الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
تجنس المسلم بجنسية تنافي الإسلام
(س 1) من الحزب الوطني التونسي
ما قول حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير الشيخ رشيد رضا أيده الله في
حكومة فرنسا المتسلطة على كثير من الشعوب الإسلامية؛ إذ عمدت أخيرًا إلى
وضع قانون يعرف بقانون التجنس، الغرض منه حمل سكان تلك البلاد من
المسلمين على الخروج من ملتهم ، وتكثير سواد أشياعها ، وقد جعلت هذا التجنس
شرطًا في نيل الحقوق السياسية التي كانت لهم من قبل ، وسلبتها منهم على وجه
الاستبداد الجائر ، مع أن اتباع المسلم لهذه الملة؛ يجعله ينكر بالفعل ما هو معلوم
من الدين بالضرورة ولا تتناوله الأحكام الشرعية ، بل يصير تابعًا لقوانين وضعية ،
نصوصها صريحة في إباحة الزنا وتعاطي الخمور ، وارتكاب الفجور ، وتحليل
الربا ، والاكتساب من الطرق غير المشروعة ، ومنع تعدد الزوجات، واعتبار ما
زاد عن الواحدة من قبيل الزنا المعاقب عليه ، وإنكار نسب ما ولد له من غيرها
حالة وجودها ، ولا حق له في نفقة ولا إرث ولو على فرض الاستلحاق ، وفك
العصمة من الزوج ، وإسنادها إلى المحكمة ، حتى إذا أوقع الطلاق بنفسه كان
لغوًا ، وقسمة المواريث على طريقة مخالفة للفرائض الشرعية وجعل أنصبائها على حد سواء بين الإناث والذكور.
وأشد بلاءً من هذا كله جعل المسلم مجبورًا على الخدمة العسكرية في جيش
عدُوٍّ معد لقتال المسلمين ، وإذلالهم وإكراههم على الخضوع، والإلقاء بأنفسهم في
قبضة من لا يرقب فيهم ذمةً ولا يحفظ معهم عهدًا.
فهل يعد إقدام تلك الحكومة على أمر كهذا نكثًا للمعاهدة الموضوعة على
أولئك المسلمين ، وفتنة لهم في دينهم وإخلالاً بنظام اجتماعهم؟
وهل يكون أولئك المسلمون إذا قبلوا هذا التجنس مرتدين عن دينهم ، فلا
نعاملهم معاملة المسلمين من مثل: المناكحة ، والتوارث ، وأكل ذبائحهم ، ودفن
أمواتهم في مقابر المسلمين؛ لأنهم رضوا بالانسلاخ عن أحكام الشريعة ، ولا
مكره لهم على ذلك؟ أم كيف الحال؟
وهل يجوز لمسلم يدرك عواقب هذه الفتنة العمياء ، وغوائل السكوت عنها أن يترك الإنكار عليها ، والحال أنه آمن على نفسه ، وقادر على مقاومتها ،
وإظهار النكير عليها؟
أفتونا في هذه الواقعة بما يقتضيه النظر الشرعي إرشادًا للحائرين، وتنبيهًا
للغافلين، أبقاكم الله لخدمة الإسلام والمسلمين.
الجواب:
إذا كانت الحال كما ذكر في السؤال، فلا خلاف بين المسلمين في أن قبول
هذه الجنسية ردةٌ صريحةٌ ، وخروج من الملة الإسلامية، حتى إن الاستفتاءَ فيها يعد
غريبًا في مثل البلاد التونسية ، التي يظن أن عوامها لا يجهلون حكم ما في السؤال
من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة ، ولعل المراد من الاستفتاء إعلام
الجمهور معنى هذه الجنسية ، وما تشتمل عليه من الأمور المذكورة المنافية للإسلام
نفسه ، لا للسياسة الإسلامية التونسية التي بدئ السؤال بذكر غوائلها فقط ، كقوله:
إن هذه الملةَ (يعني الجنسية التي هي بمعنى الملة في الأحكام المخالفة
للشريعة الإسلامية) تحمل صاحبها على إنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة.
على أنه قال: إنه ينكر ذلك بالفعل. ولعله أراد بهذا القيد الاحتراس عن الاعتقاد ،
وجعل هذا هو المراد من الاستفتاء لما هو مشهور بين أهل السنة من أن المعاصي
العملية لا تخرج صاحبها من الملة إذا لم يجحد تحريمها أو يستحلها، وإن كانت
مجمعًا عليها معلومة من الدين بالضرورة.
وهذه المسألة أهم عندنا من كل ما رتبه السائل على هذه الجنسية من الغوائل
كنكث الدولة الفرنسية للمعاهدة التونسية، فإن المعاهداتِ في هذا العصر حجة القوي
على الضعيف كما قال البرنس بسمارك، فهو يأخذ بها من الضعيف أضعاف ما جعله
لنفسه من الحقوق ، ولا يعطيه مما التزمه له إلا ما يريد هو ، ويوافق مصلحته
كما قلنا للسيد فيصل ابن السيد حسين الحجازي عندما أراد إقناعنا بقبول الوصاية
الفرنسية على سورية بمقتضى معاهدة وشروط
…
وقد بلغنا أن بعض المتفقهة أبى
الإفتاء بِرِدَّةِ من يقبل مثل هذه الجنسية ، ويرتكب ما يترتب عليها من ترك أحكام
الشريعة المشار إليها في السؤال بناءً على قول بعض الأئمة: لا نكفر مسلمًا
بذنب. ونظمه اللقاني في جوهرة التوحيد (فلا نكفر مسلمًا بالوزر) مع الغفلة
عن قوله فيها الذي نظم به قاعدة الردة العامة:
ومن لمعلوم ضرورة جحد
…
من ديننا يقتل كفرًا ليس حد
فإن هذه القاعدةَ وقع فيها اللبس والاشتباه حتى بين المشتغلين بالعلم، وفي
أحد فروعها وهو استحلال الحرام، فإنه إذا كان من المجمع عليه المعلوم من الدين
بالضرورة كان ردة عن الإسلام بلا خلاف، ولكن بعض المشتغلين بقشور العلم ،
والمجادلين في ألفاظ الكتب من يظنون أن الجحد والاستحلال من أعمال القلب،
فجاحد الصلاة ومستحل شرب الخمر والزنا عندهم هو من يعتقد أن وجوب
الصلاة، وتحريم الخمر والزنا ليسا من دين الإسلام، فلا الصلاة فريضة ولا الزنا
حرام.
وفي هذا الظن من التناقض والتهافت ما هو صريح، فإِنَّ فرضَ المسألةِ أن
الذي يستحل مخالفة ما يعلم أنه من الدين علمًا ضروريًّا ، غير قابل للتأويل سواء
كان فعلاً أو تركًا فإنه يكون به مرتدًّا عن الإسلام، والعلم الاعتقاد القطعي فكيف
يفسر الاستحلال بعدم الاعتقاد ، وهو جمع بين النقيضين؛ أعني اعتقادَ أنه من الدين ،
وعدم اعتقاد أنه من الدين؟ وقد سبق لنا تحقيق هذه المسألة في بابي التفسير
والفتاوى من المنار، ونقول الآن بإيجاز واختصار: إن حقيقة الجحد هو إنكار
الحق بالفعل، واشترط أن يكون المنكر معتقدًا له بالقلب.
قال الزمخشري في الأساس: جحده حقه وبحقه جحدًا وجحودًا. وقال
الراغب في مفردات القرآن: الجحود نفي ما في القلب إثباته، وإثبات ما في القلب
نفيه، يقال: جحد جحودًا وجحدًا قال عز وجل:] وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ
ظُلْمًا وَعُلُوًّا [ (النمل: 14) اهـ. وحسبنا الآية نصًّا في الموضوع وسنذكر غيرها
أيضًا.
وكذلك الاستحلال والاستباحة: أَنْ يفعل الشيء فعل الحلال والمباح؛ أي:
بغير تحرج ولا مبالاة، وهو يعتقد أنه حرام شرعًا ، ولو لم يكن مجمعًا عليه ،
فإنْ كان المستحل متأولاً لنص أوقاعدة شرعية اعتقد بها أنه حلال شرعًا ، لم
يحكم بردته، وإلا كان مرتدًّا، ويصدق في ادعائه الجهل بحرمته إلا إذا كان مجمعًا
عليه معلومًا من الدين بالضرورة.
والوجه في ذلك أن الإسلام هو الإذعان بالفعل لما علم أنه من دين الله في
جملته وهو الإيمان؛ إذ الاعتقاد القلبي وحده لا يكون به المعتقد مسلمًا ، ولا يكون
الاعتقاد إيمانًا حتى يكون نازعًا، ولهذا قالوا بترادف الإيمان والإسلام فيما يصدقان
عليه وإن اختلفا في المفهوم ، ورد بعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم
كرده كله {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} (البقرة: 85) .
وأما الذنب الذي لا يخرج به فاعله من الملة، فهو مفروض في المسلم،
وهو المذعن لدين الله وشرعه كله بالفعل إذا عمل سوءًا بجهالة من سورة غضب
أو ثورة شهوة، وهو لابد أن يحمله الإيمان على الندم والتوبة، ولا يدخل فيه غير
المذعن للأمر والنهي، كالمستحل لجملة المعاصي بالفعل، بحيث يترك ما يترك
منها لعدم الداعية ، قال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ
ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَيْسَتِ
التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلَا
الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} (النساء: 17-18) .
ومن تفسير الفقهاء لمسألة استحلال المحرم بالمعنى الذي وضحناه ما أورده
الفقيه ابن حجر في كتابه (الإعلام بقواطع الإسلام) قال: ومن ذلك أن يستحل
محرمًا بالإجماع كالخمر واللواط ولو في مملوكه - وإن كان أبو حنيفة لا يرى الحد
به؛ لأن مأخذ الحرمة عنده غير مأخذ الحد - أو يحرم حلالاً بالإجماع كالنكاح ،
أو ينفي وجوب مجمع على وجوبه كركعة من الصلوات الخمس، أو يعتقد وجوب
ما ليس بواجب بالإجماع ، كصلاة سادسة يعتقد فرضيتها كفرضية الخمس؛
ليخرج وجوب معتقد الوتر ونحوه كصوم شوال ، هذا ما ذكره الرافعي.
وزاد النووي في الروضة: أن الصواب تقييده بما إذا جحد مجمعًا عليه يعلم
من دين الإسلام ضرورة سواء كان فيه نص أم لا، بخلاف ما لا يعلم كذلك بأن لم
يعرفه كل أحد من المسلمين فإن جحده لا يكون كُفرًا اهـ؛ وما زاده ظاهر،
وخرج بالمجمع عليه الضروري المجمع عليه غير الضروي كاستحقاق بنت الابن
السدس مع بنت الصلب ، وتحريم نكاح المتعة؛ فلا يكفر جاحدهما كما بينته في
شرح الإرشاد، ومع بيان أنه هل الكلام في جاحدهما جهلاً أو عنادًا ، ومع بيان
رد قول البلقيني: إن تحريم نكاح المتعة معلوم من الدين بالضرورة ، وأنه قيد
استحلال الدماء والأموال ، بما لم ينشأ عن تأويل ظني البطلان كتأويل البغاة،
وللضروري أمثلة كثيرة استوعبتها في الفتاوى ، ومن ذلك أيضا ما لو أجمع أهل
عصر على حادثة فإنكارها لا يكون كفرًا.
ومحل هذا كله في غير من قرب عهده بالإسلام ، أو نشأ ببادية بعيدة، وإِلا
عُرِّف الصواب فإن أنكر بعد ذلك كفر فيما يظهر؛ لأن إنكاره حينئذ فيه تضليل
للأمة.
وسيأتي عن الروضة عن القاضي عياض أن كل ما كان فيه تضليل الأمة
يكون كفرًا ، ثم ما ذكره الشيخان كالأصحاب في استحلال الخمر استبعده الإمام بأنا
لا نكفر من رد أصل الإجماع، ثم أول ما ذكروه بما إذا صدق المجمعين على أن
التحريم ثابت في الشرع ثم حلله فإنه يكون ردًّا للشرع. قال الرافعي: وهذا إن
صح فليجر مثله في سائر ما حصل الإجماع على افتراضه أو تحريمه فنفاه،
وأجاب عنه أبو القاسم الزنجاني بأن ملحظ التكفير ليس مخالفة الإجماع بل استباحة
ما علم تحريمه من الدين ضرورة) اهـ ما أردت نقله من الإعلام.
فقول الزنجاني: (إن ملحظ التكفير ليس مخالفة الإجماع بل استباحة ما علم
تحريمه من الدين ضرورة) معناه استباحته بالعمل ، بأن يفعله كما يفعل المباح بغير
تأثم ولا مبالاة ولا توبة ، وقول الإمام (أي: إمام الحرمين) قبله: إن المراد من
الاستحلال للمجمع على تحريمه مبني على تصديق المجمعين ، على أن التحريم
ثابت في الشرع وتعليله إياه بأنه يكون ردًّا للشرع، فهو صريح في أن المراد برده
عدم الإذعان بالفعل لا عدم الاعتقاد؛ إذ الاعتقاد التصديق وهو مصدق بأنه من
الشرع ، وإلا سقطت المسألة من أصلها.
وإنما اشترطوا فيها الإجماع وكونها معلومة من الدين بالضرورة لإسقاط
عذر الجهل - ولذلك استثنوا قريب العهد بالإسلام ومن نشأ بعيدًا عن المسلمين -
وعذر احتمال التأول، وهم لا يختلفون في كون رد أي مسألة من الشرع ، يعتقد
رادها أنها منه، كرد المجمع عليه المعلوم بالضرورة عند جماعة المسلمين؛ إذ مدار
الردة في هذا المقام على رد الشرع ، وعدم الإذعان له؛ أي: عدم التلبس بالإسلام.
فالقاعدة الأساسية في هذه المسألة أن الإسلام الذي تجري على صاحبه أحكام
المسلمين هو الإذعان والخضوع بالفعل لكل ما علم أن النبي صلى الله عليه وسلم
جاء به عن الله تعالى من أمر الدين، وأن رد بعضه كرده كله {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ
الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} (البقرة: 85) فإن كان الخضوع بالفعل تابعًا للإذعان
النفسي، والاعتقاد القطعي بصدق الرسول في دعوى الرسالة كان إسلامًا وإيمانًا
منجيًا في الآخرة لمن مات عليه، وإن كان في الظاهر دون الباطن كان نفاقًا
تجري على صاحبه أحكام المسلمين في الدنيا ما لم يأت بما ينافيه ويثبت خلافه ،
وأما الاعتقاد في الباطن دون الإذعان في الظاهر لمن تمكن من العمل بأن لم يمت
عقبه فلا يعتد به في الدينا ولا في الآخرة، فإن كفر إبليس لم يكن عن عدم اعتقاد،
بل عن حسد وعناد، وكذلك كفر فرعون موسى والملأ من قومه؛ إذ قال الله
تعالى فيهم في سياق الكلام عن الآيات التي أيد الله نبيه موسى عليه السلام
بها: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} (النمل: 14) وكذلك كان
كفر طغاة قريش المستكبرين بالنبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {فَإِنَّهُمْ لَا
يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (الأنعام: 33) وتقدم أن الإلمام
بمعصية ما لا يعد استحلالاً يوجب الخروج من الملة، لأنها إنما تقع من المذعن
بجهالة من غضب أو شهوة، ويتبعها الندم والتوبة.
علم من هذا أن قبول المسلم لجنسية ذات أحكام مخالفة لشريعة الإسلام
خروج من الإسلام؛ فإنه رد له، وتفضيل لشريعة الجنسية الجديدة على شريعته،
ويكفي في هذا أن يكون عالمَا بكون تلك الأحكام التي آثر غيرها عليها هي أحكام
الإسلام ، ولكن يقبل اعتذاره بالجهل إن لم تكن مجمعًا عليها معلومة من
الدين بالضرورة ، كبعض ما ذكر في السؤال من قتال المسلمين ، وبعض أحكام
الإرث وإباحة تعدد الزوجات بشرطها ، فلا يعامل معاملة المسلمين في نكاح ولا
إرث ولا يصلى عليه إذا مات.
ومن أدلة ذلك في القرآن قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا
بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن
يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا
أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ المُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً} (النساء: 60-
61) .
الطاغوت مصدر الطغيان ومثاره ، ويدخل فيه كل ما خالف ما أنزله الله ،
وما حكم به رسوله صلى الله عليه وسلم ، فإنه جعل مقابلاً له هنا في آيات أخرى
ومنه بعض أحكام القانون الفرنسي كإباحة الزنا والربا، دع ما يستلزمه اتباع؛
أي: جنسية سياسية غير إسلامية من قتال المسلمين وسلب بلادهم منهم ، ومما ورد
في تفسير الآية بالمأثور: إن سبب نزولها تحاكم بعض المنافقين إلى بعض
كهان الجاهلية، وقد سمى سبحانه ادعاء هؤلاء المنافقين للإيمان زعمًا، والزعم
مطية الكذب ، وقد بينا في تفسيرنا للأولى منهما اقتضاء الإيمان الصحيح للعمل،
وأن الاستفهام فيها للتعجيب من أمر هؤلاء ، الذين يزعمون الإيمان ويعملون ما
ينافيه، وأن الأستاذ الإمام سئل في أثناء تفسيرها في الجامع الأزهر عن
القوانين والمحاكم الأهلية فقال: تلك عقوبة عوقب بها المسلمون أن خرجوا عن
هداية قوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُول} (النساء: 59) فإذا كنا تركنا هذه الهداية للقيل والقال وآراء الرجال ، من قبل أن نبتلى بهذه
القوانين ومنفذيها، فأي فرق بين آراء فلان وآراء فلان وكلها آراء منها الموافق لنصوص الكتاب والسنة ومنها المخالف له؟ ونحن الآن مكرهون على التحاكم
إلى هذه القوانين ، فما كان منها يخالف حكم الله تعالى يقال فيه: - أي في أهله - {إِلَاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَان} (النحل: 106) وانظر فيما هو موكول إلينا إلى الآن ، كالأحكام الشخصية والعادات والمعاملات بين الوالدين والأولاد
والأوزاج والزوجات، فهل ترجع في شيء من ذلك إلى الله ورسوله؟
…
إلخ ما
قاله ، وقد وضحت المراد منه فيراجع في الجزء الخامس من التفسير.
وأقول: إن إكراه المصريين على ما يخالف الكتاب والسنة من القوانين قد
زال الآن بالاستقلال ، فإثم ما يبقى منه بعد انعقاد البرلمان المصري في أعناق
أعضائه، وأعناق الأمة في جملتها؛ إذ هي قادرة على إلزامهم إلغاء إباحة الزنا
والخمر وغير ذلك من المحرمات بالإجماع ، هذا وإن المحاكم الأهلية
وقوانينها خاصة بالأحكام المدنية والعقوبات التي تقل فيها النصوص القطعية
المعلومة من الدين بالضرورة ، ومن حكم له فيها بربا محرم فليس ملزمًا أخذه،
ومن حكم عليه به وأكره على أدائه فهو معذور، ولا يمس عقيدته ولا عرضه منه
شيء، والحدود الشرعية في العقوبات خاصة بالإمام الحق، والتعزيرات مبنية
على اجتهاد الحكم ، فأين حكم المحاكم الأهلية بالقوانين من قبول جنسية تهدم ما
في القرآن من أحكام النكاح والطلاق والإرث وغير ذلك؟ وهي اختيارية
لا اضطرارية ، ومن اختارها فقد فضلها على أحكام الله تعالى في كتابه ، وعلى
لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، وفضل أهلها الكافرين على المؤمنين بالفعل.
(ومنها) قوله تعالى: (4: 64) {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ
فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء: 65) قال أبو بكر الجصاص من أئمة الحنفية في تفسيرها من كتابه
(أحكام القرآن) ما نصه:
(وفي هذه الآية دلالة على أن من رد شيئًا من أوامر الله تعالى ، أو أمر
رسوله صلى الله عليه وسلم ، فهو خارج من الإسلام، سواء رده من جهة الشك فيه،
أو من جهة ترك القبول والامتناع من التسليم، وذلك يوجب صحة ما ذهب
إليه الصحابة في حكمهم بارتداد من امتنع من أداء الزكاة ، وقتلهم وسبي ذراريهم؛
لأن الله تعالى حكم بأن من لم يسلم للنبي صلى الله عليه وسلم قضاءه وحكمه فليس
من أهل الإيمان) اهـ.
وقد بينا في تفسيرنا لهذه الآية ما ملخصه: إن الإيمان الصحيح الحقيقي وهو
إيمان الإذعان النفسي المقابل لما يدعيه المنافقون ، لا يتحقق إلا بثلاث:
(1)
تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم فيما شجر؛ أي: اختلط فيه
الأمر مما يتخاصم فيه الناس.
(2)
الرضاء بحكمه وانشراح الصدر له بحيث لا يكون في القلب أدنى
حرج، أي: ضيق وانكماش مما قضى به.
(3)
التسليم والانقياد بالفعل ، ولا خلاف بين المسلمين في اشتراط هذه
الثلاث في كل ما ثبت مجيئه به صلى الله عليه وسلم من أمر الدين؛ إذ لا يعقل
اجتماع الإيمان الصحيح برسالته ، مع إيثار حكم غيره على الحكم الذي جاء به
عن الله تعالى، ولا مع كراهة حكمه والامتعاض منه، ولا مع رده وعدم التسليم له
بالفعل.
وجملة القول: إن المسلم الذي يقبل الانتظام في سلك جنسية يتبدل أحكامها
بأحكام القرآن، فهو ممن يتبدل الكفر بالإيمان فلا يعامل معاملة المسلمين، وإذا
وقع من أهل بلد أو قبيلة، وجب قتالهم عليه حتى يرجعوا ، والمعقول أن هذا لا يقع
من مسلم صحيح الإيمان بل لا يجوز عقلاً أن يصدر عنه، ذلك بأن الإيمان القطعي
بأن أحكام النكاح والطلاق ، والإرث وتحريم الربا والزنا المنصوصة في القرآن من
عند الله العليم الحكيم ، يقتضي تفضيلها على كل ما خالفها، والعلم بأن التزامها من
أسباب رضوان الله وثوابه، وترك شيء منها من أسباب عذابه وسخطه، يقتضي
الحرص على الاستمساك بها فعلاً لما أوجب سبحانه، وتركًا لما حرم،
ودليله: أن العلم بالمضار والمنافع يقتضي فعل النافع وترك الضار بسائق الفطرة،
ويعرف ذلك كل إنسان من نفسه بالوجدان الطبيعي ، ومن سائر الناس بالتجربة
المطردة في جملة المنافع والمضار. وما يشذ من الجزئيات فله أسباب لا تنقض
القاعدة التي بيناها مرارًا.
ويلتبس الأمر على كثير من الباحثين في بعض هذه الجزئيات ، فيحسبها
ناقضة لقاعدة اقتضاء العلم القطعي أو الراجح للعمل، وجل هذا اللبس يرجع إلى
خفاء وجوه الترجيح الطبيعي ، فيما يتعارض فيه العلم القطعي والظن والوجدان
والفكر، مثال ذلك: ترك المريض الدواء النافع وفعله لضده كتناول الغذاء الضار
من أمور الدنيا، وتركه لبعض الواجبات أو اجتراحه لبعض السيئات من أمور
الدين، ومن محص المسألة يظهر له أن تارك الدواء لاستبشاع طعمه ، قاطع
بضرره المتعلق بالذوق وهو من الحسيات اليقينية ، وغير قاطع بنفعه بل هو إما
ظان وإما شاك فيه، وكذلك مرتكب المعصية وإن كان تحريمها قطعيًّا كالزنا ، فإن
الشك يعرض له في الوعيد عليه من باب الرجاء في العفو والمغفرة بفضل
الله تعالى ، أو بالتكفير عنه بالأعمال الصالحة، ولكن لذة الشهوة التي تعرض له لا
شك فيها، فيرجح العلم القطعي بالمنفعة وهي اللذة على الظن أو الشك في العقاب،
وإنما يقع هذا الترجيح في الكبائر لمن كان ضعيف الإيمان، وهو ما كان عقيدة لم
ترتق بها التربية العملية إلى الوجدان، وإنما الإيمان الكامل المقتضي للعمل في
أفراد الجزئيات ما كان فيه الاعتقاد الصحيح مصاحبًا للشعور الوجداني بالخوف
والرجاء في كل منها، وقد يتخلف في بعض دون بعض، فإن من يعيش بين قوم
يجاهرون بمعصية لا ينفر وجدانه منها ، كمن يعيش بين قوم لا يفعلونها إلا ما قد
يقع من بعضهم وراء الأستار.
فهذا ملخص ما يحتج به على استلزام الإيمان الصحيح للعمل بجملة ما ثبت
عند المؤمن أنه من الشرع، والأدلة الشرعية عليه كثيرة، وبها جعل جمهور
السلف العمل ركنًا من أركان الإيمان - وقد اختلف العلماء في معنى الحديث المتفق
عليه: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) إلخ بناء على اختلافهم في تعريف
الإيمان ، فذهب بعضهم إلى أن المنفي هو الإيمان الكامل وهو الوجداني الذي
يقتضي العمل فعلاً وتركًا - وقيل: إن الإيمان يفارق الزاني عند الزنا بحيث لو مات
في أثنائه مات كافرًا. وحقق الغزالي أنه لا يكون عند تلبسه بالزنا مؤمنًا بأنه
يستلزم سخط الله وعذابه ، وهو يصدق بنسيان الوعيد عند ذلك لغلبة الشهوة
التي يغيب صاحبها عن إدراك الحسيات أحيانًا. كما قال الشاعر:
قالت وأبثثتها وجدي فبحت به
…
قد كنت عندي تحب الستر فاستتر
ألست تبصر من حولي فقلت لها
…
غطى هواك وما ألقى على بصري
ويصدق بالشك في وقوع الوعيد بما بيناه آنفًا من رجاء المغفرة أو التكفير ،
ومثل هذا الشك والتأول لا يمكن أن يجري في جملة المأمور به والمنهي عنه ،
ولا في ترك الأحكام الكثيرة التي لا يغلب صاحبها عليها ثورة شهوة، ولا سورة
غضب كأحكام الإرث والنكاح والطلاق وثبوت النسب ونفيه - بل هي مما يتفق
الدليل العقلي والطبعي مع الدليل الشرعي على أن من رغب عنها إلى غيرها من
أحكام البشر لا يمكن أن يكون مؤمنًا، وعندي أن تركها بمثل اختيار الجنسية
المسؤول عنها ليس إنشاء للكفر وابتداء للردة ، بل هو أثر له ناشئ عنه، وإنما
أطلت في هذه المسألة التي سبق لي توضيحها مرارًا ، لما بلغني من توقف بعض
علماء تونس في الإفتاء بكون التجنس بالجنسية الفرنسية ردة.
جنسية الإسلام وإصلاحه للبشر
ويحسن ختم هذه الفتوى بالتذكير بما كنا نوهنا به مرارًا من الركن الأعظم
لإصلاح الإسلام لشؤون البشر ، وتمهيد طريق السعادة لهم ، وبيان ذلك بالإيجاز:
أن مثارات شقاء البشر محصورة في اختلافهم في مقومات الاجتماع ومشخصاته
من العقائد واللغات والأوطان والأحكام والحكومات والأنساب؛ أي: العناصر
والأجناس كما يقول أهل هذا العصر، والأصناف كما يعبر علماء المنطق
والطبقات والتقاليد والعادات ، وحسبك من هذا الأخير أن المختلفين في الأزياء من
أبناء الوطن الواحد المتفقين فيما عداه من روابط الاجتماع يتفاضلون فيه حتى يحتقر
بعضهم بعضًا
…
جاء دين التوحيد والسلام (الإسلام) يرشد الناس كافة إلى المخرج من كل
نوع من أنواع هذا الاختلاف المثيرة لشقائهم ، بالتعدي والتباغض بجمعهم على
دين واحد ، موافق للفطرة البشرية مُرَقٍّ لها بالجمع بين مصالح الروح والجسد
(وهو الجنسية الدينية) ، ولغة واحدة يتخاطبون بها ، ويتلقون معارفهم وآدابهم بها
(وهي الجنسية الاجتماعية الأدبية) وحكم واحد يساوي بينهم على اختلاف مللهم
ونحلهم (وهو الجنسية السياسية) ؛ فهو يزيل من بينهم التفاضل والتعالي بالأنساب
والامتياز بالطبقات، والتعادي باختلاف الأوطان والعادات، وأودع في تعاليمه
وأحكامه جواذب تجذبهم إلى ذلك باختيارهم بالتدريج الذي هو سنة الله في كل
تغيير يعرض لجماعات البشر {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم} (الرعد: 11) .
وحسبنا هنا من الحجة على ذلك ما هو معلوم بالتواتر من أثره في نشأته
الأولى في خير القرون؛ إذ انتشر مع لغته وآدابه وسياسته وأحكامه في العالم
القديم ، من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق، وطالما شرحنا أسباب ذلك من
آيات الكتاب والسنة وعمل الخلفاء وعلوم الأئمة.
وقد قلدته أمم الحضارة الكبرى في هذا العصر، فكل منها تبذل القناطر
المقنطرة من الذهب؛ لنشر دينها ولغتها ، وتشريعها وآدابها وأحكامها في جميع
أقطار الأرض ، مؤيدة ذلك بآلات القهر والتدمير البرية والبحرية والجوية، ولم
يبلغ تأثيرها في عدة قرون مع سهولة المواصلات ، وتقارب الأقطار ودقة النظام
ما بلغه الإسلام في أقل من قرن واحد مع فقد هذه الوسائل كلها - ولو وضع نظام
للإمامة الكبرى (الخلافة) يكفل أصولها وأحكامها الشرعية؛ لعم الإسلام ولغته
العالم كله ، ولتحققت به أمنية الحكماء فيما ينشدونه من المدنية الفاضلة قديمًا وحديثًا.
أهمل المسلمون هذه الفريضة الكافلة لجميع الفرائض والفضائل فما زالوا
يرجعون القهقرى، حتى بلغ بهم الخزي ما نسمع ونرى، وصار مستعبدوهم
ومستذلوهم يطمعون في تركهم ، لما بقي من شريعتهم اختيارًا في الوقت الذي آن
لهم فيه أن يعرفوا أنفسهم ، ويعرفوا قيمة دينهم وشرعهم ، وينهضوا به؛ لإصلاح
أنفسهم ، وتلافي سقوط حضارة العصر بإبادة بعض أهلها لبعض {فَاعْتَبِرُوا
يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} (الحشر: 2) .
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
خطاب عام فيما يجب على المسلمين
لبيت الله الحرام
بسم الله الرحمن الرحيم
{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وَضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ
بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ
سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ} (آل عمران: 96-97) ، {جَعَلَ
اللَّهُ الكَعْبَةَ البَيْتَ الحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ} (المائدة: 97) ، {وَإِذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً
لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (البقرة: 125) ، {إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً العَاكِفُ فِيهِ
وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الحج: 25) .
أخبر الله تعالى عباده في آخر كتاب أنزله وكفل حفظه ـ وهو القرآن ـ على
لسان آخر نبي أرسله وأكمل به دينه العام، وهو محمد عليه أفضل الصلاة
والسلام، أن هذا المعبد المعروف بمكة أم القرى من بلاد العرب باسم الكعبة،
والبيت الحرام، والمسجد الحرام، هو أول بيت وضعه تعالى للناس كافة، وجعله
قيامًا، ومثابةً، وأمنًا، ومسجدًا، للناس كافة، سواء العاكف فيه من المقيمين حوله،
والبادي ممن يؤمونه من مؤمني سائر الأقطار لعبادة الله وحده، فمن دخله كان
آمنًا بتأمين الله تعالى على نفسه وماله وعرضه وشرفه، وحريته في قوله وفعله،
لا مسيطر عليه غير دين الله وشرعه - وجعل حجه ركنًا من أركان الإسلام،
وجعل الصد عنه وعن سبيله من شأن الكفار، وجعل إرادة الظلم والإلحاد إليه فيه،
كاقتراف الظلم في غيره، وجعل السيئات فيه مضاعفة العقاب، كما جعل الحسنات
مضاعفة الثواب، بل حرم سبحانه على لسان إبراهيم خليله ومحمد خاتم رسله
(عليهما الصلاة والسلام وعلى آلهما) الاعتداء في ذلك الحرم المحيط ببيته على كل
ذي حياة حيوانية أو نباتية، فلا يُعْضَد شجره ولا يُخْتَلى خلاه [1] ولا يحل فيه
الصيد ولا ترويع الحيوان، ولا يقتل فيه إلا الفواسق الضارة التي تقتل في الحل،
والحرم كالحيات والعقارب والفيران.
وقد صح في الأحاديث النبوية أنه يحرم من المدينة مثل ما يحرم من مكة،
وأن الإسلام يأرز بين المسجدين ويأرز إلى الحجاز كما تأرز الحية إلى جحرها،
أي: ينكمش وينقبض فيه ويعود إليه، وأنه لا يجوز أن يكون هنالك ولا فيما حوله
دينان، كما جاء في آخر ما أوصى به عليه الصلاة والسلام.
وقد أجمع المسلمون على أن حج هذا البيت مفروض على كل من استطاع
إليه سبيلاً، وأن الأمة الإسلامية مطالبة به في جملتها، لا بد أن يؤديه في كل عام
بعض المستطيعين من أفرادها، وهو الركن الروحي البدني المالي الاجتماعي
السياسي من أركان دينها، فهي مطالبة بإقامة هذا الركن مع كل ما تتوقف عليه
إقامته، وكل ما أوجبه الله تعالى من حرمته وتأمينه، وتحقيق مقاصد الدين من ذلك.
ولا نطيل في تفصيل هذا، فهو مما لا يجهله مسلم في جملته، وإنما أتينا بهذه
المقدمة تمهيدًا لما نذكر بعدها من الخطر الحديث على هذا الركن الإسلامي ، وعلى
حرم الله وحرم رسوله، وعلى كل ما شرع الله تعالى هنالك من عبادة ونسك
وإجلال، وتعظيم للشعائر والمشاعر العظام، التي تجدد في قلوب الحجاج
والمعتمرين روح الإسلام.
ومن المسلمات التي لا نزاع فيها أن ما أوجبه الله تعالى وشرعه لهذه البلاد ،
وما أوجبه فيها مما أجملنا التذكير به ، لا يتم ولا يُضمَن في هذا الزمان إلا بجعل
هذه البلاد المقدسة مصونة من التعدي عليها، ومن جعلها عرضة للغزو
والقتال ـ ومحفوظة من أي تدخل أو نفوذ لغير المسلمين فيها، ولا سيما الدول
الاستعمارية القوية، وبإقامة حكومة شرعية لها تكون قادرة على حفظ الأمن والشرع،
وعاجزة عن الاستبداد والظلم، بمراقبة العالم الإسلامي لها، ومساعدته إياها بالرجال
والمال على الوجه الذي نقترحه بعد، فسكان الحجاز غير قادرين على ذلك حتمًا؛
لفقرهم وفقدهم المال والعلم اللذين يتوقف عليهما ذلك.
أيها المسلمون:
إنه لا يخفى على شعب من شعوبكم في مشارق الأرض ومغاربها أن الدولة
العثمانية كانت كافلة للحجاز، وممدة لحكومته وأهله بالرجال والمال، وكانت دولة
حربية مرهوبة، وذات حقوق دولية مرعية، ومعترف لها بمنصب الخلافة
الإسلامية، وهي مع هذا كله لم تؤد لهذا المكان، كل ما يجب له من الأمن
والعمران، ولم ترقِّ فيه العلم والعرفان، وإنما كان مصونًا بها من أن يهاجم بحرب
أو يمتد إليه نفوذ غير إسلامي، وقد زال بزوالها كل من الأمرين.
ذلك بأنها كانت قد نصبت في مكة أميرًا اسمه الشريف (حسين بن علي)
وأن هذا الأمير خرج عليها وحاربها في الحرب الأخيرة هو ومن أجاب دعوته إلى
قتالها، ووالى الدولة البريطانية وأحلافها، وأذاع بالدعاية العامة أنه يريد بذلك إنقاذ
البلاد العربية واستقلالها، وكانت دعواه في نفسها معقولة، ثم تبين أنها غير
صحيحة، فقد ظهر أنه استبد بالأمر، واتجر بالأمة وسمى نفسه (ملك البلاد
العربية) بغير مبايعة ولا رضا من أهل الحل والعقد في جزيرة العرب وهم الأئمة
والأمراء والعلماء في بلادها المستقلة كاليمن وتهامة ونجد، ولا في غيرها بالأولى،
بل جعل هؤلاء أعداء له ، وهم يحيطون بالحجاز من كل جانب كما نبينه لكم
بالوثائق الرسمية، ورفض ما دعاه إليه أهل البصيرة من عقد روابط الحلف ، وشد
أواخي الإخاء بينهم ، ليكونوا كلهم أعوانًا على حفظ الحرمين الشريفين، وسياجهما
من جزيرة العرب أن ينالها عدوان أجنبي، أو يتسرب إليها نفوذ غير إسلامي،
عملاً بوصية النبي صلى الله عليه وسلم قبيل لقاء ربه في الرفيق الأعلى.
إن هذا الرجل لم يقدم على ادعاء التملك على الأمة العربية بأسرها ، ويعادي
أمراء الجزيرة المقدسة على ما هو عليه من الضعف، ويعقد بانفراده مع الأجانب
المعاهدات السياسية والحربية باسم العرب ، فيعطيهم من الحقوق السياسية
والعسكرية ما شاء حتى في الحرمين الشريفين، ومن رقبة البلاد بالاحتلال ما شاء؛
لم يفعل هذا كله إلا اعتمادًا على قوة هؤلاء الأجانب، فقد تواطأ واتفق معهم على
اقتسام السلطان ، والنفوذ بينه وبينهم في مهد الإسلام من غير مشاورة أحد من
أصحاب الزعامة والسلطان كالأمراء والأئمة، ولا من أهل العلم والرأي في هذه
الأمة.
فهو بهذا وذاك قد أدخل النفوذ الأجنبي غير الإسلامي في الحجاز، وجعله
ملكًا سياسيًّا حربيًّا معرضًا للغزو والقتال، ولم يقف عند حد هاتين الجنايتين
الخارجيتين، بل استبد وظلم، وألحد في الحرم، كما نثبت ذلك بالحجج الآتية،
ولا غرض لنا إلَاّ بيان الواقع؛ ليعلم أمراء العرب وزعماؤهم. وعلماء المسلمين
وكبراؤهم ، ما يجب عليهم من تغيير المنكر ، ومنع الخطر المنتظر ، ولو بإقناع
هذا الرجل بما يجب ، وإقناع الحكومة الإنكليزية بترك معبد المسلمين الأكبر وقبلتهم
لهم ، وعدم تصديها لها بحيل المعاهدات وغيرها ، ونرى أن هذا خير لنا ولها من
ضم العداوة الدينية إلى العداوة السياسية ، وهذا ما نريد بيانه من الوثائق وقد سبق
نشر بعضها.
***
وثائق الجناية الأولى
وضع الحجاز تحت النفوذ والسلطان الأجنبي
الأولى مقررات النهضة:
من المعلوم المشهور أن هذا الرجل يسمي خروجه وثورته التي هي افتيات
على العرب والإسلام (بالنهضة) ، ومن أعياده الرسمية (عيد النهضة) ومن
أوسمته الملكية (وسام النهضة) ، ويسمي المواد التي عرضها على الدولة البريطانية
والتزمها وقيد نفسه وأمته وبلادها بها بغير حق ولا أهلية (مقررات النهضة)
و (أساس النهضة) ، وقد كان يكتم هذه المقررات ويضن بها على كل أحد حتى أولاده
قواد جيش ثورته - حتى إذا ما فثئت الحرب ، وجاء وقت اقتسام الغنائم ، ومنها
حصته من السلطان على البلاد العربية كلها في ظل الحماية البريطانية، أنكرت
عليه حليفته بريطانية العظمى ما يدعيه لنفسه منها - فحينئذ - سمح بإعطاء ولده
الأمير (فيصل) صورة (مقررات النهضة) ؛ ليناضل له بها، وقد اقتضت الحال
نشره إياها باسمه في جريدة المفيد التي كانت تصدر في دمشق على عهد إمارته لها،
ونقلتها عنها صحف كثيرة في مصر والهند وغيرها، وهذا نصها:
(1)
تتعهد بريطانيا العظمى بتشكيل حكومة عربية مستقلة بكل معاني
الاستقلال في داخليتها وخارجيتها ، وتكون حدودها شرقًا من بحر خليج فارس، ومن
الغرب بحر القلزم والحدود المصرية والبحر الأبيض، وشمالاً حدود ولاية حلب
والموصل الشمالية إلى نهر الفرات ، ومجتمعة مع الدجلة إلى مصبها في بحر فارس
ما عدا مستعمرة عدن فإنها خارجة عن هذه الحدود. وتتعهد هذه الحكومة برعاية
المعاهدات والمقاولات التي أجرتها بريطانيا العظمى مع أي شخص كان من العرب
في داخل هذه الحدود ، بأنها تحل في محلها في رعاية وصيانة تلك الحقوق وتلك
الاتفاقيات مع أربابها أميرًا كان أو من الأفراد.
(2)
تتعهد بريطانيا العظمى بالمحافظة على هذه الحكومة وصيانتها
من أي مداخلة ، بأي صورة كانت في داخليتها، وسلامة حدودها البرية والبحرية من
أي تعد بأي شكل يكون ، حتى ولو وقع قيام داخلي من دسائس الأعداء أو من حسد
بعض الأمراء فيه تساعد الحكومة المذكورة مادة ومعنى على دفع ذلك القيام لحين
اندفاعه ، وهذه المساعدة في القيامات أو الثورات الداخلية تكون مدتها محدودة؛ أي:
لحين يتم للحكومة العربية المذكورة تشكيلاتها المادية [2] .
(3)
تكون البصرة تحت إشغال العظمة البريطانية لحينما يتم للحكومة
الجديدة المذكورة تشكيلاتها المادية ، ويعين من جانب تلك العظمة مبلغ من النقود
يراعى فيه حالة احتياج الحكومة العربية ، التي هي حكمها قاصرة في حضن
بريطانيا ، وتلك المبالغ تكون في مقابلة ذلك الإشغال.
(4)
تتعهد بريطانيا العظمى بالقيام بكل ما تحتاجه ربيبتها الحكومة العربية
من الأسلحة ومهماتها والذخائر والنقود مدة الحرب.
(5)
تتعهد بريطانيا العظمى بقطع الخط من مرسين أو ما هو مناسب من
النقط في تلك المنطقة؛ لتخفيف وطأة الحرب عن البلاد؛ لعدم استعدادها اهـ.
فملخص هذه المقررات: أن الدولة الإنكليزية هي صاحبة البلاد العربية ،
وأنها بما لها من حق التصرف فيها تؤسس لواضعها (أمير مكة) حمايتها في داخلها
وخارجها، حتى لو حصل قيام داخلي على ملكها في حرم الله تعالى أو حرم رسوله
صلى الله عليه وسلم كان على الإنكليز أن يساعدوه مادة ومعنًى على قمعه، ويدخل
في هذا إدخال جيوشها في الحرمين الشريفين؛ لأجل حفظ ملكه فيهما.
فما تقولون أيها المسلمون فيمن يعطي هذه الحقوق لدولة غير مسلمة في
الحرمين الشريفين وسياجهما؟ هل هو مشروع موافق لتلك الآيات القرآنية،
والأحاديث النبوية، والوصية المحمدية، والأحكام الإسلامية، التي ذكرناكم بها في
مقدمة هذا الخطاب؟ أم هو جناية على الحرمين وسياجهما ومشاعرهما ، وعلى
الملة الإسلامية والأمة العربية فيجب عليكم السعي لإزالتها؟
إن الدولة البريطانية قد سجلت على هذا الرجل كل ما اعترف لها به من
الحقوق على أمته وبلادها في هذه المقررات وغيرها، ولكنها لم تجبه إلى كل ما
طلبه لنفسه منها، بل استثنت سورية الشمالية من المملكة العربية لأجل حليفتها
فرنسة، وحملته على الاعتراف بحقوق لها في سائر العراق، فلم تقنع بولاية البصرة
التي سمح لها من تلقاء نفسه.
***
الوثيقة الثانية
كونه موظفًا بريطانيًّا
إن هذا الرجل هو الذي انفرد بإعطاء الدولة الإنكليزية الحق بأن تؤسس له
دولة عربية تكون تحت حمايتها، وفي حكم القاصر في حضانتها، وهو الذي اختار
لنفسه أن يكون من جملة رؤساء الممالك المنضوية إلى كنف إمبراطوريتها، وكم
في هذه الإمبراطورية من ممالك تسمى مستقلة، وكم فيها من أمراء وملوك
وسلاطين ، فلا غرو ولا عجب منه إذا صرح ونشر في جريدته (القبلة) ما
يصرح بأنه عامل موظف عندها ، وأنه هو وأولاده كالبلاد رهن تصرفها ، ونكتفي
بشاهدين على ذلك من جريدته القبلة:
(الشاهد الأول) :
لما علم هذا الرجل أن الحكومة البريطانية قررت عرض مطالبه على مؤتمر
الصلح ، وإعطائه ما يقرره المجلس ، أرسل كتابًا منه إلى نائب ملكها بمصر
بتاريخ 20 ذي القعدة 1336 نشره بعد ذلك مرارًا في جريدة القبلة ، وقد جاء فيه ما
نصه:
(فإن كان ولابد (؟) من التعديل فلا لي (؟) سوى الاعتزال والانسحاب ،
ولا أشتبه في مجد بريطانيا أن يتلقى هذا منا إلا أنه أمر (؟) يتعلق بالحياة، لا
لقصد عرضي، ولا لفكر غرضي، وإنها لا ترتاب في أني وأولادي أصدقاؤها
الذين لا تغيرهم الطوارئ والأهواء، ثم تعينوا (؟) البلاد التي تستحسن إقامتنا
فيها بالسفر إليها في أول فرصة) .
(وإن رأت ذلك ولكن مشاكل الحرب الحاضرة تقتضي بتأجيله إلى ختامها،
فحقوق الوفاء والجميل يفرض علينا الثبات أمام ما سيتضاعف علينا من التهمات
ونحوه من العموم ، مما لا مقاومة لدينا أمامها إلا حُسْنَ النية، فالأمر إليها) .
(أما عطف الأمر وتعليقه بمؤتمر الصلح فالجواب عليه من الآن بأنه لا
علاقة لنا به ، ولا مناسبة بيننا وإياه حتى ننتظر منه سلبًا أو إيجابًا، ولو قرر
المؤتمر المذكور إضعاف مقرراتنا ، وكان ذلك من غير وساطتكم وقبلناها فنكن
(؟) من المطرودين من رحمة الباري جل شأنه الرقيب على قولي هذا) اهـ.
نقلنا هذا بحروفه حتى أغلاطه اللفظية عن العدد 391 من جريدة القبلة الذي
صدر بمكة المكرمة في 23 رمضان سنة 1338 ، وهو نص في جعل هذا الرجل
إخلاصه في التابعية البريطانية تعبدًا ، وأنه يقبل من الدولة الإنكليزية نفيه مع
أسرته من وطنه ، ولا يقبل من سائر الدول إضعاف مقررات استقلال الحماية
لمصلحة الأمة ، بل يعده كالكفر بالله والطرد من رحمته! ! !
(الشاهد الثاني) :
إنه قد استقال في هذا الكتاب من منصبه (ملك الحجاز) لدى الدولة
البريطانية استقالةً معلقةً ، ويظهر أنه قد رفع استقالته إلى الحكومة البريطانية بلندن
مباشرةً بعد الاستقالة الضمنية بهذا الكتاب كما يفهم من نص البرقية الآتية التي
أرسلها إلى مدير جريدة التيمس الإنكليزية يتوسل بها إلى قبول استقالته التي
تكررت ، وهذا نصها منقولاً من العدد 553 من جريدة القبلة:
المدير العمومي لصحيفة التيمس
(اطلعت على عددكم المشتمل الرد والقدح باتحاد العرب والتزامكم أحد
أمرائهم [3] ولزيادة إقناع حكومة جلالة الملك وإيضاح الحقيقة لعموم الشعب النجيب
البريطاني أكرر بهذا طلبي بواسطتكم من حكومة جلالته تأكيد تعيين الأمير المذكور
أو من تراه ليستلم البلاد فإن غايتي الراحة العمومية وخدمتها كما يعلم من أساسات
قيامي وشرائطه يؤيده طلبي هذا المثبت للحقيقة من سائر وجهاتها) .
وهذا نص صريح قطعي في اعتراف الملك حسين بأنه تابع للحكومة
الإنكليزية وخادم لها ، وبأنها هي صاحبة الحق في عزله وتولية من تشاء على
الحجاز وغيره من بلاد العرب، وبأن هذا من (أساسات قيامه وشرائطه) يعني ما
يسميه مقررات النهضة، ولو لم يكن له إلا هذه الخزية لما احتيج إلى حجة غيرها
على جعل الحرمين الشريفين تحت السيادة البريطانية ، ومن ضمن مستعمرات
التاج البريطاني، وكفى بذلك عداوة وإهانة للإسلام والمسلمين كافة، وإضاعة
لاستقلال العرب خاصة، توجب على مجموعهم التعاون على إزالة هذا المنكر
الأكبر والخطر الأعظم، فإن لم يفعلوا كانوا كلهم عصاة لله تعالى هادمين لأركان
دينه ، ومحقرين لما أوجب عليهم من حفظ شعائره ومشاعره.
***
الوثيقة الثالثة
المعاهدة الجديدة:
خاب أمل هذا الرجل في الإنكليز ، فلم يجعلوه ملكًا على جميع البلاد العربية
بقوتهم وسلطانهم كما اقترح عليهم في (مقررات النهضة) والحجاز وحده لا يشبع
مطامعه، وليس من مصلحة الإنكليز أن يقاتلوا أمراء جزيرة العرب لأجل
إخضاعهم له ، وتحقيق جعله ملكًا عليهم ، ولا أن يجعلوه حاكمًا من قلبهم على
العراق وفلسطين، لأنه على خضوعه لهم ليس عنده لين ولده فيصل ومرونته،
ولا فرق ولده عبد الله واستسلامه، وقد جعلوا الأول ملكًا على العراق؛ ليروض
لهم صعاب الشيعة الجامحة بشهرة نسبه وخلابة لسانه، ويسلس لهم قيادة رؤساء
الجند وزعماء الشعب ، بدماثة نفسه وجود بنانه ، وجعلوا الثاني أميرًا على شرق
الأردن؛ ليكف عن فلسطين عادية قبائل العرب ، ويمكن لهم السلطان في هذه
المنطقة؛ فيؤسسوا فيها حظيرة الطيارات التي هي العمدة الأخيرة لهم في تذليل
جزيرة العرب وأمثالها ، بدون نفقة كبيرة ولا سفك دماء من جندهم ـ ويمهدوا
بنفوذه في البدو طرق السيارات والدبابات في قلب البلاد العربية؛ تمهيدًا لما
سيشرعون به من مد سكة الحديد العسكرية الحربية بين فلسطين والعراق ليتصل
البحر الأحمر بخليج فارس، ولقد صدق عليه وعلى أخيه ظن وزير المستعمرات
البريطانية، فيما ضمنه لحكومته وأمته من تقليل نفقات الاستيلاء على هذه البلاد
العربية، ولكن أباهما لا يرضيه إلا أن يكون هو ملك البلاد العربية كلها كما لقب
نفسه، فهو ما زال يلح ويلحف في مطالبة الحكومة البريطانية بإنجاز وعدها له على
ما فيه، وما زالت تعرض عليه ما لا يرضيه، حتى جاءه الدكتور ناجي الأصيل
مندوبه لديها في شهر رمضان الماضي (سنة 1341) بالمعاهدة الجديدة فرضي بها ،
وأعلنها بمكة المكرمة في عيد الفطر ، وأمر بأن يكون يوم إعلانها عيدًا سياسيًّا
للأمة العربية بأسرها، وأمضاها بالتوقيع الابتدائي مع طلب تعديل جزئي غير
جوهري في بعض موادها غير الأساسية.
وإننا نذكر هنا أهم مقاصدها السياسية ، المنافية لمصلحة العرب والإسلام
المؤكدة لما تقدم من جعله الحجاز تحت سيادتها وحمايتها بمنتهى الإيجاز معتمدين
على ترجمة ما نشرته حكومة فلسطين الإنكليزية من الخلاصة الرسمية لها، وهي:
أهم غوائل المعاهدة الحجازية البريطانية:
(1)
(تنص المادة الأولى على منع استعمال بلاد كل من الحكومتين قاعدة
لأعمال موجهة ضد الحكومة الأخرى) هذا نص الخلاصة الرسمي ، وفيه الغنم
للإنكليز، والغرم على العرب وغيرهم من المسلمين، فهي تسلب أهل البلاد
وغيرهم من حجاج الآفاق حرية التعاون والتشاور هنالك في أي مصلحة لهم في
دينهم ودنياهم ، تعدها الدولة البريطانية (ضدها) وإن كانت خاصة بمصالح
المسلمين الدينية؛ كاضطهادها إياهم أو ظلمهم في أمر يتعلق بدينهم كالحج نفسه،
وما زال المستعمرون للبلاد الإسلامية يخافون أن يستيقظ المسلمون من رقادهم
الاجتماعي والسياسي ، ويتعاونوا على مصالحهم الإسلامية المشتركة في هذا المجمع
العام، عند بيت الله الحرام، فأعطى الملك حسين كبراهن المسلطة على زهاء مائة
مليون مسلم مأربها، وليس لأهل الحجاز ولا لغيرهم من العرب أو المسلمين ولا
للملك حسين أدنى فائدة في مقابلة هذه الغائلة، فإن الحكومة البريطانية لا تستطيع
أن تمنع أهل بلادها مثل هذه الحرية ، الذي يتعهد ملك الحجاز بمنعها منه؛ إذ يرى
أنه مالك لرقاب أهله ونواصي كل من لا حامي له من دول الأجانب ممن يحج بيت
الله فيه، فإن الحرية في بلاد الإنكليز أقوى من كل معاهدة تعقدها أي حكومة فيها،
ولكن ملك الحجاز يظن أن حكومة الإنكليز تستطيع أن تعمل في لندن وليفربول كل
ما يستطيع هو أن يفعله في أهل مكة وجدة المستضعفين المستعبدين.
على أن الإنكليز أبرع خلق الله في التفصي من قيود المعاهدات التي يعقدونها
مع الدول الكبرى بالتاويل كما قال أعظم ساسة أوربا في عصره: البرنس (بسمارك)
فكيف يبالون بضعيف رضي لنفسه ولقومه سيادتهم عليهم؟ فإذا فرضنا أن بعض
الإنكليز في بلادهم ، أو بعض رعاياهم من مسلمي الهند قاموا بعمل ضد حكومة
الحجاز ، ولم تمنعهم حكومتهم، فهل يستطيع ملك الحجاز أن يثبت ذلك ويكره
الحكومة الإنكليزية على منعهم؟ لا، لا، لا.
(2)
من قضايا المادة الثانية تعهد ملك الإنكليز بتعضيد استقلال البلاد
العربية التي اعترف باستقلالها، بالمعنى الذي لا ينافي الانتداب ، ولا الحماية بدليل
كون فلسطين والعراق منها، وهذا التعهد يعطيه حق التدخل في شؤون هذه البلاد
الداخلية باسم التعضيد ومنها الحجاز واليمن ونجد، كما جعلت حكومته وحكومة
فرنسا لأنفسهما حقًّا في عزل ملك اليونان ، بحجة أنهما وعدتا بتعضيد استقلالها، وأن
أعمال ذلك الملك تنافي الاستقلال.
(3)
تتضمن هذه المادة إقرار الانتداب على العراق وعلى فلسطين أيضًا،
وعبر عن هذا فيها بأن ملك الحجاز (يعترف بالمركز الخاص الذي لملك الإنكليز
فيهما) وما هو إلا الانتداب ولوازمه، ومنه الاعتراف بعهد بلفور في جعل هذه
البلاد وطنًا لليهود، وتتضمن فوق هذا تعهد ملك الحجاز ببذل غاية جهده في
التعاون مع ملك الإنكليز ، على القيام بتعهداته في البلاد العربية (ومنها عهد بلفور
والاتفاق مع فرنسة على سورية) .
(4)
في المادة الخامسة (يتعهد صاحب الجلالة البريطانية بأن يصد بجميع
الوسائل السلمية والممكنة أي اعتداء ، يقع على بلاد جلالته الهاشمية ضمن الحدود
التي تقرر نهائيًّا) وهذا نص صريح بإعطاء الإنكليز حق حماية الحجاز ، ولهذا
صرح الملك حسين بأن هذه المعاهدة مبنية على أساس مقررات النهضة ، وسيأتي
نص عبارته في هذا.
(5)
تنص المادة السادسة على تعيين وكلاء سياسيين ، وقناصل للإنكليز
في الحجاج ، وفي البلاد البريطانية للحجاز ـ والحجاز في غنى عن هذا التدخل
الأجنبي السياسي بما سيجيء بعد.
(6)
يعترف ملك الحجاز في المادة السابعة للإنكليز بحق الحجر الصحي
على حجاج الشرق والجنوب، ويعترف له ملك الإنكليز بالتدابير المتممة لذلك في
ثغور الحجاز، وفي كل من الأمرين سيادة لملك الإنكليز على الحجاز ، وتحكم في
الحجاز، فإن القانون الدولي يعطي لكل دولة الحق بأن تحجر على الموبوئين ،
الذين يريدون دخول بلادها، وملك الحجاز أعطى حقه هذا للإنكليز ، واستمد من
ملكهم حق الأعمال المتممة له في بلاده هو؛ أي: الحجاز ، ولم يسمح بمثل الحق
للحكومة المصرية الإسلامية، وما ذلك إلا أنه يعد نفسه تابعًا للدولة البريطانية كما تقدم
في الوثائق السابقة.
(7)
يتعهد ملك الحجاز في المادة الثامنة بأن لا يتدخل في التدابير التي
يتخذها ملك الحجاز للاعتناء بالحجاج، ويتعهد ملك الحجاز بتعضيد المساعي التي
يبذلها مسلمو الرعايا البريطانيين؛ لمساعدة الحجاج في الحجاز، فالأول مبني على
الاعتراف بسيادة ملك الإنكليز على الحجاز؛ إذ لا معنى لتعهده بعدم التدخل في
أمر الاعتناء بالحجاج ، إلا أن هذا وأمثاله من حقه وقد أباحه لملك الحجاز،
والثاني مما أنكر ملك الحجاز مثله على الحكومة المصرية؛ إذ أرسلت مع ركب
الحج المصري بعثة طبية ، فلم يقبلها محتجًّا بأن قبولها ينافي الاستقلال ، أليس معنى
هذا أن استقلاله واقع في ضمن دائرة الإمبراطورية البريطانية التي تضم
كثيرًا من المستعمرات التي تسمى مستقلة؟
(8)
المادة التاسعة (تنص على تعيين مبلغ محدود يفرض على كل حاج)
وهي معترضة من ثلاثة أوجه:
(أحدها) : أن ضرب إتاوة أو غرامة على كل من يحج بيت الله تعالى
محرم في الشريعة الإسلامية بالإجماع ، يدخل في عموم قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا
أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ} (البقرة: 188) وعموم {وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناًّ قَلِيلاً
وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} (البقرة: 41) فقد قال تعالى في شأن بيته: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} (آل عمران: 97) وهو كفرض الضرائب على الصلاة والصيام، ومن يستحل
ذلك يعد مرتدًّا عن الإسلام، ويعد أيضًا من الصد عن سبيل الله، ويدخل في عموم
قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ
لِلنَّاسِ} (الحج: 25)
…
إلخ.
(ثانيها) : أن وضع هذا التعدي على شرع الله ودينه ، وحجاج بيته
الداخلين في أمانه ـ في معاهدة مع دولة غير إسلامية ، لا يعقل له سبب إلا
الاستعانة بها على تنفيذه، والاعتماد على حمايتها في قهر جميع المسلمين على
الإذعان له.
(ثالثها) : أنه قد يكون مثار فتن بين الحكومات الإسلامية وبين ملك
الحجاز ، تؤدي إلى تدخل هذه الدولة الحامية في الحجاز؛ لتنفيذ عمل محرم في
الإسلام يعد مستحله والراضي به كافرًا خارجًا منه. ذلك بأنه إذا امتنع حجاج نجد
واليمن وتهامة من جيران الحجاز عن دفع هذه الضريبة ، فلا سبيل إلى تنفيذها إلا
أن يجبرهم ملك الحجاز عليها أو يصدهم عن أداء الفريضة بقوة السلاح وهو غير
قادر على ذلك بنفسه ، فإذا قاوموه وحاولوا دخول الحرم بالقوة ، لا يكون له معول
في صدهم إلا على إرسال الجند البريطاني؛ ليحيطوا بالحرم الشريف؛ ويصدوا
عنه هؤلاء الحجاج ، تنفيذًا لهذه المعاهدة ولمقررات النهضة.
(9)
المادة الحادية عشرة وما بعدها إلى السادسة عشرة ، في امتيازات
قضائية للدولة البريطانية في الحجاز ، تنافي الاستقلال الصحيح وتنفيذ الشرع
الإسلامي فيه، وتؤكد ما تقدم بيانه.
هذه بعض غوائل هذه المعاهدة ومفاسدها، وقد انفرد هذا الرجل المستبد في
حرم الله تعالى بالتعاقد مع الإنكليز عليها، كأن حرم الله تعالى وحرم رسوله ملك له
يتصرف فيه كما يشاء ، لا يتقيد بنص شرعي ولا بمشاورة أحد من أمراء المسلمين
وعلمائهم. فإن قيل: إن المعاهدة لما تمض وتوضع موضع التنفيذ. قلنا: نعم،
ولكن السبب الأول لذلك هو رفض الفلسطينيين لها، ولا تزال المفاوضات بين هذا
الرجل وبين الإنكليز دائرةً في حل المسألة الفلسطينية لأجل تنفيذها، والراجح أن
مجيئه إلى فلسطين يقصد به قبل كل شيء إقناع أهلها بنص خادع فيها؛ إذ لم
ينخدعوا بالنص الأول.
***
الوثيقة الثالثة
اتخاذ يوم إعلان هذه المعاهدة عيدًا
جاء في العدد 688 من جريدة القبلة الذي صدر بمكة المكرمة في 5 شوال
سنة 1342 بعد بيان الاحتفال الرسمي بعيد الفطر ما نصه:
عيد على عيد
إعلان استقلال العرب ووحدتهم في جميع الجزيرة العربية
ولما استقر بجلالة المنقذ المقام، في بهو الاستقبال العام، مثل بين يدي
جلالته الأشراف والسادة العلماء ، والأعيان والوجهاء وأماثل الأمة على اختلاف
طبقاتها حاضرها وباديها، وحينذاك تفضل جلالته ، ففاه بخطاب ملوكي سامٍ، حمد
الله فيه وأثنى عليه ، ثم أشار إلى أن هذا العيد المبارك لا شك في تضاعف يمنه
حيث صادق قبول المراجع الإجابية [4] لجميع المطالب العربية، فلا ريب في أنه
يوم اجتمع فيه عيدان: عيد الفطر السعيد ، وعيد الاعتراف باستقلال العرب
ووحدتهم ، وعليه فجلالته يعلن ذلك للأمة العربية حاضرها وباديها، وعلى أثر ذلك
أمر جلالته صاحب الإقبال رئيس الديوان العالي ، أن يلقي في ذلك المحفل الجليل
الخطاب الملوكي الهاشمي الآتي وهذا نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
(نصرح في هذا العيد المبارك بمآل المعاهدة العربية البريطانية ، المؤسسة
على مقرراتنا الأساسية والتي يعترف بها صاحب الجلالة البريطانية لنا ، باستقلال
العرب بجزيرتهم وسائر بلادهم، ويتعهد لنا حشمته الملوكية بالمعاضدة الفعلية؛
لتأسيس الوحدة العامة الشاملة ، لكل هذه البلاد بما فيها العراق وفلسطين وشرق
الأردن وسائر البلاد العربية في جزيرة العرب (ما خلا عدن) فنأمر أن يعتبر هذا
اليوم المبارك عيد الاعتراف باستقلال الأمة العربية والله ولي التوفيق) انتهى.
هذا نص خطاب الملك الرسمي بحروفه، وقد نشرت جريدة القبلة عقبه خطابًا
ألقاه الدكتور ناجي الأصيل ، سمسار هذه الخديعة ، وحسبنا التصريح الرسمي من
الملك حسين بأن هذا الاستقلال مبني على أساس نهضته؛ أي: حماية الإنكليز لبلاد
العرب ووصايتهم على أهلها ، كما علم من الوثيقة الأولى ، ولكن الناس يغفلون عند
القراءة فيظنون أن المراد الاستقلال الحقيقي المطلق من كل قيد.
ولهذا يتعجب بعضهم من تصريحه هو وأولاده وجريدته (القبلة) تسمية
العراق وشرق الأردن مستقلة ، فليس معنى الاستقلال عندهم ، إلا جعل الدولة
الإنكليزية إياهم ملوكًا وأمراءً في البلاد العربية تحت حمايتها؛ إذ يعدون هذه البلاد
ملكًا لها. فلو سمي عبد الله أو أخوه زيد ملكًا على سوريا؛ أي: المدن الأربع
منها صارت مستقلةً عندهم، وصار الانتداب مساعدةً ومحالفةً في عرفهم.
***
الوثيقة الرابعة
خداع أهل فلسطين
بينا أن المعاهدة العربية البريطانية مشتملة على إقرار الانتداب وعهد بلفور
ضمنًا ، ولكن الملك حُسَيْنًا قد أرسل البرقية الآتية إلى أهل فلسطين ونشرت في
جرائدها والجرائد المصرية وهذا نصها:
إلى عموم أهالي فلسطين
رغبةً في وقوفكم على الحقيقة ، وضرورة إعلانها للعموم ، لقد صرحنا
في هذا العيد المبارك بمآل معاهدتنا العربية البريطانية ، المؤسسة على مقرراتنا
الأساسية التي يعترف بها صاحب الجلالة البريطانية لنا باستقلال العرب في
جزيرتهم وسائر بلادهم ، ويتعهد لنا حشمته الملوكية بالمعاضدة الفعلية لتأسيس
الوحدة العامة الشاملة ، لكل هذه البلاد بما فيها العراق وفلسطين وشرق الأردن ،
وسائر البلاد العربية في جزيرة العرب ما خلا عدن. وهذا من منن الباري علينا،
وعلى عظمتها بالوفاء بمواعيدنا وأقوالنا للعرب رغمًا عما نسبوني، وعظمتها إليه ،
من هضم حقوقهم وكل ما يرمونا به ، ولا نشك أن هذا العيد المبارك سيعتبر أيضًا
عيدًا ميمونًا باستقلال الأمة العربية ، ولا أحتاج لتحذيركم عن إحداث أي شيء يخل
بالراحة والسكون بأي صورة كانت ، لما في ذلك من ضياع الحقوق ، فإنكم
المسؤولون عن ذلك وباقي المعاملات تردكم عقب هذا.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
حسين
هذه البرقية هي التي حملت حكومة فلسطين الإنكليزية الصهيونية على نشر
خلاصة المعاهدة ، التي كان الملك حسين قد كتمها ، وأراد إقناع أهل فلسطين
وسائر العرب بقبولها ، والإذعان لها ثقةً ببيانه هو ـ كما فعل بمقررات النهضة
منذ بدأ بالثورة فكانت جريدته (القبلة) ، وجريدة الكوكب التي أنشأها الإنكليز
بمصر وغيرها من الجرائد المستأجرة للإنكليز ، يُذِعْنَ في العالم أن الأمة العربية قد
ضمن لها استقلالها ، وإعادة مجدها بولائها لإنكلترة وحلفائها.
ولما نشرت خلاصة المعاهدة ، وعلم أنها مقررة للانتداب لا نافية له بلغ
رئيس اللجنة التنفيذية للمؤتمر الفلسطيني الملك حسين ذلك ، فأجابه الملك ببرقية
هذا نصها: (أحسنوا الظن) وفاته أن اليقين لا ينقض بالظن ، وأن تقليد أهل
فلسطين له وهم على علم بالحقيقة محال ، فهم لم يقبلوا برقيته ولا غيرها ، مما
نشر في جريدته الكاذبة الخاطئة من المكابرة ، وتكذيب حكومة فلسطين وجرائد
العالم
…
بل ألفوا مؤتمرًا قرروا فيه عدم الاعتراف بالمعاهدة ، وبأن ملك الحجاز لا
يملك أن يقرر شيئًا في شأن بلادهم افتئاتًا عليهم ، وبلغوه ذلك هو والدولة البريطانية -
ولا نطيل بنشر ما لم ننشر من الوثائق في ذلك؛ لقرب العهد بها، وعلمنا أنه
لا يكابرنا أحد فيها.
ولقد كان من عجب العقلاء الذي لا ينتهي أن ملكًا ينفرد بوضع نصوص
معاهدة سياسية مع أدهى دول الأرض ، وأحذقهن وأدقهن في استعمال الألفاظ القابلة
للتأويل، ثم إنه يفسر هذه المعاهدة بخلاف المتبادر من نصها ، ويخاطب بذلك أهل
بلاد واسعة؛ ليحملهم على الرضا بإضاعة وطنهم ، وجعل رقبته وحكمه لغيرهم،
ويخطئ كل من يخالفه في ذلك حتى حكومة فلسطين البريطانية ، والجرائد
الإنكليزية - دع العربية وغيرها - ومن شاء فليراجع في ذلك (العدد 690و 696
من جريدة القبلة ، والمنشور الرسمي في العدد 701 الذي يرد به على المصريين
خاصةً. ثم يعلم أنه قد ظهر للعالم كله أنه هو المخطئ فيما فهمه أو ما نشره مخالفًا
لفهمه فيرجع عنه. وجه العجب الذي لم يعرف له نظير أن الملك حُسَيْنًا إن كان قد
نشر ما نشر من تفسيره المعاهدة المخالف لنصها ، وهو يفهم معنى النص فتلك
خيانة توجب عدم الثقة بقوله وعمله وأمانته، وإن كان نشره وهو لا يفهم معناه ،
ولم يفهمه إياه نائبه لدى الدولة البريطانية ، ولا ناظر خارجيته فالمصيبة أعظم؛ إذ
هو حجة على أنه ليس أهلاً لعقد المحالفات ولا لتولي الأحكام ، ولا لنصب العمال -
إذ يكون معتمده لدى الدولة البريطانية ، ووزير خارجيته قد خاناه بكتمان معنى
المعاهدة ، حتى حملاه على التصريح بتضمنها؛ لاستقلال جميع البلاد العربية - ما
عدا عدنا - وبحمل أهل فلسطين على قبولها، ثم ظهر الأمر وافتضح، وبقي
الرجلان موضع ثقته في أعماله السياسية الدولية! .
على أن الظاهر المتبادر هو الأول ، وهو أنه صرح بما صرح به على علم بأنه
عبودية للإنكليز لا استقلال ، كما إنه اغتبط باحتفال ولده الأمير عبد الله باستقلال شرق الأردن ، ونشر ما قيل فيه بجريدته ، وهو يعلم أنها تحت الوصاية البريطانية
والتي لا تنافي الاستقلال عنده بل تقتضيه.
***
طور آخر وتصريح جديد
بعد هذا نشرت جريدته في العدد 732 الذي صدر في 19 ربيع الأول سنة
1342 مقالاً ، ذكرت فيه أنه صرح لبعض الحجاج من البلاد العربية المختلفة بما
يدل على اعتراف بخطئه ، فيما صرح به في أول شوال وما كتبه بمعناه لأهل
فلسطين ، وهو كسائر كلامه المتعارض أو المتناقض وهذا نصه:
(يهمني من جميع البلاد العربية ما يهمني من أمر بيت الله الحرام ، وقد عرضت
على الحكومة البريطانية معاهدةً ، وجدت في بعض موادها ما لم يتفق مع العهود
المقطوعة لي ، التي تأسست عليها أعمال النهضة ، فعدلت تلك المعاهدة تعديلاً هامًّا
نصصت فيه على استقلال فلسطين استقلالاً مطلقًا ، يخول للفلسطينيين إدارة بلادهم
بأنفسهم ، واختيارهم طريقة الحكم التي يريدونها ، وبذلك جعلت وعد بلفور في حكم
أنه لم يصدر، وقضي عليه بالموت ، وفوق ذلك فإنني طلبت في التعديل أنه بعد عقد
المعاهدة ، يؤمر المندوب السامي بفلسطين أن يصرح - بحضور مندوب من قبلي
أمام ممثلي فلسطين - باستقلال الأقطار الفلسطينية استقلالاً تامًّا مطلقًا ، ودخولها
صراحةً في الوحدة العربية طبقًا للعهود البريطانية المقطوعة لي، وأؤكد لكم أنه إذا
لم تقبل الحكومة البريطانية التعديلات التي طلبتها ، فلا يمكن أن أوقع على المعاهدة
بل أرفضها رفضًا باتًّا ، وكونوا على ثقة أنه لا يمكن أن يذهب شبر من أراضي
فلسطين وأنا وأولادي أحياء على وجه الأرض ، فإنا نحافظ على أحقر قرية في
فلسطين محافظتنا على بيت الله الحرام ، ونريق في سبيل ذلك آخر نقطة في دمائنا،
وعلى كل حال فإنني بعد انتهاء أمر المعاهدة ، سأحضر بنفسي إلى أطراف تلك
البلاد ، فإذا ورد جواب لندن على مطالبي بالإيجاب ، أستشيركم في طريقة الحكم
التي تريدونها ، وإذا ورد جوابها بالسلب ، أستشيركم فيما يجب عمله ، وإني أسير
معكم على ما تتفقون عليه، وكونوا على ثقة أنني أنظر إلى أهل فلسطين نظري
إلى أولادي ، ولا أفرق في ذلك بين مسلم ومسيحي ويهودي وطني ، ومن يرجع
من الصهيونيين عن أطماعه البلفورية، وإنني أشهد الله على ذلك، وهو حسبي ونعم
الوكيل) اهـ.
وسنبين غرضه من هذا التصريح عند ذكر نتيجة هذه الوثائق كلها.
***
الجناية الثانية عداؤه لأمراء جزيرة العرب
وتعريضه الحرمين الشريفين للغزو والقتال
لو شئنا لأتينا بوثائق كثيرة من جريدة القبلة ، تثبت هذه الجناية كالمنشورات
الرسمية الصادرة باسم الملك حسين في الطعن بدين أهل نجد وتكفيرهم ، وزعمه
أنه يجب على ولي أمر المسلمين يعني (نفسه) عقابهم الذي يقتضيه الشرع؛ أي:
قتالهم قتال أهل الردة ، وغير ذلك من التحرش بهم والتصريح بعداوتهم ،
والاستعداد لقتالهم والاعتداء عليهم بالفعل: (كمنشور 9 شوال سنة 1336 الذي
نشر في عدد 202 من جريدة القبلة المؤرخ 24 منه - والمنشور الذي نشرته في
غرة ربيع الأول سنة 1337 - والمنشور الذي نشرته في 8 جمادى الأولى سنة
1337) وكالتصريح بغزوه لبلاد عسير بعد وفاة السيد محمد الإدريسي بالقوة
الحربية والفتح الهاشمي ، ولكنا نستغني عن إيراد النصوص في ذلك من أعداد
جريدته ، بالتصريح الأخير الذي بين فيه ما كان يكتمه من معنى الوحدة العربية
عنده ، وهو إخضاع جميع أمراء جزيرة العرب لملكه ، وما يراه من تقسيم البلاد
وإدارة حكومتها بالقوة القاهرة، وهو الوثيقة الخامسة.
***
الوثيقة الخامسة
التفسير الرسمي للوحدة العربية
جاء في صدر العدد 737 من جريدة القبلة الذي صدر بمكة المكرمة في 6
ربيع الآخر سنة 1342 (بيان عام من اللجنة التنفيذية لمؤتمر الجزيرة) بإمضاء
رئيس لجنتها التنفيذية (محمد بن علوي) جعل عنوانه (هذا بلاغ للناس) وذكر
فيه أن اللجنة تشرفت بالمثول بين يدي الملك حسين للوقوف على ما وصلت إليه
القضية العربية ، فصرح لها بأمور أهمها عندنا: تفسيره للوحدة العربية التي ملأ
الدنيا تنويهًا بها ، وانخدع كثير من العرب الذين يصدقون دعايته ، بأنها هي التي
تؤلف بين العرب وتوحد قوتهم - كما انخدعوا بمؤتمر الجزيرة الذي يستخدمه في
ذلك، فتبين الآن من هذا التفسير أن هذه الوحدة عين الفرقة وأنه لا غرض له من
هذه الدعاية إلا إذلال العرب والاستيلاء عليهم بقوة الأجانب الحامين له، وطالما
بين الناصحون العارفون هذا قولاً وكتابةً - ولا سيما المنار - فارتاب في نصحهم
الخادعون والمخدعون وعدوه عداوةً شخصيةً له، حتى صدقهم الملك حسين نفسه،
وهذا نص تصريحه بحروفه:
(إن نهضتي عندما آن أوانها الذي قضت به قدرته جل شأنه ، قبل خلق
العالم وكرتنا بما فيها من موجوداتها قد رسمتها على الأساس الآتي: وهو وحدة
البلاد العربية واستقلالها ، بحيث تكون خارجيتها وعسكريتها وسياستها العامة واحدة
أما داخليتها فالإمارات المعروفة بجزيرة العرب تكون على ما كانت عليه قبل
الحرب ، وإن كل أمير في أي أمارة من هذه الإمارات الموروثة لهم من آبائهم
وأجدادهم ، يستقل بداخليته ضمن الحدود التي كانت عليها إمارته قبل الحرب،
بشرط أن يرتبط مع المجموع الذي كل من خرج عنه منهم أو شذ بالخروج عن
الجامعة العربية يحكم عليه المجموع بمقتضى قوله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي حَتَّى
تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} (الحجرات: 9) . وأما ما كان خارجًا عن حدود تلك الإمارات
، سواء كانت تلك الإمارات قائمة بذاتها ضمن حدودها ، أو طرأ عليها الاغتصاب
كعسير قبل الحرب وابن رشيد بعد الهدنة ، فلا بد من عودتهم إلى ما كانوا عليه
كعودة الإمام يحيى إلى صنعاء فيكون أمرها (أي: تلك المقاطعات بما فيها الحجاز
الخارجة عن حدود تلك الإمارات) منوطًا برأي عموم أهاليها ، يعينون رياساتها
وكيفية تشكيلاتها ، وإداراتها بالشكل الذي يستنسبونه بشرط المحافظة على الوحدة
والارتباط ، وهي القاعدة التي ذكرتها آنفًا) .
وهنا تبرأ مما هو محسوس ومشهود من تهالكه على طلب الرياسة له
ولأبنائه ثم قال:
(وإنني أمقت التداخل الأجنبي وسياسة الاغتصاب ، والاعتداء في داخلية
الجزيرة مما هو مشهود من اغتصاب بعض الأمراء لإمارة إخوانه ، فإنني أجده
من أكبر الفظائع أمام حِسِّيَّاتي المذكورة؛ إذ إن النهضة ومؤسساتها هي لحفظ حقوق
الجميع وليست لتمييز فريق على فريق ، (إلى أن قال بصدد هذا الاعتداء الذي سماه
أجنبيًّا) : (ولذلك فهذه هي الخطة التي عليها نحيا وعليها نموت وعليها نبعث إن
شاء الله من الآمنين ، لذا فلا بد من إعادة آل رشيد وآل عايض إلى إمارتهم
وحدودهم وقبائلهم التي كانوا عليها ، إعادة كل أمير من أمراء الجزيرة إلى ما كان
عليه قبل الحرب ، وإني لثابت (بقدرة الله تعالى) على هذا الحس والشعور أمام
التجاوزات الأجنبية ، إذا أصر أربابها على مطامعهم الحاضرة ، المخالفة لمقرراتهم
(الصواب لمقرراتنا) التي تأسست عليها النهضة ، والمخالفة لكل عدل حتى لما
جاهروا به من بعد ومن قبل ، هذا الذي أدين الله عليه ولو لم تبقَ إلا ذاتي وحياتي
لأنفقتها في هذا السبيل ، لا أريد بذلك جزاءً ولا شكورًا إلا خدمة العرب خاصةً
والإسلام عامةً ، والأعمال بالنيات (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) اهـ.
هذا نص ألفاظ الملك حسين حتى إننا لم نصحح كلمة (لمقرراتهم التي
تأسست عليها النهضة) مع القطع بأن لفظ لمقرراتهم غلط من المطبعة ، أو سبق
لسان أو قلم منه لأن (مقررات النهضة) له لا لأولئك الأجانب في عرفه وهم
أمراء العربية. ويتلخص هذا التصريح بالأمور الآتية:
(1)
جعل جميع البلاد العربية (وهو يسمي نفسه ملكها) دولة واحدة ،
تكون سياستها الخارجية وعسكريتها وإدارتها العامة واحدة.
(2)
تغيير شكل إمارات جزيرة العرب الحاضرة بانتزاع بلاد حايل وعشائر
شمر من سلطنة نجد ، وإعادتها إلى آل الرشيد - وانتزاع بلاد عسير التي كانت
لآل عايض من سلطنة نجد ، وإمارة الإدريسي وإعادتها إليهم - وانتزاع إقليم
الحديدة من الإدريسي ، وجميع ما بيد الإمام يحيى ، مما كان للدولة العثمانية من بلاد
اليمن ، واستشارة أهل هذه البلاد كالحجاز في شكل الإدارة التي يحبون أن تكون
في بلادهم ، واختيار رؤسائها في ظل وحدته.
(3)
إعطاء إمارات الجزيرة الموجودة الموروثة حق الإدارة الداخلية ،
بشرط الخضوع لملك العرب العام ، واتباعه في السياسة الخارجية والعسكرية
والإدارة العامة.
(4)
أن من يأبى الخضوع لما تقدم يعد خارجًا عن أمر الله وحدود دينه ،
فيقاتل قتالاً دينيًّا ، حتى يرجع إلى أمر الله (يعني: أمره هو بما ذكر؛ إذ لم يأمر
الله بذلك) .
(5)
أن هذه الوحدة بهذه الصورة الدينية مبنية على مقررات النهضة
المتضمنة لحماية الدولة البريطانية لجميع البلاد العربية.
(6)
أن هذه الكليات الخمس عقيدة دينية للملك حسين يدين الله بها ، فلا
يرجع هو ولا أولاده عنها ، ولو لم تبقَ إلا ذاته وحياته لأنفقها في سبيل تنفيذها.
ولا يخفى أن هذا التصريح الرسمي يتضمن جعل هذه الإمارات كلها في حالة
حرب معه، فعلى أي قوة يعتمد في هذا؟ وهل هو مغرور في اتكاله على نجابة
(الحسيات البريطانية) هذه المرة كما انخدع من قبل ومن بعد على ما نقل عنه
المغرورون بأقواله، أم هو على ثقة من إنجاز وعدها له؟ أم هو متكل على بعض
أهل شرق الأردن وسوريا وفلسطين الرازحين تحت أوزار الوصاية البريطانية
والفرنسية ، لا يملكون من أمرهم شيئًا فيملكوا أن يعطوه قوةً حربيةً ، يقاتل بها أهل
نجد واليمن وتهامة ويخضعوهم لوحدته العربية، أو قوة دينية بمبايعتهم إياه بالخلافة
تخضع بها أمراء جزيرة العرب الثلاثة لأمره ونهيه ، معتقدين أن تلك المبايعة
جعلته إمامهم الشرعي؟ ؟ !
لقد كان أنصار الملك حسين وأولاده من مأجورين ومغرورين ، يزعمون أنه
هو الزعيم الوحيد الذي وجه عنايته للوحدة العربية ، التي لا رجاء في حياة الأمة
العربية وحفظ استقلالها بدونها ، على حين يتقاتل الإمام يحيى والسيد الإدريسي
على حدود بلادهما؛ طمعًا في ربح كل من الآخر ويقاتل السلطان ابن سعود الأمير
ابن الرشيد فيضم بلاده إلى إمارته ، ويعتدي أحيانًا على حدود الحجاز (قالوا) :
فإذا كان الملك حسين هو الساعي إلى الاتفاق الذي يجمع كلمة الجميع ، فيجب على
كل عربي مخلص لأمته أن يشد أزره ، ويجاهد تحت لوائه ويغفر له ما أَلَمَّ أو يُلِمُّ به
من سيئة بإزاء هذه الحسنة الكبرى ، التي هي أم الحسنات ويؤاخذ أولئك الأمراء
حتى على الهفوة، لأنها تؤيد أكبر الكبائر وهي الفرقة.
وكان أهل البصيرة من واضعي أساس الجامعة العربية وغيرهم يقولون
لهؤلاء: إننا كنا ظننا كما ظننتم أن الرجل يريد جمع كلمة العرب على أساس
قاعدتنا المعقولة ، التي أظهر هو وأولاده الموافقة لنا عليها، وهي تحالف أهل
البلاد المستقلة المسلحة على حفظ الاستقلال، والتعاون على عمران البلاد، وتأليف
مجلس تحكيم لحل مسائل الخلاف، والتوسل بهذه الوحدة الحلفية، إلى الوحدة التامة
التي سبقتهم إلى مثلها الشعوب القوية. ثم علمنا بالاختبار الدقيق له، والاطلاع
على أسس نهضته، إنه إنما يسعى لقتل الأمة العربية وهدم استقلالها بمساعدة
الدولة البريطانية ، على ضمها إلى إمبراطوريتها المرنة ، على أن تجعله ملكًا على
البلاد كلِّها تحت وصايتها وحمايتها (كما تقدم في الوثائق السابقة) ، ومن امتناعه
المرة بعد المرة ، عن إجابة ما دعاه إليه مؤسسو الجامعة العربية ، من عقد التحالف
مع أمراء الجزيرة على قاعدتهم التي ذكرت آنفًا ، وكان من أعوانهم لديه على ذلك
ولداه عبد الله وفيصل ، والشواهد والوثائق والدلائل على هذا كثيرة ، أشرنا إلى
بعضها في أول الكلام على هذه الجناية، ولم يبقَ للاستدلال بها حاجة، فقد قطعت
جهيزة قول كل خطيب - أقر الخصم وارتفع النزاع -
كان الملك حسين في أول العهد بالثورة ، يظهر لمؤسسي الجامعة العربية
ودعاة وحدتها موافقتهم على رأيهم ، ويرجئ إجابة دعوتهم ويسوف فيها ، حتى لا
يرتابوا فيه ويعرقلوا عمله ، على حين كان يصرح لمن يعتقد أنهم يخدمونه في
اتفاقه مع الإنكليز ، على استعباد الأمة العربية قائلاً: من هؤلاء الكلاب حتى أتفق
معهم؟ اليوم يوجد في الدنيا ابن سعود ، وغدًا لا يكون في الدنيا ابن سعود، اليوم
يوجد في اليمن إمام مطاع، وفي تهامة إدريسي مملك وغدًا لا يبقى في البلاد غير
ملك واحد وإمام واحد ـ أو ما هذا مآله كما نقله المنار الصادق مرارًا ـ وكان
…
المأجورون والمغرورون يكابرون وينتقدون ، وقد انقطعت اليوم جميع الألسنة
الخادعة والمخدوعة ، التي كانت تكثر اللفظ في تولية الرجل زعامة العرب وتسميته
بملك العرب والبلاد العربية، على تلك القاعدة الكاذبة الريائية.
وقد صرحت إحدى جرائد هذا الحزب بخطته في هذه الأيام ، في سياق بث
الدعوة لزيارته لأطراف سوريا وهي الجريدة التي يعبر عنها في جريدته (القبلة)
بقوله: (لسان حال أقوامنا) وهي تصدر في القدس بماله وما يفيضه عليها ولده
الأمير عبد الله ، ومال الدولة البريطانية التي صرح أحد رجالها بأنهم جعلوها
(مقطم فلسطين) فقد نشر صاحبها مقالة افتتاحية في العدد 465 الذي صدر في 21
جمادى الأولى ، موضوعها (القضية العربية جزيرة العرب ركنها وقوتها) تكلم
فيها على صلابة أهل الجزيرة وقوتهم، وضعف أهل سوريا والعراق ، وسهولة
تغلب خصوم القضية العربية عليهم دون أهل الجزيرة.
ثم بين أن (في الجزيرة ثلاث قوات يجب إحلالها محلها اللائق بها من رعاية
العرب واهتمامهم هي: قوة سلطان نجد ، وقوة إمام اليمن (قال الكاتب) : وكل
منهما ارتجاعية متأخرة، وقوة الحجاز وما يتبع الحجاز من البلاد كالعراق
والشرق [5] ثم صرح بأن الحجاز دون نجد واليمن قوة عسكرية. (قال) : ولكنه
يفوقهما بطشًا واستعدادًا ، إذا ألحقنا به الشرق والعراق فعرب سوريا والعراق
وفلسطين ، يميلون بمصلحتهم وتربيتهم وأخلاقهم وصلتهم؛ لتأييد ملك الحجاز في
سعيه وعمله) .
ثم ذكر أن الجزيرة صارت بعد خروج الترك منها تحت رحمة الحكومات
الثلاث، وأن حكومة نجد توسعت بإزاحة إمارة ابن الرشيد ، وحكومة اليمن
توسعت في الجنوب حتى حضرموت، وأن حكومة الحجاز واقفة موقف المعارضة
لكل منهما ، ولكنها لا تستطيع أن تعمل شيئًا لحاجتها إلى تكوين الاتحاد العربي من
الحجاز والشرق والعراق ، (قال) : (ففي نجد وحدة مكونة، وفي اليمن كذلك،
وأما الوحدة الثالثة أو الاتحاد الثالث فلا يزال في دور التكوين ، ولا يعلم أحد متى
يتم؟ وكيف يكون؟
(قال) : (والذي نراه هو أن حكومات هذا الاتحاد ستقف موقفًا صعبًا أمام
حكومتي الجزيرة في اليمن ونجد ، فلا هي تستطيع التغلب عليهما وإرجاعهما عن
مطامعها إلى الحق والصواب ، ولا يوافقها القبول بما تم؛ لأنه يساعد على اختلال
التوازن في الجزيرة ، وإيجاد عهد حروب ومشاغبات فيها ، وكل حكومة عربية
(مستقلة) تنشأ في سوريا أو العراق ، ولا تتكل على دولة من الدول الأوربية تظل
ضعيفةً مهددةً في حياتها الداخلية ما بقيت نجد في قلق ، ثائرة على كل ما نسميه
نحن نظامًا، وبقيت اليمن في حالتها الحاضرة) اهـ.
هذا بيان صحيح لما يقصده الملك حسين من الوحدة العربية؛ لضرب العرب
واخضاعهم للاستعمار الأوربي ، الذي يظل مهددًا في العراق وسورية ، ما دامت نجد
واليمن قويتين هذا سبب تحبيذ صاحب هذه الجريدة له ، وهو خادم للأجانب ليس
مسلمًا فيغار على الحرمين الشريفين ، ولا من عرق عربي فيغار على العرب وقد
خانهم وغشهم رجال من أشهر بيوتاتهم ، وإنما الذي نخشاه أن ينخدع بعض أهل
بلادنا السورية باسم الوحدة العربية الذي يميلون إليه ، ويريدون منه غير ما يريده
الملك حسين. أما وقد ظهر لهم ما يريده فلن ينال من أحد ذي قيمة منهم تأييدًا ، ولا
تفويضًا ولا مبايعة لسحق قوة العرب (بالاتكال على دولة أجنبية) .
لم يبقَ بعد هذا التصريح الرسمي مجال لحزب مذبذب ، يخدع الناس بقول
الملك حسين باستقلال العرب والوحدة العربية، بل أصبحت الأمة العربية حزبين لا
ثالث لهما: حزب الجامعة العربية الذي يسعى للوحدة العربية ، من طريق عقد
التحالف والتأليف بين الأمراء ، بإقرار كل منهم في بلاده؛ لوقاية البلاد من
المطامع الاستعمارية الغربية ، والتمهيد للاتحاد الاختياري مع التعاون الودي بين
العرب وسائر الشعوب الشرقية، والحزب الشريفي الاستعماري ، الذي يسعى
لإرغام جميع أمراء العرب بالقوة الحربية على التابعية (لملك العرب) بتسليمه
أزمة السياسية الخارجية والقوى العسكرية والإدارة العامة، في ظل السيادة
والوصاية البريطانية.
ومن المعلوم بالضرورة لجميع المشتغلين بالسياسة ، وأولي الإلمام بحال البلاد
العربية أن الملك حُسَيْنًا الذي وضع هذه الخطة من اليوم الأول الذي تصدى فيه
للمسألة العربية ، لا يملك القوة التي يرغم بها أمراء جزيرة العرب عليها ، وأنه
ليس أمامه قوة يعتمد عليها إلا قوة الدولة البريطانية ، وأنه لأجل هذا جعل ما يسميه
النهضة العربية مبنيًّا على أساس الخضوع للسيادة والوصاية البريطانية، فلأجل
هذا سَمَّيْنَا هذا الحزب (الشريفي الاستعماري) ويصح أن يسمى البريطاني؛ أي: الذي يسعى من حيث يدري زعماؤه ويجهل دهماؤه ، إلى جعل الحجاز
وسائر جزيرة العرب كالعراق ، وفلسطين ، وشرق الأردن تحت الوصاية
البريطانية، ويتبع ذلك بقاء سائر سوريا تحت الوصاية الفرنسية أيضًا لاتفاق
الدولتين على ذلك ، وعلى تسميته استقلال.
(له بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
أي: لا يقطع شجره ويقلع حشيشه إلا ما رخص فيه النبي من قلع الإذخر ، لوضعه على الموتى عند الدفن وهو نبات طيب الرائحة.
(2)
توهم واضع هذا القيد أنه احترس به عن جعل الاحتلال دائمًا جهلاً منه باحتلال مصر ، وبأنه لا يمكن له ولا هي تمكنه من إتمام ما ذكر.
(3)
يعني: سلطان نجد؛ إذ كانت التيمس قد أثنت في ذلك العدد عليه.
(4)
هذه الكلمة من الاصطلاحات التركية ، وهي بمعنى أولي الأمر والمراد هنا: الحكومة الإنكليزية؛ لأنها في عرف ملك الحجاز ولية أمر الحجاز ، وسائر العرب والوصية عليهم كما سيأتي.
(5)
من المعلوم قطعيًّا أن العراق وشرق الأردن غير تابعين للحجاز في شيء من أمر الحكومة ، فالمراد: أنهما تتبعانه في قتال أهل نجد واليمن ، وتذليلهما وهذا إنما يكون إذا أمرت به الحكومة البريطانية ، فهل جاء وقته عندها؟ .