الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
فتاوى المنار
غرائب الوسوسة في الطهارة
(س22) مِن صاحب الإمضاء في أسيوط
أستاذي الفاضل:
بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، أرجو الفتوى على ما يأتي:
رجل تردد على غالب محلات الأكل في مدينة من المدن ، وكان يتناول أكله
منها بدون أن يغسل يديه المتنجستين ، وقد ترك هذه العادة الممقوتة الآن؛ فما
الحكم في مأكولات هذه المدينة؟ وما الذي يعمله ذلك الرجل إذا كانت حرفته
تستدعي وجوده في هذه المدينة ، ولا يمكنه الانتقال عنها إلا في أزمنة مخصوصة
وكالإجازات الرسمية مثلاً؟ ومعلوم أيضًا أن سكان المدن لا غِنَى لهم عن تناول
طعامهم من تلك المحلات السالفة الذكر ، وبعضهم يأكل منها ولا يغسل يديه عقب
الأكل ، ولا يمكن للرجل المذكور أن يستغني عن قضاء حاجته منهم ، ولما أعهده
في فضليتكم من شرح معضلات المسائل ، والتفاني في خدمة العلم والمسلمين جميعًا
بعثت بهذه إليكم طالبًا من المولى سبحانه وتعالى أن يجزل ثوابكم ، ويعظم أجركم
وتنازلوا بقبول عاطر تحياتي.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
ابنكم المخلص
…
...
…
...
…
...
…
...
…
عبد البديع مصطفى
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
بمعهد أسيوط الديني
(ج) إن الرجل المسئول عن حاله وما يترتب عليها شاذ في عقله وعمله ،
فهو موسوس ، والسؤال عن حاله من شواذ مسائل الوسوسة ، ويصعب على العاقل
أن يتصور وجود رجل عاقل تكرر منه الأكل في أكثر مطاعم مدينة وهو متنجس
اليدين ، ولعل السائل لو ذكر لنا كيف كانت يداه متنجستين في هذه المرار كلها
لجزمنا بأنَّ تنجسها من الوسوسة لا حقيقي.
هذا وإن تنجس اليدين لا يقتضي تنجس الطعام الذي يؤكل بهما ، إلا إذا كان
يغمسهما في الإدام المائع كالمرق ، وأما تناوله بالملعقة فهو كآخذ الجامد باليد لا
يقتضي تنجس الإناء ، وإذا فرضنا أن كان من شذوذ وسوسته غمس يده النجسة أو
يديه في المائعات ، وأن أوانيها تنجست بها ، فذلك لا يقتضي بقاء هذه الأواني
نجسة ، فإن الأواني في المطاعم وغيرها تغسل عقب كل طعام ، وطهارة أواني
المطاعم وغيرها ، وطهارة الطعام أصل لا يعدل عنه إلا في إناء يعلم أنه تنجس ،
وأنه لم يطهر بعد ذلك بأن رأى النجاسة أصابته ، ولم يغب عنه غيبة يحتمل
تطهيره فيها.
وجملة القول في الجواب: إن السؤال ليس من المشكلات ، بل هو من أوضح
الواضحات ، فأواني مطاعم البلد كلها تعد طاهرة شرعًا وعقلاً وعرفًا ، فلا حرج
على الرجل في الأكل منها إذا ارتفع حرج الوسواس من قلبه ، ولا خلاف في هذا
بين فقهاء المذاهب المعتبرة ، ولكن لهم أبحاثًا دقيقة في بعض النجس بيقين ، إذا
اختلط بالطاهرات وما في معناه.
***
أسباب ارتقاء العرب الماضي
وهبوط المسلمين وعلاجه
(س 23-25) مِن صاحب الإمضاء في حمص
حضرة العلامة الفاضل الشيخ رشيد رضا زاده الله رشدًا وأرضاه نوجه لحضرتكم الأسئلة الآتية ، آملين أن تنوروا بصائرنا بما آتاكم الله من العلم ، مد الله
مناركم نورًا ، فليجب الله سؤالكم ، وينجح مقاصدكم وأمانيكم:
(1)
ما السر الذي جعل العرب الجاهلية - على ما كانوا عليه من التباين
والتنافر والجمود والهمجية - أن يخترقوا قوانين النشوء الطبيعي ونواميس الارتقاء
إلى أن وصلوا درجة الكمال بأقل من جيل؟
(2)
ما هي الأسباب التي أدت إلى هبوط المسلمين من الكمال إلى
حضيض الزوال؛ مع ما كانوا عليه من متانة القواعد الدينية والمدنية الجامعة
لجميع ما يحتاجه البشر من العلوم النافعة والصالحة في كل زمان ومكان ، واعتبارًا
من أي تاريخ يبدأ هذا الانحطاط وفي أي التواريخ يتوقف ، ثم يعود إلى الهبوط ،
وأسبابه (مختصرًا) ؟
(3)
بأي أصول يمكن معالجة حالة السلمين الحاضرة؟ وأي السبل أنفع
وأقرب للفلاح؟ وأي الأمم والأمراء الحاضرة من المسلمين أكمل استعدادًا لأداء
الخدمات للنجاح العام؟ وكيف يمكن ذلك؟
ولولا أن هذا الموضوع يهم كل مسلم يدق قلبه على تأخر أمته ، بل كل
شرقي يتألم من تدنس الشرق ، ثم لولا علمنا بأننا ما قصدنا إلا أوثق معهد ، وأوسع
دائرة علمية إسلامية شرقية ، لما تجاسرنا لتعجيزكم ، فعذرًا يا سيدي جزاكم الله عنا
كل خير.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... محمد فوزي
(ج) إن ما قاله السائل الغيور في جاهلية العرب لا يصح ولعله يريد
السؤال عن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وتابعيهم من عرب الجاهلية ،
الذين ارتقوا بالإسلام عقولاً وأخلاقًا وحكمة ، وعلمًا وعملاً ، وعدلاً وسياسة وإدارة
كانوا بها فوق المعهود في تاريخ البشر من نوع ارتقائهم ، وفيما ترتب عليه من
الفتح الشريف ، وتأسيس ذلك الملك العظيم على أساس العدل إلخ. وقد بيّنا ذلك في
مواضع كثيرة من مجلدات المنار وتفسيره ، كما بيّنا أسباب هبوط المسلمين بعد ذلك
وتاريخه وعلاج ما طرأ عليهم من الأمراض الاجتماعية ، ولا يمكن تلخيص شيء
من المسائل الثلاث في جواب سؤال ينشر في باب الفتاوى.
وإنما أقول بالإجمال: إنه لا يُصْلِح آخر هذه الأمة إلا ما صلح به أولها ، كما
قال الإمام مالك رضي الله عنه: (وذلك ما جاء به الإسلام من إصلاح العقول
بالعقائد الصحيحة الخالية من خرافات الوثنية ، وإصلاح الأنفس بالعبادات السليمة
من البدع والآداب والفضائل ، وإصلاح حال الاجتماع بوحدة الأمة ، وجمع كلمتها ،
وتوحيد وجهتها وتوجيهها إلى طلب العزة والكمال الذي شُرع الإسلام لأجله) .
وأقوى الشعوب الإسلامية استعدادًا لذلك أهل الدين في جزيرة العرب وأهل
أفغانستان ، ولكن هؤلاء عرضة للتفرنج الذي يفرق كلمة كل شعب شرقي يفتتن به
في نفسه ، ويجعل بعض أهله أعداءً وخصومًا لبعض بأْسُهم بينهم شديد ، تحسبهم
جميعًا وقلوبهم شَتَّى ، فنسأل الله أن يقيهم شر هذه الفرقة التي قوضت أركان
السلطنة العثمانية ، وقطعت أوصال الوحدة المصرية وضعضعت ألباب الطوائف
السورية ، فيجب إرشاد عرب الجزيرة إلى جمع كلمتهم بالدين ، ولن تجتمع بغيره ،
وإلى العناية مع ذلك بتنظيم القوة الحربية وتنظيم موارد الثروة الداخلية ، ثم يجيء
كل ارتقاء تبعًا لذلك ، ولا نظام أصلح وأرجى لذلك من نظام الوهابية ، إذا أتيح له
ما يحتاج إليه من المساعدة ، وكذلك الزيدية في اليمن ، فهم فرقة متحدة تحتاج إلى
المساعدة على تنظيم القوة والثروة الداخلية ، ويجب أن يتحالف الإمامان فيهما ،
ونحمد الله تعالى أنه ليس ثمة أجناس ولا مال يتخذها الأجانب ذرائع للفساد فيهما.
***
خطيب يأمر المسلمين بالشرك
(س 26) من صاحب الإمضاء في بمبي (الهند) .
بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة العالم العلامة والحَبْر الفهّامة سيدي الأجل السيد محمد رشيد رضا
صاحب مجلة المنار المنير لا زال محفوظًا لخدمة الدين الحنيف آمين. أما بعد:
فأرجو إجابتي عما يأتي:
خطب أحد خطباء مساجد بمبي خطبة يوم الجمعة حبذ فيها الاستغاثة
والاستعانة بغير الله؛ كالأنبياء والأولياء والصالحين ، وقد جاء بأحاديث عزز فيها
قوله لا أعلم مقدار حظها من الصحة ، وكان بودّي أن آخذ نص الخطبة وأرسلها
مرفقة بسؤالي ولكنني لم أستطع ، غير أني أظن أنني أحفظ حديثًا واحدًا مما أتى به
ذلك الخطيب بدون إسناد ، إذا لم تخني ذاكرتي وهو (اذكر أحب الناس إليك ، قال
يا محمداه يا محمداه) ، وقد سب وشتم أيضًا عالمًا من كبار علماء المسلمين ألا وهو
المرحوم حسن صديق خان البهبالي؛ لزعمه أنه حرف في فتح الباري الذي طبعه
في مصر على نفقته حديث (أوتيت علوم الأولين والآخرين) وعند انتهاء الخطبة
عاد فكرر كرامات الصالحين ووجوب الاستعانة بهم ، واستشهد على ما قال بقصة
عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع سارية والقصة مشهورة عند العامة ،
ولكنني لم أعثر عليها في كتب مَن أثِقُ به من المؤرخين.
فما قول سيدي الأجل فيما تقدم؟ اهدنا إلى طريق الحق جعلك الله هاديًّا
ومرشدًا والله يحفظكم والسلام.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... المخلص لكم
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
علي خان البنجابي
(ج) الاستغاثة والاستعانة بالمخلوق قسمان:
(أحدهما) ما يكون بين الناس من طلب التعاون والمساعدة في الأمور
الكسبية: كاستغاثة مَن أَشْرَفَ على الغرق أو تردى في بئر أو حفرة بمن ينقذه مثلاً،
وكاستعانة مَن وَقَعَ حِمْلُ دابته بمن يساعده على رفعه؛ فهذا القسم مشروع في كل
عمل مشروع من الواجبات والمستحبات والمباحات.
(ثانيهما) ما يكون فيما وراء الأسباب التي هي من كسب الناس مما يخالف
سنن الله تعالى في خلقه؛ كالاستغاثة بالموتى ، والاستعانة بهم وبالأحياء فيما ليس
من مقدورهم وكسبهم: كإنزال المطر ، وشفاء المرضى بغير تداوٍ ، فهذا القسم
خاص بالله تعالى لا يطلب من غيره ، وهو المراد بقوله تعالى في سورة الفاتحة:
{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) ومعناه نستعينك وحدك ولا نستعين غيرك ، كما
أن معنى قوله تعالى قبله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} (الفاتحة: 5) نعبدك ولا نعبد غيرك؛
فاستعانة غير الله تعالى بهذا المعنى كفر وشرك كعبادة غيره ، ومن أمر بذلك كان
آمرًا بالكفر بالله ومخالفة ما كُلَّف جميع عباده أن يخاطبوه به في كل ركعة من
صلواتهم ، فهل صار المسلمون في درجة من الجهل بدينهم يؤمهم بها في صلاتهم ،
ويتولى وعظهم في مساجدهم مَن يأمرهم بهذا؟ وإذا لم تكن هذه الاستعانة هي
الخاصة بالله تعالى بنص هذه الآية في أشهر سورة من كتاب ربهم ، يحفظها كل
مسلم ومسلمة فما هيه؟ على أن العباد يتحرون اجتناب الاستعانة بالمخلوقين
وسؤالهم حتى في الأمور الكسبية التي أقام الله تعالى بها نظام هذا العالم ، وقد ورد
في مناقب الصديق الأكبر رضي الله عنه أنه لم يسأل النبي صلوات الله عليه
وعلى آله شيئًا لنفسه قيل: ولا الدعاء. وفي وصية النبي صلى الله عليه وسلم
لابن عباس رضي الله عنه (إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله)
رواه الترمذي عنه ، وقال حسن: صحيح ، وقال الحافظ ابن رجب في شرحه: إن
هذه الوصية منتزعة من قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5)
وقد بايع النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من أصحابه على ألا يسألوا أحدًا شيئًا
منهم الصديق وأبو ذر وثوبان رضي الله عنه فكان أحدهم يسقط سوطه أو
خطام ناقته من يده وهو راكب ، فلا يسأل أحدًا أن يناوله إياه؛ (أقول) : وهذه
درجة كمال ، لا يقدر عليها إلا أفراد الرجال ، وأما الأولى فيكلفها كل مؤمن؛ لأن
تركها ينافي الإيمان ، وفي المسألة أحاديث أخرى في الصحاح وآثار عن كبار
الصحابة والتابعين ومَن دونهم من الصالحين.
والاستغاثة في هذا الباب مثل الاستعانة؛ بل أخص لأنها عبارة عن الضراعة
في الدعاء عند شدة الضيق ، التي وصف الله تعالى مشركي العرب بأنهم لا يدعون
غيره عندها ، وإنما يشركون به بعد أن ينجيهم منها والآيات في ذلك متعددة.
وقد استغاث المسلمون الله تعالى يوم بدر ، ولم يستغيثوا النبي صلى الله عليه
وسلم ، بل كان - بأبي هو وأمي - إمامهم وقدوتهم في الاستغاثة ، كما أنزل الله
عليه {ِإذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} (الأنفال: 9) إلخ ، وذلك أنهم كانوا قد
قاموا بكل ما قدروا عليه ، ولم يبق إلا ما لا يناله كسبهم من أسباب النصر ، فسألوا
الله تعالى مستغيثيه ، فاستجاب لهم ونصرهم.
ولكنك تجد الألوف من المسلمين الأميين والمتعلمين يعارض هذه الأصول
القطعية من التوحيد بشبهات تلقّاها بعضهم من بعض بالتسليم والتقليد الجهلي ،
وهي إن ما ثبت في الكتاب من حياة الشهداء ، وما عليه جمهور أهل السنة من إثبات
كرامات الأولياء يقتضيان جواز دعائهم ودعاء سائر الصالحين ، واستعانتهم على
قضاء الحاجات وكشف السوء والنصر على الأعداء ، وسائر ما نعجز عنه من
طريق الأسباب وسنن الله في الخلق؛ وهذه الشبهة باطلة من وجوه شرحناها في
التفسير وباب الفتوى وغيره من المنار مرارًا ، ومن أخصها أن حياة الشهداء من
أمور عالم الغيب ، وكرامات الأولياء من خوارق العادات عند مثبتيها ، وقد أجمعوا
على أن كُلاًّ منها يُؤخذ ما صح منه بالتسليم ، فليس للمجتهد أن يقيس عليه ولا أن
يستنبط منه حكمًا شرعيًّا ، ولو لم يكن معارضًا لنصوص الكتاب والسنة؛ كاستعانة
غير الله تعالى ، فكيف إذا كان كذلك؟ وكان المستنبط مع هذا غير مجتهد ولا عالم
كهؤلاء الجهال ، وإن كان فيهم معمّمون كثيرون ، وأما قصة عمر رضي الله عنه
في نداء سارية فقد رواها البيهقي بسند ضعيف ، وذكرها السبكي في طبقات
الشافعية.
وأما سب هذا الخطيب للعالم الجليل السيد حسن صديق محيي السنة في بلاد
الهند وغيرها فهو من المعاصي المعلومة من الدين بالضرورة ، وأما زعمه أنه
حرّف في فتح الباري فكذب ، وهو لم يتول تصحيح فتح الباري ، وإنما صححه له
عند طبعه بعض علماء مصر.
_________
الكاتب: أحمد بن تيمية
إبطال وحدة الوجود والرد على القائلين بها
لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية
رضي الله عنه
وموسى لما قال لآدم: لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فقال آدم عليه السلام
فيما قال لموسى: لِمَ تلومني على أمر قدّره الله عليَّ قبل أن أُخْلَقَ بأربعين عامًا؟
فحج آدم موسى؛ لم يكن آدم عليه السلام محتجًا على فعل ما نهي عنه بالقدر ، ولا
كان موسى ممن يحتج عليه بذلك فيقبله ، بل آحاد المؤمنين لا يفعل مثل هذا ،
فكيف آدم وموسى؟ وآدم قد تاب مما فعل واجتباه ربه وهدى ، وموسى أعلم بالله
من أن يلوم من هو دون نبي على فعل تاب منه ، فكيف بنبي من الأنبياء؟ وآدم
يعلم أنه لو كان القدر حجة لم يحتج إلى توبة ولم يجر ما جرى من خروجه من
الجنة وغير ذلك ، ولو كان القدر حجة لكان لإبليس وغيره ، وكذلك موسى يعلم أنه
لو كان القدر حجة لم يعاقب فرعون بالغرق ولا بنو إسرائيل بالصعقة وغيرها ،
كيف وقد قال موسى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} (القصص:
16) وقال: {فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الغَافِرِينَ} (الأعراف: 155) ،
وهذا باب واسع ، وإنما كان لوم موسى لآدم من أجل المصيبة التي لحقت بآدم من
أكل الشجرة ، ولهذا قال: لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ واللوم لأجل المصيبة
التي لحقت الإنسان نوع، واللوم لأجل الذنب الذي هو حق الله نوع آخر ، فإن الأب
لو فعل فعلاً افتقر به حتى تضرر بنوه ، فأخذوا يلومونه لأجل ما لحقهم من الفقر لم
يكن هذا كلومه لأجل كونه أذنب ، والعبد مأمور أن يصبر على المقدور ، ويطيع
المأمور ، وإذا أذنب استغفر كما قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ
لِذَنْبِكَ} (غافر: 55) وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَاّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن
يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} (التغابن: 11) .
قال طائفة من السلف: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله
فيرضى ويسلم ، فمن احتج بالقدر على ترك المأمور ، وجزع من حصول ما كرهه
من المقدور ، فقد عكس الإيمان والدين ، وصار من حزب الملحدين المنافقين ،وهذا
حال المحتجين بالقدر ، فإن أحدهم إذا أصابته مصيبة عظم جزعه وقل صبره ، فلا
ينظر إلى القدر ، ولا يسلم له ، وإذا أذنب ذنبًا أخذ يحتج بالقدر ، فلا يفعل المأمور
ويترك المحظور ، ولا يصبر على المقدور ، ويدعي مع هذا أنه من كبار أولياء الله
المتقين ، وأئمة المحققين الموجدين ، وإنما هو من أعداء الله الملحدين ، وحزب
الشيطان اللعين ، وهذا الطريق إنما يسلكه أبعد الناس عن الخير والدين والإيمان ،
تجد أحدهم أخير الناس إذا قدر ، وأعظمهم ظلمًا وعدوانًا ، وأذل الناس إذا قهر ،
وأعظم جزعًا ووهنًا ، كما جربه الناس من الأحزاب البعيدين عن الإيمان بالكتاب
والمقابلة من أصناف الناس ، والمؤمن إن قدر عدل وأحسن ، وإن قهر وغلب صبر
واحتسب كما قال كعب بن زهير في قصيدته التي أنشدها للنبي صلى الله عليه وسلم ،
التي أولها بانت سعاد إلخ في صفة المؤمنين:
ليسوا مفاريح إن نالت رماحهم
…
يومًا وليسوا مجازيعًا إذا نيلوا
وسئل بعض العرب عن شيء من أمور النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال:
رأيته يَغْلِب فلا يبطر ، ويُغلب فلا يضجر ، وقد قال تعالى: {قَالُوا أَئِنَّكَ لأَنْتَ
يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا
يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ} (يوسف: 90) وقال تعالى: {وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا
يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ} (آل عمران: 120) وقال تعالى: {إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم
مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} (آل عمران:
125) ، وقال تعالى:{وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (آل
عمران: 186) فذكر الصبر والتقوى في هذه المواضع الأربعة ، فالصبر يدخل
فيه الصبر على المقدور ، والتقوى يدخل فيها فعل المأمور ، فمن رزق هذا وهذا
فقد جمع له الخير ، بخلاف من عكس فلا يتقي الله؛ بل يترك طاعته متبعًا لهواه
ويحتج بالقدر ، ولا يصبر إذا ابتلى ، ولا ينظر حينئذ إلى القدر ، فإن هذا حال
الأشقياء ، كما قال بعض العلماء: أنت عند الطاعة قدري ، وعند المعصية جبري ،
أي مذهب وافق هواك تمذهبت به ، يقول: أنت إذا أطعت جعلت نفسك خالقًا
لطاعتك ، فتنسى نعمة الله عليك كي [1] أنه جعلك مطيعًا له ، وإذا عصيت لم
تعترف بأنك فعلت الذنب؛ بل تجعل نفسك بمنزلة المجبور عليه بخلاف مراده أو
المحرك الذي لا إرادة له ، ولا قدرة ولا علم وكلاهما خطأ.
وقد ذكر أبو طالب المكي عن سهل بن عبد الله التستري أنه قال: إذا عمل
العبد حسنة فقال: أي ربي أنا فعلت هذه الحسنة ، قال له ربه: أنا يسرتك لها ،
وأنا أعنتك عليها ، فإن قال: أي ربي أنت أعنتني عليها ، ويسرتني لها ، قال له
ربه: أنت عملتها وأجرها لك ، وإذا فعل سيئة فقال: أي ربي قُدِّرَت عليَّ هذه
السيئة ، قال له ربه: أنت اكتسبتها وعليك وزرها ، قإن قال: أي ربي إني أذنبت
هذا الذنب وأنا أتوب منه ، قال له ربه: أنا قدرته عليك وأنا أغفره لك ، وهذا باب
مبسوط في غير هذا الموضع.
وقد كثر في كثير من المنتسبين إلى المشيخة والتصوف شهود القدر فقط من
غير شهود الأمر والنهي ، والاستناد إليه في ترك المأمور وفعل المحظور ، وهذا
أعظم الضلال ، ومن طرد هذا القول والتزم لوازمه كان أكفر من اليهود والنصارى
والمشركين ، لكن أكثر من يدخل في ذلك يتناقض ولا يطرد قوله.
وقول هذا القائل هو من هذا الباب فقوله: آدم كان أمره بكُلْ باطنًا فأكل ،
وإبليس كان توحيده ظاهرًا فأمر بالسجود لآدم فرآه غيرًا ، فلم يسجد فغير الله عليه
وقال: {اخْرُجْ مِنْهَا} (الأعراف: 18) الآية ، فإن هذا مع ما فيه من الإلحاد
كذب على آدم وإبليس ، فآدم اعترف بأنه هو الفاعل للخطيئة وإنه هو الظالم لنفسه ،
وتاب من ذلك ولم يقل: إن الله ظلمني ، ولا أن الله أمرني في الباطن بالأكل ،
قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (البقرة: 37) وقال تعالى: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا
لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ} (الأعراف: 23) وإبليس أصر واحتج بالقدر ، فقال:
{قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (الحجر: 39)
وأما قوله: رآه غيرًا نحلم يسجد؛ فهذا شر من الاحتجاج بالقدر ، فإن هذا قول أهل
الوحدة الملحدين وهو كذب على إبليس ، فإن إبليس لم يمتنع من السجود لكونه
غيرًا ، بل قال:{َأنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} (الأعراف:
12) ، ولم تؤمر الملائكة بالسجود لكون آدم ليس غيرًا ، بل المغايرة بين الملائكة
وآدم ثابتة معروفة والله تعالى يقول: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى
المَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَاّ مَا
عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ} (البقرة: 31-32) ، وكانت الملائكة وآدم
معترفين بأن الله مباين لهم وهم مغايرون له ، ولهذا قالوا: دعوه دعاء العبد، فآدم
يقول: (ربنا ظلمنا أنفسنا) والملائكة تقول: {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَاّ مَا عَلَّمْتَنَا} (البقرة:
32) وتقول: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا
سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ} (غافر: 7) الآية ، وقد قال تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ
تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الجَاهِلُونَ} (الزمر: 64)، وقال تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ
أَتَّخِذُ وَلِياًّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَم} (الأنعام: 14)، وقال:
{أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الكِتَابَ مُفَصَّلاً} (الأنعام: 114) فلو
لم يكن هناك غيره لم يكن المشركون أمروا بعبادة غير الله ، ولا اتخاذ غير الله وليًّا
ولا حكمًا ، فلم يكونوا يستحقون الإنكار ، فلما أنكر عليهم ذلك دل على ثبوت
غير يمكن عبادته واتخاذه وليًّا وحكمًا ، وأنه من فعل ذلك فهو مشرك بالله كما قال
تعالى: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} (القصص: 88)، وقال: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ
إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً} (الإسراء: 22) وأمثال ذلك.
وأما قول القائل: إن قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} (آل عمران:
128) عين الإثبات للنبي صلى الله عليه وسلم كقوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ
وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (الأنفال: 17) {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ
فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (الفتح: 10) فهذا بناه على قول أهل الوحدة والاتحاد ، وجعل معنى
قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} (آل عمران: 128) أي فعلك هو فعل الله
لعدم المغايرة وهذا ضلال عظيم من وجوه:
(أحدهما) : إن قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} (آل عمران: 128)
نزل في سياق قوله: {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُوا خَائِبِينَ*
لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} (آل عمران:
127-
128) ، وقد ثبت في الصحيح (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو
على قوم من الكفار أو يلعنهم في القنوت) فلما أنزل الله هذه الآية ترك ، فعلم أن
معناها إفراد الرب تعالى بالأمر وأنه ليس لغيره أمر ، بل إن شاء الله تعالى قطع
طرفًا من الكفار وإن شاء كبتهم فانقلبوا بالخسارة ، وإن شاء تاب عليهم ، وإن شاء
عذبهم ، وهذا كما قال في الآية الأخرى: {قُل لَاّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلَا ضَراًّ إِلَاّ مَا
شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} (الأعراف:
188) ونحو ذلك قوله تعالى: {يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ
كُلَّهُ لِلَّهِ} (آل عمران: 154) .
(الوجه الثاني) : إن قوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (الأنفال: 17) لم يرد به أن فعل العبد هو فعل الله تعالى كما تظنه طائفة من
الغالطين، فإن ذلك لو كان صحيحًا لكان ينبغي أن يقال: لكل أحد حتى يقال:
للماشي ما مشيت إذ مشيت ولكن الله مشى ، ويقال: للراكب ما ركبت إذ ركبت
ولكن الله ركب ، ويقال للمتكلم ما تكلمت إذ تكلمت ولكن الله تكلم ، ويقال مثل ذلك:
للآكل والشارب والصائم والمصلي ونحو ذلك ، وطرد ذلك يستلزم أن يقال للكافر:
ما كفرت إذ كفرت ولكن الله كفر ، ويقال للكاذب ما كذبت إذ كذبت ولكن الله كذب ،
ومن قال: مثل هذا فهو ملحد خارج عن العقل والدين ، ولكن معنى الآية أن
النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر رماهم ، ولم يكن في قدرته أن يوصل الرمي
إلى جميعهم فإنه إذا رماهم بالتراب ، وقال: شاهت الوجوه، ولم يكن في قدرته أن
يوصل ذلك إليهم كلهم ، فالله تعالى أوصل ذلك الرمي إليهم بقدرته، يقول وما
أوصلت إذ حذفت ولكن الله أوصل ، فالرمي الذي أثبته له ليس هو الرمي الذي
نفاه عنه وهو الإيصال والتبليغ ، وأثبت له الحذف والإلقاء ، وكذلك إذا رمى سهمًا
فأوصلها بقدرته.
(الوجه الثالث) : نه لو فرض أن المراد بهذه الآية: أن الله خالق أفعال
العباد فهذا المعنى حق، وقد قال الخليل:{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} (البقرة:
128) فالله هو الذي يجعل المسلم مسلمًا.
وقال تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ
الخَيْرُ مَنُوعًا} (المعارج: 19-21) فالله هو الذي خلقه هلوعًا ، لكن ليس في هذا
أن الله هو العبد ، ولا أن وجود الخالق هو وجود المخلوق ، ولا أن الله حالٌّ في
العبد. فالقول: بأن الله خالق أفعال العباد حق، والقول: بأن الخالق حال في
المخلوق أو وجوده وجود المخلوق باطل ، وهؤلاء ينتلقون من القول بتوحيد
الربوبية إلى القول بالحلول والاتحاد ، وهذا عين الضلال والإلحاد.
(الوجه الرابع) : إن قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّه} (الفتح: 10) لم يُرِد أنك أنت الله ، وإنما أراد أنك أنت رسول الله ومبلغ أمره
ونهيه فمن بايعك فقد بايع الله ، كما أن من أطاعك فقد أطاع الله ، ولم يرد بذلك أن
الرسول هو الله ، ولكن الرسول أَمر بما أمر الله به ، فمن أطاعه فقد أطاع الله كما
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أطاعني فقد أطاع الله ومن أطاع أميري فقد
أطاعني ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن عصى أميري فقد عصاني) ومعلوم
أن أميره ليس هو إياه ، ومن ظن في قوله:{إنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّه} (الفتح: 10) أن المراد به أن فعلك هو فعل الله ، أو المراد أن الله حال فيك
ونحو ذلك ، فهو مع جهله وضلاله بل كفره وإلحاده قد سلب الرسول خاصيته
وجعله مثل غيره ، وذلك أنه لو كان المراد به أنه خالق لفعلك لكان هنا قدر مشترك
بينه وبين سائر الخلق ، وكان من بايع أبا جهل فقد بايع الله ، ومن بايع مسيلمة فقد
بايع الله ، ومن بايع قادة الأحزاب فقد بايع الله ، وعلى هذا التقدير فالمبايع هو الله
أيضًا ، فيكون الله قد بايع الله إذ الله خالق لهذا ولهذا ، وكذلك إذا قيل: بمذهب أهل
الحلول والوحدة والاتحاد فإنه عام عندهم في هذا وهذا، فيكون الله قد بايع الله ،
وهذا يقوله: كثير من شيوخ هؤلاء الحلولية ، حتى إن أحدهم إذا أُمِرَ بقتال العدو
يقول أقاتل الله؟ ما أقدر أن أقاتل الله ونحو هذا الكلام الذي سمعناه من شيوخهم ،
وبيّنا فساده لهم وضلالهم غير مرة.
وأما الحلول الخاص فليس هو قول هؤلاء؛ بل هو قول النصارى ومن
وافقهم من الغالية [2] وهو باطل أيضًا ، فإن الله سبحانه قال له: {لَيْسَ لَكَ مِنَ
الأَمْرِ شَيْءٌ} (آل عمران: 128)، وقال:{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} (الجن: 19)، وقال:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} (الإسراء: 1) ،
وقال: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} (البقرة: 23)، وقال:
{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ
السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} (الفتح: 18-19) .
فقوله: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} (الفتح:
18) يبين قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} (الفتح: 10) ولهذا
قال: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِم} (الفتح: 10) ، ومعلوم أن يد النبي صلى الله تعالى
عليه وسلم كانت مع أيديهم كانوا يصافحونه ويصفقون على يده في البيعة ، فعلم أن
يد الله التي فوق أيديهم ليست هي يد النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن الرسول عبد
الله ورسوله فبايعهم عن الله وعاهدهم وعاقدهم عن الله ، فالذين بايعوه بايعوا الله
الذي أرسله وأمره ببيعتهم ، ألا ترى أن كل من وكّل شخصًا بعقد مع الوكيل كان
ذلك عقدًا مع الموكل، ومن وكل نائبًا له في معاهدة قوم فعاهدهم عن مستنيبه ، كانوا
معاهدين لمستنيبه ، ومن وكّل رجلاً في نكاح أو تزوج كان الموكل هو الزوج الذي
وقع له العقد ، وقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ
لَهُمُ الجَنَّةَ} (التوبة: 111) الآية ، ولهذا قال في تمام الآية: {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا
عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (الفتح: 10) .
فتبين أن قول ذلك الفقير هو القول الصحيح ، وأن الله إذا كان قد قال لنبيه
{لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْء} (آل عمران: 128) فإيش نكون نحن وقد ثبت عنه
صلى الله تعالى عليه وسلم في الصحيح أنه قال: (لا تطروني كما أطرت
النصارى المسيح بن مريم فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله) .
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
كذا في الأصل ولعل صوابه (في) وحذفه أولى.
(2)
هم فرق الباطنية وآخرهم البهائية.
الكاتب: جمال الدين الأفغاني
المقالة الخامسة [*]
ما ينبغي للمسلمين علمه وعمله
أيها المسلمون:
إن الحجاز مهبط دينكم ، وفيه بيت ربكم ، وهو قبلة صلاتكم ، ومشاعر
نسككم ، وشعائر الله لكم ، فيه يقام الحج الأكبر ، الذي هو ركن الإسلام الاجتماعي
الأوحد ، وفيه مقام إبراهيم ، وقبر نبيكم الكريم عليهما من الله أفضل الصلاة
والتسليم ، وقد جاء الإسلام بحرية الأديان إلا في حرم الله وحرم رسوله وسياجهما
من جزيرة العرب ، فهما خاصان بدين الإسلام ، وقد امتدت إليهما أيدي غير
المسلمين في هذه الأيام.
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها ، قالت:
آخر ما عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: (لا يترك بجزيرة العرب
دينان) ، وروى أحمد ومسدد والحميدي في مسانيدهم والبيهقي في سننه من
حديث أبي عبيدة رضي الله عنه قال: آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله
عليه وسلم (أخرجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب) ، وفي
رواية نصارى نجران.
وروى أحمد والبخاري ومسلم من حديث ابن عباس قال: اشتد برسول الله
صلى الله عليه وسلم وجعه يوم الخميس وأوصى عند موته بثلاث: (أخرجوا
المشركين من جزيرة العرب ، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم) قال سليمان
الأحول راوي الحديث عن سعيد بن جبير الذي سمعه من ابن عباس: ونسيت
الثالثة.
وحملها العلماء بالاحتمال على ما صح من وصاياه الأخرى في مرض موته -
صلى الله عليه وسلم كقوله: (لا تتخذوا قبري وثنًا) ، وفي موطأ الإمام مالك ما
يشير إلى ذلك - أو وفد أسامة - أو الوصية بالنساء والرقيق.
وقد أجلى النبي صلى الله عليه وسلم بني قينقاع وقريظة والنضير
المحاربين له من يهود المدينة ، وأنذَر مَن بقي من اليهود الجلاء بعد عجزهم عن
قتاله؛ ليخرجوا بسلام ويحفظوا أموالهم ، فقد روى البخاري في مواضع من صحيحه
وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة قال: (بينما نحن في المسجد خرج النبي
صلى الله عليه وسلم فقال: انطلقوا إلى يهود، فانطلقنا حتى جئنا بيت المِدْراس
(هو بوزن المفتاح العالم الذي يدرس كتابهم) فقال: أسلموا تسلموا ، واعلموا أن
الأرض لله ورسوله ، وأنني أريد أن أجليكم من هذه الأرض ، فمن يجد منكم بماله
(أي بدل ماله) شيئًا فليبعه؛ فاعلموا أن الأرض لله ورسوله) ، والمراد أرض
المدينة وسائر الحجاز.
وروى أحمد ومسلم والترمذي من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه
أنه سمع رسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لأخرجن اليهود والنصارى من
جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلمًا) ، ولما كان أبو بكر رضي الله عنه لم
يتسع له الوقت لتنفيذ هذه الوصية ، نفذها عمر رضي الله عنه ، فقد روى
البخاري عن عبد الله أن عمر والده رضي الله عنهما أجلى اليهود والنصارى
من أرض الحجاز ، وذكر يهود خيبر إلى أن قال أجلاهم عمر إلى تيماء وأريحاء.
سبب هذه الوصية النبوية معروف دلت الأحاديث الصحيحة ، وهو أن الله
تعالى أطلع رسوله صلى الله عليه وسلم على ما سيكون من مطاردة الأمم لأمته ،
وسلبهم إياها ما يخولها الله تعالى من الملك ، ومحاولتهم القضاء على دينها بعد
القضاء على ملكها ، فأراد أن يكون مهد الإسلام معقلاً لها تعتصم فيه ، ولا تجعل
للأمم التي ستبغي عليها سبيلاً للتدخل في شؤونه ، كما تفعل الآن دول الاستعمار
الكبرى ، وفي مقدمتها حليفة البيت الحسيني بالحجاز بريطانية العظمى؛ هذه الدولة
التي أرادت أن تجعل طائفة القبط وسيلة لحرمان مصر من الاستقلال ، فلما خيبوا
أملها خلقت مسألة الأقليات بدون قيد ، وكلفت نفسها بدون إذنهم أن تبقى محتلة
لمصر؛ لأجل حمايتهم؛ وهذه الدولة التي خلقت للعراق العربي شعبًا أشوريًّا ،
قضى عليه التاريخ منذ ألوف السنين ، فقلدته السلاح وحملته على مطالبة جمعية
الأمم بتأسيس دولة جديدة له في العراق؛ لأجل العداء والشقاق ، والتذرع به لإبقاء
العراق تحت سلطانها إلى يوم التلاق ، هذه الدولة التي ما زالت تكيد للدولة العثمانية ،
وتتوسل إلى إسقاطها بالأرمن والروم وغيرهم ، إلى أن سقطت وزالت من
الأرض ، فحاولت القضاء على شعبيها الإسلاميين الكبيرين - العرب والترك -
فحالت أحداث الزمان دون الإجهاز على الشعب التركي ، ووجدت من حسين
المكي وأولاده أقوى نصير للقضاء على الشعب العربي ، فلما سلط الله تعالى عليه
شعبًا شديد الاعتصام بالإسلام طرده من الحجاز في هذه الأيام، قامت جرائدهم
تدعو بالويل والثبور، وتنذر قومها الخطر الإسلامي العربي على ما سلبوا من بلاد
العرب أن ينفلت من أيديهم.
أيها المسلمون تأملوا الشواهد على صحة قولي هذا لعلكم تتفكرون: يروي
مسلم في صحيحه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا إلى النبي
صلى الله عليه وسلم قال: (إن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ، ويأرز
بين المسجدين كما تأرز الحية من جحرها) وروى الترمذي من حديث عمرو بن
عوف مرفوعًا إليه صلى الله عليه وسلم قال: (إن الدين ليأرز إلى الحجاز
كما تأرز الحية إلى جحرها ، وليعقلن الدين من الحجاز معقل الأروبة من رأس
الجبل [1] إن الدين بدأ غريبًا ويرجع غريبًا فطوبى للغرباء الذين يصلحون ما
أفسد الناس بعدي من سنتي) .
وملخص معنى هذه الأحاديث أن المسلمين سيطرأ عليهم الفساد بالبدع حتى
يكون الإسلام نفسه غريبًا فيهم ومحتاجًا إلى الإصلاح؛ وأنهم سيضطهدون بدينهم
ولأجل دينهم ، حتى لا يجدون ملجا يعتصمون فيه لإقامته إلا معقله الذي ظهر فيها
غريبًا وهو الحجاز ، فيكون فيه عزيزًا قويًّا؛ كعصم الوعول في شناخيب الجبال
ومن تمام التشبيه أن يستتبع ذلك ما استتبعه أولاً من الملك والعمران (إن شاء الله) .
أيها المسلمون: إلى متى أنتم غافلون ، إن الدولة البريطانية ولية حسين بن
علي المكي وأولاده من دون الله والمسلمين ، هي التي أخذت على نفسها القضاء
على دين الإسلام في الشرق بعد القضاء على حكمه ، وقد سلكت أقرب الطرق إلى
ذلك وأقلها خسارة ونفقة ، وهو جعل الشعوب الإسلامية أسلحة لها تضرب بعضها
ببعض ، إلى أن يهلك الجميع وتكون السيادة لها وحدها على بلادهم وهي هي التي
قاتلت المصريين بإذن ولاة الأمر من السلطان والخديو؛ وهي هي التي قاتلت
السودانيين بالمصريين ، وهي هي التي قاتلت قبل ذلك بعض ملوك الشرق وأمرائه
ببعض ، ولا سيما في الهند ، كما سترون في المنار من مقال للسيد جمال الدين
الأفغاني [2] الذي كان أول من نبّه الشرق عامة والمسلمين خاصة لعداوتها؛ وهي
هي التي قاتلت الترك بالعرب الذين خدعهم ملك الحجاز وأولاده ، حتى سلبت منهم
أخصب بلادهم وقررت إعطاء البلاد المقدسة منها لليهود ، وجعلهم شعبًا جديدًا قويًّا
بين مصر وسورية والحجاز ، يستعينون به على أهلها من العرب في حرمانهم من
رقبة بلادهم وخيراتها؛ وهي هي التي ألقت العداوة والبغضاء بين إمام اليمن
والسيد الإدريسي؛ وهي هي التي أطمعت الطاغوت حسين بن علي بالخلافة
الإسلامية وملك العرب كلهم تحت حمايتها ، وقد بينا بعض الوثائق الرسمية في
ذلك كله.
أيها المسلمون: إن العقل وحالة الاجتماع العامة وتقاليد السياسة الإنكليزية
الخارقة كلها تؤيد معنى ما ورد في الحديث ، الذي صدقته وقائع التاريخ التي أشرنا
إليها آنفًا من أن الله لا يهلك المسلمين إلا بقتال بعضهم لبعض.
روى مسلم من حديث ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: (إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها [3] ، وإن
أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها ، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض ، وإني
سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة ، وأن لا يسلط عليها عدوًّا من سوى
أنفسهم يستبيح ببيضتهم [4]، وإن ربي قال لي: يا محمد إني إذا قضيت قضاء ،
فإنه لا يرد ، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة ، وأن لا أسلط عليهم
عدوًّا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها - أو قال
من بين أقطارها - حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا ويسبي بعضهم بعضًا) .
وقد ظهر صدق هذا الحديث في الفتح الإسلامي للشرق والغرب ، ثم في
ذهاب ملك المسلمين كما أشرنا إليه آنفًا في شأن بعض دول الشرق الإسلامي ،
ومثله دول الغرب القديمة والحديثة ، فلولا تفرق أهل الأندلس وتعاديهم وتقاتلهم لما
زالت دولتهم وورثها الأسبانيون ، ولولا مسلمو مراكش لما فتحت فرنسة الجزائر ،
ثم لولا مسلمو الجزائر لما استولت فرنسة على مملكة مراكش.
أيها المسلمون: لا يكن أمركم عليكم غمة في مسألة زحف النجديين؛ لإنقاذ
الحجاز من صنيعة الأجانب حسين المكي وأولاده ، قد بينا لكم بالوثائق الرسمية
حقيقة السبب الحامل للسلطان ابن سعود على ذلك ، وأنه إسلامي محض؛ لتأمين
فريضة الحج ، ومنع الإلحاد والظلم في الحرم ، وقطع عروق النفوذ الأجنبي في
مهد الإسلام ، المانع من تنفيذ وصية المصطفى عليه الصلاة والسلام.
وكذا منع حسين وأولاده مما صرح به رسميًّا من عزمه على إخضاع جميع
حكومات جزيرة العرب لحكمه قبل ادعائه الخلافة ، فكيف يكون خطره بعد ادعائه
حق الولاية العامة عليهم شرعًا؟
أرجف بعض الكتاب الذين يخدمون السياسة الإنكليزية من طريق الحجاز بأن
سلطان نجد يريد إكراه حسين بضغطه على توقيع المعاهدة العربية البريطانية ،
فمتى خضع عاد جيش نجد أدراجه ، وردّدت جرائد أخرى هذا الإرجاف فظهر
كذبهم.
وأرجفوا بأن ابن سعود ينفذ للإنكليز في الحجاز ما لم ينفذه حسين ، وأنهم هم
الذين أغروه بالاستيلاء على الحجاز ، فظهر كذبهم أتم الظهور بما نشرته صحيفة
إرجافهم بمصر من برقيات لندن - أولاً - من خبر الاتفاق بين ابن سعود ونوري
باشا الشعلان رئيس قبائل الرولة على سماح الأول للثاني ببقعة الجوف بشرط منع
الإنكليز من مد سكة حديدية بين فلسطين والعراق - وثانيًا - ببرقية التيمس التي
أرسلها إليها مراسلها من الإسكندرية الناطقة بأن احتلال ابن السعود للحجاز
وموانئه الواقعة على البحر الأحمر مفعم بأخطار شديدة! ! وأنه يحمل معظم
القبائل على الانضواء إلى كنفه ، والسير تحت لوائه؛ وأنه يرجح أن ينتقل من
إنقاذ الحجاز إلى إنقاذ شرق الأردن وفلسطين وكذا اليمن على احتمال.
ثم إن هذا الإنكليزي الغيور على الإسلام والعرب طعن في دين الوهابيين
ومذهبهم ، ووصفهم بالتوحش وكراهة المدنية ، وأظهر خوفه وحذره من إكراههم
لغيرهم على اتباع مذهبهم ، وغيرته على المعاهد المقدسة! ! ، واستدل بهذا كله
على أنه يجب على الدولة البريطانية وهي أكبر دولة إسلامية (! ! !) أن تبادر
إلى رد الوهابيين عن الحجاز ، قال: (فتنقذ بذلك المعاهد المقدسة في الحجاز من
أن تمسها يد الوهابيين بالتدمير والتخريب - وليس ذلك فقط- بل تزيل أيضًا خطرًا
شديدًا يهدد البلاد العربية، وتقضي على عامل يقلق السلم في جزيرة العرب، فإذا
لم تزله زوالاً تامًا ، فإنها تخفف من حدته كثيرًا) .
المعنى الصريح المراد من هذا الكلام أن إنكلترة ترى من أعظم الخطر على
سياستها في البلاد العربية أو الإسلامية أن يوجد في المسلمين أمير مسلم قوي ، ولا
سيما إذا كان مسلمًا مؤمنًا ، معتصمًا بدينه ، مؤيدًا بشعب صادق الإيمان كابن سعود
وقومه، لا يباع ولا يشترى بالذهب الإنكليزي ، ولا بالألقاب الفخمة الضخمة
كحسين وأولاده، لأن قوة مثل هذه تحول دون نجاح السياسة البريطانية في إزالة
الإسلام من الأرض ، من حيث هو دين سيادة وسلطان، ثم في إزالته من الأرض
من حيث هو دين عقيدة وإيمان، ويستتبع ذلك احتمال إنقاذ ما استعبدته من الشعوب
الإسلامية والعربية.
ثم إن مراد كتاب الإنجليز وصنائعهم بمصر من نشر هذه الأراجيف
والتضليلات تمهيد السبيل لحمل المسلمين في مثل الهند ومصر وفلسطين وسورية
على استقباح استيلاء الوهابيين على الحجاز، وتمني إخراجهم منه؛ لتتوسل الدولة
البريطانية بذلك إلى بذل قوتها لإجلائهم عنه خدمة للإسلام والمسلمين (! !) ؛
لأنها شديدة الحب لهذا الدين والإيمان به ، ومغرمة القلب بحب المسلمين كافة ، كما
فعلت من قبل في احتلال أوطانهم حبًّا فيهم وتكريمًا لدينهم (! !) ، وهل كان فتحها
الصليبي للقدس الشريف واحتفالهم بذلك في جميع كنائسهم إلا من آثار هذا العشق
والغرام؟ وهل تمليكها رقبة فلسطين لليهود الصهيونيين ، وتجديد ملك لهم في قلب
بلاد العرب إلا من عشق الإسلام والمسلمين كافة، والعرب منهم خاصة (! !) .
يظهر أن مدير التيمس ومراسل التيمس بمصر وأمثالهما لا يزالون يظنون كما
يظن رجال الوزارة الخارجية البريطانية ، أن المسلمين لا يزالون كالبله يصدقون
كما يقول الإنكليز بدليل أن بعض أهل فلسطين وسوريا والعراق لا يزالون يعظمون
حسينًا وفيصلاً وعبد الله مع ظهور خيانتهم للأمة العربية ، وجنايتهم على الدين
الإسلامي.
والصواب الذي يجب أن يعرفه الإنكليز هو أن السواد الأعظم من المسلمين
صاروا على الرأي الذي سمعته من حسني أفندي أحد مشايخ الإسلام المتأخرين في
الآستانة وهو: أن كل ما تقول دول أوربة لنا إنه مفيد لكم فهو ضار بنا، وكل ما
تقول لنا: إنه ضار بكم فهو نافع لنا، فليرجع الساسة الإنكليز عن هذه الوسائل
السخيفة للتنكيل بالأمم الضعيفة، مع ادعاء المقاصد الشريفة، وليرجعوا عن
مطامعهم التي لا حد لها فإن ذلك خير لهم.
أيها المسلمون: حسبكم ما بينا لكم من الدلائل في هذه المقالات وغيرها على
مصاب الإسلام والعرب بهذا البيت الحجازي ، ووجوب تطهير الحجاز من جناياته
على العرب والإسلام، وقد سخر الله لحرمه من أنقذه بأهون الوسائل ، فماذا يجب
عليكم الآن؟ خذوا رأي أخيكم كاتب هذه المقالات الذي درس مسألة جزيرة العرب
وأمرائها ، وسياسة الأجانب فيها بالعلم والعمل درسًا طويلاً عريضًا عميقًا في أكثر
من ربع قرن ، وألخص ما يتعلق منه بموضوعنا في القضايا الآتية:
1-
إن أعظم جناية يجنيها مسلم على الإسلام والمسلمين والعرب السعي
لإقرار سلطة علي بن حسين وإبقائه ملكًا على الحجاز ، فقد سنحت الآن الفرصة
لأعظم إصلاح يمكن أن يقوم به المسلمون في مهد دينهم ، فإذا أضاعوها يخشى أن
لا تعود.
قد تولى إمارة الحجاز كثيرون من هؤلاء الناس الذين يسمون شرفاء مكة في
بضعة قرون ، فلم يخرج منهم مصلح في علم ولا عمل ولا ديانة ولا سياسة ولا
إدارة، بل كان أكثرهم مفسدين ظالمين، وأقلهم غير نافعين ولا ضارين، والدليل
على ذلك سوء حالة الحجاز في جميع هذه القرون، ورجوع بدوه إلى شر مما كانوا
عليه في الجاهلية، وكون حضره أسوأ حالاً من جميع سكان المدن في البلاد
الشرقية.
وقد كان شرهم وأطمعهم وأشدهم إلحادًا وإفسادًا للدين والدنيا حسين بن علي
الذي لم يبلغنا أن أحدًا من الأمراء أبغضه أهل ملته وذموه مثله، وهذا ولده قد سمي
ملكًا في أسوأ حال نصب فيها حاكم في أمة أو بلد ينهزم أمام الفاتحين من مكان إلى
مكان ، ويستغيث بجميع أهل الملل والنحل من جميع الأمم؛ لينقذوه من هؤلاء
الفاتحين، ثم هو يقر حكومة والده الممقوتة برجالها كلهم ، ويبدأ أعماله السياسية
بأمر وكيل والده في لندن ، بعقد تلك المعاهدة التي بيّن فسادها كُتَّاب المسلمين في
مشارق الأرض ومغاربها.
2-
إنه لم يكن يوجد في الدنيا شعب إسلامي غير النجديين يمكنه إنقاذ الحجاز
من الخطر الذي كان محيطًا به بعد احتلال الأجانب لفلسطين وسورية والعراق ،
واستيلائهم على سكة الحديد الحجازية من جانب العمران، وقد كان هذا البلاء
المبين بمساعدة هذا البيت الحجازي. وها نحن أولاء نسمع ونقرأ ما يهدد الإنكليز
به الحجاز من عدم السماح لقوة إسلامية تؤسس فيه؛ لئلا تكون خطرًا على ما
صاروا يعدونه ملكًَا لهم من بلاد العرب ، التي يزعم حسين وأولاده أنهم أنقذوها
(فلسطين وشرق الأردن والعراق) .
ولا يخفى عليكم أن مقتضى القاعدة السياسية الإنكليزية وجوب الاستيلاء التام
على الحجاز واحتلاله بالقوة العسكرية ، إن لم تكن تحت الإشراف البريطاني؛
لأجل الأمن على المواصلات البريطانية بين فلسطين والعراق.
3-
اعلموا أنه لا توجد حكومة إسلامية غير حكومة نجد ، تقدر الآن على
حفظ الأمن في الحجاز ، ومنع التعدي على الحجاج، ثم على إصلاح حال قبائل
الأعراب فيه ، ومنعهم من الغزو لمجرد التعدي أو الكسب والنهب، فيجب أن
يعضدها جميع العالم الإسلامي، وسيرون صحة قولي في هذا كما رأوه في غيره
ولا سيما الإرجاف الأخير بالخوف على الكعبة المشرفة أن يهدمها الوهابيون ، أو
يمزقوا أستارها، وأمثال هذه الأكاذيب التي كان يذيعها الإنكليز ومروجو سياستهم
الحجازية في مصر وسورية ، فقد دخلوا مكة كما دخلها أجدادهم في فجر القرن
العشرين معتمرين ، فطافوا بالكعبة المعظمة ، وقبّلوا الحجر وصلّوا سُنَّة الطواف ،
ثم الفريضة وآمنوا جميع الأهالي من كل اعتداء ، فلم يعتدوا على أحد، وسيلغون
جميع الضرائب والمغارم التي أرهق حسين بها الناس، ولما علم ذلك عاد الذين
كانوا فارين من مكة إلى جدة من الطريق ، ولا بد أن يكون جميع الذين فروا إلى
جدة قبل ذلك قد ندموا؛ لتصديقهم الملك السابق والملك اللاحق ، بأن الوهابية
سيمزقون أشلاءهم، ويبقرون بطون نسائهم، ويقطعون أعضاء أطفالهم على مرأى
منهم، ثم ينهبون جميع ما يملكون
…
4-
إنه لا يليق بالإسلام، ولا ببيت الله الحرام، أن يكون في مكة وهي البلد
الأمين، والمعبد الأعظم للمسلمين، ملك قاهر مستعلٍ على الناس ، يقتل ويسجن
ويعذب ويفرض الغرامات ، ويعادي جيرانه ويقاتلهم، بل يجب أن يكون فيها
حكومة يديرها مجلس شرعي مُنْتَخَبٌ من خيار علمائها وعلماء الشعوب الإسلامية
الأخرى ، ويكون لهم رئيس يختارونه من أنفسهم في كل سنة ، ولا يكون لأي فرد
من الأفراد أن يستبد بأي أمر في حرم الله برأيه.
5-
يجب أن يكون الحجاز قطرًا على الحياد لا يُقَاتِل ولا يُقاتَل ولا يكون
لأحد من الأجانب غير المسلمين نفوذ فيه ، ولا حق سُكْنى ولا ملك ولا حماية أحد
من الحجاج ولا من غيرهم. ولا يوجد مسلم يعرف دينه يرضى أن يكون بلد الله
الأمين تحت حماية حاكم غير مسلم ، أو يجعل نفسه ذريعة لتدخله في شؤونه،
وإهانته لحكومته الإسلامية ، وإذا كان قد عهد من أجهل المسلمين التابعين لدول
غير إسلامية الصبر الجميل على ظلم أمراء مكة القبيح ، ولم يستحلوا أن يشكوا
ذلك لحكوماتهم ، فكيف يكون شأنهم إذا صارت حكومة الحجاز شرعية شورية لا
استبداد فيها ولا مجال للاستبداد.
6-
يجب أن يكون الحجاز مهد العلم والصلاح والإصلاح ، وقد أُلِّفَت في
القاهرة جمعية إسلامية عامة؛ للسعي لما يجب من تأمينه وحياده السلمي باعتراف
جميع الدول ، ومن الإصلاح فيه اسمها (جمعية السلم العام ، في بلد الله الحرام)
وستعلن الدعوة إليها.
7-
إن ما أشرنا إليه ، ونقلنا بعضه في المقالة الرابعة من أقوال سلطان نجد
وبلاغي نجله ، وما لدينا من الاطلاع الخاص ، يعطينا اعتقادًا جازمًا بأن السلطان
عبد العزيز بن سعود يقبل بكل ارتياح ، أو يدعو إلى عقد مؤتمر إسلامي في مكة
المكرمة يؤلف من خواص مسلمي الشعوب الإسلامية؛ للبحث وتقرير النظام الذي
أشرنا إليه، كما أنه سيرسل وفدًا من علماء نجد لحضور مؤتمر الخلافة الذي سيعقد
في مصر، فهل كان أحد من المسلمين يطمع في شيء من هذا قبل إنقاذ هذا الرجل
العظيم للحجاز من قبضة الطاغوت؟
***
المقالة السادسة [**]
ماذا يفعل الوهابيون بالحجرة النبوية وقبة الحرم الشريف
أكثر المثنون علينا من قراء هذه المقالات من العلماء والفضلاء قولاً وكتابة
على ما بينا لهم من الحقائق، مؤيدة بالدلائل والوثائق، كما كثر طلاب (الهدية
السنية التحفة الوهابية النجدية) حتى صارت تطلب من الأقطار البعيدة، ووزعت
منها ألوف عديدة، وكثر السائلون لنا عما يشتبه عليهم من هذه الرسالة ومن أقوال
الجرائد، فأما من يلقوننا منهم فإننا نجيب كل سائل بقدر ما يتسع الوقت، وأما
الذين يكتبون إلينا منهم فنعتذر لهم، بأننا لا نجد وقت فراغ من أعمالنا
الضرورية نصرفه في الكتابة لهم ، وإن كنا نعتقد أن الكتابة مفيدة لمن أراد أن
يستفيد.
ومن الأسئلة الكتابية سؤال أرسل إلينا من طريق جريدة الأهرام هو أجدرها
بأن لا يجاب عنه، وإن كان مرسله مستعجلاً لا صبر له، إذ هو يسأل عما يفعل
الوهابيون بالحجرة النبوية إذا هم فتحوا مكة والمدينة، ويقيم عليهم الحجة إذا هم
فعلوا ما زعم أنهم يدينون الله تعالى به وإذا هم لم يفعلوا على سواء. فأنا لا يعنيني
أن أبحث في أمر المستقبل ، وما عسى أن يفعل الوهابية فيه، ولا يعنيني أن
يخطئ القوم في أمر فتقوم به عليهم الحجة ، ومتى فعلوا شيئًا يعلم السائل وغيره
ذلك، وهم على تشددهم في الدين غير معصومين، فإن وقع منهم خطأ ، فقد وقع
ممن هم خير منهم: كالصحابة الذين قتلوا جماعة أسلموا بأمرخالد بن الوليد رضي
الله عنه؛ لأنه لم يثق بإسلامهم ، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأمرهم قال:
(اللهم أبرأ إليك مما فعل خالد، اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد) رواه البخاري
وغيره.
ولكنني وجدت باعثًا دينيًّا دعاني للإجابة عن هذا السؤال الذي هو غير جدير
بالإجابة عنه لذاته، وهو أن أبين للجماهير من الناس الذين لم يطّلعوا على كتب
السنة أصح ما ورد في هذا الباب، مع فوائد أخرى تتعلق بما في السؤال من
الاحتجاج، اقتداء بما ورد في آخر كتاب العلم من صحيح البخاري في (باب من
أجاب السائل بأكثر مما سأله) .
وهذا نص السؤال:
السلام عليكم، وبعد: أرأيتَك يا أستاذ ، لو تم للإخوان الوهابيين فتح مكة
والمدينة؛ أيهدمون قبر النبي صلى الله عليه وسلم، أعني يحطمون ما حوله من
بناء وما فوقه من قباب، إذ أنهم يدينون بتحريم ذلك، ويعتقدون أنها بدع يجب
استئصالها
…
؟
وهل لا يغضب العالم الإسلامي لمثل ما يأتون إذا حصل
…
؟ وإذا راعى
الإخوان في ذلك شعور العالم الإسلامي ، وتحاشوا تلك الأعمال عند هذا المقام، فما
معنى تلك الأسطر الكثيرة التي خطوها في هذا الباب؟ أو هل كان النص تنقطع
سلسلة اتباعه هنا، فهو مقصور على قبر غير النبي صلى الله عليه وسلم
…
؟
عجِّل يا سيدي بإجابتي ، وتقبل جميل احتراماتي
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... المخلص
…
...
…
...
…
...
…
...
…
محمد إبراهيم خليل
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... ببولاق
جواب السؤال:
(1)
الذي نظنه أن الوهابيين لا يهدمون الحجرة التي فيها القبر الشريف ،
وما قاله السائل من أنهم يدينون الله تعالى بتحريم ذلك البناء ، ويعتقدون أنها بدع
يجب استئصالها؛ فيه نظر فإن البدع المخالفة لصريح السنة هي اتخاذ القبور
مساجد ، بأن يدفن الميت في المسجد أو يبنى المسجد على القبر
…
كما يعلم مما
يأتي ، وقبر النبي صلى الله عليه وسلم منفصل من المسجد في بناء وحده كان بيت
زوجه عائشة رضي الله عنها وعن أبيها ، فالذي يصلي في المسجد لا يعد
مصليًّا إلى القبر، وإذا كان بعض الناس يدخل الحجرة الشريفة فيصلي إلى القبر
يسهل منعه.
وقد استولى القوم على الحرمين الشريفين في فجر القرن الثالث عشر الهجري
(الموافق لأول القرن التاسع عشر الميلادي) ، ولم يهدموا الحجرة الشريفة، ولكن
روى بعض المؤرخين أنهم أزالوا من فوق قبة الحرم النبوي الشريف ما كان من
شكل الهلال والكرة المذهبين، وأنه كان من مرادهم هدم القبة ، ولكن سقط اثنان
من الفعلة الذين صعدوها لإزالة الكرة والهلال الذهبيين فماتا فامتنعوا من هدم القبة
لذلك، والمعلوم قطعًا أنهم لم يهدموا قبة الحرم ، ولم يحدثوا اعتداءً ولا تغييرًا في
القبر الشريف، وربما كان نزع الكرة والهلال لاعتقادهم أنهما من الذهب ، فرأوا
أن الانتفاع بهما في خدمة الدين التي يعتقدون القيام بها أولى من وضعها فوق القبة ،
على أن هذا الزخرف في بناء المساجد ليس من الدين في شيء ، بل هو من
البدع التي تفاخر بها الملوك ، فأنكرها عليهم بعض العلماء وسكت عنها بعضهم
خوفًا منهم، أو لأنهم عدوا الكثير منها من البدع الدنيوية التي لا تمس العقائد ولا
العبادات ، ثم ابتدع هؤلاء الملوك بناء المساجد على قبورهم ، فكانوا يوصون بذلك
فينفذه أخلافهم ، وهو محرم بالنصوص الصحيحة الصريحة ، فأنكره قليل من
العلماء الربانيين، وسكت عنه الآخرون خوفًا من شرهم، أو طمعًا في برهم، كما
يعلم من الشواهد التي نزيدها على جواب السائل الفاضل.
(2)
إن العالم الإسلامي يغضب أشد الغضب إن هدموا القبة الخضراء أو
شيئًا من جدران الحجرة الشريفة؛ لأن هذه المظاهر الفخمة والزخارف الجميلة تعد
في عرف جميع العوام وكثير ممن يسمون الخواص من قبيل شعائر الإسلام،
والمشعر الحرام، بل هي عندهم أفضل من الركن والمقام، وأهم من الصلاة
والصيام، ومنهم من يذهب إلى الحجاز؛ لأجل الزيارة ، ولا يخشع إلا لرؤية هذه
المباني الفخمة ، فإذا كان في إزالة شيء منها مصلحة من بعض الوجوه كالرجوع
في الأمور الدينية وما يتعلق بها إلى مثل ما كانت عليه في عصر السلف ، والتمييز
بين ما هو مطلوب شرعًا وما هو محذور أو غير مطلوب؛ فإن فيه مفسدة أكبر
والحال في أكثر البلاد الإسلامية على ما ذكرنا ، حتى صح فيها ما تنوه به خطباء
المنابر من تحول المعروف منكرًا والمنكر معروفًا ، ودرء المفاسد مقام على جلب
المصالح بشرطه المعروف عند العلماء.
(3)
إذا راعى الإخوان شعور العالم الإسلامي في ترك بعض المنكرات
المتفق على حظرها على حالها درءًا للمفسدة، واتقاء لتنفير الكثيرين عن الإصلاح
المقصود من إنقاذ البلاد المقدسة، يكون عملهم هذا موافقًا للشرع، وقد علمنا مما
دار في مؤتمر الشورى في عاصمة نجد ، أن العلماء أفتوا السلطان بجواز تأخير
أداء فريضة الحج في الموسم الأخير إذا كان يترتب على أدائه مفسدة راجحة ،
ووجود الحجرة النبوية نفسها ليس من المنكرات ، بل من المعروف المتواتر خبره
في كتب السنة كالمسجد النبوي ، وإنما تغير شكل البناء، وأمره هين لا يذكر مع
تركهم للحج خوفًا من المفسدة.
ومن دلائل السنة على هذه المراعاة بهذا القصد ما ثبت في الصحيحين
وغيرهما من حديث عائشة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم
كان كارهًا لما عليه بناء قريش للكعبة مقتصرة من جهة الشمال عن قواعد جده
إبراهيم (عليهما وآلهما الصلاة والسلام) ومن جعل بابها مرتفعًا؛ ليدخلوا من
شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا، وأنه كان صلى الله عليه وسلم يود لو نقضها فأعاد
بناءها على أساس إبراهيم ، وجعل لها بابين لاصقين بالأرض؛ ليدخل كل من أراد
من باب ويخرج من الآخر ، وما منعه من ذلك إلا حداثة عهدهم بالكفر والجاهلية
كما صرح به لعائشة) والحديث في ذلك مكرر في الصحيحين وغيرهما، فإذا كان
المعصوم صلى الله عليه وسلم خاف أن تنكر قلوب حديثي العهد بالشرك من
المؤمنين هدمه للكعبة وبناءها على أتم وأفضل مما بناها عليه المشركون ، فمراعاة
الإخوان مثل ذلك يعد عملاً شرعيًّا.
الزيادة على الجواب:
إذا أراد السائل وأمثاله نصًّا عن الأئمة المجتهدين في هذه المباني الفخمة
والزينة في الحرم النبوي الشريف فليراجع ما قاله العلامة الشاطبي في كتابه
الاعتصام: في بحث الشروط التي تشترط لعد البدع من المعاصي الصغائر كبائر ،
حتى إذا ما بلغ الشرط الثالث وهو (أن لا تفعل البدعة في المواضع التي هي
مجتمعات الناس ، والمواضع التي تقام فيها السنن ، وتظهر فيها أعلام الشريعة)
يجد من الدلائل على هذا الشرط ما نصه:
(قال أبو مصعب: قدم علينا ابن مهدي فصلى ووضع رداءه بين يدي
الصف ، فلما سلم الإمام رمقه الناس بأبصارهم ، ورمقوا مالكًا (هو الإمام مالك ابن
أنس) ، وكان قد صلى خلف الإمام ، فلما سلم قال: من هاهنا من الحرس؟ فجاءه
نفسان فقال: خذا صاحب هذا الثوب فاحبساه ، فحبس، فقيل له: إنه ابن مهدي
(أي قيل لمالك: إن هذا الذي حبس هو عبد الرحمن بن مهدي الإمام المشهور ، وهو
من أقران مالك في الحديث) فوجه إليه وقال له: ما خفت الله واتقيته أن وضعت
ثوبك بين يديك في الصف ، وشغلت المصلين بالنظر إليه ، وأحدثت في مسجدنا
شيئًا ما كنا نعرفه؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في مسجدنا
حدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) ، فبكى ابن مهدي وآلى على نفسه
أن لا يفعل ذلك في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في غيره ، وفي رواية أن
عبد الرحمن بن مهدي اعتذر بأنه ثقل عليه رداؤه من شدة الحر ، فوضعه ولم يقصد
مخالفة من مضى. أي في عدم إحداث شيء جديد في مسجده صلى الله عليه وسلم.
فإذا كان إمام دار الهجرة يرى أن من مخالفة الحديث الشريف الذي رواه هو
ومن بعده من أصحاب الصحاح والسنن أن يضع المصلي رداءه أمامه؛ لأن هذا لم
يكن في عهده صلى الله عليه وسلم، وكل ما لم يكن في عهده يصدق عليه أنه
إحداث وابتداع فيه يستحق صاحبه تلك اللعنة الشاملة المحيطة ، فما القول عنده في
سائر الأحداث؟
والإمام مالك مُتَّفَقٌ على جلالته واجتهاده ، ويلقبه بعض المحدثين حتى من
غير المالكية بالإمام الأعظم، ولكنه لو خرج اليوم من قبره، وأراد أن يجعل
المسجد النبوي كما كان في عصره لرجمه جماهير المسلمين بالحجارة وفي مقدمتهم
أتباع مذهبه من المغاربة والسودانيين والمصريين.
نكتفي بهذا القدر من الزيادة الآن ، وسنذكر في المقال المتمم لهذه الفتوى
بعض الأحاديث المحتج بها في أحكام القبور والمساجد ، وأقوال بعض كبار الفقهاء
من غير الحنابلة؛ لأن هذه فرصة تنبهت فيها الأذهان للتمييز بين السنن والبدع.
***
المقالة السابعة [***]
القبور ومساجدها وقبابها
قد عم الجهل بالإسلام ، حتى صار ألوف الألوف من المسلمين جنسية لا
هداية ، يعدون بعض الحق من عقائده وآدابه وأحكامه باطلاً، والباطل من البدع
المحدثة فيه حقًّا، وسبب هذا إهمال التعليم الديني والإرشاد الإسلامي، وترك
فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فانقلب الأمر وانعكس الوضع، فصار
الكثيرون يعدون كثيرًا من المعروف منكرًا ومن المنكر معروفًا ، حتى في الأمور
المتعلقة بصحة الإيمان.
ولما فشت البدع ورسخت ، صارت مألوفة ، وعز على المشتغلين بالعلم أن
يطبقوا على أصحابها أحكام الشرع في أحكام: الردة ، والخروج من الإسلام ،
وأحكام رد الشهادة ، ثم صار بعضهم يتأول لهم ، ولو بالتمحل البعيد عن النقل
والعقل.
لهذا اضطرب الناس في الإصلاح والتجديد للدين الذي قام به الشيخ محمد عبد
الوهاب الحنبلي السلفي في نجد وأولاده وأحفاده وتلاميذهم بتأييد أمراء نجد؛ سعود
وآل سعود؛ لأنهم أقاموا أحكام الإسلام بالعلم والعمل ، والتأييد بالحكم النافذ؛ فرأى
أمراء الحجاز المفسدون مجالاً واسعًا لاتهامهم بتكفير المسلمين واستباحة دمائهم؛
ووافقتهم الدولة العثمانية يومئذ على ذلك؛ لإماتة ذلك الإصلاح لئلا يفضي إلى
تأسيس دولة عربية قوية في بلاد العرب، مع أن الدولة كانت تعد فرق الباطنية؛
كالنصيرية والإسماعيلية ، والدروز مسلمين ، إذ كانت أبعد الحكومات الإسلامية عن
التكفير وعن مقاومة البدع، إلا أن يكون لأجل السياسة كقتالها للإيرانيين، وكل من
هذا وذاك دوران مع السياسة يدل عليه أن الشعب التركي يثني على الوهابيين اليوم
وتتمنى جرائده لهم الفوز بالاستيلاء على الحجاز؛ لأن الحجاز قد خرج من دائرة
دولتهم ، وكان المتغلب عليه عدوًّا لهم.
أشهر ما اشتهر من إصلاح الوهابيين الذي سماه الجاهلون بدعة أو مذهبًا
جديدًا أو دينًا محدثًا منع البدع والمعاصي المتعلقة بقبور الأنبياء والأولياء وأهل
البيت ، وإننا ننشر للجمهور الآن بعض ما ورد في ذلك من الأحاديث النبوية ،
وأقوال بعض الفقهاء المشهورين من المجتهدين والمنتمين إلى المذاهب المشهورة؛
ليميزوا به الحق من الباطل والهدى من الضلال.
جاء في كتاب الزواجر للفقيه الشهير أحمد بن حجر الهيتمي الشافعي المولود
بمصر سنة 909 والمتوفى بمكة سنة 973 - ما نصه:
الكبيرة 93-98
اتخاذ القبور مساجد وإيقاد السرج عليها ، واتخاذها أوثانًا والطواف بها
واستسلامها ، والصلاة إليها.
أخرج الطبراني بسند لا بأس به عن كعب بن مالك رضي الله عنه قال:
عهدي بنبيكم قبل وفاته بخمس ليالٍ فسمعته يقول: (إنه لم يكن نبي إلا وله خليل
من أمته ، وإن خليلي أبو بكر بن أبي قحافة، وأن الله اتخذ صاحبكم خليلاً، ألا
وإن الأمم قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ، وإني أنهاكم عن ذلك، اللهم
إني بلغت) ثلاث مرات، ثم قال:(اللهم اشهد) ثلاث مرات، الحديث.
والطبراني (لا تصلوا إلى قبر ولا تصلوا على قبر)[5] وأحمد وأبو داود
والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان عن ابن عباس رضي الله عنهما (لعن
رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج)
ومسلم (ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد فإني أنهاكم عن
ذلك) وأحمد (إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون
القبور مساجد) ، وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم (الأرض كلها
مسجد إلا المقبرة والحمَّام) والشيخان وأبو داود (قاتل الله اليهود اتخذوا قبور
أنبيائهم مساجد) ، وأحمد عن أسامة وأحمد والشيخان والنسائي عن عائشة وابن
عباس ومسلم عن أبي هريرة [6] بمعناه وأحمد والشيخان والنسائي (أولئك إذا كان
فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا ، وصوروا فيه تلك الصور أولئك
شرار الخلق عند الله يوم القيامة) ، وابن حبان عن أنس: (نهى صلى الله عليه
وسلم عن الصلاة إلى القبور) ، وأحمد والطبراني: (إن من شرار الناس من
تدركهم الساعة وهم أحياء ومن يتخذ القبور مساجد) ، وابن سعد (ألا إن من كان
قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ، فلا تتخذوا القبور مساجد فإني
أنهاكم عن ذلك) ، وعبد الرازق (إن من شرار الناس من يتخذ القبور مساجد) ،
وأيضًا (كانت بنو إسرائيل اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد فلعنهم الله تعالى)[7] ، ثم
قال المصنف بعد سرد هذه الأحاديث:
(تنبيه) :
عد هذه الستة من الكبائر وقع في كلام بعض الشافعية ، وكأنه أخذ ذلك مما
ذكرته من هذه الأحاديث ، ووجه أخذ اتخاذ القبر مسجدًا منها واضح؛ لأنه لعن من
فعل ذلك بقبور أنبيائه ، وجعل من فعل ذلك بقبور صلحائه شر الخلق عند الله يوم
القيامة، ففيه تحذير لنا كما في رواية:(يحذر ما صنعوا) أي يُحَذِّرُ أُمَّتَهُ بقوله
لهم ذلك من أن يصنعوا كصنع أولئك فيلعنوا كما لعنوا واتخاذ القبر مسجدًا معناه
الصلاة عليه أو إليه وحينئذ فقوله: (والصلاة إليها) مكرر، إلا أن يراد باتخاذها
مساجد الصلاة عليها فقط [8] .
(نعم إنما يتجه هذا الأخذ إن كان القبرُ قَبْرَ مُعَظَّم من نبي أو ولي كما
أشارت إليه رواية (إن كان فيهم الرجل الصالح) ومن ثَمَّ قال أصحابنا: تحرم
الصلاة إلى قبور الأنبياء والأولياء تبركًا وإعظامًا ، فاشترطوا شيئين: أن يكون
قبر معظم ، وأن يقصد بالصلاة إليه ومثلها الصلاة عليه التبرك والإعظام ، وكون
هذا الفعل كبيرة ظاهر من الأحاديث المذكورة لما علمت، وكأنه قاس على ذلك كل
تعظيم للقبر؛ كإيقاد السرج عليه تعظيمًا له وتبركًا به - والطواف به كذلك - وهو
أخذ غير بعيد ، سيّما وقد صرح في الحديث المذكور آنفًا بلعن من اتخذ على
القبر سرجًا ، فيحمل قول أصحابنا بكراهة ذلك على ما إذا لم يقصد به تعظيمًا
وتبركًا بذي القبر) .
وأما اتخاذها أوثانًا فجاء النهي عنه بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تتخذوا
قبري وثنًا يعبد بعدي) أي لا تعظموه تعظيم غيركم لأوثانهم بالسجود له أو نحوه [9] ،
فإن أراد ذلك الإمام بقوله: واتخاذها أوثانًا - هذا المعنى اتجه ما قاله من أن
ذلك كبيرة بل كفر بشرطه، وإن أراد أن مطلق التعظيم الذي لم يؤذن فيه كبيرة
ففيه بعد ، نعم قال بعض الحنابلة: قصد الصلاة عند القبر متبركًا به غير المحادة
لله ورسوله ، وإبداع دين لم يأذن به الله للنهي عنها ، ثم إجماعًا فإن أعظم
المحرمات وأسباب الشرك الصلاة عندها ، واتخاذها مساجدًا أو بناؤها عليها ،
والقول بالكراهة محمول على غير ذلك ، إذ لا يُظن بالعلماء تجويز فعل تواتر عن
النبي صلى الله عليه وسلم لَعْنُ فاعله.
وتجب المبادرة لهدمها وهدم القباب التي على القبور إذ هي أضر من مسجد
الضرار؛ لأنها أسست على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم ، لأنه نهى عن
ذلك ، وأمر صلى الله عليه وسلم بهدم القبور المشرفة ، وتجب إزالة كل قنديل أو
سراج على قبر ، ولا يصح وقفه ونذره، انتهى (راجع صفحة 161 - 163 من
الزواجر المطبوع بالمطبعة الوهبية بمصر سنة 1293) .
وقد أشار بقوله أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بهدم القبور المشرفة إلى
الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه وغيره عن أبي الهياج الأسدي قال: (قال لي
علي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تدع
تمثالاً إلا طمسته ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته) ، قال الإمام النووي في شرحه لهذا
الحديث: قال الشافعي في الأم: ورأيت الأئمة بمكة يأمرون بهدم ما يبنى ، ويؤيد
الهدم قوله: (ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته) اهـ.
فهل كان ابن حجر والنووي قبله والإمام الشافعي قبلهما من الوهابية؟ وهل
كان أئمة المسلمين بمكة في عصر الشافعي أعلم وأهدى ، أم طاغوت الحجاز في
عصرنا حسين الذي أمطر الخافقين برقيات في الطعن على الوهابية بهدم قبر ابن
عباس رضي الله عنهما ؟
إن أمر النبي صلى الله عليه وسلم لعلي - كرم الله وجهه - حين أرسله إلى
اليمن بطمس التماثيل ، وهدم القبور المشرفة ، وتسويتها بالأرض؛ ثم أمر علي
عامله أبا الهياج الأسدي بذلك ، وعمل أئمة المسلمين بذلك في خير القرون كان لسد
ذريعة تعظيم القبور تعظيمًا دينيًّا إذ هو من أعمال الشرك، فهل ننكر هدمها وهدم
القباب والمساجد التي عليها بعد ما وقع المحذور ، وارتكب المحظور؟
حدثني الشريف محمد شرف عدنان باشا حفيد الشريف عبد المطلب الذي كان
أعقل رجل في شرفاء مكة أنه رأى رجلاً في مسجد ابن عباس بالطائف يصلي
مستقبلاً القبر مستدبرًا القبلة فظن أنه أعمى قد أخطأ القبلة ، فأخبره بذلك وجاء
ليحوله إلى القبلة ، فرآه بصير العينين ، وأبى أن يتحول معه ، فعلم أنه متعمد فقال
لبعض الخدم: أخرجوا هذا المشرك من المسجد.
فالأمر المشاهد الذي لا شك فيه أن هذه القبور المعظمة تعظيمًا دينيًّا لم يأذن
به الله قد كانت سببًا لمنكرات كثيرة أخرى منها هو شرك صريح لا يحتمل
التأويل ، ومنها ما يحتمله احتمالاً قريبًا أو بعيدًا، ولكن لا يجوز أن يجعل الاحتمال
مسوغًا للسكوت عنه وإقرار أهله عليه ، وإنما قد يجوز ذلك في درء الكفر عن
شخص معين؛ ومنها ما هو معصية كبيرة ، ومنها ما هو صغيرة وكلاهما كثير جدًّا
لا خلاف بين المسلمين فيه ، ولا في أن استحلال المُجْمَع عليه المعلومِ من الدين
بالضرورة كفر وخروج من الملة ، وقد فصّل العلماء الناصحون ذلك في كتب كثيرة
أشهر المطبوع منها كتاب المدخل للعلامة ابن الحاج المالكي الفاسي المتوفي في
مصر سنة 737 ، ومما ذكره أن العلماء أفتوا بهدم بنيان البيوت التي على القبور
(الأحواش) ، كما في الصفحة 274 من الجزء الأول ، وفصّل المفاسد الموجِبَة لذلك.
وقال الإمام الشوكاني المجتهد في شرح حديث أبي الهياج الأسدي من كتابه
(نيل الأوطار) ما نصه: (ومِن رَفْعِ القبور الداخل تحت الحديث دخولاً أوليًّا
القبب والمشاهد المعمورة على القبور ، وأيضًا هو من اتخاذ القبور مساجد ، وقد
لعن النبي صلى الله عليه وسلم فاعل ذلك كما سيأتي ، وكم قد سرى عن تشييد أبنية
القبور وتحسينها من مفاسد يبكي لها الإسلام، (منها) : اعتقاد الجهلة لها كاعتقاد
الكفار للأصنام، وعظم ذلك فظنوا أنها قادرة على جلب النفع ورفع الضرر،
فجعلوها مقصدًا لطلب قضاء الحوائج، وملجأً لنجح المطالب، وسألوا منها ما يسأله
العباد من ربهم، وشدوا إليها الرحال، وتمسحوا بها واستغاثوا، وبالجملة فإنهم لم
يدعو شيئًا مما كانت الجاهلية تفعله بالأصنام إلا فعلوه، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
(ومع هذا المنكر الشنيع والكفر الفظيع لا نجد من يغضب لله ، ويغار حمية
للدين الحنيف لا عالمًا ولا متعلمًا ولا أميرًا ولا وزيرًا ولا ملكًا ، وقد توارد إلينا من
الأخبار ، ما لا يشك معه أن كثيرًا من هؤلاء القبوريين أو أكثرهم إذا توجهت عليه
يمين من قبل خصمه حلف بالله فاجرًا ، فإذا قيل له بعد ذلك: احلف بشيخك
ومعتقدك الولي الفلاني ، تلعثم وتلكأ وأبى واعترف بالحق ، وهذا من أبين الأدلة
الدالة على أن شركهم قد بلغ فوق شرك من قال: إنه تعالى ثاني اثنين وثالث ثلاثة.
(فيا علماء الدين، ويا ملوك المسلمين، أي رزء للإسلام أشد من الكفر؟
وأي بلاء لهذا الدين أضر عليه من عبادة غير الله تعالى؟ وأي مصيبة يصاب بها
المسلمون تعدل هذه المصيبة؟ وأي منكر يجب إنكاره إن لم يكن إنكار هذا البين
واجبًا؟ اهـ المراد منه (ص234 ج3 من نيل الأوطار المطبوع بالمطبعة
الأميرية بمصر) .
وللإمام الشوكاني هذا رسالة خاصة في هذا الموضوع ، نشرت في المجلد
الثاني والعشرين من المنار، وللعلامة المحدث محمد بن إسماعيل الوزير رسالة في
معناها اسمها (تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد) نشرت في المجلد الثالث
والعشرين منه - وقد طبعتا على حدة - وقد ذكر الأخير شبهة بعض الناس في قبة
المسجد النبوي الشريف ، بعد أن بين أن مبتدعي بناء القباب والمساجد على القبور
هم ملوك الأعاجم الجاهلون فقال:
(فإن قلت: هذا قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عُمِّرت عليه قبة
عظيمة ، أُنْفِقَتْ فيها الأموال (قلت) : هذا جهل عظيم بحقيقة الحال، فإن هذه
القبة ليس بناؤها منه صلى الله عليه وسلم ولا من أصحابه ولا من تابعيهم وتبع
التابعين، ولا من علماء أمته وأئمة ملته، بل هذه القبة من أبنية بعض ملوك مصر
المتأخرين ، وهو قلاوون الصالحي المعروف بالملك المنصور في سنة 678 ، ذكره
في (تحقيق النصرة، بتلخيص معالم دار الهجرة) فهذه أمور دولية لا دليلية ، يتبع
فيها الآخر الأول) اهـ.
فقد علم القراء بهذا النقول أن الوهابية لم يبتدعوا في هذا الأمر ، بل اتبعوا
الأدلة وأقوال الأئمة من المحدثين والفقهاء المنتمين إلى المذاهب المشهورة ، لا
مذهبهم الحنبلي فقط بعد ترك الجماهير لها {وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4) .
وإننا ندعو بالخير لمن سأل فكان سبب هذا البيان، وقد بلغنا ما علمنا به أننا
أخطأنا في فهمنا أنه أراد به الاحتجاج، والنية حسنة ولله الحمد في كل حال.
_________
(*) نشرت في الأهرام بتاريخ 19 ربيع الأول 18 أكتوبر.
(1)
أرز: كعلم وضرب ونصر: تجمع وانكمش وعاد وثبت، والأُروِيّة بضم الهمزة وكسر الواو وتشديد الياء أنثى الوعول؛ وهي تعتصم في أعلى الجبال.
(2)
نشر هذا المقال في ج 7و8 وكان الوعد في الأهرام قبل صدورهما.
(3)
زوى الشيء يزويه جمعه وقبضه والمراد: أنه تعالى أطلعه عليها.
(4)
يكنى بالبيضة عن موضع سلطة القوم ، وملكهم ومستقر قوتهم وما يحمون من حقيقتهم.
(**) نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 26 ربيع الأول 25 أكتوبر.
(***) نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 29ربيع الأول 28أكتوبر.
(5)
كل ما وضع بين هذه العلامة () فهو حديث نبوي شريف.
(6)
وفيه زيادة (والنصارى) وكان ذكر له صلى الله عليه وسلم كنيسة في الحبسة فيها صور الخ.
(7)
هذه الجملة من كلام عائشة قالتها بعد رواية لعنه صلى الله عليه وسلم لمن اتخذوا القبور مساجد تعليلاً للَّعن.
(8)
المتبادر بقرينة ما فعل أهل الكتاب أن منه بناء المساجد عليها ، وجعلها منسوبة إليها كما وضحه صلى الله عليه وسلم بقوله:(أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح) إلخ.
(9)
أي كالطواف به ، كما صرح به المؤلف آنفًا ، ومثله التمسح به أو بقفصه للتبرك أو الاستشفاء.
الكاتب: حسني عبد الهادي
من الخرافات إلى الحقيقة [*]
(11)
الجمعيات السرية
إن الفتوحات التي ابتدأت في زمان الخلفاء الراشدين وعَظُمَتْ في زمان
الأمويين، واستولى المسلمون على إيران ومصر والشام وإفريقية الشمالية ،
ولكن هذه الفتوحات كانت إقليمية لا قلبية، نعم تبدلت الحكومات وزالت الدول إلا
أن العقائد الراسخة منذ أجيال بقيت كما كانت؛ لأن تبديلها ليس هينًا [1] .
ثم كان بين الذين أسلموا أناس كان إسلامهم لمقاصد سياسية ، فكانوا يريدون
إماتة الديانة الإسلامية ، ويتوسلون إلى إحياء عقائدهم بإبرازها بثوب إسلامي جديد
وفي أواخر أيام العباسيين ظهر أناس بعضهم ملحد راسخ في الإلحاد وبعضهم
فارسي (زردشتي) ، وبعضهم من أتباع (ماني) أي نصفه مجوسي ونصفه
مسيحي وحصروا الشؤون العامة في أنفسهم.
وكان أكثر الناس غافلين عن كل شيء، ومستعدين لتصديق كل شيء، إذا
صادفت الجماعة منهم رجلاً صالحًا قادها إلى طريق الهداية، وإذا صادفت آخر
صالحًا خرجت معه عن جوهر الدين بدون أن تشعر، وكان (تصديق) كل ما
يسمع من أمارات الامتياز في تلك الأوقات، فكل فكر أسند إلى آية ولو لم تكن
موجودة، أو أسند إلى حديث موضوع، أو أي كتاب مجموع، كان ذلك يقبل بغير
تفكر، ويتبع بدون تدبر.
وثَم أسباب أخرى لميل الناس لكل جديد ، وهو ظلم الأمراء ، فكان الناس
بميلهم إلى الجديد يرجون خلاصًا من الظلم الواقع.
ثم إن كثرة المذاهب الدينية التي يُكَفِّرُ أصحابُها بعضُهم بعضًا أزالت هيبة
الدين وقللت من احترامه في نظر الناس ، هذه هي الحالة الذهنية التي تقدمت نشر
مذهب الباطنية.
الباطنيون:
كان ظاهر عملهم بذل الجهد؛ لإحياء مذهب الإسماعيلية الذي هو من مذاهب
الشيعة، والحقيقة أنهم كانوا يقصدون إحياء أساطير وخرافات قديمة يكتمونها عن
المبتدئين؛ فإن مؤسسي هذه الفرقة لم يكونوا مسلمين لا فعلاً ولا اسمًا ، والصحيح
أنهم كانوا مجوسًا.
منهم (عبد الله بن ميمون بن القداح) عقد مرة مجلسًا وخطب فيه فقال:
(إن المسلمين فتحوا بلادنا، وأزالوا دولتنا، إن الانتصار عليهم في الحرب والقتال
أصبح مستحيلاً، وإنما النافع في جهادنا لهم أن نقطع أواصر الاتحاد التي بينهم،
ونشوش عليهم أمورهم، ونوقعهم في بحر الارتباك، فحينئذ ننال منهم ما نبغي:
نحرف الإسلام بتأويل نصوصه، ونمجس المسلمين من حيث لا يشعرون ليخربوا
بيوتهم بأيديهم ، إذ بهذا وحده يمكن أن تدال الدولة للفرس ويعيدوا دينهم ودولتهم إلى
سابق مجدها.
وكان عاقبة التشاور في ذلك المجلس انتخاب عبد الله بن ميمون منفذًا لهذه
الخطة ، وكان ابن ميمون يعلم كنه الأخطار التي تظهر أمام من يريد نشر مذهب
جديد ، فاختار لذلك طريق الدسائس السرية، وكان عالمًا بمذهب (زردشت)
واقفًا على أصوله وفروعه، وكان له نصيب من العلوم الطبيعية، والأحوال
الروحية، لذلك بدأ يحرض الناس على الظلم والظلمة ، وينفرهم من الاستبداد
والمستبدين ، فجمع حوله جمًّا غفيرًا ، وكان يجذب قليلي الدين بمقدمات فلسفية،
ويجذب الشيعة بالإمام الموهوم المستتر، وأهل السنة بالمهدي المنتظر، ويخلب
أفئدة اليهود بالمسيح الموعود، كل هذا لأجل إعادة سلطنة إيران الزائلة.
بذل ابن ميمون هذا مساعي جمة لنيل المرام ، وكان موقنًا بالنجاح ، ثم مات
وخَلْفُهُ ابنه (أحمد) فواظب على خطة أبيه وعندما ظهر (حمدان القرمطي) وجد
الجو مناسبًا جدًّا لامتلاء أفكار الناس بعقائدهم.
أهل العراق كانوا مظلومين من قبل الحكومة ظلمًا شديدًا ولذلك كانوا ميالين
لكل ما يظهر من جديد فكانت الضرائب كثيرة جدًا والعسرة المالية شديدة على
الجمهور، وعندما سمع العراقيون بمذهب حمدان القرمطي الذي يقتضي اشتراك
الناس بالأموال هرعوا إليه وقبلوا دعوته بدون مناقشة.
عندئذ شرع الباطنيون يحرفون القرآن الكريم بالتأويل ويقولون إن له معنى
ظاهرًا للعوام ومعنى باطنًا للخواص، وهو المقصود بالذات، لأن الظاهر هو
القشر، والباطن هو اللب، وظاهر القرآن الكريم يحمل الإنسان واجبات أخلاقية
واجتماعية ودينية كثيرة وفيه أوامر ونواهي كثيرة وهذا مَرْكَبٌ صعب لا يُذَلَّلُ،
وبما أن باطن القرآن يقتضي ترك ظاهره طفقوا يفسرونه تفسيرًا غريبًا.
كانوا يقولون ليس من شؤوننا البحث عن صفات الله وهل هو موجود أو
معدوم، وعالم أو جاهل، خلق الله العقل قبل كل شيء ثم بواسطة العقل خلق
النفس وبما أن النفس مشتاقة لكمال العقل احتاجت إلى الحركة، والحركة تحتاج
إلى آلات ولذلك خلق الأجرام الفلكية وبتدبير النفس تحركت الأجرام الفلكية حركة
دورية وبتأثير ذلك النباتات والمعادن وأنواع الحيوانات.
أفضل الحيوانات الإنسان لأن بينه وبين العالم العلوي رابطة من دونها وعندما
يرتقي الإنسان إلى مرتبة العقل ترتفع عنه التكاليف والسنن ويستغني عن الاشتغال
بالعبادات.
الرسل عند الباطنية سبعة: آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد
ومحمد المهدي [2] وبين كل رسولين سبعة أئمة والواجب على الإمام إكمال نواقص
الرسول الذي تقدمه ولا يخلو عصر من إمام.
لهذا المذهب رتب مختلفة: (1) إمام (2) حجة (3) ذو مصة (4)
باب (5) داع (6) مأذون (7) مكلب (8) مؤمن.
الإمام عندهم: هو غاية الأدلة ومؤدي الله، والحجة هو مؤدي الإمام والحائز
لعلم الإمام ويحتج بذلك المعلم.
ذو المصة: هو الذي يأخذ العلم من الحجة أبواب: هو المأمور بتعلم الفكرة.
الداعي نوعان: داع أكبر وداع مأذون فالأول هو الذي يعين درجات المؤمنين
والثاني هو الذي يقبل أهل الظاهر، ويدخلهم في عداد أهل الباطن ويأخذ عهدهم
وميثاقهم.
المكلب: هو الذي يدخل بين أهل الظاهر ويعرف أحوالهم والذي يعرضها
على الداعي. المأذون المؤمن: هو الذي دخل في جمعية أهل الباطن وصار في
ذمة الإمام.
الداعي: هو ما يعبر عنه أهل زماننا باسم (جزويت) وهو يراقب الناس
فمن رأى فيه قابلية واستعدادا يختبر أحواله وأطواره وأفكاره ويجذبه إلى التعرف
إليه فإن رآه متدينا يظهر أي الداعي له بمظهر الدين. وإن وجده ملحدًا أو ضعيف
الإيمان يأتيه من حيث يحلو له وإن رآه متحليًّا بمكارم الأخلاق يتمثل له بمظهر ملك
كريم، وإن وجده من المنهمكين في الفسق يتظاهر بأنه مثله. وجملة القول أنه
يتحبب إلى الرجل ويختلبه حتى إذا رأى أنه استولى على روحه في تنفيذ وظيفته
وهز جذبه إلى حزبهم، يقنعه بأن كل ما يرغب فيه من السعادة لديهم. وكان الدعاة
يعملون عملهم بالترتيب ويتسلقون إلى الغاية - درجة بعد درجة - وهذه الدرجات
ثمانية.
وقبل أن نبحث في هذه الدرجات نبين بالإيجاز حقيقة طائفة الإسماعيلية التي
يستند عليها بالظاهر أرباب مذاهب الباطنية.
طائفة الإسماعيلية:
الإسماعيلية طائفة من طوائف الشيعة تنسب إلى إسماعيل بن جعفر الصادق
الكبير كانوا يقولون بإمامة جعفر الصادق وأنه فوضها إلى ابنه الكبير وبما أن
إسماعيل توفي قبل جعفر كان يقتضي أن ينقل حق الإمامة إلى محمد المكتوم وبعده
قام ابنه جعفر المصدق مقامه وخلفه محمد الجيب وكان ذكيًّا وفعالاً وهذا هو الذي
عم نشر مذهب الإسماعيلية وكان يسكن بلدة اسمها سلمية في جوار حمص وأرسل
الدعاة إلى جميع الجهات وأهم نقطة كان يعتني بها الإسماعيليون أن العالم لا يخلو
من إمام فإن كان مخفيًّا فلا بُدَّ له من لقياه وعند وفاة محمد الجيب أعلن ابنه عبد الله
أنه هو الإمام المنتظر أي المهدي.
(لها بقية)
…
...
…
...
…
...
…
...
…
المترجم
…
...
…
...
…
...
…
...
…
حسني عبد الهادي
_________
(*) تابع لما سبق من الكتاب المترجم عن التركية (راجع ص 444م25) .
(1)
المنار: الحق أن الإسلام قضى على جميع العقائد القديمة في عقول أكثر الناس وقلوبهم؛ لظهور بطلانها في نوره المتألق ، ولكن أكثر الأعاجم لم تفهم القرآن كما فهمه العرب ، وإنما فهمه منهم حق الفهم من تلقوا اللغة عن أهلها في الصدر الأول ، وكان الأكثرون قابلين لكل بدعة فيه.
(2)
المنار: قد كان تأثير هذه المفسدة المراد بها إبطال الإسلام بنبي آخر بعد خاتم النبيين رواج دعوة البابية والبهائية، ثم الأحمدية القاديانية، فهؤلاء ابتدعوا نبوة جديدة، وأولئك ابتدعوا ألوهية
جديدة.
الكاتب: محمد رشيد رضا
ماضي الأزهر وحاضره ومستقبله
(لقد ألقيت في الأزهر بزرة جديدة
إما أن تكون مبدأ حياة جديدة له وإما أن يموت)
(الأستاذ الإمام)
نعني بالأزهر ما شمل معاهد العلوم الدينية ووسائلها من الفنون العربية في
الإسكندرية وطنطا ودسوق ودمياط وأسيوط وكلها مرتبطة بالجامع الأزهر
وتابعة له في إدارته ونظام التعليم فيه.
كانت مصر بالأزهر بلاد علم وحضارة وثروة وحكومة عزيزة قوية ، فكان
الأزهر ركن العلم من حضارتها، وكان بالأزهر قوام حكومتها ومن رجال الأزهر
جل حكامها ، إلا السلاطين والموك ورؤساء الجند ، فكانوا يُكَوِّنُونَ من غيرهم ومن
غير الشعب المصري أيضًا، ولكن علماء الأزهر وكبراء المصريين قلما كانوا
يشعرون بهذه الغيرية، والأحكام تصدر بشريعتهم، والدواوين والمحاكم بلغتهم،
وأولئك السلاطين والقواد من أهل دينهم، وإنما كان يهمهم من أمر الأمراء
والسلاطين عدلهم وفضلهم، لا أصلهم وفصلهم، ولو كان ثَم أسباب تشعرهم بهذه
الغيرية شعورًا مؤلمًا لطباعهم ، لأمكنهم إزالة ملكهم، كما أمكن الشيخ عز الدين بن
عبد السلام بيع أمراء الدولة المصرية من المماليك الأتراك ، فإنه ما زال يصرح
ببطلان تصرفاتهم من بيع وشراء ونكاح؛ لأنهم أرقاء مملوكون لبيت المال (حتى
تعطلت مصالحهم ، فأرسلوا إليه يسألونه عن حل لهذا الإشكال ، فقال: نعقد لكم
مجلسًا ، وينادي عليكم لبيت مال المسلمين ويحصل عتقكم بطريق شرعي ، وبعث
إليه السلطان بأن يرجع عن هذا القول فلم يرجع، فأنكر عليه السلطان دخوله في
هذا الأمر بأنه لا يعنيه ، وذكر كلمة فيها غلظة حملت الشيخ على الشروع في
الهجرة من القاهرة إلى الشام فركب مع أهل بيته حميرًا ، وخرجوا فتبعهم وجهاء
المسلمين من جميع الطبقات فبلغ الخبر السلطان ، وقيل له: متى راح الشيخ ذهب
ملكك ، فلحقه بنفسه على بعد فرسخ من القاهرة واسترضاه ، فرجع على أن ينفذ ما
قرره، فأراد نائب السلطنة وكان من أولئك المماليك أن يحوله عن رأيه بالملاطفة ،
فلم يفد ثم بالتهديد فلم يفد، فاضطروا إلى الامتثال ، فاجتمعوا ونادى عليهم واحدًا
واحدًا ، وغالى في ثمنهم حتى باعهم وأعتقهم مبتاعوهم من الأغنياء، وصرف
الشيخ ثمنهم في وجوه البر العامة ، كما بينه التاج السبكي في ترجمته من طبقات
الشافعية.
ولهذه المكانة التي كانت للشيخ عز الدين قدس الله روحه قال الملك الظاهر
لبعض خواصه لما رأى جنازته تحت القلعة وما يتبعها من كثرة الناس: اليوم استقر
أمري في الملك ، لأن هذا الشيخ لو كان يقول للناس: اخرجوا عليه؛
لانتزع الملك مني.
كان الناس كلهم يتبعون العلماء، وكان في استطاعة العلماء أن يسيروا
الأمراء والسلاطين في طريق الشرع المستقيم، ويمنعوهم من الاستبداد والظلم،
ولكنهم لم يفكروا في هذا الأمر فيعدوا له عدته، ويمهدوا له طريقه، بل لم يكونوا
يشعرون باستطاعتهم، ولا يُقَدِّرون كُنْه سُلطتِهم، وما كان يظهر من آياتها يعدونه
من الأحداث الشاذة، التي لا ترجع إلى سنة عامة، ولعلهم كانوا يعدون ما فعله
الشيخ عز الدين بأمراء الترك من كراماته، والكرمات من خوارق العادات فلا
يقاس عليها، ولا يبحث عن سبب لها.
كذلك لم يكونوا يفكرون في سنة الله في قوة الاجتماع، ولا في أن منه حمل
علماء الأزهر الدولة العثمانية على تولية محمد علي الكبير على هذه البلاد، فلهذا لم
يضعوا نظامًا لجمع كلمتهم؛ وجمع كلمة الأمة على زعامتهم، ولما جاء السيد جمال
الدين هذه البلاد وشرع في إيقاظ الأمة ، وتعريفها بما لها من الحق في إدارة أمرها
وسياسة حكومتها ، كان كبار علماء الأزهر أبعد الناس عنه وأشدهم تحذيرًا منه ،
وإنما انتفع به بعض الشبان منهم.
الإسلام دين ودولة، وقد أسس المسلمون دولاً عزيزة في قارات العالم القديم
الثلاث - آسية وإفريقية وأوربة - كانت أرقى دول الأرض عدلاً وعلمًا وحضارة ،
ولم يكن لها قانون في سياستها وحروبها ، ولا في إدارتها وقضائها إلا الشريعة
العادلة الغراء ، ومن أحكامها أن يكون أمراؤها وقضائها علماء فقهاء عدولاً، وبذلك
كان لها من السؤدد والملك ما كان، ثم دبَّ إليها الفسادُ ساعتها بتوسيد الأمور فيها
إلى غير أهلها وفاقًا للحديث (إذا وُسِّدَ الأمرُ إلى غير أهله فانتظر الساعة) رواه
البخاري من حديث أبي هريرة ، فغلب الجهل فيها على العلم، وانقلب الوضع ،
وانعكست القضية ، فصار من القواعد الأساسية أن علماء الشرع أبعد الناس عن
السياسة كما قال الحكيم العربي ابن خلدون في الزمن الذي لم يكن فيه للسياسة
مستمد علمي إلا الشرع، وما سبب ذلك إلا تقصير علماء الشرع ، فيما يجب عليهم
مما بيناه من قبل ولا محل لإعادته هنا.
صار أمر المسلمين بتقصير العلماء إلى الجاهلين بالشرع قبل أن يوجد في
بلادهم علم غير الشرع ، فكان الملك فيهم ينال بعصبية القوة لا باختيار أهل الحل
والعقد الذين يمثلون سلطة الأمة، حتى إن الإمامة العظمى وهي النيابة عن الرسول
صلى الله عليه وسلم في إقامة الدين وسياسة الدنيا جعلوها لقوة العصبية التي تبرأ
صلى الله عليه وسلم منها ومن أهلها، فلا عجب إذا اجتهد ملوك القوة وأمراء
العصبية ، باستمالة محبي الدنيا من العلماء؛ لتقوية نفوذهم عند العامة ، وإضعاف
نفوذ كل عالم لا يميله المال ولا يطويه الجاه، وصار من علامة العالم العامل
المخلص البعد عن الحكام كما قيل:
قل للأمير مقالة
…
لا تركنن إلى فقيه
إن الفقيه إذا أتى
…
أبوابكم لا خير فيه
كانت حكوماتنا الإسلامية هكذا تتدلى بل تتردى في مهاوي الجهل والفساد،
بعد أن أخذ الإفرنج عنها وعنا مبادئ العلم وأصول العدل والإصلاح، وحسبك ما
رأوه من السلطانين العادلين المجاهدين نور الدين وصلاح الدين في الحروب
الصليبية ، ثم ما زالوا في تَرَقٍّ وما زلنا في تَدَلٍّ إلى من أُدِيلَ لهم منا ، وفتحوا من
بلادنا بالعلم والعقل أضعاف ما عجزوا عن فتحه بالسيف ، فإنهم فتحوا بالعلم أدمغة
الألوف الكثيرة منا وقلوبهم ، وتصرفوا في مراكز الإدراك منها ومشاعر الأنفس
منهم ، فأودعوا فيها من المعلومات والوجدانات ما يُعَظِّمُ شَأْنَها ويُعْلِي قدرهم في
تاريخهم وآدابهم وعاداتهم وتشريعهم ، من حيث يحط من شأن أمتنا وملتنا في
تاريخها وآدابها وتشريعها ، فوطن هؤلاء أنفسهم على تقليدهم وقبول سيادتهم
ورياستهم ، وكانوا منافذ بل أبوابًا واسعة لدخول الأجانب بلادهم والسيطرة على
حكوماتهم؛ من حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون ، فأفسدوا عليهم أمرهم ،
ونزعوا منهم استقلالهم ، وخربوا عليهم بيوتهم بأيديهم ، وليس من موضوع هذا
المقال تفصيل ذلك ، وبيان الشواهد عليه في مشرق العالم الإسلامي ومغربه ،
ويغنينا عنه ما نشرناه أخيرًا ، وما سننشره من مقالات السيد جمال الدين فيه ، وإنما
نضرب مثلاً لذلك كلمة واحدة في مسألة السودان المصري التي هي أهم ما تتنازع
فيه مصر مع الإنكليز اليوم وهي أن إسماعيل باشا هو الذي مكّن الإنكليز من
الاستيلاء على السودان لا بطرس باشا غالي الذي أمضى لهم عقد الشركة مع مصر
فيه ، وأن الذي فتحه للإنكليز غوردون (باشا) لا اللورد كتشنر (باشا) ، وأما
الذي مكن الإنكليز من احتلال مصر فمعروف لقرب عهده.
أدخلنا الإفرنج بلادنا؛ ليصلحوها لنا فأفسدوا علينا أمرها بما أصلحوا لأنفسهم
من وسائل استغلالها وسلب استقلالها، فكان مثلهم ومثلنا كما قال الشاعر في القيان
تبارين يصلحن أعوادهن
…
فأصلحهن وأفسدنني
أضاعوا علينا تشريعنا، وشوهوا لنا تاريخنا، وأفسدوا منا آدابنا، وسلبوا منا
ثروتنا، حتى انتزعوا منا سلطتنا، وكان من أكبر همهم في ذلك إبعاد رجال
الشريعة الإسلامية عن مناصب الحكومة، وحرمانهم من تولي شؤون الأمة،
وإيئاسهم من منصات الزعامة ، وربوا لنا من نابتتنا من جعلوهم آلات لجميع ما
يريدونه منا، ومن قواعدهم فيه أن الدين والسياسة ضدان لا يجتمعان، ومن فروع
هذا الأصل أنه يجوز لكل فريق من الأمة أن يعنى بسياسة بلاده ويسعى لاستقلالها
ويبحث في شؤون حكومتها؛ إلا رجال الدين، معلمين كانوا أو متعلمين، فلا يسمح
لهم بقول في ذلك ولا فعل، ولا بتأليف جمعية أو حزب، وجرى العمل على هذا
وانقاد له الأزهريون خانعين صاغرين ، حتى إذا ما هب شبانهم من رقادهم وأبوا
ليشاركوا الأمة في نهضتها بعد الحرب تأسيًّا بطلاب المدارس المدنية ، وعقدوا لذلك
المحافل في الأزهر كَبُرَ الخَطْبُ على الإنكليز وعلى رجال الحكومة المصرية معًا ،
فحجروا على الأزهر وأهله، واشترعوا لعقابهم أحكامًا خاصة بهم، وأقفلوا أبواب
الأزهر في وجوه مريدي الاجتماع فيه؛ للبحث في شؤون الأمة والخطابة في
مصالحها ، ووضعوا عليه الشُّرَط ، ووافقهم الشيوخ الرسميون على ذلك ، سكت
عنه غير المقيدين بالرسميات منهم ، وربما هونه على بعض زهادهم في الدنيا ولو
عن عجز وضعف بعض الآثار ، مثل حديث ابن عمر عند البيهقي (المؤمنون
هيّنون ليّنون كالجمل الأنف إن قيد انقاد ، وإن أنيخ على صخرة استناخ) فإن
لأمثال هذه الروايات الباطلة تأثيرًا كبيرًا في قتل هذه الأمة، وهذا الحديث على
ضعف إسناده من مراسيل مكحول الدمشقي ، وهو على علمه وزهده مُدَلِّسٌ، وإذا
حُمِلَ على ما أشرنا إليه كان معارض المتن بالقطعيات كعزة المؤمنين.
جرى العمل على هذا المنكر حتى صار هو المعروف ، حتى عند جمهور
الأمة ، ولذلك رأينا كثيرين يستنكرون بحث المنار في شؤون السياسة ، ويقولون:
إنها مجلة دينية فمالها وللسياسة؟ وقد كلم بعض وجهاء الإسكندرية الأستاذ الإمام في
هذا محتجين به على انتقادنا الحكومة الحميدية ، وكلفوه رحمه الله أن ينهانا
عن ذلك ، فقال لهم: ماذا أقول له والإسلام لم يفصل بين الدين والسياسة؟ وآل
أمر رجال الدين بمصر وغيرها من البلاد إلى ترك شؤون الأمة حتى الإرشاد
الديني، وصاروا عَالَمًا آخر أقرب إلى الخيال منه إلى عالم الوجود ، كما قلنا في
بعض مقالات المنار التي كتبناها في أول العهد بمعرفة حال هذه البلاد.
حاول السيد جمال الدين الأفغاني - أكرم الله مثواه - إخراج الأزهريين من
عزلتهم ، وحملهم على العمل؛ لإصلاح حال الأمة والحكومة فلم يلق من جمهورهم
إلا الإعراض والنفور كما قلنا آنفًا، ثم كان من أمر من تلقوا عنه من مجاوري
الأزهر أن ترك أكثرهم الزي الأزهري أو الديني ، وبرعوا كلهم في الأمور العامة
من حكومية وغيرها، وثبت آخرون أعظمهم وأشهرهم الأستاذ الإمام الشيخ محمد
عبده والأستاذ القاضي الشيخ عبد الكريم سلمان، وممن عرفنا من الخاملين منهم
الشيخ داغر من القضاة الشرعيين ، وكان شيخنا يبره ويحبه رحمهم الله أجمعين.
ثم تصدى لإصلاح الأزهر وإخراجه من عزلته إلى خدمة الأمة شيخنا الأستاذ
الإمام ، وكان أعلم الناس بحال أهله وبما يحتاجون إليه ، وبما ينبغي لهم وبما يُؤَثِّرُ
فيهم، وأحرص الناس على إعلاء شأنهم وحفظ كرامتهم ، وتوفير رزقهم واتقاء
عبث الأمراء والحكام بهم مع تسخير هؤلاء لإصلاح شأنهم ، فأما محمد توفيق باشا
فكان بعد عودة الشيخ من منفاه والبلاد رازحة تحت نير الاحتلال لا يزال على ما
كان من الحذر منه ، منذ تنكر له ولأستاذه السيد جمال بعد أن كان من حزبهما، فلم
يسمح بأن يتولى شيئًا من التعليم في مدرسة دار العلوم لئلا يحدث في البلاد انقلابًا
جديدًا كما قال- وما كان يكون ذلك الانقلاب إلا خيرًا له ولبلاده- فلما قضى نحبه
وتولى الأمر ولي عهده عباس باشا وجاء من أوروبة يتدفق حماسة ويلتهب غيرة،
حامت حوله الآمال، وطاف بكعبة إمارته الرجال، فأرشده الأستاذ الإمام إلى أرجى
الأعمال، التي لا ينازعه فيها الاحتلال. قال له: إن لدى أفندينا ثلاث مصالح لا
يمكن أن يمد إليها الإنكليز أيديهم الآن [1] وهي الأوقاف والأزهر والمحاكم الشرعية ،
فإذا هو عني بإصلاحها فإنه يصلح بها البلاد كلها، فأمر الأمير يومئذ بتأليف
لجنة لوضع نظام أو نظم لما ينبغي لهذه المصالح ، فكانت تجتمع وتعمل سرًّا،
وراب أمرها أصحاب المقطم فصاروا يعرضون بها جهرًا. ثم كان من أمر إصلاح
الأزهر ما شرحه الأستاذ الشيخ عبد الكريم سلمان في كتاب خاص سماه (أعمال
مجلس إدارة الأزهر) ، وطبعناه بعد أن قرأه الأستاذ الإمام في أثناء مرض موته
وأذن بطبعه، وهو كتاب يشبه الرسمي ، ولو صدر بقرار من مجلس إدارة الأزهر
لكان رسميًّا بالمعنى الاصطلاحي) .
وإن من وراء الرسميات في كل عمل من المصالح العامة أمورًا أهم من
الرسميات، ولا يسعنا أن نذكر من ذلك هنا إلا أن أكثر كبار الشيوخ حتى أعضاء
مجلس إدارة الأزهر كانوا كارهين للإصلاح والنظام ، فلم يكن منهم ظهير مخلص
لواضع أصوله والناهض بأعبائه إلا صديقه وتربه الشيخ عبد الكريم سلمان ، وإنما
كانت قوته التي يجاهدهم بها الحق المؤيد بالبرهان وتعضيد الأمير ، فلما تنكر
الأمير له قويت معارضة الشيوخ حتى إن شيخ الجامع الأزهر كان يهمل تنفيذ
قرارات مجلس الإدارة الرسمية، وكان ذلك على أشده في مشيخة الشيخ سليم
البشري.
وأما الشيخ حسونة النواوي فكان مواتيًا معتدلاً ، ولكن غضب الأمير الشديد
كان بعد مشيخته، ثم كان السيد علي الببلاوي مواليًا له فبلغ سخط الأمير منتهى
حده في عهد مشيخته، وكان له حظ كبير منه. فقد ألجئ إلى الاستقالة هو
والأستاذ الإمام وغيرهما من أعضاء إدارة الأزهر في وقت واحد ، عقب اتفاق
الأمير مع الحكومة ، على أن كل ما يهمهم من أمر الأزهر شيئان أحدهما: أن
يكون أهله في أمان ، والثاني: تخريج القضاة الشرعيين؛ وإذ كان غير مستعد
لتخريج القضاة عزمت الحكومة على إنشاء مدرسة خاصة للقضاء الشرعي، وقد
صرّح الأمير بذلك في حفلة إلباس الخلعة للشيخ الشربيني الذي ولي المشيخة بعد
السيد الببلاوي، وأسند المقطم يومئذ هذا الرأي إلى (أولياء الأمور) ، ومعنى ذلك
اتفاق الخديوي والحكومة والإنكليز على حرمان الأزهر من كل شيء ....
وقد ذكرت في المنار، أهم ما طرأ على الأزهر من هذه الأطوار، ومنها
أمثلة عديدة من معارضة أعضاء مجلس الإدارة ومجادلاتهم للأستاذ الإمام، ولو
واتوه وعرفوا قيمة الإصلاح الذي كان يريده منهم ولهم وبهم لكان للأزهر الآن شأن
عظيم في مصر بل في العالم كله.
على أن قصارى ما كان من تأثير المعارضة أنها استطاعت تأخير الإصلاح
ولم تستطع أن تقتله قتلاً، ولا أن تجتث نبتته فرعًا وأصلاً، إذ لم تستطع أن تمنع
أفكار الإمام المصلح التي كان يلقيها في دروسه ، والتي يعلل بها أعماله أن تنفذ إلى
العقول، وأن تأخذ مكانها من القلوب، فها هي ذي قد فعلت فعلها، وكان من
تأثيرها أن النابتة الجديدة من المدرسين والطلاب هم الذين صاروا يطلبون إصلاح
التعليم ، واختيار الكتب النافعة ، ودرس ما يسمى العلوم الجديدة، وجعل التعليم
الأزهري وسيلة للعمل ومؤهلاً لخدمة الأمة في مدارس الحكومة ومصالحها كتعليم
سائر المدارس الرسمية، وقد كانوا محرومين من كل هذا ، فلا يخطر في بال أحد
من شيوخهم ولا من شبابهم، وإنما هي أفكار الأستاذ الإمام التي جعلت لهم قيمة عند
أنفسهم، من حيث لا يدري أكثرهم، ودروسه في التفسير والتوحيد والبلاغة
والمنطق ، وإحداثه لتعليم الإنشاء في الأزهر هي التي أوجدت فيهم هذه الألسنة
الخاطبة، والأقلام الكاتبة، والحجج التي يجادلون بها الرؤساء والوزراء، بعد أن
كان أحدهم يُشتم ويُلعن وربما يُضرب بأخس ما يَضْرِبُ به جبار خادمه ، فلا يرتفع
له رأس، ولا يدفع عن نفسه بقول ولا فعل، ولولا الكتابة والخطابة، لما
استطاعوا أن يبينوا ما لهم من حق ولا ما يشعرون به من كرامة.
لعل أكثر من لم يدرك عهد الأستاذ الإمام منهم لم يعلموا أنه - أحسن الله ثوابه-
قد احتال لإدخال تعليم الإنشاء في الأزهر احتيالاً ، ولقي فيه معارضة شديدة من
كبار الشيوخ الذين يقولون: إن الإنشاء ليس بعلم، وأنه لا يصح أن يجعل في مواد
الدرس والتعليم، فلم ير وسيلة إلى إرضاء مجلس إدارة الأزهر بتقريره إلا وضع
مبلغ من المال لأجله ، فاقترح عند وضع ميزانية الأوقاف العامة أن يوضع فيها
مائة جنيه باسم ترقية اللغة العربية في الأزهر ، وإنما اختار هذا الاسم استثقالاً
للاعتراف بأن الأزهر لا يتعلم فيه الإنشاء ، ولأنه كان يريد نوط هذا الدرس بمعلم
من غير الأزهريين كما أخبرني بذلك في وقته، فماذا كان من رأي أعضاء مجلس
إدارة الأزهر في هذا المبلغ عند وضع ميزانية الأزهر؟
اقترح بعض كبار الأعضاء منهم أن يوزع المبلغ عليهم ، لأنهم يرقون اللغة
العربية بقراءة بعضهم لكتب النحو الكبرى ، وبعضهم لمختصر السعد في البلاغة،
فأخبرهم الأستاذ بأن الغرض من وضع هذا المبلغ إحداث درس للإنشاء، قال
بعضهم: ولكن العبارة أعم فهي تشمل من يقرأ كتاب ابن عقيل فضلاً عن الصبان
والسعد قال أستاذُنا: أنا الذي وضعت هذه العبارة ، ومرادي بالعام فيها هذا
الخاص من أفراده وإلا لم يكن لوضعها فائدة! !
وأما معارضة كبار الشيوخ له فيما يسمونه العلوم الجديدة؛ كتقويم البلدان
والحساب والهندسة بالطريقة العملية فقد كانت من فضائح التاريخ، وكان لمنشئ
هذه المجلة جولات هذه المعمعة ، فكتب في الجرائد اليومية مقالات في الرد على ما
كتبه بعضهم في الإنكار على درس هذه العلوم في الأزهر ، ولكن بإمضاء مستعار
كأزهري؛ لئلا ينسب إلى الأستاذ الإمام نفسه ، أو إلى إيعازه لأن صلتي به ومكاني
من بطانته قد عرف منذ السنة الأولى من هجرتي إلى مصر، وهذا الكفاح فاجأني
فيها. وقد كتب الإمام نفسه في أثناء اشتداد المعارضة مقالة ، ردَّ فيها على كلام
نُشِرَ في المؤيد عزى فيه إنكار تدريس تلك العلوم إلى الشيخ محمد الشربيني لكن
بالوصف الذي يعينه لا باسمه العلم ، ربما ننشرها في جزء آخر. ولولا الإنشاء لما
كان للأزهريين هذا الصوت الذي صخ مسامع الوزراء، وملا جواء البلاد، ولولا
هذه العلوم التي كانوا ينكرونها لما كان لهم أن يطلبوا أن يكونوا معلمين في مدارس
الحكومة وغيرها كمتخرجي دار العلوم ، بل هم يطلبون أن تكون هذه المدرسة تابعة
للأزهر.
على أن الإمام المصلح - أحسن الله جزاءه - كان يريد لهم وبهم ما هو أعظم
وأعلى مما يطلبونه اليوم لأنفسهم، كان يريد أن يكونوا أرقى طبقة في الأمة
الإسلامية، وأهلاً لكل ما تتوقف عليه حياتها الدينية والمدنية، وقد كان من أغرب
مساوئ عصر الضعف الذي منيت به الشعوب الإسلامية أن ترك رجال الدين والعلم
الشرعي فيه حبلها على غاربها، ورضوا بالذل والهوان لأنفسهم ولها، فلم يعنوا
بإصلاح أمرها من جانب الحكومة ولا من جانب الأمة، اتبعوا سنن من قبلهم في
الشر ولم يتبعوه في الخير، ولأجل هذا كنا ننحي عليهم باللائمة منذ أنشأنا المنار،
حبًّا فيهم وغيرة عليهم وإرشادًا لهم إلى ما يجب عليهم لسعادتهم وسعادة أمتهم بهم
وقد يستفيد الظنة المتنصح.
ومما يدخل في موضوعنا من أمر اتباعهم سنن من قبلهم أن رجال الدين من
أولئك الأقوام كانوا في القرون الوسطى لأمتهم ، وهي التي يسمونها العصور
المظلمة ، يحرمون كل ما يجهلون من العلوم والأعمال ، ويضطهدون أهلها بعصبية
الدين التي كان سببها خضوع العامة لهم، واضطرار الملوك والأمراء إلى مداراتهم
ومواتاتهم، لمكانتهم عند العامة، وقد اتبعهم رجال الدين عندنا في هذا ، ولكنهم لم
يبلغوا شأوهم فيه؛ لأن الإسلام لم يعطهم من الرياسة والسلطة ما أعطت أولئك
ديانتهم.
ولما رأى أولئك أن رجال العلم والفكر قد انتصروا عليهم وغلبوهم على
الملوك والأمراء، وطفقوا ينتزعون من الحكومات ما كان لهم فيها من النفوذ
والسلطان، بل تصدوا لمحاربة الدين نفسه بدعوى مخالفته للعلم والعقل وللفطرة
البشرية وطبيعة الوجود وسننه - لما رأى رجال الدين هذا - قبلوا على درس هذه
العلوم والفنون كلها ، فحذقوها في أديارهم ومدارسهم الخاصة بهم ، ودعموا بقوتها
بناء الكنيسة، واتخذوا منها سلاحًا للدفاع عن الدين، ثم تولوا هم تعليمها لأحداث
الأمة مع تعليم الدين وتربية النشء على آدابه وفضائله وعصبيته، والتوفيق بينها
وبين تقاليده وعقائده، بل اتخذوها ذريعة لبث دعوة دينهم في الملل الأخرى بقبول
أحداثها في مدارسهم المشتملة على ما ذكر؛ وأما رجال الدين الإسلامي فلم يتبعوا
سننهم في هذا الأمر النافع كما اتبعوه في ذلك الأمر الضار.
دخلوا في جحر الضب المشار إليه في حديث (لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا
بشبر وذراعًا بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه) قالوا يا رسول الله:
اليهود والنصارى؟ قال: (فمن؟) رواه الشيخان من حديث أبي سعيد الخدري ،
وفي لفظ لو دخلوا في جحر ضب الخ ، ولكنهم لما يخرجوا منه إلا قليلاً منهم ، بَيْدَ
أن الحركة الجديدة للنابتة الجديدة في الأزهر تبشرنا بقرب الخروج العام، الذي كان
يرجوه الأستاذ الإمام، وسنبين ذلك في مقال آخر إن شاء الله تعالى.
ونختم هذه المقالة بما قلناه في هذا الموضوع مما زدناه في (المقصورة
الرشيدية) بعد وفاة الأستاذ الإمام من الكلام في نهوضه بأمر الإصلاح مع السيد
جمال الدين وبعده وهو:
ما تم للإمام ما أراد من
…
خُطتي الإصلاح هدمًا وبنا
ولم يفته كل ما شاء فقد
…
خرج من يتمُّ كل ما بنا
إذا استجاب الله ما به دعا
…
وزال ما حاذره بما رجا [2]
إذ علم الأزهر كيف يفقه الد
…
ين ويطلب العلوم واللُّغى [3]
من غير بحث في مقال من خلوا
…
يكثر فيه الاحتمال والمِرا
علّمنا التفسير كيما نهتدي
…
به على علم صحيح يُقتفى
وعلّم (أسرار البلاغة) التي
…
(دلائل الإعجاز) منها تُبتغى
علّمنا التوحيد كي نفهمه
…
بعقلنا لا بعقول من مضى
علّمنا (بصائر) المنطق كي
…
نقيم ميزان العلوم للحجا
وهل وراء الدين واللسان والعقل
…
إذا أصلحتهن منتهى
فإن يك الأزهر لم يصلح بها
…
فقد نأى عن سبل من كان مأى [4]
ونبتت من غرسه نابتة
…
ستلائم الصدع وترأب الثأى [5]
وترفع الحجر عن المعهد أو
…
يعود جحر الضب رحبًا كالفضا
إذًا ينال وهو قد أشفى الشفا
…
من مرض بات به على شَفا
ثم يولي المصلحون شطره
…
ينحونه من كل فَجِّ ورجا
ما وردوا حياضه وصدروا
…
ألا يفيضون علومًا وهدى
فأحيوا الإسلام في أنفس من
…
واصلهم بهجره صرف الردى
فعاد آهلاً إلى موطنه
…
من غربة طلبها عهد النوى
واستتبعت غربته المجد كما
…
كان فعاد الأمر مثل ما بدا [6]
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
هذا لفظه الذي سمعناه منه قبل تدخل الإنكليز في شؤون المحاكم والأوقاف ، بل قد صرح له بأنه يخشى من ذلك في المستقبل ، ولا سيما إذا بقيت هذه المصالح محتلة.
(2)
فيه إشارة إلى الأبيات التي نظمها قُبَيْلَ وفاته التي قال فيها:
ولكنه دين أردت صلاحه
…
أحاذر أن تقضي عليه العمائم.
(3)
اللغى بالضم جمع لغة.
(4)
مأى - في الأمر يمأى: (وزن نأى ينأى) بالغ فيه وتعمق متكلفًا توسيعه ، وهو من مأى الجلد إذا مده وشده ليتسع، والمراد أن الأزهر إن لم يكن قد صلح بالفعل فقد بعد عن طريق أولئك الشيوخ المتنطعين المتعمقين في ألفاظ الكتب وأساليبها الشاغلة عن جوهر العلوم.
(5)
يقال: لأَمَ الصَّدْعَ والجرح إذا شده وجمعه وجبر كسره ، ولأَمَ فلانًا إذا أصلحه ، ويقال: ورأب الثأى إذا أصلح الفساد، وهو من ثئي الخرق ثأيًا إذا انخرم ، ويقال: عظم الثأى بينهم إذا وقعت بينهم جراحات وقتل.
(6)
إشارة إلى حديث: (بدأ الإسلام غريبًا ويعود غريبًا كما بدأ) رواه مسلم والترمذي.
والمعنى أن دعوة الإسلام غريبًا كما بدأ لا يقتضي أن تدوم هذه الغربة ، بل تشبيه الإعادة بالبدء يدل على أن الغربة الثانية تؤول إلى ظهور وقوة وتستتبع عزًّا ومجدًا إن شاء الله تعالى.