المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مؤتمر الخلافة [*] - مجلة المنار - جـ ٢٥

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (25)

- ‌جمادى الآخرة - 1342ه

- ‌فاتحة المجلد الخامس والعشرين

- ‌تجنس المسلم بجنسية تنافي الإسلام

- ‌تحديد سن الزواج بتشريع قانوني

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌ملك الحجاز في أطراف سورية

- ‌رجب - 1342ه

- ‌خطاب عام للمسلمين(2)

- ‌كلمة في التعريف بمجموعة الحديث النجدية

- ‌تزويج المسلم بغير المسلمة [

- ‌مسألة تحديد الزواجبقانون ومسلك الحكومتين العثمانية والمصرية فيه

- ‌العبر التاريخية في أطوار المسألة المصرية [*](3)

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌الدعوة إلى انتقاد المنار

- ‌شعبان - 1342ه

- ‌التبشير والمبشرون في نظر المسلمين

- ‌تسكين كلمات الآذان وجواب الإقامةوبدء السلام ورده

- ‌سكة الحديد الحجازية

- ‌الوثائق الرسمية في المسألة العربية

- ‌أثارة من تاريخ الزلازل وعلم الأرض

- ‌تحريم المسلمات على غير المسلمين [*]

- ‌زيارة ملك الحجاز لشرقي الأردن

- ‌رمضان - 1342ه

- ‌الخلافة والخليفةالإمام الحق في هذه الأيام

- ‌الانقلاب الديني السياسيفي الجمهورية التركية

- ‌رسالة ملك الحجاز إلى الأمة البريطانية

- ‌خطاب عام للمسلمين(3)

- ‌تحريم المسلمة على الكتابي

- ‌موقف العالم الإسلامي مع الجمهورية التركية

- ‌ذو القعدة - 1342ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الخلافة والمؤتمر الإسلامي

- ‌عالم العراق ورحلة أهل الآفاقالسيد محمود شكري الألوسي

- ‌انتحال السيد حسين أمير مكة للخلافة

- ‌صفر - 1343ه

- ‌الوصية المزورة باسم المدينة المنورة

- ‌المسألة العربية في طور جديد

- ‌مبايعة الحجاز لحسين بالخلافة

- ‌منشور الخلافة

- ‌منشور العودةالذي أذاعه حسين المكي قبل عودته من شرق الأردن

- ‌التبرع بنُسخٍ من المنارومن شهد له من الكبار

- ‌الشيخ سالم أبو حاجب

- ‌ربيع الأول - 1343ه

- ‌مؤتمر الخلافة [*]

- ‌الطور الجديد للمسألة العربية

- ‌بطل العرب والإسلام وأندلسهما الثانية

- ‌ربيع الآخر - 1343ه

- ‌المقالات الجمالية(2)

- ‌المنار بين الروافض والنواصب

- ‌رجب - 1343ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الإغراء بين النصارى والمسلمين

- ‌من الأمير إلى الملك [*]

- ‌المطبوعات الحديثة

- ‌شعبان - 1343ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌المُفطرون في رمضان

- ‌ماضي الأزهر وحاضره ومستقبله(2)

- ‌ترجمة القرآنوتحريف ترجمة له والتشكيك فيه

- ‌المطبوعات الجديدة

- ‌خاتمة المجلد الخامس والعشرين

الفصل: ‌مؤتمر الخلافة [*]

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مؤتمر الخلافة [*]

] وأتمروا بينكم بمعروف [[**]

الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله {وَعَدَ اللهُ

الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ

قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ * وَلَيُبِدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} (النور: 55) .

والصلاة والسلام على سيدنا محمد الهادي إلى الصراط المستقيم ، وعلى آله

وأصحابه والتابعين له بإحسان.

كان للمسلمين ملك عظيم امتد يمينًا وشمالاً ، فبسط جناحيه على المشرق

والمغرب ، فأظلتا أعظم ممالك العمران ما بين الطرف الغربي من أوربة وحدود

الصين في الشرق الأقصى ، وما بين المحيط الجنوبي إلى أحشاء أوربة في الشمال ،

وكان لهم في هذا الملك العظيم من الدول العزيزة والسلطان الكبير ، ما فصلت

أخباره في الأسفار الكثيرة من خزائن التاريخ.

كانوا كلما سقطت دولة من دولهم بخروج أمرائهم وسلاطينهم عن هداية

الشرع بالعدل ، وسنن الله المطردة في العمران ، خلفتها دولة أخرى أعز منها شأنًا

وأقوى سلطانًا.

كانوا أمة واحدة تدبر أمورها دولة واحدة ، ثم تعددت فيها الدول وهي أمة

واحدة؛ لأنها كانت لا تزال تحيا بروح الإسلام الذي ساوى بين الشعوب والأقوام ،

وجعل التفاضل بين الناس بالعلم والعمل دون القومية والنسب ، حتى كان مثل

البخاري وأبى حنيفة من سلائل الفرس معدودين من أكبر أئمة السنة والفقه ، ومثل

نور الدين الشهيد وصلاح الدين الأيوبي من سلائل الترك والكرد مفضلين على

كثير من خلفاء قريش في الحكم.

ومن طرائف شهادة التاريخ على هذا ما ذكره ابن جبير الأندلسي في رحلته

واصفًا خطبة الجمعة في الحرم المكي الشريف سنة 579 قال: ثم دعا - الخطيب-

للخليفة العباسي أبي العباس أحمد الناصر ثم لأمير مكة مكثر بن عيسى بن فليتة

ابن قاسم بن محمد بن جعفر بن أبى هاشم الحسني ، ثم لصلاح الدين أبى المظفر

يوسف بن أيوب، ولولي عهده أخيه أبى بكر بن أيوب ، وعند ذكر صلاح الدين

بالدعاء تخفق الألسنة بالتأمين عليه من كل مكان.

وإذا أحب الله يومًا عبده

ألقى عليه محبة للناس

وحق ذلك عليهم لما يبذله من جميل الاعتناء بهم ، وحسن النظر لهم ، ولما

رفعه من وظائف المكوس عنهم ، وفي هذا التاريخ علمنا بأن كتابه وصل إلى

الأمير مكثر ، وأهم فصوله التوصية بالحاج، والتأكيد في مبرتهم ، وتأنيسهم، ورفع

أيدي الاعتداء عنهم ، والإيعاز في ذلك إلى الخدام والأتباع والأوزاع ، وقال:

إنما نحن وأنت متقلبون في بركة الحاج ، فتأمل هذا المنزع الشريف والمقصد

الكريم إلى آخر ما قال.

والعبرة فيه ظهور تفضيل حجاج الشعوب الإسلامية كلها مع أهل الحرم

للسلطان الكردي ، على الخليفة القرشي والأمير العلوي ، وذكر في غير هذا

الموضع من الرحلة أن أمير مكة كان من أشد هؤلاء الأمراء في الإلحاد بالظلم في

حرم الله تعالى ، وأنه انتزع مفتاح بيت الله من وارثه زعيم الشيبيين محمد بن

إسماعيل ، وأمر بالقبض عليه وانتهاب منزله ، وصرفه عن حجابة البيت الحرام،

طهره الله تعالى ، قال: والحال يشبه بعضها بعضًا (وإن الظالمين بعضهم أولياء

بعض) ، وإلى الله المشتكى من فساد ظهر حتى في أشرف بقاع الأرض ، وهو

حسبنا ونعم الوكيل. اهـ.

وأعظم مما ذكره ابن جبير رحمه الله في الاعتبار أن الظلم والفساد في

الحرم تسلسل في هؤلاء الأمراء المكيين ، الذين يفضلون أنفسهم بنسبهم على جميع

الصالحين والمصلحين ، إلى أن بلغ أشده في هذه السنين من المتغلب الذي ادعى

حق الملك على جميع العرب ، والخلافة على جميع المسلمين وصرحت جريدته بأنه

نال هذا بالرغم من أهل السموات والأرض أجمعين ، فأخرجه الله تعالى منها

مذؤومًا مدحورًا ، مأفونًا مثبورًا ، منبوذًا مهجورًا {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا

خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} (البقرة: 66)

ما فعل الله تعالى بذلك الملك العظيم؟ وماذا بقي منه لأكثر من ثلاثمائة مليون

من المسلمين؟ وكيف وجد من ضعف ، ثم كان من بعد ضعف قوة ، ثم ذهبت تلك

الدول والشعوب شذر مذر ، وصارت عبرة لمن اعتبر؟ وهل يرجى أن يعود

الإسلام كما بدا؟ وكيف السبيل إلى ذلك؟ وكيف فرقوا في الدين فكانوا شيعًا والملة

واحدة ، وتفرقوا في الأجناس والأقوام، والأوطان والأمة واحدة؟

لقد نزل ما نزل بالمسلمين وهم غافلون ، وأتاهم بأس الله بياتًا وهم نائمون ،

وضحًى وهم يلعبون ، فضرب الله على آذانهم في كهف الجهل بضعة قرون ، ثم

تأذن الله تعالى ببعثهم من رقادهم ، وهداهم إلى التفكر في حالهم وحال آبائهم

الأولين ، وخلفائهم الراشدين ، وملوكهم الفاتحين ، فاختلفوا في أسباب ما كان من

قوة وضعف وعز وذل ، بما رسخ في شعوبهم من الجهل ، وما طرأ عليها من البدع،

وما سرى إليها من نعرة الجنسية ، وعصبية الجاهلية ، وما تغلغل فيها من الدسائس

الأجنبية ، والتعاليم المادية الإلحادية ، فذهب أهل البصيرة منهم إلى أن ترك هداية

الدين الأولى ، والابتداع والتفرق فيه هو الذي أضاع ملكهم ، وذهب بمدنيتهم؛ لأن

هذه الهداية كانت هي السبب لهما ، وما حصل بسبب زال بزواله.

وزعم آخرون أن الأخذ بالدين هو سبب هذا الضعف ، والجهل بشبهة

اشتراك جميع شعوب المسلمين فيه ، وليس بينهم جامعة مشتركة يعلل بها إلا

الدين ، وفاتهم أن الجهل بحقيقته والابتداع فيه ، والإعراض عن هدايته الأولى

علة فاشية في جميع تلك الشعوب أيضًا ، فهؤلاء يقولون: لا يمكن أن نسترجع

مجدنا ، ونجدد ملكنا إلا بنبذ الدين ظهريًّا كما فعل الفرنسيس ومن تبعهم من الإفرنج ،

واستبدال الرابطة القومية والعصبية الوطنية بالجامعة الإسلامية.

وأولئك يقولون: إننا لا ننال ذلك إلا بما ناله سلفنا ، وإن الإفرنج لم ينجحوا

في دنياهم إلا بعد الإصلاح الديني ، لا بعد نبذ هداية الدين ظهريًّا ، وأنهم لا يزالون

يبذلون الملايين من الجنيهات في تعليمه ونشره.

ومن فروع هذا الخلاف قول متفرنجة الترك: إن منصب الخلافة وشكل

الحكومة الإسلامية علة العلل؛ لضعفهم وزوال سلطنتهم العظيمة. ورد بعض

العارفين عليهم: إن الإسلام هو الذي كان علة تأسيس تلك السلطنة العظيمة ، وإن

الخروج عن هدايته هو الذي كان علة ضعفها وزوالها ، وإن منصب الخلافة لم يكن

عندهم إلا لقبًا من ألقاب الفخر والشرف ، على أنه كان قوة معنوية لهم ، وإن لم

يترتب عليه عمل.

وبين هذين الفريقين السواد الأعظم من الجامدين على ما ألفوا من حق وباطل

وما تقلدوا من سنة وبدعة ، ينظرون إلى كل منهما بمنظار واحد ، فمنهم من يرمي

الفريقين بالكفر والإلحاد ، وأقلهم جمودًا من ينبذ طلاب الإصلاح بلقب الابتداع ،

ولم يبق للمسلمين رياسة عامة محترمة ، يرد إليها هذا النزاع؛ لتفصل فيه فصلاً

معقولاً ، يرجى أن يكون مقبولاً ، مهتدية بقوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ

فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً

* أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن

يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالاً

بَعِيدًا} (النساء: 59-60) ، فلا يتكلم باسم الإسلام من ليس منه ، ولا يعطى فيه

حق الحل والعقد.

قد ظهر في المسلمين مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من

قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع ، حتى لو دخلوا في جحر ضب لتبعتموهم. قالوا

يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟) رواه الشيخان في الصحيحين

وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: اتبعوا سننهم في البدع،

حتى انتهت ببعضهم إلى المروق من الإسلام نفاقًا ثم جهارًا ، ثم إلى محاربته

بدعوى إصلاح حكومته أو إصلاح أهله ، وقد شرع الترك في تأسيس حكومة غير

دينية في بلادهم.

إن هذه الفوضى الدينية في العالم الإسلامي قد حيرت الباحثين في طرق

الإصلاح الديني والمدني ، حتى كتب بعض الباحثين من كتاب المصريين بأنه قد

ثبت عنده بعد التروي في السنين الطوال ، أن المسلمين لن يرجعوا إلى دينهم ثانية

إلا بعد أن يتركوه تركًا تامًّا ، ثم هم يعيدون النظر فيه ، سالكين منهاجًا غير المناهج

المسلوكة منذ قرون في تلقينه ودرسه ، وإنه لرأي بمعزل من الصواب ، رجحه في

نظره فشل دعاة التجديد والإصلاح ، وفشو الفسوق والإلحاد ، وسبق الملاحدة إلى

المناصب الدولية ، وفوزهم في أعمال العمران ، ونجاحهم في جذب النابتة. وشر

من ذلك كله سكوت زعماء الجمود عنهم ، ونضالهم لدعاة الإصلاح من دونهم ،

ونحن على علمنا بهذا نفند رأي هذا الباحث نقضًا ومناقضة ومعارضة، وإننا نبحث

في هذه المسألة من زهاء ثلث قرن كتابة وخطابة ومناظرة ومراسلة بيننا وبين

المفكرين في مشارق البلاد الإسلامية ومغاربها ، مع السياحة في أهم أقطارها ،

فكانت ثمرة البحث أن الطريقة المثلى للإصلاح دونها موانع فلم تسلك ، والرجاء أن

يكون قد زال الآن ما دونها من العواثير والعقاب ، وفتح ما كان مغلقًا أمامها من

الأبواب.

ما هذه الطريقة المثلى؟ قيل لموقظ الشرق وحكيم الإسلام: إن علل ضعف

المسلمين كثيرة ، فهل لهذه العلل من علة ترجع كلها إليها ، فتوجه جهود الإصلاح

لإزالتها ، فيصلح كل شيء بالتبع لها؛ إذ يكون مكانها كمكان القلب من الجسد ، إذا

صلح صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد كله ، كما ورد في التمثيل النبوي؟ قال:

نعم ، إن الأمر الذي يجب على المسلمين أن يوجهوا جهودهم إلى إيجاده ، هو

(السلك) ، انقطع السلك الذي كان نظام وحدتهم الدينية والدنيوية ، فانتثر الحب

ولن ينتظم إلا بالسلك.

ونقول نحن في بيان مراد ذلك الحكيم: إنما كان السلك الأول نظام الخلافة

المؤيدة في الباطن بوازع الدين ، وفي الخارج بتأييد أهل الحل والعقد من المسلمين.

قام الخلفاء الراشدون بها حق القيام ، ثم صدعت بعصبية القومية الجاهلية ، فعصبية

التشيع المذهبية ، فضعف الوازع الديني المؤيد لها في الباطن رويدًا رويدًا،

وانحصر الحل والعقد في عصبية المتغلب شيئًا فشيئًا ، فتمزق بذلك شمل المسلمين

وصار أمرهم كالكرة بين صوالجة المتغلبين ، وصارت الأمة أممًا متعادية ، والدولة

دولاً متقاتلة ، وسبب هذه المصائب كلها عدم وضع نظام للحكم ، يكون السلطان فيه

لمن تختارهم الأمة للحل والعقد من غير قيد ولا حصر إلا في حدود الشرع.

شرع الإسلام مبني على جعل أمر المسلمين شورى بينهم ، وكل ما ليس فيه

نص قطعي مفوضًا إلى اجتهاد أولي الأمرمنهم ، وقد أمر الله تعالى رسوله صلى الله

عليه وسلم باستشارتهم في الأمر ، وقيد الطاعة في مبايعته بقوله: {وَلَا يَعْصِينَكَ

فِي مَعْرُوفٍ} (الممتحنة: 12) حتى لا يتجرأ أحد من أمراء المسلمين على

دعوى الاستغناء عن المشاورة ، ولا على دعوى وجوب الطاعة المطلقة ، وقد

جرى خلفاؤه الراشدون على هديه في ذلك ، فقال الخليفة الأول في خطبته الأولى

على منبره عقب المبايعة مخاطبًا لجماعة المسلمين: فإذا استقمت فأعينوني ، وإذا

زغت فقوموني ، وتبعه الخليفة الثاني بقوله: من رأى منكم في عوجًا فليقومه.

وقال الخليفة الثالث على المنبر أيضًا: أمري لأمركم تبع. وقد جروا كلهم على ذلك

بالعمل ، ينفذون نصوص الكتاب وما ثبت في السنة ، ويشاورون أهل العلم والرأي

في جميع الأمور الاجتهادية.

وهذا معنى ما ورد من الأحاديث الصحيحة في التزام الجماعة ، وكون من شذ

عنها في النار ، وهو ما عبر عنه بعض كبار العلماء بحق الأمة؛ أي: سلطة الأمة

وعللوه بأنها هي التي ورد الحديث بأنها لا تجتمع على ضلالة ، وإنما يمثل الأمة

في المسائل العلمية أئمتها المجتهدون ، وفي سياستها وإدارتها أهل الحل والعقد منهم،

ومن سائر رجالها الموثوق بكفايتهم في المصالح الدنيوية ، ولا سيما الحربية التي

صارت في هذا الزمان تتوقف على فنون كثيرة ، قال الحافظ ابن حجر في الكلام

على مبايعة عثمان من شرحه للبخاري: والذي يظهر من سيرة عمر في أمرائه

الذين كان يؤمرهم في البلاد ، أنه كان لا يراعي الأفضل في الدين فقط ، بل يضم

إليه مزيد المعرفة بالسياسة مع اجتناب ما يخالف الشرع ، فلأجل ذلك استخلف

(أي: أمر) معاوية والمغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص مع وجود من هو أفضل

منهم في أمر الدين والعلم: كأبي الدرداء في الشام وابن مسعود في الكوفة. اهـ.

ومن أقوال كبار العلماء في سلطة الأمة ، وكون الرأي لها في نصب الإمام

وعزله ، قول الإمام الرازي في تعريف الخلافة: هي رياسة عامة في الدين والدنيا

لشخص واحد من الأشخاص. وقال في القيد الذي زاده في التعريف على غيره:

هو احتراز عن كل الأمة إذا عزلوا الإمام لفسقه. قال السعد التفتازاني في شرح

المقاصد بعد ذكر هذا القيد وتعليله: وكأنه أراد بكل الأمة أهل الحل والعقد ،

واعتبر رياستهم على من عداهم ، أو على كل من آحاد الأمة. اهـ.

وأراد السعد بهذا التوجيه إزالة إشكال من عساه يقول: إذا كانت الرياسة

للأمة فمن المرؤوس؟

وجملة القول أن الإسلام قد بين أصول حكومة الشورى ، وإنما قصر

المسلمون في عدم وضع نظام يكفل تنفيذ أحكامها بالعمل ، ويكفل سلطة أهل الحل

والعقد الممثلين للأمة في كل زمان بحسبه ، وحكمة عدم وضع الشرع لهذا النظام

أنه يختلف باختلاف الزمان والمكان وأحوال الاجتماع ، ولذلك فوضه إلى الأمة ،

وقد كان استبداد الذين جعلوا الخلافة ملكًا يورث مانعًا من ذلك إلى آخر عهد آل

عثمان ، حتى لم يكن أحد يتجرأ على الدعوة إلى تقييد سلطتهم ، ولو في غير

بلادهم التي تنفذ فيها أحكامهم ، ولم ننس ما كان مسلمو مصر والهند يرمون به كل

من كان يشكو من ظلم عبد الحميد المستبد ، ثم من استبداد الاتحاديين ، ثم ما كان

من شأنهم في الغلو في إطراء الكماليين ، ثم في الإنحاء عليهم والتشهير بهم.

لهذا رجونا أن تكون الموانع دون سلوك الطريقة المثلى للإصلاح الإسلامي قد

زالت ، فأصبح ميسرًا ما كان متعذرًا ، وفتح من الأبواب له ما كان مغلقًا ، وما ذلك

إلا بإلغاء الترك للخلافة التركية الصورية التي لم تكن تعمل للإسلام ، ولا تدع أحدًا

يعمل له.

فالمطلوب الآن إيجاد السلك ووضع النظام ، وأن يكون بالتشاور بين العلماء

المسلمين الدينيين والسياسيين ، والإداريين والعسكريين ، والماليين والحاذقين لسائر

الفنون ، التي عليها مدار العمران وعزة الأمم وكرامتها ، ولا يكون هذا إلا بعقد

مؤتمر إسلامي عام ، وهو ما كنا ندندن حوله منذ أنشأنا المنار ، واقترحنا في ذلك

الوقت مرارًا أن يكون في ظل بيت الله الحرام توجيهًا للقلوب وتحريكًا للعقول ،

على أن الموانع كانت على أشدها ، وآمال المسلمين محصورة في الآستانة وحدها ،

ولذلك اقترح بعض الكتاب يومئذ أن يكون المؤتمر فيها ، كما اقترح ذلك بعضهم

بعد زوال الدولة العثمانية وما حل بخلافتها؛ لأن ما رسخ في العقول والقلوب

بتوالي القرون لا يزول في أشهر قليلة ، ولا في سنين معدودة.

قد كان ما كتبناه نحن وغيرنا في هذا الموضوع تمهيدًا وإعدادًا للأمة ، ولا

تقوم الأمم بعمل مفيد إلا بعد تمام الاستعداد للنهوض به ، ورجحان المقتضي له على

المانع منه ، وهذا ما نرجو أن نكون قد وصلنا إليه أو أوشكنا ، أما المانع فقد زال ،

وأما المتقتضي فلا مراء فيه ، وبقي استعداد الأمة ، هل تم أم لا؟ وهو ما يظهره

عقد المؤتمر.

كانت الخلافة العثمانية هي المانع الأكبر ، ولا سيما بعد أن عجز السلطان

عبد الحميد عما حاوله من تجديد نفوذ الخلافة ونشره ، واستحوذت عليه الوسوسة

واتهام كل طالب للإصلاح ، حتى السيد جمال الدين الأفغاني ، الذي كان المبتكر

لهذه الفكرة والمقنع لكثير من مجتهدي الشيعة بتأييدها ، فلما أنزل الكماليون بها

القارعة الأولى ، كان من حرص أكثر المسلمين عليها أن رضوا ببقاء اسمها الخلافة

مجردة من كل معاني الرياسة والحكم ، فلما قرعت أسماعهم الصاخة الكبرى بإلغاء

الاسم وطرد المسمى من الآستانة ، ورأوا طاغوت الحجاز قد تنحلها لنفسه - فزعوا

وأعولوا ، ثم تفكروا وتدبروا ، فهتف بهم الهاتف الإلهامي الإلهي أن توبوا إلى ربكم

وتوبوا إلى رشدكم ، واجعلوا الأمر شورى بينكم ، كما أرشدكم كتاب الله المنزل ،

ومضت به سنة نبيه المرسل ، وسعد به السلف الأول ، فتجاوبت الأصوات من كل

مكان: لا بد من عقد مؤتمر إسلامي عام. اتفقت الشعوب الإسلامية على وجوب

عقد المؤتمر ، وكثرة الدعاة إليه ، واختلفوا في الزمان والمكان اللذين يعقد فيهما ،

حتى إذا ارتفع صوت كبار علماء مصر بالتصدي للدعوة إليه ، وضربوا الموعد

المعروف له ، ثم صاروا يدعون أهل الرأي والأخصاء في الفنون المختلفة إلى

الانضواء إليهم ، والاشتراك في إدارة العمل معهم ، خفتت دون صوتهم الأصوات،

وكان أقواها صوت دعي الخلافة في الحجاز ، سل الله تعالى عليه سيف سلطان نجد ،

فأخرجه مهزومًا مذمومًا من تلك الأرض ، وذلك يضمن لنا اشتراك الحرمين

الشريفين في مؤتمر مصر بالتبع؛ لاشتراك نجد فيه كما تقرر من قبل.

فهذا أول مؤتمر إسلامي عام يشترك فيه علماء الدين والدنيا من أكبر الشعوب

الإسلامية ، وأوسعها علمًا وثروة ، وأشدها بأسًا وقوة ، والمطلوب الأول منه وضع

نظام للإمامة العظمى ، يدخل في بابين:

(أحدهما) قواعد حكومة إسلامية مدنية ، يظهر بها علو التشريع الإسلام على

جميع ما اشترعه البشر في العدل والمساواة ، والجمع بين السياسة والفضيلة التي خلا

منها اشتراع القوانين المادية.

(وثانيهما) قواعد للتربية والتعليم الجامعين بين هداية الدين ومصالح الدنيا ،

وتوثيق راوبط الأخوة الدينية والتكافل الروحي ، والتعاون الاقتصادي بين المسلمين

على اختلاف شعوبهم ومذاهبهم ، وتعدد حكوماتهم ، ويدخل في هذا إحياء دعوة الدين

والدفاع عنه مع اتقاء السياسة من كل وجه ، والحث على الاشتراك مع جميع

الشعوب في خدمة الإنسانية العامة ، وترقية الآداب والحضارة في جميع الأمم.

وأما المطلوب الثاني: فهو اختيار خليفة وإمام للمسلمين ، ينقذ القسم الأول من

هذا النظام في البلاد الخاضعة لحكمه ، خاصة مع مراعاة حقوق جميع أصناف

سكانها (وصدر الشرع الواسع لا يضيق بشيء من ذلك) ، ويشرف على تنفيذ

القسم الثاني مستعينًا بديوان يشترك فيه أعضاء من جميع الشعوب الإسلامية.

ونحن نجتهد في أن لا نجعل لأحد حجة علينا بتدخل سياسي سري ، ولا

جهري في مسلمي البلاد الأخرى ، ولا حجة علينا في ارتباطنا الديني والأدبي مع

أولئك المسلمين ، بأن يكون هذا الارتباط نحوًا مما تأتيه جمعياتهم الدينية في بلادنا

وبلاد غيرنا من الأجانب عنهم، كجمعيات الدعاة المبشرين ، وجمعية الشبان

المسيحيين وغيرهما ، وهذا النظام أكبر قوة ذاتية لنا ، نتقي بها استمرار هذا الخلل

والضعف فينا.

إن فائدة النظام الذي نقترحه على المؤتمر في المقصد الديني الأدبي ، أكبر

منه في المطلب السياسي ، فإن سلطان الخليفة السياسي خاص ببعض المسلمين ،

وسلطانه الديني الأدبي عام لهم ، وأكبر فوائد تلافي الفوضى في التعليم الديني ،

ورد عادية البدع ، وكبح جماح الأفكار المادية المولدة للزندقة والإلحاد ولنزغات

البلشفية ، وغيرها من الفتن التي أثارتها طبيعة الاجتماع ، وهذه خدمة للبشر من

جميع الملل والنحل.

فلهذه الغاية الفضلى ندعو أهل الرأي والغيرة والبصيرة ، من زعماء جميع

الشعوب الإسلامية إلى اغتنام فرصة إمكان عقد مؤتمر إسلامي عام في أرقى بلاد

الإسلام ، فهي فرصة لم يسمح قبل بمثلها الزمان ، ونسأله تعالى التوفيق في البدء

والختام.

_________

(*) رغب إلينا السكرتير العام للجنة مؤتمر الخلافة أن نكتب مقالة في موضوعه ، ووجه الحاجة إليه؛ لتنشر في صدر الجزء الأول من مجلة المؤتمر التي تصدر في هذا الشهر ، فكتبنا هذه المقالة، ثم رأينا أن ننقلها في مجلتنا؛ ليطلع قراؤنا عليها وهي هذه.

(**)(الطلاق: 6) .

ص: 525

الكاتب: جمال الدين الأفغاني

المقالات الجمالية

ننشر تحت هذا العنوان ما جمعناه من مقالات موقظ الشرق وحكيم الإسلام

السيد جمال الدين الأفغاني الحسيني حفظًا لها من الضياع.

الشرق والشرقيون

نشرها السيد في جريدة (أبو نظارة زرقاء) التي كانت تصدر بباريس أيام

وجوده فيها سنة 1300 (1883) ، وهي مصدرة بمقدمة حكيمة في العقل والنفس

والأخلاق ، التي هي يتفاضل بها البشر أفرادًا وجماعات ، ويعلو بعض الأمم بعضًا

في ارتقاء الحضارة ، ويتسابقون في جلبة السعادة السيادة ، ويلبها المقصد في

شعبتين: إحدهما: بيان ما كان للشرقيين من حظ ارتقاء العقل في العلم والبصيرة ،

وارتقاء النفس في الأخلاق العالية ، ثم ما انتهى إليه حالهم من إهمال النعمتين

والتدهور عن القمتين ، والشعبة الثانية في الشواهد التاريخية على ذلك بما كان من

إضاعتهم لممالكهم ، وتخريب بيوتهم بأيديهم ، قال رحمه الله:

(المقدمة)

الإنسان إنسان بعقله وبنفسه ، ولولا العقل والنفس لكان الإنسان أخس جميع

الحيوانات وأشقاها؛ لأنه في حياته أضيق مسلكًا ، وأصعب مجازًا ، وأوعر طريقًا

منها، قد حفت به المكاره ، وأحاطت به المشاق ، واكتنفت به الآلام ، لا يمكنه أن

يقوم بمعاشه وهو منعزل عن أبناء نوعه ، لا يطيق الحر ولا يتحمل ألم البرد ، ولا

يقدر على الذود عن نفسه ، وليس له من الآلات الطبيعية ما يثقف به معيشته ، وهو

محتاج في ضروريات حياته ، ومفتقر في الكمال فيها إلى الصناعة ، ولا يمكن

الحصول عليها إلا بإجالة الفكرة ، والتعاون بمن يشاركه في العقل من النوع

البشري.

والعقل أن تستنبط المسببات من أسبابها ، ويستدل بالعلل على معلولاتها ،

وينتقل من الملزومات إلى لوازمها ، وتستكشف الآثار حين ملاحظة مؤثراتها ،

وتعرف العواقب ضارها ونافعها ، وتقدر الأفعال بمقاديرها على حسب ما يمكن أن

يطرأ عليها من الفوائد والخسائر في عاجلها وآجلها ، ويتميز الحق من الباطل في

الأعمال الإنسانية نظرًا إلى عواقبها.

العقل (أي: بهذا المعنى) هو الهادي إلى مهيع السعادة ، ومنهج الأمن

والراحة ، لا يضل من استرشده ، ولا يغوي من استهداه ، ولا يحوم الشقاء حول

من ركن إليه ، ولا يعثر في المداحض من اعتمد عليه ، ولا يلتبس الحق بالباطل

على من استنار بنوره ، وإن الخير به، وليس الشر إلا بالحيدان عن صراطه القويم،

من فقده فاتته السعادة لا محالة ، ولو أخرجت له الأرض أفلاذها ، وأسبغت عليه

الدنيا نعيمها ، وإن الأمم ما سادت إلا بهدايته ، وما ذلت بعد رفيع مقامها وعظم

منزلتها إلا بعد أن عرضت عن خالص نصحه ، وتوغلت في بيداء غوايتها ،

واستعملته في مسالك ضلالتها ، واستخدمته لقضاء أوطار طبائعها الخسيسة ، التي

تجلب عليها الشنار ، وتوجب المعرة والصغار.

والنفس هي منشأ أخلاق كريمة ، وأوصاف عقلية ، هي قوام الاجتماعات

المدنية والمنزلية ، وأساس التعادل ، وميزان التكافؤ في الموازنات ، ومقياس

التوافق في المعاونات ، ولا يمكن التآلف بين القوى المتفرقة لاقتناء ما تقوم به

حياة الإنسان إلا بها ، ولا تلتئم أهوية النفوس المختلفة؛ لاكتساب ضروريات

معاشها إلا بسببها ، وهي التي تجعل الأفراد الإنسانية مع تضاد طبائعها بمنزلة

شخص واحد ، يسعى بأعضائه المتخالفة في أشكالها ، وجوارحه المتباينة في هيئاتها

إلى مقصد واحد ، لا يمكن الوصول إليه إلا باستعمالها بحركات ، قد اختلفت مع

وحدة جهتها أوضاعها ، وسيادة الأمم الغابرة والحاضرة ، هي من أخص نتائجها،

لأنها لا يمكن حصولها إلا باتفاق كلمة آحادها ، واجتماع آراء أفرادها ، ولا تتفق

الكلمة ولا تجتمع الآراء إلا بالتكافؤ في المساعي ، والتوازن في تحمل المشاق،

والاشتراك في المنافع ، والمساواة في الحقوق ، والتعادل في التمتع بثمرات الأعمال

بلا تفاضل ولا استئثار.

وكل هذه في وجودها وبقائها تحتاج إلى الأخلاق الكريمة والأوصاف

العقلية التي يعرف الإنسان حقه ، ويقف عنده ، ولا تشتت أمة ، ولا اضمحلت

سلطة ، ولا تفرقت جمعية إلا بفساد أخلاقها ، وتطرق الخلل في سجاياها؛ لأنها

بفسادها وتطرق الخلل فيها ، توجب تخالف الأيدي ، وتباعد الأهواء وتضارب

الآراء ، وتباين الأفكار ، فيستحيل حينئذ الاجتماع ويمتنع الاتفاق.

وإذا أمعن البصير في حقيقة الأخلاق الرذيلة يعلم أنها بذاتها تبعث على التفرق

والاختلاف ، وتمنع من الاجتماع والائتلاف ، وما ينشأ عن ذات الشيء لا يمكن

زواله ما دامت ذاته باقية ، فإذا تمكنت الأخلاق الرذيلة من أمة ، فلا يرجى لها

نجاح ، ولا يحصل لها فلاح ، ما لم تسع في تعديلها ، وتدأب في تقويمها.

ويمكن أن يقال: إن بين كمال العقل وطهارة النفس وتخلقها بالأخلاق الفاضلة

تلازمًا؛ لأن العقل إذا بلغ كماله يقهر الطبيعة ، فحينئذ تسلم النفس من سوراتها ،

وتخلص عن عكر قذفاتها ، فتنقاد للعقل مستسلمة له خاضعة لحكمه ، ويستعملها

العقل على نهج الحق والعدل ، وليست الأخلاق الفاضلة إلا أن تزن النفس أعمالها

بميزان العدل ، ولا تحيد في هواها عن صراط الحق.

الشعبة الأولى من المقصد في أسباب انحطاط الشرق:

وبعد هذه المقدمة يمكن لنا أن نقول: إن الشرق بعد ما كان له من الجاه

الرفيع ، والمقام المنيع ، والسلطنة العظيمة ، وبسطة الملك ، وعظم الشوكة ،

وكثرة الصنائع والبدائع ، ووفور الأمتعة والبضائع ، ورواج سوق التجارة ، وذيوع

العلوم والمعارف ، وشيوع الآداب والفنون؛ ما هبط عن جليل مرتبته ، وما سقط

عن رفيع منزلته ، ولا استولى الفقر والفاقة على ساكنيه ، ولا غلب الذل والاستكانة

على عامريه ، ولا تسلطت عليه الأجانب ، ولا استعبدت أهله الأباعد إلا لإعراض

الشرقيين عن الاستنارة بنور عقولهم ، وتطرق الفساد في أخلاقهم.

فإنك تراهم في سيرهم كالبهائم ، لا يتدبرون أمرًا ، ولا يتقون في أفعالهم

شرًّا ، ولا يكدون لجلب النافع ، ولا يجتنبون عن الضار [1] ، طرأ على عقولهم

السبات ، ووقفت أفكارهم عن الجولان في إصلاح شؤونهم ، وعميت بصائرهم عن

إدراك النوازل التي أحاطت بهم ، يقتحمون المهالك ، ويمشون المداحض [2] ،

ويسرعون في ظلمات أهوية نفوسهم التي نشأت عن أوهامهم المضلة ، ويتبعون

في مسالكهم ظنونًا قادهم إليها فساد طبائعهم ، لا يحسون المصائب قبل أن تمس

أجسادهم ، وينسونها كالبهيمة بعد زوال آلامها ، واندمال جراحها.

ولا يشعرون؛ لاستيلاء الغباوة على عقولهم ، واكفهرار ظلمات غشاوة

الجهل على بصائرهم ، باللذائذ التي خص الإنسان بها من حب الفخار في طلب

المجد والعز ، وابتغاء حسن الصيت ، وبقاء الذكر، بل لاستيلاء الغفلة على

عقولهم يحسبون أن يومهم دهرهم ، والتقمقم كالسارحة [3] شأنهم ، لا يدرون

عواقبهم ، ولا يدركون مآل أمرهم ، ولا يتداركون ما فاتهم ، ولا يحذرون ما

يتربصهم [4] من أمامهم ومن خلفهم ، ولا يفقهون ما أمكن لهم الدهر من الشدائد

والمصاعب ، ولذا تراهم قد رئموا الذل ، وألفوا الصغار وأنسوا الهوان ، وانقادوا

للعبودية ، ونسوا ما كان لهم من المجد المؤثل ، والمقام الأمثل.

وبعد انحدارهم عن ذروة العقل الذي لا كرامة للإنسان إلا به ، غلبت عليهم

الخسة والنذالة ، ورانت على قلبهم القسوة والجفاء ، وتمكن من نفوسهم الظلم

والجور ، واستولى عليهم العجب ، لا عن جاه يدعو إليه ، ولا عن فضيلة تبعث

عليه ، وتظاهروا مع الذل المتمكن من قلوبهم بالكبر والعظمة ، وفشا بينهم

الشقاق والنفاق ، وتلبسوا بالغدر والخيانة ، واستشعروا الحسد والنميمة ، وتسربلوا

بالحرص والشره ، وتجاهروا بالوقاحة والشراسة ، واتسموا بالخشية والجبانة ،

وانهمكوا في الشهوات الدنية ، وخاضوا في اللذات البدنية ، وتخلقوا بالأخلاق

البهيمية ، متوسدين الكسالة والفشل ، واتصفوا بصفات الحيوانات الضارية ،

يفترس قويهم ضعيفهم ، ويستعبد عزيزهم ذليلهم ، يخونون أوطانهم ، ويظلمون

جارهم ، ويستلبون أموال ضعفائهم ، ويخوسون بعهدهم [5] ، ويسعون في خراب

بلادهم ، ويمكنون الأجانب ديارهم ، لا يحمون ذمارًا ، ولا يخشون عارًا ، عالمهم

جاهل ، وأميرهم ظالم ، وقاضيهم خائن ، ليس لهم هادٍ فيرشدهم إلى سبيل نجاتهم،

ولا زاجر فيكفون عن التمادي في غيهم ، ولا وازع يقدع الجائرين عن نهش عظام

فقرائهم ، وصاروا جميعًا بسخافة عقولهم ، وفساد أخلاقهم ، عرضة للهلاك.

(لها بقية وهي الشواهد التاريخية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

اجتنب يتعدى بنفسه قال تعالى: [وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ](الشورى: 37) الآية.

(2)

أي: فيها وهي جمع مدحض ، حيث تدحض الرِّجْل: أي تزل.

(3)

السارحة: البهيمة التي تسرح للمرعي ، والتقمقم: أخذ الشاة ما على وجه الأرض بمقتمها وأكله ، وكذلك تتبع الإنسان ما على المائدة وأكله كله.

(4)

تربصه الأمر انتظره وتربصه به: توقع نزوله به ، ومنه:[نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المَنُونِ]

(الطور: 30) .

(5)

خاس يخيس خيسًا: كذب ، وخاس بالعهد خيسًا ، وخيسانًا: غدر ونكث.

ص: 535