المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الكاتب: محمد رشيد رضا - مجلة المنار - جـ ٢٥

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (25)

- ‌جمادى الآخرة - 1342ه

- ‌فاتحة المجلد الخامس والعشرين

- ‌تجنس المسلم بجنسية تنافي الإسلام

- ‌تحديد سن الزواج بتشريع قانوني

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌ملك الحجاز في أطراف سورية

- ‌رجب - 1342ه

- ‌خطاب عام للمسلمين(2)

- ‌كلمة في التعريف بمجموعة الحديث النجدية

- ‌تزويج المسلم بغير المسلمة [

- ‌مسألة تحديد الزواجبقانون ومسلك الحكومتين العثمانية والمصرية فيه

- ‌العبر التاريخية في أطوار المسألة المصرية [*](3)

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌الدعوة إلى انتقاد المنار

- ‌شعبان - 1342ه

- ‌التبشير والمبشرون في نظر المسلمين

- ‌تسكين كلمات الآذان وجواب الإقامةوبدء السلام ورده

- ‌سكة الحديد الحجازية

- ‌الوثائق الرسمية في المسألة العربية

- ‌أثارة من تاريخ الزلازل وعلم الأرض

- ‌تحريم المسلمات على غير المسلمين [*]

- ‌زيارة ملك الحجاز لشرقي الأردن

- ‌رمضان - 1342ه

- ‌الخلافة والخليفةالإمام الحق في هذه الأيام

- ‌الانقلاب الديني السياسيفي الجمهورية التركية

- ‌رسالة ملك الحجاز إلى الأمة البريطانية

- ‌خطاب عام للمسلمين(3)

- ‌تحريم المسلمة على الكتابي

- ‌موقف العالم الإسلامي مع الجمهورية التركية

- ‌ذو القعدة - 1342ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الخلافة والمؤتمر الإسلامي

- ‌عالم العراق ورحلة أهل الآفاقالسيد محمود شكري الألوسي

- ‌انتحال السيد حسين أمير مكة للخلافة

- ‌صفر - 1343ه

- ‌الوصية المزورة باسم المدينة المنورة

- ‌المسألة العربية في طور جديد

- ‌مبايعة الحجاز لحسين بالخلافة

- ‌منشور الخلافة

- ‌منشور العودةالذي أذاعه حسين المكي قبل عودته من شرق الأردن

- ‌التبرع بنُسخٍ من المنارومن شهد له من الكبار

- ‌الشيخ سالم أبو حاجب

- ‌ربيع الأول - 1343ه

- ‌مؤتمر الخلافة [*]

- ‌الطور الجديد للمسألة العربية

- ‌بطل العرب والإسلام وأندلسهما الثانية

- ‌ربيع الآخر - 1343ه

- ‌المقالات الجمالية(2)

- ‌المنار بين الروافض والنواصب

- ‌رجب - 1343ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الإغراء بين النصارى والمسلمين

- ‌من الأمير إلى الملك [*]

- ‌المطبوعات الحديثة

- ‌شعبان - 1343ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌المُفطرون في رمضان

- ‌ماضي الأزهر وحاضره ومستقبله(2)

- ‌ترجمة القرآنوتحريف ترجمة له والتشكيك فيه

- ‌المطبوعات الجديدة

- ‌خاتمة المجلد الخامس والعشرين

الفصل: الكاتب: محمد رشيد رضا

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

الدعاء للميت في الصلاة

واستغفار المؤمنين لمن سبقهم بالإيمان

واستغفار الرسول صلى الله عليه وسلم للتائبين ولنفسه ولغيره من المؤمنين

(س 17 - 20) مِن صاحب الإمضاء في ولتفريدن (جاوه)

حضرة الفاضل السيد محمد رشيد رضا حفظه الله

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أقدم إليكم السؤال الآتي أرجو منكم الجواب ولكم الأجر والثواب.

ما قولكم في الدعاء على الميت (؟) في التكبيرة الثالثة والرابعة من الصلاة

على الميت؟ وفي قوله تعالى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} (الحشر: 10) ؟ وفي قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَاّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ

وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ

تَوَّاباً رَّحِيماً} (النساء: 64) ؟

سؤالي مخصوص في استغفار الرسول لهم ، وفي قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا

إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (محمد: 19) أمر الله عز

وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بالاستغفار لنفسه ولأمته ، مع أنه مغفور له: أما

ذلك ليستنوا به ويقتدوا به؟

أفتونا مأجورين - والسلام

انشروا الجواب على صفحات مناركم الغراء

...

...

...

...

... كاظم وشركاه

الجواب

الدعاء للميت في تكبيرات الصلاة عليه

(ج) أما الدعاء للميت - لا عليه - في التكبيرة الثالثة والرابعة فهو مشروع،

فقد روى الشافعي في مسنده عن أبي أمامة بن سهل أنه أخبره رجل من أصحاب

النبي صلى الله عليه وسلم ، أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام ، ثم

يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى سرًّا في نفسه ، ثم يصلي على النبي صلى

الله عليه وسلم ، ويخلص الدعاء للجنازة في التكبيرات ولا يقرأ في شيء منهن ، ثم

يسلم سرًّا في نفسه. وأخرج نحوه الحاكم من وجه آخر ، وأخرجه أيضًا النسائي

وعبد الرازق. قال الحافظ في فتح الباري: وإسناده صحيح ، وليس فيه قوله: بعد

التكبيرة الأولى. ولا قوله: ثم يسلم سرًّا في نفسه.

***

الاستغفار للسابقين الأولين

وأما قوله تعالى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا} (آل عمران: 147) إلخ. فلم يذكر

السائل وجه السؤال عنه ، وهذه الآية قد جاءت مع آيتين في وصف المهاجرين

والأنصار - رضي الله تعالى عنهم - ويعلم المراد منها بإيرادهما فنذكر الثلاث من

سورة الحشر وهي: {لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ

يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ *

وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي

صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ

شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا

وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ

رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (الحشر: 8-10) .

***

جعل الله تعالى المؤمنين ثلاث درجات: (الأولى) المهاجرون وهم السابقون

إلى الإيمان والنهوض بنصر الرسول صلى الله عليه وسلم على نشر دعوته ومعاداة

أهليهم ، وأقوامهم في هذه السبيل سبيل الله عز وجل على ضعفهم وقوة قومهم.

(الثانية) الأنصار الذين أظهر الله تعالى هذا الدين وأيده بهم.

(الثالثة) الذين جاءوا من بعدهم ، وهم سائر المؤمنين. وصفهم الله تعالى بهذا

القول الدال على علمهم بفضل السابقين الأولين عليهم ، وقدرهم قدرهم وحبهم

والدعاء لهم، وهو يتناول سائر مؤمني ذلك العصر من الصحابة وغيرهم، كمن آمن

في عصره صلى الله عليه وسلم ، ولم يره ويشتمل من بعدهم إن شاء الله تعالى

بمشاركته لهم في وصفهم المذكور آنفًا ، وقيل: هو خاص بهؤلاء.

روى الحاكم وصححه وابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله

تعالى عنه - أنه قال: الناس على ثلاث منازل قد مضت منزلتان ، وبقيت منزلة ،

فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت ، ثم قرأ الآيات

الثلاث.

وروى ابن مردويه عن ابن عمر أنه سمع رجلاً يتناول بعض المهاجرين

فقرأ عليه {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} (الحشر: 8) - الآية - ثم قال: هؤلاء

المهاجرون فمنهم أنت؟ قال: لا. ثم قرأ عليه {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ} (الحشر: 9) - الآية - ثم قال: هؤلاء الأنصار: أفأنت منهم؟ قال: لا. ثم قرأ عليه {وَالَّذِينَ جَاءُوا} (الحشر: 10) - الآية - وقال: من هؤلاء أنت؟

قال أرجو، قال: لا. ليس من هؤلاء من يسب هؤلاء.

وفي رواية أخرى عنه أنه بلغه أن رجلاً يسب عثمان فدعاه فأقعده بين يديه ،

فقرأ عليه هذه الآيات كما تقدم ، فقال الرجل بعد الأخيرة: أرجو أن أكون منهم. فقال

ابن عمر: لا والله ما يكون منهم من يتناولهم ويكون في قلبه الغل عليهم.

ووصفه تعالى لأهل الدرجة الثالثة من المؤمنين بذلك شهادة لمن كانوا في

عهد نزول الآيات بذلك ، وإرشاد لمن بعدهم أو أمر بأن يكونوا كذلك؛ ليدخلوا

في هذه الحظيرة الإيمانية الشريفة. وقد قال الضحاك: أمروا بالاستغفار لهم ،

وقد علم ما أحدثوا - يعني ما أخطأ به بعضهم في عهد الفتنة اهـ. وذلك أن هؤلاء

أحوج إلى الاستغفار لهم، والمؤمن الصادق في الإيمان يحب أن يغفر الله تعالى

لإخوانه المؤمنين إذا أذنبوا ، كما يحب أن يغفر له ولأولاده ولإخوته إذا أذنبوا ، ولا

ينطوي على الغل والحقد عليهم ، ولا يقطع أخوتهم ، وقد قال صلى الله عليه وسلم:

(لا يؤمن أحكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) رواه أحمد والشيخان وأصحاب

السنن ما عدا أبا داود عن أنس رضي الله عنه.

وروي عن بعض السلف ومنهم الإمام مالك أن هذه الآية في التابعين ومن

بعدهم. واستدل بها مالك على أن من سب الصحابة فلا حق له في الفيء ، فإن

الآية نزلت في قسمة الفيء. وجملة القول: إن من شأن المؤمنين التحاب والتواد

والرأفة والرحمة {أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح: 29) ومنه نصيحة

من حضر والاستغفار لمن غبر، ومن رأيته يحمل عليهم الغل ويذكرهم بالسوء، فهو

منافق.

***

استغفار الرسول لمن تاب من المنافقين

وأما استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم لمن ذكر في الآية ، فلم يبين

السائل مراده منه أيضًا، وهو في نفسه ليس محل إشكال فالاستغفار دعاء ، وهو

مطلوب شرعًا ، ودعاء الرسول فالأمثل من المؤمنين الصالحين أرجى للقبول. ولعل

وجهه المطلوب: بيان حكمة ضم استغفاره صلى الله عليه وسلم إلى هؤلاء التائبين

المشار إليهم في الآية ، وكونه لم يكتف في توبتهم باستغفارهم كسائر المذنبين ، وقد

سبق لنا بيان هذه النكتة والحكمة في تفسير الآية من سورة النساء ، ونمهد له هنا

بأن نقول:

(أولاً) إن الذين نزلت فيهم هذه الآية هم الذين قال تعالى فيهم قبلها:

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن

يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ} (النساء: 60) إلخ.

(وثانيًا) إن هؤلاء كانوا من المنافقين ، وكانت رغبتهم عن التحاكم إلى

رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيثارهم التحاكم إلى الطاغوت إظهارًا للكفر

والعصيان ، فكان لا بد في قبول توبتهم من اعتداد الرسول صلى الله عليه وسلم بها

وحكمه بصحتها واستغفاره لهم ، بأن يقبلها الله تعالى منهم؛ لتظل أحكام الإسلام

جارية عليهم ، وليست كالمعاصي الشخصية التي يكره الشرع إظهارها ويكتفي من

صاحبها بتوبته في خاصة نفسه. وقد كان بعض المنافقين يطلبون استغفار الرسول

صلى الله عليه وسلم في أمثال هذه الذنوب المتعلقة بالمصالح العامة ومنه قوله تعالى:

{سَيَقُولُ لَكَ المُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ

بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} (الفتح: 11) وربما دعي بعضهم إلى ذلك إرشادًا

له واختبارًا لإيمانه فأبى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ

وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} (المنافقون: 5) .

بعد هذا التمهيد ننقل ما كتبناه في تفسير الآية (من ص 234ج 5 تفسير)

وهو:

وإنما قرن استغفارهم الذي هو عنوان توبتهم باستغفار الرسول صلى الله عليه

وسلم؛ لأن ذنبهم هذا لم يكن ظلمًا لأنفسهم فقط لم يتعد منه شيء إلى الرسول فيكفي

فيه توبتهم ، بل تعدى إلى إيذاء الرسول ، من حيث إنه رسول، له وحده الحق في

الحكم بين المؤمنين به، فكان لا بد في توبتهم وندمهم على ما صدر منهم أن يظهروا

ذلك للرسول؛ ليصفح عنهم فيما اعتدوا به على حقه، ويدعوَ الله تعالى أن يغفر

لهم إعراضهم عن حكمه، ومن هذا البيان تعرف نكتة وضع الاسم الظاهر موضع

الضمير؛ إذ قال: {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} (النساء: 64) ولم يقل: (واستغفرت

لهم) فإن التوبة عن المعاصي المتعلقة بحقوق الناس لا تكون مقبولة ولا صحيحة

إلا بعد استرضاء صاحب الحق. وجعل بعض المفسرين نكتة وضع الظاهر

موضع الضمير إجلال منصب الرسالة ، والإيذان بقبول استغفار صاحب هذا

المنصب الشريف ، وعدم رد شفاعته. والظاهر ما قلناه، والمنصب هو هو في شرفه

وعلوه، ولكن الله لا يغفر للمنافقين إذا لم يتوبوا ، وإن استغفر لهم الرسول؛ لأن الله

تعالى قال له فيهم: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن

يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} (التوبة: 80) والآية ناطقة بأن التوبة الصحيحة تكون مقبولة حتمًا إذا كملت شرائطها، وظاهر الآية أن منها أن تكون عقب الذنب كما يدل

الشرط والعطف بالفاء ، وهو بمعنى (ثم يتوبون من قريب) وتقدم تفسيره.

وذكر الأستاذ الإمام أنه تعالى سمى ترك طاعة الرسول ظلمًا للأنفس؛ أي:

إفسادًا لمصلحتها؛ لأن الرسول هاد إلى مصلحة الناس في دنياهم وآخرتهم، وهذا

الظلم يشمل الاعتداء والبغي والتحاكم إلى الطاغوت وغير ذلك. والاستغفار هو

الإقبال على الله وعزم التائب على اجتناب الذنب وعدم العود إليه مع الصدق

والإخلاص لله في ذلك ، وأما الاستغفار باللسان عقب الذنب من دون هذا التوجه القلبي

فليس استغفارًا حقيقيًّا.

أقول: يعني أن ما اعتاده الناس من تحريك اللسان بلفظ (أستغفر الله) لا

يعد طلبًا للمغفرة؛ لأن الطلب الحقيقي ينشأ عن الشعور بالحاجة إلى المطلوب ، فلا

بد أن يشعر القلب أولاً بألم المعصية وسوء مغبتها، وبالحاجة إلى التزكي من دنسها،

ولا يكون هذا إلا بما ذكر الأستاذ من التوجه القلبي إلى الله بالصدق والإخلاص

والعزم القوي على اجتناب سبب هذا الدنس والمعصية، وكيف يكون متألمًا من

القذر الحسي من ألفه وعرض بدنه له ، إذا طلب غسله باللسان، وهو لا يترك

الالتياث به ولا يدنو من الماء؟ !

وقال في استغفار الرسول: إنكم تعلمون أن مشاركة الناس بعضهم لبعض في

الدعاء مسنونة ، وإن من سنته تعالى أن يتقبل من الجماعة بأسرع مما يتقبل من

الواحد، فدعاء الجماعة أرجى للإجابة وإن كان كل داع موعودًا بالاستجابة.

وحقيقة الدعاء إظهار العبودية والخضوع له تعالى، والإجابة التي وعد بها هي

الإثابة وحسن الجزاء ، فمتى أخلص الداعي؛ أجاب الله دعاءه، سواء كان

بإعطائه ما طلب أو بغير ذلك من الأجر والثواب، وإنما كانت المشاركة في

الدعاء أرجى للقبول؛ لأن الداعين الكثيرين لشخص يؤدون هذه العبادة بسببه؛ أي:

إن ذنبه يكون هو السبب في شعورهم وإحساسهم كلهم بالحاجة إلى الله تعالى

والخضوع له والاتحاد المرضي عنده ، فكأن حاجته حاجتهم كلهم. فإذا كان الرسول

صلى الله عليه وسلم هو الداعي والمستغفر لأولئك التائبين من ظلمهم لأنفسهم مع

استغفارهم فذلك من اشتراك قلبه الشريف مع قلوبهم بالحاجة إلى تطهير الله لهم من

دنس الذنب وطلب النجاة من عقوبته ، وناهيك بقرب الرسول صلى الله عليه وسلم

من ربه، والرجاء في استجابة دعائه.

وأما اشتراط ضم استغفار الرسول إلى استغفارهم فمعناه أن توبتهم لا تتحقق

إلا إذا رضي عنهم رضاءً كاملاً ، بحيث يشعر قلبه الرحيم بالمؤمنين بحاجتهم إلى

المغفرة لصحة توبتهم وإخلاصهم ، فذنبهم ذلك لا يغفر إلا بضم استغفاره صلى

الله عليه وسلم إلى استغفارهم ، وليس كل ذنب كذلك بل يكتفى في سائر الذنوب

بتوبة العبد المذنب حيث كان، والإخلاص لله تعالى اهـ.

***

استغفار الرسول لذنبه

وأما استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم لذنبه فللعلماء فيه أقوال: منها ما

ذكر السائل، وسبب الإشكال الذي أثار ذلك أن الأنبياء معصومون من المعاصي

وهي قاعدة قطعية يجب تأويل ما عارضها، وظنوا أن منها أمر الله لخاتم رسله

صلى الله عليه وسلم بالاستغفار لذنبه ، وليس منها في الحقيقة ، فإن الذنب أعم من

المعصية كما حققناه في مواضع من التفسير وغيره ، فهو عبارة عما تكون له تبعة

أو عاقبة تستوخم أو تضر أو تنافي المصلحة. وقال المحقق الراغب في مفردات

القرآن: والذنب في الأصل الأخذ بِذَنَبِ (بالتحريك) الشيء. يقال: ذنبته - أصبت

ذنبه، ويستعمل في كل فعل تستوخم عقباه اعتبارًا بذنب الشيء ولهذا يسمى الذنب

تبعة اعتبارًا لما يحصل من عاقبته. اهـ

فالذنب ، قد يكون قولاً وقد يكون عملاً بدنيًّا أو نفسيًّا ، وقد يكون أمرًا سلبيًّا

كترك ما ينبغي، والتقصير فيما يضر التقصير فيه في المعاش أو المعاد، وهو

أعم من المعصية فإنها خاصة بمخالفة ما أمر الله تعالى به أو نهى عنه، وترى جميع

الناطقين بالعربية يستعملون الذنب في هذا المعنى العام ، فيقول أحدهم لمن أساء إليه

أو قصر في شيء من حقوقه العرفية كحقوق القرابة والصداقة: إنني مذنب أو

معترف بذنبي فلا تؤاخذني. والأنبياء عليهم السلام معصومون من عصيان الله

تعالى فيما شرعه لهم من أمر ونهي، وليسوا معصومين من كل عمل ، أو ترك قد

تكون له عاقبة غير حسنة ، إذا لم يعلموا ذلك، بل هذا من الاجتهاد الذي يجوز عليهم

فيه الخطأ بمقتضى الطبيعة البشرية ، وإنما قال العلماء: إن الله تعالى يبين لهم هذا

النوع من الخطأ إذا وقع ولا يقرهم عليه.

ويؤيد هذا ما ورد في الكتاب العزيز من معاتبة الله تعالى خاتم رسله على

أمثال هذه الذنوب وأمره بالاستغفار منها كقوله تعالى في سورة النساء: {إنَّا أنزَلْنَا

إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيماً *

وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً * وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ

اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً} (النساء: 105-107) الآيات - وسببها قضية

أراد بعض المنافقين فيها أن يخدعوا النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليحكم على يهودي

بريء بالسرقة انتصارًا لبعض المسلمين ، وكاد صلى الله عليه وسلم يصدقهم ويحكم

على اليهودي ، وكان هذا هو الظاهر من الدعوى ومال قلبه صلى الله عليه وسلم

إليه؛ لأن المسلمين كان يغلب عليهم الصدق، واليهود بالعكس، وكان المنافقون

أكذب الكاذبين، فنزلت الآيات مبينة له الحق في القضية.

ومنها إذنه صلى الله عليه وسلم لبعض المنافقين في التخلف عن الخروج معه

إلى غزوة تبوك حين استأذنوا في ذلك ، وكان وجه اجتهاده صلى الله عليه وآله

وسلم صحيحًا من وجه أيده القرآن بعد ذلك بقوله: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَاّ

خَبَالاً} (التوبة: 47) الآية، ولكن كانت المصلحة الراجحة أو أرجح المصلحتين

أن لا يأذن لهم ، فعاتبه الله تعالى وبين له ذلك بقوله: {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ

حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الكَاذِبِينَ} (التوبة: 43) ومثل ذلك اجتهاده

صلى الله عليه وسلم في فداء أسرى بدر الموافق لاجتهاد أبي بكر الصديق - رضي

الله تعالى عنه - وكان العتاب عليه أشد وهو قوله تعالى:

{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْض} (الأنفال: 67) إلى

قوله: {لَوْلا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (الأنفال:

68) .

وهذا الوجه لا ينافي حكمة اقتداء الأمة به صلى الله عليه وسلم ، وأن لا

يدعي أحد مهما تكن درجته في المعرفة والصلاح ، أنه لا ذنب له يستغفر الله منه -

ولا قول من خرج المسألة على قولهم: حسنات الأبرار سيئات المقربين. فإن ما عد

من ذنوب النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن إلا اجتهادًا في إقامة الدين ، بحسب ما

وصل إليه علمه ، وعلم الله تعالى فوق كل علوم خلقه. فهو في نفسه حسنة له

عليها أجر الاجتهاد، وباعتبار آخر ذنب لا معصية، وحسبنا هذا هنا فقد تكرر

بسط المسألة في المنار.

***

أسئلة في الهبة والميراث

من صاحب الإمضاء - في كلوغ بنكوك نوى (سيام)

بسم الله الرحمن الرحيم

حمدًا للواحد الخلاق، وصلاة وسلامًا على سيدنا محمد أفضل الخلق على

الإطلاق، وعلى آله وصحبه أئمة أعلام الهدى في الأنحاء والآفاق.

وبعد، فيا حضرة صاحب الفضيلة السيد محمد رشيد رضا المحترم أرشدنا الله

برشدك، وأسعدك في الدارين، ودمت مصباح النيرين، وعلوت معالي الفرقدين،

آمين آمين.

سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

مولاي إني أتشرف أن أرفع لمسامع فضيلتكم أمرًا أرجو أن تبينوا لي حكم الله

تعالى فيه وهو ما يأتي:

(1)

كان حضرة والدي العزيز - رحمه الله تعالى - قبل وفاته إلى رحمة

الله تعالى ، وهب من ملكه قطعة الأرض هبة شرعية ، بلا عوض وهو صحيح

عقلاً وجسدًا ، فذهب معي إلى مصلحة التملك (Department deeds Title)

طلبًا من بعض موظفي هذه المصلحة أن يكتبوا اسمي على صك الملكية (حجة

التملك) لتحويل الملك فيها ، وجعلوه مكتوبًا فيها وهم شاهدون على ذلك ، وذلك

بإمضاء اسم والدي المرحوم واسمي فيها بتمام الإيجاب والقبول لدى الشهود

الموظفين في تلك المصلحة ، وهم متدينون بدين البوذ!

(2)

ثم وهب لحضرة والدتي المحترمة (زوجته الأولى) داره المبنية على

قطعة الأرض المذكورة هبة شرعية بلا عوض ، وهو سليم العقل والجسم ، وذلك

بأن والدي المرحوم كتب لوالدتي العزيزة كتابًا ، أمضى فيه اسمه على أنه قد جعل

داره المذكورة مملوكة لوالدتي المحترمة بتمام الرضاء والإيجاب والقبول ، ولكن

لا شاهد على ذلك.

(3)

وقد اتفق والدي الكريمان على شراء قطعة الأرض من المزارع

(Yards Farm) برأس مالهما الذي قد استعاراه من الغير ، ويقضيان بما

يستفيدانه من أجرات هذه المزرعة ، فإلى الآن لم يتخلصا بينهما (كذا) .

فلما توفي والدي إلى رحمته تعالى، حكم بعض علماء بلادي بأن قطعة الأرض

والدار الموهوبتين لنفسي ولوالدتي المحترمة لا تصح هبتهما ، وأن المزرعة لا

تصح أن تملكها والدتي ، ولا يصح أن يقسم نصفها لحضرتها قبل أن تكون واقعة

في الميراث ، بل تكون هذه الأشياء الثلاثة (أي: قطعة الأرض والدار والمزرعة)

كلها مما تركه حضرة والدي من ميراثه ، فيضمونها إلى تركته؛ ليقسموها لزوجتيه

الأولى والثانية ، ولجميع أولاده من جهتهما.

فلذلك - يا سيدي الأستاذ المخلص - أحرر هذا راجيًا من فيض علومكم

وملتمسًا من فضل فضيلتكم أن تشرفوني بالجواب الشافي والبيان الكافي فيما يأتي:

(ا) هل تصح هبة قطعة الأرض والدار اللتين وهبهما لي ولحضرة والدتي

أم لا؟

(ب) هل تصح أن تكون قطعة الأرض ملكًا لي أم لا؟

(ج) هل تصح أن تكون الدار مملوكة لوالدتي أم لا؟

(د) هل تصح أن تكون قطعة الأرض والدار مما تركه والدي أم لا؟

(هـ) هل يصح أن تحصل والدتي على نصف الملك في المزرعة أم لا؟

(و) هل تصح أن يقسم نصفها لحضرتها أم لا؟

(ذ) هل تصح أن تكون المزرعة كلها ميراثًا أم لا؟

فهل تسمحون لي بذلك فلكم مني خالص الشكر ، ومن الله جزيل الأجر

والثواب وأستسمحكم العفو عما زل قلمي من الخطأ والنسيان وسوء العبارة ، التي

قد تكون في كتابي هذا؛ لأني مع صغري لفي دراستي للغة العرب.

وختامًا أرجو سيدي المفضال أن يتفضل حضرته بقبول عاطر سلامي وفائق

احترامي وإخلاصي.

...

...

...

... ولدكم المخلص بالشرق الأقصى

... محمد علي الكريمي

(ج) إن السؤال مجمل ، ولم يذكر السائل فيه ما بنى عليه بعض علماء بلده

إبطال الهبة والشركة في شراء الأرض المذكورة ليعلم أصواب هو أم خطأ؟ وهل

هو مبني على الدليل أم على أحد المذاهب المتبعة في تلك البلاد؟ - فالهبة للوارث

في حال الصحة صحيحة ، وهي تنعقد بالإيجاب والقبول، ولكن يشترط في

الموهوب له أن يكون أهلاً للقبول والقبض بصحة تصرفه ، فهل كان السائل كذلك

أم لا؟ ويقول أكثر العلماء: إن الهبة تتم بالقبض فهل قبض كل من السائل

ووالدته ما وهبه لهما والده وتصرفا فيه أم لا؟

وجملة القول أن بيان الحق في هذه المسائل يتوقف على الاطلاع على صورة

الحكم الذي حكم به بعض علماء بلاد السائل والوقوف على أدلته ، ولا سيما الأرض

التي اشتراها الزوجان بمال اقترضاه وهما يؤديانه مما يستغلانه من الأرض ، وليت

شعري هل يعني بالحكم معناه القضائي أم يريد به الفتوى ، وبيان حكم الشرع في

هذه الوقائع؟ وإذا كان هذا حكمًا قضائيًا فمن الذي نصب هذا العالم قاضيًا؟

أحكومة البلاد الوثنية أم المسلمون أنفسهم؟ وما فائدة استفتائه إيانا إن كان حكم ذلك

العالم نافذًا؟ وهل المسلمون هنالك يلتزمون العمل بفتوى علمائهم اختيارًا أم تلزمهم

الحكومة إياها إلزامًا؟ أم لا يعملون إلا بما يعتقدون أنه صواب منها؟ نرجو السائل

أن يبين لنا ذلك، وكل ما يتعلق بهذه المسائل، وإن كان لذلك العالم فتوى مكتوبة فيما

ذكر فليرسل إلينا صورتها بحروفها، هذا إذا كان لبياننا الحكم الصحيح فائدة

له، وإلا فهو مخير. وقد طال العهد عندنا على هذه الأسئلة فمضى على وصولها إلينا

بضعة أشهر ولم نجد فراغًا نكتب إليه فيه بذلك.

_________

ص: 347

الكاتب: أحمد بن تيمية

أهل الصفة وأباطيل بعض المتصوفة فيهم وفي الأولياء

وأصنافهم والدعاوى فيهم

لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية قدس سره

تتمة لما في الجزء 7م 24 (ص508)

(فصل) وليس في أولياء الله المتقين ، بل ولا أنبياء الله ولا المرسلين من

كان غائب الجسد دائمًا عن أبصار الناس ، بل هذا من جنس قول القائل: بأن عليًّا

في السحاب، وأن محمد بن الحنفية في جبال رضوى، وأن محمد بن الحسن في

سرداب سامرا، وأن الحاكم في جبل مصر ، وأن الأبدال رجال الغيب في جبل

لبنان. فكل هذا ونحوه من قول أهل الإفك والبهتان. نعم قد تخرق العادة في حق

الشخص فيغيب تارة عن أبصار الناس إما لدفع عدو عنه وإما لغير ذلك ، وأما

أنه يكون هكذا طول عمره فباطل. نعم يكون نور قلبه وهدى فؤاده وما فيه من

أسرار الله وأمانته وأنواره ومعرفته غيبًا عن الناس، ويكون صلاحه وولايته غيبًا

عن أكثر الناس، فهذا هو الواقع. وأسرار الحق بينه وبين أوليائه وأكثر الناس لا

يعلمون.

(فصل) وقد بينا بطلان اسم الغوث مطلقًا ، واندرج في ذلك غوث العرب

والعجم ومكة والغوث السابع، وكذلك لفظ خاتم الأولياء لفظ باطل لا أصل له،

وأول من ذكره محمد بن علي الحكيم الترمذي، وقد انتحله طائفة كل منهم يدعي أنه

خاتم الأولياء كابن حمويه وابن العربي وغيرهما ، وكل منهم يدعي أنه أفضل من

النبي صلى الله عليه وسلم من بعض الوجوه، إلى غير ذلك من الكفر والبهتان ، وكل

طمعًا في رياسة خاتم الأنبياء.

وقد غلطوا فإن خاتم الأنبياء إنما كان أفضلهم للأدلة الدالة على ذلك، وليس

كذلك للأولياء ، فإن أفضل أولياء هذه الأمة السابقون الأولون من المهاجرين

والأنصار ، وخير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر وخير قرونها القرن الذي

بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم الذي يلونهم ثم الذي يلونهم. وخاتم

الأولياء في الحقيقة هو آخر مؤمن تقي يكون من الناس، وليس ذلك بخير الأولياء

ولا أفضلهم، بل خيرهم وأفضلهم أبو بكر ثم عمر اللذان ما طلعت الشمس وما

غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل منهما.

(فصل) وأما هؤلاء القلندرية المحلقين اللحى؛ فمن أهل الضلالة والجهالة

وأكثرهم كافرون بالله ورسوله ، لا يرون وجوب الصلاة والصيام، ولا يحرمون

ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق، بل كثير منهم أكفر من اليهود

والنصارى ، وهم ليسوا من أهل الملة ولا من أهل السنة، وقد يكون فيهم من هو

مسلم لكن مبتدع ضال أو فاسق فاجر. ومن قال: إن قلندر كان موجودًا في زمن

النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد كذب. وافترى: بل قد قيل أصل هذا الصنف أنهم

كانوا قومًا من نساك الفرس ، يدورون على ما فيه راحة قلوبهم بعد أداء الفرائض

واجتناب المحرمات. هكذا فسرهم الشيخ أبو حفص السهرودي في عوارفه. ثم

إنهم بعد ذلك تركوا الواجبات وفعلوا المحرمات بمنزلة الملامية الذين كانوا يخفون

حسناتهم ويظهرون ما لا يظن بصاحبه الصلاح من زي الأغنياء ولبس العمامة،

فهذا قريب وصاحبه مأجور على نيته.

ثم حدث قوم فدخلوا في أمور مكروهة في الشريعة ، ثم زاد الأمر ففعل قوم

المحرمات من الفواحش والمنكرات، وترك الفرائض والواجبات، وزعموا أن ذلك

دخول منهم في الملاميات. ولقد صدقوا في استحقاقهم اللوم والندم والعقاب من الله في

الدنيا والآخرة ، وتجب عقوبتهم جميعهم، ومنعهم من هذا الشعار الملعون ، كما يجب

ذلك في كل معين ببدعة أو فجور ، وليس ذلك مختصًّا بهم ، بل كل من كان من

المتنسكة والمتفقهة والمتعبدة ، والمتفقرة والمتزهدة والمتكلمة ، والمتفلسفة ومن

وافقهم من الملوك والأغنياء ، والكتاب والحساب والأطباء وأهل الديوان والعامة

خارجًا عن الهدى ودين الحق الذي بعث الله به رسوله باطنًا وظاهرًا ، مثل من

يعتقد أن شيخه يرزقه وينصره أو يهديه أو يغيثه، أو كان يعبد شيخه ويدعوه ويسجد

له، أو كان يفضله على النبي صلى الله عليه وسلم تفضيلاً مطلقًا أو مقيدًا في شيء

من الفضل الذي يقرب إلى الله تعالى، أو كان يرى أنه هو وشيخه مستغن عن متابعة

الرسول، فكل هؤلاء كفار إن أظهروا، ومنافقون إن أبطنوا. وهؤلاء الأجناس

وإن كانوا قد كثروا في هذه الأزمان، فلقلة دعاة العلم والإيمان، وفتور آثار

الرسالة في أكثر البلدان، وأكثر هؤلاء ليس عندهم من آثار الرسالة وميراث

النبوة ما يعرفون به الهدى ، وكثير منهم لم يبلغهم ذلك. وفي أوقات الفترات وأمكنة

الفترات يثاب الرجل على ما معه من الإيمان القليل ، ويقضي الله فيه لمن لم يقم

الحجة عليه ما لا يغفر به لمن قامت الحجة عليه كما في الحديث المعروف:

(يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه صلاة ولا صيامًا ولا حجًّا ولا عمرة إلا الشيخ

الكبير والعجوز الكبيرة ، ويقولون: أدركنا آباءنا وهم يقولون: لا إله إلا الله)

فقيل لحذيفة بن اليمان: ما تغني عنهم لا إله إلا الله؟ فقال: (تنجيهم من النار ،

تنجيهم من النار ، تنجيهم من النار) .

وأصل ذلك أن المقالة التي هي كفر بالكتاب أو السنة أو الإجماع ، يقال: هي

كفر. قولاً يطلق كما دل على ذلك الدليل الشرعي ، فإن الإيمان من الأحكام المتلقاة

عن الله ورسوله ليس ذلك مما يحكم فيه الناس بظنونهم وأهوائهم. ولا يجب أن

يحكم في كل شخص قال ذلك بأنه كافر حتى يثبت في حقه شروط التكفير وتنفى

موانعه، مثل من قال: إن الخمر أو الربا حلال. لقرب عهده بالإسلام أو لنشوئه

في بادية بعيدة، أو سمع كلامًا [1] أنكره ، ولم يعتقد أنه من القرآن ولا أنه من

أحاديثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما كان بعض السلف ينكر أشياء حتى

يثبت عنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها ، وكما كان الصحابة يشكون في

أشياء: مثل رؤية الله وغير ذلك، حتى يسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه

وسلم ، ومثل الذي قال: إذا أنا مت فاسحقوني وذروني في اليم؛ لعلي أضل عن الله.

ونحو ذلك فإن هؤلاء لا يكفرون حتى تقوم عليهم الحجة بالرسالة كما قال الله تعالى:

{َ لِئَلَاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (النساء: 165) وقد عفا الله

لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان ، وقد أشبعنا الكلام في القواعد التي في هذا الجواب

في أماكنها، والفتوى لا تحتمل البسط أكثر من هذا.

(فصل) وأما النذر للقبور أو لسكان القبور أو العاكفين على القبور؛ سواء

كانت قبور الأنبياء أو الصالحين ، فهو نذر حرام باطل يشبه النذر للأوثان، سواء

كان نذر زيت أو شمع أو غير ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله

زوَّارت القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج) [2] وقال: (لعن الله اليهود

والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يحذر ما فعلوا [3] وقال: (إن من كان

قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن

ذلك [4] ) وقال: (اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعبد من بعدي)[5] .

وقد اتفق أئمة الدين على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور، ولا أن تعلق

عليها الستور، ولا أن ينذر لها النذور ولا أن يوضع عندها الذهب والفضة، بل

حكم هذه الأموال أن تصرف في مصالح المسلمين ، إذا لم يكن لها مستحق معين.

ويجب هدم كل مسجد بني على قبر كائنًا من كان الميت ، فإن ذلك من أكبر أسباب

عبادة الأوثان كما قال تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَداً وَلَا سُوَاعا وَلَا

يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرا * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرا} (نوح: 23-24) وقال طائفة من

السلف: هذه أسماء قوم صالحين لما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم عبدوهم ، ومن

نذر لها نذرًا لم يجز له الوفاء ، لما ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم

أنه قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه وعليه

كفارة يمين [6] ) ، ولما روي عنه أنه قال: (لا نذر في معصية، وكفارته كفارة

يمين) [7] .

ومن العلماء من لا يوجب عليه إلا الاستغفار والتوبة. ومن الحسن أن

يصرف ما نذره في نظيره من المشروع ، مثل: أن يصرف الدهن إلى تنوير

المساجد، والنفقة إلى صالحة فقراء المؤمنين ، وإن كانوا من أقارب الشيخ، ونحو

ذلك. وهذا الحكم عام في قبر نفيسة ومن هو أكبر من نفيسة من الصحابة مثل قبر

طلحة والزبير وغيرهما بالبصرة، وقبر سلمان الفارسي وغيره بالعراق، والمشاهد

المنسوبة إلى علي رضي الله عنه والحسين وموسى وجعفر وقبر مثل معروف

الكرخي وأحمد بن حنبل وغيرهم رضي الله عنهم.

ومن اعتقد أن بالنذور لها نفعًا أو أجرًا ما، فهو ضال جاهل. فقد ثبت في

الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النذر وقال: (إنه لا يأتي بخير

وإنما يستخرج به من البخيل) [8] وفي رواية: (إنما يلقي ابن آدم إلى القدر) فإذا

كان هذا في نذر الطاعة؛ فكيف في نذر المعصية؟ فيعتقدون أنها باب الحوائج إلى

الله ، وأنها تكشف الضر وتفتح الرزق وتحفظ مصر فهذا كافر مشرك يجب قتله ،

وكذلك من اعتقد ذلك في غيرها كائنًا من كان. {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلَا

يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ

الوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} (الإسراء: 56-57) ، {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ

ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ *

وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} (سبأ: 22-23) ، {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ

السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ مَا لَكُم مِّن

دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} (السجدة: 4)، وقال الله: {وَقَالَ

اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ * وَلَهُ مَا فِي

السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ * وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ

ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم

بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} (النحل: 51-

55) .

والقرآن من أوله إلى آخره وجميع الكتب والرسل إنما بعثوا بأن يعبد الله

وحده لا شريك له، وأن لا يجعلوا مع الله إلهًا آخر. والإله من يألهه القلب عبادة

واستعانة وإجلالاً وإكرامًا وخوفًا ورجاءً ، كما هو حال المشركين في آلهتهم، وإن

اعتقد المشرك أن ما يألهه مخلوق مصنوع ، كما كان المشركون يقولون في تلبيتهم:

لبيك لا شريك لك، إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك. وقال النبي صلى الله

عليه وسلم لحصين الخزاعي: (يا حصين كم تعبد؟ قال: أعبد سبعة آلهة، ستة

في الأرض وواحد في السماء. قال: فمن ذا الذي تعبده لرغبتك ورهبتك؟ قال:

الذي في السماء. قال: يا حصين فأسلم حتى أعلمك كلمات ينفعك الله بهن. فلما أسلم

قال: قل: اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي) .

(فصل) وأما من زعم أن الملائكة والأنبياء تحضر سماع المكاء والتصدية [9]

محبة له ورغبة فيه فهو كاذب مفتر، بل إنما تحضره الشياطين وهي تنزل

عليهم وتنفخ فيهم كما روى الطبراني وغيره عن ابن عباس مرفوعًا إلى النبي صلى

الله عليه وسلم (إن الشيطان قال: يا رب اجعل لي بيتًا. قال: بيتك الحمام. قال:

اجعل لي قرآنًا. قال: قرآنك الشعر. قال: اجعل لي مؤذنًا. قال: مؤذنك

المزمار) ، وقد قال تعالى في كتابه مخاطبًا للشيطان:{وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ} (الإسراء: 64) وقد فسَّر ذلك طائفة من السلف بصوت الغناء،

وهو شامل له ولغيره من الأصوات المستفزة لأصحابها عن سبيل الله، وروي عن

النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما نهيتُ عن صوتين أحمقين فاجرين:

صوت لهو ولعب ومزامير الشيطان، وصوت لطم خدود وشق جيوب ودعاء

بدعوى الجاهلية ذات المكاء والتصدية) وكيف يذر الشيطان عليهم حتى يتواجدوا

الوجد الشيطاني ، حتى إن بعضهم صار يرقص فوق رؤوس الحاضرين؟! ورأى

بعض المشايخ المكاشفين أن شيطانه قد حمله حتى رقص به ، فلما صرخ قال:

هرب شيطانه. وسقط ذلك الرجل!

وهذه الأمور لها أسرار وحقائق لا يشهدها إلا أهل البصائر الإيمانية والمشاهد

الإيقانية، ولكن من اتبع ما جاءت به الشريعة، وأعرض عن السبل المبتدعة، فقد

حصل له الهدى وخير الدنيا والآخرة، وإن لم يعرف حقائق الأمور ، بمنزلة من

سلك السبيل إلى مكة خلف الدليل الهادي ، فإنه يصل إلى مقصوده ويجد الزاد والماء

في مواطنه، وإن لم يعرف كيف يحصل ذلك وسببه، ومن سلك خلف غير الدليل

الهادي كان ضالاًّ عن الطريق، فإما أن يهلك، وإما أن يشقى مدة ثم يعود إلى

الطريق. والدليل الهادي هو الرسول الذي بعثه الله إلى الناس بشيرًا نذيرًا، وداعيًا

إلى الله بإذنه وهاديًا إلى صراط مستقيم، صراط الله الذي له ملك السموات

والأرض. وآثار الشيطان تظهر على أهل السماع الجاهلي مثل الإزباد والإرعاد

والصرخات المنكرة ونحو ذلك ما يجدون في نفوسهم من ثوران مراد الشيطان

بحسب الصوت.

إما وجد في الهوى مذموم، وإما غضب وعدوان على من هو مظلوم، وإما

لطم وشق ثياب وصياح كصياح المحزون المحروم، إلى غير ذلك من الآثار

الشيطانية التي تعتري أهل الاجتماع على شرب الخمر إذا سكروا بها ، فإن السكر

بالأصوات المطربة قد تصير من جنس الإسكار بالأشربة المطربة فتصدهم عن

ذكر الله وعن الصلاة، وتمنع قلوبهم حلاوة القرآن وفهم معانيه واتباعه،

فيصيرون مضارعين للذين يشترون لهو الحديث ليضلوا عن سبيل الله، ويوقع

بينهم العداوة والبغضاء حتى يقتل بعضهم بعضًا بأحواله الفاسدة الشيطانية، كما يقتل

العائن من أصابه بعينه، ولهذا قال من قال من العلماء: إن هؤلاء يجب عليهم القَوَد

أو الدية إذا عرف أنهم قتلوا بالأحوال الشيطانية الفاسدة؛ لأنهم ظالمون وهم

إنما يغتبطون بما ينفذونه من موادهم المحرمة كما يغتبط الظلمة المسلطون.

ومن هذا الجنس حال خفراء الكافرين والمبتدعين والظالمين ، فإنهم قد يكون

لهم زهد وعبادة وهمة ، كما يكون للمشركين وأهل الكتاب، وكما كان للخوارج

المارقين الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (يحقر أحدكم صلاته مع

صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز

حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية؛ أينما لقيتموهم فاقتلوهم،

فإن في قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة) وقد يكون لهم مع ذلك أحوال

باطنة كما يكون لهم ملكة ظاهرة ، فإن سلطان الباطن معناه السلطان الظاهر. ولا

يكون من أولياء الله إلا من كان من الذين آمنوا وكانوا يتقون ، وما فعلوه من الإعانة

على الظلم ، فهم يستحقون العقاب عليه بقدر الذنب، وباب القدرة والتمكن باطنًا

وظاهرًا ليس مستلزمًا لولاية الله تعالى ، بل قد يكون ولي الله متمكنًا ذا سلطان ،

وقد يكون مستضعفًا إلى أن ينصره الله، وقد يكون عدو الله مستضعفًا، وقد يكون

سلطانًا إلى أن ينتقم الله منه، فخفراء التتار في الباطن من جنس التتار في الظاهر،

هؤلاء في العباد، بمنزلة هؤلاء في الأجناد.

وأما الغلبة فإن الله قد يديل الكافرين على المؤمنين تارة ، كما يديل

المؤمنين على الكافرين، كما كان يكون لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع

عدوهم، لكن العاقبة للمتقين، فإن الله يقول: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي

الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} (غافر: 51) وإذا كان في المسلمين

ضعف وكان العدو مستظهرًا عليهم ، كان ذلك بسبب ذنوبهم وخطاياهم: إما

لتفريطهم في أداء الواجبات باطنًا وظاهرًا. وإما لعدوانهم بتعدي الحدود باطنًا

وظاهرًا، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ التَقَى الجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ

الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} (آل عمران: 155) وقال تعالى: {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم

مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ} (آل عمران: 165)

وقد قال تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ

فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ

الأُمُورِ} (الحج: 40-41) .

(فصل) وأما هذه المشاهد المشهورة فمنها ما هو كذب قطعًا مثل المشهد

الذي بظاهر دمشق المضاف إلى أبي بن كعب، والمشهد الذي في ظاهرها المضاف

إلى أويس القرني، والمشهد الذي في سفح لبنان المضاف إلى نوح عليه السلام،

والمشهد الذي بمصر المضاف إلى الحسين - إلى غير ذلك من المشاهد التي يطول

شرحها بالشام والعراق ومصر وسائر الأمصار ، حتى قال طائفة من العلماء منهم

عبد العزيز الكناني: كل هذه القبور المضافة إلى الأنبياء لا يصح فيها إلا قبر النبي

صلى الله عليه وسلم. وقد أثبت غيره قبر الخليل عليه السلام أيضًا، وأما مشهد

علي فعامة العلماء على أنه ليس قبره ، بل قد قيل: إنه قبر المغيرة بن شعبة وذلك

أنه إنما ظهر بعد نحو ثلاثمائة سنة من موت علي في إمارة بني بويه. وذكروا أن

أصل ذلك حكاية بلغتهم عن الرشيد أنه أتى إلى ذلك المكان ، وجعل يعتذر إلى من

فيه مما جرى بينه وبين ذرية علي. وبمثل هذه الحكاية لا يقوم شيء فالرشيد أيضًا

لا علم له بذلك ، ولعل هذه الحكاية إن صحت عنه فقد قيل له ذلك كما قيل لغيره.

وجمهور أهل المعرفة يقولون: إن عليًّا إنما دفن في قصر الإمارة أو قريبَا

منه وهذا هو السنة، فإن حمل ميت من الكوفة إلى مكان بعيد ليس فيه فضيلة أمر

غير مشروع ، فلا يظن بآل علي رضي الله عنهم أنهم فعلوا به ذلك ، ولا

يظن أيضًا أن ذلك خفي على أهل بيته والمسلمين ثلاثمائة سنة حتى أظهره قوم

من الأعاجم الجهال ذوي الأهواء، وكذلك قبر معاوية الذي بظاهر دمشق ، قد قيل:

إنه ليس قبر معاوية، وإن قبره بحائط مسجد دمشق الذي يقال: إنه قبر هود.

وأصل ذلك أن عامة هذه القبور والمشاهد مضطرب مختلف ، لا يكاد يوقف

منه على علم إلا في قليل منها بعد بحث شديد؛ وهذا لأن معرفتها وبناء المساجد

عليها ليس من شريعة الإسلام، ولا ذلك من حكم الذكر الذي تكفل الله بحفظه حيث

قال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9) بل قد نهى النبي

صلى الله عليه وسلم عما يفعله المبتدعون عندها مثل قوله الذي رواه مسلم في

صحيحه عن جندب بن عبد الله قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن

يموت بخمس وهو يقول: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد فإني

أنهاكم عن ذلك) وقال: (لعن اللهُ اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) .

وقد اتفق أئمة الإسلام على أنه لا يشرع بناء هذه المشاهد التي على القبور،

ولا يشرع اتخاذها مساجد، ولا تشرع الصلاة عندها، ولا يشرع قصدها لأجل

التعبد عندها بصلاة واعتكاف أو استغاثة وابتهال ونحو ذلك، وكرهوا الصلاة

عندها، ثم كثير منهم قال: الصلاة باطلة؛ لأجل النهي عنها.

وإنما السنة إذا زار قبر مسلم ميت إما نبي أو رجل صالح أو غيرهما أن يسلم

عليه ويدعو له بمنزلة الصلاة على جنازته ، كما جمع الله بين هذين حيث يقول في

المنافقين: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} (التوبة:

84) فكان دليل الخطاب أن المؤمنين يصلى عليهم ويقام على قبورهم، وفي السنن

أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دفن الميت من أصحابه يقوم على قبره ثم

يقول: (سلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل) .

وفي الصحيح أنه كان يعلّم أصحابه أن يقولوا إذا زاروا القبور: (السلام

عليكم أهل دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمين

منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا

تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم) .

وإنما دين الله تعالى تعظيم بيوت الله وحده لا شريك له ، وهي المساجد التي

تشرع فيها الصلوات جماعة وغير جماعة ، والاعتكاف وسائر العبادات البدنية

والقلبية من القراءة، والذكر، والدعاء لله، قال تعالى: {وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا

مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (الجن: 18) وقال تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا

وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (الأعراف: 29) وقال تعالى:

{يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (الأعراف: 31) وقال تعالى:

{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ

إِلَاّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئَكَ أَن يَكُونُوا مِنَ المُهْتَدِينَ} (التوبة: 18) وقال تعالى: {فِي

بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ *

رِجَالٌ لَاّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْما

تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ

يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (النور: 36-38) فهذا دين المسلمين الذين

يعبدون الله مخلصين له الدين.

وأما اتخاذ القبور أوثانًا فهو من دين المشركين، الذي نهى عنه سيد المرسلين.

والله تعالى يصلح حال جميع المسلمين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على

سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا طيبًا مباركًا كما هو أهله.

(تمت الرسالة)

(طبعت عن نسخة كتبت في بغداد بقلم محمد صالح المصطفى الوتار)

فيها شيء من الغلط والتحريف

عفا الله عنا وعنه.

_________

(1)

لعله سقط من هنا وصف لهذا بأنه من كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

(2)

رواه أبو داود والترمذي والنسائي والحاكم من حديث ابن عباس بلفظ زائرات وسنده صحيح، و (لعن الله زوارات القبور) حديث آخر صحيح أيضًا.

(3)

رواه الشيخان وغيرهما عن عائشة ، وفي بعض الروايات تعليل آخر لهذا اللعن غير تحذير المسلمين عن اتخاذ القبور مساجد وهو قولها: ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدًا.

(4)

هذه جملة من حديث آخر لها في هذا الموضوع عند مسلم ، وهنالك ألفاظ أخرى بمعنى واحد ، وصرحت بأنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك في مرضه الأخير قبل وفاته بخمسة أيام.

(5)

رواه مالك في الموطأ.

(6)

رواه أحمد والبخاري وأصحاب السنن الأربعة عن عائشة.

(7)

رواه أحمد وأصحاب السنن عنها أيضًا وهو صحيح.

(8)

رواه أحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن من حديث عبد الله بن عمر إلا الترمذي ومن حديث أبي هريرة إلا أبا داود - وفي رواية (أنه لا يرد شيئًا) بدل لا يأتي بخير.

(9)

المُكاء بالضم: هو صفير الطائر ، والتصدية: الصوت الذي يجرى مجرى الصدى وهو ما يرجع عن غيره بالانعكاس وفسر بالتصفيق، قال تعالى في الجاهلية:[وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِندَ البَيْتِ إِلَاّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً](الأنفال: 35) .

ص: 357