فلسطين وجرائد
العالم
…
بل ألفوا مؤتمرًا قرروا فيه عدم الاعتراف بالمعاهدة ، وبأن ملك الحجاز لا
يملك أن يقرر شيئًا في شأن بلادهم افتئاتًا عليهم ، وبلغوه ذلك هو والدولة البريطانية -
ولا نطيل بنشر ما لم ننشر من الوثائق في ذلك؛ لقرب العهد بها، وعلمنا أنه
لا يكابرنا أحد فيها.
ولقد كان من عجب العقلاء الذي لا ينتهي أن ملكًا ينفرد بوضع نصوص
معاهدة سياسية مع أدهى دول الأرض ، وأحذقهن وأدقهن في استعمال الألفاظ القابلة
للتأويل، ثم إنه يفسر هذه المعاهدة بخلاف المتبادر من نصها ، ويخاطب بذلك أهل
بلاد واسعة؛ ليحملهم على الرضا بإضاعة وطنهم ، وجعل رقبته وحكمه لغيرهم،
ويخطئ كل من يخالفه في ذلك حتى حكومة فلسطين البريطانية ، والجرائد
الإنكليزية - دع العربية وغيرها - ومن شاء فليراجع في ذلك (العدد 690و 696
من جريدة القبلة ، والمنشور الرسمي في العدد 701 الذي يرد به على المصريين
خاصةً. ثم يعلم أنه قد ظهر للعالم كله أنه هو المخطئ فيما فهمه أو ما نشره مخالفًا
لفهمه فيرجع عنه. وجه العجب الذي لم يعرف له نظير أن الملك حُسَيْنًا إن كان قد
نشر ما نشر من تفسيره المعاهدة المخالف لنصها ، وهو يفهم معنى النص فتلك
خيانة توجب عدم الثقة بقوله وعمله وأمانته، وإن كان نشره وهو لا يفهم معناه ،
ولم يفهمه إياه نائبه لدى الدولة البريطانية ، ولا ناظر خارجيته فالمصيبة أعظم؛ إذ
هو حجة على أنه ليس أهلاً لعقد المحالفات ولا لتولي الأحكام ، ولا لنصب العمال -
إذ يكون معتمده لدى الدولة البريطانية ، ووزير خارجيته قد خاناه بكتمان معنى
المعاهدة ، حتى حملاه على التصريح بتضمنها؛ لاستقلال جميع البلاد العربية - ما
عدا عدنا - وبحمل أهل فلسطين على قبولها، ثم ظهر الأمر وافتضح، وبقي
الرجلان موضع ثقته في أعماله السياسية الدولية! .
على أن الظاهر المتبادر هو الأول ، وهو أنه صرح بما صرح به على علم بأنه
عبودية للإنكليز لا استقلال ، كما إنه اغتبط باحتفال ولده الأمير عبد الله باستقلال شرق الأردن ، ونشر ما قيل فيه بجريدته ، وهو يعلم أنها تحت الوصاية البريطانية
والتي لا تنافي الاستقلال عنده بل تقتضيه.
***
طور آخر وتصريح جديد
بعد هذا نشرت جريدته في العدد 732 الذي صدر في 19 ربيع الأول سنة
1342 مقالاً ، ذكرت فيه أنه صرح لبعض الحجاج من البلاد العربية المختلفة بما
يدل على اعتراف بخطئه ، فيما صرح به في أول شوال وما كتبه بمعناه لأهل
فلسطين ، وهو كسائر كلامه المتعارض أو المتناقض وهذا نصه:
(يهمني من جميع البلاد العربية ما يهمني من أمر بيت الله الحرام ، وقد عرضت
على الحكومة البريطانية معاهدةً ، وجدت في بعض موادها ما لم يتفق مع العهود
المقطوعة لي ، التي تأسست عليها أعمال النهضة ، فعدلت تلك المعاهدة تعديلاً هامًّا
نصصت فيه على استقلال فلسطين استقلالاً مطلقًا ، يخول للفلسطينيين إدارة بلادهم
بأنفسهم ، واختيارهم طريقة الحكم التي يريدونها ، وبذلك جعلت وعد بلفور في حكم
أنه لم يصدر، وقضي عليه بالموت ، وفوق ذلك فإنني طلبت في التعديل أنه بعد عقد
المعاهدة ، يؤمر المندوب السامي بفلسطين أن يصرح - بحضور مندوب من قبلي
أمام ممثلي فلسطين - باستقلال الأقطار الفلسطينية استقلالاً تامًّا مطلقًا ، ودخولها
صراحةً في الوحدة العربية طبقًا للعهود البريطانية المقطوعة لي، وأؤكد لكم أنه إذا
لم تقبل الحكومة البريطانية التعديلات التي طلبتها ، فلا يمكن أن أوقع على المعاهدة
بل أرفضها رفضًا باتًّا ، وكونوا على ثقة أنه لا يمكن أن يذهب شبر من أراضي
فلسطين وأنا وأولادي أحياء على وجه الأرض ، فإنا نحافظ على أحقر قرية في
فلسطين محافظتنا على بيت الله الحرام ، ونريق في سبيل ذلك آخر نقطة في دمائنا،
وعلى كل حال فإنني بعد انتهاء أمر المعاهدة ، سأحضر بنفسي إلى أطراف تلك
البلاد ، فإذا ورد جواب لندن على مطالبي بالإيجاب ، أستشيركم في طريقة الحكم
التي تريدونها ، وإذا ورد جوابها بالسلب ، أستشيركم فيما يجب عمله ، وإني أسير
معكم على ما تتفقون عليه، وكونوا على ثقة أنني أنظر إلى أهل فلسطين نظري
إلى أولادي ، ولا أفرق في ذلك بين مسلم ومسيحي ويهودي وطني ، ومن يرجع
من الصهيونيين عن أطماعه البلفورية، وإنني أشهد الله على ذلك، وهو حسبي ونعم
الوكيل) اهـ.
وسنبين غرضه من هذا التصريح عند ذكر نتيجة هذه الوثائق كلها.
***
الجناية الثانية عداؤه لأمراء جزيرة العرب
وتعريضه الحرمين الشريفين للغزو والقتال
لو شئنا لأتينا بوثائق كثيرة من جريدة القبلة ، تثبت هذه الجناية كالمنشورات
الرسمية الصادرة باسم الملك حسين في الطعن بدين أهل نجد وتكفيرهم ، وزعمه
أنه يجب على ولي أمر المسلمين يعني (نفسه) عقابهم الذي يقتضيه الشرع؛ أي:
قتالهم قتال أهل الردة ، وغير ذلك من التحرش بهم والتصريح بعداوتهم ،
والاستعداد لقتالهم والاعتداء عليهم بالفعل: (كمنشور 9 شوال سنة 1336 الذي
نشر في عدد 202 من جريدة القبلة المؤرخ 24 منه - والمنشور الذي نشرته في
غرة ربيع الأول سنة 1337 - والمنشور الذي نشرته في 8 جمادى الأولى سنة
1337) وكالتصريح بغزوه لبلاد عسير بعد وفاة السيد محمد الإدريسي بالقوة
الحربية والفتح الهاشمي ، ولكنا نستغني عن إيراد النصوص في ذلك من أعداد
جريدته ، بالتصريح الأخير الذي بين فيه ما كان يكتمه من معنى الوحدة العربية
عنده ، وهو إخضاع جميع أمراء جزيرة العرب لملكه ، وما يراه من تقسيم البلاد
وإدارة حكومتها بالقوة القاهرة، وهو الوثيقة الخامسة.
***
الوثيقة الخامسة
التفسير الرسمي للوحدة العربية
جاء في صدر العدد 737 من جريدة القبلة الذي صدر بمكة المكرمة في 6
ربيع الآخر سنة 1342 (بيان عام من اللجنة التنفيذية لمؤتمر الجزيرة) بإمضاء
رئيس لجنتها التنفيذية (محمد بن علوي) جعل عنوانه (هذا بلاغ للناس) وذكر
فيه أن اللجنة تشرفت بالمثول بين يدي الملك حسين للوقوف على ما وصلت إليه
القضية العربية ، فصرح لها بأمور أهمها عندنا: تفسيره للوحدة العربية التي ملأ
الدنيا تنويهًا بها ، وانخدع كثير من العرب الذين يصدقون دعايته ، بأنها هي التي
تؤلف بين العرب وتوحد قوتهم - كما انخدعوا بمؤتمر الجزيرة الذي يستخدمه في
ذلك، فتبين الآن من هذا التفسير أن هذه الوحدة عين الفرقة وأنه لا غرض له من
هذه الدعاية إلا إذلال العرب والاستيلاء عليهم بقوة الأجانب الحامين له، وطالما
بين الناصحون العارفون هذا قولاً وكتابةً - ولا سيما المنار - فارتاب في نصحهم
الخادعون والمخدعون وعدوه عداوةً شخصيةً له، حتى صدقهم الملك حسين نفسه،
وهذا نص تصريحه بحروفه:
(إن نهضتي عندما آن أوانها الذي قضت به قدرته جل شأنه ، قبل خلق
العالم وكرتنا بما فيها من موجوداتها قد رسمتها على الأساس الآتي: وهو وحدة
البلاد العربية واستقلالها ، بحيث تكون خارجيتها وعسكريتها وسياستها العامة واحدة
أما داخليتها فالإمارات المعروفة بجزيرة العرب تكون على ما كانت عليه قبل
الحرب ، وإن كل أمير في أي أمارة من هذه الإمارات الموروثة لهم من آبائهم
وأجدادهم ، يستقل بداخليته ضمن الحدود التي كانت عليها إمارته قبل الحرب،
بشرط أن يرتبط مع المجموع الذي كل من خرج عنه منهم أو شذ بالخروج عن
الجامعة العربية يحكم عليه المجموع بمقتضى قوله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي حَتَّى
تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} (الحجرات: 9) . وأما ما كان خارجًا عن حدود تلك الإمارات
، سواء كانت تلك الإمارات قائمة بذاتها ضمن حدودها ، أو طرأ عليها الاغتصاب
كعسير قبل الحرب وابن رشيد بعد الهدنة ، فلا بد من عودتهم إلى ما كانوا عليه
كعودة الإمام يحيى إلى صنعاء فيكون أمرها (أي: تلك المقاطعات بما فيها الحجاز
الخارجة عن حدود تلك الإمارات) منوطًا برأي عموم أهاليها ، يعينون رياساتها
وكيفية تشكيلاتها ، وإداراتها بالشكل الذي يستنسبونه بشرط المحافظة على الوحدة
والارتباط ، وهي القاعدة التي ذكرتها آنفًا) .
وهنا تبرأ مما هو محسوس ومشهود من تهالكه على طلب الرياسة له
ولأبنائه ثم قال:
(وإنني أمقت التداخل الأجنبي وسياسة الاغتصاب ، والاعتداء في داخلية
الجزيرة مما هو مشهود من اغتصاب بعض الأمراء لإمارة إخوانه ، فإنني أجده
من أكبر الفظائع أمام حِسِّيَّاتي المذكورة؛ إذ إن النهضة ومؤسساتها هي لحفظ حقوق
الجميع وليست لتمييز فريق على فريق ، (إلى أن قال بصدد هذا الاعتداء الذي سماه
أجنبيًّا) : (ولذلك فهذه هي الخطة التي عليها نحيا وعليها نموت وعليها نبعث إن
شاء الله من الآمنين ، لذا فلا بد من إعادة آل رشيد وآل عايض إلى إمارتهم
وحدودهم وقبائلهم التي كانوا عليها ، إعادة كل أمير من أمراء الجزيرة إلى ما كان
عليه قبل الحرب ، وإني لثابت (بقدرة الله تعالى) على هذا الحس والشعور أمام
التجاوزات الأجنبية ، إذا أصر أربابها على مطامعهم الحاضرة ، المخالفة لمقرراتهم
(الصواب لمقرراتنا) التي تأسست عليها النهضة ، والمخالفة لكل عدل حتى لما
جاهروا به من بعد ومن قبل ، هذا الذي أدين الله عليه ولو لم تبقَ إلا ذاتي وحياتي
لأنفقتها في هذا السبيل ، لا أريد بذلك جزاءً ولا شكورًا إلا خدمة العرب خاصةً
والإسلام عامةً ، والأعمال بالنيات (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) اهـ.
هذا نص ألفاظ الملك حسين حتى إننا لم نصحح كلمة (لمقرراتهم التي
تأسست عليها النهضة) مع القطع بأن لفظ لمقرراتهم غلط من المطبعة ، أو سبق
لسان أو قلم منه لأن (مقررات النهضة) له لا لأولئك الأجانب في عرفه وهم
أمراء العربية. ويتلخص هذا التصريح بالأمور الآتية:
(1)
جعل جميع البلاد العربية (وهو يسمي نفسه ملكها) دولة واحدة ،
تكون سياستها الخارجية وعسكريتها وإدارتها العامة واحدة.
(2)
تغيير شكل إمارات جزيرة العرب الحاضرة بانتزاع بلاد حايل وعشائر
شمر من سلطنة نجد ، وإعادتها إلى آل الرشيد - وانتزاع بلاد عسير التي كانت
لآل عايض من سلطنة نجد ، وإمارة الإدريسي وإعادتها إليهم - وانتزاع إقليم
الحديدة من الإدريسي ، وجميع ما بيد الإمام يحيى ، مما كان للدولة العثمانية من بلاد
اليمن ، واستشارة أهل هذه البلاد كالحجاز في شكل الإدارة التي يحبون أن تكون
في بلادهم ، واختيار رؤسائها في ظل وحدته.
(3)
إعطاء إمارات الجزيرة الموجودة الموروثة حق الإدارة الداخلية ،
بشرط الخضوع لملك العرب العام ، واتباعه في السياسة الخارجية والعسكرية
والإدارة العامة.
(4)
أن من يأبى الخضوع لما تقدم يعد خارجًا عن أمر الله وحدود دينه ،
فيقاتل قتالاً دينيًّا ، حتى يرجع إلى أمر الله (يعني: أمره هو بما ذكر؛ إذ لم يأمر
الله بذلك) .
(5)
أن هذه الوحدة بهذه الصورة الدينية مبنية على مقررات النهضة
المتضمنة لحماية الدولة البريطانية لجميع البلاد العربية.
(6)
أن هذه الكليات الخمس عقيدة دينية للملك حسين يدين الله بها ، فلا
يرجع هو ولا أولاده عنها ، ولو لم تبقَ إلا ذاته وحياته لأنفقها في سبيل تنفيذها.
ولا يخفى أن هذا التصريح الرسمي يتضمن جعل هذه الإمارات كلها في حالة
حرب معه، فعلى أي قوة يعتمد في هذا؟ وهل هو مغرور في اتكاله على نجابة
(الحسيات البريطانية) هذه المرة كما انخدع من قبل ومن بعد على ما نقل عنه
المغرورون بأقواله، أم هو على ثقة من إنجاز وعدها له؟ أم هو متكل على بعض
أهل شرق الأردن وسوريا وفلسطين الرازحين تحت أوزار الوصاية البريطانية
والفرنسية ، لا يملكون من أمرهم شيئًا فيملكوا أن يعطوه قوةً حربيةً ، يقاتل بها أهل
نجد واليمن وتهامة ويخضعوهم لوحدته العربية، أو قوة دينية بمبايعتهم إياه بالخلافة
تخضع بها أمراء جزيرة العرب الثلاثة لأمره ونهيه ، معتقدين أن تلك المبايعة
جعلته إمامهم الشرعي؟ ؟ !
لقد كان أنصار الملك حسين وأولاده من مأجورين ومغرورين ، يزعمون أنه
هو الزعيم الوحيد الذي وجه عنايته للوحدة العربية ، التي لا رجاء في حياة الأمة
العربية وحفظ استقلالها بدونها ، على حين يتقاتل الإمام يحيى والسيد الإدريسي
على حدود بلادهما؛ طمعًا في ربح كل من الآخر ويقاتل السلطان ابن سعود الأمير
ابن الرشيد فيضم بلاده إلى إمارته ، ويعتدي أحيانًا على حدود الحجاز (قالوا) :
فإذا كان الملك حسين هو الساعي إلى الاتفاق الذي يجمع كلمة الجميع ، فيجب على
كل عربي مخلص لأمته أن يشد أزره ، ويجاهد تحت لوائه ويغفر له ما أَلَمَّ أو يُلِمُّ به
من سيئة بإزاء هذه الحسنة الكبرى ، التي هي أم الحسنات ويؤاخذ أولئك الأمراء
حتى على الهفوة، لأنها تؤيد أكبر الكبائر وهي الفرقة.
وكان أهل البصيرة من واضعي أساس الجامعة العربية وغيرهم يقولون
لهؤلاء: إننا كنا ظننا كما ظننتم أن الرجل يريد جمع كلمة العرب على أساس
قاعدتنا المعقولة ، التي أظهر هو وأولاده الموافقة لنا عليها، وهي تحالف أهل
البلاد المستقلة المسلحة على حفظ الاستقلال، والتعاون على عمران البلاد، وتأليف
مجلس تحكيم لحل مسائل الخلاف، والتوسل بهذه الوحدة الحلفية، إلى الوحدة التامة
التي سبقتهم إلى مثلها الشعوب القوية. ثم علمنا بالاختبار الدقيق له، والاطلاع
على أسس نهضته، إنه إنما يسعى لقتل الأمة العربية وهدم استقلالها بمساعدة
الدولة البريطانية ، على ضمها إلى إمبراطوريتها المرنة ، على أن تجعله ملكًا على
البلاد كلِّها تحت وصايتها وحمايتها (كما تقدم في الوثائق السابقة) ، ومن امتناعه
المرة بعد المرة ، عن إجابة ما دعاه إليه مؤسسو الجامعة العربية ، من عقد التحالف
مع أمراء الجزيرة على قاعدتهم التي ذكرت آنفًا ، وكان من أعوانهم لديه على ذلك
ولداه عبد الله وفيصل ، والشواهد والوثائق والدلائل على هذا كثيرة ، أشرنا إلى
بعضها في أول الكلام على هذه الجناية، ولم يبقَ للاستدلال بها حاجة، فقد قطعت
جهيزة قول كل خطيب - أقر الخصم وارتفع النزاع -
كان الملك حسين في أول العهد بالثورة ، يظهر لمؤسسي الجامعة العربية
ودعاة وحدتها موافقتهم على رأيهم ، ويرجئ إجابة دعوتهم ويسوف فيها ، حتى لا
يرتابوا فيه ويعرقلوا عمله ، على حين كان يصرح لمن يعتقد أنهم يخدمونه في
اتفاقه مع الإنكليز ، على استعباد الأمة العربية قائلاً: من هؤلاء الكلاب حتى أتفق
معهم؟ اليوم يوجد في الدنيا ابن سعود ، وغدًا لا يكون في الدنيا ابن سعود، اليوم
يوجد في اليمن إمام مطاع، وفي تهامة إدريسي مملك وغدًا لا يبقى في البلاد غير
ملك واحد وإمام واحد ـ أو ما هذا مآله كما نقله المنار الصادق مرارًا ـ وكان
…
المأجورون والمغرورون يكابرون وينتقدون ، وقد انقطعت اليوم جميع الألسنة
الخادعة والمخدوعة ، التي كانت تكثر اللفظ في تولية الرجل زعامة العرب وتسميته
بملك العرب والبلاد العربية، على تلك القاعدة الكاذبة الريائية.
وقد صرحت إحدى جرائد هذا الحزب بخطته في هذه الأيام ، في سياق بث
الدعوة لزيارته لأطراف سوريا وهي الجريدة التي يعبر عنها في جريدته (القبلة)
بقوله: (لسان حال أقوامنا) وهي تصدر في القدس بماله وما يفيضه عليها ولده
الأمير عبد الله ، ومال الدولة البريطانية التي صرح أحد رجالها بأنهم جعلوها
(مقطم فلسطين) فقد نشر صاحبها مقالة افتتاحية في العدد 465 الذي صدر في 21
جمادى الأولى ، موضوعها (القضية العربية جزيرة العرب ركنها وقوتها) تكلم
فيها على صلابة أهل الجزيرة وقوتهم، وضعف أهل سوريا والعراق ، وسهولة
تغلب خصوم القضية العربية عليهم دون أهل الجزيرة.
ثم بين أن (في الجزيرة ثلاث قوات يجب إحلالها محلها اللائق بها من رعاية
العرب واهتمامهم هي: قوة سلطان نجد ، وقوة إمام اليمن (قال الكاتب) : وكل
منهما ارتجاعية متأخرة، وقوة الحجاز وما يتبع الحجاز من البلاد كالعراق
والشرق [5] ثم صرح بأن الحجاز دون نجد واليمن قوة عسكرية. (قال) : ولكنه
يفوقهما بطشًا واستعدادًا ، إذا ألحقنا به الشرق والعراق فعرب سوريا والعراق
وفلسطين ، يميلون بمصلحتهم وتربيتهم وأخلاقهم وصلتهم؛ لتأييد ملك الحجاز في
سعيه وعمله) .
ثم ذكر أن الجزيرة صارت بعد خروج الترك منها تحت رحمة الحكومات
الثلاث، وأن حكومة نجد توسعت بإزاحة إمارة ابن الرشيد ، وحكومة اليمن
توسعت في الجنوب حتى حضرموت، وأن حكومة الحجاز واقفة موقف المعارضة
لكل منهما ، ولكنها لا تستطيع أن تعمل شيئًا لحاجتها إلى تكوين الاتحاد العربي من
الحجاز والشرق والعراق ، (قال) : (ففي نجد وحدة مكونة، وفي اليمن كذلك،
وأما الوحدة الثالثة أو الاتحاد الثالث فلا يزال في دور التكوين ، ولا يعلم أحد متى
يتم؟ وكيف يكون؟
(قال) : (والذي نراه هو أن حكومات هذا الاتحاد ستقف موقفًا صعبًا أمام
حكومتي الجزيرة في اليمن ونجد ، فلا هي تستطيع التغلب عليهما وإرجاعهما عن
مطامعها إلى الحق والصواب ، ولا يوافقها القبول بما تم؛ لأنه يساعد على اختلال
التوازن في الجزيرة ، وإيجاد عهد حروب ومشاغبات فيها ، وكل حكومة عربية
(مستقلة) تنشأ في سوريا أو العراق ، ولا تتكل على دولة من الدول الأوربية تظل
ضعيفةً مهددةً في حياتها الداخلية ما بقيت نجد في قلق ، ثائرة على كل ما نسميه
نحن نظامًا، وبقيت اليمن في حالتها الحاضرة) اهـ.
هذا بيان صحيح لما يقصده الملك حسين من الوحدة العربية؛ لضرب العرب
واخضاعهم للاستعمار الأوربي ، الذي يظل مهددًا في العراق وسورية ، ما دامت نجد
واليمن قويتين هذا سبب تحبيذ صاحب هذه الجريدة له ، وهو خادم للأجانب ليس
مسلمًا فيغار على الحرمين الشريفين ، ولا من عرق عربي فيغار على العرب وقد
خانهم وغشهم رجال من أشهر بيوتاتهم ، وإنما الذي نخشاه أن ينخدع بعض أهل
بلادنا السورية باسم الوحدة العربية الذي يميلون إليه ، ويريدون منه غير ما يريده
الملك حسين. أما وقد ظهر لهم ما يريده فلن ينال من أحد ذي قيمة منهم تأييدًا ، ولا
تفويضًا ولا مبايعة لسحق قوة العرب (بالاتكال على دولة أجنبية) .
لم يبقَ بعد هذا التصريح الرسمي مجال لحزب مذبذب ، يخدع الناس بقول
الملك حسين باستقلال العرب والوحدة العربية، بل أصبحت الأمة العربية حزبين لا
ثالث لهما: حزب الجامعة العربية الذي يسعى للوحدة العربية ، من طريق عقد
التحالف والتأليف بين الأمراء ، بإقرار كل منهم في بلاده؛ لوقاية البلاد من
المطامع الاستعمارية الغربية ، والتمهيد للاتحاد الاختياري مع التعاون الودي بين
العرب وسائر الشعوب الشرقية، والحزب الشريفي الاستعماري ، الذي يسعى
لإرغام جميع أمراء العرب بالقوة الحربية على التابعية (لملك العرب) بتسليمه
أزمة السياسية الخارجية والقوى العسكرية والإدارة العامة، في ظل السيادة
والوصاية البريطانية.
ومن المعلوم بالضرورة لجميع المشتغلين بالسياسة ، وأولي الإلمام بحال البلاد
العربية أن الملك حُسَيْنًا الذي وضع هذه الخطة من اليوم الأول الذي تصدى فيه
للمسألة العربية ، لا يملك القوة التي يرغم بها أمراء جزيرة العرب عليها ، وأنه
ليس أمامه قوة يعتمد عليها إلا قوة الدولة البريطانية ، وأنه لأجل هذا جعل ما يسميه
النهضة العربية مبنيًّا على أساس الخضوع للسيادة والوصاية البريطانية، فلأجل
هذا سَمَّيْنَا هذا الحزب (الشريفي الاستعماري) ويصح أن يسمى البريطاني؛ أي: الذي يسعى من حيث يدري زعماؤه ويجهل دهماؤه ، إلى جعل الحجاز
وسائر جزيرة العرب كالعراق ، وفلسطين ، وشرق الأردن تحت الوصاية
البريطانية، ويتبع ذلك بقاء سائر سوريا تحت الوصاية الفرنسية أيضًا لاتفاق
الدولتين على ذلك ، وعلى تسميته استقلال.
(له بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
أي: لا يقطع شجره ويقلع حشيشه إلا ما رخص فيه النبي من قلع الإذخر ، لوضعه على الموتى عند الدفن وهو نبات طيب الرائحة.
(2)
توهم واضع هذا القيد أنه احترس به عن جعل الاحتلال دائمًا جهلاً منه باحتلال مصر ، وبأنه لا يمكن له ولا هي تمكنه من إتمام ما ذكر.
(3)
يعني: سلطان نجد؛ إذ كانت التيمس قد أثنت في ذلك العدد عليه.
(4)
هذه الكلمة من الاصطلاحات التركية ، وهي بمعنى أولي الأمر والمراد هنا: الحكومة الإنكليزية؛ لأنها في عرف ملك الحجاز ولية أمر الحجاز ، وسائر العرب والوصية عليهم كما سيأتي.
(5)
من المعلوم قطعيًّا أن العراق وشرق الأردن غير تابعين للحجاز في شيء من أمر الحكومة ، فالمراد: أنهما تتبعانه في قتال أهل نجد واليمن ، وتذليلهما وهذا إنما يكون إذا أمرت به الحكومة البريطانية ، فهل جاء وقته عندها؟ .
الكاتب: محمد أمين الحسيني
تحديد سن الزواج بتشريع قانوني
صدر في أوائل هذا الشهر قانون مصري ، حددت فيه سن الزواج للذكر
بثماني عشرة سنةً ، وللأنثى بست عشرة سنةً ، ومنع فيها سماع القضاة أية دعوى
زوجية ، تقل فيها سن أحد الزوجين عن هذا الحد مطلقًا؛ أي: وإن كانا بالغين
رشيدين.
وقد بني هذا التشريع على قول فقهاء الحنفية ، بجواز تخصيص القضاء في
الزمان والمكان ونوع الأحكام ، بفتوى من مفتي الديار المصرية شيخ الجامع
الأزهر، فاضطرب القطر المصري بهذا القانون أي اضطراب؛ أنكره جمهور
فقهاء الأزهر وما يتبعه من المعاهد الدينية ، فيما يظهر لنا من كلامهم ومن المقالات
التي نشرت في الجرائد، وحسنه وانتصر له الشيخ محمد الخضري بك فرد عليه
بعضهم، وقد سألنا كثير من الفضلاء عن رأينا فيه فبينا لهم أهم ما فيه من المفاسد
الراجحة، وما قصد به من المصلحة المرجوحة، وكون الحكومة العثمانية قد سبقت
الحكومة المصرية إلى مثل هذا التحديد منذ بضع سنين ، فوضعته في مشروع
قانون سموه (قرار حقوق العائلة في النكاح المدني والطلاق) وصدرت إرادة
السلطان محمد رشاد في 8 المحرم سنة 1336 ، بأن يعمل به على أن يكلف
المجلس العمومي (أي: المبعوثين والأعيان) جعله قانونًا ، وذكرت لهم أن ما
وضعه العثمانيون خير مما وضعته الحكومة المصرية وأضمن للمصلحة ، وأبعد
عن المفاسد الكثيرة التي يستلزمها القانون المصري ، ومنها ما هو محرم بالنص
والإجماع، وذكرت لهم بعض المسائل ،وضربت الأمثال وقد تكرر الاقتراح علي
بأن أكتب ما أراه في ذلك ، فرأيت أن أبدأ بما وضعته الحكومة العثمانية ، وهو ما
جاء في اللائحة التي جعلت مقدمة لمشروع القانون المذكور ، مبينة الأسباب
الموجبة له وهذه ترجمته بالعربية:
***
أهلية النكاح
(يرى الإمام أبو يوسف والإمام محمد رحمهما الله أن الذكور والإناث إذا
وصلوا إلى الخامسة عشرة من سني حياتهم ، ولم تظهر عليهم آثار البلوغ يعدون
بالغين حكمًا ، بناء على الغالب والشائع ، وتكون عقودهم معتبرة ، وكذلك الإمام
مالك والإمام الشافعي والإمام أحمد رحمهم الله تعالى كلهم رأوا ذلك. وقد بنيت
المادتان 986 و 987 من المجلة على قول هؤلاء) .
(نعم إن الذين يبلغون الخامسة عشرة من سني حياتهم ، يكونون في الأكثر
بالغين، وقد يوجد فيهم من هم غير بالغين بالفعل؛ أي: إن قواهم البدنية لم تكمل
بعد، فجعل هؤلاء تابعين للأكثرية ومنحهم حقوقًا لا يقدرون على تحملها ، يستلزم
تحميلهم وظائف وواجبات مقابل تلك الحقوق تؤدي في العاقبة إلى ضررهم. وإذا
علمنا أن الشرع الشريف مع إنه اعتبر الخامسة عشرة غاية البلوغ ، لم يستعجل في
إعطاء الصغير ماله عند بلوغه ، بل منعه من التصرف فيه إلى أن تظهر عليه
علائم الرشد والسداد؛ نعلم أنه يتأنى في تحميل الصغار حقوقًا ووظائفًا. والنكاح لا
يقاس على المال؛ لأنه الرابطة لتكون الأسر التي هي أجزاء الجمعية البشرية.
وكلما كانت الأفراد التي تتألف منها الأسرة تقدر حقوق الزوجية حق قدرها ،
تكون الأسرة التي تتألف منها قوية ، ويكون ارتباطها مع الأسر الأخرى صميميًّا
ومتينًا، فاعتبار الصغار بالغين حكمًا لمجرد إكمالهم الخامسة عشرة ، ومنحهم حق
الزواج يستفاد منه أنه لم ينظر إلى النكاح بالعناية اللائقة به.
والذي يستدعي مزيد الرحمة في هذه المسألة هو حالة البنات؛ إذ من المعلوم
أن الزوج والزوجة هما مشتركان في تأليف الأسر (البيوت) وإدارتها ، ففي السن
التي يكون الأطفال فيها معذورين بإضاعة أوقاتهم باللعب في الأزقة ، تكون البنت
في مثلها مشغولة بأداء وظيفة من أثقل الوظائف في نظر الجمعية البشرية ، وهي
كونها والدة ومدبرة أمور أسرة. وإن صيرورة بنت مسكينة لم يكمل نموها البدني
أُمًّا يضعف أعصابها إلى آخر العمر ، ويكسبها عللاً مختلفةً ، ويكون الولد الذي تلده
ضاويًا (ضعيفًا هزيلاً) مغلوبًا للمزاج العصبي ، وذلك من جملة أسباب تدلي
العنصر الإسلامي.
على أن ابن عباس رضي الله عنهما وتابعيه يقولون: إن سن البلوغ هي
الثامنة عشرة ، كما أن بعض أجلة الفقهاء يذهبون إلى أنها الثانية والعشرون ، بل
يوجد بينهم من يقول: إنها الخامسة والعشرون ، والإمام الأعظم رحمه الله قد اعتمد
تمام الثامنة عشرة نهاية لسن البلوغ في الذكور ، وتمام السابعة عشرة نهاية لسن
البلوغ في الإناث احتياطًا وتبعًا لابن عباس رضي الله عنهما، لذلك قبل قول الإمام
المشار إليه هذا في النكاح ، ووضعت المادة الرابعة [1] على هذا الأساس؛ منعًا
لهذه الأحوال التي هي من أعظم مصائب مملكتنا.
(وهذا نصها) :
المادة 4- يشترط في أهلية النكاح أن يكون الخاطب في سن الثامنة عشرة
فأكثر ، والمخطوبة في سن السابعة عشرة فأكثر.
وقد قبل قول الإمام محمد رضي الله عنه باشتراط رضاء الولي في نكاح
المراهقة ، التي تدعى أنها بالغة وتريد أن تزوج نفسها من آخر، وتعليق الإذن لها
بالزواج على إجازة الولي، وقوله بإعطاء الحاكم حق النظر في تحمل المراهق
والمراهقة ، اللذين يريدان التزوج ويدعيان أنهما بالغان ، أو عدم تحملهما للزواج،
كما قرر ذلك جميع الأئمة رضوان الله عليهم، وبنيت المادتان الخامسة والسادسة
على هذا الأساس (وهذا نصهما) :
المادة 5 - إذا ادعى المراهق الذي لم يتم الثامنة عشرة من عمره البلوغ
فللحاكم أن يأذن له بالزواج إذا كانت هيئته محتملة.
المادة 6 - إذا ادعت المراهقة التي لم تتم السابعة عشرة من عمرها البلوغ
فللحاكم الشرعي أن يأذن لها بالزواج ، إذا كانت هيئتها أيضًا محتملة ، ووليها أذن
بذلك.
***
تزويج الصغير والصغيرة
إن الأئمة الأربعة رضوان الله عليهم أجازوا للولي تزويج الصغير والصغيرة ،
ولذلك كانت المعاملة حتى الآن جارية على هذا الوجه ، لكن تبدل الأحوال في
زماننا ، قد اقتضى العمل بأصول أخرى في هذا الباب.
إن أول وظيفة تترتب على الأبوين في كل زمان ، وخاصة هذا الزمان الذي
اشتد فيه التنازع في شؤون الحياة هي: تعليمهم ، وتربيتهم ، وإيصالهم إلى حالة
تكفل لهم الظفر في معترك الحياة ، وتمكنهم من تأليف أسرة منتظمة ، ولكن الآباء
عندنا في الغالب يهملون أمر تعليم أولادهم وترببتهم ، ويخطبون لهم الزوجات وهم
في المهد ، بقصد أن يسروا بهم أو يكسبوهم ميراثًا ، وفي النتيجة يزوج أولئك
التعساء قبل أن يروا شيئًا من الدنيا ، وتكون أعراسهم أساس مصائبهم الآتية.
إن أكثر البيوت التي يؤلفها أمثال هؤلاء الأولاد ، الذين لم يدرسوا في مدرسة
ولا تعلموا كلمة واحدة من أمور دينهم ، فضلاً عن عدم تعلمهم قراءة لغتهم وكتابتها
يحكم عليها بالتفرق من أول شهور الزفاف كالجنين الذي يولد ميتًا. وهذا أحد
الأسباب في وهن أساس البيوت عندنا، ولا يعرف مقدار الدعاوى المتولدة من مثل
هذه الأنكحة إلا بالنظر في سجلات المحاكم الشرعية والرجوع إلى أبواب الكتب
الفقهية ، وفصولها المتعلقة بتزويج الأب والجد صغيرهما، وتزويج غير الأب والجد
من الأولياء الصغير، وما أعطي للصغير والصغيرة من حق الخيار عند البلوغ
إذا كان المزوج غير الأب والجد.
على أن ابن شبرمة وأبا بكر الأصم رحمهما الله يقولان بأن الولاية على
الصغار مبنية على منافعهم، وفي الأحوال التي لا يحتاج فيها إليها: كقبول
التبرعات مثلاً لا يكون لأحد فيها حق الولاية عليهم ، وتزويجهم ليس فيه من فائدة
لا طبعًا ولا شرعًا نظرًا لعدم احتياجهم إليه ، لذلك لا يجوز تزويجهم قبل البلوغ من
قبل أحد ألبتة. وقالا: إن النكاح ليس بشيء مؤقت ، بل هو عقد يدوم ما دامت
الحياة ، فإذا جعل النكاح الذي يعقده أولياء الصغار نافذًا عليهم ، فإن آثاره وأحكامه
تستمر بعد بلوغهم أيضًا ، في حين أنه لا يجوز لأحد أن يقوم بعمل يسلب منهم
حرية التصرف بعد البلوغ ، وحيث إن التجارب المؤلمة المستمرة منذ عصور قد
أيدت قول الإمامين المشار إليهما ، فقد قبل رأيهما في هذه المسألة ، ووضعت المادة
السابعة على هذا الوجه (وهذا نصها) :
المادة 7 - لا يجوز لأحد أن يزوج الصغير الذي لم يتم الثانية عشرة من
عمره ، ولا الصغيرة التي لم تتم التاسعة من عمرها.
***
تزويج الكبيرة نفسها
إن الكبيرة قادرة على تزويج نفسها بناءً على المذهب المختار ، وإنما للولي
حق الاعتراض في أحوال محدودة. على أن إزالة أمثال تلك العوارض قبل النكاح
أولى من فسخه بعد تكوين الأسرة ، باعتراض الولي ، وأوفق لمصلحة الطرفين ،
وفي المذهب المالكي أن الكبيرة إذا رفعت أمرها إلى الحاكم تطلب تزويج نفسها من
آخر؛ فعليه أن يتعرف حالها من الجيران، وإذا كان وليها موجودًا يأخذ رأيه في
ذلك، فإذا رأى أن الاعتراضات التي يوردها الولي غير واردة ، يعين وكيلاً لتزويج
تلك البنت ، وفي الحقيقة أن إخبار الولي واستطلاع رأيه على هذه الصورة يدفع
المحذور المذكور، ولذلك استحسن إخبار الولي عند مراجعة الكبير الحاكم لأجل
الإذن ، ووضعت المادة الثامنة على هذا الأساس (وهذا نصها) :
المادة 8- إذا راجعت الكبيرة التي لم تتم السابعة عشرة الحاكم بقصد التزوج
بشخص ، يخبر الحاكم وليها بذلك ، فإذا لم يعترض الولي أو كان اعتراضه غير
وارد ، يأذن لها بالزواج.
(المنار)
هذه ما قررته الحكومة العثمانية في المسألة كما تقدم في فاتحة هذا البحث،
وورد في الصحف أن حكومة أنقرة التركية عادت إلى البحث في هذا القانون ،
وأبقت المواد التي ذكرناها على ما كانت عليه.
وأما الحكومة المصرية فقد أصدرت ثلاث مواد قانونية ، حددت فيها سن
الزواج بمثل الباعث الذي بعث الحكومة العثمانية إلى تحديدها ، ولكنها زادت على
ذلك منع سماع أي دعوى تتعلق بالزوجية ، إذا كانت سن الزوجين دون ما حددته
إلا بأمر خاص من الملك ، فكان هذا مثار القيل والقال والإنكار من رجال الشرع
كما تقدم، وها نحن أولاء ننشر نص هذه المواد ، ونص المذكرة التي وضعها
بعض رجال المحاكم الشرعية في مدركها الشرعي، ووافق عليه مفتي الديار
المصرية وشيخ الجامع الأزهر ، ثم نقفي على ذلك بما ينبغي بيانه في الموضوع:
***
نص قانون الزواج (رقم 56)
الذي وضعته الحكومة المصرية
المادة الأولى:
يضاف على المادة 101 من القانون نمرة 31 سنة 1910 فقرة رابعة نصها:
(ولا تسمع دعوى الزوجية ، إذا كانت سن الزوجة تقل عن ست عشرة سنة
وسن الزوج تقل عن ثماني عشرة سنة وقت العقد إلا بأمر منا) .
المادة الثانية:
يضاف على المادة 366 من القانون سالف الذكر فقرة ثانية نصها: (ولا
يجوز مباشرة عقد الزواج ، ولا المصادقة على زواج مسند إلى ما قبل العمل بهذا
القانون ، ما لم تكن سن الزوجة ست عشرة ، وسن الزوج ثماني عشرة سنة وقت
العقد) .
المادة الثالثة:
على وزير الحقانية تنفيذ هذا القانون ، ويسري العمل به بعد ثلاثين يومًا من
تاريخ نشره في الجريدة الرسمية [2] .
***
صورة المذكرة الملحقة بهذا القانون
مما اتفقت عليه كلمة علماء الفقه الإسلامي أن الصغير والصغيرة غير
العاقلين ، إذا باشرا عقد الزواج فالعقد باطل لا يقبل الإجازة ، لا من وليهما ولا
منهما بعد البلوغ، وهذا من بديهيات التشريع؛ لأن أي عقد سواء كان عقد زواج
أم غيره ، يعتمد فهم المقصود منه، فما لم يكن متوليه من أهل الفهم فهو عمل لغو
وعبث.
كذلك مما اتفقت عليه علماء الحنفية ، أنه بعد بلوغ الصغير والصغيرة ليس
لأحد ولاية إجبار عليهما في عقد الزواج؛ لأن البلوغ آية الرشد واستكمال العقل ،
وقد كانت الولاية عليهما؛ لضرورة قصورهما عن الاهتداء إلى الصالح في
شؤونهما ، وبالبلوغ زال هذا القصور فيزول ما كان لضرورته.
وقد اختلف علماء الفقه الإسلامي في صحة عقدهما ، إذا بلغا سن التمييز قبل
أن يبلغا الحلم ، فمنهم من يرى صحة العقد موقوفًا نفاذه على إجازة الولي ، ومنهم
من يرى بطلانه وعدم توقفه ، كما إذا عقدا غير مميزين، وقال بالأول علماء
الحنفية ، وقال بالثاني علماء الشافعية.
واختلفوا أيضًا في صحة تولي الولي عقد زواجهما جبرًا عليهما قبل البلوغ ،
فمنهم من قال بصحته وعمم في الولي الذي له هذا الحق فجعله العاصب بترتيب
الإرث ، بل زاد بعضهم باقي الأقارب، ومنهم من قصره على الأب والجد ، ومنهم
من قصره على الأب فقط، وبعضهم قال بعدم صحة تولي العقد جبرًا عليهما من أي
شخص كان مستدلاً بقوله تعالى: {وَابْتَلُوا اليَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاح} (النساء:
6) فجعل حد بلوغ النكاح هو ما به يصلح لتولي شؤون أمواله ، وهو ما إذا
وصل إلى سن البلوغ رشيدًا ، وبقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تنكح اليتيمة حتى
تستأمر) واليتيمة هي القاصرة عن درجة البلوغ؛ بدليل قوله عليه الصلاة والسلام:
(لا يتم بعد الحلم) فقد نهى صلى الله عليه وسلم عن نكاح اليتيمة ، ومد النهي
إلى استئمارها، ولا تصلح لأن تستأمر إلا بعد البلوغ فكأنه قال: حتى تبلغ.
وللبلوغ أمارات كثيرة: أضبطها السن، وأقصى الأقوال في تقديره أنه سن
ثماني عشرة سنة ، وقد أخذ بهذا القول في الولاية المالية ، ولذا حددت سن الرشد
فيه ببلوغ السن المذكورة.
من هذا يعلم أن لبعض علماء الشريعة الإسلامية قولاً ، بأنه لا ولاية إجبار على
الصغير والصغيرة لأحد في عقد الزواج ، وأن سن البلوغ أقصاه ثماني عشرة سنة.
ومن حيث إن عقد الزواج له من الأهمية في الحالة الاجتماعية منزلة عظمى
من جهة سعادة المعيشة المنزلية ، أو شقائها والعناية بالنسل وإهماله ، وقد تطورت
الحالة المتبعة ، بحيث أصبحت تتطلب المعيشة المنزلية استعدادًا كبيرًا؛ لحسن
القيام بها ، ولا يستأهل الزوج والزوجة لذلك غالبًا قبل سن الرشد المالي ، فمن
المصلحة الواضحة منع الزواج قبله؛ لأنه إذا كان لا يباح لهما قبل بلوغ سن الرشد
المالي ، أن يتصرفا فيما قيمته دراهم معدودة ، مع أن الضرر المنظور محدود
وغير ملازم للحياة ، فلأن لا يباح لهما التصرف في أنفسهما بعقد الزواج وآثاره إن
خيرًا وإن شرًّا ، قد لا تزول طول حياتهما - أولى وأوجه.
كذلك لما كان عقد الزواج يرجع الأمر فيه أولاً إلى الزوجين ، وهما اللذان
يتأثران بنتائجه مباشرةً ، فإما أن يكونا به سعيدين ، وإما أن يكونا به شقيين ، فإن
الواجب أن يكون الخيار إليهما فيه ، وتراعى إرادتهما قبل كل إرادة ، وليس لإرادة
غيرهما إلا حق النصح والمشورة ، بحيث لا تعوقانهما عما يريان المصلحة لهما فيه
وكان من اللازم أن يناط سن الزواج بسن الرشد المالي ، بالنسبة لكل من
الزوجين ، ولكن لما كانت بنية الأنثى تستحكم وتقوى ، قبل استحكام بنية الصبي
وما يلزم لتأهل البنت لمعيشة الزوجية ، يتدارك في زمن أقل مما يلزم الصبي،
كان من المناسب أن يناط سن زواج الأنثى ببلوغ ست عشرة سنة ، والصبي ببلوغ
ثماني عشرة سنة.
هذا إلى أن المنصوص عليه شرعًا ، أن لولي الأمر ولاية تخصيص القضاء
بالزمان والمكان والحادثة ، فله أن يولي القضاء في زمن معين دون غيره ، وفي
مكان معين دون غيره ، وفي نوع من المسائل دون غيرها ، حتى لو قضى القاضي
فيما لم يوكل أمره إليه كان قضاؤه باطلاً. وله أيضًا أن يأمر بسماع الدعوى فيما
منع سماعها فيه ، وقد تدعو الضرورة إلى ذلك.
ومن حيث إن المصلحة واضحة فيما ذكر لما بيناه ، فلا مانع شرعًا من أن
يضاف على المادة 101 من القانون نمرة 31 سنة 1910 فقرة رابعة نصها:
(ولا تسمع دعوى الزوجية إذا كانت سن الزوجة تقل عن ست عشرة سنة ،
وسن الزوج تقل عن ثماني عشرة سنةً وقت العقد إلا بأمر منا) ، ويضاف على
المادة 366 من القانون سالف الذكر فقرة ثانية نصها: (ولا يجوز مباشرة عقد
الزواج ولا المصادقة ، على زواج مسند إلى ما قبل العمل بهذا القانون ، ما لم تكن
سن الزوجة ست عشرة سنةً ، وسن الزوج ثماني عشرة سنةً وقت العقدِ) ومرفق
بهذا مشروع التعديل المنوه عنه.
عبد السلام علي
…
...
…
طه حبيب
…
... عبد المجيد سليم
…
...
…
...
…
... مفتش المحاكم الشرعية
…
نائب محكمة بني سويف
…
نائب محكمة
…
الشرعية
…
مصرالشرعية
…
...
…
...
أوافق على أن مذهب الحنفية لا يمنع من ذلك ، لما نص عليه من أن القضاء
يتخصص بالزمان والمكان والحادثة.
…
...
…
...
…
...
…
عبد الرحمن قراعة
…
...
…
...
…
...
…
مفتي الديار المصرية
اطلعت على بعض كتب الحنفية ، فرأيت فيها أن لولي الأمر تخصيص
القضاء بالزمان والمكان والحادثة.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... محمد أبوالفضل
(أطلب النقد في الجزء الآتي)
…
شيخ الجامع الأزهر
***
منشور في المهور
من المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى (في القدس)
إلى حضرات القضاة والمفتين ، والخطباء والمدرسين ، ومأذوني عقود
الأنكحة والمسلمين عامة في فلسطين
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً
وَرَحْمَةً} (الروم: 21) .
لما كان بقاء هذا العالم متوقفًا على التناسل بالزواج الشرعي ، الذي تتكون
منه الأسرة والأمم، وتتقوى بفضله أواصر المودة والقربى بين الناس، وكانت
الأمم التي لا تستن بسنته، ولا تسير على منهاجه قليلة النسل، معرضة لخطر
الانحطاط والاضمحلال، كان من أقدس الواجبات تسهيل الزواج ، وتقريب سبله
على الطالبين ، ورفع الموانع التي تحول دونه أو تقلل منه.
ولسنا نفيض في فوائد الزواج، فقد أقره الشرع والعقل والطبع، واجتمع فيه
من الفضائل ما لم يجتمع في غيره من أحكام الشرع، قال بعض الفقهاء: (ليس لنا
عبادة شرعت من عهد آدم إلى الآن ، ثم تستمر إلا النكاح والإيمان) وجاء في
الحديث الشريف: (لا رهبانية في الإسلام، (
…
وأتزوج النساء فمن رغب
عن سنتي فليس مني) .
وفي الزواج صون الزوجين عن الفاحشة، وحفظ لهما من الرزوح تحت
أعباء نفقات المعيشة الطائلة، بما يرزقهما الله من الذرية الصالحة.
ولم تشأ حكمة الشارع أن تجعل هذا الأمر الخطير صعب المنال ، لا يستطيعه
إلا أولو القوة واليسار من الناس، بل مهدت لمن يرغب فيه كل سبيل، وجعلته
بحيث يستطيعه كل من الأغنياء والفقراء؛ إذ إنها لم تشترط فيه سوى الكفاءة
ورضاء الطرفين ، وكلمتين خفيفتين على اللسان يتبادلهما الزوجان [3] من إيجاب
وقبول، وقدرت له شيئًا يسيرًا سمته مهرًا، وجعلت أقله عشرة دراهم فضة معجلة
أو مؤجلة، واجتازته بلا تسمية شيء تسهيلاً على الطالبين، وتيسيرًا للراغبين.
فقد جاء في صحيح البخاري أنه عليه الصلاة والسلام قال لمن يريد الزواج ولا
يجد ما ينفق: (التمس ولو خاتمًا من حديد) وقال لآخر: (زوجتكها بما معك من
القرآن) ، وقال بعض الأئمة: (إن ما يجوز أن يكون ثمنًا في البيع يجوز أن يكون
مهرًا) .
والإغراق في المهر مكروه ، بدليل ما روي عن عائشة رضي الله عنها
أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يُمن المرأة تسهيل أمرها،
وقلة صداقها) [4]، وقال عروة: وأنا أقول من عندي: ومن شؤمها تعسير أمرها،
وكثرة صداقها.
وقالت أيضًا رضي الله عنها: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
أدخل امراة على زوجها قبل أن يعطيها شيئًا [5]، وفي صحيح ابن ماجه: أنه عليه
السلام تزوج عائشة رضي الله عنها على متاع بيت قيمته خمسون درهمًا ، وأنه
أولم على صفية بسويق وتمر. وعن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما قالتا:
أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجهز فاطمة حتى ندخلها على علي ،
فعمدنا إلى البيت ففرشناه ترابًا لينًا من أعراض البطحاء ، ثم حشونا مرفقتين ليفًا
فنشفناه بأيدينا ، ثم أطعمنا تمرًا وزبيبًا وسقينا ماء عذبًا، وعمدنا إلى عود فعرضناه في
جانب البيت؛ ليلقي عليه الثوب ويعلق عليه السقاء، فما رأينا عرسًا أحسن من عرس
فاطمة رضي الله عنها.
وقال عمر رضي الله عنه: (لا تغالوا في صداق النساء ، فإنه لو كانت
مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله ، كان أولاكم وأحقكم بها محمد صلى الله عليه
وسلم) .
ولم يزل أمر الزواج من السهولة على ما وصفنا ، إلى أن تبدلت الأحوال
فأفرط الناس في المهور، وغلوا في النفقات، ووقعوا في الإسراف الممقوت،
والتبذير المنهي عنه، فقل الزواج والنسل، وكثر الفجور والفحش، وفسدت
الأخلاق ووهنت الأجسام ، وضعفت العقول، إلى غير ذلك مما يسبب انحطاط
الأمة ، وتدهورها في هاوية الشقاء والبؤس والعياذ بالله.
وقد لفت هذا الأمر نظر الحكومة العثمانية في الماضي ، ففكرت في سوء
عاقبة هذا الإسراف في المهر والجهاز وتوابعه، والولائم المتخذة فيه، واهتمت له
اهتمامًا لائقًا به، فبينت محاذيره ، وما ينجم عن توالي محنه وتتابع نكباته، ورأت
أن اجتثاث جذور هذه العادة من بلادها أعظم واجب يكون فيه الخير، فأصدرت
الإعلان المنشور في الجزء الأول من الدستور (صحيفة 494) ذكرت فيه ما حاق
بالناس من شر الإسراف والتبذير في المهور، والولائم المتخذة في الأعراس
وحرمان الكثيرين رجالاً ونساءً بسبب ذلك من الزواج، وبقاء من تزوج منهم
رازحًا تحت أعباء الديون، واضطرار المحرومين منه إلى الوقوع في الجنايات
الجسيمة، وزجهم في أعماق السجون، وارتكاب الفتيات عار الفرار، وغيره مما
مزق حجاب صونهن وعفافهن، وجر الويلات على عائلاتهن، وأدام الأمراض
الفتاكة فيهم، ورمى الأمة بالنقص في النفوس والثمرات. إلى آخر ما جاء فيه.
وقد قسمت الناس أربعة أقسام: قدرت للفريق الأول (1000) قرش وللثاني
(500)
قرش وللثالث (100) ولم تقدر للرابع شيئًا. وأسهبت في بيان وتحديد
ما يجب اتخاذه من الأطعمة والأكسية وغيرها، وقضت على كل من لم يأتمر
بأحكام هذا الإعلان بالعقاب الزاجر، والجزاء العادل ، ولم يشغلها ما دهم من
الحروب الأخيرة عن هذا الأمر ، بل ظلت مثابرة على عملها، وتنفيذ رغبتها، وسنت
من عهد قريب قانونًا آخر ، منعت فيه التبذير والإسراف في الزواج وتوابعه؛
لإعمار بلادها، وتكثير النسل ، وإعداد الرجال، وقسمت فيه الناس ثلاثة أقسام،
وأمرت بأن لا يزيد الفريق الأول في المهر على (5000) قرش ، والثاني على
2500 قرش ، والثالث على 500 قرش ، ومنعت كل ما فيه إتلاف الأموال،
وتعسير أمر الزواج إلى آخر ما جاء فيه من المنافع الحيوية المادية والمعنوية.
ولما رأى المجلس الإسلامي الأعلى الثقافي هذا الأمر ، وعدم وقوفه عند حد،
وتحقق أنه إن دام انهماك هؤلاء المبذرين ، الذين كانوا إخوان الشياطين في جر
الويلات على أفراد الأمة ، مما يبتدعونه ويتفننون به من بذل المهور الطائلة،
وتوطيد دعائم هذه البدع السيئة؛ ابتغاء الفخر الكاذب، والزهو الباطل، تضمحل
الأمة ، وتسقط في أدنى دركات الانحطاط والشقاء، لذلك عقد النية على تطبيق
أحكام ذلك الإعلان، فقرر تبليغ القضاة والمفتين الكرام ومأذوني النكاح بأن
يطلعوا على ذلك المنشور والقانون المذكور ، ويتبعوا أحسن ما جاء فيهما جهد
المستطاع، وبالصورة الممكنة، وأن يشكل في البلاد لجان من مفتيها وقاضيها
وأهل الدين والزعامة فيها؛ لتكليف المدرسين والوعاظ والخطباء وأهل الفضل
حمل الناس على ما ذكر من الاعتدال في المهر، والبعد عن الإسراف، وإرشادهم
إلى تسهيل أمر الزواج ، وتخفيض المهور، وبيان المنافع المتحققة من ذلك،
وتعداد المضارّ والمفاسد الناجمة من عكسه، إلى آخر ما يفتحه الله عليهم مما يسهل
اتباع هذه السنة الحسنة والخير الأتم.
والمجلس الإسلامي يرجو من الأمة كلها أن تنظر في هذه القضية بعين
الاعتبار والتدبر، وأن تعمل على قمع مثل هذه البدع الممقوتة والمضرة في الدنيا
والآخرة ، وأن تسعى إلى الإصلاح ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، وفقنا الله لاتباع
أوامره واجتناب نواهيه، وهدانا الله إلى الصراط المستقيم.
…
...
…
...
…
... (رئيس المجلس الشرعي الإسلامي)
…
...
…
...
…
...
…
... محمد أمين الحسيني
(المنار)
جمع هذا المنشور في المطبعة منذ أشهر واضطررنا إلى تأخير نشره.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
المنار: رأينا أن نذكر المواد المتعلقة بموضوعنا ، عند ذكرها في أثناء المقدمة؛ لتفهم مقرونة بالمدارك الفقهية المستندة إليها.
(2)
نشر في عدد 123 منها الذي صدر في جمادى الأولى (27ديسمبر) .
(3)
المنار: أي: بأنفسهما أو بالنيابة فمذهب أبي حنيفة جواز تولي المرأة تزويج نفسها، وجمهور السلف والخلف أن الولي هو الذي يزوج المرأة ، ومن لا ولي لها يزوجها السلطان أو نائبه ، ولا تتولى هي العقد بنفسها وفي المسألة تفصيل آخر.
(4)
الحديث رواه أحمد والحاكم والبيهقي بلفظ (إن من يمن المرأة تيسير خطبتها ، وتيسير صداقها ، وتيسير رحمها) .
(5)
رواه أبو داود وابن ماجه وقال أبو داود على سكوته عنه كالمنذري: إن خيثمة - راويه عن عائشة - لم يسمع من عائشة، ومن رجال سنده شريك وفيه مقال ، ومعناه متفق عليه ، وهو جواز الدخول قبل إعطاء شييء من المهر إذا رضيت المراة ، ولها أن تمتنع حتى تأخذ المعجل منه.
الكاتب: محمد رشيد رضا
تقريظ المطبوعات الجديدة
(أساس البلاغة)
لعلامة اللغة الشهير، وإمام البلاغة النحرير (محمود الزمخشري) أشهر
من نار على علم، ما زال العلماء يقتبسون من نوره منذ ظهر إلى اليوم، وقد طبع
في مصر مرتين طبعًا غفلاً من الضبط غير معتنى بتصحيحه ، ثم طبعته أخيرًا إدارة
دار الكتب المصرية بمطبعتها ، التي هي القسم الأدبي من المطبعة الأميرية
الشهيرة ، على ورق جيد بحروفها الجديدة الجميلة الخاصة بها ، وعني بتصحيحه
وضبط ما يخفى ضبطه على الدهماء بالشكل لجنة التصحيح فيها، المؤلفة من أهل
العلم والأدب، مستعينين على ذلك بنسخة علامة اللغة الأوجد في هذا العصر الشيخ
محمد محمود الشنقيطي رحمه الله تعالى، وجلدت نسخه بالقماش تجليدًا حسنًا.
سُرَّ أهل العلم والأدب وطلاب اللغة بهذه الطبعة الجميلة المتقنة ، وتقبلوها
بقبول حسن ، وقرظها أصحاب الجرائد والمجلات ، وأثنوا عليها ورغبوا فيها
ولكنهم لم يبينوا موضوع الكتاب كما يجب ، إلا من نقل ما قاله المصنف في خطبته
وجعله أكثرهم من معاجم اللغة التي ألفت؛ لبيان معاني مفرداتها، وظن بعضهم
أن مزيته الوحيدة التفرقة بين الحقيقي والمجازي منها، والصواب أن الكتاب قد
وضع لبيان الاستعمال الفصيح ، والأسلوب البليغ فيها، وتصريف القول في
أساليبها ومناحيها، ومنه الحقيقة والمجاز والكناية، وهو قلما يفسر غريبًا، أو يشرح
شاهدًا، لأنه كتب للخواص من أهل العلم والأدب في عصر المؤلف رحمه الله تعالى
أواخر القرن الخامس وأوائل السادس.
على أن هذه اللغة كانت قد دخلت في طور الضعف والتدلي ، وإن كثر
التصنيف في فنونها، وما زالت تتدلى حتى صار يندر أن يوجد أحد من المشتغلين
بها يفهم معاني صفحة واحدة من صفحات الأساس ، أو ما دون الصفحة من غير
مراجعة معاجم اللغة ، للوقوف على معاني كثير من مفرداتها ، فقل الانتفاع بالكتاب
في زماننا؛ لعسر المراجعة ولا سيما عند الحاجة للاستعمال، لهذا كنت قد سعيت
إلى طبعه، واقترحت أن يفسر غريبه مع ضبطه، وأن يزاد على مواده ما تشتد
الحاجة إليه من طرق الاستعمال التي تكثر في لسان العرب ، وكذا المصباح المنير
على اختصاره وخصوصيته، وكنت قبل ذلك بعشرين سنة أمني نفسي بأن أجد
سعة من الوقت أقوم فيه بهذا العمل ، وكانت الشواغل المانعة منه تزداد سنة بعد
أخرى.
يخيل إلي أن الذين يتوخون الانتفاع بهذا الكتاب فيما وضع له قليلون، وأنهم
قلما يعدون فئة الكتاب المتأنقين، والأدباء النقادين، وهو جدير بأن يوضع بين يدي
كل منشىء ومؤلف ومصحح ومترسل بهذه اللغة ، وكل طالب من طلاب الآداب
العربية، ويرجع إليه كل منهم فيما يشتبه لديهم، ويتشابه عليهم من أساليب
الاستعمال ، وتعدية الأفعال، ويأخذون عنه صوغ الجمل وأساليبها، ووضع
المفردات في مواضعها اللائقة بها، فهو الأستاذ المرشد إلى هذه المقاصد كلها ، وما
أشد حاجة معلمي هذه اللغة ومتعلميها إليها.
فنثني على إدارة دار الكتب المصرية الكبرى ، ونشكر لها عنايتها بطبعه هذا
الطبع الجميل، وضبطه الدقيق، فالناظر فيه لا يكاد يقف طرفه عند كلمة خفية،
وقلما يعقر ذهنه بغلطة لغوية، كما ظهر لي مما راجعته فيه مرارًا أباحت لي أن
أقول: (قلما) . وقد يكون ما عثرت به وهو قليل، مما يحتمل الصحة أو التأويل،
وأول كلمة عثرت بها في الجزء الأول قوله في أواخر خطبة الكتاب: (وحظي برس
من علم البيان) ضبطت كلمة رس في الطبعتين السابقتين بالسين المهملة، وفي
الطبعة الجديدة بالمعجمة من رش الماء والمطر، ولا أدري أهي من خطأ المطبعة
سها عنها المصححون ، أم ضبطت بالمعجمة في نسخة الشنقيطي فاختاروها تبعًا له ،
وعهدي بهم غير مقلدين؟ والمتبادر أن المعنى بالمهملة أظهر ، بل هو المناسب
للمقام وللسجعة التي قبل هذه. الرس بالمهملة ، والذرو معناهما واحد كما صرح به
في هذا الكتاب نفسه فقوله: (وأصاب ذروًا من علم المعاني، وحظي برس من علم
البيان) لا يختلف فيه معنى الجملة الأولى عن الثانية، ولا يظهر فيه معنى الرش
(بالمعجمة) ، ولو تكلف له وجه لم يجز ترجيحه على الرس.
ومما يصح ذكره في هذا المقام ترجيح ضبط على آخر صحيح ، بغير مرجح
يظهر للقارئ على ما تكرر في الكتاب من الجمع بين ضبطين في كثير من الألفاظ،
ومما رأيته من ذلك في أثناء كتابتي لهذا التقريظ ، وسبق له أمثال كلمة (خطف)
ضبطت بفتح الطاء في الماضي ، وكسرها في المضارع من باب ضرب، ولغة في
هذا الفعل، وفيه لغة أخرى الكسر في الماضي ، والفتح في المضارع من باب علم
يعلم، وهي ما يسمعه الناس من حفاظ القرآن ويقرؤونه في المصاحف من قوله تعالى
في سورة الصافات: {إِلَاّ مَنْ خَطِفَ الخَطْفَةَ} (الصافات: 10) وقوله في
سورة الحج: {فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} (الحج: 31) وإنما ذكرت هذا؛ لتنبيه من يراجع
الكتاب لعدم اتخاذ ضبطه للكلمة حجة على تخطئة ضبط غيره من غير مراجعه.
وثمن الجزأين معًا مجلدين بالقماش خمسون قرشًا صحيحًا ، وهو ثمن بخس
تجاه جودة الورق وجودة الطبع، ما كان ليرضى به أحد يطبع الكتاب؛ لأجل
الاتجار به والربح منه، وإدارة المكتبة المصرية الرسمية إنما تبغي نشر العلم، لا
طلب الربح.
***
(الذخيرة الإسلامية)
مجلة دينية أدبية ، تصدر كل شهر مرة لمنشئها أحمد بن محمد السركيني
الأنصاري السوداني ، تصدر في (ويلتفريدن جافا) من جزائر جافا (أو جاوه)
الهولندية وقيمة الاشتراك فيها عن سنة في تلك الجزائر عشر روبيات، وجنيه
إنكليزي ذهبي في غيرها.
وصلت إلينا الأجزاء الأولى من هذه المجلة في هذا الشهر جمادى الأولى [1]
فنظرنا في فاتحة الجزء الأول منها فإذا هي تنبئنا أنها أخت لمجلتنا في خطتها
الدينية؛ إذ ذكر أخونا الفاضل منشئها أن الغرض منها: بيان محاسن الدين وشرح
ما قد يشكل على ضعفاء طلبة العلم ، وما قد يشتبه على من ليس له وقوف على
حقائق الإسلام، وما قد يغمض على الكثير من أسرار التنزيل، مع تنبيه الغافل
وتنشيط العامل، وإصلاح الفاسد، وسلوك خطة التيسير والتبشير، ومنه بيان
الأحاديث المكذوبة والواهية المنشورة على ألسن العوام ، وكتب القصاص
والمتصوفة، ورد شبه المعاندين، وبيان محاسن الإسلام، وملاءمته لكل زمان
ومكان، وحث المسلمين على الأخذ بأسباب الارتقاء؛ ليكونوا حجة للإسلام ولا
يكونوا حجة عليه ، كما هو شأنهم الغالب اليوم.
وكل هذه المقاصد من بعض موضوعات المنار، التي يحتاج إليها في تلك
البلاد الجاوية التي قل فيها العلم، وعم الجهل، وكثر الدجالون من المسلمين،
والمهاجمون للإسلام من دعاة النصرانية، فعسى أن توفق؛ لإتقان عملها ويوفق
المسلمون للانتفاع بها، ومن وسائل ذلك العمل بقوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ
بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125) .
_________
(1)
كتب جل هذا الجزء في هذا الشهر ، ثم اضطررنا إلى تأخيره إلى ما بعده وأخرنا بعض ما كتب وجمع له.
الكاتب: محمد رشيد رضا
ملك الحجاز في أطراف سورية
كثر تساؤل الناس عن سبب زيارة ملك الحجاز لأطراف سورية في هذا
الشتاء الشديد العواصف ، والبَرْد والثلج والبَرَد، والذي نراه استنتاجًا مما تقدمه ،
وواطأنا عليه كل من ذكرناه له من الباحثين في سياسة البلاد العربية وغيرهم ، هو
ما نجمله بالجمل الآتية:
(1)
إن مقتضى ما سماه السيد حسين بن علي (مقررات النهضة) التي
هي أساس ثورته وحربه للدولة العثمانية مع الحلفاء ، هي أن تؤسس له الدولة
البريطانية بقوتها وتحت حمايتها مملكة عربية تشمل جزيرة العرب وسورية كلها
والعراق إلا ما استثنى، ولكنه قضت وطرها منه ولم يقض وطره منها ، فظل يلح
عليها بذلك من جهته ، والفلسطينيون يؤلفون الوفود ويرسلونها إلى لندن للسعي
لإلغاء وعد بلفور وتأليف حكومة عربية في فلسطين ، ويحتج كل منهما بمقررات
النهضة المذكورة.
(2)
حاولت الحكومة البريطانية إسكات السيد حسين والفلسطينيين بشيء
يرضيهما مظهره ، إلى أن يزول هذا الاضطراب السياسي والمالي ، وتستقر
سلطتها العسكرية في البلاد العربية التي جعلتها تحت انتدابها ، من حدود مصر إلى
شط العرب وخليج فارس، فلم توفق لذلك ، فإن المعاهدة الأخيرة التي حملها إليها
ناجي الأصيل فطار بها فرحًا ، وجعل يوم إعلانها عيدًا للأمة العربية بأسرها، قد
رفضها الفلسطينيون وأنكروها ، ولم يقدر على إقناعهم بها ، ولولا ما له من اليد
البيضاء عند بعض زعمائهم ، وما يعلمه من حرص الإنكليز على إرضائهم بشكل
من أشكال الإدارة ، مع بقاء الانتداب وعهد بلفور، لانقطعت الصلة بينه وبينهم
بأيديهم أو بيده هو، ولكن ما ذكر ألجأه إلى الإمساك عن التوقيع النهائي على
المعاهدة ، أو يرضى أهل فلسطين بها ، فأعرضت عنه الحكومة البريطانية ، ففهم
أنها تعتقد أنه لم يبق له من النفوذ في البلاد العربية ما يمكنه من أداء أي خدمة لها
تكافئه عليها فيما يأتي.
(3)
علمت هذه الحكومة أن سلطان نجد قد وقف على دخائل سياستها
العربية وتمهيدها السبل؛ للتغلغل في أحشاء جزيرة العرب ، مع الإحاطة بها من
أطرافها فأنشأ يقاومها في ذلك ويفاوض فيه سائر زعماء العرب ، ما عدا خدمها
المتبجحين بالإخلاص لها وهم السيد حسين وأولاده ، حتى اشتهر أنه سمح لنوري
باشا الشعلان بالتمتع بمقاطعة الجوف التابعة لنجد بشرط منع الإنكليز من جعلها
طريقًا لمواصلاتها العسكرية ، وغيرها بين سورية العراق ، فاغتنم السيد حسين هذه
الفرصة للاتفاق مع الإنكليز على تمكينه من الاتفاق مع ولديه السيد عبد الله والسيد
فيصل على جمع قوات البلاد ، التي يرأسون حكوماتها؛ لمناوأة ابن سعود وإضعافه
باسم الوحدة العربية ، في مقابلة بذل نفوذه هو لدى بعض رجال اللجنة التنفيذية
لمؤتمر فلسطين ، بالرضا بالانتداب البريطاني، والإمساك عن معارضته ، بشكل
ألطف من الشكل المبهم الذي رفضوه بالنص الأول للمعاهدة، وذلك بأن تسمى
حكومة فلسطين وطنية ، ينتظم في سلكها بعض الزعماء وتعطى حق الانتظام في
الوحدة العربية المبهمة في ضمن دائرة الانتداب البريطاني ويلطف تنفيذ عهد بلفور
بألفاظ مرضية، وتقييد مؤقت للهجرة الصهيونية، لأجل هذا أنفق السيد حسين بن
علي ألوف الجنيهات في التمهيد لهذه الزيارة ، يبث الدعاية لها وسينفق أضعافها في
أثناء مكثه في البلاد، ولأجله أكره أهل الحجاز على بذل ألوف الجنيهات؛ لعمارة
المسجد الأقصى ، على حين يتضور كثير من فقراء السادة الأشراف بمكة جوعًا ،
وقد حرموا حقوقهم في وقف جدهم أبي نمي، حتى إننا علمنا من الثقات أن بعض
نسائهم يتكففن الناس في حنادس الظلمات وهن متنقبات.
ولأجل هذا تجرأ السيد حسين على التصريح بما كان يكتمه عن الجمهور من
رأيه في الوحدة العربية ، وهو جعل جميع أمراء الجزيرة تابعين له في السياسة
الخارجية والعسكرية والإدارة العامة، ومن المعلوم المشهور أن كل واحد من أئمة
الجزيرة الثلاثة: يحيى وابن سعود والإدريسي أقوى منه منفردًا ، فكيف صرح
بعداوتهم كلهم في وقت واحد؟ كنا نقول منذ بضع سنين: إن مراده من الوحدة أن
تكره الدولة البريطانية جميع قوى العرب له تحت حمايتها ، وكان الأغبياء في
السياسة والمأجورون ينكرون ذلك علينا فماذا يقولون اليوم؟
ومن الجلي أن ثروة السيد حسين الشخصية من ملك ووقف ، وما يبتزه من
الحجاج ، لا يفي بمعشار هذه النفقات التي يبذلها في عداوة سلطان نجد وحده
والاستعداد لقتاله، وكل ذي إلمام بشؤون السياسة البريطانية الحجازية ، يعلم من أين
تجيء هذه الأموال، وسينجلي كل خفي للأغبياء الجاهلين ، ويظهر منتهى شوط
الخادعين والمخدوعين، الذين يعلقون آمال أهل سورية وفلسطين بما يدعيه السيد
حسين بن علي من العمل للوحدة العربية، ويرجو نيلها من وراء مفاوضته لدهاة
الدولة البريطانية والسياسة الصهيونية ، والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على
الظالمين.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
خطاب عام للمسلمين
(2)
الجناية الثالثة: الظلم والاستبداد في الحرمين
إن استبداد الملك حسين ، وظلمه في الحجاز لا نعلم له نظيرًا في حكومة
وطنية من حكومات العالم في هذا العصر ، وإنما هو كحكم أشد المستعمرين للأمم
الضعيفة قسوة وطمعًا في ابتزاز الأموال وإذلال الناس، فأهل الحجاز في هذا العهد
بائسون ذليلون ، ولا يتجرأ أحد منهم على الشكوى بقول ولا كتابة، ونحن قد أمكننا
الوقوف على كثير من الحقائق الآتية من بعض أهل البصيرة والتحقيق من حجاج
الموسم الأخير ، الذين لهم أصدقاء في الحجاز يثقون بهم ، ومما اختبروه بأنفسهم
على كثرة الجواسيس ، وحرص الملك على مراءاة الحجاج، وقد جاءتنا رسالة
طويلة في وصف حالة الحجاز من أحد حجاج الموسم الماضي من جزائر الهند
الشرقية ، فنلخص من هذا وذاك ما يتعلق بغرضنا بالإيجاز ونجعله عدة أقسام:
المظالم المالية:
(1)
كل ما يرد على مكة من الأنعام ينتقي الملك كرائمها وخيارها لنفسه ،
بواسطة سمسار له اسمه (إبراهيم) فيدفع ثمن الجمل الأعلى منها 25 ريالاً مجيديًا
(تساوي 120 قرشًا مصريًّا) إذا كان الأدنى يباع بخمسة وعشرين جنيهًا مصريًّا ،
ويعطي ثمن الكبش الجيد بل الأجود ريالين مجيدين ، إذا كان الأدنى منها يساوي
عشرة ريالات.
(2)
يأخذ مكسًا على كل جمل ثلاثة ريالات مجيدية (30 أو 35 قرشًا
مصريًّا) ، وعلى كل ثور أو بقرة خمسين قرشًا مصريًّا؛ لأنه لا يأخذ منها لنفسه
كما يأخذ من الإبل والغنم ، هذا إذا كانت الإبل والبقر للعمل ، وأما إذا كانت للذبح
فيأخذ عن كل رأس عشرة ريالات ، ومن المعلوم أن الإبل لا تذبح في الحجاز إلا
إذا هزلت ، وتعذر الحمل عليها والسفر بها ، وإن كان الجمل الهزيل الضعيف قلما
يباع بأكثر من عشر ريالات ، وقد يباع بخمسة، ولكن الملك يأخذ عليه عشرة
ريالات مهما يكن ثمنه الذي بيع به ، فيضطر الجزار بذلك إلى بيع لحمه غاليًا ،
وهو لا يأكله إلا الفقراء فيكون الغبن عليهم.
(3)
كل من يأتي مكة أو غيرها من بلاد الحجاز بشيء للبيع من خارجها ،
ولو كان من البدو أو أهل القرى الحجازيين ، يجبر على أخذ ثمنه ريالات مجيدية
وقروش عثمانية (مما يسمى في سورية متلبك ، وفي الحجاز هلل) ؛ لأن الذهب
خاص بالملك، وهذه السكة لا تروج عند الأعراب ، الذين يأتون بالماشية وغيرها
إلى مكة ، فيرغبون أن يشتروا بثمنها أقواتًا أو أقمشة لعيالهم ، ولكن الشراء من مكة
محرم في شرع الملك إلا برخصة من الديوان الهاشمي - ويعبر عنها بالفسح -
وقد يتأخر صدور (الفسح) ولا سيما إذا كثر طلابه حتى ينفق الغريب ما باع
منه ، ويرجع إلى عياله بغير شيء ، ولا سيما إذا كان ما باعه قليلاً كالوقود والفاكهة.
(4)
يأخذ على كل صفيحة سمن خمسين قرشًا مصريًّا ، وكان السمن الجيد
يأتي من نجد وعسير ، فانقطع مجيئه من نجد وقل من عسير بسبب إجبار تجاره
على أخذ ثمنه من النقد العثماني ، الذي لا يروج عندهم، فصارت أقة السمن
البحري الرديء المغشوش تباع بثلاثة مجيديات ، وكانت الآقة من الجيد تباع بربع
مجيدي إلى نصف ريال ، إذا اشتد الغلاء ، وأقة اللحم بريالين ، وكانت بقرشين ،
فأصبح أهل مكة في ضيق ، لم يعرفوا له نظيرًا إلا في تلك الأيام ، التي اتفق فيها
سيدهم مع الإنكليز على منع الأقوات من الحجاز ليواتوه على الثورة.
(5)
يأخذ عن كل بضاعة تأتي من البحر إلى الحجاز ثلاثين في المائة
من ثمنها ، إلا الكماليات: كالحرير فيأخذ منها خمسين في المائة ، وذلك بحسب
أسعارها في سوق جدة لا بحسب السعر الذي اشتريت به، ونترك الكلام في
اقتراض الملك من تجار جدة ألوف الجنيهات ، على أن توفى من المكوس التي
تستحق عليهم ، ومطل إدارة المكس وتسويفها لهم، بعذر الحاجة إلى المال ، ولا
مشتكى إلا إلى الله.
(6)
أبطل جميع الأفران التي للأهالي ، وفتح أفرانًا لنفسه ، يعطيها الدقيق
المختلط من عنده ، ويكره الناس على الشراء منها دون غيرها ، وهو يربح منها كل
يوم أكثر من تسعين جنيهًا من مكة ، وجاء في رواية أخرى كتبها بعض الحجاج
المصريين أنه يربح من أفرانه ثلاثمائة جنيه في كل يوم ، وقد قال النبي صلى الله
عليه وسلم: (احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه) رواه البخاري في تاريخه وأبو
داود وأشهر رواة التفسير بالمأثور من حديث يعلى بن أمية ، وفي لفظ من حديث ابن
عمر مرفوعًا: (احتكار الطعام بمكة إلحاد) رواه البيهقي في شعب الإيمان، وروى
سعيد بن منصور والبخاري في التاريخ أيضًا وابن المنذر عن عمر بن الخطاب
أنه قال: (احتكار الطعام بمكة إلحاد بظلم) . روي عن ابن عباس أنه قال: في
تفسير الآية: (تجارة الأمير بمكة إلحاد) . فما بال المكوس؟ !
(7)
جعل قيمة الجنيه سبعة ريالات مجيدية ، يغرم من يخالف ذلك بمبلغ
من المال له ، لكنه يبيع الذهب للصيارف بألوف الجنيهات ، كل جنيه باثني عشر
ريالاً ثم يجبرهم على إعطائه الجنيه بالسعر الرسمي ، وهو سبعة ريالات، والتجار
يرفعون الأثمان؛ لتقرب من سعر الذهب، ومن فوائد الملك من ذلك أن من كان
راتبه من رجال حكومته عشرة جنيهات ، يعطيه 72 ريالاً قيمتها الحقيقية ستة
جنيهات.
(8)
ما يأخذه من الغرامات ، وينزله من العقاب على من يخالف السعر أو
يعترض على اختلاف ما يأخذه هو ويعطيه، لا مستند له إلا رأيه، وقد جازى
التجار على ذلك مرارًا ، حتى بلغت الغرامة من جماعتهم من مائة جنيه إلى ثلاثمائة
جنيه ، بل عاقب بعد الموسم خمسة من تجار مكة المحترمين بالجلد الشديد وكنس
الشوارع؛ لأن جواسيسه بلغوه عنهم أنهم قالوا: إن سعر النقود العثمانية سينزل ،
حتى مات أحدهم من شدة الضرب ، كما جاء في كتاب خاص من مكة لأحد التجار
هنا.
(9)
استأثر لنفسه بالغلال المصرية سنتين ، فلم يعط المستحقين شيئًا حتى
مات بعض المستحقين لها من فقراء المدينة المنورة جوعًا ، ثم صار يعطي الأحياء
نصف ما يستحقونه ، ويستأثر بحصص الأموات كلها ، فلا يعطي ورثتهم منها
شيئًا ، ولعل هذا أحد أسباب امتناع الحكومة المصرية ، عن إعطائه مخصصات
الأهالي؛ لأجل أن يتولى توزيعها عليهم مستخدموها ، في التكيتين المصريتين بمكة
المكرمة والمدينة المنورة.
(10)
استبد بوقف الشريف أبي نمي فلا يوزعه على المستحقين من ذريته
حسب شرطه ، حتى قيل: إن بعض الشريفات يخرجن في الليل متسولات ، يتكففن
أيدي الناس في الشوارع.
(11)
قد استعار من أغنياء مكة أثاثًا ورياشًا وماعونًا كثيرًا ، للدار التي
أنزل فيها السلطان وحيد الدين المخلوع وحاشيته ، ثم لما ذهب السلطان من مكة
استأثر بهذه العواري النفيسة، ولم يردها إلى أصحابها.
(12)
جمع ثلاثين ألف جنيه من أهل الحجاز بالإكراه والإجبار ، ومن
الحجاج بالاختيار؛ لإعانة المسجد الأقصى، وأرسل منها اثني عشر ألف
وخمسمائة جنيه، وقد نشر في جريدة القبلة ما أخذ من كبار التجار والموظفين في
الحكومة ومن الحجاج ، وأما ما أخذ من العوام وصغار التجار فلم ينشر فيها [1] .
(13)
ذهب إلى مكة الشرفاء زامل وجعفر وعلي أولاد السيد ناصر أخي
الملك فوضعهم الملك تحت المراقبة الشديدة والقهر ، وكان مرادهم الإقامة في مكة
شهرًا واحدًا ، فأكرههم على الإقامة زهاء سنة ، ولما عادوا إلى مصر أرسل إلى
وكيل أطيانه إسكندر بك طراد كشف فيه أنه أنفق عليهم في مكة ألف وثمانية
وعشرين جنيهًا وكسورًا ، وأمره أن يطالب أخاه الشريف ناصر بهذا المبلغ ،
وينذره بإمساكها من إيراد الوقف المشترك ، إذا لم يؤدها إليه نقدًا.
***
العقاب والأحكام
إنه يذيع في جريدته القبلة أن أحكامه كلها شرعية ، مستمدة من الكتاب والسنة،
والواقع الذي يعرفه أهل الحجاز ومن أقام فيه زمنًا يزيد على مدة الحج من غيرهم ،
ولا سيما الذين استخدموا فيه - أن أحكامه شخصية محضة ، لا يتقيد فيها بقيد
من شرع ولا مشاورة، ولا قانون، وهو وإن كفر الترك والمصريين بوضعهم
للقانون الأساسي وغيره ، فقد وضع بعض القوانين وأمر بتنفيذها ومنها:
(قانون هيئة المعاملات العمومية) الذي أمر فيه بتشكيل لجنة بهذا الاسم ،
تفصل في قضايا الإجارة والديون (والكشفيات ونحوها) ، مما هو من خصائص
المحاكم بدون محاكمة شرعية ، وفيها أحكام وضعها برأيه لم يرجع فيها إلى
دليل شرعي ، وسماها دستورًا للعمل كما سماها قانونًا، وقد أعطى بهذا القانون
حق الاجتهاد لأعضاء اللجنة ، في كل فروع الإجارات غير الداخلة في المادة 43
منه ، ولا حاجة بنا إلى تفصيل ذلك ، بل المراد به التنبيه على أنه يحرم على أهل
البلاد التركية والمصرية ، ما أباحه لنفسه من وضع القوانين ، وإن كان هو
وجميع أعضاء حكومته دون أهل هاتين المملكتين علمًا بالشرع ، وبأصول القوانين
وفروعها.
***
قانون الطاغوت أبي نمي
وأدهى من هذا وأعظم في رد الشرع ونبذه وراء الظهر، وتفضيل حكم
الطاغوت على حكم القرآن المنزل من عند الله عز وجل، حكمه بقانون جده الأمير
أبي نمي في جميع مسائل الدماء بين البدو. ومن أصول مواد هذا القانون أن دم
شرفاء الحجاز مربع ، فإذا قتل أحدهم يقتل به أربعة من خواص رجال القبيلة
المتهمة بقتله، ولا شك في أن استحلال هذا كفر وردة عن الإسلام. وإن إمام
المسلمين وخليفتهم يجب عليه شرعًا أن يقاتل من يتحاكمون ومن يحكمون بمثل
هذا وغيره ، من أصول الجاهلية المقررة فيه، ومرجعها كلها إلى ما يسمونه
(السوالف)، وهي الأحكام السابقة التي قبلها سلف المتحاكمين؛ أي: شيوخ قبيلتهم
من قبلهم في مثل واقعة الدعوى، فالأحكام التي قبلها طواغيتهم هي التي
يرضونها ويحكم لهم بها من يدعي أنه أحق الناس بخلافة النبوة وإقامة شرع
الإسلام ، ومن شاء أن يعرف منزلة هذا القانون من الكفر والنفاق فليراجع تفسيرنا
لقوله تعالى من سورة النساء {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا
أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ} (النساء: 60) الآيات.
وقد حدثنا الضابط نوري بك الكويرى (من بني غازي) الذي كان في الجيش
العربي المنظم ، الذي يساعد الحجازيين في حصار المدينة المنورة ، أن أحد البدو
قتل ضابطًا أو جنديًّا حضريًّا من الجيش المنظم ، واعترف بأنه قتله عمدًا ، فطلب
الضباط وغيرهم قتله قصاصًا ، بمحاكمة عسكرية أو شرعية ، فامتنع قائدهم العام
الشريف عبد الله ، ورفع الأمر إلى الملك فأمر بإرسال الضباط الذي طلبوا القصاص
إلى مصر بحيلة ، وإعلامهم بعد ذلك بطردهم من الجيش الهاشمي، وكذلك كان،
ويعلم جماهير الناس في شرق الأردن وفلسطين أن عبيد الأمير عبد الله فوق الشرع
والقانون في إمارته البريطانية الحقيرة ، فلا يحاكمون ولا يعاقبون على فاحشة ولا
منكر.
وأما ما نقلته جريدة قبلة من أحكامه ، التي سمتها إقامة لحدود الشرع وعملاً
بالقرآن ، فقد جاءنا الخبر من الثقات في الحجاز ، بأنه ليس فيها شيء موافق لحكم
الشرع ، ولا كان شيء منها بمقتضى محاكمة شرعية ، فقد أمر بقطع يد رجل
ورجله؛ لأنه فر من سجنه الذي هو شر من سجن الحجاج، وفعل مثل ذلك بمن
اعترض على الخطيب بالمدينة المنورة؛ لإطرائه إياه في الخطبة، وادعوا أن هذا
عمل بقوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ
فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} (المائدة: 33) الآية وهي في البغاة الذين يؤلفون
العصابات المسلحة ، يقطعون بها الطرق ويفسدون النظام ، لا فيمن يفر من الظلم
أو ينتقد بدعة من البدع: كمدح الحكام وإطرائهم في الخطب الدينية ، ولا سيما إذا
كانوا من الظلمة.
وكتب إلينا أن اللص الذي قطع يده في عرفة ، قد اتهمه بعض الناس بأنه
سرق له بعض متاعه ، فبمجرد دعواه استحضر المتهم وجيء بفأس قطعت به يده ،
وكتب إلينا أيضًا أن العقاب في الحكومة الهاشمية ، لا يكاد يقع إلا على الضعفاء
الذين لا ناصر لهم ، وأن جواسيس الملك إذا طعنوا له في شخص يتهمه بعضهم ،
بأنه شرب الخمر فيؤتى به ويجلد بغير بينه ولا يسمع لإنكاره.
واطلعنا في مذكرة لحاج مصري ، أنه يأمر المحاكم الشرعية بالذي يريده
وإنها فشت فيها شهادة الزور بالإكراه، وأنه لا ينفذ من أحكامها إلا ما يريده ، ويرد
الإعلام الشرعي الذي تصدره بالحكم النهائي ويأمر بتجديد الدعوة لأجل الحكم فيها
بما يأمر به، ويقول: إنه إمام المسلمين والوارث لجده الشارع في التشريع
وهو غير مقيد فيه بشيء، بل فيها أن له مخالفة نصوص الكتاب والسنة ، وكنا
سمعنا هذا من بعض خدمه في مكة عدد سنين ، ولكن الله تعالى لم يعط للرسول
صلى الله عليه وسلم أن يغير أو يبدل شيئًا من القرآن ، وهو معصوم من فعل ذلك من
تلقاء نفسه بدليل النص والإجماع. قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ
الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ
نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَاّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (يونس: 15) ، وقد منع الإمام الشافعي نسخ القرآن بالسنة مطلقًا ، وجوزه الجمهور
بالسنة المتواترة لأن ثبوتها قعطي كثبوته، ولكنهم أجمعوا على أن ذلك لا يكون برأي
النبي صلى الله عليه وسلم واجتهاده ، بل بوحي من الله تعالى ، واستدلوا على الجواز
بمفهوم قوله تعالى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي} (يونس: 15) .
وفي هذه المذكرة أنه يقطع يد السارق ، إذا كان من قبيلة ضعيفة ، فإذا كان
من قبيلة قوية فلا يقطع ولا يسجن ، وقد سرقت امرأة قرشية من بني مخزوم في
عهد النبي صلى الله عليه وسلم فأهم أمرها قريشًا فقالوا: من يكلم فيها رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ومن يجترئ عليه إلا حبه أسامة بن زيد، فكلمه أسامة فقال
صلى الله عليه وسلم: (يا أسامة أتشفع في حدٍ من حدود الله ، ثم قام فخطب قال:
(إنما أهلك الذين كانوا من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا
سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت
لقطعت يدها) متفق عليه، بل رواه الجماعة كلهم.
(تنبيه) :
كتب هذا الخطاب منذ بضعة أشهر؛ ليكون مقدمةً لطلب الإصلاح في
الحجاز، وأخر نشره؛ رجاء أن يغير الملك سيرته بزيارته لأطراف سورية.
(له بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
المنار: لعل سبب عدم نشره قلة المبالغ مع كثرة الأسماء لا قصد أكله.
الكاتب: محمد رشيد رضا
كلمة في التعريف بمجموعة الحديث النجدية
وتجديد السنة في بلاد الوهابية
(وهو ما وضعناه فاتحة لنسختها التي طبعناها حديثًا ، وفيها كلام في تصحيح
المطبوعات ، ولا سيما تصحيح ما طبع عن نسخ غير صحيحة ، وكونه يتعذر معرفة
الأصل في بعض المسائل ، ويشق العثور على بعضها بمراجعتها في مظانها حتى
الأحاديث النبوية ، وخاصة أحاديث البخاري) .
من المعلومات المسلمات عند كل مسلم أن أحاديث الرسول صلى الله عليه
وسلم بيان لكتاب الله عز وجل ، وتفسير وشرح لهدايته ، وتفصيل لحكمه
وأحكامه، وأنها مستمدة منه، فإنه - جزاه الله عن البشر أفضل الجزاء - قد عاش
قبل النبوة أربعين سنة ، وهو أمي لم يُؤْثَرْ عنه شيء من علوم القرآن الإلهية ، ولا
الأدبية ولا الشرعية، ولا شيء من حكمه العقلية ، ولا قواعد السنن الكونية
والاجتماعية، وقد خاطبه الله تعالى في هذا المعنى بقوله: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ
لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) وبقوله: {إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ
بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ} (النساء: 105) ، وقد عصمه الله تعالى من
الخطأ في بيان دينه المودع في كتابه ، كما عصمه من الخطأ في تبليغه ، وكل أحد
غيره يخطئ في فهم الكتاب ، وفي بيان ما فهمه تارة ويصيب أخرى، وقد نقل
المحدثون روايات من خطأ بعض الصحابة فغيرهم أولى.
هذا وإن تأثير حديثه وسنته صلى الله عليه وسلم في القلوب ، هو في الدرجة
التالية لتأثير كلام الله عز وجل، ولهذا ضعفت هداية الدين في نفوس المسلمين منذ
صاروا يستغنون عن القرآن والسنة بكتب المتكلمين والفقهاء، وإنما العلماء أدلاء
معلمون، لا شارعون ولا مستقلون بالهداية، ولن يعود روح الدين إلى المسلمين،
ولن يشرق نور الإسلام في قلوبهم، إلا بالعود إلى تلاوة القرآن بالتدبر، ومدارسة
السنة بالتفقه والتأدب.
وقد كان مما استعمل الله تعالى به الشيخ محمد عبد الوهاب مجدد الدين في
نجد وما حولها ، أن أحيا مدارسة السنة النبوية فيها؛ للاهتداء بها، لا لمجرد
التبرك بألفاظها، ولا لأجل الاستقلال فيها دون ما كتب المحدثون والفقهاء في
شرحها والاستنباط منها، بل نرى من هداهم الله تعالى بدعوته ، وأنقذهم من
الجاهلية التي عادت إلى أكثر أهل جزيرة العرب ما زالوا يحيون كتب فقه شيخ
السنة الأكبر الإمام أحمد - رضي الله تعالى عنه - مع خيار كتب التفسير والحديث
لغير الحنابلة من علماء السنة ، فكانوا من أجدر المسلمين بلقب أهل السنة.
وقد انتدب إمامهم وسلطانهم في هذا العصر السلطان عبد العزيز عبد الرحمن
فيصل آل سعود لتجديد طبع هذه المجموعة النفيسة مع كتب أخرى أهمها: تفسير
الحافظ ابن كثير ، وابتداء طبع كتب أخرى دينية من أعظمها وأجلها: كتاب
(المغني) في الفقه الإسلامي الذي فضله الإمام المجتهد عز الدين بن عبد السلام ،
هو وكتاب المحلى لابن حزم على جميع ما كتب المسلمون في الفقه ، ونقل عنه أنه
لم تطب نفسه للإفتاء ، حتى حصل على نسخة من المغني ، فهو يطبع الآن على نفقته
مع كتاب الشرح الكبير، على متن المقنع الشهير ، والمغني والمقنع كلاهما للشيخ
العلامة موفق الدين أبي محمد عبد الله الشهير بابن قدامة المقدسي، المتوفى سنة
620 ، وهو الذي ينصرف إليه لقب (الشيخ) إذا أطلق في كتب الفقه الحنبلي ،
التي ألفت بعده وأما الشرح الكبير فلابن أخيه وتلميذه العلامة الشيخ عبد الرحمن
ابن قدامة المتوفى سنة 682 ، وهما من أوسع الكتب أحكامًا وبيانًا للمذاهب
بأدلتها.
هذه المجموعة الحديثية مشتملة على تسعة كتب بيناها في طرتها، فالأربعون
النووية من الأحاديث المختارة في أصول الإسلام ، وأسس قواعده أشهر من أن
تعرف، وعمدة الأحكام للحافظ المقدسي المتوفى سنة 620 مشهورة مشروحة ،
وهي مأخوذة من صحيحي البخاري ومسلم - تعطي المطلع عليها علمًا إجماليًّا
بأصح نصوص السنة لجميع أبواب الفقه ، وذكر لها في كشف الظنون عدة شروح
لكبار العلماء، وشرحها لشيخ الإسلام المحقق ابن دقيق العيد طبع في الهند ويطبع
الآن بمصر.
وكتب إلينا صديقنا علامة العراق السيد محمود شكري الآلوسي أنه اطلع على
الجزء الأول من شرح شيخ الإسلام ابن تيمية للعمدة (فرأى فيه ما لا عين رأت ولا
أذن سمعت) ولم يبلغنا شيء عن هذا الشرح من غيره، وذكر صاحب كشف
الظنون أن كتاب العمدة هذا ثلاثة مجلدات عز نظيره ، وأن أوله: (الحمد لله أتم
الحمد وأكمله) ، وأن الكلام فيه خمسة أقسام: أحدها الأحاديث، وما عندنا هو تجريد
الأحاديث فقط ، وأوله (الحمد لله الجبار) ، ونقل عن بعض شراحه أن عدد أحاديثه
خمسمائة ، ولعله عدَّ ما في بعضها من اختلاف الألفاظ وتعدد الروايات ، أو وجد هذا
في بعض نسخها ، وإلا فقد أحصيناها بالأرقام حسب عدَّ المصنف لكل باب فبلغت
409 ، ولكن وقع غلط في الأرقام في مواضع أولها صفحة 110 فينبغي أن يجعل
أول رقم فيها 48 ويصحح ما بعده بالتسلسل.
وأما كتب الشيخ محمد عبد الوهاب الأربعة ، فقد راعى في جمعها أحوج ما
يحتاج إليه جماهير المسلمين من السنة ، مع تلقيهم أحكام العبادات والمعاملات من
كتب الفقه ، وهو أربعة أقسام: أحاديث الإيمان الاعتقادية، وأصول الإسلام الكلية،
وكبائر الإثم والفواحش التي يجب تركها، والآداب الشرعية التي يجب أو
يستحب فعلها والتأدب بها، وكلها ملخصة من دواوين السنة المشهورة: كالكتب
الستة والمسند والموطأ وغيرها ، ومنها ما ليس لدينا نسخ منه: كالسنن الكبرى
وشعب الإيمان للبيهقي.. وقد ترك - رحمه الله تعالى - بعض الأحاديث غير
مخرجة، ولعل سبب ذلك أنه أراد أن يراجعها في غير الكتب التي نقلها منها،
ليبين جميع من خرجوها.
وأما الرسالة السنية للإمام أحمد في الصلاة فهي على ما نعتقد ، لا يستغني
مسلم عن الاستفادة منها ، قد جمعت في صفة الصلاة وآدابها الظاهرة والباطنة ،
بين الأخبار النبوية والآثار النافعة عن الصحابة والتابعين ، ما كانت به سفر تفسير
وحديث وفقه وتصوف شرعي ، وقد رأيت لها من التأثير في القلب ما لم أره لغيرها،
فأنا أنصح لكل مسلم أن يطالعها مرارًا، ولكل معلم وواعظ أن يقرأها لطلاب
العلم وللعوام جميعًا.
وأما كتاب الصلاة للمحقق ابن القيم فهو أشبه الكتب برسالة الإمام أحمد في
مبناها ومعناها ومغزاها، حتى كأنه شرح لها وتفصيل لمجملها، مع بسط مسائل
أخرى استوفاها أو حققها، وناهيك بوصفه لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم ،
واختلاف أحوالها من تطويل وتخفيف بالروايات المعتمدة، وبيانه لحكم الصلاة
وأسرارها، وندب إطالتها ومنافعها، وتحقيق فرضية صلاة الجماعة، ومسألة
تكفير تارك الصلاة ، ومسألة الخلاف في وجوب قضاء الترك منها عمدًا وعدمه.
فهكذا لعمري يكون اتباع الأئمة والاقتداء بهم، لا اتخاذهم شركاء لله تعالى في
شرع الدين، ولا قرناء لرسوله صلى الله عليه وسلم في العصمة في تبليغه وفهمه،
دع تقديم كلامهم على كلامهما، واتباعهم بالتقليد المحض من دونهما.
وأما كتابه الوابل الصيب فهو طرد لهذه المعاني والمغازي ، في جميع الأذكار
والأدعية المأثورة ، وتأثيرها في القلب، والقرب بها من الرب، جل ثناؤه وتقدست
أسماؤه، ومن فوائده: بيان مراتب الناس في الصلاة، وصفات القلوب في الظلمة
والنور، وبحث في نور العلم والإيمان عال مشرق مؤثر ، لا يوجد في غيره مثله،
أورده في سياق الكلام على فوائد ذكر الله تعالى، ومنه تفسير المثل الذي ضرب
في سورة النور: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} (النور: 35) الآية، واستطرد من هذا المثل إلى أمثال أخرى في القرآن مائية
ونارية كمثل: سيلان الماء في الأودية، ونار الصائغ لاتخاذ الحلية والآنية - ومثل:
الصيب فيه الظلمات والرعد والبرق - وقد بلغ ما أورده من فوائد الذكر ومزاياه
وتأثيره في تغذية الإيمان وصالح الأعمال 79 فائدة [1] .
فهذه الكتب لا يقرؤها ولا يسمعها مؤمن إلا يشعر بالإيمان يربو وينمي في قلبه،
وبمضمون قوله تعالى: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} (الزمر: 22) فيزداد به من العبادة ويكثر فيها من ذكر الله تعالى ، فقد كتب -
قدس الله روحه - في الأذكار المأثورة ما لا يحسنه إلا مثله - ومثل كثير في الأنام
قليل - فرضي الله تعالى عن جامعي هذه الأحاديث النبوية، ومبيني ما أودعته من
الهداية الإلهية، وأثاب من جمعها وألف بينها، ومن أنفق على طبعها، وسعى
لتعميم نفعها، ومن تولى طبعها وتصحيحها، ومن يقرؤها للاهتداء وللهداية بها.
وكنت أود لو أتيح لي أن أخدمها ، بتخريج جميع ما أغفل تخريجه من
أحاديثها ، وتعليق حواش وجيزة في تفسير جميع غريب لغتها، وبيان وجيز لكل ما
يخفى أو يشكل من معانيها، وزيادة العناية بتصحيحها، كالنموذج الذي يراه قارئها
في بعض حواشيها. ولكن كثرة الشواغل والموانع، وقلة العون والمساعد،
واستعجال السلطان بطبعها ، قد حالت دون المراد من ذلك في هذه الطبعة، وعسى
أن يوفقنا الله تعالى وإياه لذلك في الطبعة الثالثة.
وإن هذا العمل لشاق دونه الإنشاء والتأليف المستقل، ولا يعرف صعوبته إلا
من ابتلي به ، وإنما يكون التصحيح سهلاً ، إذا وجدت أصول صحيحة مضبوطة
للمقابلة عليها، والأصل الذي طبعنا عنه هذه المجموعة مطبوع في الهند طبعًا كثير
الغلط والتصحيف والتحريف كأكثر الكتب العربية المطبوعة في ذلك القطر، ولا
سيما المطبوع منها على الحجر، وقد وجدنا لشرح الأربعين النووية ولرسالة الإمام
أحمد ، وكتاب الصلاة لابن القيم نسخًا مطبوعة في مصر ، فانتفعنا بالمقابلة عليها
على أن تصحيحها غير تام ، وجعلنا اعتمادنا في تصحيح آخر كتاب العمدة مقابلته
على النسخة المطبوعة مع الشرح في الهند، بعد أن كنا نعتمد أولاً على مراجعة
الصحيحين فقط. ولكن بعض هذه الأحاديث غير مبين مكانها فيهما، وبعضها
معزو إلى أحد الصحيحين وهو في غيره، ولا ندري سبب ذلك، وقد بينا بعض
ذلك في الحواشي. على أن المراجعة في صحيح البخاري في مكان من الصعوبة لا
يعرفه إلا من عالجه، فإن الحديث الواحد قد يوجد في عدة أبواب منه بألفاظ مختلفة
فمن وجد غلطًا في حديث منها ، كان عليه أن يراجع جميع رواياته فيها؛ ليمكنه
الجزم بالصواب، ومن لم يدقق النظر في اختلاف الروايات والرواة والألفاظ فربما
جعل الصواب خطأ.
مثال ذلك الحديث العاشر من كتاب صفة الصلاة في العمدة (صفحة 120) :
عن أبي قلابة - هو عبد الله بن يزيد الحضرمي البصري رضي الله عنه قال:
جاءنا مالك بن الحويرث في مسجدنا هذا فقال: (إني لأصلي بكم وما أريد الصلاة؛
أصلي كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي.
هكذا أورد الحديث صاحب العمدة ولم يعزه ، ولما كلفت اثنين من إخواننا
المشتغلين بعلم السنة قراءة هذه المجموعة بعد تمام طبعها؛ لاستخراج ما يجدان
فيها من خطأ الطبع وبيان صوابه ، رأى من قرأ العمدة منهما أن هذا الحديث غير
جلي ، فظن أنه لا يخلو من غلط ، فطفق يبحث عنه في صحيح البخاري فوجده في
(باب كيف يعتمد على الأرض إذا قام من الركعة) بلفظ: جاءنا مالك بن الحويرث
فصلى بنا في مسجدنا هذا فقال: إني لأصلي بكم ، وما أريد الصلاة، ولكن أريد أن
أريكم كيف رأيت النبي - وفي رواية رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي؟ إلخ ،
فجعل المصحح هذا صوابًا لوضوحه ، وذاك خطأ؛ لخفاء المراد منه ، ولما قرأت
جدول الخطأ والصواب بعد جمعه للطبع ، رمجت هذا التصحيح؛ لأن ما أورده
صاحب العمدة رواية أخرى للبخاري ، أوردها في (باب من صلى بالناس وهو لا
يريد إلا أن يعلمهم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وسننه.
فلمثل هذا الاختلاف في الروايات ، لا يجزم المصحح بأن كل ما رآه خفي
المعنى محرف فيراجعه، ولا بأن كل ما رآه جلي المعنى هو الصحيح من
الروايتين أو الروايات، بل لا بد من النقل واستقصاء الروايات عند المراجعة ،
وذلك من العسر بمكان. فنحن نرى الحفاظ وكبار المحدثين وشراح دواوين السنة
ينسون بعض الروايات أحيانًا ، أو يغفلون ذكرها في مواضعها: فهذا الحافظ ابن
حجر - وناهيك بسعة حفظه - قد ذكر في شرحه لحديث أبي قلابة باللفظ الذي أورده
صاحب العمدة ، أن البخاري أورده في (باب المكث بين السجدتين) أيضًا ، مع
أنه رواه فيه بلفظ آخر ليس فيه ما نحن بصدده ، ولم يذكر أنه أورده في (باب
كيف يعتمد على الأرض
…
) الذي يوضح معنى الأول ، وكذلك القسطلاني لم يذكر
سائر الأبواب الثلاثة عند ذكر كل منها كعادته الغالبة. فمن هذا المثال يعلم
القارئ لهذه المقدمة درجة عسر تصحيح الأحاديث النبوية المنقولة عن نسخة
غير صحيحة ، والمحدثون لا يعتدون بنسخة كتاب غير مروية عن المؤلف
بالسند ، أو مقابلة على أصل صحيح.
وقد كانت طريقة تصحيحنا لهذا المجموعة (كغيرها) أن مصحح المطبعة
يقرؤها مقابلة على أصلها ، فإذا رأى أن في الأصل خطأ ، لم يهتد إلى صوابه تركه
لنا ، فإذا كان مما نعرف أصله بالقطع صححناه ، وإلا بحثنا عن مظانِّ أصله في
عدة كتب مما عندنا ، بقدر ما نجد من سعة الوقت ، حتى ربما أنفقنا نصف النهار
أو نصف الليل في تصحيح كراسة أو نصف كراسة، وكنا نؤخر طبع الكراسة في
بعض الأحيان عدة أيام؛ لأجل أن نجد وقت فراغ لمراجعة بعض العبارات ، التي
نجزم بوقوع الغلط فيها. وقد نكتب في الحاشية كلمة (يراجع) ، ونحيل على
مصحح المطبعة ، فإن لم يظفر بالأصل الصحيح يترك الكلام على ما هو عليه تارة
ويعيده إلينا تارة ، ولهذا نبطئ في طبع ما ليس له أصل صحيح عندنا ، كأكثر كتب
هذه المجموعة ولا سيما (الوابل الصيب) منها ، الذي لم نجد له أصلاً ما في دار
الكتب الكبرى ولا في غيرها.
وقد كان شقيقنا السيد صالح - رحمه الله تعالى - يحمل أكثر أعباء المطبعة
عنا ، والمطابع التجارية لا تبالي بذلك مثلنا، بل يكتفي أيها أشد إتقانًا ، بأن يكون
ما يطبعه كالأصل المطبوع عنه تقريبًا. وبعضهم لا يصل إلى هذه الدرجة ، ومنها
ما يتصرف أصحابها في التصحيح بآرائهم ، حتى اعترف بعضهم بأنه كان يزيد في
الأصل ، أو ينقص منه وأنه إذا وجد كلامًا ساقطًا أو خفيًّا لا يقرأ ، وضع بدله
بحسب فهمه ، وهذا تزوير لا يصدر عن صاحب أمانة أو دين.
ولعمري إن إتقان التصحيح لما يطبع عن أصل غير صحيح لا يتيسر إلا
لجماعة من العلماء الأخصائيين ، تتعاون عليه بمراجعة كل مسألة في مظانها،
وهذا غير موجود في شيء من مطابع هذه البلاد إلا المطبعة الأميرية ، ومع هذا
نرى في بعض مطبوعاتها غلطًا كثيرًا، ولقد عهد إلينا السلطان عبد العزيز آل
سعود بطبع تفسير الحافظ ابن كثير فيما أمر بطبعه من الكتب كما تقدم، ولم نجد له
أصلاً إلا ما طبع في المطبعة الأميرية ونسخة خطية حديثة في دار الكتب الكبرى ،
ولعلها هي التي طبع عنها فإنهما سيان في كثرة الغلط ، حتى في الأحاديث المعزوة
إلى كتب السنة المعروفة ، وأسماء رجال الحديث على ما فيهما من نقص أشير إليه
بترك بياض يدل عليه، مع كتابة (بياض في الأصل) في الحاشية ، وقلما قرأنا
في هذا الكتاب تفسير آية ولم نجد فيه غلطًا مما نعرفه من ذلك، فكيف بما لا يعرف
بالرواية والحفظ لكلام المؤلف نفسه؟! وقد توسلنا ببعض الوسائل إلى تصحيحه
على نسخة معتمدة من خزائن كتب الآستانة، ولما يتم لنا ذلك ولعله يتم قريبًا.
هذا وإنه لما كان غرض السلطان من طبع هذه المجموعة وأمثالها؛ تعميم
العلم في بلاده دون بلادنا طبعنا بإذنه زيادة عما طلبه طائفة قليلة من النسخ؛ لتعميم
نفعها، فإذا بعناها بثمن قليل بالنسبة إلى أمثالها كان له شركة في أجرها.
هذا وإننا نسعى منذ سنين إلى استئجار دار واسعة؛ لأجل توسيع مطبعة
المنار ، وتأليف لجنة من أهل العلم؛ لتصحيح مطبوعاتها ، وضبط النسخ التي
تلقى إلينا قبل الطبع بمعارضتها على الأصول الصحيحة في دار الكتب الكبرى
وخزانة كتب الجامع الأزهر، أو حيث توجد في غيرها من خزائن الكتب الخاصة؛
كالخزانة الزكية ، والتيمورية ، والجعفرية ، والنورية [2] فعسى أن يهيئ الله تعالى
لنا ذلك ، ويوفقنا لكل ما توجهت إليه نفسنا من خدمة العلم والدين، والله ولي
المتقين، والحمد لله رب العالمين.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
محمد رشيد رضا
صدر في جمادى الأولى سنة 1342
_________
(1)
وقع غلط مطبعي في عدها ، فجعل العدد الذي (في ص 745) هو 35 ، والصواب أنه 37 فيصحح مع هذه.
(2)
الأولى منسوبة لأحمد زكي باشا ، والثانية إلى أحمد تيمور باشا ، والثالثة إلى جعفر والي باشا ، والرابعة لنور الدين بك مصطفى.
الكاتب: عبد القادر المغربي
تزويج المسلم بغير المسلمة [
1]
يكاد يكون جواز تزوج المسلم بالكتابية من الأمور المعلومة من الدين
بالضرورة ، ولا أظن أن أحدًا من المسلمين يكابر فيه [2] ، وجل ما يقوله فقهاؤنا في
هذا الزواج: إنه مكروه تنزيهًا؛ أي: لا تحريمًا. ومعنى ذلك أن الأفضل للمسلم أن
يتزوج بمسلمة ، فإذا تزوج بكتابية وترك المسلمة ارتكب خلاف الأولى. ولكن لا
يكون آثمًا أو مرتكبًا حرامًا ، وعللوا الكراهة (بخوف أن يتخلق الولد بخلق
أمه) والأخلاق أثر من آثار الدين ، فيخشى على الولد أن يتأثر بمؤثرات دين غير
دين أبيه.
هذا ما يقال في المسألة من طريق التفقه ، وأما ما يقال فيها من طريق
الاجتماع ومباحث العمران ، فهو: أن الشرع الإسلامي أباح لنا التزوج بالكتابيات
توصلاً إلى نشر الإسلام ، وحمل الكافة عليه ، فإن الأصول أن يحمل البشر على
الحق ولو بالقوة ، ولكن الشرع عذر أهل الكتاب بما أوتوه من روح الدين السماوي
وإن كانوا شوهوا هذه الروح بما بدلوا وغيروا ، والشرع إذا أمهل غير المسلمين ولم
يقسرهم على الإسلام فهو لم يهملهم، ولم يغفل أمرهم ، بل هو يريد من المسلمين أن
يعملوا على نشر الدين بينهم ، وعلى دعوتهم إليه بالتي هي أحسن، والدعوة كما
تكون بلسان المقال تكون بلسان الحال، ولسان الحال أشد تأثرًا ، وأقرب منالاً من
لسان المقال، والمراد من الدعوة إلى الإسلام بلسان الحال أن يكون المسلمون على
وضع اجتماعي راقٍ ، يحمل معاشريهم من غير أبناء ملتهم على النظر في دينهم ،
وحب التخلق بأخلاقهم، والاهتداء بهديهم، وهذا يكون بشيئين:
(1)
العدل في حكومة الإسلام.
(2)
حسن الأخلاق في أهل الإسلام.
وإننا معشر المسلمين لو حافظنا على هذين الأمرين في تاريخنا الماضي ، لما
بقي في بلادنا غيرنا بل كانوا أسلموا كلهم. ولقد بسطت هذا الموضوع يوما أمام
بعض عامة المسيحيين ، فرسم إشارة الصليب على وجهه وصدره وقال: نشكر الله
ياسيدي، إذ لم تعملوا بأصول دينكم ، وإلا لما عبد المسيح في بلادكم.
ومن جملة الطرق التي شرعها الإسلام؛ لتكون دعوة إليه بلسان الحال -
إباحة تزوج المسلم بالكتابية - فإن زواجه بها يوثق علائق المصاهرة والنسب بعدة
عائلات كتابية ، فإذا كان الصهر المسلم على ما يزيده الإسلام من كرم الأخلاق
والتحلي بالفضائل، فإن ذلك يستدرج عائلة زوجته إلى الإسلام بلطف ، ويستهويهم
من حيث لا يشعرون إلى الإعجاب به، والدخول فيه، عدا إسلام الزوجة نفسها بما
لزوجها المسلم من السلطة ، وحسن التلطف ، وقوة التأثير عليها.
وأما اليوم فإن أخلاقنا وفشو الطلاق بيننا ، حمل الكتابيين على زيادة التمسك
بدينهم، وعلى النفرة منا ومن ديننا، ولقد سألت مرة صديقًا لي من وجهاء
المسيحيين: هل يرضون أن يزوجوا بناتهم من شبان المسلمين المهذبين ما دام هذا
الزواج جائزًا في الشريعة الإسلامية؟ فقال: إننا لا نراه محظورًا من الوجهة
الدينية [3] ، وإنما نراه محظورًا من باب الاحتياط والتدبر، وذلك خشية أن يطلق
الزوج المسلم ابنتنا، أو يتزوج بأخرى سواها فتعيش منغصة.
ونعيد القول في الموضوع بشيء من الشرح والإيضاح فنقول: يفهم من
تضاعيف أقوال علمائنا أن التسامح مع أهل الذمة ، وتركهم أحرارًا في دينهم ، إنما
هو مؤقت ومنتظر فيه سنوح الفرص، حتى إذا سنحت الفرصة حملوا على الإسلام
لا بطريق الإكراه والقسر، بل بطريق الدعوة اللينة، والمجادلة بالتي هي أحسن
والعدل في الحكومة، والأخلاق الحسنة في المعاشرة.
ومن هذه الطرق: التزوج ببناتهم، وهذا التزوج يفيد في نشر الدين
وتكثير سواد أهله ، كما يفيد (الاسترقاق) في ذلك؛ إذ ليس الغرض من
الاسترقاق مجرد استغلال الأرقاء ، والانتفاع بخدمتهم كما ينتفع بالدابة، وإنما
الغرض نفع الرقيق نفسه، ونفع البشرية بنشر تعاليم الإسلام بين أبنائها ، فإننا نأخذ
الأرقاء في الحرب أسرى ، ونؤديهم إلى بيوتنا ونمزجهم بعائلاتنا كي يتخلقوا
بأخلاقنا، ويدخلوا أخيرًا في ديننا، ويكثر بهم سواد أمتنا، وربما كان نصف
المسلمين [4] اليوم هم من سلالة أولئك الآباء الذين دخلوا الإسلام من طريق الرق،
فالرق في نظر العالم المسلم الاجتماعي ضرب من ضروب الاستعمار ، أو ما يسميه
سواس هذا العصر (التجنس بالتابعية) .
وقد تنبه بعض ملوك الإسلام الأقدمين إلى وجوب الاستفادة من (الاسترقاق)
بشكل آخر ، فاتخذ من أسارى الحرب أو من صغارهم عسكرًا جرارًا ، بعد أن كان
يهذبهم ويعلمهم آداب الإسلام، ويخصصهم لفنون القتال، وهكذا فعل الخليفة
(المعتصم) العباسي في أرقاء الترك، والسلطان (أورخان) العثماني في أرقاء
الروم والصقالبة الذين سموا (أنكشارية) .
فإباحة التزوج بالكتابيات هو كإباحة استرقاق أولاد المحاربين ، من حيث إن
كلاًّ منهما وسيلة لنشر الدين، وتكثير سواد المسلمين، ولكن قومي كانوا عن هذا
غافلين: غفلوا في أزمنتهم التاريخية الماضية - وقت أن كانت الغلبة لهم والقوة
المادية والمعنوية في جانبهم - عن الانتفاع بهذا التشريع الحكيم - أعني التزوج
بالكتابيات [5]- ولو تزوجوا بهن وأحسنوا المعاملة، وتمسكوا بآداب الشريعة،
وأطاعوا الله فيما نهى وأمر - لكان المسلمون أكثر سوادًا وعددًا مما هم اليوم أضعافًا
مضاعفة، ولكانوا استفادوا من هذه الشريعة فائدة اجتماعية عمرانية، كما استفادوا من
شريعة الاسترقاق، لكنهم - وا خجلاه - لم يستفيدوا من شريعة (التزوج)
بالكتابيات ، لا في الأول ولا في الآخر، وأفسدوا شريعة (الاسترقاق) وغيروها
عن وضعها السماوي، فأصبحت تجارة قاسية، ومعاملة وحشية، يحبذ
الشارع الأعظم عمل الساعين في منعها، والضاربين على أيدي مروجيها.
قلنا: إن شريعة التزوج بالكتابيات كانت تفيدنا في الزمن السابق فائدة عظيمة،
ولكن هل تفيدنا اليوم لو عملنا بها؟!
أرى أن الفائدة غير مرجوة اليوم كما كانت مرجوة في السابق، وذلك
لانعكاس الحال في هذا العصر: فبعد أن كانت الغلبة لنا والقوة في جانبنا في العهد
الماضي ، وكان يمكننا ونحن غالبون أن نؤثر في نفوس زوجاتنا الكتابيات ، وفي
نفوس أهليهن ، فنجذبهم إلينا ونطويهم في هيئة اجتماعنا - أصبحنا اليوم مغلوبين
مقلدين للكتابيين ، سواء كانوا حربيين أو معاهدين أو ذميين؛ إذ إن الناموس
الاجتماعي الأعظم هو أن يقلد المغلوب الغالب في أطواره ومختلف عاداته ، وكذا
في تقاليده أحيانًا ، وإنما جعلت الكتابيين غالبين مع أن الكثرة لنا ، والحكومة [6]
متدينة بديننا - ذلك بما تيسر لهم من أسباب الرقي العلمي والاقتصادي والعائلي ،
وبما توفر فيهم من تقليد الأوربيين في دينهم ومناحي عمرانهم ، وأساليب حياتهم
والأوربيون هم الغالبون ، فمن يسبق إلى تحديهم يكون هو الغالب بالطبع ، وإن
زوجة أوربية أو ذمية إذا دخلت عائلة إسلامية ، تصرفت في أخلاقها ، وبدلت من
طباعها، وأفرغتها على طول الزمان في القالب الذي تريد ، وذلك لما عليه معظم
الكتابيات من العلم والتربية والتحيل والدراسة ، وما عليه معظم عائلاتنا ونساء
بيوتنا من الجهل والغباوة ، وضعف الملكة والانصراف عن فهم معنى الحياة السعيدة
خذ أية بلدة من بلادنا ، فلا تكاد ترى فتاة مسلمة تحذق القراءة والكتابة كما لا تكاد
ترى فتاة كتابية تجهلها [7] .
لا ريب أن وجود الزوجات الكتابيات المتعلمات في العائلة المسلمة مفيد
كوجود المعلم في المدرسة ، لكن تؤدي كثرته بالتدريج إلى صبغ الأمة الإسلامية
بصبغة لا تتفق مع مصلحتها ، من حيث هي أمة مستقلة تريد أن تنشئ أبناءها على
دينها وآدابها وتقاليدها.
فالتزوج اليوم بالكتابيات موضع نظر، ومناط حذر، كوضع أبنائنا في
مدارس الفرير والجزويت والأميركان، فإنهم يتعلمون، ولكنهم عن التربية
الإسلامية يبتعدون، وفي المهاوي الأخرى قد يتدهورون.
هذا ما نقوله: لو كان لنا من أمر النواميس الاجتماعية ، والسنن الكونية شيء؛
أما والأمر ليس بيدنا، وتحويل مجرى السنن غير داخل تحت قدرتنا، فإن هذه
النواميس حاكمة على الأمم متحكمة في أبنائها شاؤوا أو أبوا، رضوا أو سخطوا،
والأرض لله يورثها من يشاء من عباده الصالحين.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
المغربي
(المنار)
إن مسألة تزوج المسلم بالكتابية ، وتزوج الكتابي بالمسلمة قد طال بحث الكتاب
فيها بمصر في هذه الأثناء ، وقد أتى الكاتب فيها ببحث جديد مفيد ، أوجز فيه وهو
منتقد من وجوه ، أشرنا إلى بعضها في حواشي الصحائف ، ولا سعة عندنا في
الوقت لتحقيق المسألة من جميع وجوهها، وقد فتحت له زميلتنا (الهلال) بابًا
واسعًا ، نشرت فيه آراء كثيرين من أشهر كتاب العصر البحاثين ، بعد أن استفتتهم
في مسائل معينة فيه ، وكنا ممن استفتتهم وحالت كثرة أعمالنا دون كتابة شيء
لها ، وإنما نقول بالإجمال: إن كان في تزوج بعض المصريين بالإفرنجيات
فائدة ما في نظام المعيشة ، فإن فيه من الغوائل المنزلية والاجتماعية ما يفسد نظام
الأمة المصرية برمتها ، إذا كثر، ويحول دون تجديد تكوينها تكوينًا مستقلاًّ ، لا ذبذبة
فيه ولا اضطراب، وما أنكره على صديقنا المغربي إنما هو المبالغة في المسألة ،
وإلا فقد قلنا في تعليل منع التزاوج بين المؤمنين والمشركين من سورة البقرة: إن
هذا الأمر يختلف باختلاف الأشخاص، فرب مسلم مقلد يتزوج بكتابية عالمة ،
فتفسد عليه تقاليده (ص361 ج 2 تفسير) وسنشرح المسألة في أول فرصة إن
شاء الله تعالى.
_________
(1)
للأستاذ الشيخ عبد القادر المغربي العضو في المجمع العلمي بدمشق.
(2)
قد منعه بعض المتقدمين والمتأخرين ، وهو مما شذ به عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن جمهور الصحابة.
(3)
المنار: إن هذا القول غير صحيح ، فقائله إما أن يكون حاكيًا عن فئة معينة غير مقيدة بتعليم الكنيسة ، وإما أن يكون جاهلاً أو مصانعًا ،على أنهم لا يزالون يزوجون المسلمين.
(4)
المنار: هذه مبالغة عظيمة.
(5)
إن الإكثار منهن لم يكن ممكنًا ولا مصلحة؛ لأنه يقتضي تأييم الكثير من المسلمات ، وكفى أن السراري كن منهن في الغالب.
(6)
أنشئت هذه المقالة في عهد الحكومة العثمانية (الكاتب) .
(7)
المنار: هذه مبالغة بل غلو كبير فاللواتي يجدن القراءة والكتابة فينا واللواتي يجهلنها فيهم كثيرات جدًّا ، ولكن المتعلمات فيهن أكثر بالنسبة إلى عددهن وعددنا. هذا وإننا نعرف كثيرًا من رجالنا في مصر وسورية تزوجن بنساء أوربيات ، فأسلمن وتبعن أزواجهن ، أو بقين على دينهن ولا نعرف واحدة منهن نصرت زوجها ، ولا تصرفت في أهل بيته كما تشاء، وإني أذكر هذا الرأي لصديقي الأستاذ الكاتب ، منذ كنا نطلب العلم في طرابلس الشام ومن العجيب أنه بقي مصرًّا عليه بعد أن زار مصر واتسع اختباره.
الكاتب: محمد رشيد رضا
مسألة تحديد الزواج
بقانون ومسلك الحكومتين العثمانية والمصرية فيه
قد بيَّنا في الجزء السابق نص ما وضعته الحكومة العثمانية منذ سنين من
أحكام هذه المسألة في (قانون الأسرة - العائلة) وما بينته من مداركها ، ووجه
الحاجة إليها ، وأقوال الفقهاء المجتهدين فيها، ثم ما وضعته الحكومة المصرية هذه السنة في ذلك.
ومما يستحق الذكر في هذا المقام ، أن بين المصريين وبين الترك ، ومن
نشؤوا في مدارسهم من مسلمي الشعوب العثمانية المسلمة شبهًا ، ظهر أثره في
الحكومتين.
المدارس العصرية في بلاد الفريقين: إما إفرنجية أو متفرنجة ، وأكثر
المتعلمين فيها قد غلب على أرواحهم وعقولهم وأهوائهم وأذواقهم تشريع الإفرنج
ونظامهم وأدبهم وعاداتهم؛ لأنهم لا يتعلمون أصول الشريعة التي ينتمون إليها ، ولا
الآداب الإسلامية التي كان عليها أسلافهم وبناة مجدهم، ولأن الذين لا يزالون
يتدارسون العلوم الشرعية في بلادهم تسقط قيمتهم وقيمة ما يتعلمونه من أنفس
الطبقات العليا فالوسطى عامًا بعد عام بجمودهم على التقليد الجاف ، لما يقول
شيوخهم المتأخرون: إنه المعتمد أو المفتى به في المذهب. وإن كان مخالفًا لما عليه
سائر الأئمة المجتهدين ، والعلماء الراسخين من أهل الملة - ومخالفًا لنص صريح
عن الشارع أيضًا.
وإنما يعتذرون عنه إذا احتج عليهم به بأنه لم يصح عند إمامهم وإن اتفق
حفاظ الحديث ونقلة السنة عليه - ومخالفًا لمصلحة المسلمين العامة في معايشهم أو
الدفاع عن أوطانهم - فبهذا صاروا حجة على أحكام الشريعة العادلة، وآداب
القرآن والسنة الكاملة، وفتنة للمتفرنجين ، يصدونهم عن أصل الدين ويغرونهم
به. وصارت الحكومتان تنشئ المدارس؛ لتعليم نشء الأمة كل ما هو
أوربي بصبغته الأوربية ، حتى أصول التشريع وأنواع القوانين ، وتدخلها في
أعمالها ومحاكمها العسكرية والجنائية والتجارية والمدنية، وتتفصى من كل ما هو
شرعي إسلامي بالتدريج ، وبضروب من التأويل والتلفيق مراعاة لتقاليد العامة
ونفوذ شيوخ الفقه في أنفسهم ، حتى انتهتا في هذا الجيل إلى جعل أحكام الزواج
والطلاق ، وما يتعلق بهما من أحكام النفقات والعدة وغيرهما قانونًا كسائر القوانين
وقد بينا ما في هذا من الجناية على الشريعة من قبل [1] ، كما بينا مرارًا أن شيوخ
الفقه الجامدين على التقليد الجاف ، هم الذين ألجؤا الحكومتين إلى ما ذكر ، وأنهم
كانوا وما زالوا يأبون في كل بلد أن يسيروا في تعليم الشريعة ودراستها على
الطريقة الاستقلالية ، فينظروا إليها في جملتها لا في كل مذهب على حدته ، بحيث
يتعصب له فريق معين على سائر المذاهب ، ويقارنوا بين ما استنبطه المجتهدون،
ويقيموا بينها ميزان التعادل والترجيح ، الذي يتدارسون ألفاظه لذاته، كأنه منزل
للتعبد كالقرآن، أو لأجل أن يستعين به أهل كل مذهب على إبطال غيره أو توهينه.
ثم إنهم بعد هذا لا يقاومون الحكومة فيما يعتقدون أنها خالفت الشرع فيه ، بل
أكثرهم يسكت عنها، وبعضهم يتأول لها، وبعضهم يفتيها فتاوى مبهمة ، يتحرى
فيها أن يكون ما قاله صحيحًا في نفسه ومرضيًّا عندها ، وإن لم ينطبق على واقعة
الفتوى وموضوعها ، وهم يعلمون أنها تقنع به العامة بأنها لم تفعل إلا ما أفتاها به أكبر علماء الدين.
ولو أنهم سلكوا مسلك الاستقلال الصحيح ، والنظر إلى جميع الأئمة
المجتهدين بعين واحدة ، وجعلوا من قواعد الترجيح بين آرائهم الاجتهادية اختيار
أيسرها؛ عملاً بالقاعدة القطعية الثابتة بنص القرآن كقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ
بِكُمُ اليُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْر} (البقرة: 185) وقوله عز وجل: {مَا
يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ} (المائدة: 6) {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ
حَرَج} (الحج: 78) وقوله صلى الله عليه وسلم: (يسروا ولا تعسروا،
وبشروا لا تنفروا) متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه. وفي رواية
(وسكنوا) بدل (وبشروا) وورد من حديث أبي موسى بالتثنية؛ أي: إن
النبي صلى الله عليه وسلم خاطبه هو ومعاذ رضي الله عنهما بذلك حين أرسلهما
عاملين إلى اليمن، وأمرهما بالاتفاق وهو متفق عليه أيضًا ، وقالت عائشة - رضي
الله تعالى - عنها: ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ
أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس عنه. وهو متفق عليه واللفظ
لمسلم - لو سلكوا هذا المسلك ، مع بقاء طوائف من طلاب الشريعة يتوسعون في فقه
كل مذهب - لأمكنهم جعل التشريع الإسلامي فوق كل تشريع ، وكان عليه مدار
الأحكام في جميع البلاد الإسلامية، وكان لهم مندوحة عن التأويل والأخذ بالأقوال
الشاذة ، والتفصي بفتوى مبهمة ، يظنون أنهم يسلمون بها من إقرار الحكومة على
ما تخالف فيه الشريعة.
نعم: قد آن للعلماء أن يأخذوا بإيمانهم جميع أمور التشريع ، ويبنوا ما هو
قطعي ، لا مندوحة للمسلمين عنه ، وما هو دون ذلك مما يجب الأخذ فيه بما هو
أيسر على الناس ، ما لم يكن معصية لله تعالى ، وقد دخلوا الآن في طور جديد ليس
فيه حاكم مستبد يرهقهم أو يعاقبهم إذا أظهروا ما عندهم ، ولكن يجب أن يعلموا أنه
يستحيل أن يلتزم البشر في هذا العصر تقليد عالم واحد ، فيما يعسر عليهم وينافي
مصالحهم. وهاهم أولاء قد خرجوا عن هذا في الحكومتين، ورجحوا على المذاهب
الأربعة في جملتها قولاً شاذًّا لأحد العلماء المتقدمين ، بحجة أنه هو الأيسر والموافق
للمصلحة العامة ولمصلحة من يتحكم الأولياء بتزويجهم صغارًا، وما استخرجه
للحكومتين ، من زوايا مسائل الخلاف إلا بعض هؤلاء الفقهاء، فلماذا لا يأخذون
الأمر بجملته في التشريع كله؟
وقد علم القراء مما نشرناه في الجزء السابق ، أن ما قررته الحكومة العثمانية
في هذه المسألة أصح أحكامًا، وما دعموه به أحسن بيانًا، ولا يرد عليه من الطعن
ما يرد على ما قررته الحكومة المصرية من تحريم ما أحل الله وأجمع عليه
المسلمون، كتزويج البالغين بالفعل قبل السن المعينة ، وعدم الاعتداد بنكاحهما وما
يترتب عليه من الأحكام الكثيرة وإن ولد لهما، وعدم سماع دعوى لأحدهما تتعلق
بهذه القضية في حال حياة الآخر ولا بعد موته لا في الطلاق والنفقة، ولا في
الإرث ولا في غير ذلك - وإباحتها للمحرم بالإجماع من العقد على المتزوجة لرجل
آخر بعد بلوغ السن المقررة - إلى غير ذلك، فالقانون العثماني اختار قولاً مشهورًا
من أقوال أئمة الفقهاء في سن البلوغ ، وجعله مناط أهلية التعاقد في النكاح وغيره
وجعل لمن يدعي البلوغ بالفعل ، فله أن يستأذن الحاكم الشرعي في الزواج إذا أراده،
وحتم على الحاكم أن يأذن له إذا رأى أن بنيته تطيق ذلك. فوقف عند حد منع
الضرر والضرار الممنوعين بنص الشارع، ولم يمنع من سماع أي دعوى تترتب
على نكاح لم يبلغ فيه أحد الزوجين تلك السن ، لما في ذلك من المفاسد الكثيرة،
وتضييع الحقوق الكبيرة. ومن ادعى أن كل زواج قبل السن المحددة في القانون ،
فهو ضار كذبه الطب والحق الواقع، ومن ادعى أنه لا ضرر في شيء منه فهو
جاهل بالواقع أو مكابر.
ومن المغالطة أن يجعل الخلاف في هذا القانون دائرًا بين منع زواج الصغير
والصغيرة مطلقًا وإباحته مطلقًا. فإن بين الأمرين وسطًا لم ينقل عن أحد من العلماء
خلاف فيه ، وهو من بلغ بالفعل في سن الخامسة عشرة أو السادسة عشرة أو
السابعة عشرة - وهو لا يصدق عليه وصف الصغر لغةً ولا شرعًا.
لم يبلغنا أن أحدًا من علماء الترك ، ولا غيرهم من العثمانيين أنكر على
حكومتهم الأحكام التي جعلتها مواد قانونية لهذه المسألة ، ولكن جميع أهل البصيرة
بالدين ، يطعنون في دين رؤساء تلك الحكومة الاتحادية ، ويحكمون بردتهم،
ويعتقدون أنهم يحاولون هدم هذه الشريعة الإلهية العادلة.
وأما علماء مصر من مدرسي الأزهر ومدرسة القضاء الشرعي ومدرسة دار
العلوم والمحامين الشرعيين وغيرهم ، فقد تجرؤوا في هذه المرة وانتقدوا هذا القانون
من وجوه عديدة وأنكروا على واضعي نصه ، وعلى الشيخين الكبيرين - شيخ
الأزهر ومفتي الديار المصرية - إجازته ، واقتصارهما على نقل قول الحنفية بجواز
تخصيص القضاء - ومنهم من أطلق القول في الإنكار وبالغ فيه ، ومنهم من عرف
بعضًا وأنكر بعضًا، وقد حوم بعضهم حول مسألة الاجتهاد ، وهل يدعيه واضعو
هذا القانون مطلقًا أو مقيدًا؟ وألم آخر بمسألة جعل الشرعية قانونًا ، وهو ما سبقنا
إليه عند الأمر بتأليف اللجنة العلمية؛ لوضع قانون الأحكام الشخصية - فبدأنا
بإظهار إنكارنا للشيخ محمد بخيت أكبر أعضاء تلك اللجنة ، وثنينا بوزير الحقانية،
ثم كتبنا ما كتبنا في المنار.
ولما كانت هذه المسألة مفتاحًا لمسائل ستتلوها من جنسها ، وتكون موضوع
البحث والمناقشة في مجلس النواب المصري الذي سينعقد قريبًا رأينا من المفيد أن
ننشر أقوى ما اطلعنا عليه مما كتب في تأييد هذا القانون ، وفي نقده والإنكار عليه؛
ليحفظ أو يسهل الرجوع إليه، والفريق الأول عندنا محصور في الشيخ محمد بك
الخضري - وهذا نص ما كتبه ونشره في جريدة الأهرام:
***
تحديد سن الزواج
للأستاذ الشيخ محمد بك الخضري من المفتشين للمدارس الأميرية [2]
فاجأ الجمهور مرسوم جلالة الملك ، بتحديد السن لزواج الصغير والصغيرة ،
حتى لو حصل الزواج قبل هذه السن لا تعترف به المحاكم الشرعية ، ولا تبني
عليه شيئًا من آثار الزوجية ، ولا يسمح لمن يباشرون عقود الزواج من
المأذونين والقضاة ، أن يحرروا عقد زواج بين اثنين لم يبلغ أحدهما السن التي
قررها المرسوم لكل من الزوجين ، فاجأهم ذلك فكان مجالاً للأحاديث والسمر،
واستفتاء المستفتين، وانتقاد المنتقدين، من علماء ومحامين، على صفحات الجرائد ، وقد دعاني بعض من أحب إلى أن أكتب على صفحات الأهرام الغراء ،
ما يتضح به صبح هذا الأمر الخطير ، قبل أن تتشعب الآراء، وتكثر الظنون.
***
زواج الصغير والصغيرة
مما كان موضوع خلاف بين فقهاء المسلمين ، عقد زواج الصغيرة والصغير
فمنهم من أجازه ، ومنهم من منعه ، أما الذين أجازوه فهم جمهور الفقهاء ، وهم بين
مضيق لدائرته وموسع لها ، ولهم في ذلك ثلاثة مذاهب:
(الأول) رأي الفقيه المقدم أبي حنفية النعمان بن ثابت رحمه الله وهو
الذي توسع فيه توسعًا عظيمًا ، حيث أجاز لكل ولي قرب أم بعد أن يتولى تزويج
الصغيرة والصغير ، إلا أنه ميز الأب والجد بامتياز ، وهو أن عقدهما نافذ لا خيار
فيه ، بعد أن يبلغ ذلك الذي زوج وهو صغير ذكرًا أكان أم أنثى أما إن باشره
غيرهما من الأولياء من أخ أو عم أو ابن عم ، فإنه يثبت فيه الخيار بعد البلوغ
بشروط وقيود ، جعلت ذلك الحق في الغالب عديم الجدوى ، وليس من غرضنا الآن
أن نتوسع في شرح تلك القيود.
(الثاني) رأي الفقيه المصري [3] الكبير محمد بن إدريس الشافعي وهو أنه
لا يزوج الصغير والبكر الصغيرة إلا الأب أو الجد ، وقيد حقهما في ذلك بقيود
تحفظ للصغير والصغيرة بعض حقوقهما.
(الثالث) رأي إمام دار الهجرة مالك بن أنس وهو أنه لا يباشر هذا العقد إلا
الأب وحده في حياته ، ووصيه في التزويج بعد وفاته - احترم رحمه الله إرادة
الأب حيًّا أو ميتًا.
وأما الذين منعوا تزويج الصغيرة والصغير قبل البلوغ ، فقليل من الفقهاء ذكر
منهم صاحب المبسوط: بن شبرمة وأبا بكر بن الأصم. والأول فقيه من كبار فقهاء
الكوفة ، وكان قاضيها في عصر الإمام أبي حنيفة رحمه الله وقد ساق صاحب
المبسوط دليل هذا المذهب واضحًا مع مخالفته لمذهبه ، كما هو شأن العلماء أمنة
العلم وسرج الهداية - قال - لقوله تعالى: {وَابْتَلُوا اليَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} (النساء: 6) : فلو جاز التزويج قبل البلوغ لم يكن لهذا فائدة. يلاحظ أن أئمة الفقهاء وكبار المفسرين قرروا أن كلمة النكاح ، لم تأت في القرآن الكريم إلا بمعنى
العقد.
ولأن ثبوت الولاية على الصغير؛ لحاجة المولى عليه ، حتى إن فيما لا
تتحقق فيه الحاجة لا تثبت الولاية كالتبرعات - ولا حاجة بهما إلى النكاح؛ لأن
مقصود النكاح طبعًا هو قضاء الشهوة - وشرعًا النسل - والصغر ينافيهما.
ثم هذا العقد يعقد للعمر ويلزمهما أحكامه بعد البلوغ ، فلا يكون لأحد أن
يلزمهما ذلك؛ إذ لا ولاية لأحد عليهما بعد البلوغ.
هذا دليل المذهب المانع لزواج الصغيرة والصغير ، احتج عليه أصحابه بدليل
منقول وهو إشارة الكتاب ، وبدليل راجع إلى العلة التي شرعت من أجلها الولاية ،
وهي حاجة الصغير. فمتى انتفت الحاجة انتفى معلولها، وهي هنا منتفية. وبدليل
معقول وهو ما يترتب من الفساد على هذا العقد ، وهو إلزام الصغير بعد بلوغه
أمرًا لم يلتزمه
لمن أجازوا تزويج الصغيرة والصغير - وهم جمهور الفقهاء - أدلة أخرى
وليس القراء في حاجة إلى أن نذكرها لهم؛ لأن الغرض أن نبين أن هناك مذهبًا
إسلاميًّا منع زواج الصغيرة والصغير ، وحتم الانتظار إلى البلوغ ، والذين رووا
هذا المذهب هم علماؤنا الذين نطمئن إليهم ، يظهر أن الحكمة المصرية سمحت
لنفسها منذ أزمان ، أنها إذا رأت في حكم من المذهب المعمول به ضررًا يلحق
الجمهور ، أن تشير على جلالة الملك بتعديل هذا الحكم مستعينًا بآراء الآخرين من
الفقهاء ، سواء أكانوا من أرباب المذاهب المعروفة ، كما فعلت في الطلاق على
الغائب ومسائل أخرى ، أم من غيرهم كما فعلت في هذه المسألة ، وعدم الاعتراض
عليها فيما سبق شجعها على تحديد سن الزواج بعد أن علمت من أضرار تزويج
الصغار ما علمت.
وليس هناك مانع من التلفيق ، كما صرح به كبار رجال الأصول ، وفي
مقدمتهم: الكمال بن الهمام أشهر الأصوليين من الحنفية.
***
المنع وعدم سماع الدعوى
الحكومة متى تحققت من ضرر السير على حكم من الأحكام في المذهب
المعمول به ، ليس في مقدورها أن تمنع من العمل على خلافه ، والدليل على ذلك
أن المحاكم الشرعية تسير في أحكامها على الراجح من مذهب أبي حنيفة - رحمه
الله - وهناك أقوال لأصحابه تخالف ذلك الراجح ومذاهب أخرى تخالفه كذلك ، فهل
في مقدور الحكومة أن تمنع زواجًا يعقد بين اثنين على مذهب الشافعي رحمه الله
وتقول للزوجين: تفرقا؛ لأن العقد بينكما ليس على الراجح من مذهب أبي حنيفة؟ !
كلا ليس ذلك في مقدورها ، ما دام الزوجان راضيين ، إنما الذي في مقدورها ألا
تعترف محاكمها بهذا العقد ولا بالآثار المترتبة عليه.
هب أن زوجًا قال لزوجه مُطَلِّقا: أنت بائن. وفي أثناء عدتها راجعها من
غير عقد جديد ، فهل في وسع حكومة من حكومات العالم الإسلامي أن تقول للزوج
الذي عاد إلى معاشرة زوجه: لا تعد؛ لأن أبا حنيفة يعتبر هذا الطلاق بائنًا ولا عودة
إلا بعقد جديد؟ ! كلا ليس ذلك في وسع أحد ، وإنما إذا تقدما للمحكمة لا تعتبرهما
زوجين ، وإذا مات أحدهما لا تورث الآخر منه؛ لأن الزوجية في نظر المحكمة قد
انحلت ولم تعد - فما رآه بعض المحامين من أنه كان الأولى بالحكومة ، أن تضع
عقوبة على من زوج ابنه أو ابنته في حال الصغر ، رأي لم ينضج؛ إذ كيف يعتبر
مجرمًا من اتبع مذهبًا من مذاهب المسلمين في عمل من أعماله الشخصية ويجر إلى
المحاكم المدنية لتحكم عليه بالعقوبة؟ ! .
إن هذا المرسوم الكريم قد دعا إلى الابتعاد عن أمر فيه ضرر عظيم - كانت
هناك عقود تعقد ، لا لمصلحة الصغيرة والصغير بل لمصالح آخرين ، يريدون
الاستفادة من تقييد أحد الزوجين بالآخر ، قبل أن تعرف إرادتهما أو إرادة أحدهما،
وكثير من المطلعين على أحوال الناس يقولون: إن عاقبة مثل هذا الزواج في
الغالب نكد على الزوجين جميعًا. وأكثر من ذلك أن ذوي الخبرة من الأطباء قرروا
لهذا الاجتماع أضرارًا ، ليس شرحها بميسور على صفحات الجرائد ، وقد سمعت
الكثير منها فآلمني سماعه ، ولا طريق إلى تنفير الناس منه ، وإبعادهم عنه إلا أن
يروا محاكمهم الشرعية تأبى أن تعترف به.
أما الاعتراض على ذلك ، بما يوجد من تحريم حلال وإحلال حرام؛ فلا محل
له ما دامت هناك مذاهب مختلفة ، وكثير من العقود يعتبرها أبو حنيفة - رحمه
الله- صحيحة ، ويعتبرها الشافعي باطلة ، ولكن القاضي يحكم بالصحة ويحل
الاجتماع ، فهل يقوم الشافعي ويقول للمحكمة: قد أحللت ما حرم الله؟ كلا بل
متى حكم القاضي بأي مذهب أبيح له أن يقضي به - كان حكمه قاضيًا على كل
خلاف ، وصارت الحادثة كأن فيها قولاً واحدًا ، فإذا أباح ولي الأمر لقاضيه أن
يقضي بمذهب ابن شبرمة في زواج الصغيرة والصغير ، فقضى حتى ببطلانه لم يعد
هناك خلاف بين الفقهاء في بطلانه ، وهكذا الشأن في كل حكم لم يخالف كتابًا ولا
سنة ، ومع هذا فإن المرسوم لم يكلف القاضي أن يحكم ببطلان الزواج ، وليته فعل
فإن الجادة خير من بنيات الطريق.
ولا محل لقول كاتب في المقطم أمس: (فرأيت الشريعة برمتها لا تحظر ما
منعه القانون الملحق ، ولا تمنع ما حرمت هاتان المادتان) فإنه إن أراد بالشريعة
بعض المذاهب الإسلامية ، كان قوله صحيحًا ، وليست الشريعة مذهبًا معينًا ، وإذا
أراد بالشريعة إجماع المسلمين على حل ما يريد المرسوم الامتناع منه خطأه صاحب
المبسوط بما رواه واستدل عليه في الصفحة 212 من الجزء الرابع.
ليس للجمهور المصري بعد ذلك إلا أن يساعد حكومته ، التي أرادت به خيرًا
فيمتنع من تلقاء نفسه عن عقد زواج، أحد طرفيه صغير أو صغيرة.
…
...
…
...
…
...
…
محمد الخضري
***
زواج الصغير والصغيرة
رد للأستاذ الشيخ محمد بخيت أشهر علماء
الأزهر وفقهاء الحنفية
أرسله إلينا ونشر في بعض الجرائد اليومية ، قد بدأه بمقدمة في حكم النكاح
(التزوج) واختلاف العلماء فيه، هل فرض أو واجب أو سنة على الأعيان أو
على الكفاية، وكونه بصرف النظر عن الخلاف تعتريه الأحكام ، فيجب على من
خاف على نفسه الزنا ـ وبعد هذه المقدمة قال:
قد اطلعنا في جريدة الأهرام عدد 14231 الصادر في يوم الإثنين 17 ديسمبر
سنة 1923 - جمادى الأولى سنة 1342 على مقال مذيل بإمضاء الأستاذ الفاضل
الشيخ محمد الخضري ، ومذكرة مذيلة بإمضاء علماء من أفاضل العلماء ، وبعد أن
ذكروا مذاهب جمهور العلماء في تزويج الصغير والصغيرة ، وأن ذلك جائز على
اختلاف بينهم فيمن يتولاه ، ذكروا بعد ذلك مذهب الذين منعوا من زواج الصغير
والصغيرة وتزويجهما قبل البلوغ ، وأن ذلك مذهب ابن شبرمة وأبي بكر الأصم ،
وأن دليل هذا المذهب قوله تعالى: {وَابْتَلُوا اليَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} (النساء: 6) إلى آخر ما ذكروه من الأدلة.
وأقول: إني أعتقد أن من البعيد أن يكون ذلك النقل صحيحًا وإن نسبه في
المبسوط لها ، ولذلك قال صاحب البدائع: يحكى عن عثمان البتي وابن شبرمة أنهما
قالا: ليس لهما؛ أي: للأب والجد ولاية التزويج. ولم يستدل لهما بتلك الآية
بل استدل بالمعنى ، فقول صاحب البدائع: يحكي دليل على ضعف النقل عن ابن
شبرمة ومن معه ، وأن صاحب المبسوط وغيره ممن نقلوا هذا المذهب عمن
ذكروا إنما نقلوه؛ لإبطاله، بقطع النظر عن صحة النقل وعدمه ، وأيضًا يبعد كل
البعد أن ابن شبرمة ومن ذكر معه ، يستدلون بهذه الآية على منع زواج
الصغير والصغيرة وتزويجهما ، ويقولون: إنه لو جاز لم يكن لهذا فائدة؛ وذلك لأن
الآية إنما سيقت لما يتعلق بأموال اليتامى الصغار ، ولا دلالة فيها على منع تزويج
الصغير والصغيرة ، لا بطريق العبارة ولا بطريق الإشارة ، ولا بطريق آخر من
طرق الدلالات.
وإلى كافة العلماء بيان ذلك فنقول: قال تعالى في أول سورة النساء:
{وَآتُوا اليَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} (النساء: 2) قال المفسرون جميعًا: فيما نعلم الخطاب
للأوصياء والأولياء ، والمراد بإيتاء الأموال: إما تركها سالمة غير متعرض لها بسوء ، وإما الإيتاء بالفعل ، والمراد باليتامى: إما معناه اللغوي؛ فيشمل الكبار
والصغار فهو حقيقة في ذلك وارد على أصل اللغة ، وإما مجاز باعتبار ما كان؛ لأن إيتاء المال بالفعل إنما يكون بعد البلوغ، ثم قال تعالى في تلك السورة:
{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} (النساء: 5) قال المفسرون: هذا رجوع إلى بيان
بقية الأحكام المتعلقة بأموال اليتامى ، وتفصيل ما أجمل فيما سبق من شرط إيتائها ،
وكيفيته إثر بيان الأحكام المتعلقة بالأنفس - أعني الزواج - ، وبيان بعض
الحقوق المتعلقة بالأجنبيات ، من حيث النفس ومن حيث المال استطرادًا؛ إذ
الخطاب كما يدل عليه كلام عكرمة للأولياء ، وصرح هو وابن جبير بأن المراد من السفهاء: اليتامى ، ومن أموالكم: أموالهم. ثم قال عز من قائل بعد ذلك:
{وَابْتَلُوا اليَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ
أَمْوَالَهُمْ} (النساء: 6) الآية.
قال شيخ الإسلام [4] : إن هذا شروع في تعيين وقت تسليم أموال اليتامى
إليهم وبيان شرطه بعد الأمر بإيتائها على الإطلاق ، والنهي عنه عند كون أصحابها
سفهاء. وقال غيره: إن هذا رجوع إلى بيان الأحكام المتعلقة بأموال اليتامى لا
شروع. وأيًّا كان فقد أطبق المفسرون على أن الابتلاء معناه الاختبار ، وعلى أن
معنى الآية: واختبروا من عندكم من اليتامى بتتبع أحوالهم في الاهتداء إلى ضبط
الأموال ، وحسن التصرف فيها ، وجربوهم بما يليق بحالهم. غير أن أبا حنيفة قد
اقتصر في الاختبار على الاهتداء إلى ما ذكر.
وزاد الشافعي على هذا الاهتداء: الاهتداء إلى الصلاح في الدين ، واتفق
الإمامان رضي الله عنهما على أن هذا الاختبار يكون قبل البلوغ. وظاهر الآية
يشهد لهما لما تدل عليه (حتى) التي هي للغاية ، غير أنهما اختلفا في طريق الاختبار
فقال أبو حنيفة: يكون ذلك بإذن الولي أو الوصي لليتيم في أن يباشر البيع والشراء
مثلاً. وقال الشافعي: لا يكون بذلك بل يكون بدونه على حسب ما يليق بالحال بأن
يمرنه على كيفية البيع والشراء ، حتى إذا جاء وقت البيع أو الشراء باشره الولي أو
الوصي؛ وذلك لأن الإذن في مباشرة البيع والشراء مثلاً يتوقف على دفع المال
لليتيم ، ودفع المال إليه لا يكون إلا بعد البلوغ وإيناس الرشد والغرض الاختبار قبل
ذلك. وقال مالك: الاختبار يكون بعد البلوغ ، وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا
النِّكَاحَ} (النساء: 6) معناه - على ما اتفق عليه المفسرون - حتى إذا بلغوا الحلم
وحد البلوغ ، سواء كان ذلك بالحيض والاحتلام، أو بالسن بالنظر إلى الصغيرة،
أو بالسن أو الاحتلام بالنظر إلى الصغير. ويستوي في ذلك المعنى أن يكون لفظ
النكاح في الآية بمعنى العقد ، أو بمعنى الوطء ، وإن قال الحنفية: إنه حقيقة في
الوطء. والشافعية: إنه حقيقة في العقد. وقد جاء بمعنى الوطء في قوله تعالى:
{وَلَا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِنَ النِّسَاءِ} (النساء: 22) الآية. فلا وجه للقول بأنه
لم يجئ في القرآن إلا بمعنى العقد ، وقالوا جميعًا: إن معنى قوله تعالى: {فَإِنْ
آنَسْتُم مِنْهُمْ رُشْداً} (النساء: 6) الآية، إن أحسنتم أو تبينتم اهتداء إلى ضبط
الأموال ، وحسن التصرف أو إلى ذلك ، وصلاح في الدين على ما سبق من الخلاف ،
فادفعوا إلى اليتامى أموالهم عقب البلوغ بدون تأخير فحتى للابتداء وللغاية
و {إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} (النساء: 6) جملة شرطية ، جعلت غاية للابتلاء ،
وفعل الشرط (بلغوا) وجوابه الشرطية الثانية ، فكان دفع الأموال معلقًا على
شرطين: الوصول إلى حد البلوغ ، وإيناس الرشد ، ولذلك قال الفخر الرازي: لا
شك أن المراد من ابتلاء اليتامى المأمور به ابتلاؤهم فيما يتعلق بمصالح حفظ المال ،
وقد قال الله تعالى بعد ذلك الأمر: {فَإِنْ آنَستُم مِنهُمْ رُشْداً} (النساء: 6)
فيجب أن يكون المراد: {فَإِنْ آنَستُم مِنهُمْ رُشْداً} (النساء: 6) في ضبط
مصالحهم ، فإنه إن لم يكن المراد ذلك تفكك النظم ، ولم يبق للبعض تعلق بالبعض.
انتهى.
إذا علمت هذا تعلم أن الآية لا دلالة فيها على منع تزويج الصغير والصغيرة
قبل البلوغ ، حتى يقال: لو جاز التزويج قبل البلوغ لم يكن لهذا فائدة ، وما هو
الشيء الذي لا تكون له فائدة في هذا الآية ، إذا جاز التزويج قبل البلوغ؟ وقد
علمت معناها الذي أطبق عليه المفسرون.
على أن هذا المذهب بعد كونه غير مدون ، ولا أصحاب له يعتمد عليهم في
النقل مصادم لصريح قوله تعالى: {وَاللَاّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِسَائِكُمْ إِنِ
ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَاّئِي لَمْ يَحِضْنَ} (الطلاق: 4) قال صاحب
المبسوط: بين الله تعالى عدة الصغيرة وسبب العدة شرعًا هو النكاح، وذلك دليل
على تصور زواج الصغيرة.
ومصادم أيضًا لقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَاّ تُقْسِطُوا فِي اليَتَامَى فَانكِحُوا مَا
طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ} (النساء: 3) فإن هذا القول إنما يتحقق إذا كان زواج
اليتيمة جائزًا. وقد أخرج البخاري ومسلم والنسائي والبيهقي في سننه عن عروة ابن
الزبير أنه سأل عائشة رضي الله عنها عن هذه الآية فقالت: يا ابن أختي، هذه
اليتيمة تكون في حجر وليها ، يشركها في مالها ، ويعجبه مالها وجمالها ، فيريد أن
يتزوجها من غير أن يقسط في صداقها ، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره ، فنهوا أن
ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق ، وأمروا أن
ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن. فالمراد من اليتامى المتزوج بهن ، والقرينة
على ذلك الجواب، فإنه صريح فيه ، والربط يقتضيه. والمراد من النساء:
غير اليتامى ، كما صرحت به الحميراء رضي الله عنها بدلالة المعنى عليه ، وإشارة لفظ النساء إليه ، وقد روى ابن جرير وابن المنذر وابن حاتم عن عائشة رضي الله عنها مثل ما رواه البخاري ومسلم والنسائي والبيهقي عن عروة، فهذا دليل على جواز تزويج اليتيمة.
وقد زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بنت عمه حمزة من عمر بن سلمة
وهي صغيرة ، وقد تزوج قدامة بن مظعون بنت الزبير يوم ولدت ، وقال: إن مت
فهي خير ورثتي ، وإن عشت فهي بنت الزبير. وزوج ابن عمر بنتًا له صغيرة
من عروة بن الزبير. وزوج عروة بن الزبير بنت أخيه ، وهما صغيران.
ووهب رجل ابنته الصغيرة من عبد الله بن الحسن فأجاز ذلك علي رضي الله
عنه ، وزوجت امرأة ابن مسعود بنتًا لها صغيرة ابنًا للمسيب بن نخبة، فأجاز ذلك
عبد الله.
قال في المبسوط: ولكن أبا بكر الأصم لم يسمع بهذه الأحاديث ، ثم قال:
والمعنى فيه: إن النكاح من جملة المصالح وضعًا في حق الذكور والإناث جميعًا ،
وهو يشتمل على أغراض ومقاصد لا تتوفر إلا بين الأكفاء ، والكفء لا يتفق في
كل وقت ، فكانت الحاجة ماسة إلى إثبات الولاية للولي في صغرها؛ لأنه لو انتظر
بلوغها لفات ذلك الكفء ولم يوجد مثله ، ولما كان هذا العقد يعقد للعمر بتحقق
الحاجة إلى ما هو من مقاصد هذا العقد ، فتجعل تلك الحاجة كالمتحققة في الحال
بإثبات الولاية للولي. انتهى.
وبعد أن حكى صاحب البدائع أن لا خلاف في تزويج الأب والجد إلا بشيء
يحكى عن عثمان البتي وابن شبرمة - بهذا اللفظ الذي يفيد ضعف النقل عنهما كما
ذكرنا- استدل للقول بجواز تزويج الأب والجد للصغير والصغيرة بقوله تعالى:
{وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ} (النور: 32) وقال: الأيم اسم للأنثى من بنات آدم
عليه السلام ، كبيرة كانت أو صغيرة لا زوج لها ، وكلمة (من) إن كانت للتبعيض
يكون هذا خطابًا للآباء ، وإن كانت للجنس يكون خطابًا لجنس المؤمنين ، وعموم
الخطاب يتناول الأب والجد ، وأنكح الصديق رضي الله عنه -عائشة وهي بنت
ست سنين ، وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وزوج علي ابنته أم كلثوم
وهي صغيرة من عمر بن الخطاب، وزوج عبد الله بن عمر ابنته وهي صغيرة
عروة بن الزبير - وبه تبين أن قولهما خرج مخالفًا لإجماع الصحابة ، فكان مردودًا.
وأما قولهما: إن حكم النكاح بقي بعد البلوغ. فنعم ، ولكن بالإنكاح السابق لا بإنكاح
مبتدأ بعد البلوغ ، وهذا جائز كما في البيع ، فإن لهما ولاية بيع ما للصغير ، وإن
كان حكم البيع وهو الملك يبقى بعد البلوغ لما قلنا، فكذا هذا اهـ.
وقال الكمال في فتح القدير بعد أن استدل على جواز زواج الصغير
والصغيرة بقوله تعالى: {وَاللَاّئِي لَمْ يَحِضْنَ} (الطلاق: 4) : فبطل به منع ابن
شبرمة وأبي بكر بن الأصم ، وتزويج أبي بكر لعائشة رضي الله عنهما وهي
بنت ست نص قريب من المتواتر. اهـ.
فكان هذا المذهب مذهبًا باطلاً مردودًا مخالفًا لصريح الكتاب والسنة والإجماع
فلا يجوز العمل به.
سلمنا صحة النقل عمن ذكروا ، وأن المذهب مذهب صحيح يجوز العمل به
لكن أصحاب المذكرة والأستاذ الشيخ الخضري في مقاله لم يعملوا بهذا المذهب ،
ولا بغيره من مذاهب علماء المسلمين؛ وذلك لأن ابن شبرمة وعثمان وأبا بكر بن
الأصم إنما خالفوا على فرض صحة النقل عنهم في تزويج الصغير والصغيرة ،
قبل بلوغهما لا بالحيض ولا بالاحتلام ولا بالسن ، ولا يوجد من علماء المسلمين
قاطبة من يقول: بأن بلوغ الصغير والصغيرة لا يكون إلا بالسن ، بل الإجماع من
العلماء سلفًا وخلفًا إلى يومنا هذا قائم على أن البلوغ في الصغيرة إما بالحبل أو
بالحيض أو بالاحتلام ، وفي الصغير إما بالإحبال أو الاحتلام أو السن ، وأنه لا
يصار إلى اعتبار البلوغ بالسن إلا إذا انعدم الحبل والحيض والاحتلام في
الصغيرة، وانعدم الإحبال والاحتلام في الصغير ، وأما إذا وجد شيء مما ذكر في
الصغير أو الصغيرة ، فقد بلغت هي وبلغ هو النكاح؛ أي: حد بلوغ الحلم وصارا
مكلفين بإجماع المسلمين ، فكان حصر بلوغ الصغير والصغيرة في كونه بالسن
ودعوى أنه أضبط - أمارة للبلوغ كما جاء في المذكرة ، وفي مقال الأستاذ الشيخ
الخضري مخالف لكتاب الله وسنة رسول الله وإجماع السلمين ، فالقرآن دال
والإجماع قائم على أن الصبي والصبية متى بلغا الحلم ، بأن حاضت الصبية أو
احتلمت أو حبلت وكانت رشيدة وقت بلوغها ، وجب تسليم أموالها إليها بدون تأخير ،
ولو كانت بنت تسع سنين ، وكذلك الصبي إذا احتلم أو أحبل امرأته ، وتبين رشده
وقت البلوغ وجب تسليم أمواله إليه ، ولو كانت سنه ثنتي عشر سنة بدون تأخير ،
ولا اعتبار بالسن في هاتين الحالتين. وأما إذا لم تحض الصبية ولم تحتلم ولم تحبل ،
ولم يحتلم الصبي ولم يحبل امرأته كان بلوغهما حينئذ بالسن ، وهو خمس عشر سنة
عند الشافعي وأبي يوسف ومحمد وهي رواية عن أبي حنيفة ، وعليها الفتوى عند
الحنفية ، كما أن العادة الفاشية أن الصبي والصبية يصلحان للزواج وثمراته في هذه
المدة ولا يتأخران عنها.
وشاع عن الإمام الأعظم أن السن للصغير ثمان عشرة ، وللصبية سبع عشرة
سنة. وعلى كل حال فاعتبار السن أمارة للبلوغ وحدًّا له متأخر بالإجماع ، عن
اعتبار الحيض والاحتلام حدًّا للبلوغ وأمارة له ، فلا يصار إليه إلا عند عدمهما ، لا
فرق في ذلك بين أن يزوج الإنسان نفسه، أو يزوجه وليه بإذنه على اختلاف
المذاهب في تفصيل ذلك ، وبين أن يملك التصرف في ماله ومتى بلغ بالسن على
اختلاف المذاهب ، فإن كان رشيدًا وجب تسليم ماله إليه عقب بلوغه هذه السن ،
وإن كان سفيهًا وجب الحجر عليه على قول الشافعي وأبي يوسف ومحمد ومن
وافقهم ، ولا يحجر عليه عند أبي حنيفة بل يؤخر ماله إليه إلى أن تبلغ سنه خمسًا
وعشرين سنة ، فإنْ بلغ تلك السن سلم إليه ماله على كل حال.
وأما ما أجاب به الأستاذ الفاضل الشيخ الخضري عن السؤال الرابع الذي هو:
ما الرأي فيمن يبلغ بعلامات البلوغ قبل هذه السن؟ بأنه لا يعلم تفصيلاً لمذهب
ابن شبرمة في ذلك- فنقول له:
إذا كنت لا تعلم تفصيلاً لمذهب ابن شبرمة فيمن يبلغ بعلامات البلوغ قبل هذه
السن ، فلم يكن حد البلوغ معلومًا عند ابن شبرمة ، فلا يعلم حد الصغر، فيكون
مذهبه مجهولاً عندنا ، فلا يجوز الأخذ به ومع ذلك فمذهب ابن شبرمة وعثمان
البتي وأبي بكر بن الأصم لم يكن مدونًا ، وليس له أصحاب نقلوه بطريق صحيح ،
وإنما علمناه مما ذكره بعض علماء المذاهب الأخرى، كصاحب المبسوط وصاحب
البدائع وصاحب الفتح ، وهؤلاء قد ذكروه مجملاً ، ومع ذلك فهؤلاء يصرحون بأن
هؤلاء العلماء الثلاثة لم يخالفوا إلا في تزويج الصغير والصغيرة قبل البلوغ،
وأطلقوا اعتمادًا على ما هو متفق عليه بين الجميع ، من أن البلوغ كما يكون بالسن
يكون بغيرها قبل هذه السن ، على ما نطق به الكتاب والسنة وعبارة المبسوط قال
بخلاف ما يقوله ابن شبرمة ، وأبو بكر الأصم أنه لا يزوج الصغير والصغيرة حتى
يبلغا؛ لقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} (النساء: 6) اهـ.
فكان المنع في هذا المذهب مقيدًا بالبلوغ بأي أمارة كانت ، كما هو المراد من
قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} (النساء: 6) على ما فصلناه ، وقال في
البدائع: جملة الكلام فيه: إنه لا خلاف في أن للأب والجد ولاية النكاح ، إلا شيئًا
يحكى عن عثمان البتي وابن شبرمة أنهما قالا: ليس لهما ولاية التزويج. واستدل
لهما بأن حكم الزواج إذا ثبت لا يقتصر على حال الصغر ، بل يدوم ويبقى إلى ما
بعد البلوغ. إلى آخر ما استدل به لهما مما هو صريح في أن منعهما مقيد بحال
الصغر ، وأما بعد البلوغ فلا خلاف لأحد في جواز التزويج والتزوج ، وهل بمجرد
عدم علم الأستاذ الشيخ الخضري بتفصيل هذا المذهب فيمن يبلغ بعلامات البلوغ
قبل هذه السن ، يثبت أن هناك خلافًا ومذهبًا في عدم اعتبار علامات البلوغ في هذه
السن ، وإن لم ينقل العلماء خلافًا في ذلك خصوصًا مع الإجماع على أن التكليف
مرفوعٌ عن الصبي حتى يحتلم ، وعن الصبية حتى تحيض.
وأما ما قاله في مقاله المنشور بجريدة الأهرام نمرة 14236 ، في يوم السبت
22 ديسمبر سنة 1923 من أن الأصوليين اشترطوا في العلل التي تناط بها
الأحكام أن تكون أوصافًا ظاهرة منضبطة ، وعلامات البلوغ ، وإنْ تكن منضبطة
ليست بظاهرة. إلى آخر ما قال [5]- فنقول له: إن علامات البلوغ ظاهرة منضبطة،
منها الحيض والاحتلام والحبل والإحبال ، وكما اعتبر الشارع هذه الأمارات في
البلوغ ، فقد اعتبر الحيض أمارة في العدة في ذوات الحيض؛ لانقضائها وتعرف
براءة الرحم ، حتى على القول بأن عدة ذوات الحيض بالأطهار؛ لأن الأطهار التي
تنقضي بها العدة إنما تعرف بالحيض ، وكما اعتبر الشارع الحيض فيما ذكر قد
اعتبره واعتبر الاحتلام في توجه خطاب التكليف ، وأجرى على كل بنت حاضت
أو احتلمت ، وابن احتلم أحكام البالغين والمكلفين ، فإن كان لدى حضرة الأستاذ علم
بأن في هذا خلافًا، فليدلنا على مذهب المخالف ، وكذلك الشارع اعتبر الحبل علة؛
لإيقاف نصيب الحمل في الميراث ، ولوجوب الحد على من حملت من الزنا ، على
أن المثبت للحكم في مورد النص هو النص لا العلل ، وأما ما في دعوى الحيض
من البلاء على الأزواج والزوجات ، فهذا منشؤه عدم التزام الشرع والعمل به على
فرض أن الدعاوى تخالف الواقع قال تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ
قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ} (البقرة: 228) ، وبالجملة فارتكاب مخالفة الحكم لا
ينسخ الحكم.
ومن هذا تعلم أنه لا معنى لقول أصحاب المذكرة: (اتفق العلماء على بطلان
العقد إذا باشره غير مميز) إلخ. بل هو لغو من القول وخروج عن الموضوع ،
ولا علاقة له به؛ لأن الكلام ليس في مباشرة غير المميز عقد الزواج ، ولا في
مباشرة المميز له ، وإنما الكلام في مباشرة ولي الصغير والصغيرة تزويجهما حال
الصغر بلا فرق بين مميز وغير مميز ، كما أنه لا معنى لقول أصحاب المذكرة.
(اتفقت كلمة الحنفية أنه بعد البلوغ لا جبر لأحد في عقد الزواج) . فإنه خروج عن
الموضوع أيضًا؛ لأن الكلام ليس في الجبر وعدم الجبر.
على أن قولهم فيها: (لأن البلوغ آية الرشد واستكمال العقل) . يهدم جميع ما
قصدوه من المقدمات التي ذكروها في المذكرة ، ويبطل ما يريدون ترويجه بناء عليها
من جواز تحديد السن للزواج؛ وذلك لأنهم متى اعترفوا بأن البلوغ آية الرشد
واستكمال العقل ، وكان البلوغ بإجماع المسلمين كما يكون بالسن - على التفصيل
الذي قدمناه عند عدم الحيض والاحتلام للصبية ، وعدم الاحتلام للصبي - يكون
بالحيض والاحتلام متى بلغت تسع سنين ، والاحتلام للصبي إذا بلغ ثنتي عشرة
سنة ، ولو لم يبلغ كل منهما السن التي حددوها لزواجه ، فكان تحديد السن بما حددوه للزواج مخالفًا للكتاب والسنة والإجماع ، كما أن ما ذكروه بالمذكرة من
اختلاف العلماء على فرض صحة الخلاف في جواز تزويج الصغير والصغيرة قبل
البلوغ ، لا ينبني عليه جواز تحديد السن التي حددوها للزواج؛ لأن الصغير أو
الصغيرة إذا بلغا بغير السن ، فقد بلغا الحلم، وملك تزويج نفسه ، إن كان ذكرًا ، أو
تزويجها وليها جبرًا أو ندبًا إن كانت أنثى بكرًا أو ثيبًا.
كما أن قول أصحاب المذكرة: (إن من اللازم أن يناط سن الزواج بسن
الرشد بالنسبة لكل من الزوجين إلخ) . قول باطل؛ لأن ذلك يقتضي أن هناك شرعًا
سنًّا للزواج وسنًّا للرشد ، بل إن الصبي والصبية متى بلغا الحلم بأي أمارة من
أمارات البلوغ ، سواء كانت بأمارة السن أو بالأمارات الأخرى ، التي تكون قبل
السن إن كان رشيدًا مهتديًا لضبط ماله؛ سلم إليه ما له ، وإن لم يكن كذلك بأن كان
سفيهًا يحجر عليه أو لا يحجر على الخلاف السابق ، وأما حد البلوغ فلا فرق فيه بين
الزواج وغيره.
وأما استدلال الأستاذ الخضري وأصحاب المذكرة لمذهب ابن شبرمة ومن
معه بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تنكح اليتيمة حتى تستأمر) وقوله عليه الصلاة
والسلام: (لا يتم بعد الحلم) ، فهو استدلال لا يرضاه صاحب المذهب المذكور ، فإن
الحديث الأول يدل بمنطوقه على أن اليتيمة وهي التي لا أب لها لا تنكح حتى
تستأمر ، على معنى: حتى تبلغ وتستأذن، كما يقول ذلك الشافعي. أو أن المراد
باليتيمة باعتبار ما كان ، كما يقول ذلك أبو حنيفة ، ويدل بمفهوم المخالفة على أن
الصغيرة التي لها أب ينكحها أبوها، كما أن الحديث الثاني يدل بمنطوقه على أن اليتم
ينتفي بعد الحلم ولو بالحيض أو بالاحتلام ، ولو لم تبلغ البنت ست عشرة سنة ولا
الابن ثماني عشرة سنة ، وقد ذكر صاحب المبسوط هذين الحديثين ، وجعلهما دليلين
للإمام الشافعي رضي الله عنه على مذهبه من أنه لا يجوز لغير الأب والجد
تزويج الصغير والصغيرة ، وأما الأب والجد فلهما تزويجهما عملاً في ذلك بمنطوق
الحديث ومفهومه المذكور.
فكيف يمكن الاستدلال بهذين الحديثين لمذهب ابن شبرمة ومن معه وهم
يمنعون تزويج الصغير والصغيرة مطلقًا؟ ولا أدري من أين نقلوا الاستدلال بهذين
الحديثين لمذهب المانعين لتزويج الصغير والصغيرة؟ وأما ما اشتمل عليه مقال
الأستاذ الشيخ الخضري والمذكرة ، من التعاليل لهذا المذهب فليس شيء منها يصلح
دليلاً؛ وذلك لانحصار الدليل الشرعي في الكتاب والسنة والإجماع والقياس
الصحيح ، وليس ما ذكروه من العلل واحدًا منها.
أما أنه ليس من الكتاب والسنة والإجماع فظاهر ، وأما أنه ليس بقياس؛
فلأنهم لم يذكروا الأصل المقيس عليه من الكتاب أو السنة أو الإجماع ، وعلى
فرض أنه قياس صحيح فهو في مقابلة الكتاب والسنة أو الإجماع ، فلا يعول عليه
ولا يلتفت إليه.
وأما ما قالوه ترويجًا لتحديد سن الزواج: من أن الزواج في الصغر يترتب
عليه المفاسد التي ذكروها ، ويضر بصحة الصغير والصغيرة. فغير مسلم؛ لأنه لم
يقل أحد من المسلمين بأن الزواج فيه مفسدة لا في وقت الصغر ولا في وقت الكبر.
والأطباء مختلفون في أن الأفضل التبكير بالزواج أو التأخير ، واختلافهم يوجب
الشك في أقوالهم ، على أنه لا يمكن لعاقل أن يقول: إن مجرد حصول عقد الزواج
يحصل به ضرر لصحة الصغير أو الصغيرة. وإنما الذي يتوهم أن يقال إنما هو
في الوطء، وأما العقد فلا يترتب عليه شيء أصلاً ، فلا وجه لتجديد السن له،
على أنه لا وجه للقول لترتب الفساد أو الضرر بالصحة إذا كانت الصغيرة تشتهي،
وبلغت السن التي تطيق فيه الوطء ، ولو لم تبلغ حد البلوغ في الشرع ، فإنه لو كان
في ذلك أدنى مفسدة ما أمر الله به في كتابه ، ورسوله في سنته ، وأجمعت الأمة على
سنته أو إباحته {قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} (البقرة: 140) - {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ
خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ} (الملك: 14) .
***
مسألة تخصيص القضاء
وأما ما رتبه أصحاب المذكرة على تلك المقدمات ، التي أطالوا فيها بلا طائل ،
من أن المنصوص عليه شرعًا أن لولي الأمر ولاية تخصيص القضاء إلخ. ففضلاً
عن كون ذلك لا يتفرع على تلك المقدمات ولا ينبني عليها ، ولا علاقة بينه وبينها؛
لأن كون ولي الأمر يملك التخصيص، معلوم للخاص والعام ، ومبناه على وجوه
المصلحة التي تقتضيه على ما فصلناه بمحاضراتنا التي قرأناها بمدرسة الحقوق
الملكية في أوائل ديسمبر سنة 1919 ، ونشرت بمجلة الأحكام الشرعية في 21 ديسمبر من تلك السنة في عدد 3 ، وجرى على ذلك العمل. وأصحاب المذكرة لم يبينوا فيها وجه المصلحة العامة ، التي اقتضت هذا التخصيص ، فإنه ليس معنى
التخصيص هو ما فهموه ، من أن ولي الأمر يمنع جميع قضاته عن أن ينظروا
حادثة يخرجها عن اختصاصهم جميعًا ، ولا ينصب لها قاضيًا يفصل الخصومات
فيها ، كما هو الشأن فيما قضت به المذكرة ، فإن جميع حوادث الزواج الذي يقع
قبل سن ست عشرة سنة للبنات أو ثماني عشرة سنة للبنين قد منع جميع قضاة مصر
عن أن ينظروا فيها ، وقولهم في المادة: إلا بالأمر. لا يغني شيئًا ، ولا يقتضي
نصب قاض بالفعل ينظر في تلك الحوادث ، بل معنى تخصيص القضاء الذي
تقضيه المصلحة أن يقسم ولي الأمر جميع أماكن مملكته إلى دوائر متعددة ، فيجعل
لكل دائرة محكمة تحكم في قضايا القاطنين بها في حوادثهم ، ويقسم الحوادث
كذلك بين قضاة تلك المحاكم فيجعل ما يخرج من اختصاص هذا القاضي داخلاً
في اختصاص ذلك القاضي. وعلى هذا لا يوجد مكان في المملكة ، أو حادثة
لرعايا ولي الأمر إلا ولها قاض يفصل فيها ، خصوصًا إذا كانت تلك الحوادث
في الحقوق المشتركة بين كونها حق الله سبحانه وكونها حق العبد، كالزواج
والطلاق أو الحقوق الخالصة لله تعالى ، فإن الزواج بما فيه من حقوق أحد
الزوجين على الآخر حق العباد ، ولما يترتب عليه من الحل والحرمة من حقوق
الله تعالى ، كما أن الطلاق من حقوق العباد من وجه ، ومن حقوق الله من
وجه آخر؛ وذلك لأن الشأن في الحقوق المشتركة أو الخالصة لله تعالى ، إنما
هو للحاكم وولي الأمر ، فيجب أن يكون لها قاض يفصل فيها أو يفصل فيها ولي
الأمر بنفسه.
على أن التخصيص على فرض وجود المصلحة - وإن لم تظهر - إنما هو فيما
أضيف على المادة نمرة 101 من قانون سنة 1910 ، وأما ما أضيف على المادة
نمرة 366 من ذلك القانون من أنه (لا يجوز مباشرة عقد الزواج ولا المصادقة
على الزواج المسند إلى ما قبل العمل بهذا القانون) فليس من التخصيص في شيء
بل هو نهي عن مباشرة عقد الزواج والمصادقة عليه مسندًا إلى ما قبل العمل بذلك
القانون؛ لأن كلا من المباشرة والمصادقة ليس من عمل القاضي ، بل إن الذي
يباشر عقد الزواج أو يتصادق عليه إما الزوجان أو وكيلاهما ، إن كانا بالغين بالسن
أو بغيره ، أو وليهما إن كانا قاصرين، أو ولي القاصر ووكيل البالغ ، وأما المأذون
فوظيفته تلقين صيغة العقد لمن يحتاج إلى التلقين ، والكتابة في دفتر، وتحصيل ما
فرضته الحكومة من الرسوم ، فعقد الزواج متى كان مستوفيًا أركانه وشروطه كان
صحيحًا شرعًا ، حضر المأذون أو لم يحضر ، كتب أو لم يكتب.
ففضلاً عن كون عقد الزواج أدنى مراتبه السنية المؤكدة ، أو الإباحة التي ندب
الشارع إلى فعلها فهو من الأمور الخاصة لا من الأمور العامة ، ولا يجوز النهي
عنه، كما لا يجوز نهي الإنسان عن بيع ملكه إذا كان عاقلاً بالغًا رشيدًا ، ولم
يحجر عليه لدين ، فضلاً عن أن تحديد سن الزواج والنهي عن مباشرة عقده قبل هذه
السن المحددة يقتضي تحريم الحلال ، الذي ندب الشارع إليه وحض الناس إليه أو
تحريم السنة المؤكدة ، وكلا الأمرين معصية بإجماع المسلمين.
أما قول حضرة الأستاذ الشيخ الخضري: (أما الاعتراض على ذلك بما
يوجد من تحريم حلال وإحلال حرام ، فلا محل له ما دامت هناك مذاهب مختلفة)
فنقول له: يا حضرة الأستاذ، إن الخلاف - على فرض أنه خلاف معتبر - إنما هو في الصغير والصغيرة قبل البلوغ ، وأما بعد البلوغ ولو قبل بلوغ السن
المحددة للصغير والصغيرة ، فليس هناك مذاهب مختلفة ، بل إجماع المسلمين وسنة
سيد المرسلين كلها متفقة على أن الصبية إذا بلغت ، والصبي إذا بلغ الحلم بأي أمارة
كانت كان كل منهما بالغًا شرعًا ، لا يخالف في زواجه أحد من العلماء ، ولو لم تبلغ
البنت ست عشرة سنة والابن ثماني عشرة سنة ، وقد صرح الفقهاء قاطبة بأن
البنت إذا بلغت تسع سنين ، وادعت الحيض أو الاحتلام تصدق في ذلك ، وكانت
بالغة شرعًا، وكذا الابن إذا بلغ ثنتي عشرة سنة وادعى الاحتلام صدق في ذلك ،
وكان بالغًا شرعًا ، وإن وجدت أحدًا يخالف فيما قلنا فعليك بالبيان.
فلو فرضنا أن البنت إذا تزوجت بعد البلوغ زواجًا صحيحًا شرعًا ، ولم تبلغ
تلك السن المحددة ، أليست تلك البنت تحل شرعًا لهذا الزوج الذي تزوجها وتحرم
على غيره ، ولا يحل لأحد غير هذا الزوج أن يتزوجها ما دامت في عصمته ،
ووطؤها حلال لهذا الزوج حرام على غيره؟ فلو فرضنا أنها مكثت مع هذا الزوج
مدة ، ثم ادعى آخر بعد أن بلغت سنها ست عشرة سنة أنه تزوجها بنكاح صحيح
شرعي وادعاها الأول كذلك ، أليس الحكم الشرعي يقتضي أن يحكم لأسبقهما
تاريخًا ولو كان زواجه بها قبل أن تبلغ السن المحددة؟ فإذن ماذا يصنع القاضي؟
أيحكم بمقتضى الشرع للأول ، وقد كان زواجه بها قبل أن تبلغ السن المحددة
المذكورة ويخالف ما تحبذه من ذلك التخصيص أو ذلك النهي ، وهو معزول
بمقتضى ذلك التخصيص عن أن يحكم بالزواج قبل بلوغ هذه السن؟ أو يحكم
للزوج الثاني وقد أمره الله أن يحكم للزوج الأول لا للثاني؛ لأن زواجه باطل
بالإجماع؟ أليس في ذلك تحريم الحلال وإحلال الحرام؟ وما قلناه في البنت إذا
بلغت تسع سنين وحاضت أو احتلمت وتزوجت ، يقال أيضًا في الابن إذا بلغ ثنتي
عشرة سنة واحتلم وتزوج وأحبل زوجته ، ثم جاء آخر يدعي أن تلك الزوجة
زوجته ، وكان المدعي تبلغ سنه ثماني عشرة سنة ، والأول لم يبلغ تلك السن ولم
تبلغ الزوجة أيضًا سن ست عشرة سنة ، بل بلغت بغير السن. فماذا يصنع القاضي
أيحكم للسابق كما قضى به الشرع أم يحكم للثاني كما قضى به الرأي المخالف
للشرع؟
إني أعتقد - والله على ما أقول وكيل - أنك وأصحاب المذكرة لا تقولون
بجواز حكم القاضي للثاني ، بل بوجوب الحكم للأول وأنكم لا تخالفون في هذا ولا
تستطيعون المخالفة فيه؛ لما في المخالفة من مخالفة الكتاب والسنة والإجماع ، ولا
يسعني إزاء ما وقع إلا أن أقول كما قال صاحب الروض من أئمة الشافعي:
من قلد العلما وأقدم أعذرا
…
وعلى الذي أفتى........
إلخ إلخ
هذه نصحيتنا نقدمها لأولياء الأمور وعامة المسلمين عسى الله أن يهدينا جميعًا
إلى سواء السبيل ، ويغفر لنا خطايانا وهو حسبنا ونعم الوكيل.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
محمد بخيت
…
...
…
...
…
...
…
مفتي الديار المصرية سابقًا
(المنار)
لما شرعت الجرائد اليومية في نشر هذه الرسالة ، كتب الشيخ محمد
الخضري بك مقالة ثانية؛ لتوضيح المقالة الأولى ، والرد على بعض ما نشرته في
الرد عليه ولاسيما هذه الرسالة ، وقد تضمنت هذه الرسالة الرد على أقوى ما كتبه،
ثم كتب صاحبها رسالة أخرى ، استوفى فيها الرد عليه من الجهة الفقهية ، وبقي في
رسالته الأخيرة مسائل أخرى مهمة تتعلق باجتهاد القضاة والحكام ، وهو يرى
ويشايعه بعض من كتب في المسألة أن للملوك ورؤساء الحكومات في هذا العصر
مثل هذا الحق في الاجتهاد ، وإلزام المسلمين العمل باجتهادهم في كل المعاملات
حتى ما يسمونه الأحكام الشخصية ، وأن طاعتهم تجب في ذلك
…
وفي هذه المسألة بحث طويل، ونحن نعتقد أن الشريعة لا حياة لها ولا بقاء
لأحكامها في مثل مصر والترك إلا بالاجتهاد الصحيح ، وأما انتحال الحكومات
للاجتهاد بغير ما لا يمكن بدونه من العلم بالكتاب والسنة وأصول الفقه فهو مفسدة
عظيمة في الدين والدنيا.
وههنا مسألة أخرى اختصر فيها وأوجز كل من كتب في هذا الموضوع ،
وهو ما ادعى واضعو مذكرتي القانون من الترك والمصريين من الضرر العظيم في
زواج من لم يبلغ السن التي حددوها ، فقد بالغوا فيها على اختلاف الفريقين في
تحديد السن ، وجعلها في أشد القطرين حرًّا - وهو المصري - أطول منها في
أشدهما بردًا - وهو التركي - مع العلم بأن البلوغ الطبيعي يكون أسرع في الأول
وأبطأ في الثاني غالبًا ، وقد جعل الأستاذ الشيخ بخيت الضرر المدعى مشكوكًا فيه؛
بدليل اختلاف الأطباء فيه ، وأشار إلى أن العبرة فيه بقوة البنية وطاقتها في
الأنثى البالغة على احتمال أعباء الحمل والولادة ، فهذا الضرر خاص بمن لا
تطيق ذلك لا عام ، فرب بالغة للسن التي ذكروها لا تطيقه، ورب غير بالغة إياها
وهي تطيقه. وقد راعى الترك هذا في قانونهم ، ولا ندري ما هم فاعلون في
تنقيحه في هذا الطور الذي اشتد فيه التنازع الصريح بين الإسلام ، والغلو في
التفرنج حتى إن كثيرًا منهم يطالبون حكومتهم بمنع تعدد الزوجات ، على علمهم بأن نساءهم أضعاف رجالهم.
وأما الضررالاقتصادي في حال عجز الصغير عن الكسب الذي يمكنه من النفقة
التي يتوقف عليها تكوين الأسرة فالشرع الإسلامي يراعيه ، كما يراعي منع الضرر
البدني فهو لا يشرع الزواج إلا للقادر على النفقة ، بل التشريع الإسلامي مبني على
منع كل ضرر يجني به الإنسان على نفسه أو على غيره وفي الحديث: (لا
ضرر ولا ضرار) رواه أحمد وابن ماجه.
والقوانين الوضعية الأوربية تبيح لكل أحد أن يضر نفسه بالسكر والقمار
والزنا وغير ذلك ، وإذا كان مدمن هذه الموبقات صاحب زوج وأولاد فإنه يجني
عليهم باقترافه إياها ما لا يذكر معه كل ما بالغوا فيه من زواج من دون السن التي
حددوها ، ولا يزال كثير من الإفرنج يبكرون بالزواج ، وقد قرأنا في هذه الأيام
مقالة في جريدة (السياسة) المصرية موضوعها (تبكير أهل أمريكا بالزواج) .
وقد وفَّى هذا الموضوع حقه من الوجهة الطبية وغيرها الدكتور محمد توفيق
صدقي الطبيب العالم الكاتب الشهير (رحمه الله تعالى) في المحاضرات التي كان
يلقيها في مدرسة دار الدعوة والإرشاد ونشرت في المنار ، وطبعت على حدتها في
جزأين ، ونشر هذا البحث في جريدة الأهرام ومما قاله: إن السن القانونية للزواج
في الشريعة الإنجليزية 14 للذكور و12 للإناث ، وتعتبر زواج الأطفال القاصرين
صحيحًا إذا لم يطعن أحد الزوجين في العقد عند بلوغ السن ، وعزا ذلك إلى
ص 56 من كتاب (أصول الطب الشرعي) لمؤلفيه جاي وفرير الإنكليزيين
فليراجع البحث من شاء في المجلد 18 من المنار (ص 366 م18) أو في الجزء
الأول من (دروس سنن الكائنات ص 143) .
وجملة القول أن القانون الذي هو محل بحثنا لم يترو في وضعه من الوجهة
الشرعية ، ولا من الوجهات الطبية والاجتماعية ، فيجب إلغاؤه وتأجيل مسألة سن
الزواج إلى أن ينظر مجلس نواب الأمة في قانون الأحكام الشخصية وحينئذ نعود
إلى الموضوع فنوفيه حقه إن شاء الله تعالى.
_________
(1)
راجع ص 404 م20 و 542 م23.
(2)
منقولة عن جريدة الأهرام.
(3)
الذي عليه العلماء والمؤرخون نسبة الإمام الشافعي كالإمام مالك إلى الحجاز ، وقد نسبه الكاتب هنا إلى مصر؛ لأنه هاجر إليها وتوفي ودفن فيها رحمه الله تعالى.
(4)
يعني: أبو السعود العمادي رحمه الله تعالى.
(5)
هذه مقالة ثانية للشيخ الخضري ، وضح بها مراده في المقالة الأولى؛ ردًّا على بعض المنكرين.
…
...
…
الكاتب: محمد رشيد رضا
العبر التاريخية في أطوار المسألة المصرية [*]
(3)
قد بينا في مجلدات المنار 21-23 أطوار المسألة المصرية منذ تألف الوفد
المصري برياسة سعد للمطالبة باستقلال البلاد ، وكيف اجتمعت كلمة الأمة مع
رجال الحكومة على تأييده سلبًا وإيجابًا [1] ، حتى أثبتوا للحكومة البريطانية
وهي خارجة من الحرب العظمى على رأس الدول الفائزة ، أنه يتعذر عليها إدارة
الأمور في مصر بأيدي المصريين الساخطين عليها كما يتعذر عليها إدارتها
بيدها هي بالأولى.
وكيف بعد أن أرسلت لورد ملنر على رأس لجنة؛ ليقف على آرائهم، وقاطعوه
تلك المقاطعة الإجماعية ، التي تجلت بها الوحدة في أكمل مظاهرها لجأت إلى
السعي لتفريق كلمتهم؛ إذ لا سبيل إلى الفوز ودوام السيطرة عليهم بدون ذلك [2] ،
وكيف وقع الشقاق في الوفد نفسه فكان بعض أعضائه مع عدلي باشا في طرف،
والباقون مع سعد باشا في طرف آخر.
وكيف دبر في (لندن) نصب وزارة عدلي باشا وتأييد الوفد المصري لها؛
ليسمح لرئيسه وسائر أعضائه بالعودة إلى مصر، فكان نصبها وإظهار الوفد الثقة
بها على دَخَلٍ خادع به كل من الفريقين الآخر ، حتى ما عاد سعد باشا للاتصال
بالأمة وتمكن عدلي باشا من تأليف وزارة رضيت عنها الأمة - عاد الشقاق إلى أشد
مظاهره [3] .
ولكنه تولى مفاوضة الحكومة البريطانية باسم الحكومة المصرية؛ للاتفاق
معها على حل القضية ففشل - لعلم الحكومة البريطانية بأن الأمة لا تؤيده ، وأنها لا
تستطيع عملاً بعد أن صارت إلى شر مما كانت عليه قبل الاتحاد؛ إذ لم يكن
زعماؤها متعادين ولا متحدين على عمل من الأعمال ، فأفضى ذلك إلى استقالة
عدلي باشا وتعذر تأليف وزارة أخرى من حزب العدليين؛ لسخطهم الشديد من الحل
الفظيع الذي عرضه اللورد كرزون على عدلي باشا [4] فصاروا كالسعديين في
الإحجام عن تأليف وزارة، تتولى العمل في ظل الحماية البريطانية.
ثم كيف اضطرت الحكومة البريطانية بهذا إلى نفي سعد باشا مع بعض
أعضاء الوفد إلى جزيرة سيشل الصغيرة المنقطعة عن العالم في البحر المحيط
الهندي وإلغائها للحماية ، واعترافها بكون مصر دولة ذات سيادة مع الاحتفاظ
بالمسائل الأربع المعلومة ، وكان ذلك إثر مذاكرة بين دار المندوب البريطاني
السامي وعبد الخالق ثروت باشا رضي بها هذا أن يتقلد الوزارة ، ويتولى وضع
دستور للبلاد يتألف بموجبه برلمان يفوض إليه تقرير أمر الاتفاق مع الدولة
البريطانية في الأمور المحتفظ بها ، ولكن جمهور الأمة قابل ذلك بفتور ونفور ، ولم
يحفل بهذا الاستقلال المقيد بالأربعة القيود الذي مهد له السبيل بنفي زعيم الشعب
مع بعض رجاله ، وهو حامل لوائه وزمر استقلاله ، واشتد ضغط الاحتلال بعد
نواله [5] .
ظن الإنكليز أنهم يرضون السواد الأعظم من المصريين ، وينالون مرادهم من
مصر والسودان بالاتفاق مع حكومة مصرية نيابية زمامها بأيدي أصدقائهم الذين
يصفونهم بالمعتدلين ، من حيث يقضون على الحياة القومية المصرية بإبعاد الزعيم
الأكبر وبعض رجاله ، والتنكيل بمن يتصدى للمعارضة من الباقين منهم بمساعدة
الحكومة الوطنية ، ولكن بدا لهم ما لم يكونوا يحتسبون.
اشتد استياء الشعب وتهيجه وتألفت للوفد لجنة أخرى ، وصرحت بالمعارضة
ودعت البلاد إلى مقاطعة الإنكليز في كل معاملة تجارية أو شخصية ، فحكموا عليها
أحكامًا شديدة ، حكموا بعد الاعتقال بالإعدام ، ثم استبدلوا به حكم السجن وتغريم
الأموال ، وهو أن يدفع كل فرد من أفرادها خمسة آلاف جنيه للسلطة العسكرية.
ثم تألفت لجنة ثالثة فحكموا على بعض أفرادها بالنفي إلى بعض الواحات
المصرية ، وساموهم فيها سوء العذاب، فتألفت لجنة رابعة.
وظهر في أثناء ذلك الاعتداء على أشخاص الإنكليز من الموظفين والجند
وغيرهم ، فكان يغتال الواحد منهم بعد الآخر في الشوارع العامة في وقت الظهيرة
أو طرفي النهار أو ناشئة الليل ، وقد أرهق أهل القاهرة بتفتيش الحكومة المصرية
لبيوتهم؛ للبحث عن آثار يستدل بها على الجناية ، فكان رجال الشرطة يدمرون
على أهل البيوت في الليل أو النهار ، وإن لم يكن فيها أحد من الرجال فيفتحون
الخزائن والصناديق ، ويقلبون الأثاث والرياش ، ويأخذون كل ما يجدون من
القراطيس المكتوبة ، وقد يقلعون بلاط الحجرات؛ رجاء أن يجدوا تحته سلاحًا،
وكانوا مع بعض الجند الإنكليزي ، يستوقفون الناس في الطرقات رجالاً أو ركبانًا
في أنواع المركبات ، ويفتشون ثيابهم وجيوبهم ، ولم يكن هذا ولا ذلك قاصرًا على
من كان موضع الظنة ومثار الشبهة ، بل كان كل أحد عرضة لهذه الإهانة ، وليس
من موضوعنا ذكر ما كان يلابس ذلك من الفساد ، ولم يكن هذا الإرهاق كله ولا
اعتقال من اعتقل بالتهم بمانع من تكرار الاغتيال ، وإنما كانت تقع فترات عند
العناية ببث العيون والرقباء وكثرة الحرس السيار ، وقد حوكم كثير من المتهمين
بالشبهات في المحكمة العسكرية فلم يثبت شيء من تلك الجنايات على أحد ، ولا
كون شيء منها بإغراء الوفد المصري أو جمعية سياسية أخرى ، كما زعم بعض
الرعاع الذين تصدوا لشهادة الزور؛ رجاء نيل المكافآت التي كانت تعد بها الحكومة ،
وتنشر وعودها في الجرائد وعلى الجدران وهي ألوف من الجنيهات.
سارت وزارة عبد الخالق ثروت باشا لطيتها في هذه المآزق القاتمة بجرأة
نادرة ، كان فيها مهددًا بالاغتيال ، وقد اعتدي عليه بالفعل فنجا فتألفت لجنة من
ثلاثين رجلاً من أنصارها ، فوضعوا مشروع دستور للمملكة المصرية ، وطفقت
تمهد السبيل لانتخاب غير السعديين بكل حزم وعزم.
وفي تلك الأثناء ألف حزب الأحرار المعتدلين ، وانتخب عدلي باشا رئيسًا له
فاكتتب كثير من أغنياء البلاد؛ للاشتراك بالحزب وجريدته (السياسة) ، فاجتمع
له بنفوذ الحكومة عشرات الألوف من الجنيهات ، وصدرت الجريدة بشكل راق كل
عدد منها (8 ص) خص بعضها بالآداب ، وبعضها بالأمور النسائية ، وبعضها
بالزراعة أو التجارة.
ولكن جمهور الشعب عاداها حتى كان يعد شراؤها وقراءتها من الذنوب
المنافية للوطنية ، وكان الغرض من تأليف هذا الحزب السعي لجعل أكثر أعضاء
النواب والشيوخ من رجاله ، وقد اغتيل رجلان من خيرة رجاله.
وكان الشعب لا يزال نافرًا من القصر السلطاني فالملكي منذ أعلنت الحماية
وسمي أمير البلاد سلطانًا ، ثم سمي بالتصريح البريطاني الذي ألغيت فيه الحماية
ملكًا ، وأشيع أن سعد باشا غير مخلص للملك ، وما زال العدليون يرجفون بهذا إلى
عهد قريب ، ولكن هذه الغمة تقشعت بسعي محمد نسيم باشا ومن واتاه من رجال
الوفد المصري ، وتلا ذلك نفور الملك من وزارة عبد الخالق ثروت باشا ، فوقعت
عدة أزمات وزارية انتهت باستقالة هذه الوزارة ، وخلفتها وزارة محمد نسيم باشا
فأثار ذلك سخط السياسة الإنكليزية فكادت لها دار المندوب السامي ، حتى اضطرتها
إلى الاستقالة باقتراح حذف اسم السودان من الدستور المصري ، وكان قد نص فيه
أن ملك مصر هو ملك السودان ، وأن حكومة مصر هي التي تتولى إدارته ، وأيدت
الاقتراح بتهديد عظيم ملجئ، قوي به اعتقاد الجمهور أن الاستقلال الذي اعترف به
الإنكليز على غير مسمى صحيح ، وأن الاستقلال الصحيح لا يمكن تحققه إلا على
يد رئيس الأمة العبقري الأحوذي الشِّمِّري [6] سعد زغلول باشا ، فكيف يعقل جعل
إبعاده عن البلاد تمهيدًا له؟ !
وخلفت وزارة محمد نسيم باشا وزارة يحيى باشا إبراهيم فكان استسلامها
للإنكليز ، وصدعها بالأوامر السرية التي تصدر عن دار المندوب السامي شرًّا من
كل استسلام سبق من الحكومات المصرية ، للسيطرة الإنكليزية في عهد الحماية،
وأشد ما كان قبلها من وطأة الاحتلال ، حتى كادت تقضي على المالية المصرية ،
وتجعل النهوض بأعباء الاستقلال متى تم متعذرًا ، وكان شر أعمالها قانون
التضمينات ، الذي أجاز للسلطة الإنكليزية كل ما فعلته في زمن الحرب من تقتيل
وتغريم ، وتغريب وتخريب ، وتصرف فيما تملك الحكومة والأمة والأجانب في
بلاد مصر بحيث لا تجوز مطالبتها ، ولا مقاضاتها في شيء منها وكان هذا موقوفًا
على المفاوضات المؤجلة ، وكذا قانون المكافآت التي تعطى لمن يترك خدمة
الحكومة المصرية من الإنكليز ، فكانت تعطي الألوف الكثيرة من الجنيهات لمن
يستقيلون من وظائفهم ، حتى التي تنوطها الوزارة بآخرين منهم ، أو تنوط بهم
غيرها فمال الحكومة يذهب سدى ، ثم قيدت الوزارة هذه العطايا بقانون؛ ليكون
حقًّا ثابتًا لا ينقض ، وقد وفت الجرائد الوطنية ذلك حقه من النقد.
***
نتيجة الأطوار السابقة
علمت الحكومة البريطانية في عهد وزارة ثروت باشا أن ما عدته منتهى
الجود على مصر من إلغاء الحماية والاعتراف لها بالاستقلال والسيادة ، وما رأته
من منتهى الشدة والحزم في إدارة أمر البلاد من قبل وزارة موالية لها ، ومن شدة
قسوة السلطة العسكرية البريطانية في التنقيب عن المعتدين على رجالها - لم يرض
الرأي العام المصري بل لم يزده إلا تماديًا في عداوتها ، وجرأة على اغتيال رجالها، وأن نفوذ الوفد المصري الممثل في شخص رئيسه الزعيم الأوحد لا يعلوه
نفوذ فعادت إلى وضع سياسة الحكمة في موضع تحكم السلطة العسكرية ،
والغشمرة الاستعمارية، فطفقت تفرج عن المعتقلين من أعضاء الوفد ، وأمرت
بنقل الزعيم من معقل جبل طارق حيث شاء من أوربة، وكانت قد جاءت به من
جزيرة سيشل إليه؛ مراعاة لصحته؛ إذ خشيت أن يموت فيعتقد المصريون أنها قتلته
أو عرضته للموت عمدًا. وكان قد سعى له بذلك بعض رجال الإنكليز وفي مقدمتهم
صديقه رئيس حزب العمال البريطاني ، الذي هو رئيس الوزارة الإنكليزية اليوم.
نقل من جبل طارق إلى فرنسة فزاره فيها هذا الرئيس مرتين ، ثم لما دنا موعد
انتخاب أعضاء مجلس النواب المصري سمح له بالعودة إلى مصر حتى لا يقال:
إن الانتخاب لم يكن حرًّا ، وأن المجلس النيابي الذي يقرر الاتفاق مع الدولة
البريطانية لا يمثل الأمة المصرية.
عاد الزعيم إلى وطنه والكثير من الناس يظنون أن حزب الأحرار المعتدلين
قد انتظم أمره واشتد أزره ، وأن الحزب الوطني قد نشط من الخمول الذي كان قد
عرض له ، وشرع بعد إلغاء الأحكام العرفية يجدد نفوذه ، وأن الوفد المصري قد
صار حزبًا مثلهما ، ولم يبق رئيسه زعيمًا للأمة بأسرها ، وأن زعامته الحقيقية لا
تعدو طلاب المدارس وجمهور المحامين ، وأما كبار الأغنياء والمتحلين بالرتب
الفخمة والألقاب الضخمة وأكثر رجال الحكومة، فهم عليه لا له ولا معه ، وأن أكثر
الفلاحين معلقة إرادتهم بإرادة العمد ، الذين هم آلة في أيدي مأموري المراكز الذين
يسيرهم المديرون كما تشاء وزارة الداخلية ، وأن لعدلي باشا وقد صار مديرا للبنك
العقاري نفوذًا كنفوذ الحكومة في نفس فريق كبير من الأغنياء ، وهم الذين رهنوا
أطيانهم لهذا البنك فهم يرجون رضاه ويهابون شذاه.
وكان جمهور رجال الإنكليز في مصر يرون هذا الرأي ، ويعتقدون هذا
الاعتقاد ، فما سمح الإنكليز لسعد بالعودة إلى مصر إلا وهم يحسبون أن عودته تزيد
التفرق والشقاق احتدامًا ، ولا يكون هو الجواد السابق الذي يربح السبقة.
وكان جمهور المصريين المستقلين في الرأي غير المتحيزين إلى فئة ولا
شخص يخشون من عاقبة الشقاق في هذا العهد ، فوق ما كان من سوء عاقبته من
قبل، يرون أن الخطة المثلى أن يبدأ الزعيم الأكبر بدعوة خصومه إلى الاتفاق
والاتحاد؛ ليكون (البرلمان المصري قوة متحدة أمام الدولة البريطانية القوية في
كل شيء ، وهو لا يملك غير قوة الوحدة ، فلما لم يفعل نقموا منه، وانطلقت ألسنة
بعضهم تعذله وتخطئه ، وتشاءموا من سوء المصير، ولكن الشؤم والسعد ضدان لا
يجتمعان) .
وأما رأي سعد باشا ورجال الوفد فهو أن جمهور الأمة الأعظم معهم ، فإذا هم
أعلنوا له أنهم متفقون مع زعماء هذه الأحزاب بعد أن كانوا هم الذين أحدثوا الشقاق
في الوفد ، وصدعوا بناء وحدة الأمة ، وأن انتخابهم أعضاء لمجلس النواب
كانتخاب رجال الوفد ومن يرشحه سواء ، فإنهم ينالون بنفوذ الوفد ورئيس الأمة
كثيرًا من الأعضاء ، ويحسبون أو يدعون بعد ذلك أنهم إنما نالوا ذلك بنفوذهم
والثقة بأحزابهم ، ويوقعون الشقاق في مجلس الأمة كما أوقعوه في وفدها من قبل
وتكون هي القاضية على الأمة؛ لأن هذا المجلس هو الممثل الرسمي لها الذي لا
يمكن أن يكابر فيه الإنكليز كما كابروا في تمثيل الوفد؛ إذ ادعوا أنه حزب لا قوة
له إلا تلاميذ المدارس الأغرر.
وقد أجمع الناس على أن الشقاق الذي حصل في الوفد وفرق الكلمة كان أضر ما
منيت به الأمة ، ولكن وجد شيء من الخلاف فيمن تلقى عليهم التبعة ، فينبغي أن
يجمعوا أيضًا على أن تلافي ذلك الشقاق وما ترتب عليه من إرهاق البلاد بالتنكيل
والتغريب ، والتعذيب وسفك الدماء ، ومصادرة الأموال لا علاج له إلا تأليف
مجلس النواب من المتفقين في المشرب السياسي، وعلى الزعيم السياسي، وهو لا
يرجى ممن وصل بينهم الخلاف والشقاق إلى الحد المعروف بين الوفديين ، وبين
المعتدلين ومن شايعهم من جماعة الحزب الوطني.
وإذا كان الأمر كذلك فالمعقول أن يجتهد كل فريق أن ينال في الانتخاب
الأكثرية العظمى ، التي تمكنه من حل القضية المصرية بما يرى أنه هو الذي تطلبه
الأمة التي تمنحه ثقتها.
وقد جرى الانتخاب على هذه القاعدة ، فتبارى كل فريق في السعي لانتخاب
رجاله الذين ورشحهم في الطعن في خصمه بالنشر في الجرائد وبإلقاء الخطب في
المحافل ، وكانت حرية كل منهم تامة لم تعارضها الحكومة ولا الأمة ، ولكن جميع
أهل الفضل ولاسيما المستقلين في الرأي كانوا متألمين من القذع بهجر القول
والتمادي في المطاعن الشخصية ، وقد قال سعد باشا كلمة في خطبة له أراد أن
تكون فصل الخطاب وهي: (لهم السباب ولنا مقاعد النواب)
تم الانتخاب في القطر كله وأعلنت الحكومة نتيجته فكانت الأكثرية الساحقة
في جانب الوفد المصري ، وظهر أن مجلس النواب سعدي وأي سعدي ، فإن بعض
الأعضاء الذين لم يرشحهم الوفد - وقليل ما هم- كانوا يذهبون إلى سعد باشا مهنئين
له بفوزه معترفين برياسته وزعامته ، ثم اتفق جمهورهم على إقامة حفلة له جمعوا
نفقتها بالاكتتاب من أنفسهم فحضرها 200 وتخلف عنها 10 اعتذر بعضهم ، وقد
ألقى عليهم خطبة تاريخية أودعها مجمل برنامجه السياسي لمجلسهم ، فصفقوا لها
وأجمعوا عليها وعدوها كبرنامج سياسي شبه رسمي لمجلس الأمة ، وقد صرح فيها
بأن لم يبق لوزارة يحيى باشا إبراهيم مندوحة عن الاستقالة ، فلم تلبث هي أن
استقالت ، وتلاها طلب الملك لسعد باشا ومذاكرته مشافهة في تأليف الوزارة بعد
بحث طويل سبق للوفد في المسألة ، وتقريره قبول الرئيس للوزارة، فقبل. وهذا نص الوثائق الرسمية للوزارة السعدية:
***
وزارة سعد باشا زغلول
أمر ملكي رقم 14 لسنة 1924
عزيزي سعد زغلول باشا
لما كانت آمالنا ورغائبنا متجهة دائمًا نحو سعادة شعبنا العزيز ورفاهته ، وبما
أن بلادنا تستقبل الآن عهدًا جديدًا ، من أسمى أمانينا أن تبلغ فيه ما ترجوه لها من
رفعة الشأن وسمو المكانة ، ولما أنتم عليه من الصدق والولاء ، وما تحققناه فيكم
من عظيم الخبرة والحكمة وسداد الرأي في تصريف الأمور ، وبما لنا فيكم من الثقة
التامة ، قد اقتضت إرادتنا توجيه مسند رئاسة مجلس وزرائنا مع رتبة الرياسة
الجليلة لعهدتكم.
أصدرنا أمرنا هذا لدولتكم للأخذ في تأليف الوزارة ، وعرض مشروع هذا
التأليف علينا لصدور مرسومنا العالي به.
ونسأل الله جلت قدرته أن يجعل التوفيق رائدنا فيما يعود على بلادنا بالخير
والسعادة، إنه سميع مجيب.
صدر بسراي عابدين في 22 جمادى الثانية سنة 1342 - في 28 يناير سنة
1924.
***
بيان الوزارة وأسماء الوزراء
هذا هو البيان الذي قدَّمه سعد باشا زغلول لجلالة الملك
مولاي صاحب الجلالة:
إن الرعاية السامية التي قابلت بها جلالتكم ثقة الأمة ونوابها بشخصي
الضعيف توجب علي والبلاد داخلة في نظام نيابي ، يقضي باحترام إرادتها وارتكاز
حكومتها على ثقة وكلائها ألا أتنحى عن مسؤولية الحكم ، التي طالما تهيبتها في
ظروف أخرى ، وأن أشكل الوزارة التي شاءت جلالتكم تكليفي بتشكيلها من غير
أن يعتبر قولي لتحمل أعبائها اعترافًا بأية حالة أو حق استنكره الوفد المصري ،
الذي لا أزال متشرفًا برياسته.
إن الانتخابات لأعضاء مجلس النواب أظهرت بكل جلاء إجماع الأمة على
تمسكها بمبادئ الوفد ، التي ترمي إلى ضرورة تمتع البلاد بحقها الطبيعي في
الاستقلال الحقيقي لمصر والسودان مع احترام المصالح الأجنبية ، التي لا تتعارض
مع هذا الاستقلال ، كما ظهرت شدة ميلها للعفو عن المحكوم عليهم سياسيًّا، ونفورها
من كثير من التعدات والقوانين التي صدرت بعد إيقاف الجمعية التشريعية
ونقصت من حقوق البلاد ، وحدت من حرية أفرادها، وشكواها من سوء التصرفات
المالية والإدارية ، ومن عدم الاهتمام بتعميم التعليم ، وحفظ الأمن وتحسين الأحوال
الصحية والاقتصادية وغير ذلك من وسائل التقدم والعمران ، فكان حقًّا على الوزارة
التي هي وليدة تلك الانتخابات وعهدًا مسئولاً منها أن توجه عنايتها إلى هذه المسائل
الأهم فالمهم منها ، وتحصر أكبر همها في البحث عن أحكم الطرق وأقربها إلى
تحقيق رغبات الأمة فيها ، وإزالة أسباب الشكوى منها، وتلافي ما هناك من
الأضرار مع تحديد المسئوليات عنها ، وتعيين المسؤولين فيها ، وكل ذلك لا يتم
على الوجه المرغوب إلا بمساعدة البرلمان ، ولهذا يكون من أول واجبات هذه
الوزارة الاهتمام بإعداد ما يلزم؛ لانعقاده في القريب العاجل ، وتحضير ما يحتاج
الأمر إليه من المواد والمعلومات؛ لتمكينه بمهمته خطيرة الشأن.
ولقد لبثت الأمة زمانًا طويلاً تنظر إلى الحكومة نظرة الطير للصائد ، لا
الجيش للقائد ، وترى فيها خصمًا قديرًا يدبر الكيد لها لا وكيلاً أمينًا يسعى لخيرها،
وتولد عن هذا الشعور سوء تفاهم أثر تأثيرًا سيئًا في إدارة البلاد ، وأعاق كثيرًا من
تقدمها ، فكان على الوزارة الجديدة أن تعمل على استبدال سوء هذا الظن بحسن
الثقة في الحكومة [7] ، وبإقناع الكافة بأنها ليست إلا قسمًا من الأمة، تخصص
لقيادتها والدفاع عنها ، وتدبير شؤونها بحسب ما يقتضيه صالحها العام ، ولذلك
يلزمها أن تعمل ما في وسعها؛ لتقليل أسباب النزاع بين الأفراد وبين العائلات
وإحلال الوئام محل الخصام بين جميع السكان على اختلاف أجناسهم وأديانهم ، كما
يلزمها أن تبث الروح الدستورية في جميع المصالح ، وتعود الكل على احترام
الدستور والخضوع لأحكامه ، وذلك إنما يكون بالقدوة الحسنة ، وعدم السماح لأيِّ
كان بالاستخفاف بها والإخلال بما تقتضيه.
هذا هو بروجرام وزارتي وضعته طبقًا لما أراه وتريده الأمة ، شاعرًا كل
الشعور بأن القيام بتنفيذه ليس من الهنات الهينات ، خصوصًا مع ضعف قوتي
واعتلال صحتي ، ودخول البلاد تحت نظام حرمت منه زمنًا طويلاً ، ولكني أعتمد
في نجاحه على عناية الله وعطف جلالتكم ، وتأييد البرلمان ومعاونة الموظفين
وجميع أهل البلاد ونزلائها ، فأرجو إذا صادف استحسان جلالتكم أن يصدر المرسوم
السامي بتشكيل الوزارة على الوجه الآتي:
سعد زغلول باشا
…
...
…
... للرئاسة ووزارة الداخلية
محمد سعيد باشا
…
...
…
لوزارة المعارف
محمد توفيق نسيم باشا
…
...
…
لوزارة المالية
أحمد مظلوم باشا
…
...
…
... لوزارة الأوقاف
حسن حسيب باشا
…
...
…
... لوزارة الحربية والبحرية
فتح الله بركات باشا
…
...
…
لوزارة الزراعة
مرقص بك حنا
…
...
…
... لوزارة الأشغال
مصطفى النحاس باشا
…
...
…
لوزارة المواصلات
واصف بطرس غالي أفندي
…
... لوزارة الخارجية
محمد نجيب الغرابلي أفندي
…
... لوزارة الحقانية
وأدعو الله أن يطيل في أيامكم ، ويمد في ظلالكم حتى تنال البلاد في عهدكم
كل ما تتمناه من التقدم والارتقاء.
وإني على الدوام شاكر نعمتكم ، وخادم سيادتكم
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... سعد زغلول
وقد صدر أمر المرسوم الملكي باعتماد هذا البيان ، والتشكيل الذي فيه
للوزارة بتاريخه ، وأصبح سعد زغلول باشا رئيس هذه الأمة ورئيس حكومتها،
وكان فضل الله بهذا عظيمًا وما يجب عليه من الشكر عظيمًا ، وإنما الشكر على
هذا الفضل بتحري إقامة ميزان الحق والعدل ، ومراعاة المصلحة العامة بدون محاباة
أحد من جماعة أو فرد ، وإن كان من أفراد الوفد، إلا أن يكون المرجح له على
مساويه زيادة الثقة بإخلاصه ومباديه ، وأرى أنه قد آن لسعد باشا أن يري العالم
بأعماله أنه الأب الحكيم الرحيم لهذا الشعب ، وأن من عقه من أبنائه لم يقطعه من
شجرة نسبه ، بل يكون أحرص على عودته إلى البر من حمله على التمادي في
العقوق ، وأن يترفع عن الانتقام لنفسه ، ويتأسى ما استطاع برسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم ، حين ظفر بزعماء قومه ودخل عليهم عاصمتهم أم القرى فاتحًا بعد أن
كانوا يسيرون الجيوش لقتاله في دار هجرته بإغراء أبي سفيان عدوه وعدو
عشيرته ، وقد قال يومئذ:(من دخل دار أبي سفيان فهو آمِن)(رواه مسلم) .
ويجب على كل مخلص لبلاده من خصوم سعد والوفد أن يؤيد ما استطاع هذه
الحكومة ورئيسها ، ولا يدع سبيلاً لإساءة ظنها فيه ، ولا يشترط في ذلك عصمتها
من الخطأ ، ولا قدرتها على كل عمل ، ولا يجعل ما يقترح عليها من إصلاح
وسيلة للمعاجزة والإرهاق ، وجملة ما أريده من الساخطين والمعارضين الذين
يعتقدون أنهم مخلصون في معارضتهم ، أن يجتهدوا في محاسبة أنفسهم وتمحيص
نيتهم في كل معارضة وكل انتقاد ، فإن السخط يري النفس الأشياء بغير لونها
ويحليها لها في غير صورتها ، وأما سيء النية ومتبع الهوى فالنصح له بهذا سدى
وإنني أرى - وأنا مستقل الرأي بعيد عن الهوى والتحيز إلى أي حزب - أن الفرصة
التي سنحت لمصر بهذه الوزارة ومكانتها من الأمة الممثلة في (برلمانها) ومن
ملكها ، وبصيرورة الوزارة البريطانية إلى حزب العمال ، وما بين رئيس وزارتنا
ورئيس وزارتها من التعارف والثقة- أرى أن هذه الفرصة أمثل الفرص وأقرب
الوسائل الممكنة؛ لحل عقدة التنازع بين مصر وبريطانية، أو اليأس من وصول
هذه البلاد إلى حقها بالأساليب السياسية ، ولا بد حينئذ من إفضاء الفشل إلى ثورة
عامة طامة ، لا يعلم مبدأها ومنتهاها وعاقبتها إلا الله تعالى ، فيا أيها الظافرون
اتقوا الغرور بظفركم ، وأيها المعارضون الساخطون صححوا نياتكم وحاسبوا
أنفسكم ، وافسحوا لهذه الحكومة في مجال العمل ، يفسح الله لكم تأملوا قوله تعالى:
{بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} (القيامة: 14-15) .
_________
(*) تابع لما في ص 62 و 226 م 23.
(1)
ص 274 م 21.
(2)
ص 540 م 21.
(3)
ص397 والمقالة التاريخية الجامعة في ص 496 - 522 م 22.
(4)
راجع ص 62 - 77 م 23.
(5)
راجع ص 226 - 235 م 23.
(6)
العبقر: النادر المثال من إنسان وغيره ، وقد قيل في عمر رضي الله عنه: لم أر عبقريًّا مثله، والأحوذي: الذي يسوق الأمور أحسن مساق لعلمه بها، والشَّمِّري - بتشديد المعجمة المكسورة والميم -: المشمر للأمور المجرب ذو المضاء فيها.
(7)
المراد أن يكون حسن الظن بالحكومة بدلاً من سوء الظن ، فجرى التعبير على العرف الغالب في هذا العصر في مادة الاستبدال والتبدل ، وهو عكس الثابت في اللغة.
الكاتب: محمد رشيد رضا
تقريظ المطبوعات
(الوفاق)
جريدة أسبوعية سياسية اجتماعية أدبية ، أنشئت في (بينن زورغ - جاوه)
مديرها المسؤول (محمد بن محمد سعيد الفتة) وقد جاء في فاتحة العدد الأول منها
أن الغاية منها ربط العلائق الودية ، وتوطيد دعائم الجامعة والوفاق ونشر الحقائق ،
وبث التعارف والتعاون على البر والتقوى ، ومؤازرة مجلة الجامعة الإسلامية الهندية
وسائر ما وصل إلينا من أعددها مباحث في شؤون العالم الإسلامي ، وبيان ما جاء
عليه ملك الحجاز السيد حسين بن علي مفصلاً تفصيلاً ، وقيمة الاشتراك فيها عشر
روبيات في جزائر جاوه الهندية الشرقية وخمس عشرة (أي: جنيه إنكليزي) في
سائر البلاد فنتمنى لها التوفيق والرواج.
***
(حضرموت)
جريدة أسبوعية وطنية ، تبحث في السياسة والاجتماع صاحبها ومديرها
المسؤول السيد عيدروس المشهور ، ورئيس تحريرها السيد محمد بن هاشم - تصدر
في جزيرة سربايا (جاوه) الغرض الأول: حض الحضرميين الكثيرين في جزائر
جاوه على العناية بأمر وطنهم (حضرموت) ، والسعي لعمرانه وإصلاح شؤونه ،
كما صرح به في فاتحة عددها الأول. على أنها لا مندوحة لها عن جعل حال الإسلام
في جاوه ثم في غيرها في الدرجة الأولى من مباحثها - وهو ما نراه في كل عدد
منها في هذا الزمن ، الذي تساعد فيه الحكومة الهولندية دعاة النصرانية على
هدم الإسلام فيها ، فنسأل الله تعالى أن يقرن سعيها بالتوفيق وينفع البلاد والعباد
بها ، وإنه ليسرنا ظهورها وظهور رفيقتها الوفاق والذخيرة في هذه البلاد في هذا
الوقت ، ونتمنى أن يجدد جوالي العرب في جاوه همة سلفهم الصالح الذين نشروا
الإسلام في تلك البلاد؛ فيتمكنوا من حفظه وتجديده بما تقتضيه حالة العصر.
***
(الشرق والغرب)
جريدة أسبوعية مصورة تصدر في مدينة (سنتياغورل أستارو) من
(الأرجنتين) رئيسة تحريرها الأديبة السورية الشهيرة لبيبة هاشم منشئة مجلة
(فتاة الشرق) التي لا تزال تصدرها باسمها في مصر ، ومديرها العام ملحم أفندي
خير الله ، وموضوعها يعرف من اسمها، هي تؤيد النهضة العربية الأدبية ، يسرنا
أن عرف إخواننا السوريين لهذه الأديبة البارعة قدرها ، وشدوا أزرها ، وما زلنا
نرى في كل عدد منها أسماء كثيرين يشتركون فيها لأنفسهم ولغيرهم ، ويدفعون
قيمة الاشتراك سلفًا عن سنة أو أكثر.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الدعوة إلى انتقاد المنار
والمواد المتأخرة لدينا
إننا نُذكِّر قُرَّاء المنار من أهل العلم الديني وأولي الرأي فى مصالح الأمة بما
التزمنا الدعوة إليه في فاتحة كل مجلد من الكتابة إلينا ، بما يرونه منتقدًا في المنار
لمخالفته للحق أو للمصلحة العامة؛ لإعانتنا على هذه الخدمة وقيامًا بما شرعه الله
تعالى من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقد ضاق الجزء الأول عن هذه
الدعوة؛ إذ عرض لنا في أثناء كتابة فاتحته أن ننشر فيها ما يناسب الحالة
الحاضرة من مقصورتنا ، وكنا تركنا لها كراسة واحدة وطبعنا ما بعدها فضاقت
الكراسة عن كل ما أردنا نشره من المقصورة وعن الدعوة إلى الانتقاد كما ضاق ذلك
الجزء ثم هذا عن نشر ما كتبناه من انتقاد سابق علينا من الشيخ عبد الظاهر،
ومن صاحب مجلة السعادة ، ومن ترجمة صديقنا الشيخ مهدي أستاذ الأدب
المشهور - رحمه الله تعالى - وغير ذلك من المواد التي جمعت حروفها ، وموعدنا
بها الجزء الثالث إن شاء الله تعالى.
_________