الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
المُفطرون في رمضان
كتبنا في فريضة الصيام وحكمه وفوائده الروحية والبدنية والاجتماعية مرارًا
متعددة في المجلدات المتفرقة من المنار ، وإذ قضى الله تعالى أن يقرأ هذا الجزء
منه في شهر رمضان المبارك ، رأينا أن نعيد التذكير والوعظ في ذلك بكلمة وجيزة
عسى أن يتذكر ويستفيد المستعدون لذلك من الذين لا يؤدون هذه الفريضة.
إن الذين يفطرون في نهار رمضان أصناف:
(منهم) : المسلم بالوراثة الذي لا يعرف من الإسلام إلا تقاليد منها لفظي
كالشهادتين وكلمة (مسلم موحد بالله) ومنها عملية، كالصلاة والصيام واحتفالات
والموالد والمواسم والمحمل والمقابر وكون زيارة الأولياء وشد الرحال إليها تغفر
الذنوب وتقضي الحاجات ، وكون كل ما يفعله الإنسان مقدر فلا يؤاخذ عليه، فكل
أمور الدين عند أكثر هؤلاء عادات من تعود شيئًا منها بتقاليد بيته فعله ، وإلا تركه
بلا مبالاة بالوعيد ولا اكتراث للوعد، وأقلهم من تغلبه شهوته الحيوانية ، فيعذر
نفسه باستغناء الله عن صيامه وتَمَنَّى العفو والمغفرة.
(ومنهم) : المارقون من الدين بشبهات تلقفوها من ملاحدة الإفرنج
والمتفرنجين، الذين لا نصيب لهم من الإسلام إلا الولادة في بعض بيوت المسلمين.
ومن المفطرين من يفطر سرًّا ، ويحفظ حرمة الشهر بين الناس فلا يأكل ولا
يشرب ولا يدخن على مرأى أحد، ومنهم الذين يدخنون في الشوارع العامة
ويشربون قهوة البن أو الخمرة في المقاهي أو الحانات العامة، ويتغدون في المطاعم
العامة مع أمثالهم من غير المسلمين أو من المعدودين في دفاتر الإحصاء منهم ، وإذا
كانوا أرباب بيوت لهم فيها الأمر والنهي ، أو كان أهل بيوتهم من المارقين معهم
من الدين ، فإن موائد الطعام تنصب لهم في رمضان أول النهار وبعد الظهر كما
تنصب في سائر الشهور.
من الأسباب النظرية الفكرية للإسرار بالفطر أن الإسلام رابطة اجتماعية
أدبية سياسية في الحياة الدنيوية ، وعقيدة دينية مظهرها هذه العبادات المخصوصة ،
فمن فقد العقيدة الباعثة على العبادة ، فالواجب في القانون الأدبي والاجتماعي أن
يحافظ على الرابطة الدنيوية العامة التي تربطه بالأمة الكبيرة، أو الصغيرة - التي
ينتهي إليها ، وأن يحترم شعائرها ، فلا يمتهنها جهرًا على مرأى من أهلها؛ لأن
ذلك إهانة لها ولنفسه من حيث هو فرد من أفرادها، وأصحاب هذا النظر هم أرقى
هؤلاء المارقين عقلاً وشعورًا. وقد قال لي أحد أدباء الترك: إنني إن أفطرت في
رمضان فإنني لا أمتهن نفسي وملتي بالجهر بذلك ، ولا أطيق أن أرى أحدًا يفعل
ذلك ، فإن وجدت مسلمًا يجهر به أمامي ، فإنني أجد من نفسي شعورًا يبعثني على
قتله إن استطعت.
ومن الأسباب الاجتماعية والأدبية ما لا يرتقي بالمُسَرِّ بالفطر إلى هذه الأفكار
والشعور ، بل يسره بسبب احترامه لأهل بيته وعشرائه إذا كانوا من أهل البيوت
العريقة في الإسلام المحافظة على شعائره، فإن بعض أولاد وجهاء العلماء وغيرهم
من بيوتات المسلمين الذين أفسد دينهم وأدبهم تعليم المدارس العصرية يفطرون في
رمضان ويسكرون.. ولكنْ سرًّا أو مع أمثالهم من الفساق المستهترين.
كذلك الذين يجاهرون بانتهاك حرمة شهر الصيام منهم أصحاب رأي ونظر
كالمتفرنجين الذين ليس لهم من الرأي والفكر ما يرتقي بهم إلى احترام الملة أو
الأمة التي ينتمون إليها، ولا لهم من البيوت التي يعيشون فيها من يوافقونه على
تقاليده الملية كعادته، ولا من الخلطاء الذين يعاشرونهم من يستحيون منه، فقد
انتفى المانع من الجهر ، ووجد المقتضي له عندهم وهو ما يسمونه الحرية
الشخصية والشجاعة أو الجرأة المعنوية، وقد يحتقرون المستخفي بالفطر أو يفندون
رأيه برميه بالجبن والنفاق ، وأنه هو المانع له من إظهار ما هو منطوٍ عليه من
عدم التدين، وهم يخدعون أنفسهم بألقاب الحرية والجرأة الفسقية التي يسمونها
شجاعة أدبية ، فإن أحدهم لو مات والده المسلم مثلاً وكان غنيًّا ، وادَّعى بعض
إخوته أو غيرهم أنه لا يرثه؛ لأنه ليس على دينه ، وطلب من المحكمة الشرعية
الحكم بحرمانه من الإرث ، وسأله القاضي الشرعي عن ذلك ، فإنه يدَّعي الإسلام
ويُكذِّبُ من رماه بالارتداد عنه، وقل مثل هذا إذا أراد أن يتزوج فتاة مسلمة أو
ادعت عليه زوجته المسلمة أنه قد ارتد عن الإسلام ، وطلبت من المحكمة الشرعية
التفريق بينها وبينه.
وجملة القول: إن هؤلاء أدنياء لا شعور لهم بالكرامة القومية ولا المِلِّيّة،
وأما سائر المجاهرين بالفطر في رمضان فهم التحوت المستولغون من الطبقة
السفلى؛ أي الذين لا يبالون أمًّا ولا عارًا وأمرهم معروف.
_________
الكاتب: أحمد بن تيمية
إبطال وحدة الوجود والرد على القائلين بها
لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية
رضي الله عنه
وأما قول القائل:
ما غبت عن القلب ولا عن عيني
…
ما بينكم وبيننا من بين
فهذا القول مبني على قول هؤلاء وهو باطل متناقض ، فإن مقتضاه أنه يرى
الله بعينه ، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(واعلموا أن أحدًا منكم لن يرى ربه حتى يموت) وقد اتفق أئمة المسلمين على أن
أحدًا من المؤمنين لا يرى الله بعينه في الدنيا ، ولم يتنازعوا إلا في النبي صلى الله
عليه وسلم ، مع أن جماهير الأئمة على أنه لم يره بعينه في الدنيا ، وعلى هذا دلت
الآثار الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والصحابة وأئمة
المسلمين.
ولم يثبت عن ابن عباس ولا عن الإمام أحمد وأمثالهما أنهم قالوا: رأى ربه
بعينه ، بل الثابت عنهم إما إطلاق الرؤية وإما تقييدها بالفؤاد ، وليس في شيء من
أحاديث المعراج الثابتة أنه رآه بعينه ، وقوله: (أتاني البارحة ربي في أحسن
صورة) الحديث الذي رواه الترمذي وغيره إنما كان بالمدينة في المنام هكذا جاء
مفسرًا ، وكذلك أم الطفيل وحديث ابن عباس وغيرهما مما فيه رؤية ربه إنما كان
بالمدينة كما جاء مفسرًا في الأحاديث والمعراج كان بمكة كما قال: {سُبْحَانَ الَّذِي
أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى} (الإسراء: 1) ، وقد
بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع. وقد ثبت بنص القرآن أن موسى قيل
له: (لن تراني) وأن رؤية الله أعظم من إنزال كتاب من السماء ، فمن قال: إن
أحدًا من الناس يراه فقد زعم أنه أعظم من موسى بن عمران ، ودعواه أعظم من
دعوى من ادعى أن الله أنزل عليه كتابًا من السماء.
المسلمون في رؤية الله على ثلاثة أقوال:
فالصحابة والتابعون وأئمة المسلمين على أن الله يُرى في الآخرة بالأبصار
عيانًا ، وأن أحدًا لا يراه في الدنيا بعينه لكن يُرَى في المنام ، ويحصل للقلوب في
المكاشفات والمشاهدات ما يناسب حالها ، ومن الناس من تقوى مشاهدة قلبه حتى
يظن أنه رأى ذلك بعينه وهو غالط ومشاهدات القلوب تحصل بحسب إيمان العبد
ومعرفته في صورة مثالية كما قد بسط في غير هذا الموضع.
(والقول الثاني) قول نفاة الجهمية أنه لا يُرى في الدنيا ولا في الآخرة.
(والثالث) قول من يزعم أنه يُرى في الدنيا والآخرة.
وحلولية الجهمية يجمعون بين النفي والإثبات فيقولون: إنه لا يرى في الدنيا
ولا في الآخرة ، وأنه يرى في الدنيا والآخرة وهذا قول ابن عربي صاحب
الفصوص وأمثاله؛ لأن الوجود المطلق الساري في الكائنات لا يرى وهو وجود
الحق عندهم.
ثم من أثبت الذات قال: يُرى متجليًا فيها ، ومن فرق بين المطلق والمعين
قال: لا يرى إلا مقيدًا بصورة ، وهؤلاء قولهم دائر بين أمرين: إنكار رؤية الله
وإثبات رؤية المخلوقات ، ويجعلون المخلوق هو الخالق ، أو يجعلون الخالق حالاً
في المخلوق ، وإلا فتفريقهم بين الأعيان الثابتة في الخارج وبين وجودها هو قول
من يقول: بأن المعدوم شيء في الخارج وهو قول باطل ، وقد ضموا إليه أنهم
جعلوا نفس وجود المخلوق هو وجود الخالق ، وأما التفريق بين المطلق والمعين مع
أن المطلق لا يكون هو في الخارج مطلقًا يقتضي أن يكون الرب معدومًا ، وهذا هو
جحود الرب وتعطيله، وإن جعلوه ثابتًا في الخارج جعلوه جزءًا من الموجودات
فيكون الخالق جزءًا من المخلوق أو عرضًا قائمًا بالمخلوق ، وكل هذا مما يعلم
فساده بالضرورة، وقد بسط هذا في غير هذا الوضع.
وأما تناقضه فقوله:
ما غبت عن القلب ولا عن عيني
…
ما بينكم وبيننا من بين
يقتضي المغايرة ، وأن المخاطَب غير المخاطِب ، وأن المخاطِب له عين قلب لا
يغيب عنها المخاطب ، بل يشهده القلب والعين والشاهد غير المشهود.
وقوله: (ما بينكم وبيننا من بين) فيه إثبات ضمير المتكلم وضمير
المخاطب وهذا إثبات لاثنين، وإن قالوا: مظاهر ومجالي قيل: فإن كانت المظاهر
والمجالي غير الظاهر المتجلي فقد ثبتت التثنية وبطل التعدد، وإن كان هو إياها
فقد بطلت الوحدة فالجمع بينهما متناقض. وقول القائل:
فارق ظلم الطبع وكن متحدًا
…
بالله وإلا كل دعواك محال
إن أراد الاتحاد المطلق فالمفارق هو المفارق وهو الطبع وظلم الطبع ، وهو
المخاطب بقوله: (وكن متحدًا بالله) وهو المخاطب بقوله: (كل دعواك محال)
وهو القائل هذا القول، وفي ذلك من التناقض مالا يخفى ، وإن أراد الاتحاد المقيد
فهو ممتنع؛ لأن الخالق والمخلوق إذا اتحدا فإن كانا بعد الاتحاد اثنين كما كانا قبل
الاتحاد فذلك تعدد وليس باتحاد، وإن كانا استحالا إلى شيء ثالث كما يتحد الماء
واللبن والنار والحديد ونحو ذلك مما يشبه النصارى بقولهم في الاتحاد ، لزم من
ذلك أن يكون الخالق قد استحال وتبدلت حقيقته كسائر ما يتحد مع غيره ، فإنه لا بُدَّ
أن يستحيل وهذا ممتنع على الله ينزه الله عن ذلك؛ لأن الاستحالة تقتضي عدم ما
كان موجودًا ، والرب تعالى واجب الوجود بذاته وصفاته اللازمة له يمتنع العدم
على شيء من ذلك، ولأن صفات الرب اللازمة له صفات كمال فعدم شيء منها
نقص تعالى الله عنه، ولأن اتحاد المخلوق بالخالق يقتضي أن العبد متصف
بالصفات القديمة اللازمة لذات الرب ، وذلك ممتنع على العبد المحدث المخلوق ،
فإن العبد يلزمه الحدوث والافتقار والذل ، وصفات الرب تعالى اللازمة القدم والغنى
والعزة ، وهو سبحانه قديم غني عزيز بنفسه ، يستحيل عليه نقيض ذلك ، فاتحاد
أحدهما
بالآخر يقتضي أن يكون الرب متصفًا بنقيض صفاته من الحدوث والفقر والذل،
والعبد متصفًا بنقيض صفاته من القدم والغنى الذاتي والعز الذاتي ، وكل ذلك ممتنع
وبسْط هذا يطول.
ولهذا سئل الجُنَيْدُ عن التوحيد فقال: التوحيد إفراد الحدوث عن القدم ، فبين
أنه لا بد من تمييز المحدث عن القديم.
ولهذا اتفق أئمة المسلمين على أن الخالق بائن عن مخلوقاته ليس في مخلوقاته
شيء من ذاته ولا في ذاته شيء من مخلوقاته ، بل الرب رب والعبد عبد {إِن كُلُّ
مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَاّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَداً * وَكُلُّهُمْ
آتِيهِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَرْدا} (مريم: 93-95) ، وإن كان المتكلم بهذا البيت أراد
الاتحاد الوصفي ، وهو أن يحب العبد ما يحبه الله ، ويبغض ما يبغضه الله ،
ويرضى بما يرضى الله ، ويغضب لما يغضب الله ، ويأمر بما يأمر الله ، وينهى
عما ينهى الله عنه. ويوالي من يواليه الله ، ويعادي من يعاديه الله ، ويحب لله ،
ويبغض لله ، ويعطي لله ، ويمنع لله ، بحيث يكون موافقًا لربه تعالى فهذا المعنى
حق وهو حقيقة الإيمان وكماله ، وفي الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يقول الله تعالى: من عادى لي وليًّا فقد
بارزني بالمحاربة ، وما تقرب إليَّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ، ولا يزال
عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ،
وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، فبي يسمع ،
وبي يبصر ، وبي يبطش ، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذ بي
لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن ، يكره
الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه) .
وهذا الحديث يحتج به أهل الوحدة وهو حجة عليهم من وجوه كثيرة: (منها)
أنه قال: (من عادى لي وليًّا فقد بارزني بالمحاربة) فأثبت نفسه ووليه ومعادي
وليه وهؤلاء ثلاثة، ثم قال: (وما تقرب إليَّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ،
ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه) فأثبت عبدًا يتقرب إليه بالفرائض
ثم بالنوافل ، وأنه لا يزال يتقرب بالنوافل حتى يحبه ، فإذا أحبه كان العبد يسمع به ،
ويبصر به ، ويبطش به ، ويمشي به، وهؤلاء هو عندهم قبل أن يتقرب بالنوافل
وبعده هو عين العبد وعين غيره من المخلوقات ، فهو بطنه وفخذه لا يخصون ذلك
بالأعضاء الأربعة المذكورة فالحديث مخصوص بحالٍ مقيد ، وهم يقولون:
بالإطلاق والتعميم ، فأين هذا من هذا؟ وكذلك قد يحتجون بما في الحديث الصحيح
أن الله يتجلى لهم يوم القيامة ثم يأتيهم قي صورة غير الصورة التي رأوه فيها أول
مرة ، فيقول: أنا ربكم فيقولون: نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا ، فإذا
جاء ربنا عرفناه ، ثم يأتيهم في الصورة التي رأوه فيها في أول مرة ، فيقول: أنا
ربكم فيقولون: أنت ربنا، فيجعلون هذا حجة لقولهم إنه يرى في الدنيا في كل
صورة ، بل هو كل صورة ، وهذا الحديث حجة عليهم-في هذا- أيضًا ، فإنه لا
فرق عندهم بين الدنيا والآخرة وهو عندهم في الآخرة المنكرون [1] الذين قالوا:
نعوذ بالله منك حتى يأتينا ربنا وهؤلاء الملاحدة يقولون: إن العارف يعرفه في كل
صورة ، فإن الذين أنكروه يوم القيامة في بعض الصور كان لقصور معرفتهم ،
وهذا جهل منهم فإن الذين أنكروه يوم القيامة ثم عرفوه لما تَجَلَّى لهم في الصورة
التي رأوه فيها أول مرة هم الأنبياء والمؤمنون ، وكان إنكارهم مما حمدهم سبحانه
وتعالى عليه ، فإنه امتحنهم بذلك حتى لا يتبعوا غير الرب الذي عبدوه ، فلهذا قال
في الحديث وهو يسألهم ويثبتهم: (وقد نادى المنادي ليتبع كل قوم ما كانوا يعبدون) .
ثم يقال لهؤلاء الملاحدة: إذا كان عندهم هو الظاهر في كل صورة فهو
المنكِر وهو المنكَر: كما قال بعض هؤلاء لآخر من قال لك: إن في الكون سوى
الله فقد كذب، وقال له الآخر: فمن هو الذي كذب؟ وذكر ابن عربي أنه دخل على
مريد له في الخلوة ، وقد جاءه الغائط ، فقال: ما أبصر غيره أبول عليه؟ فقال له
شيخه: فالذي يخرج من بطنك من أين هو؟ قال: فرَّجْت عنِّي ، ومرَّ شيخان منهم
التلمساني هذا والشيرازي على كلب أجرب ميت ، فقال الشيرازي للتلمساني: هذا
أيضًا من ذاته ، فقال التلمساني: هل ثَم شيء خارج عنها؟ وكان التلمساني قد
أضل شيخًا زاهدًا عابدًا ببيت المقدس يقال له أبو يعقوب المغربي المبتلى حتى كان
يقول: الوجود واحد وهو الله ولا أرى الواحد ولا أرى الله ، ويقول: نطق الكتاب
والسنة بثنوية الوجود والوجود واحد لا ثنوية فيه ، ويجعل هذا الكلام له تسبيحًا
يتلوه كما يتلو التسبيح.
وأما قول الشاعر:
إذا بلغ الصب الكمال من الهوى
…
وغاب عن المذكور في سطوة الذكر
فشاهد حقًّا حين يشهده الهوى
…
بأن صلاة العارفين من الكفر
فهذا الكلام مع أنه كفر هو كلام جاهل لا يتصور ما يقول ، فإن الفناء والغيب
هو أن يغيب بالمذكور عن الذكر ، وبالمعروف عن المعرفة ، وبالمعبود عن العبادة
حتى يفنى من لم يكن ، ويبقى من لم يزل ، وهذا مقام الفناء الذي يعرض لكثير من
السالكين؛ لعجزهم عن كمال الشهود المطابق للحقيقة بخلاف الفناء الشرعي ،
فمضمونه الفناء بعبادته عن عبادة ما سواه ، وبحبه عن حب ما سواه ، وبخشيته
عن خشية ما سواه ، وبطاعته عن طاعة ما سواه ، فإن هذا تحقيق التوحيد والإيمان
(وأما النوع الثالث) من الفناء وهو الفناء عن وجود السُّوى ، بحيث نرى
أن وجود الخالق هو وجود المخلوق ، فهذا هو قول هؤلاء الملاحدة أهل الوحدة
والمقصود هنا أن قوله يغيب عن المذكور كلام جاهل ، فإن هذا لا يحمد أصلاً ، بل
المحمود أن يغيب بالمذكور عن الذكر ، لا يغيب عن المذكور في سطوات الذكر
اللهم إلا أن يريد أنه غاب عن المذكور ، فشهد المخلوق وشهد أنه الخالق ولم يشهد
الوجود إلا واحدًا ، ونحو ذلك من المشاهد الفاسدة فهذا شهود أهل الإلحاد لا شهود
الموحدين ، ولعمري أن من شهد هذا الشهود الإلحادي فإنه لا يرى صلاة العارفين
من الكفر ، وأما قول القائل:
الكون يناديك أما تسمعني
…
من ألف أشتاتي ومن فرقتي
انظر لتراني منظرًا معتبرًا
…
ما فيَّ سوى وجود من أوجدني
فهو من أقوال هؤلاء الملاحدة ، وأقوالهم كفر متناقض باطل في العقل والدين
فإنه إذا لم يكن فيه إلا وجود من أوجده ، كان ذلك الوجود هو الكون المنادي وهو
المخاطب المنادى ، وهو الأشتات المؤلفة المفرقة ، وهو المخاطب الذي قيل له:
انظر ، وحينئذ يكون الوجود الواجب القديم الأزلي قد أوجد نفسه وفرقها وألفها ،
فهذا جمع بين النقيضين.
فالواجب هو الذي لا تقبل ذاته العدم ، فممتنع أن يكون الشيء الواحد قابلاً
للعدم وغير قابل للعدم ، والقديم هو الذي لا أول لوجوده ، والمحدث هو الذي له أول
فيمتنع كون الشيء الواحد قديمًا محدثًا ، ولولا أنه قد علم مرادهم بهذا القول لأمكن
أن يراد بذلك ما في سوى الوجود الذي خلقه من أوجدني ، وتكون إضافة الوجود
إلى الله إضافة الملك ، لكن قد علم أنه لم يرد هذا ، ولأن هذه العبارة لا تستعمل في
هذا المعنى وإنما يراد بوجود الله وجود ذاته لا وجود مخلوقاته ، وهكذا قول القائل:
وله ذات وجود الـ
…
ـكون الحق شهود
إن ليس لموجود
…
سوى الحق وجود
مراده بأن وجود الكون هو نفس وجود الحق ، وهذا هو قول أهل الوحدة وإلا
فلو أراد أن وجود كل موجود من المخلوقات هو من الحق تعالى ، فليس لشيء
وجود من نفسه وإنما وجوده من ربه ، والأشياء باعتبار أنفسها لا تستحق سوى
العدم ، وإنما حصل لها الوجود من خالقها وبارئها ، فهي دائمة الافتقار إليه لا
تستغني عنه لحظة لا في الدنيا ولا في الآخرة؛ لكان قد أراد معنى صحيحًا وهو
الذي عليه أهل العقل والدين من الأولين والآخرين ، وهؤلاء القائلون بالوحدة قولهم
متناقض ، ولهذا يقولون: الشيء ونقيضه وإلا فقوله: منه وإلى علاه يبدي ويعيد
يناقض الوحدة ، فمن هو البادي والعائد منه وإليه إذا لم يكن إلا واحد؟ وقوله:
وما أنا في طراز الكون شيء
…
لأني مثل ظل مستحيل
يناقض الوحدة؛ لأن الظل مغاير لصاحب الظل ، فإذا شبه المخلوق بالظل لزم
إثبات اثنين كما إذا شبهه بالشعاع ، فإن شعاع الشمس ليس هو نفس قرص الشمس ،
وكذلك إذا شبهه بضوء السراج وغيره ، والنصارى تشبه الحلول والاتحاد بهذا.
(وقلت) لمن حضرني منهم وتكلم بشيء من هذا: فإذا كنتم تشبهون المخلوق
بالشعاع الذي للشمس والنار والخالق بالنار والشمس ، فلا فرق في هذا بين المسيح
وغيره ، فإن كل ما سوى الله على هذا هو بمنزلة الشعاع والضوء ، فما الفرق بين
المسيح وبين إبراهيم وموسى؟ بل ما الفرق بينه وبين سائر المخلوقات على هذا ،
وجعلت أردد عليه هذا الكلام ، وكان في المسجد جماعة حتى فهمه فهمًا جيدًا ،
وتبين له وللحاضرين أن قولهم باطل لا حقيقة له ، وأن ما أثبتوه للمسيح إما ممتنع
في حق كل أحد وإما مشترك بين المسيح وغيره ، وعلى التقديرين فتخصيص
المسيح بذلك باطل ، (وذكرت له) أنه ما من آية جاء بها المسيح إلا وقد جاء
موسى بأعظم منها ، فإن المسيح صلى الله عليه وسلم وإن كان جاء بإحياء الموتى
فالموتى الذين أحياهم الله على يد موسى أكثر كالذين قالوا: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى
نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَة} (البقرة: 55) ، ثم أحياهم الله بعد موتهم ،
وقد جاء بإحياء الموتى غير واحد من الأنبياء ، والنصارى يصدقون بذلك ، وأما
جعل العصا حية فهذا أعظم من إحياء الميت ، فإن الميت كانت فيه حياة فردت
الحياة إلى محل كانت فيه الحياة ، وأما جعل خشبة يابسة حيوانًا تبتلع العصي
والحبال فهذا أبلغ في القدر وأقدر [2] فإن الله يحي الموتى ولا يجعل الخشب حياة.
وأما إنزال المائدة من السماء فقد كان ينزل على عسكر موسى كل يوم من
المن والسلوى ، وينبع لهم من الحجر من الماء ما هو أعظم من ذلك ، فإن الحلو أو
اللحم دائمًا هو أجل في نوعه وأعظم في قدره مما كان على المائدة من الزيتون
والسمك وغيرهما ، وذكرت له نحوًا من ذلك مما تبين أن تخصيص المسيح بالاتحاد
ودعوى الإلهية ليس له وجه ، وأن سائر ما يذكر فيه إما أن يكون مشتركًا بينه
وبين غيره من المخلوقات ، وإما أن يكون مشتركًا بينه وبين غيره من الأنبياء
والرسل ، مع أن بعض الرسل، كإبراهيم وموسى قد يكون أكمل في ذلك منه ،
وأما خلقه من امرأة بلا رجل فخلق حواء من رجل بلا امرأة أعجب من ذلك ، فإنه
خلق من بطن امرأة ، وهذا معتاد بخلاف الخلق من ضلع رجل فإن هذا ليس بمعتاد ،
فما من أمر يذكر في المسيح صلى الله عليه وسلم إلا وقد شركه فيه أو فيما هو
أعظم منه غيره من بني آدم.
فعلم قطعًا أن تخصيص المسيح باطل ، وأن ما يدعى له إن كان ممكنًا فلا
اختصاص له به ، وإن كان ممتنعًا فلا وجود له فيه ولا في غيره ، ولهذا قال هؤلاء
الاتحادية أن النصارى إنما كفروا بالتخصيص وهذا أيضا باطل ، فإن الاتحاد عموم
وخصوص ، والمقصود هنا أن تشبيه الاتحادية أحدهم بالظل المستحيل يناقض
قولهم بالوحدة ، وكذلك قول الآخر:
أحن إليه وهو قلبي وهل يرى
…
سوايَ أخو وجد يحن لقلبه
ويحجب طرفي عنه إذ هو ناظري
…
وما بعده إلا لإفراط قربه
هو مع ما قصده به من الكفر والاتحاد كلام متناقض ، فإن حنين الشيء إلى
ذاته متناقض ، ولهذا قال وهل يرى أخو وجد يحن لقلبه؟ وقوله: وما بعده
إلا لإفراط قربه متناقض ، فإنه لا قرب ولا بعد عند أهل الوحدة ، فإنها تقتضي أين
يقرب أحدهما من الآخر ، والواحد لا يقرب من ذاته ولا يبعد من ذاته.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
ههنا تحريف ظاهر فإن قوله: وهو عندهم في الآخرة المنكرون ، لا معنى له فقد سقط من الناسخ كلام لا سبيل إلى معرفته ، والمعروف عن ابن عربي في فتوحاته يدل عليه ، ومنه أن الرب تعالى يتجلى لكل أحد بحسب معرفته ، فالقاصر المفيد برأي أو مذهب معين لا يعرفه إلا إذا تجلى له في صورة اعتقاده ، وأما العارف المطلق من حجر القيود ، فإنه يعرفه في كل شيء ، ويراه في التجلي بكل صورة؛ لأنه في اعتقاده كل شيء ، قاله محمد رشيد.
(2)
كذا في الأصل ، وفيه تحريف ظاهر من جهل النساخ والمعنى ظاهر وهو أن آية العصا لموسى أعظم من إحياء الميت لعيسى عليهما السلام وأدل على قدرة الله تعالى بما ذكر من الفرق بين البشر والخشب.
الكاتب: جمال الدين الأفغاني
المقالات الجمالية
(3)
السياسة الإنجليزية في الممالك الشرقية
(نشرت في العدد الثالث من السنة الخامسة من جريدة النحلة التي كانت
تصدر في لوندرة في أثناء زيارة السيد لها من أواخر سنة 1882 وأول سنة
1883) .
بلغنا أن الحكومة الإنجليزية قد عرضت لائحة في المسألة المصرية على
الدولة العثمانية تسكينًا لروعها وتطمينًا لبالها ، تذكر فيها أنها ما قصدت الاستيلاء
على مصر ، ولا تود وضع اليد عليها ، ولكن سوف تبقى العساكر الإنجليزية في
البلاد النيلية إلى مدة زوال القلاقل وحصول الراحة ، وتشكيل المجالس والمحاكم ،
ولا تود الدولة البريطانية أن تمس حقوق الحضرة السلطانية بمداخلتها في مصر.
نعم، هذه هي السياسة الإنجليزية في جميع البلاد الشرقية ، عملت بها في
الممالك التي أرادت الاستيلاء عليها ، وقد حذقت فيها وجربتها مرات عديدة ، حتى
إذا خاض العاقل فيها رأى أن لا سياسة للإنجليز سواها ، كأنها عرفت عقول
الشرقيين وعلمت ما فطروا عليه من السذاجة وشدة الاعتقاد بمواعيد عرقوب ،
فتأخذهم على غرة ، وتستلب بلادهم وهم في أمن منها ، يتقون بعهودها ولا يعرفون
أن هذه الحكومة إنما تقتنص بأوهاق الأيمان [1] ولا تسلك في فتوحاتها إلا مسلك
الوداد ، حتى إنها قل ما تملكت بلدًا بالقوة القاهرة وإن الشر لا يأتي إلا من
معاهداتها.
أليست هي التي أزالت السلطنة التيمورية التي كانت منبثة في جميع أرجاء
الهند بمداخلتها الودادية ومواعيدها المؤكدة؟ أليست هي التي نقضت الحكومة
النظامية في بنغالة بعساكرها التي وضعتها للمحافظة على تلك البلاد؟ أليست هي
التي أزاحت السلطنة الكهنورية [2] بنفس جنودها الذين أقامتهم لتوطيد الراحة فيها؟
أين ذهبت حكومات أمراء الكرناتك ومدراس التي كانت مطمئنة بالعساكر
الإنجليزية ومعتمدة على معاهداتها؟ أين حكومة بنجاب وممالك أمراء السند؟ أين
حكومة المراتيين في بونه؟ ذهبت كلها لاعتماد أهلها على وعود الإنجليز وحماية
عساكر المملكة وما أبادهم لعمري سوى تلك العساكر نفسها التي وضعت لصيانتها من
الفساد الداخلي ، فاحذروا يا أهل الديار النيلية من أن يحل ببلادكم ما حل بغيرها ،
ولا غرو أن يحذو الفتى حذو والده.
وقد بلغنا منذ قَدِمْنَا لوندن أن معظم الأوامر التي يجريها الخديوي تكتب أولاً
في الوزارة الخارجية بلوندرة ، ثم ترسل إلى المندوب الإنجليزي بمصر ، والمذكور
يقدمها لحضرة الخديوي ليجريها كأنها صادرة عن أمره باختياره ، ولا أمر له فيها
ولا اختيار ، وربما هذا كان الباعث على استقالة رياض باشا من الوزارة.
هذه هي السياسة الإنكليزية التي كشفت عنها غطاءها التجارب ، وبهذه
السياسة جالت في ميدان جميع فتوحاتها ، فلا أظن أنها تتمكن بعد الآن من اختلاب
عقول الشرقيين بهذه المواعيد [3] وما أظن أن السلطان ورجال دولته بعد ما علموا
نبأ معاهدات الإنجليز في الهند أن يعتمدوا عليها ويثقوا بأصحابها ، ولا ريب أنهم قد
اطلعوا على المعاهدات الإنجليزية التي طبعت في أربعة مجلدات بمطبعة (نول
كشور) في بلدة لكتاهور ، ومنها علموا كيف يستولي الإنجليز على البلاد بحرفة العهود الفارغة والمواثيق الباطلة ، وفيما قلناه عبرة لمن يعتبر ، وسوف نعود إلى
الخوض في هذا الموضوع متصلاً اهـ.
قال ناسخ هذه المقالة بعد ما تقدَّم:
وقد رأينا في نفس العدد المذكور من تلك الجريدة نبذة عرفنا من مشربها
وأسلوبها أنها لأستاذنا - حفظه الله - خصوصًا وأن بين عبارتها وعبارة صاحب
الجريدة ما يدل على أنها مدخولة فيها ، فنقلناها جازمين بأنها بِنْتُ فكره ، فإنه
رضي الله عنه ما حل بلدًا إلا ترامى عليه أرباب جرائدها العربية ، للتماس أن
يزين صحفهم ببدائع حكمه وأبكار أفكاره ، فيجيب سؤالهم ناحيًا فيما يكتبه نحو ما
هو ولوع به من الحماية عن الشرق وبنيه ، والذَّوْدِ عن الأمم الإسلامية والسعي في
توحيد كلمتهم ، وتحذيرهم من دسائس الغربيين ، كاشفًا لهم الحجاب عن وجه سياسة
الأمة التي يريد تحذيرهم منها بما لم يستطع ساستها إلى كشفه سبيلاً لو أرادوا له
كشفًا.
أما النبذة فها هو نصها:
أسباب الحرب بمصر
لقد ذهب الناس مذاهب شتى في أسباب الحرب التي قدحت الإنجليز زنادها
على المصريين ، فمنهم من زعم أن الطمع في الاستيلاء على البلاد النيلية الخصيبة
كان الباعث على ذلك ، ومنهم من اعتقد أن مصالح بريطانيا في خليج السويس
حملت الإنجليز على فعل ما فعلوا ، وظن قوم أنهم اندفعوا إلى تجشم تلك الخسائر
الباهظة غيرة على حفظ نفوذهم السياسي والتجاري بالديار المصرية ، والتأمين
على استيفاء ديونهم وهلم جرا ، تلك لعمري تعليلات سارت بها الجرائد رجمًا
بالغيب ، أو تمويهًا على عيون الناس.
أما أسباب الحرب الحقيقية فهي ما كان قد ثبت في عقول الإنجليز والفرنسيس
من أن جلالة السلطان عبد الحميد قد سعى منذ تولى الخلافة والملك في جمع كلمة
المسلمين المنتشرين في أقطار الهند وأفريقية وسورية والعراق واليمن والحجاز
ومصر وغيرها من البلاد؛ لكي يجعلهم عصبة مستمسكة بعروة الخلافة الوثقى ،
وأمة تتساند إلى بعضها [4] كالبنيان المرصوص ، وأن يكون السواد الأعظم من
المسلمين في يد أمير المؤمنين ، يستنجدهم في الملمات لمقاومة دول أوربا إذا
طمعوا في سلب بلاد المسلمين ، فكان الفرنساويون يقاومون نفوذ السلطان وخلافته
في مسلمي الجزائر وتونس مخافة أن يكون ذلك وبالاً عليهم ، وكانت الإنجليز
تحاذر من انقياد مسلمي الهند إلى دعوى الخلافة ، ومن الانضمام إلى العصبية
الإسلامية ، وكانت تلك الدولة القيصرية قد بلغها أن الحضرة السلطانية بعثت
برجال الدين إلى المسلمين؛ ليدعوا إخوانهم إلى طاعة أمير المؤمنين ، وينشروا
بينهم رسائل تولد في عقولهم فروض الانقياد إلى الراية النبوية، إذا نشرها السلطان
ودعاهم إلى التشمير عن ساق الجد؛ لنصرته والجهاد في سبيل الملك والدين.
وما زاد في طنبور الإنجليز نغمة إلا النشرات التي كان السيد (نصرت علي)
ينشرها في دهلي بإيعاز السلطان ، فلما أخذت مشروعات السلطان ومندوبيه
تضرم نار الغيرة الدينية ، وتثير الحمية الإسلامية في نفوس بعض من الهنود ،
اضطرت الحكومة الإنجليزية بالهند إلى اتخاذ الاحتياطات اللازمة لمنع سريان تلك
العدوى ، وعثرت في أثناء ذلك على رسائل منتشرة بين المسلمين كانت قد طبعت
في القسطنطينية بدار الطباعة الشاهابية ، وأرسلت إلى الأقطار الهندية؛ لإنهاض
همة المسلمين ، فألقت القبض على كثيرين من الذين وجدت عندهم من تلك الرسائل
وحاكمتهم ، ومن ذلك الوقت شرعت إنجلترة تتوجس في تلك المقدمات نتائج وخيمة
في ممالكها الهندية ، فكانت بالمرصاد تترقب الفرصة الملائمة لتمزيق شمل تلك
العصبية الإسلامية التي يصفها الإفرنجيون باسم (اسلاميزم) ، وفيما كانت تَضرب
أخماسًا في أسداسٍ ، وتقدِّم رِجْلاً وتؤخر أخرى ، بلغها أن الحضرة السلطانية قد
باشرت تنفيذ مشروعاتها بالديار المصرية ، وضم مسلمي تلك البلاد أيضًا إلى
العصبية الإسلامية بواسطة الشيخ محمد ظافر والسيد أحمد أسعد المدني وبسيم بك
وراتب بك وأحمد عرابي وأحزابه ، فأصدرت الدولة البريطانية أمرها إلى
مندوبها بمصر بأن يستقصي حقيقة الخبر.
أما ذلك المندوب فكان بادئ بدء يعتقد أن الحرب الأهلية عبارة عن عصبية
عسكرية جل سعيها في إصلاح شؤونها ، وطرد الضباط الشركس من مصاف
الجهادية المصرية ، ولكن خيل إليه بعد ذلك أن الحضرة السلطانية قد اغتنمت
الفرصة من ثورة العساكر المصرية ، واتخذت عرابي باشا آلة لقضاء أغراضها ،
وتوطيد نفوذها في القطر المصري ، وضم المصريين إلى العصبية الإسلامية ،
فرفع المندوب الإنجليزي تلك الأخبار إلى لورد جرانفيل ، وأثبت وجود عصبية
دينية قد تردت برداء عصبية سياسية وطنية ، تدعي تحرير الفلاحين من ربقة
المرابين والأجانب ، وفي الحقيقة ليس سوى عصبية إسلامية دينية تحت قيادة
السلطان أمير المؤمنين ، غرضها الوحيد مقاومة دول أوربا ، وإنهاض همة
المسلمين في الهند والجزائر وتونس وبلاد العرب فتداركت إنجلترا العواقب ،
وصممت على إذلال تلك العصبية الإسلامية قبل أن يستفحل أمرها؛ لأن الإنجليز
تعتقد أن مصر باب الهند وخليج السويس دهليزها ، فإن استفحل أمر عرابي باشا
وحزبه لحق بهم المصريون على اختلاف أجناسهم ، وتبعهم السوريون والعرب ،
وانشأوا أمة عظيمة الشأن ، شديدة البأس ، تضر الإنجليز ومستعمراتهم في الهند ،
فرسخ في عقول رجال السياسة البريطانية أن منع إنشاء الوباء خير من علاجه بعد
انتشاره ، وصمموا على إخراج عرابي باشا وأحزابه من الديار المصرية إما
بالحسنى وإما بالإكراه ، طمعًا في إطفاء نار الفتنة وتمزيق شمل العصبية الإسلامية
المتظاهرة بشعار الوطنية ، فلما أيسوا من إخراجهم بالحسنى عوّلوا على إذلالهم
بالأساطيل المدرعة ، والمدافع المثمنة ، والجنود البحرية والبرية ، وما انثنوا حتى
فتكوا بهم في ملحمة التل الكبير ، وكانت القاضية على عرابي باشا وأحزابه ، وقد
ثبت في عقول كثيرين أن إذلال عرابي وأنصاره قد أذل العصبية الإسلامية إذلالاً لا
عز بعده ما توالى الفرقدان.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
الوهق محرك ، ويسكن الحبل يرمى في أنشوطة ، فتؤخذ به الدابة والإنسان الجمع أوهاق.
(2)
كذا في الأصل المخطوط ، وهو مما تركه لنا الأستاذ الإمام ولكنه بغير خطه ولعلها اللكناهورية.
(3)
إن أمير مكة حسين بن علي وأولاده قد خيبوا آمال السيد جمال الدين فانخدعوا بالوعود الإنكليزية على قول الذين يحسنون الظن فيهم بغباوتهم ، والذين يدافعون عنهم ، ويرى آخرون أنهم خائنون لأمتهم لا مخدوعون فإنهم يطلبون الملك ولم تَسْمُ همهم إلى طلبه إلا من طريق الإنكليز ، فساعدوهم على أخذ البلاد العربية ليشتركوا معهم وتحت ظلهم في التمتع بحكمها.
(4)
المنار: الوجه أن يقال: يتساند بعضها بعض.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الوهابيون والحجاز
عود على بدء
المقالة الأولى [*]
مقدمة
كنا كتبنا بضع مقالات في هذه المسألة في أول العهد بزحف الإخوان؛ لإنقاذ
الحجاز من إرهاق الطاغوت حسين بن علي ، وما يرجى أن يتبع ذلك من إنقاذ
جزيرة العرب كلها من الاستعباد الأجنبي ، فكان لها من التأثير فوق ما قدرناه لها ،
حتى إن حقها دحض أباطيل الدعاية الحجازية القديمة في الطعن بدين أهل نجد منذ
قرن وثلث قرن ، باختلاق الشريف غالب أمير مكة في عهد ظهور الإصلاح الذي
قام به الشيخ محمد عبد الوهاب ، وأخرس ألسنة الدعاية الجديدة التي اختلقها
الشريف حسين الذي ادعى أنه ملك العرب وخليفة المسلمين.
ثم عرضت لنا شواغل كثيرة عاقتنا عن مواصلة الكتابة ، فيما فتح أمامنا من
أبواب المسائل الكثيرة في هذا الموضوع ، فنشطت في هذه الفترة الدعاية ، وبذل
في سبيلها المال بسخاء فوق المعتاد ، وتجرأت حكومة الشريف علي بن حسين
المحصورة في ميناء جدة ودعائها على ضروب من الكذب والبهتان لم يتجرأ على
مثلها حسين بن علي ودعاته ، حتى إنهم افتروا على كاتب هذا المقال وهو أول من
هتك أستارهم ، وتتبع عوارهم ، وقلم أظفارهم ، فزعموا أن حكومة جدة عثرت
على كتاب منا أرسلناه إلى السلطان عبد العزيز بن السعود ، آذناه فيه بانصراف
القلوب عنه ، وتصويب سهام الإنكار إليه ، وقد طال العهد على هذه الفرية ، ولم
نجد فرصة نكذبها فيها ونفضحهم بمطالبتهم بنشر صورة هذا الكتاب مأخوذة عن
خطنا ، وكثر إلحاح المطالبين لنا بالعودة إلى الكتابة لرد أمثال هذه المفتريات ،
وكشف ما يحوم حولها من الشبهات؛ لأن بعض المخلصين اغتروا بها ، وصدقوا
أن علي بن حسين ألف ملكًا جديدًا في الحجاز مخالفًا لوالده في سياسته ، وأن في
جدة حزبًا وطنيًّا مؤلفًا من زعماء الحجاز وأهل الرأي فيه ، وأنه هو الذي خلع
حسينًا ونصب عليًّا ، وأنه يتكلم باسم بدو الحجاز وحضره ، وأن سلطان نجد
ضعيف لا جند عنده ولا سلاح ، وأن ما أعده ملك جدة من آلات القتال الجنمية
العصرية كافٍ لتدويخه وسحق جيشها الضعيف ، وطرده من الحجاز والاستيلاء على
نجد كلها ، وأن إنقاذ الحجاز من هذه الأسرة الطاغية الباغية صار متعذرًا ، فأهون
الشّرين إذا إصلاح ذات البين ببقاء علي بن حسين ملكًا للحجاز بشروط منها: أن
لا يعود والده حسين بن علي إلى الحجاز ، إلى هذا الحد وصل تأثير أمثال هذه
الدعاوى الكاذبة التي سنبين الحق فيها.
كنا نقرأ تلك المفتريات في جريدة المقطم وبعض جرائد سورية فنضحك منها
ضحك السخرية متربصين بها تكذيب السيف لها ، وهو أصدق من اللسان والقلم ولا
يتمارى في قوله ولا في حكمه أحد ، على أننا جمعنا بعض الدلائل للرد عليها ،
ولكن قضى الله تعالى أن نضطر إلى استئناف الكتابة في وقت لا نملك فيه مراجعة
شيء مما جمعنا ، وهو وقت نقل كتبنا وأوراقنا ومطبعتنا ومطبوعاتها الكثيرة وأثاثنا
من دار إلى دار ، وقد بدأنا في الاستعداد لهذا في الشهر الماضي ، وسيشغلنا شهرًا
أو شهرين آخرين؛ لأننا لا نجد من يقوم مقامنا في الإشراف على ذلك ، ولكننا
سنجد ما نحتاج إليه من الأوراق المحفوظة في أقرب وقت.
بعد هذا التمهيد أقول: إن حسين بن علي وأولاده كانوا قد خدعوا السواد
الأعظم من عرب سورية والعراق وكثيرًا من غيرهم ، بما بثوه من دعاية المملكة
العربية والوحدة العربية والخلافة العربية ، حتى خيلوا إليهم أنهم سيعيدون إلى هذه
الأمة عصر هارون الرشيد ، ثم ظهر أن غاية سعيهم تحقيق أمنية الإنكليز القديمة ،
وهي إدخال جزيرة العرب وما اتصل بها من بلادهم في دائرة الإمبراطورية
البريطانية المرنة ، على أن تُسَوِّدَهُمْ فيها على قومهم وتسميهم ملوكًا وخلفاء ، ومع
هذا الخزي يرون كثيرًا من وجهاء البلاد العربية يعظمهم ويقول بزعامتهم إما
لغباوتهم وجهلهم ، وإما لأنهم يرضون مثلهم (أن تكون الأمة العربية كالقاصر في
حجر الدولة البريطانية) كما صرح به حسين بن علي رسميًّا في (مقررات نهضته)
التي هي أصول سياسته وسياسة أولاده ، دع الذين يوالونهم للانتفاع منهم.
لهذا أصبح أهل هذا البيت الحجازي يعتقدون أن الدعاية تؤسس الممالك ،
وتوطد دعائم الملك ، وتهزم الجيوش ، وتفعل كل شيء ، فكان اعتمادهم عليها
وعلى الدولة البريطانية في حماية الحجاز وعرش ملك العرب وخلافة الإسلام ،
فعادوا جميع أمراء جزيرة العرب والمستقلين المسلحين ولا سيما جارهم بالجنب
سلطان نجد ، وهو أقواهم وأشدهم بأسًا ، ولم يستعدوا لحماية عرشهم منه ولا من
غيره بالسلاح ، فأهملوا ما تركه الترك أو العثمانيون من الأسلحة الكثيرة الجيدة من
كل نوع ، واكتفى حسين بتأليف جند صغير يقصد به إظهار عظمة الملك في
الاحتفالات والمواسم ، واتكل على الدولة البريطانية ، والدعاية السياسية ، فلما
ضاق العالم الإسلامي عامة وعرب نجد خاصة بفساده في الحجاز ، وزحف جند
الإخوان الوهابيين لطرده وطرد أولاده منه ، استغاث الدولة البريطانية ، فلم تر من
مصلحتها إغضاب العالم الإسلامي الساخط عليه ، والاصطلاء بنار حرب جديدة في
جزيرة العرب لأجله ، فأعلنت الحياة ، فلم يبق له إلا قوة الدعاية الخاطئة الكاذبة ،
فشرع فيها ، فلم تغن عنه شيئًا ، واضطر إلى الخروج من الحجاز مذؤمًا مدحورًا ،
وخلف فيها ولي عهده الذي يفخر به ويقول: (لا فتى إلا علي) ، فكان أبرع منه
في هذه الدعاية ، على أن والده هو الذي ربى له رجالها ، واصطنع له صحفها ،
وهو الذي يفيض عليه المال للإنفاق في سبيلها ، وسنذكر أنواع هذه الدعاية الجديدة
مع بيان بطلانها في مقال آخر ، ونعجل بالنوع الوحيد الذي فيه شية من الحق ،
وشبهه من الصدق ، ولكنه حق أريد به باطل ، وصدق اتخذ ذريعة إلى الكذب
والتضليل ، وهو:
الاتفاق النجدي البريطاني
سمعت خبر هذا الاتفاق أو المعاهدة من الملك فيصل في الشام أول مرة ، وهو
الذي نشرها في بغداد في هذه المرة ، وأُرْسِلَتْ إلينا وإلى الجرائد الشهيرة ، وقد
صدقها الناس؛ لأن سلطان نجد لم يكذبها ، والغرض من نشرها إيهام العالم
الإسلامي الذي يؤيد ابن سعود في طرد حسين وأهل بيته من الحجاز ، أن مملكة
نجد نفسها غير مستقلة استقلالاً مطلقًا ، بل قيدت الحكومة البريطانية سلطانها بما
هو حماية ، وأن الحجاز هو المستقل وأنه إذا استولى عليه سلطان نجد يدخل تحت
حماية الإنجليز كنجد ، وقد أطالت الدعاية الحجازية في المسألة ، وأكثرت من
الإيهام ، وتناقلت سائر الجرائد نص الإنفاق ، كما أرسل من العراق ، وتألم منه
المسلمون ، فوجب أن نبين ما عندنا من رأي ورواية فيه على تقدير صحة نصه:
كان هَمُّ عبد العزيز ابن سعود بعد استرداد ما كان قد سلب من بلاد آبائه
وأجداده محصورًا في حفظ استقلالها بقوتها ، وبث دعوة التدين فيما جاورها من
قبائل العرب ، والقناعة بعيشة العزلة والتجافي عن السياسة الدولية وأهلها ، ولم
يكن له خصم في تلك البلاد إلا آل رشيد في شمر ، فهم الذين ألبوا على آل السعود
الدولة العثمانية حتى استولوا بمساعدتها على عاصمتهم (الرياض) ، وقضوا على
إمارتهم ، فلما انتزعها منهم السلطان عبد العزيز هذا بحزمه وعزمه ، رأى أنه
سيكون معه في نزاع دائم وقتال مستمر ، وأن قطرًا صغيرًا كنجد لا يصح أن يكون
فيه إمارتان تتوارثان الأحقاد والأضغان ، وتنتهز كل منهما الفرصة للقضاء على
الأخرى ، فدعا ابن الرشيد للاتفاق وتوحيد العلم (الراية) والحكم والتعاون على
حكم البلاد بصفة معقولة - كما نقل إلينا - فامتنع ، فلم ير بدًّا من إزالة إمارته ،
ففعل ، وقد اختار حصر منطقته على اقتحامها بالمناجزة وكان ذلك في أيام عسر
وغلاء فاحش ، وكانت مؤنة الجيش كلها ، بل مؤنة عامة بلاد نجد تأتيها من الهند ،
فكان هذا سببًا ملجئًا لابن سعود إلى الاتفاق مع الحكومة الإنكليزية ، كما قال بعض
أهل العلم والخبرة بالبلاد العربية.
وهنالك سبب آخر لا يقل عنه ألجأه إلى ما دُعِيَ إليه من الاتفاق بما رآه
أهون الشرين ، وهو أن الدولة العثمانية رأت بعد عقد الصلح مع الإمام يحيى أنها
كانت مخطئة في معادة حكومة نجد ، كما كانت مخطئة في معاداة أئمة اليمن ، وأن
الاتفاق ممكن وهو خير للدولة ، فعقدت مع إمام نجد وهو عبد العزيز ابن السعود
اتفاقًا آخر ، اعترفت له فيه بالاستقلال الوراثي في بلاد نجد كلها ، حتى ما كان بيد
الدولة منها كالحسا وثغور البلاد بشروط ليس هذا محل بيانها ، فلما وقعت الحرب
العامة ، واصطلت الدولة العثمانية ، خاف ابن السعود أن تحتل الدولة البريطانية
ثغور بلاد نجد وإقليم الأحساء ، إذ كانت تعدها من أملاك الدولة العثمانية ، فرضي
بأن يعقد معها اتفاق ، تعترف له فيه بأن هذه البلاد بلاده ، وأنه مستقل فيها ، وأن
ترضى منه في مقابلة ذلك بأمور سلبية ، كان يرى أنه لا يفقد بها شيئًا.
وجملة القول أن هذا الاتفاق قد عقد عقب إيذان دول الحلفاء الدولة العثمانية
بالحرب ، وكانت الدولة البريطانية قد دعت ابن السعود أمير نجد إلى قتال الدولة ،
كما دعت أمير مكة حسين بن علي وإمام اليمن والسيد الإدريسي أمير تهامة
وعسير ، وقد قلنا في المنار مرارًا إنه لم يوالها أحد منهم موالاة فعلية حربية إلا أمير
مكة ، وإن إمام اليمن وَالَى الدولة عليها ، وأعانها على قتالها ، وأما الإدريسي وابن
السعود فقد اتفقا معها اتفاقًا سلبيًّا ، ولم نكن قد اطلعنا على هذا الاتفاق ولكن أخبرنا
طالب بك النقيب أنه كان رسول الدولة البريطانية إلى أمير نجد ، وأن هذا الأمير
أبى أن يحارب دولة إسلامية انتصارًا لدولة غير مسلمة ، وأنه لم يكن يمكنه أن
يحارب الإنكليز انتصارًا للدولة العثمانية؛ لأنهم يمكنهم أن يقضوا على بلاده
بالحصر البحري ، فإن عامة أقوات أهل نجد من الهند ، فكانت المصلحة التي لا بد
منها أن يكون على الحياد.
نعم إننا نحن نظن الآن أنه كان في الإمكان أن ينال صاحب نجد ما لا غنى له
عنه من تموين بلاده والاعتراف باستقلاله فيها بدون أن يقيد نفسه بما ذكر في هذه
المعاهدة من القيود المنافية للاستقلال التام المطلق ، وإن كانت قيودًا سلبية ، وأنه لا
سبب لقبوله هذه القيود إلا عدم تمرسه بالسياسة الدولية ، وعدم قوته على ما كان
لدى أعداء الإنكليز من القوات الحربية التي ترتعد منها فرائص دول أوربة كلها ،
ولكننا لا نجزم بأننا لو كنا في مكانه في ذلك الوقت لكنا نعتقد هذا الاعتقاد نفسه ،
ونتجرأ على رفض تلك المواد التي ننكرها ، بعد ما علمنا من قوات الألمان
وأحلافهم ما لم يكن نعلمه في أول الحرب ، ولا بأن الإنكليز كانوا يرضون منه دون
هذه الشروط ليكتفوا شر مساعدته للدولة العثمانية.
هذا ما عندنا من أسباب هذه المعاهدة ، وأننا نتكلم في المقالة الآتية على كل
مادة من موادها التي نشرها الحجازيون ، نتكلم عليها من الجهة العامة ، ثم نبين أن
سلطان نجد نقضها منذ عزم على الخروج من عزلته السياسية والاجتماعية ،
وتصدى لزعامة النهضة العربية ، وثبت عنده ما يجب عليه شرعًا من إنقاذ
الحرمين الشريفين من الظلم والإلحاد ومنع النفوذ الأجنبي أن يتغلغل فيهما وفي
سياجهما من جزيرة العرب ، فمعاهدة سنة 1915 أمست قصاصة ورق لا قيمة لها
كما نبين ذلك فيما يأتي.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) نشرت في عدد الأهرام الذي صدر في 19 رجب 13 فبراير.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الوهابيون والحجاز
عود على بدء
المقالة الثانية [*]
بينا حقيقة الحال التي كان عليها صاحب نجد عند عقد المعاهدة ، التي نشرها
في هذه الأيام الملك فيصل؛ ليثبت بها أنه قد سبقه وسبق أباه وأخاه عبد الله في
جعل بلاده تحت حماية الإنكليز ، وقام أنصارهم يقولون في دعايتهم لهم: إنهم إذا
لم يكونوا خيرًا منه في هذا فهم مثله ، فما وجه تفضيله عليهم؟ ولماذا ينتصر له
العالم الإسلامي ، ويود جعل الحجاز تابعًا له من دونهم؟ فعلم بذلك بعض الفَرْق
الجلي بين عملهم في إضاعة أكثر البلاد العربية ، وعمله في وقاية ملكه من السقوط
بغزو الإنكليز له من الخارج ، وغزو ابن الرشيد له من الدخل ، في مقابلة
الاعتراف لهم بأمور سلبية ، يذهب بأثرها الزمان ، وسنبين هذا الفرق من سائر
وجوهه بعد إنجاز ما وعدنا به من بيان مضمون مواد هذه المعاهدة ، ومن الكلام
عليها من الجهة العامة ، فيعلم من لم يدرس هذه المسائل أن هذا البيت الحجازي لم
يعتبر بشيء من التجارب والرزايا التي نزلت بالأمة التي تصدى لزعامتها ، والتي
نزلت بجميع زعمائه هو أيضًا ، وأنه لا يزال يطمع في إضلال الأمة العربية
وجميع الشعوب الإسلامية ، وإيهامهما بالدعاية الكاذبة أن الذين سلّوا سيوفهم مع
الأجانب وقاتلوا معهم حتى مَلّوكهم بلاد العرب من حدود مصر إلى خليج فارس
خير للإسلام وللعرب ، ممن أسس لهما ملكًا جديدًا ليس لأجنبي ما أدنى نفوذ فيه ،
ثم أنقذ الحجاز من السيطرة الأجنبية ، والمظالم الطاغوتية؛ ليجعل الأمر فيه لأهله
وللمسلمين دون غيرهم ، وهاك مضمون مواد المعاهدة كما نشرتها جميع الجرائد
المشهورة.
1-
مضمون المادة الأولى اعتراف الحكومة البريطانية بأن نجدًا والحسا
والقطيف والجبيل وملحقاتها وثغورها (موانيها ومرافقها) على سواحل خليج العجم
كلها تابعة للأمير عبد العزيز بن السعود كما كانت لآبائه من قبل ، وأنه هو حاكمها
المستقل والرئيس المطلق على جميع قبائلها ، واعترافها أيضًا بأنها ستكون موروثة
لأولاده وأعقابه من بعده ، ولكنها قيدت هذا الاعتراف بأن يكون الأمير اللاحق
مختارًا من الأمير السابق (فيخرج من كان متغلبًا عليه) وأن لا يكون خصمًا معاديًّا
للحكومة البريطانية بمخالفتها لشروط هذه المعاهدة فقط.
نقول: إن هذه المادة نص في مصلحة ابن السعود ، فإن الدولة البريطانية
اعترفت له فيها بالاستقلال المطلق في هذه البلاد كلها ، وكان قريب العهد
بالاستيلاء عليها ، ولو قالت: إن ثغور نجد وبلاد الحسا كانت للدولة العثمانية ولي
الحق باحتلاله ماذا كان يفعل؟ وأما تقييد اعترافها باستقلال من بعده من أولاده
وأعقابه بقبولهم هذه المعاهدة فلا يضره ، فإن معاهدته لما كانت لا تلزم من يخلفه
اشترط الإنكليز فيه هذا الشرط ، ولا يجب على خلفه قبوله بنص هذه المعاهدة كما
يعلم من أصول القوانين الدولية ، فإذا كان الخلف في غنى عن الاعتراف بهذه
المعاهدة لم يعترف بها ، لا كما يزعم إجراء الدعاية الحجازية من أن هذا تقييد لمن
بعده بالإخلاص للإنكليز كما عبّر بعضهم (! !) .
2-
مضمون المادة الثانية أن الدولة البريطانية تلتزم أن تساعد ابن السعود
وذريته على أي دولة أجنبية تعتدي على بلادهم ، إذا كان هذا الاعتداء بدون علمها
ولا إعطائها الوقت الكافي لمراجعة سلطان البلاد ومذاكرته في إزالة الخلاف
المسبب للاعتداء ، وقيدت هذه المساعدة برأي ابن السعود ، وهذه المادة في
مصلحته ، ولا تخل باستقلاله أيضًا.
3-
مضمون المادة الثالثة أن ابن السعود يلتزم أن لا يعقد اتفاقًا ولا معاهدة مع
أي حكومة أو دولة أجنبية ، ويعد بعدم معارضة أحد في ذلك ، ويلتزم إعلام
الحكومة البريطانية بكل تجاوز أو تعدٍّ على شيء من بلاده التي ذكرت في هذه
المعاهدة.
هذه المادة منافية لمصلحة ابن السعود؛ لأنها قُيِّد للاستقلال ، وإنما سهل
قبلوها عليها - إن صح نصها - ما كان عليه من حياة العزلة وعدم نية الارتباط ،
والاتفاق مع أحد من الحكومات والدول ، ولما شعر بالحاجة إلى الاتفاق مع السيد
محمد علي الإدريسي نقض هذه المادة واتفق معه اتفاقًا كتابيًّا ، ثم فاوض الإمام
يحيى ، واتفق معه على أمور لم تنشر بعد ، فثبت بهذا أنه غير مقيد بما يراه مخالفًا
لمصلحته منها.
4-
مضمون المادة الرابعة أن ابن السعود يلتزم أن لا يبيع ولا يرهن ولا
يؤجر ولا يتخلى عن شيء من أراضي بلاده التي ذكرت في هذه المعاهدة ، ولا
يمنح امتياز لدولة أجنبية ، أو لأحد من رعايا دولة أجنبية بدون رضى الحكومة
البريطانية ، وبأن يتبع في ذلك نصائحها التي لا تضر بمصالحه.
هذه المادة منافعة لمصلحة ابن السعود من حيث هي مقيدة لاستقلاله فقط ،
وإنما سهل عليه قبلوها اعتقاده أنها من تحصيل الحاصل؛ لأنه لا ينوي أن يجعل
لأية دولة أجنبية حقًّا من حقوق الملك ، ولا الامتياز ولا غيره في بلاده ، وهذا عين
المصلحة له ولبلاده ، بشرط أن يشمل الدولة البريطانية ورعاياها كسائر دول
الإفرنج؛ لأنهم إذا دخلوا بلادًا ، وصار لهم حقوق فيها ، أذلوا أهلها ، وافتاتوا
عليهم ، وسلبوهم استقلالهم ، وقد نصح شيخ حكماء العصر الفليسوف الإنكليزي
هربرت سبنسر لليابانيين بأن لا يُدخلوا الإنكليز في بلادهم لمساعدتهم على تنظيمها
وعمرانها ، وعلل لهم ذلك بأنهم إذا دخلوا لا يخرجون ، وأرشدهم إلى الطريق
المثلى ، وهي أن يرسلوا من أبنائهم من يتعلمون ما يحتاجون إليه حيث يجدونه من
أوربة ، ليعودوا ، ويتولوا الإصلاح بأنفسهم ، وقد قبلوا نصيحته فأرسلوا إلى
الغرب من تعلموا ما يحتاجون إليه من فنون الحرب والعمران والثروة والصناعات
التي تتوقف عليها القوة والسيادة ، خلافًا لِمَا فعل مَن عَنُوا من الشرقيين باقتباس
عادات الإفرنج وأزيائهم وقوانينهم ، فكان ذلك سببًا لإضاعة استقلالهم (إياك أعني
واسمعي يا جارة) .
وقد كان فيما وضعناه مع أصدقائنا مؤسسي قواعد (الجامعة العربية) قبل
الحرب العامة أنه لا يجوز لأحد من أمراء جزيرة العرب أن يمنح دولة أجنبية شيئًا
من رقبة البلاد ولا منافعها ، ولا لأحد من رعاياها ، ولكن الدولة البريطانية أرادت
حصر هذه المنافع في رعاياها أو حكومتها؛ لأنه توطئة لاستعمار البلاد والسيادة
فيها ، بل هو الطريق المعبد له دون الحرب ، فلا يجوز لحكومة شرقية أن تبيحه
في بلادها طمعًا في الربح منه ، لا بعد أن تصير ذات قوة حربية تخولها أن تشترط
على الأجانب الذين يدخلون بلادها أن يكونوا فيها خاضعين لشرعها ونظمها ، نافذة
فيهم أحكامها ، وأن تشترط عليهم في عقد الامتياز أو الامتلاك من الشروط الواقية
للبلاد من تعدي دولهم ما هي قادرة على تنفيذه.
5-
هذا ما يتعلق بالاستقلال إطلاقًا وتقييدًا من مواد هذه المعاهدة والمادة
الخامسة منها خاصة ، بإبقاء الطرق الموصلة إلى البلاد المقدسة من نجد وملحقاتها
مفتوحة ، والمحافظة على الحجاج الذين يسلكونها ، وذكرها في هذه المعاهدة من
الرياء والفضول البريطانيين ، والمادة السادسة في التزام ابن سعود عدم الاعتداء
على حكومات جيرانه من عرب البحرين والكويت وقطر وعمان، والمشايخ الذين
تحت الحماية البريطانية.
وخلاصة القول في هذه المعاهدة: إنها كانت على علاتها في مصلحة ابن
السعود ، وأنه لا يوجد عاقل منصف يعرف ما كانت عليه حاله وحال بلاده عند
عقدها ، يقول: إن عدمها كان خيرًا منها ، وكل ما أمكننا انتقاده منها هو أن
الإنكليز ربما كانوا يرضون من ابن السعود بما دون هذه القيود كلها ، مع إقناعهم
بحسن نيته ، لو كان أشد في مساومته وألحن بحجته (إن نظن إلا ظنًا وما نحن
بمستيقنين) .
وأما الحال التي أشرنا إليها هنا فهي ما ذكرناه بالإيجاز من قبل ، وهي أنه
كان لآل سعود إمارة في نجد ، عظم شأنها الديني والدنيوي بالإصلاح الذي قام ودعا
إليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، فنهضوا به نهضة أشبهت نهضة العرب في
صدر الإسلام ، حتى توقع المؤرخون وأهل الرأي في الشرق والغرب بأن يعود بها
عهد الخلفاء والأولين قوة ومجدًا وإصلاحًا وحضارة ، فكان أول من ناصبها العداء
أمير مكة الشريف غالبًا ، وهو الذي أغرى بها الدولة العثمانية ، وافترى عليها
المطاعن الدينية ، وما زالت تناوئها وتقاتلها وتساعد ابن الرشيد عليها حتى استولى
على عاصمتها ولجأ أميرها الإمام عبد الرحمن الفيصل بأولاده إلى الكويت ، فأقاموا
ضيوفًا على شيخها ابن الصباح إلى أن نهض نجله عبد العزيز هذا نهضته التي تعد
من نوادر تاريخ الرجال ، فاستعاد الإمارة التي كانت لوالده ، ثم استرد ما كان بيد
الدولة العثمانية منها ، وكان من أمر دخول الدولة في الحرب الكبرى ما ذكرنا في
المقام الأولى ، فلو لم يعقد مع الإنكليز هذه المساعدة لزعموا أن هذه البلاد للدولة
العثمانية ، واحتلوا سواحلها ، وأعانوا ابن الرشيد وغيره على مناجزتها من الداخل
بل كان منهم من يغريه بابن السعود مع اتفاقه معهم كما ثبت هذا عنده! !
على أن هذه القيود المنتقدة من المعاهدة لا تجعل للإنكليز أدنى حق في التدخل
الفعلي في شؤون البلاد - ولا تعترف لهم بالسيادة ولا حماية عليها - كما اعترف لهم
الشريف حسين بحق الحماية والتدخل الفعلي- ومثل هذه المعاهدات تكون مؤقتة
بطبعها ، وقلما تتجاوز العاشرة من عمرها ، والعبرة بما يحصل بالفعل من ثمرة
عقدها في زمن اقتناع المتعاقدين بالحاجة إليها ، ثم يتبع كل منهما بعد ذلك الزمن
مصلحته ، والمدار في جميع الأمور السياسية على القوة وما يسمونه (الأمر الواقع)
فالذي استفاده الإنكليز من هذه المعاهدة بالفعل هو أن ابن السعود لم يقاتلهم مع
الدولة العثمانية ، والذي استفاده هو منهم:(1) اعترافهم له ولذريته بأنهم
أصحاب هذه البلاد وحكامها. (2) عدم الاستيلاء على شيء منها كما استولوا
على فلسطين وسورية والعراق ، فهو لولا اتقاء هياج العالم الإسلامي لاستولوا على
الحجاز. (3) تأمين معيشة بلاده في عسرة سني الحرب (4) تمكنه من
القضاء المبرم على إمارة ابن الرشيد التي كانت تتهدده في كل حين. (5)
قبض مئات الألوف من الجنيهات ، نظم بها قوة بلاده حتى صارت أعظم قوة في
بلاد العرب ، وقد نقض بعد ذلك ما رأى من مصلحته نقضه.
ولو أنه جعل للإنكليز أدنى تدخل فعلي في بلاده باتفاق كتابي أو شفوي لكان
أشد خطرًا عليها من ألف معاهدة تكتب ، ولا يعمل بها كما يعلم هذا باليقين من
تاريخهم ، ومسألة مصر والسودان أظهرها وأشهرها.
(فإن قيل) : إن هذه العاهدة قد تمكنهم من العبث باستقلاله والتدخل العملي
في شؤونه ، بحجة نقضه لبعض شروطها ، (قلنا) : إن هذه أمور تتبع المصلحة
وتراعى فيها القوة ، ومتى عزم القوي على شيء لا تعوزه الوسيلة ، وليس في هذه
المعاهدة نص على جواز العبث باحتلال البلاد النجدية أو التدخل في شؤونها
الداخلية ، إذا ترك سلطانها الوفاء بشيء مما التزمه فيها ، وإنما يمكن للإنكليز أن
يَحُولُوا دون تنفيذ أي نقض للمادة الرابعة ، لا يمنع ابن سعود وحده من إعطاء
امتياز لدولة أجنبية أو لبعض رعاياها في تلك البلاد ، بل يمنع أي دولة من الدول
نفسها أو رعاياها من الإقدام على التعاقد معه على ذلك ، وقد بينا أنه ليس من
مصلحة ابن السعود نقض هذه المادة ، ومن المعلوم من سياسة الإنكليز أنهم يقدمون
على حرب شعب حربي مسلح؛ لأجل فتح بلاده أو التمتع بالنفوذ فيها ، ولا سيما
مثل بلاد نجد في فقرها ، وعدم وجود مرافق الحياة وأسباب النقل فيها ، فهي بلاد
لا يعتدى عليها بالقوة العسكرية؛ لأن الخسارة في ذلك أعظم من الربح قطعًا ، وإنما
يخشى عليها من تمكن قوة الأجانب ونفوذهم فيما جاورها ، وهو ما يخدمهم البيت
الحسيني فيه.
هذا وإن جميع مواد هذه المعاهدة خاصة بالبلاد التي ذكرت فيها بالنص ، فلا
يدخل فيها ما استولى عليه ابن السعود بعدها، كبلاد عسير باتفاقه مع الإدريسي ،
فضلاً عن بلاد الحجاز ، كما أرجف أهل بيت حسين الحجازي وأجراء دعايته
الكاذبة الخادعة ، على أن ابن السعود قد قيد نفسه في مسألة الحجاز بمؤتمر إسلامي
يقرر شكل حكومة الحجاز ، فلم يدع ما يدعيه حسين وأولاده من أن الحجاز ملك لهم
يجب أن يكون رهن تصرفهم فيه مطلقًا ، لا رأي فيه لأحد من مسلمي العرب ولا
العجم [1] وسنبين في المقالة الثالثة وجوهًا أخرى من الفرق بين أهل هذا البيت
وبين ابن السعود دحضًا لدعاويهم ، وإبطالاً لدعايتهم.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) نشرت في عدد الأهرام الذي صدر في رجب (18 فبراير) .
(1)
قال الأمير عبد الله: إن لهم حقًّا أن يتعرفوا شؤون الحاج ، ويمنعوا من شاءوا منهم دخول الحجاز: أي لأجل الحج ، ونشر هذا بعض الجرائد عنه.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الوهابيون والحجاز
عود على بدء
المقالة الثالثة
ذكرنا في المقالة الأولى من هذه المقالات أننا استأنفنا الكتابة في هذا
الموضوع ، في وقت لا نملك فيه مراجعة شيء مما عندنا من المحفوظات المتعلقة
به ، وهو وقت نقل مكتبنا وما فيه إلى دار أخرى ، فكان اعتمادنا على ما نَذْكُر مما
سمعنا وقرأنا ، ومنه الكثير مما كتبه أجراء الدعاية الحجازية الحسينية العلوية في
المعاهدة البريطانية النجدية وغيرهم ، وأننا على اعتقاد أن أكثر ما يكتبونه مفتريات
وأباطيل وخداع وتضليل ، قد عَلِقَ في ذهننا بعضه ، فتوهمنا أن في هذه المعاهدة
نصوصًا في تقييد استقلال سلطان نجد فوق ما بيناه في المقالة الثانية التي كتبناها ،
بعد أن أتيح لنا الاطلاع على نصها الذي نشر في العراق ثم في سائر الأقطار
العربية ، إذ كان قد طال عهدنا بالاطلاع على ذلك الأصل ، وكان من هذا الوهم أن
من القيود السلبية التي قيد بها سلطان نجد ، أنه لا يستطيع أن يحارب بلاد موالية
للدولة البريطانية بدون إذنها ، إذا أكثر أنصار حسين وعلي من اللغط بأنه تحت
الحماية البريطانية ، وأنه لم يهاجم الحجاز إلا باتفاق مع الدولة الحامية له ، ولكننا
رأينا رجاله يهاجمون العراق وشرق الأردن أيضًا ، وتتصدى الطيارات البريطانية
للمهاجمين عليها من الوهابيين فتدفعهم عنهما؛ فلهذا ولما ذكرنا من اتفاق سلطان نجد
مع السيد محمد علي الإدريسي من قبل ومع الإمام يحيى من بعد ، ولما عرفه
القاصي والداني من اتفاقه مع نوري باشا الشعلان أمير قبائل الرولة ، على أن
يشغل هذا بقبائله (الجوف) بشرط أن يمنع الإنكليز من مد سكة حديدية بين
فلسطين والعراق تمر منه؛ لهذا كله قلنا: إن تلك المعاهدة أمست قصاصة ورق لا
قيمة لها.
وقد اتفق لنا عند الشروع في كتابة المقالة الثانية أن رأينا نص المعاهدة في
بعض الجرائد قبل أن يتيسر لنا مراجعة الأوراق ، فلم نر فيها شيئًا يمنع سلطان
نجد أن يكون غازيًّا ولا فاتحًا ، ولا أن يتصرف في بلاده بما يشاء كما يشاء ، إذا
لم يدخل فيها نفوذ دولة أجنبية ، وهذا قيد يمنعه مما يضره ولا ينفعه ، وأما منعه
إياه من عقد الاتفاقات مع الحكومات والدول ، فإذا كان يشمل الحكومات العربية
المجاورة له ، فقد نقض المعاهدة بمخالفته ، وإن كان لا يشملها فلا يضره هذا
الشرط الآن ، إذ ليس من مصلحة نجد أن تكون ذات علاقة بالدول الأجنبية ، ولا
هي مستعدة لذلك ، وللمستقبل حكمه واستعداده.
وإننا قبل أن نبين ما وعدنا به من المقابلة بين سلطان نجد وبين الشريف
حسين وأولاده ، نقول: إننا كنا ذكرنا في المقالة الأولى أننا سمعنا خبر المعاهدة
البريطانية النجدية أول مرة من الملك فيصل في الشام ، (وكان اجتماعنا به هنالك
سنة 1920) ، كما ذكرنا أننا سمعنا خبر اختيار ابن السعود عدم الدخول في الحرب
العامة في جانب الدولة العثمانية ولا في جانب الدولة البريطانية ، وذكرنا تعليله نقلاً
عن صديقنا السيد طالب بك النقيب ، ونتذكر أننا سمعنا منه أنه كان قد كلف
مخاطبته في هذه المسألة وأنه نصح له بما يليق به من حيث هو أمير مسلم وهو ما
فيه مصلحته ، وقد فهم المشار إليه أننا نعني بما قلناه: إنه كان هو الذي وسط بين
الإنكليز والأمير وابن السعود في عقد هذه المعاهدة ، فكتب في الجرائد تصحيحًا
للخبر هو أنه كان أخبرنا بأنه هو الذي توسط بين الأمير ابن السعود وبين الدولة
العثمانية في عقد الاتفاق الذي أشرنا إليه في المقالة الأولى ، وكان ذلك قبل الحرب
وأما المعاهدة المذكورة فقد عقدت بعد نفيه من العراق في أوائل الحرب ، وحدد لنا
الزمان والمكان اللذين أخبرنا فيهما بما ذكر ، وهو إنه كان على مائدة الإفطار بدارنا
في شهر رمضان من سنة 1916 ، وذكر بعض الذين كانوا معنا ليلتئذ ، وقد تذكرنا
ولكن هذا غير ذاك فنحن لم نقل ولم نقصد بعبارتنا الوجيزة المبهمة أن صديقنا
توسط في معاهدة سنة 1915 ، إذا صرحنا بأننا لم نسمع خبرها إلا من الملك
فيصل سنة 1920 ، وإنما العالق بذهننا أن الإنكليز لما أعلنوا الحرب مع حلفائهم
على الدولة العثمانية ، وشرعوا يغرون أمراء جزيرة العرب بأن يكونوا معهم عليها
كان نصيبهم من ابن السعود ما ذكرنا من الاتفاق السلبي ، ولم نكن نعلم أنه كان
بمقتضى معاهدة مكتوبة وقد ذكرنا هذا مرارًا في المنار وغيره؛ أي الاتفاق السلبي
فإن كنا واهمين في سماع هذا الخبر من صديقنا (طالب بك) ، وأنه كان كلف
مخاطبة ابن سعود فنصح له ، فإننا نسغفر الله تعالى ، ولا نرى عليه غضاضة فيه
فنستغفره هو ، وإنما نعد ذلك من حسناته.
أما بعد فهذا أوجز ما يقال: في مسألة المعاهدة البريطانية النجدية على فرض
صحتها ، وكون هذا الذي نشره الحجازيون هو نصها ، ليس فيه تحريف ولا تزوير
مما اعتادوه حتى في الرسميات ، كما حرفوا نص ما كتبته جمعية الخلافة في الهند
لملك جدة الشريف علي تحريفًا يغير المعنى ، وإن زعم نصيرهم المقطم أنه لا فرق
بين الأصل الذي كتبه إليه رئيس وفد الخلافة وبين تحريف الكتاب الأحمر
الحجازي في المعنى ، كأن المقطم يرى أن إذا الشرطية بمعنى ما المصدرية ،
وسيأتي بيان هذا في مقال آخر.
والأمر الواقع الذي لا يحتمل التحريف ولا التأويل أن السلطان ابن السعود
سلطان مستقل في بلاد نجد وملحقاتها ، ليس في بلاده أجنبي مسيطر ولا غير
مسيطر عليه أو له نفوذ ما في بلاده - وأنه يغزو ويضم بلادًا إلى بلاده ، ويعقد
المعاهدات بينه وبين من يتفق معه من الحكومات المجاورة له بدون أدنى تدخل من
الإنكليز وغيرهم - وأن رجاله قد غزوا بعض قبائل العراق وشرق الأردن ، التي
هي بمقتضى سياسة أمراء أو ملوك البيت الحسيني تحت سلطان الإنكليز بالفعل ،
وقاومهم هؤلاء بطياراتهم ، وأخيرًا هاجم الحجاز ، وطرد منه رئيس هذا البيت
الذي سمي ملك العرب وخليفة المسلمين ، واحتل عاصمته ، وحصر ولي عهده
الذي ادعى الملك في أحَدِ ثغوره ، وقد ظهر للقاصي والداني كراهة الإنكليز لهذا
الأمر وما قبله ، وعلموا أنهم أرسلوا إليه من يفاوضه فيه بصفة غير رسمية ، فأبى
أن يقابله وأن يكلمه في ذلك فعاد خائبًا.
هذا هو الحق الواقع الذي لا تستطيع حكومات البيت الحسيني البريطانية ولا
دعاتها ومقطمها أن يحرفوه ، ولا أن ينقضوا منه شيئًا ، ولا أن ينكروا أن نجدًا
كانت إمارة صغيرة ، قد تقلص ظل أمرائها آل سعود عنها ، فأعاده السلطان عبد
العزيز بن عبد الرحمن الفيصل هذا ، ووسع الإمارة ، فصارت سلطنة ، شهد أهل
المعرفة من الشرقيين والأوربيين أنها أعظم قوة في بلاد العرب.
فماذا فعل البيت الحسيني الحجازي؟
سنحت للشريف حسين فرصة لتأليف قوة عربية بوحدة حلفية تحت رياسته ،
كانت تكون هي الوسيلة الوحيدة لتأليف مملكة قوية مستقلة ، فلم يعقل ذلك ولا
رضي به ، وفاوضه الإنكليز في موالاته لهم ، وإثارة العرب على الدولة العثمانية ،
فلو اشترط في القبول اعترافهم واعتراف أحلافهم باستقلال البلاد العربية بنص
رسمي لأمكن قولهم ، ولكنه استبد بالأمر ، وعرض عليهم من تلقاء نفسه تلك المواد
التي سماها (مقررات النهضة) التي صرح فيها بأن الأمة العربية بمنزلة القاصر
في حجر الدولة البريطانية ، وأن هذه الدولة هي التي تؤسس له مملكة عربية
وصفها بكلمة مستقلة ، وبأن على الدولة البريطانية أن تكون حامية لها من الداخل
والخارج حتى من الفتن الداخلية والثورات المحلية ، وأن تختار لها العمال
والموظفين ، وأن الدولة البريطانية تحتل البصرة من ولايات العراق؛ لأجل تأمين
حماية البلاد العربية ، إلى أن يصير للدولة العربية في ظلها من القوة ما يكفي
لحماية نفسها بقوتها ، ثم اعترف لها بحقوق خاصة في جميع العراق ، وبتأجيل
البت في مسألة سورية الشمالية لما تدعيه فرنسة من الحقوق فيها إلخ.
كانت هذه المقررات سرًّا مكتومًا فأفشاه الأمير فيصل ، ونشره في جريدة
المفيد بدمشق الشام ، ثم قرأنا في جريدة الملك حسين التي سماها القبلة أنه قد كتب
إلى الدولة الإنكليزية مرارًا بالاستقالة من ملك الحجاز ، وأن يعينوا فيه ملكًا غيره! !
هذا شأن الحجاز الذي تفتخر الدعاية الحجازية بأن حسينًا جعله مستقلاً بالفعل
وما جعله مستقلاً إلا مكانته الدينية ، التي منعت الإنكليز من تنفيذ ما اقترحه حسين
في قرارات نهضته من حمايتهم له من الداخل والخارج.
وأما فيصل فخدع أهل سورية خداعًا فوق خداع والده ، الذي نومهم تنويمًا
كانوا يحلمون فيه بالمملكة العربية المستقلة ، خدعهم بتلك الخطب التي كانت تهدر
بها شقاشقه بكفالة الاستقلال التام الناجز لسورية ، وبأنه هو ابن محمد صلى الله
عليه وسلم ، ويتبرأ منه إن كان يرضى لسورية بما عدا الاستقلال المطلق من قيود
الوصاية والحماية وغيرها - وقد رضي فبرئ - فلما جاءت لجنة الاستفتاء
الأميركانية إلى سورية للوقوف على رأي أهلها ، أمره سادته الإنكليز بأن يحمل
الأهالي على طلب الوصاية البريطانية ، ففعل ، ولكنه لم يطع وصرح بأنه غير
سياسته فجأة؛ لأنه علم علمًا قطعيًّا بأن الوصاية لا بد منها ، وأن طلب الاستقلال
التام المطلق يفضي إلى جعل الوصاية لفرنسة ، فهو إذًا خيانة للوطن أو هو الخيانة
العظمى (!) .
ثم ذهب إلى إنكلترا فأمرته حكومتها بأن يتفق مع مسيو كلمنصو الرئيس
الفرنسي على قبول انتداب فرنسا لسورية ، وإقناع السوريين بذلك ، فأطاع ، وعاد
إلى سورية؛ لإقناع زعمائها بذلك ، فأعجزه الإقناع ، وأعلنت البلاد استقلالها ،
وجعلته ملكًا عليها ليرجع عن هذا الرأي ، ويكون لها على الأجنبي دون العكس ،
فرجع في الظاهر دون الباطن ، ولما أرسل إليه الجنرال غورو إنذاره المعروف في
يونيو سنة 1920 ، حاول أن يخدع المؤتمر السوري؛ ليفوض الأمر إليه ، فعجز ،
فحل عقد المؤتمر ، وقبل الإنذار الفاضح ، وحل الجيش المدافع ، وخرج من دمشق ،
فأقام في ضواحيها إلى أن احتلها الجيش الفرنسي ، فلما تم الاحتلال عاد إليها
ليكون في ظل الانتداب الفرنسي ملكًا عليها.
وبعد طرده منها عاد إلى أولياء أمره الإنكليز الذين سل سيفه تحت قيادتهم ،
وساعدهم على فتح القدس الشريف والشام ، وأخذ ثأر القرون الطويلة من العرب
والإسلام ، شاكيًا لهم ما أصابه ، معلنًا لهم ثباته على إخلاصه لهم ، فأرسلوه إلى
العراق ، وجعلوه ملكًا عليه ، فجاهد ولا يزال يجاهد في سبيل توطيد نفوذهم فيه
بالاسم الذي يريدونه.
وأما عبد الله فقد جاء شرق الأردن بعد فرار أخيه من سورية ، في أثر
مكاتبات بين بعض أحرار السوريين الذين لجؤا إليها وبين والده ، وكانت هي
المنطقة الحرة التي لم تدخل في الانتداب لا لفلسطين ولا لسورية ، وكان لأولئك
الوطنيين الأحرار من الآمال فيها وفي الملك حسين وفي الأمير عبد الله ما كنت في
حيرة منه ، ولم أجد له تأويلاً - بعد أن علموا من كذب هذه الأسرة وخداعها ما لا
يمكن تأويله - إلا تعلق الغريق بحبال الهواء (كما يقال في تلك البلاد) فما زال
الأمير عبد الله يجاهد في هؤلاء الأحرار ، ويسرف في أموال المنطقة ، ويحكم فيها
عبيده ، ويتزلف إلى الإنكليز والصهيونيين ، حتى وضع المنطقة في دائرة الانتداب
الفلسطيني ، وأوصل نفوذ الإنكليز واليهود إلى حدود الحجاز بإذن والده (المنقذ
الأعظم) ورضاه ، وهو أَحَبُّ أولاده إليه.
وأما علي ولي عهد والده ، وهو الذي كان يظن أنه خيرهم إن كان فيهم خير
فهو (يمثل الآن شر دور من أدوار القضية العربية) كما يقال في التعبير العصري ،
فإن الداء الذي جعل أباه وأخويه نكبة على العرب والإسلام متمكن منه كتمكنه
منهم أو أشد ، وفيه جميع مساويهم إلا خزوانة الجبروت فلم يحك لنا عنه منها شيء؛
لأنه ضعيف الإرادة [1] .
أما الداء الذي نعنيه فهو الافتتان بلقب الملك ومظاهر عظمته ، ولو في ظل
دولة أجنبية ، بل هو متواطئ معهم على أن يكونوا كلهم ملوكًا في حماية الدولة
البريطانية ، وقد أخبرني رئيس الوفد الهندي أنه ثبت عندهم في جدة أنه عرض
على المعتمد البريطاني فيها أن يكون الحجاز تحت الحماية البريطانية رسميًّا
ليصدوا سلطان نجد عنه ، وكلفه أن يكتب إلى دولته بذلك ، فأجابه: بأن دولته
قررت الحياد رسميًّا فلا تعدل عنه ، فكان هذا مصداقًا للروايات الكثيرة المختلفة
المصادر في ذلك وأن كذبها دعاة سياستهم في مقطمهم وغيره ، ونبين هذا في مقال
آخر.
وأما المساوي المرادة هنا فهي الجهل والاستبداد ، والخداع والكذب ، والأثرة
والغرور بالنسب باعتقاد أنهم أولى الناس بالسيادة على العرب ، وأحقهم بالملك
والخلافة بنسبهم الذي يشاركهم فيه ألوف لا تحصى ، كثير منهم يفضلونهم كل ما
يتوقف عليه الملك من علم وخلق وعمل.
فعلي هذا متواطئ مع أبيه على ادعاء خلعه ، وإخراجه من الحجاز ، وكون
أهل الحجاز بايعوه على أن يكون ملكًا دستوريًّا على الحجاز وحده - وكونه يعترف
لكل إمارة في جزيرة العرب باستقلالها إذا اعترفوا باستقلاله في الحجاز - وهذا كله
كذب وخداع ، وكذا وجود حزب وطني حجازي ينطق بلسان أهل الحجاز ، ويعبر
عن رغابتهم ، وقد كنا نرتاب في كل خبر من هذه الأخبار عند نشرهم إياه ، ثم
تأتينا الأنباء الصادقة باليقين الموافق لرأينا ، ومن المؤسفات أننا كنا في شواغل
حالت دون بيان رأينا في الجرائد ، على أننا كنا نذكره لكل من نتكلم معهم في هذه
الشؤون ، وذكرنا بعضه في الخطاب العام الذي ننشره في هذه الأيام في المنار.
وقد كانت أخبار الوفد الهندي الصادقة آخر ما جاءنا من الحقائق الموافقة
لرأينا ، ومنها أن عليًّا لا يزال يخاطب والده بألقاب الملك والخلافة وإمارة المؤمنين
وأن الحزب الوطني مؤلف هنالك من محمد الطويل وطاهر الدباغ من أركان
حكومة علي ، ولم يبق ممن كانوا خدعوا به ، ودخلوا فيه من الحجازيين أحد ،
والذي نعلمه نحن أن الأول تركي الأصل والثاني مغربي - ولهما مندوبان بمصر
هما: حسين الصبان الذي كان مدير جريدة القبلة وعبد الرؤف الصبان وهما اللذان
ينشران الدعاية باسمه- ومما قاله رئيس الوفد وأعضاؤه وهو معروف عندنا وعند
المختبرين أنه ليس في حكومة علي في جدة نفوذ لأحد من أهل الحجاز ، فإن
الجند وضباطه سوريون ، وكذا جُلُّ رجال الحكومة على قلتهم.
ومن غريب أحداث الزمان أن أهل هذا البيت الحسيني يبغضون السوريين
أشد البغض وأن السوريين كانوا أشد أنصارهم في الحجاز وسورية وشرق الأردن،
وهم الذين سموا كبيرهم خليفة المسلمين وأمير المؤمنين المرة بعد المرة، ولكن لما
كان كل ذلك في كل وقت مبنيًّا على أساس مُنافٍ للحق ولمصلحة العرب ولشريعة
الإسلام لم تكن عاقبته إلا الخيبة والخذلان.
وجملة القول أن علي بن حسين قد حصن ثغر جدة بمال أبيه ومساعدة أخيه
وبما استأجر له من الجند من شرق الأردن وسائر فلسطين وسورية ، وبما ابتاع به
من السلاح والذخائر وعدد القتال من أوربة ، وسمى نفسه ملك الحجاز ، وقد
عرّض بلاد الحجاز بهذا للحرب والجوع ، وهو مستعد لمنع الحج إذا عجز
الوهابيون عن الاستيلاء على جدة قبل الموسم ، بل هو يستحل إهلاك الحجاز وأهله
والعرب والعجم لإستعادة ملك الحجاز له والخلافة لوالده ، فالخلاف بين علي بن
حسين وحسين بن علي من جهة والسلطان ابن السعود من جهة أخرى قائم على هذه
المسألة ، وهي أنه هو يريد إنقاذ الحجاز من أهل هذا البيت الظالم وأهله ، وجعل
أمره لأهل العقل والبصيرة من أهله ومن سائر العالم الإسلامي ، وهما يريدان أن
يكون ملكًا لهما يتصرفان فيه وفيمن يرد إليه من مسلمي العالم كله ، كما يشاء
كبيرهم الذي ثبت بالتواتر العام ظلمه وإلحاده في الحرم ، وسوء إدارته ثم من يرثه
منهم.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
بلغنا بعد نشر هذه المقالة في الأهرام صحة ما كان أشيع من أن الشريف حسينًا وولديه عبد الله وعليًّا أمضوا للإنكليز ضم معان والعقبة إلى شرق الأردن ، وهما من أرض الحجاز لئلا يأخذها سلطان نجد ، فهل يوجد مسلم صحيح الإسلام ، أو عربي غير خائن لأمته يشك بعد علمه بهذا في خيانتهم لدينهم وأمتهم؟ ؟ .