المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الوصية المزورة باسم المدينة المنورة - مجلة المنار - جـ ٢٥

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (25)

- ‌جمادى الآخرة - 1342ه

- ‌فاتحة المجلد الخامس والعشرين

- ‌تجنس المسلم بجنسية تنافي الإسلام

- ‌تحديد سن الزواج بتشريع قانوني

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌ملك الحجاز في أطراف سورية

- ‌رجب - 1342ه

- ‌خطاب عام للمسلمين(2)

- ‌كلمة في التعريف بمجموعة الحديث النجدية

- ‌تزويج المسلم بغير المسلمة [

- ‌مسألة تحديد الزواجبقانون ومسلك الحكومتين العثمانية والمصرية فيه

- ‌العبر التاريخية في أطوار المسألة المصرية [*](3)

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌الدعوة إلى انتقاد المنار

- ‌شعبان - 1342ه

- ‌التبشير والمبشرون في نظر المسلمين

- ‌تسكين كلمات الآذان وجواب الإقامةوبدء السلام ورده

- ‌سكة الحديد الحجازية

- ‌الوثائق الرسمية في المسألة العربية

- ‌أثارة من تاريخ الزلازل وعلم الأرض

- ‌تحريم المسلمات على غير المسلمين [*]

- ‌زيارة ملك الحجاز لشرقي الأردن

- ‌رمضان - 1342ه

- ‌الخلافة والخليفةالإمام الحق في هذه الأيام

- ‌الانقلاب الديني السياسيفي الجمهورية التركية

- ‌رسالة ملك الحجاز إلى الأمة البريطانية

- ‌خطاب عام للمسلمين(3)

- ‌تحريم المسلمة على الكتابي

- ‌موقف العالم الإسلامي مع الجمهورية التركية

- ‌ذو القعدة - 1342ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الخلافة والمؤتمر الإسلامي

- ‌عالم العراق ورحلة أهل الآفاقالسيد محمود شكري الألوسي

- ‌انتحال السيد حسين أمير مكة للخلافة

- ‌صفر - 1343ه

- ‌الوصية المزورة باسم المدينة المنورة

- ‌المسألة العربية في طور جديد

- ‌مبايعة الحجاز لحسين بالخلافة

- ‌منشور الخلافة

- ‌منشور العودةالذي أذاعه حسين المكي قبل عودته من شرق الأردن

- ‌التبرع بنُسخٍ من المنارومن شهد له من الكبار

- ‌الشيخ سالم أبو حاجب

- ‌ربيع الأول - 1343ه

- ‌مؤتمر الخلافة [*]

- ‌الطور الجديد للمسألة العربية

- ‌بطل العرب والإسلام وأندلسهما الثانية

- ‌ربيع الآخر - 1343ه

- ‌المقالات الجمالية(2)

- ‌المنار بين الروافض والنواصب

- ‌رجب - 1343ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الإغراء بين النصارى والمسلمين

- ‌من الأمير إلى الملك [*]

- ‌المطبوعات الحديثة

- ‌شعبان - 1343ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌المُفطرون في رمضان

- ‌ماضي الأزهر وحاضره ومستقبله(2)

- ‌ترجمة القرآنوتحريف ترجمة له والتشكيك فيه

- ‌المطبوعات الجديدة

- ‌خاتمة المجلد الخامس والعشرين

الفصل: ‌الوصية المزورة باسم المدينة المنورة

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الوصية المزورة باسم المدينة المنورة

(س 21) من صاحب الإمضاء في (ميت غمر)

سيدي الأستاذ الجليل، محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار، حرسه الله،

تحية الله وسلامه إليك وبعد:

الدين الإسلامي الذي جاء فاصلاً بين الحق والباطل، وعلم الناس أن هناك

إلهًا لا يطلع أحدًا على غيبه، وأنه لا يظلم مثقال ذرة، الدين الإسلامي الذي أنقذ

الناس من جاهليتها الأولى، وأبطل الخرافات والاعتقادات الباطلة، دين هدى لمن

يريد أن يهتدي، دين توحيد لمن يريد أن يوحد ربًّا واحدًا، دين وجهة واحدة لمن

يريد أن يولي وجهه شطره، إلا أن الناس الذين يدينون به وينتسبون إليه لم

يحافظوا عليه ولم يحترموا تعاليمه.

وبذلك حقت علينا كلمة العذاب؛ لأن أكثر المسلمين لا يعقلون.

سيدي: أكتب إليك هذا وأنا في ذهول مستمر وحزن دائم لما وصلت إليه

حالة المسلمين، حتى أصبحت حياتنا الدينية والدنيوية تشبه الكفار من كل الوجوه.

وإن المنشور المرسل طي هذا الكتاب لأكبر دليل على صدق هذا القول، حتى لا

يقال بأننا نكتب على غير حق، فهل يصح يا فضيلة الأستاذ لأمة دينها الإسلام،

وكتابها القرآن، أن يوزع بينها هذا المنشور ويلصق على أبواب بيوت العبادة؟

فباسم الإسلام الذي وقفت حياتك على خدمته، والمحافظة عليه، وباسم العلم الذي

أخذت منه قسطًا وافرًا، وبحق ما لك علينا من فضل بمباحثك الدينية القيمة، التي

كثيرًا ما هدت ضالاًّ وعلمت جاهلاً، أن تبين لنا صحة هذا المنشور ، وأصل

مصدره والغاية التي يرمي إليها ناشره، وذلك يكون بنشر الرد بجريدة الأهرام حتى

يطلع الناس عليها، ويقفوا على حقيقتها، ولك من الله حسن الجزاء، ومن الناس

أجمل الثناء، وإنا لذلك لمنتظرون، والله المسؤول الذي بيده المصير أن يتولاك

برعايته. واقبل احترام وإخلاص مسلم معجب بعلمك ودينك.

ميت غمر في 27 مارس سنة 1924

... المخلص

...

...

...

... زكي محمد عبد الله

...

...

...

معاون سلخانة ميت غمر وأمين مخزن البلدية

وهذا نص الوصية المزورة المرسلة مع هذا السؤال.

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين على القوم الكافرين ، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم الأنبياء

والمرسلين وعلى آله وصحبه وسلم.

هذه وصية من المدينة المنورة

عن الشيخ أحمد خادم حرم النبي الشريف قال: كنت ساهرًا ليلة الجمعة أتلو

القرآن وبعد تلاوته قرأت أسماء الله الحسنى ، فلما فرغت من ذلك تهيأت للنوم

فأخذتني سنة من النوم ، فرأيت الطلعة البهية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذي

أظهر الآيات القرآنية والأحكام الشرعية؛ رحمة للعالمين سيدنا ونبينا محمد صلى

الله عليه وسلم فقال لي: يا شيخ أحمد. قلت: لبيك يا رسول الله ، ويا أكرم خلق الله.

فقال لي: أنا خجلان من أفعال الناس القبيحة ، ولن أقدر أن أقابل ربي ولا

الملائكة، ووَقْف على قدم؛ لأنه مات من الجمعة إلى الجمعة مائة وستون ألفًا على

غير الإسلام وواحد مات على الإسلام ، فنعوذ بالله من شر ذلك، وصار غنيهم لا

يرحم فقيرهم ، وأصبح كل شخص لا يسأل إلا عن نفسه ، وقد ارتكبوا المعاصي

والكبائر والزنا، وأنقصوا المكيال والميزان ، وكثرت المعاصي وأكلوا الربا وشربوا

الخمر ، وتركوا الصلاة ومنعوا الزكاة. فهذه الوصية لأجل أن يتعظوا؛ لأني في

شدة التعب من أجلهم، فأخبرهم يا شيخ أحمد قبل أن ينزل بهم العذاب من ربهم

العزيز الجبار وتغلق أبواب الرحمة، فنعوذ بالله من شر هذا القرن وأهله؛ لأنهم

عن طريق الحق ضالون، وبالله تعالى يشركون، وبالدين الحنيف ينكرون،

وبأديانهم الباطلة يمجدون. وإن الساعة قد قربت، وفي سنة 1340 هجرية تخرج

النساء من غير إذن أزواجهن ، وفي سنة 1350 هجرية تظهر علامة في السماء

مثل بيض الدجاج وهي علامة القيامة، وفي سنة 1370 هجرية تغيب الشمس ثلاثة

أيام بلياليها ، وبعد ذلك تشرق من المغرب ، وتغلق أبواب التوبة، وفي سنة 1380

هجرية يرفع القرآن العظيم من صدور الرجال، ويظهر المسيخ الدجال، وتتفاتن

النساء والرجال، ويعود الإسلام كما كان خرابًا. فأخبرهم يا شيخ أحمد بهذه

الوصية ، وعرفهم بأنها منقولة (بقلم القدرة من اللوح المحفوظ) .

ومن يكتبها ويرسلها من بلد إلى بلد أو من محل إلى محل، كتب الله له قصرًا

في الجنة ، ومن لا يكتبها ولا يرسلها حرمت عليه شفاعتي يوم القيامة، ومن لا

يعرف أن يكتبها يأمر كاتبًا بكتابتها بثلاثة دراهم، ومن كتبها وكان فقيرًا - أغناه الله،

أو كان مديونًا قضى الله دينه عنه، أو عليه ذنب غفر الله له ولوالديه ببركة هذه

الوصية، ومن يكتمها عن عباد الله اسود وجهه في الدنيا والآخرة.

وقال الشيخ أحمد: والله العظيم ثلاثًا، إن هذه حقيقة، وإن كنت كاذبًا أخرج من

الدنيا على غير الإسلام ، ومن يصدق بها ينجو من عذاب النار ، ومن كذب بها كفر،

وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.

...

...

...

...

(مؤمن مصدق)

(جواب المنار) : جاءنا هذا السؤال فقدمنا عليه في النشر والجواب أسئلة

أخرى جاءت قبله، ثم أطلعنا قلم التحرير في جريدة الأهرام على كتاب يقترح فيه

مرسله نشر هذه الوصية في الأهرام ، ومطالبة العلماء ببيان ما يجب في شأنها

فتذكرنا أننا قد سئلنا عنها هذه الوصية.

هذه الوصية فرية ملفقة سبقها أمثال لها كثيرة ، وكلها معزوة إلى اسم الشيخ

أحمد خادم الحرم النبوي الشريف أو خادم الحجرة النبوية الطاهرة، وأذكر أني

رأيت أول وصية منها بين أوراق لوالدي من زهاء أربعين سنة أو أكثر، فصدقتها

واهتممت بأمرها ، وكان ذلك قبل طلبي للعلم بل في أول العهد بالقراءة.

ومنذ عشرين سنة أرسل إلى أمين أفندي السرجاني، الصائغ المشهور بمصر

وصية أخرى منها ، وسألني عن رأيي فيها فنشرتها في باب الفتوى من المجلد

السابع (غرة شعبان 1322) وأجبت عنها بما سأعيده هنا، ثم أرسلت إلي نسخة

أخرى من السويس بعد سنة ونصف من نشر تلك الفتوى ، فاعتذرت عن نشرها في

فتاوى (ج 3 م 9 الذي نشر في ربيع الأول سنة 1324) .

والظاهر أن الذين يلفقون هذه الوصايا من الجهال يظنون أنه ربما يكون

لنشرها تأثير عظيم في المسلمين، وأنهم يقصدون النفع، ويستحلون في التوسل إليه

تعمد الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم ، كما كان يفعل بعض الوضَّاعين

لأحاديث الترغيب والترهيب، مع علم أولئك بقوله صلى الله عليه وسلم: (من

كذب عليَّ متعمدًا فليتبوّأ مقعده من النار) فإنه روي متواترًا في الكتب الستة

وغيرها من المسانيد والمعاجم عن عشرات من الصحابة. ثم ينسخها بعض العوام

حيث لا مطابع ، ويطبعونها في مثل هذه البلاد؛ لتصديقهم بما في آخرها من الوعد

والوعيد، ومن العجب أن الذين يجددون تلفيق الوصية لا يتركون اسم الشيخ أحمد

كأنه خالد في الحرم النبوي الشريف ، وكأنه أعطي خدمة الحجرة الطاهرة خالدة

تالدة ، لا تؤثر فيها أحداث الزمان ولا مرور السنين ولا تغير الحكومات. ويلوح

في ذاكرتي أن بعض زوار المدينة سأل عن الشيخ أحمد هذا منذ سنين كثيرة ، فلم

يجد في الحرم النبوي من يعرفه!

ومن دلائل كذب هذه الوصايا أسلوبها العامي ، على أن الوصية الجديدة دون

ما سبقها في اللحن والاصطلاحات العامية (ومنها) وهو أقواها: زعم مختلقها أن

النبي صلى الله عليه وسلم صار محجوبًا عن ربه وعن الملائكة بسبب ذنوب

الناس ، وهذه أعظم العقوبات التي توعد الله تعالى بها الفجار الكفار بقوله: {كَلَاّ

إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} (المطففين: 15) فجميع ما نعاه على المسلمين

من المعاصي هو دون الكذب على الرسول بأصل الوصية والكذب على الله ،

بزعمه أنه عاقب أفضل رسله بذنب غيره ، كما يعاقب الكفار في الآخرة، وهو

مغفور له بنص القرآن، على أنه لا يعاقب أحد من الخلق بذنب غيره بالنص أيضًا ،

ومن جهله تعبيره عن التجلي الرباني بالمقابلة، كما يعبر أهل هذا العصر عن لقاء

بعض الناس لبعض.

وقوله: وفي سنة 1340 تخرج النساء من غير أذن أزواجهن، يدل على

أن الوصية لفقت قبل هذا التاريخ ، ولما وصلنا إليه لم نر شيئًا لم يكن قبله ، فقد كان

كثير من النساء يخرجن قبله بدون إذن أزواجهن ، ولم يخرج فيه جميعهن ولا فيما

بعده ، فنقول: إنه مصداق للجملة. وما ذكر قبله من المعاصي فهو قديم أيضًا ،

ولكنه يزداد بلا شك، كما أنه قد تجدد من علم السنة ومحاربة البدع والدعوة إلى

الإصلاح الديني ، والتوفيق بينه وبين الحضارة والقوة ما لم يكن.

وقاعدة هؤلاء المصلحين أن الله تعالى قد أكمل دينه فلا نزيد في الأمور الدينية

المحضة شيئًا لم يرد في الكتاب أو السنة الثابتة أو إجماع الصدر الأول، وأن أسعد

السعداء من يعبد الله تعالى كما عبدوه فعلاً وتركًا حسب الأمر والنهي ، وأن

في الكتاب والسنة وهدي السلف الأول غنًى عن كل ما عداها في النصح

والإرشاد، والزجر عن الفساد، فمن كان مخلصًا في نصح المسلمين، فليعضد

هؤلاء المصلحين، فهو خير له من اختراع الرؤى الباطلة، والوصايا السخيفة

المزورة ، التي صار يقل في العوام من يصدقها، وجميع الخواص يلعنون مزورها.

وإننا نذكر هنا ما أجبنا به السائل عن هذه سنة 1322 إتمامًا للفائدة - وكانت تلك

في منتهى السخف لفظًا ومعنًى وهذا نصه:

إننا نتذكر أننا رأينا مثل هذه الوصية منذ كنا نتعلم الخط والتهجي إلى الآن

مرارًا كثيرة ، وكلها معزوة كهذه إلى رجل اسمه الشيخ أحمد خادم الحجرة النبوية ،

والوصية مكذوبة قطعًا ، لا يختلف في ذلك أحد شم رائحة العلم والدين، وإنما

يصدقها البلداء من العوام الأميين، ولا شك أن الواضع لها من العوام الذين لم

يتعلموا اللغة العربية ، ولذلك وضعها بعبارة عامية سخيفة، لا حاجة إلى بيان

أغلاطها بالتفصيل ، فهذا الأحمق المفتري ينسب هذا الكلام السخيف إلى أفصح

الفصحاء وأبلغ البلغاء صلى الله عليه وآله وسلم ، ويزعم أنه وجده بجانب الحجرة

النبوية مكتوبًا بخط أخضر ، يريد أن النبي الأمي هو الذي كتبه ، ثم يتجرأ بعد هذا

على تكفير من أنكره ، فهذه المعصية أعظم من جميع المعاصي - التي يقول: إنها

فشت في الأمة، وهي الكذب على الرسول عليه الصلاة والسلام ، وتكفير علماء أمته

والعارفين بدينه ، فإن كل واحد منهم يكذب واضع هذه الوصية بها ، وقد قال

المحدثون: إن قوله صلى الله عليه وسلم: (من كذب علي معتمدًا فليتبوأ مقعده من

النار) ، قد نقل بالتواتر ، ولا شك أن واضع هذه الوصية متعمدٌ لكذبها، ولا ندري

أهناك رجل يسمى الشيخ أحمد أم لا؟ !

وأما تهاون المسلمين في دينهم وتركهم الفرائض والسنن ، وانهماكهم في

المعاصي، فهو مشاهد، وآثار ذلك فيهم مشاهدة ، فقد صاروا وراء جميع الأمم بعد أن

كانوا بدينهم فوق جميع الأمم {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ} (فصلت:

16) إلا أن يتوبوا. ولا حاجة لمن يريد نصيحتهم بالكذب على الرسول ،

ووضع الرؤى التي لا يجب على من رآها أن يعتمد عليها شرعًا، بل لا يجوز له

ذلك إلا إذا كان ما رآه موافقًا للشرع ، فالكتاب والسنة الثابتة بين أيدينا، وهما مملوآن

بالعظات والعبر ، والآيات والنذر. اهـ.

_________

ص: 401

الكاتب: محمد رشيد رضا

خطاب عام للمسلمين في شأن الحجاز

(4)

مفاسد الطاغوت بعد ادعائه للخلافة:

ذكرنا في الفصول السابقة بعض الحقائق عن سلب الملك حسين أموال أهل

الحجاز والحجاج والظلم في الحرم ، وفقد الأمن بين الحرمين التي جاءتنا من أخبار

موسم الحج (سنة 1341)، وقلنا: إنه قد صرح في أثناء السنة الماضية قبل

موسمها بانتحاله لمنصب الخلافة، فصار خطره أشد، والسعي لتلافيه أوجب، وذلك

أن الرجل كلما كبرت مطامعه وتنفخ وانتفخ في مظاهره، يزداد احتياجه إلى النقود،

ولا مستغل له إلا الحجاج وأهل الحرمين؛ لأن الإنكليز منعوه ما كانوا يعطون،

ولا بد من مورد غزير يقوم بنفقات الجمع بين عظمة الملك وفخفخته، وإخضاع

أمراء العرب المنكرين لإمبراطوريته وخلافته، ونشر دعاية الخلافة ومقاومة

خصومها في الشرق والغرب إلى أن تستقر وتكون مستغلاًّ جديدًا؛ وما هي مستقرة

أو يهلك العرب والمسلمون، فخصومه في الملك والسلطان أمراء جزيرة العرب

المستقلون، وكل واحد منهم يفوقه قوة وإدارة وعدلاً، وخصومه في الخلافة

الشعوب الإسلامية ماعدا بعض أهل فلسطين وسورية والعراق من المنتفعين بماله،

والراجين لنواله، أو المخدوعين بدعايته ودعاية رجاله، أو المتلذذين بنكاية

فرنسة، والخائفين من شماتة جيرانهم من النصارى الذين عادوا ولده فيصلاً في تلك

الأيام، التي كان المسلمون فيها سكارى بخمرة الأوهام، أو عائشين في غمرة من

أضغاث الأحلام، على أن هؤلاء الأنصار يقلون عامًا بعد عام؛ لأن جناياته

ظهرت للخواص والعوام، وطفقت تتبرأ منه الجماعات والأحزاب كالأفراد.

كان هذا الرجل المفتون بالألقاب الضخمة والمظاهر الفخمة أميرًا للحجاز،

وكان بدو البلاد كحضرها يخضعون له، ويخشون بأسه، ويقبلون حكمه لعلمهم بأن

وراءه دولة يرجى برها، ويخشى ضرها، وقد صلي نار الحرب العامة باسم

العرب، وهو لم يعمل ولا يعمل ولن يعمل إلا لنفسه وولده، ولم يكن إلا متجرًا

بالعرب وبلاد العرب، وبدين الإسلام أيضًا كما ظهر واتضح لغير العميان

المنكوسين من البشر، استبد بالأمر وحده على جهله وعجزه، فأضاع الفرصة التي

سنحت لاستقلال العرب واتساع ملكه، ولم ينل شيئًا من مطامعه الواسعة لنفسه،

بل لم يبق له من إمارة الحجاز إلا هذه المدن والقرى المعدودة على الأصابع ، وأما

القبائل القوية فليس له عليها من سلطان.

ولكن افتتانه بعظمة الملك وفخامة الألقاب، وغروره بالوعود الشيطانية

والأماني فيما يسميه (الحسيات النجيبة للعظمة البريطانية) جرآه على تسمية نفسه:

ملك العرب وصاحب البلاد العربية، وصار يمتع نفسه بما تصبو إليه من عظمة

الملك الصورية، فأحدث أوسمة ورتبًا متعددة. تصدر جريدته (القبلة) آونة بعد

آونة ، وفي صدرها إما عنوان (توجيهات) الذي كان يعهد في الجرائد العثمانية

الحميدية، وتحته: وجه وسام النهضة أو وسام الاستقلال العلي الشأن إلى فلان،

ووجه 000 إلى 000 وإما نبأ من أنباء القصر العالي ، ومن تشرف بتقبيل أعتابه،

حتى إن أولاده يقبلون فيما يكتبون إليه الأعتاب، ويعبر أحدهم عن نفسه بخادم

تراب الأقدام (؟ ؟) ولم يدع سيئة من سيئات عبد الحميد إلا وتقلدها، حتى إذكاء

الجواسيس على رجال حكومته وأولاده، دع غيرهم من الناس الذين قد يعذر بعدهم

أعداء له؛ لأنه لهم عدو مبين ، وقد حمله ادعاؤه هذا الملك، وافتتانه به إلى ما تقدم

بيانه من مصارحة جميع أمراء جزيرة العرب بالعداوة، وإنذارهم إسقاط إمارتهم

وضمها إلى ملك البلاد العربية كلها.

كان هذا بعض شأنه، على ضعفه وعجزه، وخيبة آماله في (العظمة

البريطانية وحسياتها النجيبة) - إلا أن يقال - ولا يعوز الدليل من قال: إنه لا

يقنط من رحمتها، ولا ييأس من روحها. فإنه تبرأ من رحمة الله، إن كان يقبل

بقرار الدول كلها أضعاف ما تعطيه هي إن لم يكن بواسطتها؛ فماذا ينتظر من

غروره وطمعه وعنجهيته وكبريائه ، وقد ادعى الخلافة العربية، وطفق ينشر في

جريدته الكاذبة الخاطئة دعاوى مبايعة جميع الشعوب الإسلامية، (لصاحب الجلالة

الهاشمية، أمير المؤمنين، وخليفة رسول العالمين، المنقذ الأعظم) كقولها:

(مبايعة أهل مصر، مبايعة بلاد جاوه، مبايعة بلاد السودان) إلخ.

إلا أنه لا ينتظر من بعد هذا إلا الإسراف في الظلم، والإلحاد في الحرمين

الشريفين، وتثقيل الغرامات على الحجاج، وبث الفساد السياسي في سائر بلاد

العرب، وتمكين النفوذ الأجنبي فيها، ومقاومة الإصلاح ، ونشر الخرافات في

العالم الإسلامي كله.

وقد أخرنا إتمام هذا الخطاب في العام الماضي؛ لنقف على ما يكون له من

التأثير في عمله بعد لقاء أنصار وأصحاب الآمال فيه بزيارته لشرق الأردن ، ثم

بعد تنحله لمنصب الخلافة، حتى تكون النتيجة من خطابنا هذا بعد استيفاء

المقدمات، فجاءتنا أخبار موسم الحج الأخير (سنة 1342) بشر مما نشرنا

خلاصته في أوائل هذا الخطاب من الإصرار على ما تقدم أو الزيادة عليه، وشرها

قطعه لماء عين زبيدة في يوم عرفة؛ لأجل أن يبيع أعوانه الماء المدخر بأغلى

الأثمان ، واتفق أن كان حر الصيف شديدًا حتى في البلاد المعتدلة، فكان موقف

عرفة كموقف الحساب يوم القيامة، شغلت شدة الحر وشدة الظمأ أكثر الناس عن

أداء العبادة براحة وحضور قلب، ومات ألوف من الناس في عرفات وفي الطريق

بينها وبين مزدلفة فمنى فمكة. أخبرنا الكثيرون من الحجاج بذلك، ونشره بعضهم

في الجرائد، وقالوا: إن قربة الماء قد صارت تباع بعشرين قرشًا أو ثلاثين قرشًا في

الغالب ، واشتراها بعض الأغنياء بأكثر من ذلك.

ومن الشواهد على الإفساد السياسي ما نقله الجرائد من إرسال دعاته إلى عدن

وبلاد الشافعية من تهامة اليمن؛ ليأخذوا له البيعة، ويخدعوا الناس بأن خليفة

المسلمين وملك العرب سيجعل أمرهم بأيديهم، وحكامهم من أهل مذهبهم، وإدارتهم

كما يرغبون ويقترحون، وهذا موافق لتفسيره الرسمي للوحدة العربية ، الذي بيناه في

الوثيقة الخامسة المتعلقة بالجناية الثانية من هذا الخطاب.

وقد تثبتنا في نشر هذه المفسدة، فكتبنا إلى اليمن بالسؤال عن ذلك ، فجاءنا نبأ

رسمي لا شك فيه بتأييد الخبر.

ومن الشواهد على مقاومة الإصلاح ونشر الخرافات ، وتحكم الجهل في العلم

والدين ما قرأناه في أنباء الحجاز من جريدة المقتبس الدمشقية من تصدي الخليفة

(خليفة الشيطان) لاستخدام مجلس شورى الخلافة الذي استحدثه؛ لمنع انتشار

الكتب والرسائل التي اشتهرت في بلاد جاوه من قبل الشيخ محمد عبده والشيخ

رشيد رضا، كما منع من قبل ذلك كتب شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم

وغيرها من الكتب القديمة التي لا توافق هواه، ولا نقول: رأيه أو فهمه؛ إذ هو عامي لا رأي له ولا فهم في علم ولا دين.

ثم أخبرنا أحد علماء الأزهر الذين حجوا في الموسم الأخير، أنه علم من الثقات

في الحجاز أن حسينًا كلف بعض علماء حكومته ومجلس شورى خلافته - كتابة

فتوى ، يطعنون فيها بالشيخ محمد عبده ومحمد رشيد رضا صاحب المنار؛ تبعًا لتهم

دونها في الأسئلة الذي كلفهم الجواب عنها، فكتبوا له ما لا يرضيه تمام الرضا؛

لأن ما يرضيه يغضب الله تعالى واتقوا شره بأن كتبوا أنهم لم يطلعوا على شيء من

كتب الشيخين المذكورين مشتملة على ما ذكر في الاستفتاء هذا ملخص الخبر

بالمعنى.

***

علاوة

من روايات الحجاج في ظلم حسين في الحرمين الشريفين:

عهدنا إلى أحد علماء الأزهر الذين ذهبوا إلى الحجاز في الموسم الأخير أن

يستقصي لنا أعمال هذا الطاغوت ، وذكرنا له بعض الثقات الذين يعرفون هذه

الحقائق ، ولا يبخلون بها على من يثقون بأمانته، ويأمنون شر سعايته، فجاءنا

بمسائل كثيرة. ثم جاءنا بيان آخر من بعض سكان المدينة المنورة الذين حضروا

موسم الحج الأخير أيضًا ، فنلخص البيانين؛ لإطلاع العالم الإسلامي عليهما،

ودعوته إلى القيام بما يجب عليه من العمل لمهد الإسلام، وحرم الله تعالى وحرم

رسوله عليه الصلاة والسلام، وخدمة للتاريخ الخاص والعام.

ملخص ما جاء به العالم الأزهري من مكة:

(1)

صدرت أوامر الملك حسين بمنع مشتري الأعشاب قبل أخذ ما يلزم

لحيواناته ، فتجاسر أحد التكارنة ، واشترى، فقبض عليه، وسجنه عامًا واحدًا ،

وقال: إنه سجنه بمقتضى الوجه الشرعي من الكتاب والسنة. فاستفتى أبو المسجون

المفتين الأربعة بمكة، فأفتوه أنه لا يستحق الحبس شرعًا ، فأطلع الملك عليها فغضب

وقال أنه يخالف الشرع ولا يطلقه من الحبس ، وصار يكرر قوله: أشهد أني أخالف

الشرع في أحكامي.

(2)

في شعبان سنة 1342 اشتكت فتاة امرأة من موالي الشناقطة أحد

موالي العربان بأنه اغتصبها بعد أن تهددها بالقتل في طريق الرصفة ، وهو حمى

الملك الذي لا يدخله سوى جماله، وأي حيوان يدخله يصادر- وقد وصفت الفتاة

المتهم ، فقبض الملك على غيره من المغضوب عليهم، فقطع يده ورجله من خلاف

من غير أن تراه الفتاة ، وتشهد أنه هو الجاني، وهذا حكم الشرع.

(3)

جعل رسمًا على كل جمل وحمار وبغل يجيء من جدة إلى مكة - نصف

جنيه إنكليزي وريالين مجيدين ، ومن مكة إلى عرفات نصف جنيه إنكليزي ، ومن

مكة إلى المدينة ثلاثة جنيهات: جنيهًا برسم الحكومة والخزينة الخاصة.

(4)

لأجل جمع الإعانات من الحجاج؛ وضع في مجاري عين زبيدة أكياسًا

من الرمل فوق عرفة بقليل ، وذلك قبل يوم عرفة فلم يأت وقت الظهر حتى نضب

الماء من حياض عرفة ، ونشأ عن ذلك عطش شديد جدًّا ، مات بسببه خلق كثير

من الفقراء ، ولما ظهر سره امتنع عن جمع الإعانة ، وعلى ذلك أدلة:

(منها) أن الماء كان فوق عرفة طافيًا في الآبار على وجه الأرض ، حتى

كان من أخبر بذلك من العرب يملأ بيديه من غير دلو ولا رشاء.

(ومنها) أننا عند نزولنا إلى منى وجدنا الماء فيها كثيرًا ، وما كان غلاء

ماء منى إلا من توهم الناس أن الماء مقطوع مما جرى لهم بعرفة. ولكن الذي كان

يشاهد الآبار بنفسه وهي تجيش بالماء الغزير يعلم الحقيقة.

(ومنها) أنه قبل خروج الناس إلى عرفة بأيام ، طلب من مطوفي الجاوه

والهنود جمع حجاجهم له في الحرم؛ ليكلمهم في أمر مهم. ثم قال للمطوفين:

تدرون هذا الأمر؟ فقالوا: لا. فقال: لأجل جمع إعانة لتصليح عين زبيدة.

(5)

طريقته في جمع الإعانة للعين: أن ما زاد على عشرين جنيهًا يوضع

في صندوقه الخاص ، وما نقص عنها ففي صندوق العين ، وإذا احتاجت العين

للتعمير لا يعطيها شيئًا ، وإذا طلب من صندوقه للحاجة يغضب. وحصل ذلك مرة،

فغضب وحاسب أمين الصندوق ، وعطل أعمال لجنة العين أحد عشر شهرًا.

وبعض الحجاج لجهل أو غفلة أو حب رياء وظهور ، يدفعون له مباشرة ما

يتبرعون به ، فيكون خالصًا له، والمعروف منه لا يقل عن 500 جنيه.

(6)

عند مبايعته بالخلافة في عمان وصلت منه برقية لقاضي القضاة بمكة

بأنه إذا امتنع أحد عن البيعة يقتل رميًا بالرصاص.

(7)

لما وصلت الكسوة من مصر أغرى بعضهم أن يحضروا له بعض

المصريين؛ ليقولوا له: إنه بلغهم أنه يريد رد الكسوة ، وأنه سيكسو الكعبة من

عنده كما كساها في العام الماضي ، وأن يسترحموا جلالته ويرجوه عدم ردها

ويلحوا عليه في ذلك، فيقبل رجاءهم. وأظهر للناس أنه في غنى عن كسوة مصر

ولولا إلحاح المصريين لم يقبلها ، والكسوة التي جاء بها في العام الماضي ثمنها

300 جنيه وهي من الصوف القيلان ، وكانت عند ما دخلنا مكة باهتة وشكلها في

غاية الكآبة.

(8)

كان حول المسجد الحرام ميضأة من أوقاف سلاطين مصر والأتراك

فهدمها ، وجعل محلها دكاكين ملكًا له ، وصار الناس يبولون في الشوارع،

ويتوضؤون على أبواب المسجد الحرام ، ورأيت بعيني ناسًا كثيرًا يفعلون ذلك.

(9)

أمر أن لا يتجاوز الحمل 20 أقة ، والجمل يستطيع حمل 70 فأكثر،

فصار أكثر الحجاج يضطر لترك كثير من حاجاته في جدة. وهو يدعي أنه فعل

ذلك شفقة على الجمال، والحق أنه أراد كثرتها لأجل المال ، ومن جراء ذلك تعطل

في العام الماضي عدد غير قليل عن الحج ، وفاتهم يوم عرفة وهم بجدة ينتظرون

عودة الجمال ، التي رحلت بهذه الأحمال الخفيفة.

(10)

أنه يأخذ من أصحاب الخيام المعدة للأجرة ما يحتاج إليه لإكرام

ضيوف منصبي الملك والخلافة بغير أجرة (وذكر الكاتب حكاية طويلة سمعها من

رجل كردي فقير ، كلفه الملك الخليفة الإتيان بخمس خيام ، فاعتذر بفقره وغربته،

فوضعه في سجنه الذي سماه هذا المسكين جهنم ، ووصف ما فيه من السلاسل

والأغلال 000 ثم افتداه بعض الموسرين باستئجار الخيام المطلوبة له، ولكن لما آن

وقت إرجاعها بعد عرفة أرجعوا ثلاثًا واغتصبوا اثنين.

(11)

إذا حكمت المحكمة الشرعية حكمًا ، وصدق عليه قاضي القضاة

والتدقيقات الشرعية، ووسط المحكوم عليه واسطة أو رشوة أو نفاقًا أو تجسسًا أو

إطراءً - انعكست القضية وأصبح المحكوم عليه محكومًا له ، وهذا الباب مفتوح

للجميع ، وبعد قليل يصل الآخر إلى ما وصل إليه المحكوم عليه ، فتنعكس القضية

مرة ثانية ، وبعد مدة تنقلب أخرى، وهلم جرًّا.

(12)

القاضي لا يحكم إلا بأمر الملك، وحجته أنه هو الذي ولاه فكيف

يحكم بغير أمره واستحسانه ، وإذا شهد شاهد فتزكيته أن يكون مخلصًا لسيدهم

وبذلك يكون أعدل الناس ، ويقوم مقام اثنين وأكثر.

(13)

كان على سواري المسجد الحرام كتابات من قبل سلاطين مصر

وتركية وغيرهما بإبطال المكوس بمكة والمدينة ، فطمس الكتابة بالجير ، ولكنها لا

تزال ظاهرة الأثر.

(14)

إذا أراد اغتصاب قطعة أرض من صاحبها؛ تذرع بالطرق العامة

وأنه يريد أن يفتح طريقًا أو يوسعه، فيكره صاحب العقار على تركها له في مقابل

شيء لا يذكر ، ثم يأخذ الملك منها قطعة صغيرة للطريق ، والباقي يبنيه لنفسه بيوتًا

ودكاكين، وبهذه الطريقة صار له عقار كثير جدًّا. وإنما يأخذ ذلك باسمه بناءً على

فتوى من القضاة بأن التمليك للحكومة لا يصح؛ لأنها هيئة ، وإنما يصح لشخص

بعينه.

(15)

إذا اضطر أحد الأعيان - من شدة تضييقه عليهم - إلى عرض

بعض الحلي والجواهر للبيع ، فللشريف دلال مخصوص ، لا يمكن أن يباع شيء من

ذلك حتى يعرض عليه ، وهو يأخذها بأبخس الأثمان لحساب سيده بعد أن يحذر

الدلالين من المساومة فيها والمزايدة.

(16)

إذا ورد رقيق يأخذ لنفسه الوصائف والغلمان الحسان بأبخس ثمن،

فإذا تظلم النخاس يقال له: هذه عشور الحكومة التي تحافظ عليك من قناصل الدول.

ومرارًا طلب قنصل الإنكليز تسليم النخاسين من رعاياهم ورعايا الحكومة

الإيطالية ، فلم تسلمهم الحكومة.

(17)

كان له دار في المسعى ، جعلها مدرسة بعد أن جمع لها إعانات

كثيرة ، وسلب الأوقاف من أهلها وحبسها على المدرسة ، وشرط لها شروطًا تجعل

المدرسة في أي وقت عرضة للإغلاق وطرد المدرسين والطلبة، ويرجع بناءها

لملكه الخاص يؤجره ، وزاد أن ضم الأوقاف الكثيرة إلى ملكه أو أوقافه أيضًا.

(18)

أسس شركة تجارية سماها (الشركة الوطنية) رئيسها أحد صنائعه

يدعى عبد الوهاب قزاز ، ولا مال لهذه الشركة ، وإنما رأس مالها ما تأخذه من

التجار من البضائع بالطريقة الآتية: إذا وصلت البضائع إلى الجمرك ، فللملك

عمال هناك يعرفون البضائع الرابحة ، فيحجزونها على اسم الشركة، وترسل إلى

مكة في أول قافلة ، وتمنع البضائع الأخرى من الخروج حتى تباع هذه كلها ، وبعد

ذلك يسمح للبضائع الأخرى بالخروج إلى مكة، والبضائع التي أخذتها الشركة هي

من أموال التجار ، ولكن لا يدفع ثمنها إليهم إلا بعد بيعها بأشهر، ونادر جدًّا أن يدفع

الثمن كله. وهذه الشركة تخلط الزيت مع السمن ، والماء مع الغاز ، وتتطفف

الكيل والميزان وقد صار الآن رأس مالها عظيمًا ، وهي ملك خالص للشريف لا

شريك له فيها.

(19)

يقول دائمًا: (جوِّعْ كلبك يَتبعك) فلذلك تراه دائمًا ضد التجار

ويسعى في معاكستهم ، وفي كل شهرين أو ثلاثة يزيد رسم الجمرك، والغرامات

عظيمة ، والبضائع متراكمة بدون بيع؛ لأنه لا يسمح لهم إلا بالكاسد بعد أن يبيع

هو ما انتقاه من بضائعهم، وإن دام هذا الحال على التجار فعاقبتهم الإفلاس حتمًا.

وكذلك يضيق على العربان أولاً: في بيع ما يجلبونه إلى مكة من غنم وغيرها،

فلا يأذن لهم أن يبيعوها إلا بالسعر الذي يسمح لهم به، ولا يسمح لهم بشراء الطعام

إلا بمقادير قليلة جدَََّا، فمن طلب أرزًّا أو دقيقًا لا يعطى إلا الربع ، ومن طلب ثوب

قماش لا يسمح له إلا بالربع ، حتى أصبح العربان في ضيق شديد وضنك من

العيش ، حتى قال بعضهم: إنه يمنعنا طعامنا الذي نأخذه بدراهمنا ، حتى صرنا

نهرب من الضيوف؛ لأننا لا نجد ما نطمعهم بعد أن كنا في كل ليلة نذبح الخرفان

ونطبخها بالأرز ، وثانيًا: في أجور جمالهم للحجاج والقوافل لأجل سمسرته كما تقدم.

وقصده من كل ذلك جعل جميع الناس فقراء؛ حتى يتبعوه، ويجند منهم من يشاء

بمرتب عشرة ريالات مجيدية؛ ليقاتل بهم ابن السعود والإمام يحيى والإدريسي.

(20)

سبب منع العربان للحجاج من زيارة المدينة المنورة إلا بجعل

يأخذونه منهم - أنه كان لقبائل حرب منذ القدم مرتبات من الدول الإسلامية وآخرها

الدولة العثمانية (40) ألف جنيهٍ سنويًّا في مقابل أمن الطرق وحفر الآبار

وإحضار الحطب والماء للحجاج في الطريق ومحطاتها ، ولما ثار الشريف على

الدولة العثمانية كان يعطيهم إياها للاستعانة بهم على فتح المدينة بعد حصارها ، فلما

فتحت المدينة بالهدنة قطع تلك المرتبات ، وصار العربان من حرب وغيرهم

يتعرضون للحجاج في طريق المدينة ، ويأخذون من كل شخص جنيهين فأكثر، وفي

كل سنة يكون عدد الزائرين (30) ألف جمل أو يزيدون ، ثم ما اكتفى بقطع

المرتبات ، بل صار يجعل أجرة الجمل من مكة أو جدة إلى المدينة (16) جنيهًا

يأخذ منها (6) لنفسه وللحكومة واحد ، وللمقدم والمطوف والرهينة (واحد)

ولقائم مقائم القصر الشريف محسن (واحد) وللوسائط (واحد) فيبقى

للجمال خمسة ، فتضرر العربان من هذه الحالة وطلبوا منه الإنصاف، فامتنع

وامتنعوا هم أيضًا من حمل الحجاج، وذهبوا بجمالهم إلى ديارهم ، فأرسل لهم

الوسائط تسترضيهم، فرجعوا وشرطوا شروطًا منها: منع السخرة على جمالهم،

وعدم تكليفهم بالذهاب بها إلى مواقع الحرب جهة أبها عسير والطائف وعدم شراء

جمالهم من المزاد، وإعطاؤهم المعاشات من رجب سنة 1342 إلى آخر سنة

1342 مبلغ (18) جنيه مقدمًا ، وجعل كراء الجمل الصافي بيدهم (8) ولغيرهم

(8)

، وإذا وقع على القافلة تعد فهم يقاتلون المتعدي إلى آخر قطرة من دمائهم

خلافًا لما كان سابقًا من عدم القتال، فحلف لهم بالوفاء ولكنه لم يف، وأعطاهم من

الثمانية عشر ألف جنيه ألفي جنيه ، فامتنعوا عن قبولها وخرجوا من مكة غضابًا ،

ولما وصلت القافلة إلى رابغ أرجعوها إلى مكة بدون زيارة ، وقد مكثت القوافل في

رابغ عشرة أيام؛ لأن بعض الجمالة هربوا بجمالهم إلى منازلهم التي حول المدينة ،

وأما من كانت منازله حول جدة ومكة فقد عادوا بالحجاج ، وقد أرسلت الحكومة

بواخرها إلى ينبع ونقلت الحجاج على حسابها بزعمها ، مع أنها كانت أخذت رسم

الجمل (8) جنيهاتٍ ، وزادت رسم الجمال إلى مكة مجيديًّا ، ولما رجعت

القوافل بهم خرج وقابلهم من الزاهر والشهدا راكبًا حصانه ، وقد سبقه بساعتين

محسن راكبًا السيارة ، فلما سمع الجمالة صوت السيارة أيقنوا أنه يريد أذاهم؛

فقطعوا أربطة الأحمال ، وقلبوا الشقادف بمن فيها ، فمنهم من جرح ومنهم من كسرت

يده أو رجله ، والقليل منهم سلموا ودخلوا مكة على حالة مبكية.

هذا قليل من كثير من المظالم الواقعة على الحجاج والأهالي.

(لها بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 421

الكاتب: أحمد بن تيمية

إبطال وحدة الوجود والرد على القائلين بها

لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية

رضي الله عنه

بسم الله الرحمن الرحيم

سُئل شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية -رضي الله تعالى عنه-

عن كراس وجد بخط بعض الثقات ، قد ذكر فيها كلام جماعة من الناس فمما فيه:

(قال) بعض السلف: إن الله تعالى لطف ذاته فسماها حقًّا، وكثفها فسماها

خلقًا. قال الشيخ نجم الدين بن إسرائيل: إن الله ظهر في الأشياء حقيقة واحتجب

بها مجازًا، فمن كان من أهل الحق والجمع شهدها مظاهر ومجالي، ومن كان

من أهل المجاز والفرق شهدها ستورًا وحُجُبًا.

(قال) وقال في قصيدة له:

لقد حق لي رفض الوجود وأهله

وقد علقت كفاي جمعًا بموجدي

ثم بعد مدة غير البيت بقوله: لقد حق لي عشق الوجود وأهله.

فسألته عن ذلك فقال: مقام البداية أن يرى الأكوان حجبًا فيرفضها، ثم يراها

مظاهر ومجالي فيحق له العشق لها، كما قال بعضهم:

أُقَبِّلُ أرضًا سار فيها جِمالها

فكيف بدار دار فيها جَمالها

(قال) : وقال ابن عربي عقيب إنشاد بيتي أبي نواس

رق الزجاج وراقت الخمر

فتشاكلا فتشابه الأمر

فكأنما خمر ولا قدح

وكأنما قدح ولا خمر

لبس صورة العالم فظاهره خلقه، وباطنه حقه. وقال بعض السلف: عين

ما ترى، ذات لا ترى، وذات لا ترى، عين ما ترى، الله فقط والكثرة وهم. قال

الشيخ قطب الدين بن سبعين: رَبٌّ مالك، وعبد هالك، وأنتم ذلك، الله فقط

والكثرة وَهْمٌ.

للشيخ محيي الدين بن عربي

يا صورة أنس سرها معنائي

ما خلقت للأمر ترى لولائي

شئناك فأنشأناك خلقًا بشرًا

تشهدنا في أكمل الأشياء

وطلب بعض أولاد المشايخ للحر ما يرى من والده الحج [1] فقال له الشيخ:

طف يا بني ببيت ما فارقه الله طرفة عين

(وقال) قيل عن رابعة: إنها حجت فقالت: هذا الصنم المعبود في الأرض

وإنه ما ولجه الله ولا خلا منه. وفيه للحلاج:

سبحان من أظهر ناسوته

سر سناء لاهوته الثاقب

ثم بدا مستترًا ظاهرًا

في صورة الآكل والشارب

قال: وله:

عقد الخلائق في الإله عقائدًا

وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه

وله أيضًا:

بيني وبينك إنيٌّ تزاحمني

فارفع بحقك إني من البين

(قال) : وقال الشيخ شهاب الدين السهروردي الحلبي المقتول: بهذه البقية [2]

التي طلب الحلاج رفعها تصرف الأغيار في دمه. وكذلك قال السلف: الحلاج

نصف رجل ، وذلك أنه لم ترفع له الآنية بالمعنى ، فرفعت له صورة. قالوا لمحيي

الدين بن العربي:

والله ما هي إلا حيرة ظهرت

وبي حلفت وإن المقسم الله

وقال فيه: المنقول عن عيسى عليه السلام أنه قال: إن الله تبارك وتعالى

اشتاق أن يرى ذاته المقدسة ، فخلق من نوره آدم عليه السلام وجعله كالمرآة

ينظر إلى ذاته المقدسة فيها، وإني أنا ذلك النور وآدم المرآة. قال ابن الفارض في

قصيدته (نظم السلوك) :

وشاهد إذا استجليت نفسك من ترى

بغير مراء في المرآة الصقيلة

أغيرك فيها لاح أم أنت ناظر

إليك بها عند انعكاس الأشعة

(قال) وقال ابن إسرائيل: الأمر أمران. أمر بواسطة وأمر بغير واسطة،

فالأمر الذي بالوسائط قبله من شاء الله ورده من شاء الله تعالى، والأمر بغير واسطة

لا يمكن خلافه، وهو قوله تعالى:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (يس: 82) فقال له فقير: إن الله تعالى قال لآدم بلا واسطة: لا تقرب

الشجرة فقرب وأكل. فقال: صدقت ، وذلك أن آدم إنسان كامل. وكذلك قال شيخنا

علي الحريري: آدم صفي الله تعالى، كان توحيده ظاهرًا وباطنًا ، فقال: فكان قوله

تعالى: (لا تأكل) ظاهرًا، وكان أمره:(كل) باطنًا، فأكل، فكذلك قوله

تعالى. وإبليس كان توحيده ظاهرًا، فأمر بالسجود لآدم فرآه غيرًا ، فلم يسجد فغير

الله عليه وقال: {اخْرُجْ مِنْهَا} (الأعراف: 18) الآية.

(قال) وقال شخص لسيدي حسن: يا سيدي إذا كان الله يقول لنبيه:

{لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} (آل عمران: 128) أيش نكون نحن؟ فقال سيدي:

ليس الأمر كما تظن، قوله:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} (آل عمران: 128)

أيش غير الإثبات للنبي صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ

وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (الأنفال: 17) ، {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ

اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِم} (الفتح: 10) .

وفيه لأوحد الدين الكرماني:

ما غبت عن القلب ولا عن عيني

ما بينكم وبيننا من بين

غيره:

لا تحسب بالصلاة والصوم تنال

قربًا ودنوًّا من جمال وجلال

فارق ظلم الطبع تكن متحدًا

بالله وإلا كل دعواك محال

غيره للحلاج:

إذا بلغ الصب الكمال من الهوى

وغاب عن المذكور في سطوة الذكر

يشاهد حقًّا حين يشهده الهوى

بأن صلاة العارفين من الكفر

للشيخ نجم الدين بن إسرائيل:

الكون يناديك أما تسمعني

من ألف أشتاتي ومن فرقني

انظر لتراني منظرًا معتبرًا

ما فيَّ سوى وجود من أوجدني

وله:

ذرات وجود هي للحق شهود أن ليس لموجود سوى الخلق وجود

والكون وإن تكثرت عدته

منه إلى علاه يبدو ويعود

وله:

برئت إليك من قولي وفعلي

ومن ذاتي براءة مستقيل

وما أنا في طراز الكون شيء لأني مثل ظل المستحيل

للعفيف التلمساني:

أحن إليه وهو قلبي وهل يُرَى

سواي أخو وجد يحنّ لقلبه

ويحجب طرفي عنه إذ هو ناظري

وما بعده إلا لإفراط قربه

قال بعض السلف: التوحيد لا لسان له، والألسنة كلها لسانه.

(وفيه) لا يعرف التوحيد إلا الواحد، ولا تصح العبارة عن التوحيد، وذلك

أنه لا يعبر عنه إلا بغير، ومن أثبت غيرًا فلا توحيد له.

(وفيه) سمعت من الشيخ محمد بن بشر النواوي أنه ورد سيدنا الشيخ علي

الحريري إلى جامع نوى، قال الشيخ محمد: فجئت فقبلت الأرض بين يديه

وجلست ، فقال: يا بني وقفت مدة مع المحبة فوجدتها غير المقصود؛ لأن المحبة لا

تكون إلا من غير لغير وغير ما ثم، ثم وقفت مدة مع التوحيد فوجدته كذلك؛ لأن

التوحيد لا يكون إلا من عبد لرب، لو أنصف الناس ما رأوا عبدًا ولا معبودًا.

(وفيه) سمعت من الشيخ نجم الدين بن إسرائيل مما أسرَّ إليَّ أنه سمع من

شيخنا الشيخ علي الحريري في العام الذي توفي فيه ، قال: يا نجم رأيت لهاتي

الفوقانية فوق السموات ، وحنكي تحت الأرضين، ونطق لساني بلفظة لو سمعت

مني؛ ما وصل إلى الأرض من دمي قطرة. فلما كان بعد ذلك بمدة ، قال شخص في

حضرة سيدي الشيخ حسن بن الحريري: يا سيدي حسن! ما خلق الله أقل عقلاً

ممن ادعى أنه إله مثل فرعون ونمرود وأمثالها. فقلت أنا: هذه المقالة ما يقولها إلا

أجهل خلق الله ، أو أعرف خلق الله. فقال: صدقت وذلك أنه سمعت من جدك

يقول: رأيت كذا وكذا ، فذكر ما روى نجم الدين عن الشيخ.

(وفيه) قال بعض السلف: من كان عين الحجاب على نفسه، فلا حاجب ولا

محجوب.

(والمطلوب من السادة العلماء) أن يبينوا لنا هذه الأقوال ، وهل هي حق

أو باطل؟ وما يعرف به معناها، وما يبين أنها حق أو باطل ، وهل الواجب

إنكارها؟ أو إقرارها؟ أو التسليم لمن قالها؟ وهل لها وجه سائغ؟ وما حكم من

اعتقد معناها؟ إما مع المعرفة بحقيقتها، وإما مع التأويل المجمل لمن قالها ،

والمتكلمون أرادوا لها معنًى صحيحًا يوافق العقل والنقل ، ويمكن تأويل ما يشكل

منها وحملها على ذلك المعنى؟ وهل الواجب بيان معناها وكشف مغزاها، إذا كان

هناك ناس يؤمنون بها ولا يعرفون حقيقتها، أم ينبغي السكوت عن ذلك ، وترك

الناس يعظمونها ويؤمنون بها مع عدم العلم بمعناها؟

(فأجاب شيخ الإسلام) أبو العباس تقي الدين أحمد ابن تيمية، قدس الله

روحه ونور ضريحه:

الحمد لله رب العالمين. هذه الأقوال المذكورة تشتمل على أصلين باطلين

مخالفين لدين المسلمين واليهود والنصارى مخالفتها للمعقول والمنقول:

(أحدهما) الحلول والاتحاد وما يقارب ذلك؛ كالقول بوحدة الوجود، كالذين

يقولون: إن الوجود الواجب للخالق هو الوجود الممكن للمخلوق، كما يقول ذلك

أهل الوحدة كابن عربي وصاحبه القونوي وابن سبعين وابن الفارض صاحب

القصيدة التائية (نظم السلوك) وعامر البوصيري السيواسي الذي له قصيدة تناظر

قصيدة ابن الفارض، والتلمساني الذي شرح مواقف النغري [3] وله شرح الأسماء

الحسنى على طريقة هؤلاء ، وسعيد الفرغاني الذي شرح قصيدة ابن الفارض

والششتري صاحب الأرحال الذي هو تلميذ ابن سبعين، وعبد الله البلباني، وابن أبي

منصور المصري صاحب (فك الأزرار، عن أعناق الأسرار) وأمثالهم.

ثم من هؤلاء من يفرق بين الوجود والثبوت كما يقوله ابن عربي ، ويزعم أن

الأعيان ثابتة في العدم غنية عن الله في أنفسها، ووجود الحق هو وجودها، والخالق

مفتقر إلى الأعيان في ظهور وجودها ، وهي مفتقرة إليه في حصول وجودها الذي هو

نفس وجوده، وقوله مركب من قول من قال: المعدوم شيء ، وقول من يقول:

وجود المخلوق هو وجود الخالق. ويقول: فالوجود المخلوق هو الوجود الخالق،

والوجود الخالق. هو الوجود المخلوق، كما هو مبسوط في غير هذا الموضع.

وفيهم من يفرق بين الإطلاق والتعيين كما يقوله القونوي ونحوه ، فيقولون:

إن الواجب هو الموجود المطلق لا بشرط. وهذا لا يوجد مطلقًا إلا في الأذهان، فما

هو كلي في الأذهان لا يكون في الأعيان إلا معينًا، وإن قيل: إن المطلق جزء من

المعنى. لزم أن يكون وجود الخالق جزءًا من وجود المخلوقات، والجزء لا يبدع

الجميع ويخلقه، فلا يكون الخالق موجودًا.

ومن قال: إن الباري هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق. كما يقوله ابن سينا

وأتباعه ، فقوله أشد فسادًا؛ فإن المطلق بشرط الإطلاق لا يكون إلا في الأذهان لا

الأعيان، فقول هؤلاء بموافقة من هؤلاء الذين يلزمهم التعطيل - شر من قول الذين

يشبهون أهل الحلول.

وآخرون يجعلون الوجود الواجب والوجود الممكن بمنزلة المادة والصورة

يقولها [4] المتفلسفة أو قريب من ذلك كما يقوله ابن سبعين وأمثاله.

وهؤلاء أقوالهم فيها تناقض وفساد، وهي لا تخرج عن وحدة الوجود أو

الحلول أو الاتحاد ، وهم يقولون بالحلول المطلق والوحدة المطلقة والاتحاد المطلق،

بخلاف من يقول بالمعنى: كالنصارى والغالية من الشيعة الذين يقولون: بإلهية

علي أو الحاكم أو الحلاج أو يونس القبني أو غير هؤلاء ممن ادعيت فيه الإلهية؛

فإن هؤلاء قد يقولون بالحلول المقيد الخاص، وأولئك يقولون بالإطلاق والتعميم،

ولهذا يقولون: النصارى إنما كان خطؤهم للتخصيص، وكذلك يقولون عن

المشركين عباد الأصنام: إنما كان خطؤهم؛ لأنهم اقتصروا على عبادة بعض

المظاهر دون بعض. وهم يجوزون الشرك وعبادة الأصنام مطلقًا على وجه

الإطلاق والعموم.

ولا ريب أن في قول هؤلاء من الكفر والضلال ما هو أعظم من اليهود

والنصارى، وهذا المذهب كثير في كثير من المتأخرين ، وكان طوائف من الجهمية

يقولونه. وكلام ابن عربي في (فصوص الحكم) وغيره [5] ، وكلام ابن سبعين

وصاحبه الششتري، وقصيدة ابن الفارض (نظم السلوك) ، وقصيدة عامر

البصري، وكلام العفيف التلمساني وعبد الله البلبالي والصدر القونوي، وكثير من

شعر ابن إسرائيل وما ينقل عن شيخه الحريري، وكذلك يوجد نحو منه في كلام

كثير من الناس غير هؤلاء؛ هو مبني على هذا المذهب مذهب الحلول والاتحاد

ووحدة الوجود، وكثير من أهل السلوك الذين لا يعتقدون هذا المذهب يسمعون شعر

ابن الفارض وغيره ، فلا يعرفون أن مقصوده هذا المذهب، فإن هذا الباب وقع فيه

من الاشتباه والضلال، ما حير كثيرًا من الرجال.

وأصل ضلال هؤلاء أنهم لم يعرفوا مباينة الله سبحانه للمخلوقات وعلوه عليها،

وعلموا أنه موجود، فظنوا أن وجوده لا يخرج عن وجودها، بمنزلة من رأى شعاع

الشمس نفسها.

ولما ظهرت الجهمية المنكرة لمباينة الله وعلوه على خلقه ، افترق الناس في هذا

الباب على أربعة أقوال: فالسلف والأئمة يقولون: إن الله فوق سماواته على عرشه

بائن من خلقه [6] كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة. وكما علم

العلو والمباينة بالمعقول الصريح الموافق للمنقول الصحيح، وكما فطر الله على

ذلك خلقه في إقرارهم به وقصدهم إياه سبحانه وتعالى.

والقول الثاني: قول معطلة الجهمية ونقلتهم وهم الذين يقولون: لا داخل العالم

ولا خارجه، ولا مباين له، ولا محايث له. فينفون الوصفين المتقابلين اللذين لا

يخلو موجود عن أحدهما ، كما يقول ذلك أكثر المعتزلة ومن وافقهم من غيرهم

والقول الثالث: قول حلولية الجهمية الذين يقولون: إنه بذاته في كل مكان

كما تقول ذلك النجارية. أتباع حسين النجار وغيرهم من الجهمية ، وهؤلاء القائلون

بالحلول والاتحاد من جنس هؤلاء ، فإن الحلول أغلب على عباد الجهمية وصوفيتهم

وعامتهم، والنفي والتعطيل أغلب على نظارهم ومتكلميهم كما قيل: متكلمة الجهمية

لا يعبدون شيئًا، ومتصوفة الجهمية يعبدون كل شيء، وذلك لأن العبادة تتضمن

القصد والطلب والإرادة والمحبة ، وهذا لا يتعلق بمعدوم. فإن القلب يتطلب

موجودًا ، فإذا لم يطلب ما فوق العالم طلب ما هو فيه.

وأما الكلام والعلم والنظر فيتعلق بموجود ومعدوم ، فإذا كان أهل الكلام

والنظر يصفون الرب بصفات السلب والنفي التي لا يوصف بها إلا المعدوم ، لم

يكن مجرد العلم والكلام ينافي عدم المعلوم المذكور، بخلاف القصد والإرادة والعبادة

فإنه ينافي عدم المعبود ، ولهذا تجد الواحد من هؤلاء عند نظره وبحثه ، يميل إلى

النفي، وعند عبادته وتصوفه يميل إلى الحلول. وإذا قيل: هذا ينافي ذلك. قال:

ذاك مقتضى عقلي ونظري، وهذا مقتضى ذوقي ومعرفتي. ومعلوم أن الذوق والوجد

إن لم يكن موافقًا للعقل والنظر، وإلا لزم فسادهما أو فساد أحدهما.

والقول الرابع: قول من يقول: إن الله بذاته فوق العالم، وهو بذاته في كل

مكان ، وهذا قول طوائف من أهل الكلام والتصوف؛ كأبي معاذ وأمثاله ، وقد ذكر

الأشعري في (المقالات) هذا عن طوائف ، ويوجد في كلام السالمية كأبي طالب

المكي وأتباعه مثل أبي الحكم بن برجان وأمثاله، ما يشير إلى نحو من هذا ، كما

يوجد في كلامهم ما يناقص هذا. وفي الجملة: فالقول بالحلول أو ما يناسبه وقع فيه

كثير من مستأخري الصوفية. ولهذا كان أئمة القوم يحذرون منه، كما في قول الجنيد

لما سئل عن التوحيد فقال: التوحيد إفراد المحدث عن القدم. فبين أن التوحيد أن تميز

بين القديم والمحدث. وقال: أنكر عليه ذلك ابن عربي صاحب الفصوص وادعى أن

الجنيد أمثاله ماتوا وما عرفوا التوحيد، لما أثبتوا الفرق بين العبد والرب بناء على

دعواه أن التوحيد ليس فيه فرق بين الرب والعبد، وزعم أنه لا يميز بين القديم

والمحدث إلا من يكون ليس بقديم ولا محدث. وهذا جهل فإن المعرفة بأن هذا ليس

ذاك، والتمييز بين هذا وذاك، لا يقتضي أن يكون العارف المميز بين شيئين ليس هو

أحد الشيئين ، بل الإنسان يعلم أنه ليس هو ذاك الإنسان الآخر ، مع أنه أحدهما

فكيف لا يعلم أنه غير ربه وإن كان هو أحدهما؟

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

كذا والعبارة غير ظاهرة فلعلها محرّفة.

(2)

لعلها الآنية.

(3)

هو الشيخ محمد بن عبد الجبار بن الحسن النغري الصوفي المتوفى سنة 354 ، والتلمساني شارحه: عفيف الدين سليمان بن علي الصوفي الشاعر صاحب الديوان المشهور توفي سنة 690.

(4)

لعل أصله: التي يقولها إلخ.

(5)

قوله: وكلام ابن عربي مبتدأ خبره مع ما عطف عليه قوله بعد: وهو مبني على هذا المذهب.

(6)

هذه الكلمة المأثورة بالروايات الصحيحة المسندة إلى أئمة السلف قد جمعت في صفات الله تعالى بين قبول نصوص الكتاب والسنة وبين التنزيه المطلق الذي أراده الجهمية والمعتزلة وبعض نظار الأشعرية بتأويل النصوص بالتحكم والتكلف المؤدي إلى تعطيلها وجعلها كاللغو حتى لا يذكرونها في عقائدهم ويسمون من يذكرها على إطلاقها مشبهًا، فمباينة الله تعالى لخلقه أبلغ ما يقال في تنزيهه عن مشابهتهم في شأن ما من شؤون الربوبية والألوهية، أو مشابهته لهم في شأن ما من شؤون المخلوقين، فعلوّه تعالى على خلقه واستواؤه على عرشه فوق جميع سماواته لا يقتضي مع ذكر من المباينة أن يكون محصورًا أو محدودًا أو متحيزًا، إنما علوّه سبحانه علوّ مباينة لها لا كعلوّ بعضها على بعض، فإن هذا أمر إضافي لا حقيقة له في نفسه، يعترف بهذا جميع الفلاسفة وعلماء المعقول في كل زمان.

ص: 433

الكاتب: حسني عبد الهادي

من الخرافات إلى الحقيقة [*]

(10)

إن الأئمة في نظر طائفة (الإمامية) يأتون على هذا الترتيب:

(1)

سيدنا علي.

(2)

الحسن.

(3)

الحسين.

(4)

علي بن العابدين.

(5)

محمد الباقر بن زين العابدين.

(6)

جعفر الصادق بن محمد الباقر.

(7)

موسى الكاظم بن جعفر الصادق.

(8)

علي الرضا بن موسى.

(9)

محمد بن علي النقي.

(10)

علي بن النقي.

(11)

حسن بن علي الزكي.

(12)

محمد بن حسن العسكري.

يعتقد الإماميون أن الإمام الثاني عشر وهو محمد بن حسن العسكري حي إلى

اليوم ، (وهو الإمام المهدي المنتظر عندهم) .

ومن مطالعة مؤلفاتهم يرى الإنسان عقائد غربية مثل قولهم: غيبة صغرى،

وغيبة كبرى.

الغيبة الصغرى: يزعمون أنه كان في عام 266 هجرية في زمان المعتمد

العباسي مناسبات وعلائق بين الإمام وصلحاء الأمة. وكان بينهما سفراء ووكلاء

ودام هذا 73 سنة.

الغيبة الكبرى: ابتدأت في خلافة الراضي بن المقتدر، وانقطعت بعد ذلك

المناسبات بين الأئمة والأمة ، وكان أول وكيل للإمام عند الخلفاء (عثمان بن سعيد

العمري الأسدي) ، ثم انتقلت هذه السفارة بأمر الإمام إلى ابنه أبي جعفر، وظل هذا

وكيلاً عن الإمام خمسين سنة، ثم انتقلت إلى أبي القاسم حسين بن روح أبي بحر

النوبختي ، وبوفاته انتقلت وكالة الإمام إلى أبي الحسن علي بن محمد السميري ،

وعندما مرض هذا مرض الموت سألته الشيعة: لمن يجب توجيه الوكالة؟ فأعطاهم

مكتوبًا زعم أنه أخذه من الإمام المخفي هذه صورته: (بسم الله الرحمن الرحيم.

يا علي بن محمد السميري، عظم الله أجر إخوانك فيك، فأنت ميت، ما بيني وبينك

ستة أيام ، فاجمع أمرك ولا تعرض إلى أحد فيقوم مقامك ، وبعد وفاتك قد وقعت

الغيبة التامة، فلا ظهور بعد إلا بإذن الله تعالى ذكره، وذلك بعد طول الأمد، وقسوة

القلوب، وامتلاء الأرض جورًا، وسيأتي من شيعتي من يدعي المشاهدة. ومن يدعي

المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة، فهو كذاب مفتر فلا حول ولا قوة إلا بالله

العلي العظيم) .

وبهذا المكتوب يدعي الإماميون أن الغيبة الصغرى قد انتهت، وأن الإمام

اختفى، وأن الغيبة الكبرى قد ابتدأت.

إن هذه العقائد ليست من الإسلامية في شيء، وهي إيرانية بحتة.

إن الإمام الثاني عشر توفي عام 260 في زمان الخليفة العباسي المعتمد ، وما

رآه هؤلاء الأكارم من الأذى حقيقة يحرق الفؤاد، إن والد حسن جلب بأمر الخليفة

المتوكل من المدينة إلى سر من رأى ، وحبس هناك وظل في السجن حتى مات،

وهكذا عومل حسن، وحينما حبس الإمام حسن خرج ابنه البالغ من العمر خمس

سنين؛ ليفتش على أبيه ، ثم دخل في مغارة أو - سرداب - ولم يخرج منها.

وظل الإمامية يذهبون مدة طويلة يوميًّا لباب المغارة ينتظرون خروج الإمام

منها، كما ذكر ابن خلدون

إن الإمامية لم يكتفوا بتصديق الأوهام وإدخالها بين قواعد الدين، بل اخترعوا

أحاديث ما لها أصل ، وقدموها للعوام كصحيحة تأمينًا لمنافعهم وتهويشًا لبساطة الدين،

الأحاديث التي تبحث عن فضائل الطعام ، والتي قيل فيها: إن كذا وكذا من طعام

أهل الجنة، وأمثال ذلك من الخرافات جميعها من تلفيقات الإماميين. [1]

إن هذه الأحاديث الموضوعة تجاوزت الحد ، وأضرت بالمسلمين أضرارًا

اقتصادية أيضًا. مثلاً: ماذا تظن بأصل الاستمداد من الأموات؟ وبجمع الإعانات

لهم؟ رجل كسلان لا يقدر أن يحسن عملاً ، يرى في المنام قبرًا لا يعلم أحد ما في

داخله [2] فيتخذه ذريعة للمعيشة بدون تعب، يعلق هناك قنديلاً، ويرفع على أطرافه

حائطًا [3] ثم يكتب لوحًا بأن زيارته تشفي الأمراض وتقضي الديون ، ثم يضع

جملة توافق هواه ويسميها حديثًا. ويكتبها بخط جلي، ويعلقها في محل مرتفع؛

عندئذ يصدقه البله ، ويهرعون للزيارة وللإعانة ولتقديم النذور!!

فهذا الحال أضر بالمسلمين أضرارًا عظيمة أولها: مخالفة حكام الدين ،

وثانيها: إغراء الناس بالمطل والاحتيال.

وثالثها: تعطيل قسم عظيم من الثروة العمومية.

ورابعها: أنه يسوق الناس للأوهام ويبعدهم عن الجزم بأن {لَيْسَ لِلإنْسَانِ

إِلَاّ مَا سَعَى} (النجم: 39) .

فالعمدة في الرزق الكسب من طريق الأسباب، لا ما أعطاه الأموات. أما آن

الأوان أيها المسلمون لنبذ هذه الخرافات؟ أليس قوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ

خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ يَرَهُ} (الزلزلة: 7-8) أبلغ من

جميع هذه الترهات؟

***

فرقة الكاملية

من الشيعة من غالى وزعم أن كل من لم يبايع عليًّا رضي الله عنه

عقيب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فهو كافر ، حتى إن عليًّا نفسه لم يسلم من

اتهامهم، منهم الكاملية رجل اسمه أبو كامل كان يقول بالتناسخ، وهذه خلاصة

تعاليمه: (الإمامة نور تنتقل من شخص إلى آخر ، ويتجلى هذا النور في شخص

بشكل النبوة، وفي آخر بشكل الإمامة ، وفي بعض الأحايين ينقلب نور الإمامة إلى

نور النبوة) هذه أصول خرافاته ، يراها الأوربي ويظن بنا الظنون [4] .

***

فرقة البيانية

هؤلاء يقولون: بتجسد الله سبحانه وتعالى

رئيسهم رجل اسمه (بيان بن سمعان التميمي)، وهذه خلاصة مذهبه: إن الله

بصورة الإنسان ، ولا أحد يبقى غيره [5] ، وإن روحه تجلت أول الأمر في علي بن

أبي طالب ، ثم انتقلت إلي ابنه محمد ابن الحنفية ، ثم إلي أبي هاشم، وأخيرًا إلي

بيان بن سمعان؛ أي: إليه نفسه. (بيان) هذا كان يزعم اتحاد الإله بشخص

علي. عجبًا من أين أتيت هذه الخرافات إلى ديننا الحنيف؟ أتت من إيران واليونان

ومن النصارى؛ لأن زعم بيان بنصف ألوهية علي هو عين اعتقاد الإيرانيين

في (ميترا) والنصارى في عيسى.

***

فرقة العليائية [6]

أسسها علياء بن ذراع الأسدي ، وكان هذا يزعم بأن علياء هو الله ، وكان

يزعم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم بعث من قبل علي.

***

فرقة المغيرية

رئيسها المغيرة بن سعيد العجلي ، كان يبالغ أكثر من بيان بما يبين شكله

تعالى وحدوده ، وهذه نظريته: إن الله إنسان من نور وعلى رأسه تاج نوراني ،

وعندما أراد أن يخلق البشر تكلم باسمه الأعظم. وعندما بلغه عمل الناس السيئ

غضب وعرق ، وحصل من عرقه بحران: أحدهما مالح، والآخر حلو ، وكان البحر

الأول مظلمًا، والثاني نورانيًّا ، ثم نظر للبحر النوراني فرأي ظله، فأخذ منه شيئًا

وخلق الشمس والقمر [7]، ثم قال: لا يجوز أن يشاركني في الألوهية أحد. وأعدم باقي

الظل ، ثم خلق المؤمنين من البحر الحلو، والكافرين من البحر المالح. اهـ

لا أشك في أن دماغ الإنسان يجمد عندما يتصور أن أوربيًّا يقرأ هذه الترهات

باسم طائفة إسلامية ، وأظن أن القرد يفكر أحسن من ذلك.

وهذه النظرية أيضًا إيرانية؛ لأن الإيرانيين كانوا يعتقدون مثل ذلك. وهو

وصف الله بما كان يصف الفرس (هرمز) معبودهم، ولقد وصف البحار. إنما كان

الفرس يسمونه (آهريمان) .

كان الإيرانيون يعتقدون بأن خالق كل شيء هو (هرمز) ، ثم قال هرمز

لزرادشت: بلغ الناس أن كل شيء يلمع على وجه الأرض هو مقتبس من نوري.

ولا في الكون أبهى من ذلك النور ، خلقت الجنة والملائكة وكل شيء حسن من هذا

النور ، وخلقت جهنم وجميع الشرور من بحر الظلمة. فيظهر أن المغيرة أراد أن

يقلد (هرمز) ولكنه لم يحسن التقليد أيضًا.

***

فرقة المنصورية

مؤسسها أبو منصور العجلي ، ظهر في زمان عبد الملك الأموي ، وادعى

الإمامة ، فاجتمع حوله خلق كثير ، وشغل الأمة وقتًا بما لا يفيد ، وهذه نحلته قال:

صعدت إلى السماء ورأيت الله ، ووضع يده على رأسي ، وقال لي: انزل إلى

الأرض ، وبلغ الناس أوامري.

وهذه خرافة مأخوذة من الكلدانية والمصرية ، ولكنها صبغت بصبغة إسلامية،

يا للأسف.

***

فرقة الجناحية

رئيسها عبد الله بن معاوية ، زعم أن روح الله انتقلت إلى الأنبياء ، ثم إلى

الأئمة، ثم حلل جميع المحرمات. وقسم نظريته الأول مأخوذ من عقيدة قدماء

المصريين بالتناسخ ، وقسم نظريته الثاني أخذه من نظرية (مزدك) الإيراني.

***

فرقة الخطابية

أسسها أبو الخطاب محمد ابن زينب الأسدي ، هذا كان يقول بنبوة الأئمة

وبألوهيتهم. وكان يدعي بأنه أفضل من علي نفسه.

***

فرقة الهشامية

مؤسسها هشام بن سالم الجواليقي ، ونظرية هذه الفرقة: لله جسد طوله

وعرضه وعمقه متساوية، وهو سبعة أشبار. يشبه الأجسام وجامع للأوصاف

الحسية، وهو جالس على العرش بالتماس ، لا يعرف الأشياء إلا بعد ظهورها، وقبل

ظهورها لا يعرف عنها شيئًا ، هذه نظرية هشام بن الحكم. وأما نظرية هشام بن

سالم فهي:

(زعمه) أن الله بصورة الإنسان، وله يد ورجل وأنف وأذن وعين وفم،

ونصفه الأعلى مجوف ، ولكنه ليس لحمًا ودمًا. إن هذه النظريات التي تضحك القرود

كانت قصدية لإشغال المسلمين عن الأشياء النافعة ، ولقد نالوا ما يبغون وا أسفاه! ! !

***

فرقة اليونسية

مؤسسها يونس بن عبد الرحمن القمي ، زعم أن الله جالس على العرش

والملائكة تجره من مكان إلى آخر ، ثم يقول: مع أن الملائكة تجر عرش الله فهو

أقوى منهم كلهم.

***

فرقة المفوضة

يزعم هؤلاء أن الله بعد أن خلق محمدًا صلى الله عليه وسلم. فوض إليه خلق

كل شيء، فالخلاق هو محمد. وبعضهم ينسب خلقه العالم إلى علي.

إن هذا ليس من الإسلام بشيء، بل هو نصرانية بثوب إسلامي.

***

فرقة المشبهة

أشهر أركان هذه الفرقة أحمد الهيجمي ، زعم هذا بأن الله جسم يلامس

ويصافح ، وحتى يعانق من يريد من أهل الدنيا.

ومنهم عبد الله بن محمد بن كرام أسس شعبة لهذه الفرقة وسماها (المشبهة

الكرامية) ، وقال: إن العرش هو قطر الألوهية.

أرأيت أيها القارئ المحترم ماذا كان يشتغل أجدادنا؟ أتظن أن هناك سببًا

أقوى مما ذكر أدى لتأخرنا وضعفنا؟ أتظن أن هناك سببًا لتشوش أفكارنا ، وتردد

أعمالنا غير هذه النظريات المخلة المختلة.

لا تفل أيها القارئ اللبيب: هذا شيء مضى ، وهو من بقايا القرون القديمة.

إن آثاره لحد اليوم حاكمة علينا. لماذا يقتل الأتراك والزيديين في اليمن؟ لماذا

اتفق الإدريسي مع النصارى؟ لماذا يقتل الأتراك بالدروز؟ لماذا يشتغل المسلمون

حتى اليوم في ترهات كهذه، والأوربي يشتغل بالبخار والحديد؟ كل هذا لأن

الإسلامية أضاعت شيئًا مهمًّا من نبالتها الأصلية ، وأصبحت أعجوبة ممزوجة

بالخرافات. والأمر من كل هذا أن العوام أصبحوا خاضعين للخرافات أكثر من

الحقائق ، وكل من حاول إرجاع المسلمين إلى دينهم الصافي يحكم عليه بضعف

الاعتقاد! ! وهؤلاء المساكين لا يدرون أنهم يدينون بخرافات اليونان وإيران.

ثم إن لمبشري النصارى تأثيرًا عظيمًا في إكمال ما غاب عن ذهن مؤسس

الفرق المبحوث عنها ، أولئك كانوا يبتدعون بدعات جديدة ، وهؤلاء يأتون من

طريق منحنٍ أهم ما يرمون إليه التشكيك بأمر الدين ، وأغرب أمرهم أنهم فيما

يريدون إقناع الذي يجدونه ساذجًا بأمر ما ، يتكلمون على الأديان كلها ، ويجرحون

قواعد الإسلامية والنصرانية معًا؛ ليحسن السامع الظن بهم وينالون مأربهم.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) تابع لم سبق من الكتاب المترجم عن التركية (راجع ص 388 م 24) .

(1)

هذا من تحامل المؤلف ، فوضاع الأحاديث من غيرهم كثيرون.

(2)

قد يكون ما فيه حمار أو كلب ، وقد يكون خاليًا ، ولذلك وقائع معروفة في بلاد مصر وغيرها.

(3)

نسي المؤلف بناء القبة فوقه.

(4)

هذه الفرقة وأمثالها من الغلاة ليسوا من فرق المسلمين ، وقد انقرض أكثرهم.

(5)

وقع غلط في اسم صاحب هذه النحلة ونسبته فهو بيان النميمي بباء فياء لا (بنان) بالنون ، ومن كما كان في الأصل وهو القائلين بالتناسخ ، وأن الرب رجل من نور يفنى فلا يبقى إلا وجهه.

(6)

لا ذكر شيئًا عن هذه الفرقة.

(7)

وفي كتاب الفرق بين الفرق أن ظله طار ، فانتزع منه عينيه وخلق منهما الشمس والقمر ، وأفنى باقيه.

ص: 444