المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أثارة من تاريخ الزلازل وعلم الأرض - مجلة المنار - جـ ٢٥

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (25)

- ‌جمادى الآخرة - 1342ه

- ‌فاتحة المجلد الخامس والعشرين

- ‌تجنس المسلم بجنسية تنافي الإسلام

- ‌تحديد سن الزواج بتشريع قانوني

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌ملك الحجاز في أطراف سورية

- ‌رجب - 1342ه

- ‌خطاب عام للمسلمين(2)

- ‌كلمة في التعريف بمجموعة الحديث النجدية

- ‌تزويج المسلم بغير المسلمة [

- ‌مسألة تحديد الزواجبقانون ومسلك الحكومتين العثمانية والمصرية فيه

- ‌العبر التاريخية في أطوار المسألة المصرية [*](3)

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌الدعوة إلى انتقاد المنار

- ‌شعبان - 1342ه

- ‌التبشير والمبشرون في نظر المسلمين

- ‌تسكين كلمات الآذان وجواب الإقامةوبدء السلام ورده

- ‌سكة الحديد الحجازية

- ‌الوثائق الرسمية في المسألة العربية

- ‌أثارة من تاريخ الزلازل وعلم الأرض

- ‌تحريم المسلمات على غير المسلمين [*]

- ‌زيارة ملك الحجاز لشرقي الأردن

- ‌رمضان - 1342ه

- ‌الخلافة والخليفةالإمام الحق في هذه الأيام

- ‌الانقلاب الديني السياسيفي الجمهورية التركية

- ‌رسالة ملك الحجاز إلى الأمة البريطانية

- ‌خطاب عام للمسلمين(3)

- ‌تحريم المسلمة على الكتابي

- ‌موقف العالم الإسلامي مع الجمهورية التركية

- ‌ذو القعدة - 1342ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الخلافة والمؤتمر الإسلامي

- ‌عالم العراق ورحلة أهل الآفاقالسيد محمود شكري الألوسي

- ‌انتحال السيد حسين أمير مكة للخلافة

- ‌صفر - 1343ه

- ‌الوصية المزورة باسم المدينة المنورة

- ‌المسألة العربية في طور جديد

- ‌مبايعة الحجاز لحسين بالخلافة

- ‌منشور الخلافة

- ‌منشور العودةالذي أذاعه حسين المكي قبل عودته من شرق الأردن

- ‌التبرع بنُسخٍ من المنارومن شهد له من الكبار

- ‌الشيخ سالم أبو حاجب

- ‌ربيع الأول - 1343ه

- ‌مؤتمر الخلافة [*]

- ‌الطور الجديد للمسألة العربية

- ‌بطل العرب والإسلام وأندلسهما الثانية

- ‌ربيع الآخر - 1343ه

- ‌المقالات الجمالية(2)

- ‌المنار بين الروافض والنواصب

- ‌رجب - 1343ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الإغراء بين النصارى والمسلمين

- ‌من الأمير إلى الملك [*]

- ‌المطبوعات الحديثة

- ‌شعبان - 1343ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌المُفطرون في رمضان

- ‌ماضي الأزهر وحاضره ومستقبله(2)

- ‌ترجمة القرآنوتحريف ترجمة له والتشكيك فيه

- ‌المطبوعات الجديدة

- ‌خاتمة المجلد الخامس والعشرين

الفصل: ‌أثارة من تاريخ الزلازل وعلم الأرض

الكاتب: محمد الرشيدي بك آل الحجازي

‌أثارة من تاريخ الزلازل وعلم الأرض

لمحمد الرشدي بك آل الحجازي

من أركان الحرب

(كتب بمناسبة تلك الزلازل الشديدة التي انتابت المدن الكبرى في بلاد

اليابان، فخربت العمران، وقتلت مئات الألوف من السكان، وسارت أخبار

أهوالها الركبان، وقد جمعت المقالة للمجلد السابق ومرت سنة كاملة ولم يمكن

نشرها، وإنما ننشرها الآن للعبرة بها والتذكير بحقارة هذه الدنيا وعمرانها

والترغيب في العمل للآخرة التي يندر في هذا العصر من يذكر بها. قال الكاتب) :

رمى الحدثان أهل اليابان بمأساة صمدوا لها صمودًا، وقرحوا أعينًا وخدودًا،

ولا عجب، فإن الخطب الذي لحق بهم من أقسى الأرزاء التي أصابت الإنسانية من

غليان مراجل الأرض التي اتخذ الناس مسكنهم منها، واعتمدوا في معاشهم عليها،

ولكن الإنسان جبل على النسيان، فمن ذا الذي يذكر زلازل مسيني التي أودت بما

يزيد عن مائتي ألف نفس، وزلازل صقلية التي خربت مرارًا مدنها وقراها ،

ونخص بالإشارة منها تلك التي خربت في عام 1693 وحده أربعًا وخمسين مدينة

وثلاثمائة قرية ، وقتلت ستين ألف نسمة! فكأنما قيل لأهل تلك الجزيرة الجهنمية:

لدوا للموت وابنوا للخراب

فكلكمو يصير إلى تراب

ولكن ليس بسير الأمور إلى الزوال بالسنة الطبيعية المطردة، بل فجأة وغيلة بغدر الطبيعة وحسن ظن الناس بدنياهم.

دار الردى وقرارة الأكدار ومن ذا الذي فكر قبل مصيبة (طوكيو

ويوكوهامة) وغيرهما من مدن اليابان وقراها أو بين وقوعها وبين حدوث التثور

الأخير لبركان أثنة في صقلية في أن ليسابونه (أو ليشبونة) عاصمة البرتغال منها

أصابتها مثل هذه الأرزاء مرارًا، وأنها في شهر نوفمبر من عام 1755 رجتها

الزلازل رجة شعر بها في مقدار جزء من اثني عشر جزءًا من سطح الكرة

الأرضية، وصيرتها أطلالاً تدفن تحت ترابها وأحجارها ، وخشبها وحديدها أكثر من

ستين ألف شخص!

نعم، لا يذكر إلا القليل من أهل التاريخ - الذين مهمتهم أن يحفظوا ذكرى

الحوادث - تلك الكوارث التي انتابت الإنسانية في عام 79 قبل الميلاد حيث زلزلت

الأرض زلزالها، وأخرجت أثقالها في ساحل نابولي وما اكتنفه، فقوضت أعراش

بومبئي وهركولانوم، وأطغت عليهما سيلاً من المواد الذائبة التي لفظها بركان لم

تطفئ الأيام إلى الآن جمر صدره - وهو بركان فيزوف - وما أصاب منها أرجاء

البحر المتوسط في عامي 19 و 526 بعد المسيح ، حيث قضت في كل مرة على

نحو مائة وعشرين أو مائة وخمسين ألفًا من البشر ، وما كان لهم من أموال وأنعام،

وفي مدينة نابولي نفسها التي رجت أرضها عام 1638 رجة قضت على ما فوق

ثلاثين ألفًا من الأنفس، وجزيرة جامايكا التي اهتزت اهتزازًا كفى لإزالة مدينة

وأهلها من عالم الأحياء؛ إذ محت مدينة بور روايال ، وأماتت أكثر من ثلاثة آلاف

نفس من أهلها، وفي ليما وكالاس حيث دمرت المدينتان ، وفارق ثمانية عشر

(ألفًا) من السكان الحياة فيهما، وفي المارتينيك حيث صارت مدينة سان بيير إلى ما

صارت إليه بور روايال.

لا يذكر سوى المؤرخين ذلك وغيره مثل طغيان الماء على الأرض في مدينة

(جالفستون) بسبب حركة الزلازل التي دمرت المدينة كلها، وحكمت طوفان السيل

فيها، وما لحق بالإنسانية قبله وبعده من الجوائح والمصائب

بل سينسى أهل اليابان أنفسهم ما لحق بجزائرهم في أوائل هذا الشهر، كما

نسوا ما حل بهم من قبله، وسينسى أهل مسيني ما أصابهم من أثنة وزلازل مسيني

وصقلية، وأهل إيطالية ما أصاب أنحاءهم الجنوبية، كما سينسى أهالي الدرمانال

منهم طغيان النيل في هذا العام.

ولولا ذلك لما سكن أحد نابولي وليشبونه ومسيني وأراضي صقلية وجزائر

اليابان والأقيانوسية وغيرها، ولما اتخذت إيطاليا نابولي أهم مرفأ لها، ولما شنت

الأمم الحروب بعضها على بعض، مع إنه لم تخرج أمة مرة من حرب ولو ظافرة إلا

وأسفت على ما ضاع من النفوس والأموال، وفضلت الرغبة إلى نعيم السلام،

الذي هيهات أن تسمح به الأيام ......

ولكن أين يذهبون إذا أرادوا السكنى في جهة لا زلازل تحركها؟

إن شرقي آسية ووسطها وجنوبيها وجزائر الأقيانوسية ووسط أفريقية

وشماليها وجنوبيها ووسط أوروبة وجنوبيها وغربها أراض صلبة ، هي من أكثر

الأراضي تأثرًا بالزلازل ، وفيها كثير من البراكين لا تزال تلفظ اليحموم وسيول

المواد الذائبة والنار، كما أن أميريكة من أراضي أمير الويلس (برنس أوف ويلس)

وإسلانده أو (آيلند) - إذا اعتبرنا إسلانده من أميريكة (- وهو على رأينا أصح

من اعتبارها من أوروبة) - شمالاً إلى رأس القرن (كاب هورن) في أراضي

النار جنوبًا بلاد أوجدتها سلسلة براكين ، قد تكون سبب زوالها بعد أن كانت سبب

وجودها.

ولقد أصابت اليابان قبل الآن من هذا القبيل مصائب كثيرة ، أخصها مصيبة

زلازل عامي 1891 و 1896 وأكثر منهما مصيبة 1855 التي دمرت طوكيو

وكانت وقتئذ تدعى (ييدو) ، كما أن زلازل كراكاتا التي لم تقتصر على رج ما

على القشرة الأرضية من جزائر الأقيانوسية وجنوب الصين والصين الهندية وسيام

الهند، بل وصلت تموجات الارتجاج إلى جنوب أفريقيا، بل إلى جنوب أميريكة

أيضًا، بل إلى ما وراء رأس القرن غر.

وكذلك الهند التي أصابها ارتجاج عقب زلازل طوكيو ويوكوهامة، هذه

الأخيرة هزتها كلها زلازل عام 1861 هزة عنيفة ، وكذلك أواسط آسية ، رأت من

الزلازل ونتائجها كثيرًا مما يروع ويفزع، وخصوصًا زلازل أرجاء بحيرة

البيكال التي طرأت في عام 1888. ولقد ذكرنا زلازل ليشبونة في عام 1755

وقد اهتزت لرجاتها أرجاء الجزيرة (أو شبه الجزيرة!) الأميرية - أي:

البرتغال وأسبانية وإفرنسة وسويسرة وجزء من شمالي إيطاليا وجزء من غربي

ألمانية وشماليها وجنوبي السويد ، وجنوبي النرويج وغربيها وجزء من شماليها ،

وأراضي الدانمارك وهولاندة و (بلجيكة) وجزيرتي إنكلترة وأيرلندة كلها.

ولم تكن أمريكة الشمالية ولا أمريكة الجنوبية بأسعد حظًّا، فقد أصابت الأولى

زلازل كثيرة، نخص بالذكر منها زلازل 1875 التي رجت شرقيها، وزلازل

1895 التي رجت وسطها، وزلازل 1811 و 1711 التي رجت كل أراضي

جنوبي أميريكة الشمالية، وبعض أراضي شمالي أمريكا الجنوبية وما بينهما

من جزائر الانتيل ، وأما الثانية - أي: أمريكة الجنوبية - فقد أصابها في شمالها

ووسطها وجنوبها الغربي والشرقي ما دونته سجلات التاريخ، وقماطر علم

الأرض، وخصوصًا زلازل 1815 التي أصابت الشيلي، وزلازل 1895 التي

عمت الشيلي وقسمًا كبيرًا من الجمهورية الفضية (الأرجنتين) والأوروجواي

والباراجواي وبوليفية، وجزءًا من البرازيل.

فهل سلمت أراضي الشرق العربية - ونعني بها ما جاور مصر - من تلك

الزلازل؟ لا، بل تناوبتها الزلازل حينًا بعد حين، نخص بالذكر منها تلك التي لم

تمر عليها ثلاث وخمسون سنة كاملة، وهي زلازل عام 1870 التي شملت مصر

وقسمًا كبيرًا من سودانها وطرابلس الغرب وتونس غربًا، وقسمًا كبيرًا من بلاد

العرب وسورية والأناضول والبلقان وجنوبي إيطالية!

وأما أراضي الجزائر والمغرب الأقصى فهي جبلية بركانية في أكثر مساحتها ،

ومن المعلوم أن أفريقية كانت متصلة بأوروبة - وعلى الأخص في جهة المغرب

الأقصى ، وما فصلتهما سوى الزلازل التي مزقت القشرة الأرضية البارزة عند

مقترب المحيط الأطلسي والبحر المتوسط وأنشأت بينهما بحر الزقاق أو ممر جبل

طارق.

وإذا لم يسجل التاريخ زلازل في صحراء أفريقية الكبرى ولا في غربيها

ووسطها وجنوبيها ، فليس ذلك لأنه لم تحدث هناك زلازل؛ بل لأن الطوارق

وأهالي السودان والكونغو والهوتانتوتيين وغيرهم ، لم يسجلوا ما لحق بهم منها، ولم

يقيسوا مدى تموجاته بآلات قياس الزلازل

بل لم يرتقوا إلى تدوين أمثال هذه

الأحداث الكونية في تواريخ بلادهم.

لقد درس علماء الأرض والباحثون منهم في الزلازل خاصة هذه الشؤون،

واستعملوا ما يستخدمون من آلات رصد الزلازل كالبندول الأفقي ، وآلة مقياس

الزلازل وغيرهما، فوجدوا أنه لا يوجد مقدار شبر من الأرض خلوا من الاهتزاز

الذي قد يشتد يومًا ، فيكون زلزلة تميد بها الدور والقلاع والجبال

ولا تترك من

البروج المشيدة إلا الأطلال

فأين يقطن الناس المساكين ليأمنوا أن تخسف بهم الأرض؟ ؟ ؟

لعمري إن آمن أنواع المساكن ضررًا هي الأهرام لمن أراد سكنى قصور

الأحجار ، وما بنى بالبتون على نمط مخازن الذخائر في القلاع، وأخفها وأسلمها

الخيام التي يقطنها البدو آمنين أن تسقط عليهم السقوف والجدران

فهل تعود

المدنية بعد ازدهارها ورفاهتها، إلى ما كانت الإنسانية عليه في بداوتها وتقشفها؟

لقد كان اليابانيون ولا يزال بعضهم إلى الآن يبنون دورهم بقصب البمبو

جاعلين جدرانها من الورق

كما كان أهل الآستانة يبنون مساكنهم بالخشب ، ثم

هؤلاء وأولئك اتبعوا حركة (المدنية) الحديثة في البناء بالأحجار والبتون والحديد،

ومنهم من فكر في اتباع الطريقة الحمقاء ، أو طريقة وضع الربح فوق كل اعتبار

آخر - وهي الطريقة الأميركية الفظيعة التي تشيد بها منازل ذات طباق تعد

بالعشرات

فإذا ارتجت الأرض تداعت جدران هذه الأبراج المشيدة ، وسقط

سكانها من أعلى عليين إلى أسفل سافلين تحت الأنقاض وفيما بينها!

إن هذه الحماقة في التقليد نراها هنا في ألمانية أيضًا .... فإن كثيرًا من

الشركات اغتنمت حلول الحكم الجمهوري الذي ترك الأعنة لكل النزعات في

محل الحكم القيصري الذي كان يحرم على الناس أن يعلوا دورهم، فأخذت في بناء

الدور الشاهقة التي تريد بها أن تضارع (المحتكات بالسحب) الأميركية..

ويعلم الله متى يعاقب البانون والساكنون على هذا الخطأ الفظيع، نسأل الله

السلامة لنا وللناس من عواقب حماقتهم ، واندفاعهم وراء الربح بغير تروٍ ولا تفكير!

تسجل مراصد الزلازل في أنحاء العالم آلافًا من الزلازل في كل عام، ولا

يفهم الناس أنهم يعيشون ويبنون قصورهم على قمة بركان ، إذا كان لم ينفجر اليوم

فقد ينفجر غدًا أو كما قال أحد الناس في إبان الثورة الأفرنسية إنهم يرقصون

فوق وعاء أو (برميل) بارود) .

إن هذه الأرض التي يظنها الناس ساكنة لها في (بدنها) حركة دائمة، وكيف

تستقر قشرة رقيقة على نواة غليظة من الجمر؟ وما البحر بآمن من الأرض فإنه

على زلازل أنوائه وأمواجه، له زلازل من تحته كالأرض.

فمتى تعقل الإنسانية وتتخذ لنفسها الحيطة من خطر هي معرضة له في كل

طرفة عين؟

فليرجع الناس إلى ما كانت عليه مبانيهم من البساطة والصغر، وإذا كان العلم

قد أفادهم، فليتخذوا وسائل لمنع سقوط السقوف والجدران، والوقاية من الحريق

الذي كان يلتهم أخشاب الآستانة وورق اليابان

إن مصيبة اليابان على فداحة ضحاياها من الأنفس والأموال، لا يقف مدى

خطبها لدى ما ظهر من جسامة الرزء ، بل إنها أكبر بكثير من كل مصيبة حلت

بتلك الأرض الجهنمية. فإنها ضربت (اقتصاد) اليابان من زراعة وصناعة

وتجارة ضربة تكاد تكون قاضية عليه ، إذا لم يبذل في إصلاح ما أفسدت فوق ما

يستطاع من الجهد الإنساني، وإذا لم تمد لها الأمم الأخرى يد المعاونة والمساعدة،

ومتى تعيد اليابان بناء مصانعها ومتاجرها ومزارعها التي قوضتها الزلزلة وأعفت

النار ثارها؟ ومتى تعيد دور علومها وأماكن فنونها، وتستعيض عمن قضت عليه

هذه الكارثة من رجال العلم والسياسة والاقتصاد؟

نعم، إنه لا يجوز اليأس ما دامت في اليابان أم تلد (والأمهات يلدن كثيرًا في

اليابان - ويفاخرن أمم العالم بكثرة من يلدن) ولكن مما لا يجوز للشك أن يتطرق

إليه، هو أن خطب اليابان أعظم خطب رأته أمم الإنسانية بعد خطب عاد وثمود.

(المنار)

بعد كتابة هذه المقالة وقبل نشرها نقلت صحف العالم عن أحد علماء الفلك في

إنكلترة، أنه بعد الدراسة والبحث في أسباب الزلازل عشرين سنة، قامت عنده دلائل

أقنعته بأن هذه الأرض ستخرب في سنة كذا- وذكر سنة قريبة نسيتها الآن -

بزلزلة تعم الغرب والشرق فتطغى بها البحار على اليابسة إلخ.

وقد صار الناس يتمارون بأمثال هذه النذر المحددة لموعد خراب الأرض

وهلاك عالمها ، أو قيام الساعة؛ لتعدد الذين تنبؤوا بها وظهر كذبهم ، وكان الناس

يصدقونها في القرون الوسطى حتى كانوا يتوبون إلى الله، ويتركون المعاصي

ويكثرون الصدقات استعدادًا للقاء الله تعالى ، وقد وقف الألوف من أهل أوروبة

أملاكهم للكنائس في إثر مزعم من هذه المزاعم. ولكن أقوال علماء الفلك

والزلازل في خراب العالم مبنية على أصول علمية ، إذا لم تبلغ فروعها درجة

القطع وتحديد الزمن ، فلا يستطيع أحد أن ينكر أصولها وإمكان وقوع ما أخبر به

هذا العالم الإنكليزي في وقت ما ، وقد صرح كتاب الله تعالى بأن للساعة زلزلة

عظيمة تتقدمها ، ولكنه قال:{لا تَأْتِيكُمْ إِلَاّ بَغْتَةً} (الأعراف: 187) .

_________

ص: 209

الكاتب: محمد رشيد رضا

الشيخ محمد مهدي

فُجع القطر المصري في الشهر الماضي فجأة بوفاة أخينا وصديقنا الكريم،

وولينا الحميم، الأستاذ محمد مهدي بك وكيل مدرسة القضاء الشرعي ، والمدرس

في القسم العالي منها، فكانت وفاته زلزالاً عظيمًا، ورزءًا أليمًا، وخطبًا جسيمًا،

شعر بشدة وقعه عارفو فضله من العلماء والأدباء ولا سيما الذين تخرجوا به ، أو

تلقوا عنه في المدارس الأميرية الابتدائية فالثانوية فالعالية - وآخرها دار العلوم

والجامعة المصرية ومدرسة القضاء الشرعي - والذين عاشروه وحظوا بنصيب من

آدابه النفسية واللسانية - فقد كان رحمه الله تعالى نادر المثل ، ومنقطع النظير في

مجموعة أخلاقه وفضائله ومعارفه وآدابه. إنني أذكر من ترجمته بعض ما سمعت

ورأيت منه وما رويت عنه بالإيجاز ، وأختص ما كان من أمره في حزب الإصلاح

ومريدي الأستاذ الإمام:

هو من عرق ألباني جاور في الأزهر سنين، وتخرج في مدرسة دار العلوم،

وكان ممن تلقوا عن الأستاذ الشيخ حسن الطويل أحد أفراد علماء الأزهر في هذا

العصر ، في استقلال الفكر وسعة الاطلاع والجرأة على مخالفة الجماهير في الرأي،

وكان تلاميذه في الدرجة الثانية بعد تلاميذ الأستاذ الإمام الذين دخلوا هذه المدرسة

في أول العهد بتأسيسها، وأعني درجات الاستعداد للإصلاح. ولهذا كانوا أشد

خريجيها رغبة في الاتصال بالإمام في قيامه بالنهضة الأخيرة، وأكثرهم استفادة منه،

ولا غرو! فقد كان الشيخ حسن الطويل صديقًا للشيخ محمد عبده وأستاذاً له في

الأزهر قبل مجيء السيد جمال الدين إلى هذه البلاد، جمع بينهما الميل إلى العلوم

العقلية، والبحث عن غير ما يقرأ في الأزهر، وكانا أول من لقي السيد، وسمع منه

مباحث في تفسير بعض آيات القرآن الحكيم ، لم يطرق آذانهما مثلها، جذبت إليه

ثانيهما ، فانقطع عن كل شيوخه وانفرد بصحبته وكان الوارث الأكبر له.

كان الجامدون من أهل الأزهر لا يستطيعون فتح أبصارهم في نور حكمة

الأستاذ الإمام وعلمه الاستقلالي وآرائه الإصلاحية ، بل كان بعضهم كالأعمى،

وبعضهم كالأعشى تجاه ذلك النور. وكان تلاميذ الطويل يصرفون أبصارهم إليه إذا

صرفت أبصار غيرهم عنه، فربما طرفت عين أحدهم عند النظرة الأولى، ولكنه

لا يلبث أن يعيدها مرة بعد أخرى، حتى تقوى على إدراك ذلك النور وإدراك

الحقائق به، وكذلك وقع للمهدي.

حدثني فقيدنا الكريم بأول عهده بمعرفة الأستاذ قال: ذهبت مع صديق لي إلى

دار سعد بك زغلول في (الظاهر) ليلة ، فوجدت عنده الشيخ محمد عبده وقاسم

بك أمين وآخرين، وكانوا يتكلمون في سوء حال المسلمين وما ينتقد عليهم من

أمور دينهم ودنياهم، فرأيت أنهم مخطئون في بعض ما يقولون، وقد أردت أن

أجول معهم فيما رأيته خطأ من أقوالهم وما يقرره الشيخ فيوافقونه عليه ، فألفيتني

عاجزًا عن الرد عليهم وضقت بهم ذرعًا، فرأيت من الدهاء أن أورطهم فيما يظهر

به خطأ رأيهم للناس ، فقلت للأستاذ بعد جولة قصيرة معه: إذا كان المسلمون

بحيث تذكرون فما بالكم لا تبينون لهم ضلالهم، وتدلونهم على المخرج منه بمقالات

تنشرونها في الجرائد؟ - وكنت أمكر به؛ ليكتب فيتصدى للرد عليه من هم أقدر

مني على ذلك - فقال الأستاذ: قد صدرت هنا جريدة جديدة ، لأجل هذه المباحث

فيحسن بك أن تقرأها؟ وذكر (المنار) .

كان هذا القول سبب اشتراك الفقيد في المنار منذ السنة الأولى ، وتلا ذلك

تعارفنا وتآلفنا، وكان في أول العهد به يجادلني في بعض مباحث المنار التي يرى

فيها نظرًا أو خطأ، وكانت طريقته في المذاكرة أو المناظرة أنه يحفظ لنفسه خط

الرجعة غالبًا، فلا يظهر رأيه بصيغة الجزم، حتى إذا ظهر له أنه مخطئ لم يشق

عليه أن يعترف بالحق، وكان هذا دأبه طول عمره، وكان يسر بالفلج والإحسان

والإصابة، ويدل به فيبتسم وتبرق أساريره ، فإذا جاراه جليسه وشاركه في تبسمه

ضحك، فإذا شاركه فيه أطال وأغرب، وكان يكتئب إذا أخطأ فتراه قد تخاوص

وقطب.

وقد حمد - رحمه الله تعالى - صحبتي وحمدت صحبته، ولما اقترحت على

الأستاذ الإمام عقد مجالس خاصة يتلقى عنه فيها الحكمة العالية بعض خواص

المستنيرين من أساتذة المدارس وغيرهم كان الشيخ مهدي أول من ذكرت له منهم

فقال لي: إن هذا من الجامدين. قلت: لا بل هو مستقل الفكر، حريص على

حقائق العلم. وكان سبب هذا الظن فيه سمره تلك الليلة معهم في دار سعد باشا

زغلول - ثم كان من أحظى الإخوان عند الإمام رحمهما الله تعالى.

كان الفقيد يحضر معنا دروس الأستاذ الإمام في الأزهر؛ رسالة التوحيد

والتفسير والمنطق والبلاغة، ولما خرجنا من الدرس الأول من دروس كتاب أسرار

البلاغة قال لي: إننا في هذه الليلة قد اكتشفنا معنى علم البيان. وكان يحضر

الدروس أو المجالس العالية الخاصة التي كان الأستاذ يلقيها على فئة مختارة في دار

أحمد بك تيمور (هو أحمد باشا تيمور عضو مجلس الشيوخ) في شارع درب

سعادة، ثم في داره هو بعين شمس - فبهذا كان الفقيد من خواص مريدي الأستاذ

الإمام الذين وردوا حوضه وشربوا نهلاً وعلاً، وأشربوا آراءه الإصلاحية، فنشروها

قولاً وفعلاً، إلا أنه لم يكن يتحرى الدعاية لها، ولم يكن يجهر بنضال الخصوم

دونه ودونها، بل كان يوردها في الأكثر من تلقاء نفسه ويجادل فيها على طريقته

التي بيناها آنفًا.

وكذلك كان شأنه في آراء المنار، كان معجباً بها ومظاهراً لي عليها، وكان

يقول لي: إننا نرى في كل جزء من المنار شيئًا جديدًا ما كنا نعلمه، وكان يحب نشر

ذلك والدفاع عنه بما بينا من أسلوبه وطريقته. فإذا تصدى له بعض خصوم الأستاذ

الإمام أو خصوم المنار منكرًا ومجادلاً تحرى في الدفاع أن يكون محايداً لا ضلع له

معنا، إلا أن يكون المنكر من تلاميذه أو ممن هم كتلاميذه في توقيره واحترام رأيه،

فقد يصرح حينئذ بالانتصار والثناء، وكان يرى أن هذا الأسلوب وهذه الطريقة

أقرب وسائل الإقناع، وهو الذي كان يخبرني بهذا عن نفسه، وكنت أرى أن هذا

من الضعف الناشئ عن تحاميه أسباب الانتقاد عليه والتخطئة له، فإنه لم يكن

يطيق هذا، فكان البون بيننا في هذه الخليقة واسعًا.

وكان بعض إخوانه يتهمه بحب الانفراد ولو تشبعًا. قال لي أستاذ في الذروة

منهم علمًا واستقلالاً وصراحة: فاجأنا أخونا فلان بآراء جديدة ومباحث طريفة،

يلقيها علينا في سامرنا لم نكن نعهدها منه، ونحن أعلم الناس به، فكنا نجادله فيها

ولم نعرف مصدرها ، حتى اشتركنا في المنار (وكان اشتراك هذا الأستاذ في أثناء

السنة الثانية) . وعندي من النظر في إطلاق هذه التهمة أن الإنسان إذا اقنع بشيء

وتمكن من نفسه صار رأيًا له ومذهبًا، وصار يتحدث به من عند نفسه، فهي التي

تلقى على لسانه وتملى على قلمه، ما لعله في غفلة عن مصدره، وتكثر هذه الغفلة

إذا طال العهد على تلقي ذلك الشيء ولا سيما إذا كان من المسائل التي تتكرر

بالأساليب المختلفة؛ لأجل الإقناع بها وتعميم نشرها، دع ما كان من توارد

الخواطر، ووقع حافر في إثر حافر.

تلك المباحث الإصلاحية التي كانت جديدة في أول العهد بظهور المنار هي ما

أشرنا إليه في فاتحته، وشرحناه بالتدريج في المقالات المتسلسلة والمتفرقة كمقالات

منكرات الموالد ، ومقالات الإصلاح الإسلامي التي أنحينا فيها على رؤساء الدين

والدنيا من الخلفاء والملوك والمتكلمين والفقهاء والمتصوفة، وأهمها مسألة التقليد

وتفرق المذاهب ، ولما عزمت على بسط هذا البحث وإقامة الحجج عليه ، ووصف

العلاج للتفرق بجمع الكلمة على المجمع عليه في الإسلام ، وجعل المسائل الخلافية

في الدين كأمثالها في اللغة والعلوم والفنون البشرية، لا تقتضي تفرقًا ولا عداوة ولا

طعنًا في المخالف - كاشفت الفقيد بذلك فنصح لي بأن لا أصرح بذلك؛ لئلا تقوم

قيامة الشيوخ على المنار، فقلت له: سأكتب ذلك بصفة مناظرة بين مصلح ومقلد -

وأفتح باب الرد عليها لمن شاء. وقد نفذت ذلك في المجلدين الثالث والرابع

وجمعت تلك المقالات في كتاب (محاورات المصلح والمقلد) التي طبعت في كتاب

مستقل كان له في العالم الإسلامي تأثير عظيم ، ولقد كنت أرجو عند إنشاء المنار

أن أجد من هؤلاء الداربين في مصر حزبًا كبيرًا يشد أزري في عملي ، فلم أجد إلا

أفرادًا ، كان الفقيد أبرهم وأوفاهم وأوصلهم - فجزاه الله خير الجزاء - وقد كان من

حبه لي أن سمى نجله الوحيد باسمي، فأسأله أن يجعله خير خلف له.

وجملة القول في نشأة الفقيد الأدبية الإصلاحية: إنه كان من خيرة الذين

تخرجوا في دار العلوم ، وأرقاهم تحصيلاً وأحسنهم تعليمًا، ومن وسط المستعدين

للإصلاح، وأوائل الفئة التي اتصلت بالأستاذ الإمام في عهدنا ، فأشربت طريقته

المعتدلة في الإصلاح ومذهبه الوسط الجامع بين هداية الدين على منهاج السلف

الصالح وتجديد حضارة الأمة ، بما يقتضيه ترقي العلوم الكونية والفنون الحديثة.

ومن أكبر الآيات على ذلك تربيته وتعليمه لكريمته (أسماء) فقد رباها تربية

إسلامية فاضلة ، وعلمها تعليمًا عصريًّا راقيًا. وكان من شجاعته الأدبية أن أرسلها

إلى إنكلترا؛ لإتمام تعلمها واثقًا بدينها وأدبها، فحقق الله ظنه فيها، وهي الآن ناظرة

لمدرسة من مدارس البنات الأميرية ، تديرها أحسن إدارة.

ومسألة المرأة أهم مسائل تجديد الحضارة في الشرق ، والمذاهب فيها ثلاثة:

مذهب ملاحدة المتفرنجين: وهو جعلها كالمرأة الإفرنجية حتى في الخلاعة

والرقص مع الرجال نصف عارية ، ومعاقرة الراح معهم وما وراء ذلك من وقاحة

وإباحة. ومذهب الجامدين: وهو أن تكون جاهلة مظلومة مستضعفة. ومذهب حزب

الإصلاح والتجديد المعتدل: وهو أن تربى البنات على التدين والفضيلة والعفاف

والتقوى ، وتعلم القراءة والكتابة بلغة أمتها وملتها وأمور الدين، وكل ما تحتاج إليه

للقيام بتكوين الأسرة ونظامها من أمور الصحة ، وتربية الأطفال وتدبير المنزل إلخ

وأن لا يحرم المستعدات منهن للعلوم العالية منها ولا سيما الطب ، وآكده ما يختص

منه بالنساء، وإدارة مدارس البنات، والملاجئ الخيرية للنساء، وكل ما تمس

إليه حاجة الأمة.

حسبك يا قارئ المنار في الآفاق أن تعرف مما ذكرنا أن الفقيد كان من مريدي

الأستاذ الإمام؛ أي: من الحزب الإسلامي المعتدل ، الذي لا يرجى بدونه صلاح حال

المسلمين، وارتقاؤهم المدني والاجتماعي والسياسي ، مع بقائهم مسلمين كما

شهد بذلك بعض أقطاب السياسة من الأوربيين أولي العلم والاختبار لأمور الشرق

الذين وصفوه بالحزب الوسط بين جمود السواد الأكبر ، وبين غلاة المتفرنجين.

صرح اللورد كرومر بهذا في تأبينه للأستاذ الإمام في تقريره عن مصر سنة 1905 ،

وسبقه إلى ذلك مراسل جريدة الطان الفرنسية بتونس.

بعد هذا أنقل إليك ما كتبه أحد تلاميذ الفقيد من دعاة التفرنج أنصار الجديد

أعداء القديم فيه من هذه الجهة.

***

رأي تلميذ له فيه

كتب الدكتور طه حسين مقالاً فيه نشره في جريدة السياسة ، وهو أحد كتابها

ذكر فيه أن الأستاذ المهدي كان له تأثير عظيم في أنفس تلاميذه الكثيرين ، وأنهم

كانوا يحبونه حبًّا شديدًا ، وأن منهم كثيرًا من كبار المعلمين والقضاة والمحامين من

شيوخ مصر وشبانها ثم قال:

ولقد أريد أن أترك منه في هذه الكلمة صورة قريبة من الصدق، أريد أن

أكون مؤرخًا لا مداحًا ولا راثيًا، وأشعر بأن عمل المؤرخ في مثل هذا المقام ليس

بالشيء السهل.

(لم يكن الشيخ محمد مهدي من أنصار القديم ، ولكنه لم يكن من أنصار

الجديد، وإنما كان وسطًا بين هاتين الطائفتين، كان يزدري أنصار القديم ويغلو

بعض الشيء في ازدرائهم، وكان يراهم خطرًا على الرقي العقلي وعلى الحياة

الصالحة، كما أنه لم يكن يحب الغلاة من أنصار الجديد ، بل كان يتبرم بهم كثيرًا

ويراهم خطرًا على الحياة الاجتماعية والدينية بنوع خاص ، كان شديد الإعجاب

بالأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده وبعض تلاميذه، بل كان إعجابه هذا لا حد له،

وكان سببًا من أسباب قصوره عن إدراك الحياة الجديدة، فكان يخيل إليه أن المثل

الأعلى من الرقي العقلي ومن الحرية العقلية ، إنما هو ما وصل إليه الشيخ محمد

عبده، وأن الذين ينحرفون عن طريق الأستاذ الشيخ محمد عبده إلى ناحية الجمود

كالذين ينحرفون عن طريقه إلى ناحية التقدم، خطرون على الحياة الاجتماعية

والدينية والعقلية ، أولئك يؤخرونها والتأخر شر، وهؤلاء يثبون بها والوثوب خطر.

ثم كان الأستاذ الشيخ مهدي يمثل جيلاً خاصًّا من الأساتذة والأدباء هو أقرب

الآن إلى أن ينتهي ، ويترك مكانه لجيل من الشبان يخالفه المخالفة كلها. كان قد أدرك

ذلك العصر الذي لم تكن فيه حياتنا العقلية والأدبية راقية ولا مرضية، وكان من

الذين ظهر فيهم الرقي الجديد ، فكان معجبًا بهذا الرقي مفتونًا به، وحفظ هذا إلى آخر

أيامه، فكان يرى نفسه خيرًا من غيره، وكان لا يتكلف الاحتياط في إخفاء ذلك أو

الاقتصاد فيه، وكان أصدقاؤه وتلاميذه الذين يحبونه ويميلون إليه يسمعون منه ذلك

راضين بل متفكهين، كانوا يبسمون له ويستعيدونه، فإذا انصرف عنهم الأستاذ

أعادوا ما سمعوا منه وضحكوا لا ضحك سخرية وازدراء بل ضحك عطف وحب)

اهـ.

(المنار)

هذا قول صريح من الدكتور طه حسين في رأيه ورأي أمثاله من غلاة التفرنج

في حزب الأستاذ الإمام ، الذي بينا أساسه آنفًا. وإذا كان الدكتور طه يعد الفاسق

الخليع أبا نواس من المصلحين في عصره، فلا غرو أن يعد الأستاذ الشيخ محمد

مهدي ممن يضحك منهم في هذا العصر، ومن آرائهم في الإعجاب بالشيخ محمد

عبده ومبادئه في الجمع بين هداية الدين والترقي الدنيوي. وإننا نود من الدكتور

وشبان حزبه أن يبينوا لنا بمثل هذه الصراحة وجه تفضيل جيل الشبان الجديد على

جيل المعتدلين المصلحين ، وهل منه أن السيدة أسماء كريمة المهدي التي تربأ

بشرفها ودينها أن تتعلم الرقص مع الرجال الذي شرحته لنا السياسة من عهد قريب؛

تعد من نساء العهد القديم الذين يدعون إلى القضاء عليه؟ أم تعد كأبيها ممن يضحك

منهن ويعطف عليهن؛ لأنهن تعبن في اقتباس العلوم العصرية ولم يقدرن أن يصلن

بها إلى الرقي الجديد، فوجب عليهن أن يتركن مكانهن لبنات الجيل الجديد اللواتي

يرقصن مع الرجال الأجانب ، والوطنيين في مصر الجديدة وشارع عماد الدين كما

يرقص أخواتهن التركيات في مراقص غلطه وبيرا مع رجال الروم والإفرنج بإغواء ملاحدة المتفرنجين هنالك؟

إن شأن غلاة التفرنج في مصر لعجيب، وأعجب منه تفضيل مثل الدكتور

طه المدرس في الجامعة المصرية ، والمحرر في جريدة السياسة هؤلاء الغلاة على

المعتدلين الذين يرشدون الأمة إلى كل نافع ويزجرونها عن كل ضار من قديم وجديد.

إن هؤلاء الغلاة في التفرنج أشد إفسادًا لأممهم من الجامدين على كل جديد ،

فهم الذين يبددون ثروتها في الفسق والفجور، وهم الذين يفسدون أخلاقها وآدابها

وأعراضها، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل من مقوماتها ومشخصاتها، فإن كانوا

على شيء من العقل والفضيلة؛ فليبينه لنا الدكتور طه وأمثاله لنقيم له ميزان

المناظرة، ونحكم فيه مصلحة الأمة.

_________

ص: 215