الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
فاتحة المجلد الخامس والعشرين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الواحد القهار، العزيز الجبار، الرحيم الغفار، مقدر الآجال
والأعمار، {وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} (الرعد: 8) ، المحيط علمه بالجهات
والأقطار، النافذة مشيئته في البراري والبحار، البارزة حكمته في القرى والأمصار،
المطَّردة سنته في الأبرار والفجار، الفائضة نعمته على المؤمنين والكفار
{وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (إبراهيم: 34) .
والصلاة والسلام على المصلح الأعظم، والرسول الأعز الأكرم، سيد العرب
والعجم، محمد النبي الأمي معلم الكتاب والحكم، المبعوث رحمة لجميع الأمم،
وعلى آله الأطهار، وأصحابه المصطفين الأخيار، وعلى من اتبع هديهم من
المقربين والأبرار، وإنما الخزي والخسار، واللعنة وعذاب النار، على زمر
الأشرار، الذين آثروا الشهوات الحيوانية، والعصبيات الجنسية والوطنية، على
هذه الهداية الإلهية، المكملة للفطرة الإنسانية، والموحدة لسلائل الأسرة الآدمية،
غرورًا باللذات المادية، وجهلاً بالحياة الروحية {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا
بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (ص:
27 -
28) .
أما بعد فإنَّ المنار قد أوفى بفضل الله ونعمته على الخامسة والعشرين، فإن
كان ما توفاها في عدد المجلدات؛ فقد زاد عليها في عدد السنين، وكان حق هذه السنة
أن تكون السابعة والعشرين، لولا ما كان من إدغام بعض السنين في بعض، بما
كان من لأواء الحرب، وما تلا سنيها الأربع، فكان ألذع وأوجع، ناهيك بما
أعقبته من فساد الأخلاق، وضيق الأرزاق، والإعراض عن العلم والأدب، ورواج
اللهو واللعب، وكساد المجلات والكتب، على ما سبق ذلك من جور السلطان،
وكلب الزمان، وعدم الأعوان، وضعف الوفاء، والتهاون في الاقتضاء على قلة
المال، وكثرة العيال.
هذا وإنَّ الخامسة والعشرين هي السن التي تكمل بها بنية الإنسان، وتتم قوى
الأبدان، ولكن لم يكد يبلغ المنار سن الشباب، إلا وكان منشئه قد شاخ وشاب،
ونحمد الله أن كان وقع الشوائب الذي شيب الرأس، لم يشيب العزم والبأس، ولم
يشُب الهمة بشائبة من اليأس، على أن أسبابه من جهة الناس أكثر، وبما يوسوس
به الخناس أكبر، وإنما الإيمان واليأس ضدان لا يجتمعان، والتجارب والوهن
خصمان لا يتفقان، فقد ثبت المنار على دعوته، التي وضعناها له في أول نشأته،
فكلما وسوس إليَّ شيطان اليأس: ألم تر إلى سوء حال المسلمين، وتسللهم أفرادًا
وجماعاتٍ من هداية الدين، وجمود علمائهم، وخمود زعمائهم، وفساد أمرائهم،
وشح أغنيائهم، وضعف صلحائهم، وغباوة دهمائهم، وموت هممهم، وتفرق
جماعاتهم، وتعدد جنسياتهم، وعدم الرجاء في صلاح أمرهم، وشد أزرهم ،
صاحت به آياتُ القرآن، وما يشهد لها من عبر الزمان، وتكاثر الإخوان، فنكص
على عقبيه، وخنس يضرب أصدريه،
ما اعتنَّ لي يأس يناجي همتي
…
إلا تحداه رجاء فاكتمي
وقد تذكرت الآن أن أجعل ذكرى الإصلاح في هذه الفاتحة شيئًا من شعري في
أوائل عهد الرشد، وشعوري عند الاستواء وبلوغ الأشد، وأحمد الله تعالى أنني
شببتُ على حب الإصلاح والتفكر فيه، وشِبْتُ على الدعوة إلى مناهجه ومناحيه،
وذلك قولي في (المقصورة الرشيدية) التي عارضت بها (المقصورة الدريدية) :
كم ليلة أبيتها مفكرًا
…
يفي ليَ السهد ويُخلف الكرى
أطوي جناحيَّ على جمر اللظى
…
أرضك [1] عينيَّ على الماء الرِّوى
خلتهما ركيَّتين [2] كلما
…
نزحت هذا الماء فاض وطغى
وكل جفن ماتحًا فكلما أهوى بشبه الغمض يملأ الدلا [3]
تلك ليالٍ خنت عهد الصبر في
…
حِندسها وكنت أوفى من وفى
إذ خانني العزم الذي بلوته
…
في مبهم الخطب فما قط نبا
لو أنما أبكي لمحبوب جفا
…
أو مالٍ اغتيل وذي قربى قضى
وأعوز الصبر فقيل جازع
…
أشبه ربات الحجال في البكا
لراعني القول بصدقه وقد يقصد من يصدق إن قيل رمى [4]
لكنما أبكي لمجد أمة
…
ثلت عروشه [5] وحُلَّت العرى
ووطن ذل فأمسى حوضه
…
(مد عثر الأعضاد مهدوم الحبى)[6]
وملة حكيمة رحيمة
…
قد تركت للجهل كالشيء اللقى [7]
وقال فيها الأخسرون إنها علة هذا الانحطاط والشقا
فكيف كانت علة السعادة الـ
…
ـتي مضت لنا وذاك الارتقا
(بها) أصبنا الملك والحكمة والـ
…
ـعلم (بها) فما عدا مما بدا [8]
ألم توحد أممًا تفرقت واختلفت في الاعتقاد واللغى
فكيف عدتم وأنتم أخوة
…
لما تركتم هديها من العدى
أما بدت في أمة أمية
…
فجعلتهمو
…
أئمة الورى
في كل علم للعقول يقتنى
…
وعمل في الكائنات يقتفى
فكيف صرتم بترك هديها
…
أجهل مَنْ دَبَّ عليها ومشى
ألم يكن أسلافكم بعدلها
…
قد فتحوا الأمصار قبل والقرى
وعمروها فغدت بفضلهم
…
تفضل في الوجود كل ما عدا [9]
زراعة صناعة تجارة
…
علما وحكمة وعدلاً وعُلى
فلم أضعتم جُلَّ ما تَأثَّلوا
…
وأصبح الباقي لكم على شفا
شريعة القرآن دانٍ وِردُها الـ
…
ـعذب وتهلِكون من فرط الصدى
فإن أباها الحاكمون عن عمى
…
وصد عنها الجامدون عن هوى
فربما أيدها على هدى
…
كل صحيح الفكر من أولي النهى
وإنْ يكن قد عقها أبناؤها
…
وعاد مَنْ كان صديقًا في العدى
فارجعْ إلى تاريخ خيرِ أمةٍ
…
قد أُخرجتْ للناسِ وابعث الأسُى
يريك عصر الراشدين المثل ال
…
أعلى لِكُنْهِ العدل زانه الهدى
والمجد والزينة والقوة في الد
…
ين جوى قصرُ الرشيد ووعى
وجنة الزهراء [10] في أندلس
…
حيث الإمام الحكم العدل ثوى
والجمع ما بين علوم النقل والـ
…
ـعقل إلى المأمون عهده انتهى
أحيا ببغداد فنونًا درست
…
إذْ كان عمران ذويها قد عفا
والجامعُ الأعظم في قرطبةٍ
…
جامعة العلوم في ذاك الرجا [11]
أفاض نور شمسها فى أفق
…
طال عليه ليل جهل قد غسا [12]
كان يعادي الدين فيه العلم بل
…
يسوم أهله العذاب والأذى
فكم عليم صَلِيَ النار وكم
…
متهم بالعلم تفريه المدى [13]
واذكر على ذكر العلوم تونسًا
…
ومصر والشام (وسُرَّ مَنْ رَأَى)[14]
وكل قطر ساسه خلائف الْـ
…
ـعُرْب بما أوحاه شرع المصطفى
هم الذين عَمرُوا الأرض وبالـ
…
عدل مع الرحمة قد ساسوا الورى
فعالَم الشمال منهم قبس النـ
…
ور وعنهمُ العلوم قد روى
وسار كلُّ فاتحٍ مُستعمرٍ
…
وراءهم فلم يقف دون المدى
ولو أقاموه [15] ولم يبتدعوا
…
لدام ملكهم وأصلح الدُّنى
ولسرعان ما أمية أبتْ
…
إمامةَ الرشد فأنزت من نزا [16]
وجعلوها دولة موروثة
…
وعرضة لغصب أرباب القوى
فعاث فيها العجم مُذْ تفرقت
…
فيها قريش فغدت أيدي سبا [17]
وانقطع النظام جامعًا بهم
…
فانتثر العقد وشقت العصا
فبعث الله على بلادهم
…
من استذل واستباح ولحا [18]
الترك والتتار في الشرق وفي
…
أندلس أبيد من ثم ثوى [19]
وصدق الرسول في إنذارهم
…
وإن تمارى فيه قوم وامترى
واعتز بالإسلام بَعْدُ من عثا
…
فورث الأرض به إذ اعتزى
وامتد ملك
…
آل عثمان به
…
ثم تزوى آرزا حيث أتى [20]
ألا ترى أوطانهم تنقص من أطرافها ألا ترى ألا ترى
ما السأُوُ إلا برجاله فإِنْ
…
عزوا وإلا ساء حالاً وكصا [21]
فكيف حال وطن أبناؤه
…
ما فتؤوا أعق من ضب الكدى [22]
قد عضد العاضد منهم دوحه
…
وخضد الشوكة والعود التحى [23]
وغادر الأرض به موظوبة
…
وغمره الفرات ضحضاحًا جَوَى [24]
وُلِّيَ أمرَهُ إمامٌ جائرٌ
…
قد استبد بالأمور واعتدى [25]
إذ استخف قومه فأصبحوا
…
أطوعَ من ظل الحذاء يحتذى
يليه في الظلم ولاة أبصروا
…
بروقه ترجى لِرَيٍّ وَحَيَا
وسمعوا رعوده تنذر من
…
خالف أمره صواعق الردى
فآثروا ما عنده حتى على الأ
…
وطان والرحمن جلا وعلا
وجعلوا مال العباد دولة
…
فذالت الدولة منهم للعدى
من نال منهم حاجة لكرشه
…
وفرشه قال على الدنيا العفا
يريك عزة الأمين فإذا
…
لاح له المال استكان وضغا [26]
والوطن الذي امتروا أخلافه
…
أوشك أن يقضي وربما قضى [27]
وكيف لا يُسحته الله وهم
…
السُّحت أكَّالُون فيه والرُّشا [28]
قد بشمت بطونهم فأصبحوا
…
يشكون سوء الهضم منها والطَّسى [29]
ومشبعوها يشتكون سغبًا
…
قد أكلوا العلهز من طول الطوى [30]
فأصبحوا في شظف وضعة
…
ألانت القنا وأضوت البنى [31]
وعالم مبتدع منافق
…
لقد أضل قومه وما هدى
لا يأمر الحكام بالعرف ولا
…
ينهى عن المنكر فيهم فشا
وليس يوصي الناس بالحق ولا الصبر
…
سوى على المكوس والأذى
ومرشد غير رشيد دأبه
…
عزو الخرافات لأرباب الولا
والرجم بالغيوب مسندًا إلى
…
أضغاث أحلامٍ ومكذوب رؤى
أولئكم سادتنا الذين قد
…
أضلوا السبيل كل من قفا
فنسأله تعالى أن ينقذ هذه الأمة من إغواء هؤلاء الرؤساء الضالين، ويعيد
إليها سلطانها بعز الدنيا وهداية الدين، ويجعلنا فيها من الهداة المهتدين، آمين.
…
...
…
...
…
... محمد رشيد رضا الحسيني الحسني
_________
(1)
يقال أرضك فلان عينيه إذا أغمضهما وفتحهما المرة بعد المرة.
(2)
مثنى ركية بوزن قضية وهي البئر.
(3)
الماتح: المستسقي يخرج الدلو من البئر، والدلاء جميع دلو قصر لضرورة الوزن.
(4)
يُقصد بضم الياء: يصيب المرمى.
(5)
أي عروش المجد.
(6)
المدعثر المهدوم اسم مفعول، والأعضاد ما حول شفير البئر من البناء كالصفائح وغيرها، ومثله مهدوم الحبى وهي جمع حبوة ما يحيط بالبئر من البناء كالثوب الذي يحتبي به الإنسان، والشطر لابن دريد.
(7)
اللقى بالفتح ما يلقى ويطرح لهوانه وعدم الحاجة إليه.
(8)
بها الثانية توكيد للأولى التي تفيد الحصر بتقديمها على الفعل وجملة (فما عدا فما بدا) من كلام علي عليه السلام ومعناها هنا: فما الذي صرف هذه الملة عن مثل ما كان لها من التأثير مما بدا وظهر بعد ذلك؟ وهو رد على زعم متفرنجة العصر المرتدين أن الإسلام عائق عن العمران والعزة والقوة والثروة.
(9)
أي: ما عداها.
(10)
معطوف على قصر الرشيد.
(11)
الجانب وهو الأندلس.
(12)
أظلم.
(13)
البيتان إشارة لما كانت أنشأته الحكومة البابوية في أسبانية من المحكمة المعروفة بمحكمة التفتيش للعقاب على الاشتغال بالعلوم العقلية والكونية بالقتل والإحراق بالنار.
(14)
هي (سامراء) مدينة المعتصم العباسي.
(15)
الضمير لشرع المصطفى.
(16)
أي: ولكن ما كان أسرع بني أمية إلى إزالة خلافة الراشدين الشوروية فوثبوا على اغتصابها ، وأنزوا عليها غلمانهم الفساق والنزوان الوثبان إلى فوق ، وفيه إشارة إلى رؤيا أحد أئمة أهل البيت ، أنه رآهم ينزون على منبر جده عليه وعليهم السلام.
(17)
أي: تفرقوا تفرقًا لا اجتماع بعده كأهل سبأ من قدماء اليمن وأيديهم قواتهم.
(18)
أي: من استذل خلفاءهم وكبراءهم، واستباح أموالهم وأعراضهم، وخرب عمرانهم ، يقال: لحا الشجرة لحوًا ولحيًا، والتحاها إذا أزال قشرتَهَا ، ويستعار لأشد الإرهاق والتخريب، وفيه إشارة إلى حديث:(يا معشر قريش أنتم أهل هذا الأمر ما لم تحدثوا فإذا غيرتم بعث الله عليكم من يلحاكم كما يلحى القضيب) رواه أحمد وأبو يعلى بسند رجاله ثقات وفي آخر: (فإذا فعلتم ذلك سلط الله عليكم شرار خلقه فالتحوكم كما يلتحى القضيب) وحديث: (إِنَّ أَوَّلَ من يسلب أمتي ملكهم وما خولهم الله بنو قنطوراء) وأورده الحافظ في الفتح بلفظ: (أن بني قنطوراء أول من يسلب أمتي ملكهم) قال: وهو حديث أخرجه الطبراني من حديث معاوية، والمراد ببني قنطوراء الترك ثم قال: وكأنه يريد بقوله: أمتي. أمة النسب لا أمة الدعوة، يعني العرب اهـ، وفي معناه ما رواه عنه أبو يعلى مرفوعًا:(إن الترك تجلي العرب حتى تلحقها بمنابت الشيح) وقد فعلت فلم يبق الترك استقلالاً للعرب حتى زاحموها في عقر جزيرتها حيث ينبت الشيح.
(19)
الترك بدل أو عطف بيان لمن استذل إلخ.
(20)
تزَّوى: تقلص وتقبض، آرزا: منكمشًا راجعًا إلى وطنه.
(21)
السأو الوطن وكصا: خس بعد رفعة.
(22)
الكُدَى جمع كُدْيَة (كغرف جمع غرفة) وهي الأرض أو الصخرة الغليظة الصلبة.
(23)
العاضد لك من أعانك، وعضد الشجرة قطعها، والدوح: الشجر العظيم، جمع دوحة بالفتح وخضد الشوكة قطعها، والتحى العود قشره.
(24)
موظوبة: واظبت الراعية رعيها حتى لم يبق بها نبات، والغمر: الماء الكثير، والفرات: العذب وما بعدهما ضدهما، وجوى (كهوى) مصدر جوي (كرضي) الواو: أنتن.
(25)
هو السلطان عبد الحميد آخر سلاطين بني عثمان وقد كان من خلفه من الجماعات شرًّا منه وأضر.
(26)
ضغا: تذلل للخيانة.
(27)
امتروا أخلافه حلبوا ضروعه.
(28)
أسحتهم الله: أهلكهم واستأصلهم، والسحت الحرام الخسيس.
(29)
الطسى بالفتح مصدر طسي (كرضي) : التخمة من كثرة أكل الدسم، وجاء بالواو وبالهمز.
(30)
السغب بالتحريك الجوع كالطوى ، والعِلْهِز؛ بكسر العين والهاء: أحقر ما يؤكل كالقراد.
(31)
أي: فأصبحوا في ضيق عيش ومهانة نفس أخضعتهم وأهزلت أجسامهم.
الكاتب: محمد رشيد رضا
تجنس المسلم بجنسية تنافي الإسلام
(س 1) من الحزب الوطني التونسي
ما قول حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير الشيخ رشيد رضا أيده الله في
حكومة فرنسا المتسلطة على كثير من الشعوب الإسلامية؛ إذ عمدت أخيرًا إلى
وضع قانون يعرف بقانون التجنس، الغرض منه حمل سكان تلك البلاد من
المسلمين على الخروج من ملتهم ، وتكثير سواد أشياعها ، وقد جعلت هذا التجنس
شرطًا في نيل الحقوق السياسية التي كانت لهم من قبل ، وسلبتها منهم على وجه
الاستبداد الجائر ، مع أن اتباع المسلم لهذه الملة؛ يجعله ينكر بالفعل ما هو معلوم
من الدين بالضرورة ولا تتناوله الأحكام الشرعية ، بل يصير تابعًا لقوانين وضعية ،
نصوصها صريحة في إباحة الزنا وتعاطي الخمور ، وارتكاب الفجور ، وتحليل
الربا ، والاكتساب من الطرق غير المشروعة ، ومنع تعدد الزوجات، واعتبار ما
زاد عن الواحدة من قبيل الزنا المعاقب عليه ، وإنكار نسب ما ولد له من غيرها
حالة وجودها ، ولا حق له في نفقة ولا إرث ولو على فرض الاستلحاق ، وفك
العصمة من الزوج ، وإسنادها إلى المحكمة ، حتى إذا أوقع الطلاق بنفسه كان
لغوًا ، وقسمة المواريث على طريقة مخالفة للفرائض الشرعية وجعل أنصبائها على حد سواء بين الإناث والذكور.
وأشد بلاءً من هذا كله جعل المسلم مجبورًا على الخدمة العسكرية في جيش
عدُوٍّ معد لقتال المسلمين ، وإذلالهم وإكراههم على الخضوع، والإلقاء بأنفسهم في
قبضة من لا يرقب فيهم ذمةً ولا يحفظ معهم عهدًا.
فهل يعد إقدام تلك الحكومة على أمر كهذا نكثًا للمعاهدة الموضوعة على
أولئك المسلمين ، وفتنة لهم في دينهم وإخلالاً بنظام اجتماعهم؟
وهل يكون أولئك المسلمون إذا قبلوا هذا التجنس مرتدين عن دينهم ، فلا
نعاملهم معاملة المسلمين من مثل: المناكحة ، والتوارث ، وأكل ذبائحهم ، ودفن
أمواتهم في مقابر المسلمين؛ لأنهم رضوا بالانسلاخ عن أحكام الشريعة ، ولا
مكره لهم على ذلك؟ أم كيف الحال؟
وهل يجوز لمسلم يدرك عواقب هذه الفتنة العمياء ، وغوائل السكوت عنها أن يترك الإنكار عليها ، والحال أنه آمن على نفسه ، وقادر على مقاومتها ،
وإظهار النكير عليها؟
أفتونا في هذه الواقعة بما يقتضيه النظر الشرعي إرشادًا للحائرين، وتنبيهًا
للغافلين، أبقاكم الله لخدمة الإسلام والمسلمين.
الجواب:
إذا كانت الحال كما ذكر في السؤال، فلا خلاف بين المسلمين في أن قبول
هذه الجنسية ردةٌ صريحةٌ ، وخروج من الملة الإسلامية، حتى إن الاستفتاءَ فيها يعد
غريبًا في مثل البلاد التونسية ، التي يظن أن عوامها لا يجهلون حكم ما في السؤال
من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة ، ولعل المراد من الاستفتاء إعلام
الجمهور معنى هذه الجنسية ، وما تشتمل عليه من الأمور المذكورة المنافية للإسلام
نفسه ، لا للسياسة الإسلامية التونسية التي بدئ السؤال بذكر غوائلها فقط ، كقوله:
إن هذه الملةَ (يعني الجنسية التي هي بمعنى الملة في الأحكام المخالفة
للشريعة الإسلامية) تحمل صاحبها على إنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة.
على أنه قال: إنه ينكر ذلك بالفعل. ولعله أراد بهذا القيد الاحتراس عن الاعتقاد ،
وجعل هذا هو المراد من الاستفتاء لما هو مشهور بين أهل السنة من أن المعاصي
العملية لا تخرج صاحبها من الملة إذا لم يجحد تحريمها أو يستحلها، وإن كانت
مجمعًا عليها معلومة من الدين بالضرورة.
وهذه المسألة أهم عندنا من كل ما رتبه السائل على هذه الجنسية من الغوائل
كنكث الدولة الفرنسية للمعاهدة التونسية، فإن المعاهداتِ في هذا العصر حجة القوي
على الضعيف كما قال البرنس بسمارك، فهو يأخذ بها من الضعيف أضعاف ما جعله
لنفسه من الحقوق ، ولا يعطيه مما التزمه له إلا ما يريد هو ، ويوافق مصلحته
كما قلنا للسيد فيصل ابن السيد حسين الحجازي عندما أراد إقناعنا بقبول الوصاية
الفرنسية على سورية بمقتضى معاهدة وشروط
…
وقد بلغنا أن بعض المتفقهة أبى
الإفتاء بِرِدَّةِ من يقبل مثل هذه الجنسية ، ويرتكب ما يترتب عليها من ترك أحكام
الشريعة المشار إليها في السؤال بناءً على قول بعض الأئمة: لا نكفر مسلمًا
بذنب. ونظمه اللقاني في جوهرة التوحيد (فلا نكفر مسلمًا بالوزر) مع الغفلة
عن قوله فيها الذي نظم به قاعدة الردة العامة:
ومن لمعلوم ضرورة جحد
…
من ديننا يقتل كفرًا ليس حد
فإن هذه القاعدةَ وقع فيها اللبس والاشتباه حتى بين المشتغلين بالعلم، وفي
أحد فروعها وهو استحلال الحرام، فإنه إذا كان من المجمع عليه المعلوم من الدين
بالضرورة كان ردة عن الإسلام بلا خلاف، ولكن بعض المشتغلين بقشور العلم ،
والمجادلين في ألفاظ الكتب من يظنون أن الجحد والاستحلال من أعمال القلب،
فجاحد الصلاة ومستحل شرب الخمر والزنا عندهم هو من يعتقد أن وجوب
الصلاة، وتحريم الخمر والزنا ليسا من دين الإسلام، فلا الصلاة فريضة ولا الزنا
حرام.
وفي هذا الظن من التناقض والتهافت ما هو صريح، فإِنَّ فرضَ المسألةِ أن
الذي يستحل مخالفة ما يعلم أنه من الدين علمًا ضروريًّا ، غير قابل للتأويل سواء
كان فعلاً أو تركًا فإنه يكون به مرتدًّا عن الإسلام، والعلم الاعتقاد القطعي فكيف
يفسر الاستحلال بعدم الاعتقاد ، وهو جمع بين النقيضين؛ أعني اعتقادَ أنه من الدين ،
وعدم اعتقاد أنه من الدين؟ وقد سبق لنا تحقيق هذه المسألة في بابي التفسير
والفتاوى من المنار، ونقول الآن بإيجاز واختصار: إن حقيقة الجحد هو إنكار
الحق بالفعل، واشترط أن يكون المنكر معتقدًا له بالقلب.
قال الزمخشري في الأساس: جحده حقه وبحقه جحدًا وجحودًا. وقال
الراغب في مفردات القرآن: الجحود نفي ما في القلب إثباته، وإثبات ما في القلب
نفيه، يقال: جحد جحودًا وجحدًا قال عز وجل:] وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ
ظُلْمًا وَعُلُوًّا [ (النمل: 14) اهـ. وحسبنا الآية نصًّا في الموضوع وسنذكر غيرها
أيضًا.
وكذلك الاستحلال والاستباحة: أَنْ يفعل الشيء فعل الحلال والمباح؛ أي:
بغير تحرج ولا مبالاة، وهو يعتقد أنه حرام شرعًا ، ولو لم يكن مجمعًا عليه ،
فإنْ كان المستحل متأولاً لنص أوقاعدة شرعية اعتقد بها أنه حلال شرعًا ، لم
يحكم بردته، وإلا كان مرتدًّا، ويصدق في ادعائه الجهل بحرمته إلا إذا كان مجمعًا
عليه معلومًا من الدين بالضرورة.
والوجه في ذلك أن الإسلام هو الإذعان بالفعل لما علم أنه من دين الله في
جملته وهو الإيمان؛ إذ الاعتقاد القلبي وحده لا يكون به المعتقد مسلمًا ، ولا يكون
الاعتقاد إيمانًا حتى يكون نازعًا، ولهذا قالوا بترادف الإيمان والإسلام فيما يصدقان
عليه وإن اختلفا في المفهوم ، ورد بعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم
كرده كله {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} (البقرة: 85) .
وأما الذنب الذي لا يخرج به فاعله من الملة، فهو مفروض في المسلم،
وهو المذعن لدين الله وشرعه كله بالفعل إذا عمل سوءًا بجهالة من سورة غضب
أو ثورة شهوة، وهو لابد أن يحمله الإيمان على الندم والتوبة، ولا يدخل فيه غير
المذعن للأمر والنهي، كالمستحل لجملة المعاصي بالفعل، بحيث يترك ما يترك
منها لعدم الداعية ، قال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ
ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَيْسَتِ
التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلَا
الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} (النساء: 17-18) .
ومن تفسير الفقهاء لمسألة استحلال المحرم بالمعنى الذي وضحناه ما أورده
الفقيه ابن حجر في كتابه (الإعلام بقواطع الإسلام) قال: ومن ذلك أن يستحل
محرمًا بالإجماع كالخمر واللواط ولو في مملوكه - وإن كان أبو حنيفة لا يرى الحد
به؛ لأن مأخذ الحرمة عنده غير مأخذ الحد - أو يحرم حلالاً بالإجماع كالنكاح ،
أو ينفي وجوب مجمع على وجوبه كركعة من الصلوات الخمس، أو يعتقد وجوب
ما ليس بواجب بالإجماع ، كصلاة سادسة يعتقد فرضيتها كفرضية الخمس؛
ليخرج وجوب معتقد الوتر ونحوه كصوم شوال ، هذا ما ذكره الرافعي.
وزاد النووي في الروضة: أن الصواب تقييده بما إذا جحد مجمعًا عليه يعلم
من دين الإسلام ضرورة سواء كان فيه نص أم لا، بخلاف ما لا يعلم كذلك بأن لم
يعرفه كل أحد من المسلمين فإن جحده لا يكون كُفرًا اهـ؛ وما زاده ظاهر،
وخرج بالمجمع عليه الضروري المجمع عليه غير الضروي كاستحقاق بنت الابن
السدس مع بنت الصلب ، وتحريم نكاح المتعة؛ فلا يكفر جاحدهما كما بينته في
شرح الإرشاد، ومع بيان أنه هل الكلام في جاحدهما جهلاً أو عنادًا ، ومع بيان
رد قول البلقيني: إن تحريم نكاح المتعة معلوم من الدين بالضرورة ، وأنه قيد
استحلال الدماء والأموال ، بما لم ينشأ عن تأويل ظني البطلان كتأويل البغاة،
وللضروري أمثلة كثيرة استوعبتها في الفتاوى ، ومن ذلك أيضا ما لو أجمع أهل
عصر على حادثة فإنكارها لا يكون كفرًا.
ومحل هذا كله في غير من قرب عهده بالإسلام ، أو نشأ ببادية بعيدة، وإِلا
عُرِّف الصواب فإن أنكر بعد ذلك كفر فيما يظهر؛ لأن إنكاره حينئذ فيه تضليل
للأمة.
وسيأتي عن الروضة عن القاضي عياض أن كل ما كان فيه تضليل الأمة
يكون كفرًا ، ثم ما ذكره الشيخان كالأصحاب في استحلال الخمر استبعده الإمام بأنا
لا نكفر من رد أصل الإجماع، ثم أول ما ذكروه بما إذا صدق المجمعين على أن
التحريم ثابت في الشرع ثم حلله فإنه يكون ردًّا للشرع. قال الرافعي: وهذا إن
صح فليجر مثله في سائر ما حصل الإجماع على افتراضه أو تحريمه فنفاه،
وأجاب عنه أبو القاسم الزنجاني بأن ملحظ التكفير ليس مخالفة الإجماع بل استباحة
ما علم تحريمه من الدين ضرورة) اهـ ما أردت نقله من الإعلام.
فقول الزنجاني: (إن ملحظ التكفير ليس مخالفة الإجماع بل استباحة ما علم
تحريمه من الدين ضرورة) معناه استباحته بالعمل ، بأن يفعله كما يفعل المباح بغير
تأثم ولا مبالاة ولا توبة ، وقول الإمام (أي: إمام الحرمين) قبله: إن المراد من
الاستحلال للمجمع على تحريمه مبني على تصديق المجمعين ، على أن التحريم
ثابت في الشرع وتعليله إياه بأنه يكون ردًّا للشرع، فهو صريح في أن المراد برده
عدم الإذعان بالفعل لا عدم الاعتقاد؛ إذ الاعتقاد التصديق وهو مصدق بأنه من
الشرع ، وإلا سقطت المسألة من أصلها.
وإنما اشترطوا فيها الإجماع وكونها معلومة من الدين بالضرورة لإسقاط
عذر الجهل - ولذلك استثنوا قريب العهد بالإسلام ومن نشأ بعيدًا عن المسلمين -
وعذر احتمال التأول، وهم لا يختلفون في كون رد أي مسألة من الشرع ، يعتقد
رادها أنها منه، كرد المجمع عليه المعلوم بالضرورة عند جماعة المسلمين؛ إذ مدار
الردة في هذا المقام على رد الشرع ، وعدم الإذعان له؛ أي: عدم التلبس بالإسلام.
فالقاعدة الأساسية في هذه المسألة أن الإسلام الذي تجري على صاحبه أحكام
المسلمين هو الإذعان والخضوع بالفعل لكل ما علم أن النبي صلى الله عليه وسلم
جاء به عن الله تعالى من أمر الدين، وأن رد بعضه كرده كله {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ
الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} (البقرة: 85) فإن كان الخضوع بالفعل تابعًا للإذعان
النفسي، والاعتقاد القطعي بصدق الرسول في دعوى الرسالة كان إسلامًا وإيمانًا
منجيًا في الآخرة لمن مات عليه، وإن كان في الظاهر دون الباطن كان نفاقًا
تجري على صاحبه أحكام المسلمين في الدنيا ما لم يأت بما ينافيه ويثبت خلافه ،
وأما الاعتقاد في الباطن دون الإذعان في الظاهر لمن تمكن من العمل بأن لم يمت
عقبه فلا يعتد به في الدينا ولا في الآخرة، فإن كفر إبليس لم يكن عن عدم اعتقاد،
بل عن حسد وعناد، وكذلك كفر فرعون موسى والملأ من قومه؛ إذ قال الله
تعالى فيهم في سياق الكلام عن الآيات التي أيد الله نبيه موسى عليه السلام
بها: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} (النمل: 14) وكذلك كان
كفر طغاة قريش المستكبرين بالنبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {فَإِنَّهُمْ لَا
يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (الأنعام: 33) وتقدم أن الإلمام
بمعصية ما لا يعد استحلالاً يوجب الخروج من الملة، لأنها إنما تقع من المذعن
بجهالة من غضب أو شهوة، ويتبعها الندم والتوبة.
علم من هذا أن قبول المسلم لجنسية ذات أحكام مخالفة لشريعة الإسلام
خروج من الإسلام؛ فإنه رد له، وتفضيل لشريعة الجنسية الجديدة على شريعته،
ويكفي في هذا أن يكون عالمَا بكون تلك الأحكام التي آثر غيرها عليها هي أحكام
الإسلام ، ولكن يقبل اعتذاره بالجهل إن لم تكن مجمعًا عليها معلومة من
الدين بالضرورة ، كبعض ما ذكر في السؤال من قتال المسلمين ، وبعض أحكام
الإرث وإباحة تعدد الزوجات بشرطها ، فلا يعامل معاملة المسلمين في نكاح ولا
إرث ولا يصلى عليه إذا مات.
ومن أدلة ذلك في القرآن قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا
بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن
يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا
أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ المُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً} (النساء: 60-
61) .
الطاغوت مصدر الطغيان ومثاره ، ويدخل فيه كل ما خالف ما أنزله الله ،
وما حكم به رسوله صلى الله عليه وسلم ، فإنه جعل مقابلاً له هنا في آيات أخرى
ومنه بعض أحكام القانون الفرنسي كإباحة الزنا والربا، دع ما يستلزمه اتباع؛
أي: جنسية سياسية غير إسلامية من قتال المسلمين وسلب بلادهم منهم ، ومما ورد
في تفسير الآية بالمأثور: إن سبب نزولها تحاكم بعض المنافقين إلى بعض
كهان الجاهلية، وقد سمى سبحانه ادعاء هؤلاء المنافقين للإيمان زعمًا، والزعم
مطية الكذب ، وقد بينا في تفسيرنا للأولى منهما اقتضاء الإيمان الصحيح للعمل،
وأن الاستفهام فيها للتعجيب من أمر هؤلاء ، الذين يزعمون الإيمان ويعملون ما
ينافيه، وأن الأستاذ الإمام سئل في أثناء تفسيرها في الجامع الأزهر عن
القوانين والمحاكم الأهلية فقال: تلك عقوبة عوقب بها المسلمون أن خرجوا عن
هداية قوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُول} (النساء: 59) فإذا كنا تركنا هذه الهداية للقيل والقال وآراء الرجال ، من قبل أن نبتلى بهذه
القوانين ومنفذيها، فأي فرق بين آراء فلان وآراء فلان وكلها آراء منها الموافق لنصوص الكتاب والسنة ومنها المخالف له؟ ونحن الآن مكرهون على التحاكم
إلى هذه القوانين ، فما كان منها يخالف حكم الله تعالى يقال فيه: - أي في أهله - {إِلَاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَان} (النحل: 106) وانظر فيما هو موكول إلينا إلى الآن ، كالأحكام الشخصية والعادات والمعاملات بين الوالدين والأولاد
والأوزاج والزوجات، فهل ترجع في شيء من ذلك إلى الله ورسوله؟
…
إلخ ما
قاله ، وقد وضحت المراد منه فيراجع في الجزء الخامس من التفسير.
وأقول: إن إكراه المصريين على ما يخالف الكتاب والسنة من القوانين قد
زال الآن بالاستقلال ، فإثم ما يبقى منه بعد انعقاد البرلمان المصري في أعناق
أعضائه، وأعناق الأمة في جملتها؛ إذ هي قادرة على إلزامهم إلغاء إباحة الزنا
والخمر وغير ذلك من المحرمات بالإجماع ، هذا وإن المحاكم الأهلية
وقوانينها خاصة بالأحكام المدنية والعقوبات التي تقل فيها النصوص القطعية
المعلومة من الدين بالضرورة ، ومن حكم له فيها بربا محرم فليس ملزمًا أخذه،
ومن حكم عليه به وأكره على أدائه فهو معذور، ولا يمس عقيدته ولا عرضه منه
شيء، والحدود الشرعية في العقوبات خاصة بالإمام الحق، والتعزيرات مبنية
على اجتهاد الحكم ، فأين حكم المحاكم الأهلية بالقوانين من قبول جنسية تهدم ما
في القرآن من أحكام النكاح والطلاق والإرث وغير ذلك؟ وهي اختيارية
لا اضطرارية ، ومن اختارها فقد فضلها على أحكام الله تعالى في كتابه ، وعلى
لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، وفضل أهلها الكافرين على المؤمنين بالفعل.
(ومنها) قوله تعالى: (4: 64) {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ
فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء: 65) قال أبو بكر الجصاص من أئمة الحنفية في تفسيرها من كتابه
(أحكام القرآن) ما نصه:
(وفي هذه الآية دلالة على أن من رد شيئًا من أوامر الله تعالى ، أو أمر
رسوله صلى الله عليه وسلم ، فهو خارج من الإسلام، سواء رده من جهة الشك فيه،
أو من جهة ترك القبول والامتناع من التسليم، وذلك يوجب صحة ما ذهب
إليه الصحابة في حكمهم بارتداد من امتنع من أداء الزكاة ، وقتلهم وسبي ذراريهم؛
لأن الله تعالى حكم بأن من لم يسلم للنبي صلى الله عليه وسلم قضاءه وحكمه فليس
من أهل الإيمان) اهـ.
وقد بينا في تفسيرنا لهذه الآية ما ملخصه: إن الإيمان الصحيح الحقيقي وهو
إيمان الإذعان النفسي المقابل لما يدعيه المنافقون ، لا يتحقق إلا بثلاث:
(1)
تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم فيما شجر؛ أي: اختلط فيه
الأمر مما يتخاصم فيه الناس.
(2)
الرضاء بحكمه وانشراح الصدر له بحيث لا يكون في القلب أدنى
حرج، أي: ضيق وانكماش مما قضى به.
(3)
التسليم والانقياد بالفعل ، ولا خلاف بين المسلمين في اشتراط هذه
الثلاث في كل ما ثبت مجيئه به صلى الله عليه وسلم من أمر الدين؛ إذ لا يعقل
اجتماع الإيمان الصحيح برسالته ، مع إيثار حكم غيره على الحكم الذي جاء به
عن الله تعالى، ولا مع كراهة حكمه والامتعاض منه، ولا مع رده وعدم التسليم له
بالفعل.
وجملة القول: إن المسلم الذي يقبل الانتظام في سلك جنسية يتبدل أحكامها
بأحكام القرآن، فهو ممن يتبدل الكفر بالإيمان فلا يعامل معاملة المسلمين، وإذا
وقع من أهل بلد أو قبيلة، وجب قتالهم عليه حتى يرجعوا ، والمعقول أن هذا لا يقع
من مسلم صحيح الإيمان بل لا يجوز عقلاً أن يصدر عنه، ذلك بأن الإيمان القطعي
بأن أحكام النكاح والطلاق ، والإرث وتحريم الربا والزنا المنصوصة في القرآن من
عند الله العليم الحكيم ، يقتضي تفضيلها على كل ما خالفها، والعلم بأن التزامها من
أسباب رضوان الله وثوابه، وترك شيء منها من أسباب عذابه وسخطه، يقتضي
الحرص على الاستمساك بها فعلاً لما أوجب سبحانه، وتركًا لما حرم،
ودليله: أن العلم بالمضار والمنافع يقتضي فعل النافع وترك الضار بسائق الفطرة،
ويعرف ذلك كل إنسان من نفسه بالوجدان الطبيعي ، ومن سائر الناس بالتجربة
المطردة في جملة المنافع والمضار. وما يشذ من الجزئيات فله أسباب لا تنقض
القاعدة التي بيناها مرارًا.
ويلتبس الأمر على كثير من الباحثين في بعض هذه الجزئيات ، فيحسبها
ناقضة لقاعدة اقتضاء العلم القطعي أو الراجح للعمل، وجل هذا اللبس يرجع إلى
خفاء وجوه الترجيح الطبيعي ، فيما يتعارض فيه العلم القطعي والظن والوجدان
والفكر، مثال ذلك: ترك المريض الدواء النافع وفعله لضده كتناول الغذاء الضار
من أمور الدنيا، وتركه لبعض الواجبات أو اجتراحه لبعض السيئات من أمور
الدين، ومن محص المسألة يظهر له أن تارك الدواء لاستبشاع طعمه ، قاطع
بضرره المتعلق بالذوق وهو من الحسيات اليقينية ، وغير قاطع بنفعه بل هو إما
ظان وإما شاك فيه، وكذلك مرتكب المعصية وإن كان تحريمها قطعيًّا كالزنا ، فإن
الشك يعرض له في الوعيد عليه من باب الرجاء في العفو والمغفرة بفضل
الله تعالى ، أو بالتكفير عنه بالأعمال الصالحة، ولكن لذة الشهوة التي تعرض له لا
شك فيها، فيرجح العلم القطعي بالمنفعة وهي اللذة على الظن أو الشك في العقاب،
وإنما يقع هذا الترجيح في الكبائر لمن كان ضعيف الإيمان، وهو ما كان عقيدة لم
ترتق بها التربية العملية إلى الوجدان، وإنما الإيمان الكامل المقتضي للعمل في
أفراد الجزئيات ما كان فيه الاعتقاد الصحيح مصاحبًا للشعور الوجداني بالخوف
والرجاء في كل منها، وقد يتخلف في بعض دون بعض، فإن من يعيش بين قوم
يجاهرون بمعصية لا ينفر وجدانه منها ، كمن يعيش بين قوم لا يفعلونها إلا ما قد
يقع من بعضهم وراء الأستار.
فهذا ملخص ما يحتج به على استلزام الإيمان الصحيح للعمل بجملة ما ثبت
عند المؤمن أنه من الشرع، والأدلة الشرعية عليه كثيرة، وبها جعل جمهور
السلف العمل ركنًا من أركان الإيمان - وقد اختلف العلماء في معنى الحديث المتفق
عليه: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) إلخ بناء على اختلافهم في تعريف
الإيمان ، فذهب بعضهم إلى أن المنفي هو الإيمان الكامل وهو الوجداني الذي
يقتضي العمل فعلاً وتركًا - وقيل: إن الإيمان يفارق الزاني عند الزنا بحيث لو مات
في أثنائه مات كافرًا. وحقق الغزالي أنه لا يكون عند تلبسه بالزنا مؤمنًا بأنه
يستلزم سخط الله وعذابه ، وهو يصدق بنسيان الوعيد عند ذلك لغلبة الشهوة
التي يغيب صاحبها عن إدراك الحسيات أحيانًا. كما قال الشاعر:
قالت وأبثثتها وجدي فبحت به
…
قد كنت عندي تحب الستر فاستتر
ألست تبصر من حولي فقلت لها
…
غطى هواك وما ألقى على بصري
ويصدق بالشك في وقوع الوعيد بما بيناه آنفًا من رجاء المغفرة أو التكفير ،
ومثل هذا الشك والتأول لا يمكن أن يجري في جملة المأمور به والمنهي عنه ،
ولا في ترك الأحكام الكثيرة التي لا يغلب صاحبها عليها ثورة شهوة، ولا سورة
غضب كأحكام الإرث والنكاح والطلاق وثبوت النسب ونفيه - بل هي مما يتفق
الدليل العقلي والطبعي مع الدليل الشرعي على أن من رغب عنها إلى غيرها من
أحكام البشر لا يمكن أن يكون مؤمنًا، وعندي أن تركها بمثل اختيار الجنسية
المسؤول عنها ليس إنشاء للكفر وابتداء للردة ، بل هو أثر له ناشئ عنه، وإنما
أطلت في هذه المسألة التي سبق لي توضيحها مرارًا ، لما بلغني من توقف بعض
علماء تونس في الإفتاء بكون التجنس بالجنسية الفرنسية ردة.
جنسية الإسلام وإصلاحه للبشر
ويحسن ختم هذه الفتوى بالتذكير بما كنا نوهنا به مرارًا من الركن الأعظم
لإصلاح الإسلام لشؤون البشر ، وتمهيد طريق السعادة لهم ، وبيان ذلك بالإيجاز:
أن مثارات شقاء البشر محصورة في اختلافهم في مقومات الاجتماع ومشخصاته
من العقائد واللغات والأوطان والأحكام والحكومات والأنساب؛ أي: العناصر
والأجناس كما يقول أهل هذا العصر، والأصناف كما يعبر علماء المنطق
والطبقات والتقاليد والعادات ، وحسبك من هذا الأخير أن المختلفين في الأزياء من
أبناء الوطن الواحد المتفقين فيما عداه من روابط الاجتماع يتفاضلون فيه حتى يحتقر
بعضهم بعضًا
…
جاء دين التوحيد والسلام (الإسلام) يرشد الناس كافة إلى المخرج من كل
نوع من أنواع هذا الاختلاف المثيرة لشقائهم ، بالتعدي والتباغض بجمعهم على
دين واحد ، موافق للفطرة البشرية مُرَقٍّ لها بالجمع بين مصالح الروح والجسد
(وهو الجنسية الدينية) ، ولغة واحدة يتخاطبون بها ، ويتلقون معارفهم وآدابهم بها
(وهي الجنسية الاجتماعية الأدبية) وحكم واحد يساوي بينهم على اختلاف مللهم
ونحلهم (وهو الجنسية السياسية) ؛ فهو يزيل من بينهم التفاضل والتعالي بالأنساب
والامتياز بالطبقات، والتعادي باختلاف الأوطان والعادات، وأودع في تعاليمه
وأحكامه جواذب تجذبهم إلى ذلك باختيارهم بالتدريج الذي هو سنة الله في كل
تغيير يعرض لجماعات البشر {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم} (الرعد: 11) .
وحسبنا هنا من الحجة على ذلك ما هو معلوم بالتواتر من أثره في نشأته
الأولى في خير القرون؛ إذ انتشر مع لغته وآدابه وسياسته وأحكامه في العالم
القديم ، من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق، وطالما شرحنا أسباب ذلك من
آيات الكتاب والسنة وعمل الخلفاء وعلوم الأئمة.
وقد قلدته أمم الحضارة الكبرى في هذا العصر، فكل منها تبذل القناطر
المقنطرة من الذهب؛ لنشر دينها ولغتها ، وتشريعها وآدابها وأحكامها في جميع
أقطار الأرض ، مؤيدة ذلك بآلات القهر والتدمير البرية والبحرية والجوية، ولم
يبلغ تأثيرها في عدة قرون مع سهولة المواصلات ، وتقارب الأقطار ودقة النظام
ما بلغه الإسلام في أقل من قرن واحد مع فقد هذه الوسائل كلها - ولو وضع نظام
للإمامة الكبرى (الخلافة) يكفل أصولها وأحكامها الشرعية؛ لعم الإسلام ولغته
العالم كله ، ولتحققت به أمنية الحكماء فيما ينشدونه من المدنية الفاضلة قديمًا وحديثًا.
أهمل المسلمون هذه الفريضة الكافلة لجميع الفرائض والفضائل فما زالوا
يرجعون القهقرى، حتى بلغ بهم الخزي ما نسمع ونرى، وصار مستعبدوهم
ومستذلوهم يطمعون في تركهم ، لما بقي من شريعتهم اختيارًا في الوقت الذي آن
لهم فيه أن يعرفوا أنفسهم ، ويعرفوا قيمة دينهم وشرعهم ، وينهضوا به؛ لإصلاح
أنفسهم ، وتلافي سقوط حضارة العصر بإبادة بعض أهلها لبعض {فَاعْتَبِرُوا
يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} (الحشر: 2) .
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
خطاب عام فيما يجب على المسلمين
لبيت الله الحرام
بسم الله الرحمن الرحيم
{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وَضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ
بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ
سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ} (آل عمران: 96-97) ، {جَعَلَ
اللَّهُ الكَعْبَةَ البَيْتَ الحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ} (المائدة: 97) ، {وَإِذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً
لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (البقرة: 125) ، {إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً العَاكِفُ فِيهِ
وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الحج: 25) .
أخبر الله تعالى عباده في آخر كتاب أنزله وكفل حفظه ـ وهو القرآن ـ على
لسان آخر نبي أرسله وأكمل به دينه العام، وهو محمد عليه أفضل الصلاة
والسلام، أن هذا المعبد المعروف بمكة أم القرى من بلاد العرب باسم الكعبة،
والبيت الحرام، والمسجد الحرام، هو أول بيت وضعه تعالى للناس كافة، وجعله
قيامًا، ومثابةً، وأمنًا، ومسجدًا، للناس كافة، سواء العاكف فيه من المقيمين حوله،
والبادي ممن يؤمونه من مؤمني سائر الأقطار لعبادة الله وحده، فمن دخله كان
آمنًا بتأمين الله تعالى على نفسه وماله وعرضه وشرفه، وحريته في قوله وفعله،
لا مسيطر عليه غير دين الله وشرعه - وجعل حجه ركنًا من أركان الإسلام،
وجعل الصد عنه وعن سبيله من شأن الكفار، وجعل إرادة الظلم والإلحاد إليه فيه،
كاقتراف الظلم في غيره، وجعل السيئات فيه مضاعفة العقاب، كما جعل الحسنات
مضاعفة الثواب، بل حرم سبحانه على لسان إبراهيم خليله ومحمد خاتم رسله
(عليهما الصلاة والسلام وعلى آلهما) الاعتداء في ذلك الحرم المحيط ببيته على كل
ذي حياة حيوانية أو نباتية، فلا يُعْضَد شجره ولا يُخْتَلى خلاه [1] ولا يحل فيه
الصيد ولا ترويع الحيوان، ولا يقتل فيه إلا الفواسق الضارة التي تقتل في الحل،
والحرم كالحيات والعقارب والفيران.
وقد صح في الأحاديث النبوية أنه يحرم من المدينة مثل ما يحرم من مكة،
وأن الإسلام يأرز بين المسجدين ويأرز إلى الحجاز كما تأرز الحية إلى جحرها،
أي: ينكمش وينقبض فيه ويعود إليه، وأنه لا يجوز أن يكون هنالك ولا فيما حوله
دينان، كما جاء في آخر ما أوصى به عليه الصلاة والسلام.
وقد أجمع المسلمون على أن حج هذا البيت مفروض على كل من استطاع
إليه سبيلاً، وأن الأمة الإسلامية مطالبة به في جملتها، لا بد أن يؤديه في كل عام
بعض المستطيعين من أفرادها، وهو الركن الروحي البدني المالي الاجتماعي
السياسي من أركان دينها، فهي مطالبة بإقامة هذا الركن مع كل ما تتوقف عليه
إقامته، وكل ما أوجبه الله تعالى من حرمته وتأمينه، وتحقيق مقاصد الدين من ذلك.
ولا نطيل في تفصيل هذا، فهو مما لا يجهله مسلم في جملته، وإنما أتينا بهذه
المقدمة تمهيدًا لما نذكر بعدها من الخطر الحديث على هذا الركن الإسلامي ، وعلى
حرم الله وحرم رسوله، وعلى كل ما شرع الله تعالى هنالك من عبادة ونسك
وإجلال، وتعظيم للشعائر والمشاعر العظام، التي تجدد في قلوب الحجاج
والمعتمرين روح الإسلام.
ومن المسلمات التي لا نزاع فيها أن ما أوجبه الله تعالى وشرعه لهذه البلاد ،
وما أوجبه فيها مما أجملنا التذكير به ، لا يتم ولا يُضمَن في هذا الزمان إلا بجعل
هذه البلاد المقدسة مصونة من التعدي عليها، ومن جعلها عرضة للغزو
والقتال ـ ومحفوظة من أي تدخل أو نفوذ لغير المسلمين فيها، ولا سيما الدول
الاستعمارية القوية، وبإقامة حكومة شرعية لها تكون قادرة على حفظ الأمن والشرع،
وعاجزة عن الاستبداد والظلم، بمراقبة العالم الإسلامي لها، ومساعدته إياها بالرجال
والمال على الوجه الذي نقترحه بعد، فسكان الحجاز غير قادرين على ذلك حتمًا؛
لفقرهم وفقدهم المال والعلم اللذين يتوقف عليهما ذلك.
أيها المسلمون:
إنه لا يخفى على شعب من شعوبكم في مشارق الأرض ومغاربها أن الدولة
العثمانية كانت كافلة للحجاز، وممدة لحكومته وأهله بالرجال والمال، وكانت دولة
حربية مرهوبة، وذات حقوق دولية مرعية، ومعترف لها بمنصب الخلافة
الإسلامية، وهي مع هذا كله لم تؤد لهذا المكان، كل ما يجب له من الأمن
والعمران، ولم ترقِّ فيه العلم والعرفان، وإنما كان مصونًا بها من أن يهاجم بحرب
أو يمتد إليه نفوذ غير إسلامي، وقد زال بزوالها كل من الأمرين.
ذلك بأنها كانت قد نصبت في مكة أميرًا اسمه الشريف (حسين بن علي)
وأن هذا الأمير خرج عليها وحاربها في الحرب الأخيرة هو ومن أجاب دعوته إلى
قتالها، ووالى الدولة البريطانية وأحلافها، وأذاع بالدعاية العامة أنه يريد بذلك إنقاذ
البلاد العربية واستقلالها، وكانت دعواه في نفسها معقولة، ثم تبين أنها غير
صحيحة، فقد ظهر أنه استبد بالأمر، واتجر بالأمة وسمى نفسه (ملك البلاد
العربية) بغير مبايعة ولا رضا من أهل الحل والعقد في جزيرة العرب وهم الأئمة
والأمراء والعلماء في بلادها المستقلة كاليمن وتهامة ونجد، ولا في غيرها بالأولى،
بل جعل هؤلاء أعداء له ، وهم يحيطون بالحجاز من كل جانب كما نبينه لكم
بالوثائق الرسمية، ورفض ما دعاه إليه أهل البصيرة من عقد روابط الحلف ، وشد
أواخي الإخاء بينهم ، ليكونوا كلهم أعوانًا على حفظ الحرمين الشريفين، وسياجهما
من جزيرة العرب أن ينالها عدوان أجنبي، أو يتسرب إليها نفوذ غير إسلامي،
عملاً بوصية النبي صلى الله عليه وسلم قبيل لقاء ربه في الرفيق الأعلى.
إن هذا الرجل لم يقدم على ادعاء التملك على الأمة العربية بأسرها ، ويعادي
أمراء الجزيرة المقدسة على ما هو عليه من الضعف، ويعقد بانفراده مع الأجانب
المعاهدات السياسية والحربية باسم العرب ، فيعطيهم من الحقوق السياسية
والعسكرية ما شاء حتى في الحرمين الشريفين، ومن رقبة البلاد بالاحتلال ما شاء؛
لم يفعل هذا كله إلا اعتمادًا على قوة هؤلاء الأجانب، فقد تواطأ واتفق معهم على
اقتسام السلطان ، والنفوذ بينه وبينهم في مهد الإسلام من غير مشاورة أحد من
أصحاب الزعامة والسلطان كالأمراء والأئمة، ولا من أهل العلم والرأي في هذه
الأمة.
فهو بهذا وذاك قد أدخل النفوذ الأجنبي غير الإسلامي في الحجاز، وجعله
ملكًا سياسيًّا حربيًّا معرضًا للغزو والقتال، ولم يقف عند حد هاتين الجنايتين
الخارجيتين، بل استبد وظلم، وألحد في الحرم، كما نثبت ذلك بالحجج الآتية،
ولا غرض لنا إلَاّ بيان الواقع؛ ليعلم أمراء العرب وزعماؤهم. وعلماء المسلمين
وكبراؤهم ، ما يجب عليهم من تغيير المنكر ، ومنع الخطر المنتظر ، ولو بإقناع
هذا الرجل بما يجب ، وإقناع الحكومة الإنكليزية بترك معبد المسلمين الأكبر وقبلتهم
لهم ، وعدم تصديها لها بحيل المعاهدات وغيرها ، ونرى أن هذا خير لنا ولها من
ضم العداوة الدينية إلى العداوة السياسية ، وهذا ما نريد بيانه من الوثائق وقد سبق
نشر بعضها.
***
وثائق الجناية الأولى
وضع الحجاز تحت النفوذ والسلطان الأجنبي
الأولى مقررات النهضة:
من المعلوم المشهور أن هذا الرجل يسمي خروجه وثورته التي هي افتيات
على العرب والإسلام (بالنهضة) ، ومن أعياده الرسمية (عيد النهضة) ومن
أوسمته الملكية (وسام النهضة) ، ويسمي المواد التي عرضها على الدولة البريطانية
والتزمها وقيد نفسه وأمته وبلادها بها بغير حق ولا أهلية (مقررات النهضة)
و (أساس النهضة) ، وقد كان يكتم هذه المقررات ويضن بها على كل أحد حتى أولاده
قواد جيش ثورته - حتى إذا ما فثئت الحرب ، وجاء وقت اقتسام الغنائم ، ومنها
حصته من السلطان على البلاد العربية كلها في ظل الحماية البريطانية، أنكرت
عليه حليفته بريطانية العظمى ما يدعيه لنفسه منها - فحينئذ - سمح بإعطاء ولده
الأمير (فيصل) صورة (مقررات النهضة) ؛ ليناضل له بها، وقد اقتضت الحال
نشره إياها باسمه في جريدة المفيد التي كانت تصدر في دمشق على عهد إمارته لها،
ونقلتها عنها صحف كثيرة في مصر والهند وغيرها، وهذا نصها:
(1)
تتعهد بريطانيا العظمى بتشكيل حكومة عربية مستقلة بكل معاني
الاستقلال في داخليتها وخارجيتها ، وتكون حدودها شرقًا من بحر خليج فارس، ومن
الغرب بحر القلزم والحدود المصرية والبحر الأبيض، وشمالاً حدود ولاية حلب
والموصل الشمالية إلى نهر الفرات ، ومجتمعة مع الدجلة إلى مصبها في بحر فارس
ما عدا مستعمرة عدن فإنها خارجة عن هذه الحدود. وتتعهد هذه الحكومة برعاية
المعاهدات والمقاولات التي أجرتها بريطانيا العظمى مع أي شخص كان من العرب
في داخل هذه الحدود ، بأنها تحل في محلها في رعاية وصيانة تلك الحقوق وتلك
الاتفاقيات مع أربابها أميرًا كان أو من الأفراد.
(2)
تتعهد بريطانيا العظمى بالمحافظة على هذه الحكومة وصيانتها
من أي مداخلة ، بأي صورة كانت في داخليتها، وسلامة حدودها البرية والبحرية من
أي تعد بأي شكل يكون ، حتى ولو وقع قيام داخلي من دسائس الأعداء أو من حسد
بعض الأمراء فيه تساعد الحكومة المذكورة مادة ومعنى على دفع ذلك القيام لحين
اندفاعه ، وهذه المساعدة في القيامات أو الثورات الداخلية تكون مدتها محدودة؛ أي:
لحين يتم للحكومة العربية المذكورة تشكيلاتها المادية [2] .
(3)
تكون البصرة تحت إشغال العظمة البريطانية لحينما يتم للحكومة
الجديدة المذكورة تشكيلاتها المادية ، ويعين من جانب تلك العظمة مبلغ من النقود
يراعى فيه حالة احتياج الحكومة العربية ، التي هي حكمها قاصرة في حضن
بريطانيا ، وتلك المبالغ تكون في مقابلة ذلك الإشغال.
(4)
تتعهد بريطانيا العظمى بالقيام بكل ما تحتاجه ربيبتها الحكومة العربية
من الأسلحة ومهماتها والذخائر والنقود مدة الحرب.
(5)
تتعهد بريطانيا العظمى بقطع الخط من مرسين أو ما هو مناسب من
النقط في تلك المنطقة؛ لتخفيف وطأة الحرب عن البلاد؛ لعدم استعدادها اهـ.
فملخص هذه المقررات: أن الدولة الإنكليزية هي صاحبة البلاد العربية ،
وأنها بما لها من حق التصرف فيها تؤسس لواضعها (أمير مكة) حمايتها في داخلها
وخارجها، حتى لو حصل قيام داخلي على ملكها في حرم الله تعالى أو حرم رسوله
صلى الله عليه وسلم كان على الإنكليز أن يساعدوه مادة ومعنًى على قمعه، ويدخل
في هذا إدخال جيوشها في الحرمين الشريفين؛ لأجل حفظ ملكه فيهما.
فما تقولون أيها المسلمون فيمن يعطي هذه الحقوق لدولة غير مسلمة في
الحرمين الشريفين وسياجهما؟ هل هو مشروع موافق لتلك الآيات القرآنية،
والأحاديث النبوية، والوصية المحمدية، والأحكام الإسلامية، التي ذكرناكم بها في
مقدمة هذا الخطاب؟ أم هو جناية على الحرمين وسياجهما ومشاعرهما ، وعلى
الملة الإسلامية والأمة العربية فيجب عليكم السعي لإزالتها؟
إن الدولة البريطانية قد سجلت على هذا الرجل كل ما اعترف لها به من
الحقوق على أمته وبلادها في هذه المقررات وغيرها، ولكنها لم تجبه إلى كل ما
طلبه لنفسه منها، بل استثنت سورية الشمالية من المملكة العربية لأجل حليفتها
فرنسة، وحملته على الاعتراف بحقوق لها في سائر العراق، فلم تقنع بولاية البصرة
التي سمح لها من تلقاء نفسه.
***
الوثيقة الثانية
كونه موظفًا بريطانيًّا
إن هذا الرجل هو الذي انفرد بإعطاء الدولة الإنكليزية الحق بأن تؤسس له
دولة عربية تكون تحت حمايتها، وفي حكم القاصر في حضانتها، وهو الذي اختار
لنفسه أن يكون من جملة رؤساء الممالك المنضوية إلى كنف إمبراطوريتها، وكم
في هذه الإمبراطورية من ممالك تسمى مستقلة، وكم فيها من أمراء وملوك
وسلاطين ، فلا غرو ولا عجب منه إذا صرح ونشر في جريدته (القبلة) ما
يصرح بأنه عامل موظف عندها ، وأنه هو وأولاده كالبلاد رهن تصرفها ، ونكتفي
بشاهدين على ذلك من جريدته القبلة:
(الشاهد الأول) :
لما علم هذا الرجل أن الحكومة البريطانية قررت عرض مطالبه على مؤتمر
الصلح ، وإعطائه ما يقرره المجلس ، أرسل كتابًا منه إلى نائب ملكها بمصر
بتاريخ 20 ذي القعدة 1336 نشره بعد ذلك مرارًا في جريدة القبلة ، وقد جاء فيه ما
نصه:
(فإن كان ولابد (؟) من التعديل فلا لي (؟) سوى الاعتزال والانسحاب ،
ولا أشتبه في مجد بريطانيا أن يتلقى هذا منا إلا أنه أمر (؟) يتعلق بالحياة، لا
لقصد عرضي، ولا لفكر غرضي، وإنها لا ترتاب في أني وأولادي أصدقاؤها
الذين لا تغيرهم الطوارئ والأهواء، ثم تعينوا (؟) البلاد التي تستحسن إقامتنا
فيها بالسفر إليها في أول فرصة) .
(وإن رأت ذلك ولكن مشاكل الحرب الحاضرة تقتضي بتأجيله إلى ختامها،
فحقوق الوفاء والجميل يفرض علينا الثبات أمام ما سيتضاعف علينا من التهمات
ونحوه من العموم ، مما لا مقاومة لدينا أمامها إلا حُسْنَ النية، فالأمر إليها) .
(أما عطف الأمر وتعليقه بمؤتمر الصلح فالجواب عليه من الآن بأنه لا
علاقة لنا به ، ولا مناسبة بيننا وإياه حتى ننتظر منه سلبًا أو إيجابًا، ولو قرر
المؤتمر المذكور إضعاف مقرراتنا ، وكان ذلك من غير وساطتكم وقبلناها فنكن
(؟) من المطرودين من رحمة الباري جل شأنه الرقيب على قولي هذا) اهـ.
نقلنا هذا بحروفه حتى أغلاطه اللفظية عن العدد 391 من جريدة القبلة الذي
صدر بمكة المكرمة في 23 رمضان سنة 1338 ، وهو نص في جعل هذا الرجل
إخلاصه في التابعية البريطانية تعبدًا ، وأنه يقبل من الدولة الإنكليزية نفيه مع
أسرته من وطنه ، ولا يقبل من سائر الدول إضعاف مقررات استقلال الحماية
لمصلحة الأمة ، بل يعده كالكفر بالله والطرد من رحمته! ! !
(الشاهد الثاني) :
إنه قد استقال في هذا الكتاب من منصبه (ملك الحجاز) لدى الدولة
البريطانية استقالةً معلقةً ، ويظهر أنه قد رفع استقالته إلى الحكومة البريطانية بلندن
مباشرةً بعد الاستقالة الضمنية بهذا الكتاب كما يفهم من نص البرقية الآتية التي
أرسلها إلى مدير جريدة التيمس الإنكليزية يتوسل بها إلى قبول استقالته التي
تكررت ، وهذا نصها منقولاً من العدد 553 من جريدة القبلة:
المدير العمومي لصحيفة التيمس
(اطلعت على عددكم المشتمل الرد والقدح باتحاد العرب والتزامكم أحد
أمرائهم [3] ولزيادة إقناع حكومة جلالة الملك وإيضاح الحقيقة لعموم الشعب النجيب
البريطاني أكرر بهذا طلبي بواسطتكم من حكومة جلالته تأكيد تعيين الأمير المذكور
أو من تراه ليستلم البلاد فإن غايتي الراحة العمومية وخدمتها كما يعلم من أساسات
قيامي وشرائطه يؤيده طلبي هذا المثبت للحقيقة من سائر وجهاتها) .
وهذا نص صريح قطعي في اعتراف الملك حسين بأنه تابع للحكومة
الإنكليزية وخادم لها ، وبأنها هي صاحبة الحق في عزله وتولية من تشاء على
الحجاز وغيره من بلاد العرب، وبأن هذا من (أساسات قيامه وشرائطه) يعني ما
يسميه مقررات النهضة، ولو لم يكن له إلا هذه الخزية لما احتيج إلى حجة غيرها
على جعل الحرمين الشريفين تحت السيادة البريطانية ، ومن ضمن مستعمرات
التاج البريطاني، وكفى بذلك عداوة وإهانة للإسلام والمسلمين كافة، وإضاعة
لاستقلال العرب خاصة، توجب على مجموعهم التعاون على إزالة هذا المنكر
الأكبر والخطر الأعظم، فإن لم يفعلوا كانوا كلهم عصاة لله تعالى هادمين لأركان
دينه ، ومحقرين لما أوجب عليهم من حفظ شعائره ومشاعره.
***
الوثيقة الثالثة
المعاهدة الجديدة:
خاب أمل هذا الرجل في الإنكليز ، فلم يجعلوه ملكًا على جميع البلاد العربية
بقوتهم وسلطانهم كما اقترح عليهم في (مقررات النهضة) والحجاز وحده لا يشبع
مطامعه، وليس من مصلحة الإنكليز أن يقاتلوا أمراء جزيرة العرب لأجل
إخضاعهم له ، وتحقيق جعله ملكًا عليهم ، ولا أن يجعلوه حاكمًا من قلبهم على
العراق وفلسطين، لأنه على خضوعه لهم ليس عنده لين ولده فيصل ومرونته،
ولا فرق ولده عبد الله واستسلامه، وقد جعلوا الأول ملكًا على العراق؛ ليروض
لهم صعاب الشيعة الجامحة بشهرة نسبه وخلابة لسانه، ويسلس لهم قيادة رؤساء
الجند وزعماء الشعب ، بدماثة نفسه وجود بنانه ، وجعلوا الثاني أميرًا على شرق
الأردن؛ ليكف عن فلسطين عادية قبائل العرب ، ويمكن لهم السلطان في هذه
المنطقة؛ فيؤسسوا فيها حظيرة الطيارات التي هي العمدة الأخيرة لهم في تذليل
جزيرة العرب وأمثالها ، بدون نفقة كبيرة ولا سفك دماء من جندهم ـ ويمهدوا
بنفوذه في البدو طرق السيارات والدبابات في قلب البلاد العربية؛ تمهيدًا لما
سيشرعون به من مد سكة الحديد العسكرية الحربية بين فلسطين والعراق ليتصل
البحر الأحمر بخليج فارس، ولقد صدق عليه وعلى أخيه ظن وزير المستعمرات
البريطانية، فيما ضمنه لحكومته وأمته من تقليل نفقات الاستيلاء على هذه البلاد
العربية، ولكن أباهما لا يرضيه إلا أن يكون هو ملك البلاد العربية كلها كما لقب
نفسه، فهو ما زال يلح ويلحف في مطالبة الحكومة البريطانية بإنجاز وعدها له على
ما فيه، وما زالت تعرض عليه ما لا يرضيه، حتى جاءه الدكتور ناجي الأصيل
مندوبه لديها في شهر رمضان الماضي (سنة 1341) بالمعاهدة الجديدة فرضي بها ،
وأعلنها بمكة المكرمة في عيد الفطر ، وأمر بأن يكون يوم إعلانها عيدًا سياسيًّا
للأمة العربية بأسرها، وأمضاها بالتوقيع الابتدائي مع طلب تعديل جزئي غير
جوهري في بعض موادها غير الأساسية.
وإننا نذكر هنا أهم مقاصدها السياسية ، المنافية لمصلحة العرب والإسلام
المؤكدة لما تقدم من جعله الحجاز تحت سيادتها وحمايتها بمنتهى الإيجاز معتمدين
على ترجمة ما نشرته حكومة فلسطين الإنكليزية من الخلاصة الرسمية لها، وهي:
أهم غوائل المعاهدة الحجازية البريطانية:
(1)
(تنص المادة الأولى على منع استعمال بلاد كل من الحكومتين قاعدة
لأعمال موجهة ضد الحكومة الأخرى) هذا نص الخلاصة الرسمي ، وفيه الغنم
للإنكليز، والغرم على العرب وغيرهم من المسلمين، فهي تسلب أهل البلاد
وغيرهم من حجاج الآفاق حرية التعاون والتشاور هنالك في أي مصلحة لهم في
دينهم ودنياهم ، تعدها الدولة البريطانية (ضدها) وإن كانت خاصة بمصالح
المسلمين الدينية؛ كاضطهادها إياهم أو ظلمهم في أمر يتعلق بدينهم كالحج نفسه،
وما زال المستعمرون للبلاد الإسلامية يخافون أن يستيقظ المسلمون من رقادهم
الاجتماعي والسياسي ، ويتعاونوا على مصالحهم الإسلامية المشتركة في هذا المجمع
العام، عند بيت الله الحرام، فأعطى الملك حسين كبراهن المسلطة على زهاء مائة
مليون مسلم مأربها، وليس لأهل الحجاز ولا لغيرهم من العرب أو المسلمين ولا
للملك حسين أدنى فائدة في مقابلة هذه الغائلة، فإن الحكومة البريطانية لا تستطيع
أن تمنع أهل بلادها مثل هذه الحرية ، الذي يتعهد ملك الحجاز بمنعها منه؛ إذ يرى
أنه مالك لرقاب أهله ونواصي كل من لا حامي له من دول الأجانب ممن يحج بيت
الله فيه، فإن الحرية في بلاد الإنكليز أقوى من كل معاهدة تعقدها أي حكومة فيها،
ولكن ملك الحجاز يظن أن حكومة الإنكليز تستطيع أن تعمل في لندن وليفربول كل
ما يستطيع هو أن يفعله في أهل مكة وجدة المستضعفين المستعبدين.
على أن الإنكليز أبرع خلق الله في التفصي من قيود المعاهدات التي يعقدونها
مع الدول الكبرى بالتاويل كما قال أعظم ساسة أوربا في عصره: البرنس (بسمارك)
فكيف يبالون بضعيف رضي لنفسه ولقومه سيادتهم عليهم؟ فإذا فرضنا أن بعض
الإنكليز في بلادهم ، أو بعض رعاياهم من مسلمي الهند قاموا بعمل ضد حكومة
الحجاز ، ولم تمنعهم حكومتهم، فهل يستطيع ملك الحجاز أن يثبت ذلك ويكره
الحكومة الإنكليزية على منعهم؟ لا، لا، لا.
(2)
من قضايا المادة الثانية تعهد ملك الإنكليز بتعضيد استقلال البلاد
العربية التي اعترف باستقلالها، بالمعنى الذي لا ينافي الانتداب ، ولا الحماية بدليل
كون فلسطين والعراق منها، وهذا التعهد يعطيه حق التدخل في شؤون هذه البلاد
الداخلية باسم التعضيد ومنها الحجاز واليمن ونجد، كما جعلت حكومته وحكومة
فرنسا لأنفسهما حقًّا في عزل ملك اليونان ، بحجة أنهما وعدتا بتعضيد استقلالها، وأن
أعمال ذلك الملك تنافي الاستقلال.
(3)
تتضمن هذه المادة إقرار الانتداب على العراق وعلى فلسطين أيضًا،
وعبر عن هذا فيها بأن ملك الحجاز (يعترف بالمركز الخاص الذي لملك الإنكليز
فيهما) وما هو إلا الانتداب ولوازمه، ومنه الاعتراف بعهد بلفور في جعل هذه
البلاد وطنًا لليهود، وتتضمن فوق هذا تعهد ملك الحجاز ببذل غاية جهده في
التعاون مع ملك الإنكليز ، على القيام بتعهداته في البلاد العربية (ومنها عهد بلفور
والاتفاق مع فرنسة على سورية) .
(4)
في المادة الخامسة (يتعهد صاحب الجلالة البريطانية بأن يصد بجميع
الوسائل السلمية والممكنة أي اعتداء ، يقع على بلاد جلالته الهاشمية ضمن الحدود
التي تقرر نهائيًّا) وهذا نص صريح بإعطاء الإنكليز حق حماية الحجاز ، ولهذا
صرح الملك حسين بأن هذه المعاهدة مبنية على أساس مقررات النهضة ، وسيأتي
نص عبارته في هذا.
(5)
تنص المادة السادسة على تعيين وكلاء سياسيين ، وقناصل للإنكليز
في الحجاج ، وفي البلاد البريطانية للحجاز ـ والحجاز في غنى عن هذا التدخل
الأجنبي السياسي بما سيجيء بعد.
(6)
يعترف ملك الحجاز في المادة السابعة للإنكليز بحق الحجر الصحي
على حجاج الشرق والجنوب، ويعترف له ملك الإنكليز بالتدابير المتممة لذلك في
ثغور الحجاز، وفي كل من الأمرين سيادة لملك الإنكليز على الحجاز ، وتحكم في
الحجاز، فإن القانون الدولي يعطي لكل دولة الحق بأن تحجر على الموبوئين ،
الذين يريدون دخول بلادها، وملك الحجاز أعطى حقه هذا للإنكليز ، واستمد من
ملكهم حق الأعمال المتممة له في بلاده هو؛ أي: الحجاز ، ولم يسمح بمثل الحق
للحكومة المصرية الإسلامية، وما ذلك إلا أنه يعد نفسه تابعًا للدولة البريطانية كما تقدم
في الوثائق السابقة.
(7)
يتعهد ملك الحجاز في المادة الثامنة بأن لا يتدخل في التدابير التي
يتخذها ملك الحجاز للاعتناء بالحجاج، ويتعهد ملك الحجاز بتعضيد المساعي التي
يبذلها مسلمو الرعايا البريطانيين؛ لمساعدة الحجاج في الحجاز، فالأول مبني على
الاعتراف بسيادة ملك الإنكليز على الحجاز؛ إذ لا معنى لتعهده بعدم التدخل في
أمر الاعتناء بالحجاج ، إلا أن هذا وأمثاله من حقه وقد أباحه لملك الحجاز،
والثاني مما أنكر ملك الحجاز مثله على الحكومة المصرية؛ إذ أرسلت مع ركب
الحج المصري بعثة طبية ، فلم يقبلها محتجًّا بأن قبولها ينافي الاستقلال ، أليس معنى
هذا أن استقلاله واقع في ضمن دائرة الإمبراطورية البريطانية التي تضم
كثيرًا من المستعمرات التي تسمى مستقلة؟
(8)
المادة التاسعة (تنص على تعيين مبلغ محدود يفرض على كل حاج)
وهي معترضة من ثلاثة أوجه:
(أحدها) : أن ضرب إتاوة أو غرامة على كل من يحج بيت الله تعالى
محرم في الشريعة الإسلامية بالإجماع ، يدخل في عموم قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا
أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ} (البقرة: 188) وعموم {وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناًّ قَلِيلاً
وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} (البقرة: 41) فقد قال تعالى في شأن بيته: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} (آل عمران: 97) وهو كفرض الضرائب على الصلاة والصيام، ومن يستحل
ذلك يعد مرتدًّا عن الإسلام، ويعد أيضًا من الصد عن سبيل الله، ويدخل في عموم
قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ
لِلنَّاسِ} (الحج: 25)
…
إلخ.
(ثانيها) : أن وضع هذا التعدي على شرع الله ودينه ، وحجاج بيته
الداخلين في أمانه ـ في معاهدة مع دولة غير إسلامية ، لا يعقل له سبب إلا
الاستعانة بها على تنفيذه، والاعتماد على حمايتها في قهر جميع المسلمين على
الإذعان له.
(ثالثها) : أنه قد يكون مثار فتن بين الحكومات الإسلامية وبين ملك
الحجاز ، تؤدي إلى تدخل هذه الدولة الحامية في الحجاز؛ لتنفيذ عمل محرم في
الإسلام يعد مستحله والراضي به كافرًا خارجًا منه. ذلك بأنه إذا امتنع حجاج نجد
واليمن وتهامة من جيران الحجاز عن دفع هذه الضريبة ، فلا سبيل إلى تنفيذها إلا
أن يجبرهم ملك الحجاز عليها أو يصدهم عن أداء الفريضة بقوة السلاح وهو غير
قادر على ذلك بنفسه ، فإذا قاوموه وحاولوا دخول الحرم بالقوة ، لا يكون له معول
في صدهم إلا على إرسال الجند البريطاني؛ ليحيطوا بالحرم الشريف؛ ويصدوا
عنه هؤلاء الحجاج ، تنفيذًا لهذه المعاهدة ولمقررات النهضة.
(9)
المادة الحادية عشرة وما بعدها إلى السادسة عشرة ، في امتيازات
قضائية للدولة البريطانية في الحجاز ، تنافي الاستقلال الصحيح وتنفيذ الشرع
الإسلامي فيه، وتؤكد ما تقدم بيانه.
هذه بعض غوائل هذه المعاهدة ومفاسدها، وقد انفرد هذا الرجل المستبد في
حرم الله تعالى بالتعاقد مع الإنكليز عليها، كأن حرم الله تعالى وحرم رسوله ملك له
يتصرف فيه كما يشاء ، لا يتقيد بنص شرعي ولا بمشاورة أحد من أمراء المسلمين
وعلمائهم. فإن قيل: إن المعاهدة لما تمض وتوضع موضع التنفيذ. قلنا: نعم،
ولكن السبب الأول لذلك هو رفض الفلسطينيين لها، ولا تزال المفاوضات بين هذا
الرجل وبين الإنكليز دائرةً في حل المسألة الفلسطينية لأجل تنفيذها، والراجح أن
مجيئه إلى فلسطين يقصد به قبل كل شيء إقناع أهلها بنص خادع فيها؛ إذ لم
ينخدعوا بالنص الأول.
***
الوثيقة الثالثة
اتخاذ يوم إعلان هذه المعاهدة عيدًا
جاء في العدد 688 من جريدة القبلة الذي صدر بمكة المكرمة في 5 شوال
سنة 1342 بعد بيان الاحتفال الرسمي بعيد الفطر ما نصه:
عيد على عيد
إعلان استقلال العرب ووحدتهم في جميع الجزيرة العربية
ولما استقر بجلالة المنقذ المقام، في بهو الاستقبال العام، مثل بين يدي
جلالته الأشراف والسادة العلماء ، والأعيان والوجهاء وأماثل الأمة على اختلاف
طبقاتها حاضرها وباديها، وحينذاك تفضل جلالته ، ففاه بخطاب ملوكي سامٍ، حمد
الله فيه وأثنى عليه ، ثم أشار إلى أن هذا العيد المبارك لا شك في تضاعف يمنه
حيث صادق قبول المراجع الإجابية [4] لجميع المطالب العربية، فلا ريب في أنه
يوم اجتمع فيه عيدان: عيد الفطر السعيد ، وعيد الاعتراف باستقلال العرب
ووحدتهم ، وعليه فجلالته يعلن ذلك للأمة العربية حاضرها وباديها، وعلى أثر ذلك
أمر جلالته صاحب الإقبال رئيس الديوان العالي ، أن يلقي في ذلك المحفل الجليل
الخطاب الملوكي الهاشمي الآتي وهذا نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
(نصرح في هذا العيد المبارك بمآل المعاهدة العربية البريطانية ، المؤسسة
على مقرراتنا الأساسية والتي يعترف بها صاحب الجلالة البريطانية لنا ، باستقلال
العرب بجزيرتهم وسائر بلادهم، ويتعهد لنا حشمته الملوكية بالمعاضدة الفعلية؛
لتأسيس الوحدة العامة الشاملة ، لكل هذه البلاد بما فيها العراق وفلسطين وشرق
الأردن وسائر البلاد العربية في جزيرة العرب (ما خلا عدن) فنأمر أن يعتبر هذا
اليوم المبارك عيد الاعتراف باستقلال الأمة العربية والله ولي التوفيق) انتهى.
هذا نص خطاب الملك الرسمي بحروفه، وقد نشرت جريدة القبلة عقبه خطابًا
ألقاه الدكتور ناجي الأصيل ، سمسار هذه الخديعة ، وحسبنا التصريح الرسمي من
الملك حسين بأن هذا الاستقلال مبني على أساس نهضته؛ أي: حماية الإنكليز لبلاد
العرب ووصايتهم على أهلها ، كما علم من الوثيقة الأولى ، ولكن الناس يغفلون عند
القراءة فيظنون أن المراد الاستقلال الحقيقي المطلق من كل قيد.
ولهذا يتعجب بعضهم من تصريحه هو وأولاده وجريدته (القبلة) تسمية
العراق وشرق الأردن مستقلة ، فليس معنى الاستقلال عندهم ، إلا جعل الدولة
الإنكليزية إياهم ملوكًا وأمراءً في البلاد العربية تحت حمايتها؛ إذ يعدون هذه البلاد
ملكًا لها. فلو سمي عبد الله أو أخوه زيد ملكًا على سوريا؛ أي: المدن الأربع
منها صارت مستقلةً عندهم، وصار الانتداب مساعدةً ومحالفةً في عرفهم.
***
الوثيقة الرابعة
خداع أهل فلسطين
بينا أن المعاهدة العربية البريطانية مشتملة على إقرار الانتداب وعهد بلفور
ضمنًا ، ولكن الملك حُسَيْنًا قد أرسل البرقية الآتية إلى أهل فلسطين ونشرت في
جرائدها والجرائد المصرية وهذا نصها:
إلى عموم أهالي فلسطين
رغبةً في وقوفكم على الحقيقة ، وضرورة إعلانها للعموم ، لقد صرحنا
في هذا العيد المبارك بمآل معاهدتنا العربية البريطانية ، المؤسسة على مقرراتنا
الأساسية التي يعترف بها صاحب الجلالة البريطانية لنا باستقلال العرب في
جزيرتهم وسائر بلادهم ، ويتعهد لنا حشمته الملوكية بالمعاضدة الفعلية لتأسيس
الوحدة العامة الشاملة ، لكل هذه البلاد بما فيها العراق وفلسطين وشرق الأردن ،
وسائر البلاد العربية في جزيرة العرب ما خلا عدن. وهذا من منن الباري علينا،
وعلى عظمتها بالوفاء بمواعيدنا وأقوالنا للعرب رغمًا عما نسبوني، وعظمتها إليه ،
من هضم حقوقهم وكل ما يرمونا به ، ولا نشك أن هذا العيد المبارك سيعتبر أيضًا
عيدًا ميمونًا باستقلال الأمة العربية ، ولا أحتاج لتحذيركم عن إحداث أي شيء يخل
بالراحة والسكون بأي صورة كانت ، لما في ذلك من ضياع الحقوق ، فإنكم
المسؤولون عن ذلك وباقي المعاملات تردكم عقب هذا.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
حسين
هذه البرقية هي التي حملت حكومة فلسطين الإنكليزية الصهيونية على نشر
خلاصة المعاهدة ، التي كان الملك حسين قد كتمها ، وأراد إقناع أهل فلسطين
وسائر العرب بقبولها ، والإذعان لها ثقةً ببيانه هو ـ كما فعل بمقررات النهضة
منذ بدأ بالثورة فكانت جريدته (القبلة) ، وجريدة الكوكب التي أنشأها الإنكليز
بمصر وغيرها من الجرائد المستأجرة للإنكليز ، يُذِعْنَ في العالم أن الأمة العربية قد
ضمن لها استقلالها ، وإعادة مجدها بولائها لإنكلترة وحلفائها.
ولما نشرت خلاصة المعاهدة ، وعلم أنها مقررة للانتداب لا نافية له بلغ
رئيس اللجنة التنفيذية للمؤتمر الفلسطيني الملك حسين ذلك ، فأجابه الملك ببرقية
هذا نصها: (أحسنوا الظن) وفاته أن اليقين لا ينقض بالظن ، وأن تقليد أهل
فلسطين له وهم على علم بالحقيقة محال ، فهم لم يقبلوا برقيته ولا غيرها ، مما
نشر في جريدته الكاذبة الخاطئة من المكابرة ، وتكذيب حكومة فلسطين وجرائد
العالم
…
بل ألفوا مؤتمرًا قرروا فيه عدم الاعتراف بالمعاهدة ، وبأن ملك الحجاز لا
يملك أن يقرر شيئًا في شأن بلادهم افتئاتًا عليهم ، وبلغوه ذلك هو والدولة البريطانية -
ولا نطيل بنشر ما لم ننشر من الوثائق في ذلك؛ لقرب العهد بها، وعلمنا أنه
لا يكابرنا أحد فيها.
ولقد كان من عجب العقلاء الذي لا ينتهي أن ملكًا ينفرد بوضع نصوص
معاهدة سياسية مع أدهى دول الأرض ، وأحذقهن وأدقهن في استعمال الألفاظ القابلة
للتأويل، ثم إنه يفسر هذه المعاهدة بخلاف المتبادر من نصها ، ويخاطب بذلك أهل
بلاد واسعة؛ ليحملهم على الرضا بإضاعة وطنهم ، وجعل رقبته وحكمه لغيرهم،
ويخطئ كل من يخالفه في ذلك حتى حكومة فلسطين البريطانية ، والجرائد
الإنكليزية - دع العربية وغيرها - ومن شاء فليراجع في ذلك (العدد 690و 696
من جريدة القبلة ، والمنشور الرسمي في العدد 701 الذي يرد به على المصريين
خاصةً. ثم يعلم أنه قد ظهر للعالم كله أنه هو المخطئ فيما فهمه أو ما نشره مخالفًا
لفهمه فيرجع عنه. وجه العجب الذي لم يعرف له نظير أن الملك حُسَيْنًا إن كان قد
نشر ما نشر من تفسيره المعاهدة المخالف لنصها ، وهو يفهم معنى النص فتلك
خيانة توجب عدم الثقة بقوله وعمله وأمانته، وإن كان نشره وهو لا يفهم معناه ،
ولم يفهمه إياه نائبه لدى الدولة البريطانية ، ولا ناظر خارجيته فالمصيبة أعظم؛ إذ
هو حجة على أنه ليس أهلاً لعقد المحالفات ولا لتولي الأحكام ، ولا لنصب العمال -
إذ يكون معتمده لدى الدولة البريطانية ، ووزير خارجيته قد خاناه بكتمان معنى
المعاهدة ، حتى حملاه على التصريح بتضمنها؛ لاستقلال جميع البلاد العربية - ما
عدا عدنا - وبحمل أهل فلسطين على قبولها، ثم ظهر الأمر وافتضح، وبقي
الرجلان موضع ثقته في أعماله السياسية الدولية! .
على أن الظاهر المتبادر هو الأول ، وهو أنه صرح بما صرح به على علم بأنه
عبودية للإنكليز لا استقلال ، كما إنه اغتبط باحتفال ولده الأمير عبد الله باستقلال شرق الأردن ، ونشر ما قيل فيه بجريدته ، وهو يعلم أنها تحت الوصاية البريطانية
والتي لا تنافي الاستقلال عنده بل تقتضيه.
***
طور آخر وتصريح جديد
بعد هذا نشرت جريدته في العدد 732 الذي صدر في 19 ربيع الأول سنة
1342 مقالاً ، ذكرت فيه أنه صرح لبعض الحجاج من البلاد العربية المختلفة بما
يدل على اعتراف بخطئه ، فيما صرح به في أول شوال وما كتبه بمعناه لأهل
فلسطين ، وهو كسائر كلامه المتعارض أو المتناقض وهذا نصه:
(يهمني من جميع البلاد العربية ما يهمني من أمر بيت الله الحرام ، وقد عرضت
على الحكومة البريطانية معاهدةً ، وجدت في بعض موادها ما لم يتفق مع العهود
المقطوعة لي ، التي تأسست عليها أعمال النهضة ، فعدلت تلك المعاهدة تعديلاً هامًّا
نصصت فيه على استقلال فلسطين استقلالاً مطلقًا ، يخول للفلسطينيين إدارة بلادهم
بأنفسهم ، واختيارهم طريقة الحكم التي يريدونها ، وبذلك جعلت وعد بلفور في حكم
أنه لم يصدر، وقضي عليه بالموت ، وفوق ذلك فإنني طلبت في التعديل أنه بعد عقد
المعاهدة ، يؤمر المندوب السامي بفلسطين أن يصرح - بحضور مندوب من قبلي
أمام ممثلي فلسطين - باستقلال الأقطار الفلسطينية استقلالاً تامًّا مطلقًا ، ودخولها
صراحةً في الوحدة العربية طبقًا للعهود البريطانية المقطوعة لي، وأؤكد لكم أنه إذا
لم تقبل الحكومة البريطانية التعديلات التي طلبتها ، فلا يمكن أن أوقع على المعاهدة
بل أرفضها رفضًا باتًّا ، وكونوا على ثقة أنه لا يمكن أن يذهب شبر من أراضي
فلسطين وأنا وأولادي أحياء على وجه الأرض ، فإنا نحافظ على أحقر قرية في
فلسطين محافظتنا على بيت الله الحرام ، ونريق في سبيل ذلك آخر نقطة في دمائنا،
وعلى كل حال فإنني بعد انتهاء أمر المعاهدة ، سأحضر بنفسي إلى أطراف تلك
البلاد ، فإذا ورد جواب لندن على مطالبي بالإيجاب ، أستشيركم في طريقة الحكم
التي تريدونها ، وإذا ورد جوابها بالسلب ، أستشيركم فيما يجب عمله ، وإني أسير
معكم على ما تتفقون عليه، وكونوا على ثقة أنني أنظر إلى أهل فلسطين نظري
إلى أولادي ، ولا أفرق في ذلك بين مسلم ومسيحي ويهودي وطني ، ومن يرجع
من الصهيونيين عن أطماعه البلفورية، وإنني أشهد الله على ذلك، وهو حسبي ونعم
الوكيل) اهـ.
وسنبين غرضه من هذا التصريح عند ذكر نتيجة هذه الوثائق كلها.
***
الجناية الثانية عداؤه لأمراء جزيرة العرب
وتعريضه الحرمين الشريفين للغزو والقتال
لو شئنا لأتينا بوثائق كثيرة من جريدة القبلة ، تثبت هذه الجناية كالمنشورات
الرسمية الصادرة باسم الملك حسين في الطعن بدين أهل نجد وتكفيرهم ، وزعمه
أنه يجب على ولي أمر المسلمين يعني (نفسه) عقابهم الذي يقتضيه الشرع؛ أي:
قتالهم قتال أهل الردة ، وغير ذلك من التحرش بهم والتصريح بعداوتهم ،
والاستعداد لقتالهم والاعتداء عليهم بالفعل: (كمنشور 9 شوال سنة 1336 الذي
نشر في عدد 202 من جريدة القبلة المؤرخ 24 منه - والمنشور الذي نشرته في
غرة ربيع الأول سنة 1337 - والمنشور الذي نشرته في 8 جمادى الأولى سنة
1337) وكالتصريح بغزوه لبلاد عسير بعد وفاة السيد محمد الإدريسي بالقوة
الحربية والفتح الهاشمي ، ولكنا نستغني عن إيراد النصوص في ذلك من أعداد
جريدته ، بالتصريح الأخير الذي بين فيه ما كان يكتمه من معنى الوحدة العربية
عنده ، وهو إخضاع جميع أمراء جزيرة العرب لملكه ، وما يراه من تقسيم البلاد
وإدارة حكومتها بالقوة القاهرة، وهو الوثيقة الخامسة.
***
الوثيقة الخامسة
التفسير الرسمي للوحدة العربية
جاء في صدر العدد 737 من جريدة القبلة الذي صدر بمكة المكرمة في 6
ربيع الآخر سنة 1342 (بيان عام من اللجنة التنفيذية لمؤتمر الجزيرة) بإمضاء
رئيس لجنتها التنفيذية (محمد بن علوي) جعل عنوانه (هذا بلاغ للناس) وذكر
فيه أن اللجنة تشرفت بالمثول بين يدي الملك حسين للوقوف على ما وصلت إليه
القضية العربية ، فصرح لها بأمور أهمها عندنا: تفسيره للوحدة العربية التي ملأ
الدنيا تنويهًا بها ، وانخدع كثير من العرب الذين يصدقون دعايته ، بأنها هي التي
تؤلف بين العرب وتوحد قوتهم - كما انخدعوا بمؤتمر الجزيرة الذي يستخدمه في
ذلك، فتبين الآن من هذا التفسير أن هذه الوحدة عين الفرقة وأنه لا غرض له من
هذه الدعاية إلا إذلال العرب والاستيلاء عليهم بقوة الأجانب الحامين له، وطالما
بين الناصحون العارفون هذا قولاً وكتابةً - ولا سيما المنار - فارتاب في نصحهم
الخادعون والمخدعون وعدوه عداوةً شخصيةً له، حتى صدقهم الملك حسين نفسه،
وهذا نص تصريحه بحروفه:
(إن نهضتي عندما آن أوانها الذي قضت به قدرته جل شأنه ، قبل خلق
العالم وكرتنا بما فيها من موجوداتها قد رسمتها على الأساس الآتي: وهو وحدة
البلاد العربية واستقلالها ، بحيث تكون خارجيتها وعسكريتها وسياستها العامة واحدة
أما داخليتها فالإمارات المعروفة بجزيرة العرب تكون على ما كانت عليه قبل
الحرب ، وإن كل أمير في أي أمارة من هذه الإمارات الموروثة لهم من آبائهم
وأجدادهم ، يستقل بداخليته ضمن الحدود التي كانت عليها إمارته قبل الحرب،
بشرط أن يرتبط مع المجموع الذي كل من خرج عنه منهم أو شذ بالخروج عن
الجامعة العربية يحكم عليه المجموع بمقتضى قوله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي حَتَّى
تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} (الحجرات: 9) . وأما ما كان خارجًا عن حدود تلك الإمارات
، سواء كانت تلك الإمارات قائمة بذاتها ضمن حدودها ، أو طرأ عليها الاغتصاب
كعسير قبل الحرب وابن رشيد بعد الهدنة ، فلا بد من عودتهم إلى ما كانوا عليه
كعودة الإمام يحيى إلى صنعاء فيكون أمرها (أي: تلك المقاطعات بما فيها الحجاز
الخارجة عن حدود تلك الإمارات) منوطًا برأي عموم أهاليها ، يعينون رياساتها
وكيفية تشكيلاتها ، وإداراتها بالشكل الذي يستنسبونه بشرط المحافظة على الوحدة
والارتباط ، وهي القاعدة التي ذكرتها آنفًا) .
وهنا تبرأ مما هو محسوس ومشهود من تهالكه على طلب الرياسة له
ولأبنائه ثم قال:
(وإنني أمقت التداخل الأجنبي وسياسة الاغتصاب ، والاعتداء في داخلية
الجزيرة مما هو مشهود من اغتصاب بعض الأمراء لإمارة إخوانه ، فإنني أجده
من أكبر الفظائع أمام حِسِّيَّاتي المذكورة؛ إذ إن النهضة ومؤسساتها هي لحفظ حقوق
الجميع وليست لتمييز فريق على فريق ، (إلى أن قال بصدد هذا الاعتداء الذي سماه
أجنبيًّا) : (ولذلك فهذه هي الخطة التي عليها نحيا وعليها نموت وعليها نبعث إن
شاء الله من الآمنين ، لذا فلا بد من إعادة آل رشيد وآل عايض إلى إمارتهم
وحدودهم وقبائلهم التي كانوا عليها ، إعادة كل أمير من أمراء الجزيرة إلى ما كان
عليه قبل الحرب ، وإني لثابت (بقدرة الله تعالى) على هذا الحس والشعور أمام
التجاوزات الأجنبية ، إذا أصر أربابها على مطامعهم الحاضرة ، المخالفة لمقرراتهم
(الصواب لمقرراتنا) التي تأسست عليها النهضة ، والمخالفة لكل عدل حتى لما
جاهروا به من بعد ومن قبل ، هذا الذي أدين الله عليه ولو لم تبقَ إلا ذاتي وحياتي
لأنفقتها في هذا السبيل ، لا أريد بذلك جزاءً ولا شكورًا إلا خدمة العرب خاصةً
والإسلام عامةً ، والأعمال بالنيات (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) اهـ.
هذا نص ألفاظ الملك حسين حتى إننا لم نصحح كلمة (لمقرراتهم التي
تأسست عليها النهضة) مع القطع بأن لفظ لمقرراتهم غلط من المطبعة ، أو سبق
لسان أو قلم منه لأن (مقررات النهضة) له لا لأولئك الأجانب في عرفه وهم
أمراء العربية. ويتلخص هذا التصريح بالأمور الآتية:
(1)
جعل جميع البلاد العربية (وهو يسمي نفسه ملكها) دولة واحدة ،
تكون سياستها الخارجية وعسكريتها وإدارتها العامة واحدة.
(2)
تغيير شكل إمارات جزيرة العرب الحاضرة بانتزاع بلاد حايل وعشائر
شمر من سلطنة نجد ، وإعادتها إلى آل الرشيد - وانتزاع بلاد عسير التي كانت
لآل عايض من سلطنة نجد ، وإمارة الإدريسي وإعادتها إليهم - وانتزاع إقليم
الحديدة من الإدريسي ، وجميع ما بيد الإمام يحيى ، مما كان للدولة العثمانية من بلاد
اليمن ، واستشارة أهل هذه البلاد كالحجاز في شكل الإدارة التي يحبون أن تكون
في بلادهم ، واختيار رؤسائها في ظل وحدته.
(3)
إعطاء إمارات الجزيرة الموجودة الموروثة حق الإدارة الداخلية ،
بشرط الخضوع لملك العرب العام ، واتباعه في السياسة الخارجية والعسكرية
والإدارة العامة.
(4)
أن من يأبى الخضوع لما تقدم يعد خارجًا عن أمر الله وحدود دينه ،
فيقاتل قتالاً دينيًّا ، حتى يرجع إلى أمر الله (يعني: أمره هو بما ذكر؛ إذ لم يأمر
الله بذلك) .
(5)
أن هذه الوحدة بهذه الصورة الدينية مبنية على مقررات النهضة
المتضمنة لحماية الدولة البريطانية لجميع البلاد العربية.
(6)
أن هذه الكليات الخمس عقيدة دينية للملك حسين يدين الله بها ، فلا
يرجع هو ولا أولاده عنها ، ولو لم تبقَ إلا ذاته وحياته لأنفقها في سبيل تنفيذها.
ولا يخفى أن هذا التصريح الرسمي يتضمن جعل هذه الإمارات كلها في حالة
حرب معه، فعلى أي قوة يعتمد في هذا؟ وهل هو مغرور في اتكاله على نجابة
(الحسيات البريطانية) هذه المرة كما انخدع من قبل ومن بعد على ما نقل عنه
المغرورون بأقواله، أم هو على ثقة من إنجاز وعدها له؟ أم هو متكل على بعض
أهل شرق الأردن وسوريا وفلسطين الرازحين تحت أوزار الوصاية البريطانية
والفرنسية ، لا يملكون من أمرهم شيئًا فيملكوا أن يعطوه قوةً حربيةً ، يقاتل بها أهل
نجد واليمن وتهامة ويخضعوهم لوحدته العربية، أو قوة دينية بمبايعتهم إياه بالخلافة
تخضع بها أمراء جزيرة العرب الثلاثة لأمره ونهيه ، معتقدين أن تلك المبايعة
جعلته إمامهم الشرعي؟ ؟ !
لقد كان أنصار الملك حسين وأولاده من مأجورين ومغرورين ، يزعمون أنه
هو الزعيم الوحيد الذي وجه عنايته للوحدة العربية ، التي لا رجاء في حياة الأمة
العربية وحفظ استقلالها بدونها ، على حين يتقاتل الإمام يحيى والسيد الإدريسي
على حدود بلادهما؛ طمعًا في ربح كل من الآخر ويقاتل السلطان ابن سعود الأمير
ابن الرشيد فيضم بلاده إلى إمارته ، ويعتدي أحيانًا على حدود الحجاز (قالوا) :
فإذا كان الملك حسين هو الساعي إلى الاتفاق الذي يجمع كلمة الجميع ، فيجب على
كل عربي مخلص لأمته أن يشد أزره ، ويجاهد تحت لوائه ويغفر له ما أَلَمَّ أو يُلِمُّ به
من سيئة بإزاء هذه الحسنة الكبرى ، التي هي أم الحسنات ويؤاخذ أولئك الأمراء
حتى على الهفوة، لأنها تؤيد أكبر الكبائر وهي الفرقة.
وكان أهل البصيرة من واضعي أساس الجامعة العربية وغيرهم يقولون
لهؤلاء: إننا كنا ظننا كما ظننتم أن الرجل يريد جمع كلمة العرب على أساس
قاعدتنا المعقولة ، التي أظهر هو وأولاده الموافقة لنا عليها، وهي تحالف أهل
البلاد المستقلة المسلحة على حفظ الاستقلال، والتعاون على عمران البلاد، وتأليف
مجلس تحكيم لحل مسائل الخلاف، والتوسل بهذه الوحدة الحلفية، إلى الوحدة التامة
التي سبقتهم إلى مثلها الشعوب القوية. ثم علمنا بالاختبار الدقيق له، والاطلاع
على أسس نهضته، إنه إنما يسعى لقتل الأمة العربية وهدم استقلالها بمساعدة
الدولة البريطانية ، على ضمها إلى إمبراطوريتها المرنة ، على أن تجعله ملكًا على
البلاد كلِّها تحت وصايتها وحمايتها (كما تقدم في الوثائق السابقة) ، ومن امتناعه
المرة بعد المرة ، عن إجابة ما دعاه إليه مؤسسو الجامعة العربية ، من عقد التحالف
مع أمراء الجزيرة على قاعدتهم التي ذكرت آنفًا ، وكان من أعوانهم لديه على ذلك
ولداه عبد الله وفيصل ، والشواهد والوثائق والدلائل على هذا كثيرة ، أشرنا إلى
بعضها في أول الكلام على هذه الجناية، ولم يبقَ للاستدلال بها حاجة، فقد قطعت
جهيزة قول كل خطيب - أقر الخصم وارتفع النزاع -
كان الملك حسين في أول العهد بالثورة ، يظهر لمؤسسي الجامعة العربية
ودعاة وحدتها موافقتهم على رأيهم ، ويرجئ إجابة دعوتهم ويسوف فيها ، حتى لا
يرتابوا فيه ويعرقلوا عمله ، على حين كان يصرح لمن يعتقد أنهم يخدمونه في
اتفاقه مع الإنكليز ، على استعباد الأمة العربية قائلاً: من هؤلاء الكلاب حتى أتفق
معهم؟ اليوم يوجد في الدنيا ابن سعود ، وغدًا لا يكون في الدنيا ابن سعود، اليوم
يوجد في اليمن إمام مطاع، وفي تهامة إدريسي مملك وغدًا لا يبقى في البلاد غير
ملك واحد وإمام واحد ـ أو ما هذا مآله كما نقله المنار الصادق مرارًا ـ وكان
…
المأجورون والمغرورون يكابرون وينتقدون ، وقد انقطعت اليوم جميع الألسنة
الخادعة والمخدوعة ، التي كانت تكثر اللفظ في تولية الرجل زعامة العرب وتسميته
بملك العرب والبلاد العربية، على تلك القاعدة الكاذبة الريائية.
وقد صرحت إحدى جرائد هذا الحزب بخطته في هذه الأيام ، في سياق بث
الدعوة لزيارته لأطراف سوريا وهي الجريدة التي يعبر عنها في جريدته (القبلة)
بقوله: (لسان حال أقوامنا) وهي تصدر في القدس بماله وما يفيضه عليها ولده
الأمير عبد الله ، ومال الدولة البريطانية التي صرح أحد رجالها بأنهم جعلوها
(مقطم فلسطين) فقد نشر صاحبها مقالة افتتاحية في العدد 465 الذي صدر في 21
جمادى الأولى ، موضوعها (القضية العربية جزيرة العرب ركنها وقوتها) تكلم
فيها على صلابة أهل الجزيرة وقوتهم، وضعف أهل سوريا والعراق ، وسهولة
تغلب خصوم القضية العربية عليهم دون أهل الجزيرة.
ثم بين أن (في الجزيرة ثلاث قوات يجب إحلالها محلها اللائق بها من رعاية
العرب واهتمامهم هي: قوة سلطان نجد ، وقوة إمام اليمن (قال الكاتب) : وكل
منهما ارتجاعية متأخرة، وقوة الحجاز وما يتبع الحجاز من البلاد كالعراق
والشرق [5] ثم صرح بأن الحجاز دون نجد واليمن قوة عسكرية. (قال) : ولكنه
يفوقهما بطشًا واستعدادًا ، إذا ألحقنا به الشرق والعراق فعرب سوريا والعراق
وفلسطين ، يميلون بمصلحتهم وتربيتهم وأخلاقهم وصلتهم؛ لتأييد ملك الحجاز في
سعيه وعمله) .
ثم ذكر أن الجزيرة صارت بعد خروج الترك منها تحت رحمة الحكومات
الثلاث، وأن حكومة نجد توسعت بإزاحة إمارة ابن الرشيد ، وحكومة اليمن
توسعت في الجنوب حتى حضرموت، وأن حكومة الحجاز واقفة موقف المعارضة
لكل منهما ، ولكنها لا تستطيع أن تعمل شيئًا لحاجتها إلى تكوين الاتحاد العربي من
الحجاز والشرق والعراق ، (قال) : (ففي نجد وحدة مكونة، وفي اليمن كذلك،
وأما الوحدة الثالثة أو الاتحاد الثالث فلا يزال في دور التكوين ، ولا يعلم أحد متى
يتم؟ وكيف يكون؟
(قال) : (والذي نراه هو أن حكومات هذا الاتحاد ستقف موقفًا صعبًا أمام
حكومتي الجزيرة في اليمن ونجد ، فلا هي تستطيع التغلب عليهما وإرجاعهما عن
مطامعها إلى الحق والصواب ، ولا يوافقها القبول بما تم؛ لأنه يساعد على اختلال
التوازن في الجزيرة ، وإيجاد عهد حروب ومشاغبات فيها ، وكل حكومة عربية
(مستقلة) تنشأ في سوريا أو العراق ، ولا تتكل على دولة من الدول الأوربية تظل
ضعيفةً مهددةً في حياتها الداخلية ما بقيت نجد في قلق ، ثائرة على كل ما نسميه
نحن نظامًا، وبقيت اليمن في حالتها الحاضرة) اهـ.
هذا بيان صحيح لما يقصده الملك حسين من الوحدة العربية؛ لضرب العرب
واخضاعهم للاستعمار الأوربي ، الذي يظل مهددًا في العراق وسورية ، ما دامت نجد
واليمن قويتين هذا سبب تحبيذ صاحب هذه الجريدة له ، وهو خادم للأجانب ليس
مسلمًا فيغار على الحرمين الشريفين ، ولا من عرق عربي فيغار على العرب وقد
خانهم وغشهم رجال من أشهر بيوتاتهم ، وإنما الذي نخشاه أن ينخدع بعض أهل
بلادنا السورية باسم الوحدة العربية الذي يميلون إليه ، ويريدون منه غير ما يريده
الملك حسين. أما وقد ظهر لهم ما يريده فلن ينال من أحد ذي قيمة منهم تأييدًا ، ولا
تفويضًا ولا مبايعة لسحق قوة العرب (بالاتكال على دولة أجنبية) .
لم يبقَ بعد هذا التصريح الرسمي مجال لحزب مذبذب ، يخدع الناس بقول
الملك حسين باستقلال العرب والوحدة العربية، بل أصبحت الأمة العربية حزبين لا
ثالث لهما: حزب الجامعة العربية الذي يسعى للوحدة العربية ، من طريق عقد
التحالف والتأليف بين الأمراء ، بإقرار كل منهم في بلاده؛ لوقاية البلاد من
المطامع الاستعمارية الغربية ، والتمهيد للاتحاد الاختياري مع التعاون الودي بين
العرب وسائر الشعوب الشرقية، والحزب الشريفي الاستعماري ، الذي يسعى
لإرغام جميع أمراء العرب بالقوة الحربية على التابعية (لملك العرب) بتسليمه
أزمة السياسية الخارجية والقوى العسكرية والإدارة العامة، في ظل السيادة
والوصاية البريطانية.
ومن المعلوم بالضرورة لجميع المشتغلين بالسياسة ، وأولي الإلمام بحال البلاد
العربية أن الملك حُسَيْنًا الذي وضع هذه الخطة من اليوم الأول الذي تصدى فيه
للمسألة العربية ، لا يملك القوة التي يرغم بها أمراء جزيرة العرب عليها ، وأنه
ليس أمامه قوة يعتمد عليها إلا قوة الدولة البريطانية ، وأنه لأجل هذا جعل ما يسميه
النهضة العربية مبنيًّا على أساس الخضوع للسيادة والوصاية البريطانية، فلأجل
هذا سَمَّيْنَا هذا الحزب (الشريفي الاستعماري) ويصح أن يسمى البريطاني؛ أي: الذي يسعى من حيث يدري زعماؤه ويجهل دهماؤه ، إلى جعل الحجاز
وسائر جزيرة العرب كالعراق ، وفلسطين ، وشرق الأردن تحت الوصاية
البريطانية، ويتبع ذلك بقاء سائر سوريا تحت الوصاية الفرنسية أيضًا لاتفاق
الدولتين على ذلك ، وعلى تسميته استقلال.
(له بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
أي: لا يقطع شجره ويقلع حشيشه إلا ما رخص فيه النبي من قلع الإذخر ، لوضعه على الموتى عند الدفن وهو نبات طيب الرائحة.
(2)
توهم واضع هذا القيد أنه احترس به عن جعل الاحتلال دائمًا جهلاً منه باحتلال مصر ، وبأنه لا يمكن له ولا هي تمكنه من إتمام ما ذكر.
(3)
يعني: سلطان نجد؛ إذ كانت التيمس قد أثنت في ذلك العدد عليه.
(4)
هذه الكلمة من الاصطلاحات التركية ، وهي بمعنى أولي الأمر والمراد هنا: الحكومة الإنكليزية؛ لأنها في عرف ملك الحجاز ولية أمر الحجاز ، وسائر العرب والوصية عليهم كما سيأتي.
(5)
من المعلوم قطعيًّا أن العراق وشرق الأردن غير تابعين للحجاز في شيء من أمر الحكومة ، فالمراد: أنهما تتبعانه في قتال أهل نجد واليمن ، وتذليلهما وهذا إنما يكون إذا أمرت به الحكومة البريطانية ، فهل جاء وقته عندها؟ .
الكاتب: محمد أمين الحسيني
تحديد سن الزواج بتشريع قانوني
صدر في أوائل هذا الشهر قانون مصري ، حددت فيه سن الزواج للذكر
بثماني عشرة سنةً ، وللأنثى بست عشرة سنةً ، ومنع فيها سماع القضاة أية دعوى
زوجية ، تقل فيها سن أحد الزوجين عن هذا الحد مطلقًا؛ أي: وإن كانا بالغين
رشيدين.
وقد بني هذا التشريع على قول فقهاء الحنفية ، بجواز تخصيص القضاء في
الزمان والمكان ونوع الأحكام ، بفتوى من مفتي الديار المصرية شيخ الجامع
الأزهر، فاضطرب القطر المصري بهذا القانون أي اضطراب؛ أنكره جمهور
فقهاء الأزهر وما يتبعه من المعاهد الدينية ، فيما يظهر لنا من كلامهم ومن المقالات
التي نشرت في الجرائد، وحسنه وانتصر له الشيخ محمد الخضري بك فرد عليه
بعضهم، وقد سألنا كثير من الفضلاء عن رأينا فيه فبينا لهم أهم ما فيه من المفاسد
الراجحة، وما قصد به من المصلحة المرجوحة، وكون الحكومة العثمانية قد سبقت
الحكومة المصرية إلى مثل هذا التحديد منذ بضع سنين ، فوضعته في مشروع
قانون سموه (قرار حقوق العائلة في النكاح المدني والطلاق) وصدرت إرادة
السلطان محمد رشاد في 8 المحرم سنة 1336 ، بأن يعمل به على أن يكلف
المجلس العمومي (أي: المبعوثين والأعيان) جعله قانونًا ، وذكرت لهم أن ما
وضعه العثمانيون خير مما وضعته الحكومة المصرية وأضمن للمصلحة ، وأبعد
عن المفاسد الكثيرة التي يستلزمها القانون المصري ، ومنها ما هو محرم بالنص
والإجماع، وذكرت لهم بعض المسائل ،وضربت الأمثال وقد تكرر الاقتراح علي
بأن أكتب ما أراه في ذلك ، فرأيت أن أبدأ بما وضعته الحكومة العثمانية ، وهو ما
جاء في اللائحة التي جعلت مقدمة لمشروع القانون المذكور ، مبينة الأسباب
الموجبة له وهذه ترجمته بالعربية:
***
أهلية النكاح
(يرى الإمام أبو يوسف والإمام محمد رحمهما الله أن الذكور والإناث إذا
وصلوا إلى الخامسة عشرة من سني حياتهم ، ولم تظهر عليهم آثار البلوغ يعدون
بالغين حكمًا ، بناء على الغالب والشائع ، وتكون عقودهم معتبرة ، وكذلك الإمام
مالك والإمام الشافعي والإمام أحمد رحمهم الله تعالى كلهم رأوا ذلك. وقد بنيت
المادتان 986 و 987 من المجلة على قول هؤلاء) .
(نعم إن الذين يبلغون الخامسة عشرة من سني حياتهم ، يكونون في الأكثر
بالغين، وقد يوجد فيهم من هم غير بالغين بالفعل؛ أي: إن قواهم البدنية لم تكمل
بعد، فجعل هؤلاء تابعين للأكثرية ومنحهم حقوقًا لا يقدرون على تحملها ، يستلزم
تحميلهم وظائف وواجبات مقابل تلك الحقوق تؤدي في العاقبة إلى ضررهم. وإذا
علمنا أن الشرع الشريف مع إنه اعتبر الخامسة عشرة غاية البلوغ ، لم يستعجل في
إعطاء الصغير ماله عند بلوغه ، بل منعه من التصرف فيه إلى أن تظهر عليه
علائم الرشد والسداد؛ نعلم أنه يتأنى في تحميل الصغار حقوقًا ووظائفًا. والنكاح لا
يقاس على المال؛ لأنه الرابطة لتكون الأسر التي هي أجزاء الجمعية البشرية.
وكلما كانت الأفراد التي تتألف منها الأسرة تقدر حقوق الزوجية حق قدرها ،
تكون الأسرة التي تتألف منها قوية ، ويكون ارتباطها مع الأسر الأخرى صميميًّا
ومتينًا، فاعتبار الصغار بالغين حكمًا لمجرد إكمالهم الخامسة عشرة ، ومنحهم حق
الزواج يستفاد منه أنه لم ينظر إلى النكاح بالعناية اللائقة به.
والذي يستدعي مزيد الرحمة في هذه المسألة هو حالة البنات؛ إذ من المعلوم
أن الزوج والزوجة هما مشتركان في تأليف الأسر (البيوت) وإدارتها ، ففي السن
التي يكون الأطفال فيها معذورين بإضاعة أوقاتهم باللعب في الأزقة ، تكون البنت
في مثلها مشغولة بأداء وظيفة من أثقل الوظائف في نظر الجمعية البشرية ، وهي
كونها والدة ومدبرة أمور أسرة. وإن صيرورة بنت مسكينة لم يكمل نموها البدني
أُمًّا يضعف أعصابها إلى آخر العمر ، ويكسبها عللاً مختلفةً ، ويكون الولد الذي تلده
ضاويًا (ضعيفًا هزيلاً) مغلوبًا للمزاج العصبي ، وذلك من جملة أسباب تدلي
العنصر الإسلامي.
على أن ابن عباس رضي الله عنهما وتابعيه يقولون: إن سن البلوغ هي
الثامنة عشرة ، كما أن بعض أجلة الفقهاء يذهبون إلى أنها الثانية والعشرون ، بل
يوجد بينهم من يقول: إنها الخامسة والعشرون ، والإمام الأعظم رحمه الله قد اعتمد
تمام الثامنة عشرة نهاية لسن البلوغ في الذكور ، وتمام السابعة عشرة نهاية لسن
البلوغ في الإناث احتياطًا وتبعًا لابن عباس رضي الله عنهما، لذلك قبل قول الإمام
المشار إليه هذا في النكاح ، ووضعت المادة الرابعة [1] على هذا الأساس؛ منعًا
لهذه الأحوال التي هي من أعظم مصائب مملكتنا.
(وهذا نصها) :
المادة 4- يشترط في أهلية النكاح أن يكون الخاطب في سن الثامنة عشرة
فأكثر ، والمخطوبة في سن السابعة عشرة فأكثر.
وقد قبل قول الإمام محمد رضي الله عنه باشتراط رضاء الولي في نكاح
المراهقة ، التي تدعى أنها بالغة وتريد أن تزوج نفسها من آخر، وتعليق الإذن لها
بالزواج على إجازة الولي، وقوله بإعطاء الحاكم حق النظر في تحمل المراهق
والمراهقة ، اللذين يريدان التزوج ويدعيان أنهما بالغان ، أو عدم تحملهما للزواج،
كما قرر ذلك جميع الأئمة رضوان الله عليهم، وبنيت المادتان الخامسة والسادسة
على هذا الأساس (وهذا نصهما) :
المادة 5 - إذا ادعى المراهق الذي لم يتم الثامنة عشرة من عمره البلوغ
فللحاكم أن يأذن له بالزواج إذا كانت هيئته محتملة.
المادة 6 - إذا ادعت المراهقة التي لم تتم السابعة عشرة من عمرها البلوغ
فللحاكم الشرعي أن يأذن لها بالزواج ، إذا كانت هيئتها أيضًا محتملة ، ووليها أذن
بذلك.
***
تزويج الصغير والصغيرة
إن الأئمة الأربعة رضوان الله عليهم أجازوا للولي تزويج الصغير والصغيرة ،
ولذلك كانت المعاملة حتى الآن جارية على هذا الوجه ، لكن تبدل الأحوال في
زماننا ، قد اقتضى العمل بأصول أخرى في هذا الباب.
إن أول وظيفة تترتب على الأبوين في كل زمان ، وخاصة هذا الزمان الذي
اشتد فيه التنازع في شؤون الحياة هي: تعليمهم ، وتربيتهم ، وإيصالهم إلى حالة
تكفل لهم الظفر في معترك الحياة ، وتمكنهم من تأليف أسرة منتظمة ، ولكن الآباء
عندنا في الغالب يهملون أمر تعليم أولادهم وترببتهم ، ويخطبون لهم الزوجات وهم
في المهد ، بقصد أن يسروا بهم أو يكسبوهم ميراثًا ، وفي النتيجة يزوج أولئك
التعساء قبل أن يروا شيئًا من الدنيا ، وتكون أعراسهم أساس مصائبهم الآتية.
إن أكثر البيوت التي يؤلفها أمثال هؤلاء الأولاد ، الذين لم يدرسوا في مدرسة
ولا تعلموا كلمة واحدة من أمور دينهم ، فضلاً عن عدم تعلمهم قراءة لغتهم وكتابتها
يحكم عليها بالتفرق من أول شهور الزفاف كالجنين الذي يولد ميتًا. وهذا أحد
الأسباب في وهن أساس البيوت عندنا، ولا يعرف مقدار الدعاوى المتولدة من مثل
هذه الأنكحة إلا بالنظر في سجلات المحاكم الشرعية والرجوع إلى أبواب الكتب
الفقهية ، وفصولها المتعلقة بتزويج الأب والجد صغيرهما، وتزويج غير الأب والجد
من الأولياء الصغير، وما أعطي للصغير والصغيرة من حق الخيار عند البلوغ
إذا كان المزوج غير الأب والجد.
على أن ابن شبرمة وأبا بكر الأصم رحمهما الله يقولان بأن الولاية على
الصغار مبنية على منافعهم، وفي الأحوال التي لا يحتاج فيها إليها: كقبول
التبرعات مثلاً لا يكون لأحد فيها حق الولاية عليهم ، وتزويجهم ليس فيه من فائدة
لا طبعًا ولا شرعًا نظرًا لعدم احتياجهم إليه ، لذلك لا يجوز تزويجهم قبل البلوغ من
قبل أحد ألبتة. وقالا: إن النكاح ليس بشيء مؤقت ، بل هو عقد يدوم ما دامت
الحياة ، فإذا جعل النكاح الذي يعقده أولياء الصغار نافذًا عليهم ، فإن آثاره وأحكامه
تستمر بعد بلوغهم أيضًا ، في حين أنه لا يجوز لأحد أن يقوم بعمل يسلب منهم
حرية التصرف بعد البلوغ ، وحيث إن التجارب المؤلمة المستمرة منذ عصور قد
أيدت قول الإمامين المشار إليهما ، فقد قبل رأيهما في هذه المسألة ، ووضعت المادة
السابعة على هذا الوجه (وهذا نصها) :
المادة 7 - لا يجوز لأحد أن يزوج الصغير الذي لم يتم الثانية عشرة من
عمره ، ولا الصغيرة التي لم تتم التاسعة من عمرها.
***
تزويج الكبيرة نفسها
إن الكبيرة قادرة على تزويج نفسها بناءً على المذهب المختار ، وإنما للولي
حق الاعتراض في أحوال محدودة. على أن إزالة أمثال تلك العوارض قبل النكاح
أولى من فسخه بعد تكوين الأسرة ، باعتراض الولي ، وأوفق لمصلحة الطرفين ،
وفي المذهب المالكي أن الكبيرة إذا رفعت أمرها إلى الحاكم تطلب تزويج نفسها من
آخر؛ فعليه أن يتعرف حالها من الجيران، وإذا كان وليها موجودًا يأخذ رأيه في
ذلك، فإذا رأى أن الاعتراضات التي يوردها الولي غير واردة ، يعين وكيلاً لتزويج
تلك البنت ، وفي الحقيقة أن إخبار الولي واستطلاع رأيه على هذه الصورة يدفع
المحذور المذكور، ولذلك استحسن إخبار الولي عند مراجعة الكبير الحاكم لأجل
الإذن ، ووضعت المادة الثامنة على هذا الأساس (وهذا نصها) :
المادة 8- إذا راجعت الكبيرة التي لم تتم السابعة عشرة الحاكم بقصد التزوج
بشخص ، يخبر الحاكم وليها بذلك ، فإذا لم يعترض الولي أو كان اعتراضه غير
وارد ، يأذن لها بالزواج.
(المنار)
هذه ما قررته الحكومة العثمانية في المسألة كما تقدم في فاتحة هذا البحث،
وورد في الصحف أن حكومة أنقرة التركية عادت إلى البحث في هذا القانون ،
وأبقت المواد التي ذكرناها على ما كانت عليه.
وأما الحكومة المصرية فقد أصدرت ثلاث مواد قانونية ، حددت فيها سن
الزواج بمثل الباعث الذي بعث الحكومة العثمانية إلى تحديدها ، ولكنها زادت على
ذلك منع سماع أي دعوى تتعلق بالزوجية ، إذا كانت سن الزوجين دون ما حددته
إلا بأمر خاص من الملك ، فكان هذا مثار القيل والقال والإنكار من رجال الشرع
كما تقدم، وها نحن أولاء ننشر نص هذه المواد ، ونص المذكرة التي وضعها
بعض رجال المحاكم الشرعية في مدركها الشرعي، ووافق عليه مفتي الديار
المصرية وشيخ الجامع الأزهر ، ثم نقفي على ذلك بما ينبغي بيانه في الموضوع:
***
نص قانون الزواج (رقم 56)
الذي وضعته الحكومة المصرية
المادة الأولى:
يضاف على المادة 101 من القانون نمرة 31 سنة 1910 فقرة رابعة نصها:
(ولا تسمع دعوى الزوجية ، إذا كانت سن الزوجة تقل عن ست عشرة سنة
وسن الزوج تقل عن ثماني عشرة سنة وقت العقد إلا بأمر منا) .
المادة الثانية:
يضاف على المادة 366 من القانون سالف الذكر فقرة ثانية نصها: (ولا
يجوز مباشرة عقد الزواج ، ولا المصادقة على زواج مسند إلى ما قبل العمل بهذا
القانون ، ما لم تكن سن الزوجة ست عشرة ، وسن الزوج ثماني عشرة سنة وقت
العقد) .
المادة الثالثة:
على وزير الحقانية تنفيذ هذا القانون ، ويسري العمل به بعد ثلاثين يومًا من
تاريخ نشره في الجريدة الرسمية [2] .
***
صورة المذكرة الملحقة بهذا القانون
مما اتفقت عليه كلمة علماء الفقه الإسلامي أن الصغير والصغيرة غير
العاقلين ، إذا باشرا عقد الزواج فالعقد باطل لا يقبل الإجازة ، لا من وليهما ولا
منهما بعد البلوغ، وهذا من بديهيات التشريع؛ لأن أي عقد سواء كان عقد زواج
أم غيره ، يعتمد فهم المقصود منه، فما لم يكن متوليه من أهل الفهم فهو عمل لغو
وعبث.
كذلك مما اتفقت عليه علماء الحنفية ، أنه بعد بلوغ الصغير والصغيرة ليس
لأحد ولاية إجبار عليهما في عقد الزواج؛ لأن البلوغ آية الرشد واستكمال العقل ،
وقد كانت الولاية عليهما؛ لضرورة قصورهما عن الاهتداء إلى الصالح في
شؤونهما ، وبالبلوغ زال هذا القصور فيزول ما كان لضرورته.
وقد اختلف علماء الفقه الإسلامي في صحة عقدهما ، إذا بلغا سن التمييز قبل
أن يبلغا الحلم ، فمنهم من يرى صحة العقد موقوفًا نفاذه على إجازة الولي ، ومنهم
من يرى بطلانه وعدم توقفه ، كما إذا عقدا غير مميزين، وقال بالأول علماء
الحنفية ، وقال بالثاني علماء الشافعية.
واختلفوا أيضًا في صحة تولي الولي عقد زواجهما جبرًا عليهما قبل البلوغ ،
فمنهم من قال بصحته وعمم في الولي الذي له هذا الحق فجعله العاصب بترتيب
الإرث ، بل زاد بعضهم باقي الأقارب، ومنهم من قصره على الأب والجد ، ومنهم
من قصره على الأب فقط، وبعضهم قال بعدم صحة تولي العقد جبرًا عليهما من أي
شخص كان مستدلاً بقوله تعالى: {وَابْتَلُوا اليَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاح} (النساء:
6) فجعل حد بلوغ النكاح هو ما به يصلح لتولي شؤون أمواله ، وهو ما إذا
وصل إلى سن البلوغ رشيدًا ، وبقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تنكح اليتيمة حتى
تستأمر) واليتيمة هي القاصرة عن درجة البلوغ؛ بدليل قوله عليه الصلاة والسلام:
(لا يتم بعد الحلم) فقد نهى صلى الله عليه وسلم عن نكاح اليتيمة ، ومد النهي
إلى استئمارها، ولا تصلح لأن تستأمر إلا بعد البلوغ فكأنه قال: حتى تبلغ.
وللبلوغ أمارات كثيرة: أضبطها السن، وأقصى الأقوال في تقديره أنه سن
ثماني عشرة سنة ، وقد أخذ بهذا القول في الولاية المالية ، ولذا حددت سن الرشد
فيه ببلوغ السن المذكورة.
من هذا يعلم أن لبعض علماء الشريعة الإسلامية قولاً ، بأنه لا ولاية إجبار على
الصغير والصغيرة لأحد في عقد الزواج ، وأن سن البلوغ أقصاه ثماني عشرة سنة.
ومن حيث إن عقد الزواج له من الأهمية في الحالة الاجتماعية منزلة عظمى
من جهة سعادة المعيشة المنزلية ، أو شقائها والعناية بالنسل وإهماله ، وقد تطورت
الحالة المتبعة ، بحيث أصبحت تتطلب المعيشة المنزلية استعدادًا كبيرًا؛ لحسن
القيام بها ، ولا يستأهل الزوج والزوجة لذلك غالبًا قبل سن الرشد المالي ، فمن
المصلحة الواضحة منع الزواج قبله؛ لأنه إذا كان لا يباح لهما قبل بلوغ سن الرشد
المالي ، أن يتصرفا فيما قيمته دراهم معدودة ، مع أن الضرر المنظور محدود
وغير ملازم للحياة ، فلأن لا يباح لهما التصرف في أنفسهما بعقد الزواج وآثاره إن
خيرًا وإن شرًّا ، قد لا تزول طول حياتهما - أولى وأوجه.
كذلك لما كان عقد الزواج يرجع الأمر فيه أولاً إلى الزوجين ، وهما اللذان
يتأثران بنتائجه مباشرةً ، فإما أن يكونا به سعيدين ، وإما أن يكونا به شقيين ، فإن
الواجب أن يكون الخيار إليهما فيه ، وتراعى إرادتهما قبل كل إرادة ، وليس لإرادة
غيرهما إلا حق النصح والمشورة ، بحيث لا تعوقانهما عما يريان المصلحة لهما فيه
وكان من اللازم أن يناط سن الزواج بسن الرشد المالي ، بالنسبة لكل من
الزوجين ، ولكن لما كانت بنية الأنثى تستحكم وتقوى ، قبل استحكام بنية الصبي
وما يلزم لتأهل البنت لمعيشة الزوجية ، يتدارك في زمن أقل مما يلزم الصبي،
كان من المناسب أن يناط سن زواج الأنثى ببلوغ ست عشرة سنة ، والصبي ببلوغ
ثماني عشرة سنة.
هذا إلى أن المنصوص عليه شرعًا ، أن لولي الأمر ولاية تخصيص القضاء
بالزمان والمكان والحادثة ، فله أن يولي القضاء في زمن معين دون غيره ، وفي
مكان معين دون غيره ، وفي نوع من المسائل دون غيرها ، حتى لو قضى القاضي
فيما لم يوكل أمره إليه كان قضاؤه باطلاً. وله أيضًا أن يأمر بسماع الدعوى فيما
منع سماعها فيه ، وقد تدعو الضرورة إلى ذلك.
ومن حيث إن المصلحة واضحة فيما ذكر لما بيناه ، فلا مانع شرعًا من أن
يضاف على المادة 101 من القانون نمرة 31 سنة 1910 فقرة رابعة نصها:
(ولا تسمع دعوى الزوجية إذا كانت سن الزوجة تقل عن ست عشرة سنة ،
وسن الزوج تقل عن ثماني عشرة سنةً وقت العقد إلا بأمر منا) ، ويضاف على
المادة 366 من القانون سالف الذكر فقرة ثانية نصها: (ولا يجوز مباشرة عقد
الزواج ولا المصادقة ، على زواج مسند إلى ما قبل العمل بهذا القانون ، ما لم تكن
سن الزوجة ست عشرة سنةً ، وسن الزوج ثماني عشرة سنةً وقت العقدِ) ومرفق
بهذا مشروع التعديل المنوه عنه.
عبد السلام علي
…
...
…
طه حبيب
…
... عبد المجيد سليم
…
...
…
...
…
... مفتش المحاكم الشرعية
…
نائب محكمة بني سويف
…
نائب محكمة
…
الشرعية
…
مصرالشرعية
…
...
…
...
أوافق على أن مذهب الحنفية لا يمنع من ذلك ، لما نص عليه من أن القضاء
يتخصص بالزمان والمكان والحادثة.
…
...
…
...
…
...
…
عبد الرحمن قراعة
…
...
…
...
…
...
…
مفتي الديار المصرية
اطلعت على بعض كتب الحنفية ، فرأيت فيها أن لولي الأمر تخصيص
القضاء بالزمان والمكان والحادثة.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... محمد أبوالفضل
(أطلب النقد في الجزء الآتي)
…
شيخ الجامع الأزهر
***
منشور في المهور
من المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى (في القدس)
إلى حضرات القضاة والمفتين ، والخطباء والمدرسين ، ومأذوني عقود
الأنكحة والمسلمين عامة في فلسطين
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً
وَرَحْمَةً} (الروم: 21) .
لما كان بقاء هذا العالم متوقفًا على التناسل بالزواج الشرعي ، الذي تتكون
منه الأسرة والأمم، وتتقوى بفضله أواصر المودة والقربى بين الناس، وكانت
الأمم التي لا تستن بسنته، ولا تسير على منهاجه قليلة النسل، معرضة لخطر
الانحطاط والاضمحلال، كان من أقدس الواجبات تسهيل الزواج ، وتقريب سبله
على الطالبين ، ورفع الموانع التي تحول دونه أو تقلل منه.
ولسنا نفيض في فوائد الزواج، فقد أقره الشرع والعقل والطبع، واجتمع فيه
من الفضائل ما لم يجتمع في غيره من أحكام الشرع، قال بعض الفقهاء: (ليس لنا
عبادة شرعت من عهد آدم إلى الآن ، ثم تستمر إلا النكاح والإيمان) وجاء في
الحديث الشريف: (لا رهبانية في الإسلام، (
…
وأتزوج النساء فمن رغب
عن سنتي فليس مني) .
وفي الزواج صون الزوجين عن الفاحشة، وحفظ لهما من الرزوح تحت
أعباء نفقات المعيشة الطائلة، بما يرزقهما الله من الذرية الصالحة.
ولم تشأ حكمة الشارع أن تجعل هذا الأمر الخطير صعب المنال ، لا يستطيعه
إلا أولو القوة واليسار من الناس، بل مهدت لمن يرغب فيه كل سبيل، وجعلته
بحيث يستطيعه كل من الأغنياء والفقراء؛ إذ إنها لم تشترط فيه سوى الكفاءة
ورضاء الطرفين ، وكلمتين خفيفتين على اللسان يتبادلهما الزوجان [3] من إيجاب
وقبول، وقدرت له شيئًا يسيرًا سمته مهرًا، وجعلت أقله عشرة دراهم فضة معجلة
أو مؤجلة، واجتازته بلا تسمية شيء تسهيلاً على الطالبين، وتيسيرًا للراغبين.
فقد جاء في صحيح البخاري أنه عليه الصلاة والسلام قال لمن يريد الزواج ولا
يجد ما ينفق: (التمس ولو خاتمًا من حديد) وقال لآخر: (زوجتكها بما معك من
القرآن) ، وقال بعض الأئمة: (إن ما يجوز أن يكون ثمنًا في البيع يجوز أن يكون
مهرًا) .
والإغراق في المهر مكروه ، بدليل ما روي عن عائشة رضي الله عنها
أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يُمن المرأة تسهيل أمرها،
وقلة صداقها) [4]، وقال عروة: وأنا أقول من عندي: ومن شؤمها تعسير أمرها،
وكثرة صداقها.
وقالت أيضًا رضي الله عنها: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
أدخل امراة على زوجها قبل أن يعطيها شيئًا [5]، وفي صحيح ابن ماجه: أنه عليه
السلام تزوج عائشة رضي الله عنها على متاع بيت قيمته خمسون درهمًا ، وأنه
أولم على صفية بسويق وتمر. وعن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما قالتا:
أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجهز فاطمة حتى ندخلها على علي ،
فعمدنا إلى البيت ففرشناه ترابًا لينًا من أعراض البطحاء ، ثم حشونا مرفقتين ليفًا
فنشفناه بأيدينا ، ثم أطعمنا تمرًا وزبيبًا وسقينا ماء عذبًا، وعمدنا إلى عود فعرضناه في
جانب البيت؛ ليلقي عليه الثوب ويعلق عليه السقاء، فما رأينا عرسًا أحسن من عرس
فاطمة رضي الله عنها.
وقال عمر رضي الله عنه: (لا تغالوا في صداق النساء ، فإنه لو كانت
مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله ، كان أولاكم وأحقكم بها محمد صلى الله عليه
وسلم) .
ولم يزل أمر الزواج من السهولة على ما وصفنا ، إلى أن تبدلت الأحوال
فأفرط الناس في المهور، وغلوا في النفقات، ووقعوا في الإسراف الممقوت،
والتبذير المنهي عنه، فقل الزواج والنسل، وكثر الفجور والفحش، وفسدت
الأخلاق ووهنت الأجسام ، وضعفت العقول، إلى غير ذلك مما يسبب انحطاط
الأمة ، وتدهورها في هاوية الشقاء والبؤس والعياذ بالله.
وقد لفت هذا الأمر نظر الحكومة العثمانية في الماضي ، ففكرت في سوء
عاقبة هذا الإسراف في المهر والجهاز وتوابعه، والولائم المتخذة فيه، واهتمت له
اهتمامًا لائقًا به، فبينت محاذيره ، وما ينجم عن توالي محنه وتتابع نكباته، ورأت
أن اجتثاث جذور هذه العادة من بلادها أعظم واجب يكون فيه الخير، فأصدرت
الإعلان المنشور في الجزء الأول من الدستور (صحيفة 494) ذكرت فيه ما حاق
بالناس من شر الإسراف والتبذير في المهور، والولائم المتخذة في الأعراس
وحرمان الكثيرين رجالاً ونساءً بسبب ذلك من الزواج، وبقاء من تزوج منهم
رازحًا تحت أعباء الديون، واضطرار المحرومين منه إلى الوقوع في الجنايات
الجسيمة، وزجهم في أعماق السجون، وارتكاب الفتيات عار الفرار، وغيره مما
مزق حجاب صونهن وعفافهن، وجر الويلات على عائلاتهن، وأدام الأمراض
الفتاكة فيهم، ورمى الأمة بالنقص في النفوس والثمرات. إلى آخر ما جاء فيه.
وقد قسمت الناس أربعة أقسام: قدرت للفريق الأول (1000) قرش وللثاني
(500)
قرش وللثالث (100) ولم تقدر للرابع شيئًا. وأسهبت في بيان وتحديد
ما يجب اتخاذه من الأطعمة والأكسية وغيرها، وقضت على كل من لم يأتمر
بأحكام هذا الإعلان بالعقاب الزاجر، والجزاء العادل ، ولم يشغلها ما دهم من
الحروب الأخيرة عن هذا الأمر ، بل ظلت مثابرة على عملها، وتنفيذ رغبتها، وسنت
من عهد قريب قانونًا آخر ، منعت فيه التبذير والإسراف في الزواج وتوابعه؛
لإعمار بلادها، وتكثير النسل ، وإعداد الرجال، وقسمت فيه الناس ثلاثة أقسام،
وأمرت بأن لا يزيد الفريق الأول في المهر على (5000) قرش ، والثاني على
2500 قرش ، والثالث على 500 قرش ، ومنعت كل ما فيه إتلاف الأموال،
وتعسير أمر الزواج إلى آخر ما جاء فيه من المنافع الحيوية المادية والمعنوية.
ولما رأى المجلس الإسلامي الأعلى الثقافي هذا الأمر ، وعدم وقوفه عند حد،
وتحقق أنه إن دام انهماك هؤلاء المبذرين ، الذين كانوا إخوان الشياطين في جر
الويلات على أفراد الأمة ، مما يبتدعونه ويتفننون به من بذل المهور الطائلة،
وتوطيد دعائم هذه البدع السيئة؛ ابتغاء الفخر الكاذب، والزهو الباطل، تضمحل
الأمة ، وتسقط في أدنى دركات الانحطاط والشقاء، لذلك عقد النية على تطبيق
أحكام ذلك الإعلان، فقرر تبليغ القضاة والمفتين الكرام ومأذوني النكاح بأن
يطلعوا على ذلك المنشور والقانون المذكور ، ويتبعوا أحسن ما جاء فيهما جهد
المستطاع، وبالصورة الممكنة، وأن يشكل في البلاد لجان من مفتيها وقاضيها
وأهل الدين والزعامة فيها؛ لتكليف المدرسين والوعاظ والخطباء وأهل الفضل
حمل الناس على ما ذكر من الاعتدال في المهر، والبعد عن الإسراف، وإرشادهم
إلى تسهيل أمر الزواج ، وتخفيض المهور، وبيان المنافع المتحققة من ذلك،
وتعداد المضارّ والمفاسد الناجمة من عكسه، إلى آخر ما يفتحه الله عليهم مما يسهل
اتباع هذه السنة الحسنة والخير الأتم.
والمجلس الإسلامي يرجو من الأمة كلها أن تنظر في هذه القضية بعين
الاعتبار والتدبر، وأن تعمل على قمع مثل هذه البدع الممقوتة والمضرة في الدنيا
والآخرة ، وأن تسعى إلى الإصلاح ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، وفقنا الله لاتباع
أوامره واجتناب نواهيه، وهدانا الله إلى الصراط المستقيم.
…
...
…
...
…
... (رئيس المجلس الشرعي الإسلامي)
…
...
…
...
…
...
…
... محمد أمين الحسيني
(المنار)
جمع هذا المنشور في المطبعة منذ أشهر واضطررنا إلى تأخير نشره.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
المنار: رأينا أن نذكر المواد المتعلقة بموضوعنا ، عند ذكرها في أثناء المقدمة؛ لتفهم مقرونة بالمدارك الفقهية المستندة إليها.
(2)
نشر في عدد 123 منها الذي صدر في جمادى الأولى (27ديسمبر) .
(3)
المنار: أي: بأنفسهما أو بالنيابة فمذهب أبي حنيفة جواز تولي المرأة تزويج نفسها، وجمهور السلف والخلف أن الولي هو الذي يزوج المرأة ، ومن لا ولي لها يزوجها السلطان أو نائبه ، ولا تتولى هي العقد بنفسها وفي المسألة تفصيل آخر.
(4)
الحديث رواه أحمد والحاكم والبيهقي بلفظ (إن من يمن المرأة تيسير خطبتها ، وتيسير صداقها ، وتيسير رحمها) .
(5)
رواه أبو داود وابن ماجه وقال أبو داود على سكوته عنه كالمنذري: إن خيثمة - راويه عن عائشة - لم يسمع من عائشة، ومن رجال سنده شريك وفيه مقال ، ومعناه متفق عليه ، وهو جواز الدخول قبل إعطاء شييء من المهر إذا رضيت المراة ، ولها أن تمتنع حتى تأخذ المعجل منه.
الكاتب: محمد رشيد رضا
تقريظ المطبوعات الجديدة
(أساس البلاغة)
لعلامة اللغة الشهير، وإمام البلاغة النحرير (محمود الزمخشري) أشهر
من نار على علم، ما زال العلماء يقتبسون من نوره منذ ظهر إلى اليوم، وقد طبع
في مصر مرتين طبعًا غفلاً من الضبط غير معتنى بتصحيحه ، ثم طبعته أخيرًا إدارة
دار الكتب المصرية بمطبعتها ، التي هي القسم الأدبي من المطبعة الأميرية
الشهيرة ، على ورق جيد بحروفها الجديدة الجميلة الخاصة بها ، وعني بتصحيحه
وضبط ما يخفى ضبطه على الدهماء بالشكل لجنة التصحيح فيها، المؤلفة من أهل
العلم والأدب، مستعينين على ذلك بنسخة علامة اللغة الأوجد في هذا العصر الشيخ
محمد محمود الشنقيطي رحمه الله تعالى، وجلدت نسخه بالقماش تجليدًا حسنًا.
سُرَّ أهل العلم والأدب وطلاب اللغة بهذه الطبعة الجميلة المتقنة ، وتقبلوها
بقبول حسن ، وقرظها أصحاب الجرائد والمجلات ، وأثنوا عليها ورغبوا فيها
ولكنهم لم يبينوا موضوع الكتاب كما يجب ، إلا من نقل ما قاله المصنف في خطبته
وجعله أكثرهم من معاجم اللغة التي ألفت؛ لبيان معاني مفرداتها، وظن بعضهم
أن مزيته الوحيدة التفرقة بين الحقيقي والمجازي منها، والصواب أن الكتاب قد
وضع لبيان الاستعمال الفصيح ، والأسلوب البليغ فيها، وتصريف القول في
أساليبها ومناحيها، ومنه الحقيقة والمجاز والكناية، وهو قلما يفسر غريبًا، أو يشرح
شاهدًا، لأنه كتب للخواص من أهل العلم والأدب في عصر المؤلف رحمه الله تعالى
أواخر القرن الخامس وأوائل السادس.
على أن هذه اللغة كانت قد دخلت في طور الضعف والتدلي ، وإن كثر
التصنيف في فنونها، وما زالت تتدلى حتى صار يندر أن يوجد أحد من المشتغلين
بها يفهم معاني صفحة واحدة من صفحات الأساس ، أو ما دون الصفحة من غير
مراجعة معاجم اللغة ، للوقوف على معاني كثير من مفرداتها ، فقل الانتفاع بالكتاب
في زماننا؛ لعسر المراجعة ولا سيما عند الحاجة للاستعمال، لهذا كنت قد سعيت
إلى طبعه، واقترحت أن يفسر غريبه مع ضبطه، وأن يزاد على مواده ما تشتد
الحاجة إليه من طرق الاستعمال التي تكثر في لسان العرب ، وكذا المصباح المنير
على اختصاره وخصوصيته، وكنت قبل ذلك بعشرين سنة أمني نفسي بأن أجد
سعة من الوقت أقوم فيه بهذا العمل ، وكانت الشواغل المانعة منه تزداد سنة بعد
أخرى.
يخيل إلي أن الذين يتوخون الانتفاع بهذا الكتاب فيما وضع له قليلون، وأنهم
قلما يعدون فئة الكتاب المتأنقين، والأدباء النقادين، وهو جدير بأن يوضع بين يدي
كل منشىء ومؤلف ومصحح ومترسل بهذه اللغة ، وكل طالب من طلاب الآداب
العربية، ويرجع إليه كل منهم فيما يشتبه لديهم، ويتشابه عليهم من أساليب
الاستعمال ، وتعدية الأفعال، ويأخذون عنه صوغ الجمل وأساليبها، ووضع
المفردات في مواضعها اللائقة بها، فهو الأستاذ المرشد إلى هذه المقاصد كلها ، وما
أشد حاجة معلمي هذه اللغة ومتعلميها إليها.
فنثني على إدارة دار الكتب المصرية الكبرى ، ونشكر لها عنايتها بطبعه هذا
الطبع الجميل، وضبطه الدقيق، فالناظر فيه لا يكاد يقف طرفه عند كلمة خفية،
وقلما يعقر ذهنه بغلطة لغوية، كما ظهر لي مما راجعته فيه مرارًا أباحت لي أن
أقول: (قلما) . وقد يكون ما عثرت به وهو قليل، مما يحتمل الصحة أو التأويل،
وأول كلمة عثرت بها في الجزء الأول قوله في أواخر خطبة الكتاب: (وحظي برس
من علم البيان) ضبطت كلمة رس في الطبعتين السابقتين بالسين المهملة، وفي
الطبعة الجديدة بالمعجمة من رش الماء والمطر، ولا أدري أهي من خطأ المطبعة
سها عنها المصححون ، أم ضبطت بالمعجمة في نسخة الشنقيطي فاختاروها تبعًا له ،
وعهدي بهم غير مقلدين؟ والمتبادر أن المعنى بالمهملة أظهر ، بل هو المناسب
للمقام وللسجعة التي قبل هذه. الرس بالمهملة ، والذرو معناهما واحد كما صرح به
في هذا الكتاب نفسه فقوله: (وأصاب ذروًا من علم المعاني، وحظي برس من علم
البيان) لا يختلف فيه معنى الجملة الأولى عن الثانية، ولا يظهر فيه معنى الرش
(بالمعجمة) ، ولو تكلف له وجه لم يجز ترجيحه على الرس.
ومما يصح ذكره في هذا المقام ترجيح ضبط على آخر صحيح ، بغير مرجح
يظهر للقارئ على ما تكرر في الكتاب من الجمع بين ضبطين في كثير من الألفاظ،
ومما رأيته من ذلك في أثناء كتابتي لهذا التقريظ ، وسبق له أمثال كلمة (خطف)
ضبطت بفتح الطاء في الماضي ، وكسرها في المضارع من باب ضرب، ولغة في
هذا الفعل، وفيه لغة أخرى الكسر في الماضي ، والفتح في المضارع من باب علم
يعلم، وهي ما يسمعه الناس من حفاظ القرآن ويقرؤونه في المصاحف من قوله تعالى
في سورة الصافات: {إِلَاّ مَنْ خَطِفَ الخَطْفَةَ} (الصافات: 10) وقوله في
سورة الحج: {فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} (الحج: 31) وإنما ذكرت هذا؛ لتنبيه من يراجع
الكتاب لعدم اتخاذ ضبطه للكلمة حجة على تخطئة ضبط غيره من غير مراجعه.
وثمن الجزأين معًا مجلدين بالقماش خمسون قرشًا صحيحًا ، وهو ثمن بخس
تجاه جودة الورق وجودة الطبع، ما كان ليرضى به أحد يطبع الكتاب؛ لأجل
الاتجار به والربح منه، وإدارة المكتبة المصرية الرسمية إنما تبغي نشر العلم، لا
طلب الربح.
***
(الذخيرة الإسلامية)
مجلة دينية أدبية ، تصدر كل شهر مرة لمنشئها أحمد بن محمد السركيني
الأنصاري السوداني ، تصدر في (ويلتفريدن جافا) من جزائر جافا (أو جاوه)
الهولندية وقيمة الاشتراك فيها عن سنة في تلك الجزائر عشر روبيات، وجنيه
إنكليزي ذهبي في غيرها.
وصلت إلينا الأجزاء الأولى من هذه المجلة في هذا الشهر جمادى الأولى [1]
فنظرنا في فاتحة الجزء الأول منها فإذا هي تنبئنا أنها أخت لمجلتنا في خطتها
الدينية؛ إذ ذكر أخونا الفاضل منشئها أن الغرض منها: بيان محاسن الدين وشرح
ما قد يشكل على ضعفاء طلبة العلم ، وما قد يشتبه على من ليس له وقوف على
حقائق الإسلام، وما قد يغمض على الكثير من أسرار التنزيل، مع تنبيه الغافل
وتنشيط العامل، وإصلاح الفاسد، وسلوك خطة التيسير والتبشير، ومنه بيان
الأحاديث المكذوبة والواهية المنشورة على ألسن العوام ، وكتب القصاص
والمتصوفة، ورد شبه المعاندين، وبيان محاسن الإسلام، وملاءمته لكل زمان
ومكان، وحث المسلمين على الأخذ بأسباب الارتقاء؛ ليكونوا حجة للإسلام ولا
يكونوا حجة عليه ، كما هو شأنهم الغالب اليوم.
وكل هذه المقاصد من بعض موضوعات المنار، التي يحتاج إليها في تلك
البلاد الجاوية التي قل فيها العلم، وعم الجهل، وكثر الدجالون من المسلمين،
والمهاجمون للإسلام من دعاة النصرانية، فعسى أن توفق؛ لإتقان عملها ويوفق
المسلمون للانتفاع بها، ومن وسائل ذلك العمل بقوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ
بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125) .
_________
(1)
كتب جل هذا الجزء في هذا الشهر ، ثم اضطررنا إلى تأخيره إلى ما بعده وأخرنا بعض ما كتب وجمع له.
الكاتب: محمد رشيد رضا
ملك الحجاز في أطراف سورية
كثر تساؤل الناس عن سبب زيارة ملك الحجاز لأطراف سورية في هذا
الشتاء الشديد العواصف ، والبَرْد والثلج والبَرَد، والذي نراه استنتاجًا مما تقدمه ،
وواطأنا عليه كل من ذكرناه له من الباحثين في سياسة البلاد العربية وغيرهم ، هو
ما نجمله بالجمل الآتية:
(1)
إن مقتضى ما سماه السيد حسين بن علي (مقررات النهضة) التي
هي أساس ثورته وحربه للدولة العثمانية مع الحلفاء ، هي أن تؤسس له الدولة
البريطانية بقوتها وتحت حمايتها مملكة عربية تشمل جزيرة العرب وسورية كلها
والعراق إلا ما استثنى، ولكنه قضت وطرها منه ولم يقض وطره منها ، فظل يلح
عليها بذلك من جهته ، والفلسطينيون يؤلفون الوفود ويرسلونها إلى لندن للسعي
لإلغاء وعد بلفور وتأليف حكومة عربية في فلسطين ، ويحتج كل منهما بمقررات
النهضة المذكورة.
(2)
حاولت الحكومة البريطانية إسكات السيد حسين والفلسطينيين بشيء
يرضيهما مظهره ، إلى أن يزول هذا الاضطراب السياسي والمالي ، وتستقر
سلطتها العسكرية في البلاد العربية التي جعلتها تحت انتدابها ، من حدود مصر إلى
شط العرب وخليج فارس، فلم توفق لذلك ، فإن المعاهدة الأخيرة التي حملها إليها
ناجي الأصيل فطار بها فرحًا ، وجعل يوم إعلانها عيدًا للأمة العربية بأسرها، قد
رفضها الفلسطينيون وأنكروها ، ولم يقدر على إقناعهم بها ، ولولا ما له من اليد
البيضاء عند بعض زعمائهم ، وما يعلمه من حرص الإنكليز على إرضائهم بشكل
من أشكال الإدارة ، مع بقاء الانتداب وعهد بلفور، لانقطعت الصلة بينه وبينهم
بأيديهم أو بيده هو، ولكن ما ذكر ألجأه إلى الإمساك عن التوقيع النهائي على
المعاهدة ، أو يرضى أهل فلسطين بها ، فأعرضت عنه الحكومة البريطانية ، ففهم
أنها تعتقد أنه لم يبق له من النفوذ في البلاد العربية ما يمكنه من أداء أي خدمة لها
تكافئه عليها فيما يأتي.
(3)
علمت هذه الحكومة أن سلطان نجد قد وقف على دخائل سياستها
العربية وتمهيدها السبل؛ للتغلغل في أحشاء جزيرة العرب ، مع الإحاطة بها من
أطرافها فأنشأ يقاومها في ذلك ويفاوض فيه سائر زعماء العرب ، ما عدا خدمها
المتبجحين بالإخلاص لها وهم السيد حسين وأولاده ، حتى اشتهر أنه سمح لنوري
باشا الشعلان بالتمتع بمقاطعة الجوف التابعة لنجد بشرط منع الإنكليز من جعلها
طريقًا لمواصلاتها العسكرية ، وغيرها بين سورية العراق ، فاغتنم السيد حسين هذه
الفرصة للاتفاق مع الإنكليز على تمكينه من الاتفاق مع ولديه السيد عبد الله والسيد
فيصل على جمع قوات البلاد ، التي يرأسون حكوماتها؛ لمناوأة ابن سعود وإضعافه
باسم الوحدة العربية ، في مقابلة بذل نفوذه هو لدى بعض رجال اللجنة التنفيذية
لمؤتمر فلسطين ، بالرضا بالانتداب البريطاني، والإمساك عن معارضته ، بشكل
ألطف من الشكل المبهم الذي رفضوه بالنص الأول للمعاهدة، وذلك بأن تسمى
حكومة فلسطين وطنية ، ينتظم في سلكها بعض الزعماء وتعطى حق الانتظام في
الوحدة العربية المبهمة في ضمن دائرة الانتداب البريطاني ويلطف تنفيذ عهد بلفور
بألفاظ مرضية، وتقييد مؤقت للهجرة الصهيونية، لأجل هذا أنفق السيد حسين بن
علي ألوف الجنيهات في التمهيد لهذه الزيارة ، يبث الدعاية لها وسينفق أضعافها في
أثناء مكثه في البلاد، ولأجله أكره أهل الحجاز على بذل ألوف الجنيهات؛ لعمارة
المسجد الأقصى ، على حين يتضور كثير من فقراء السادة الأشراف بمكة جوعًا ،
وقد حرموا حقوقهم في وقف جدهم أبي نمي، حتى إننا علمنا من الثقات أن بعض
نسائهم يتكففن الناس في حنادس الظلمات وهن متنقبات.
ولأجل هذا تجرأ السيد حسين على التصريح بما كان يكتمه عن الجمهور من
رأيه في الوحدة العربية ، وهو جعل جميع أمراء الجزيرة تابعين له في السياسة
الخارجية والعسكرية والإدارة العامة، ومن المعلوم المشهور أن كل واحد من أئمة
الجزيرة الثلاثة: يحيى وابن سعود والإدريسي أقوى منه منفردًا ، فكيف صرح
بعداوتهم كلهم في وقت واحد؟ كنا نقول منذ بضع سنين: إن مراده من الوحدة أن
تكره الدولة البريطانية جميع قوى العرب له تحت حمايتها ، وكان الأغبياء في
السياسة والمأجورون ينكرون ذلك علينا فماذا يقولون اليوم؟
ومن الجلي أن ثروة السيد حسين الشخصية من ملك ووقف ، وما يبتزه من
الحجاج ، لا يفي بمعشار هذه النفقات التي يبذلها في عداوة سلطان نجد وحده
والاستعداد لقتاله، وكل ذي إلمام بشؤون السياسة البريطانية الحجازية ، يعلم من أين
تجيء هذه الأموال، وسينجلي كل خفي للأغبياء الجاهلين ، ويظهر منتهى شوط
الخادعين والمخدوعين، الذين يعلقون آمال أهل سورية وفلسطين بما يدعيه السيد
حسين بن علي من العمل للوحدة العربية، ويرجو نيلها من وراء مفاوضته لدهاة
الدولة البريطانية والسياسة الصهيونية ، والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على
الظالمين.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
خطاب عام للمسلمين
(2)
الجناية الثالثة: الظلم والاستبداد في الحرمين
إن استبداد الملك حسين ، وظلمه في الحجاز لا نعلم له نظيرًا في حكومة
وطنية من حكومات العالم في هذا العصر ، وإنما هو كحكم أشد المستعمرين للأمم
الضعيفة قسوة وطمعًا في ابتزاز الأموال وإذلال الناس، فأهل الحجاز في هذا العهد
بائسون ذليلون ، ولا يتجرأ أحد منهم على الشكوى بقول ولا كتابة، ونحن قد أمكننا
الوقوف على كثير من الحقائق الآتية من بعض أهل البصيرة والتحقيق من حجاج
الموسم الأخير ، الذين لهم أصدقاء في الحجاز يثقون بهم ، ومما اختبروه بأنفسهم
على كثرة الجواسيس ، وحرص الملك على مراءاة الحجاج، وقد جاءتنا رسالة
طويلة في وصف حالة الحجاز من أحد حجاج الموسم الماضي من جزائر الهند
الشرقية ، فنلخص من هذا وذاك ما يتعلق بغرضنا بالإيجاز ونجعله عدة أقسام:
المظالم المالية:
(1)
كل ما يرد على مكة من الأنعام ينتقي الملك كرائمها وخيارها لنفسه ،
بواسطة سمسار له اسمه (إبراهيم) فيدفع ثمن الجمل الأعلى منها 25 ريالاً مجيديًا
(تساوي 120 قرشًا مصريًّا) إذا كان الأدنى يباع بخمسة وعشرين جنيهًا مصريًّا ،
ويعطي ثمن الكبش الجيد بل الأجود ريالين مجيدين ، إذا كان الأدنى منها يساوي
عشرة ريالات.
(2)
يأخذ مكسًا على كل جمل ثلاثة ريالات مجيدية (30 أو 35 قرشًا
مصريًّا) ، وعلى كل ثور أو بقرة خمسين قرشًا مصريًّا؛ لأنه لا يأخذ منها لنفسه
كما يأخذ من الإبل والغنم ، هذا إذا كانت الإبل والبقر للعمل ، وأما إذا كانت للذبح
فيأخذ عن كل رأس عشرة ريالات ، ومن المعلوم أن الإبل لا تذبح في الحجاز إلا
إذا هزلت ، وتعذر الحمل عليها والسفر بها ، وإن كان الجمل الهزيل الضعيف قلما
يباع بأكثر من عشر ريالات ، وقد يباع بخمسة، ولكن الملك يأخذ عليه عشرة
ريالات مهما يكن ثمنه الذي بيع به ، فيضطر الجزار بذلك إلى بيع لحمه غاليًا ،
وهو لا يأكله إلا الفقراء فيكون الغبن عليهم.
(3)
كل من يأتي مكة أو غيرها من بلاد الحجاز بشيء للبيع من خارجها ،
ولو كان من البدو أو أهل القرى الحجازيين ، يجبر على أخذ ثمنه ريالات مجيدية
وقروش عثمانية (مما يسمى في سورية متلبك ، وفي الحجاز هلل) ؛ لأن الذهب
خاص بالملك، وهذه السكة لا تروج عند الأعراب ، الذين يأتون بالماشية وغيرها
إلى مكة ، فيرغبون أن يشتروا بثمنها أقواتًا أو أقمشة لعيالهم ، ولكن الشراء من مكة
محرم في شرع الملك إلا برخصة من الديوان الهاشمي - ويعبر عنها بالفسح -
وقد يتأخر صدور (الفسح) ولا سيما إذا كثر طلابه حتى ينفق الغريب ما باع
منه ، ويرجع إلى عياله بغير شيء ، ولا سيما إذا كان ما باعه قليلاً كالوقود والفاكهة.
(4)
يأخذ على كل صفيحة سمن خمسين قرشًا مصريًّا ، وكان السمن الجيد
يأتي من نجد وعسير ، فانقطع مجيئه من نجد وقل من عسير بسبب إجبار تجاره
على أخذ ثمنه من النقد العثماني ، الذي لا يروج عندهم، فصارت أقة السمن
البحري الرديء المغشوش تباع بثلاثة مجيديات ، وكانت الآقة من الجيد تباع بربع
مجيدي إلى نصف ريال ، إذا اشتد الغلاء ، وأقة اللحم بريالين ، وكانت بقرشين ،
فأصبح أهل مكة في ضيق ، لم يعرفوا له نظيرًا إلا في تلك الأيام ، التي اتفق فيها
سيدهم مع الإنكليز على منع الأقوات من الحجاز ليواتوه على الثورة.
(5)
يأخذ عن كل بضاعة تأتي من البحر إلى الحجاز ثلاثين في المائة
من ثمنها ، إلا الكماليات: كالحرير فيأخذ منها خمسين في المائة ، وذلك بحسب
أسعارها في سوق جدة لا بحسب السعر الذي اشتريت به، ونترك الكلام في
اقتراض الملك من تجار جدة ألوف الجنيهات ، على أن توفى من المكوس التي
تستحق عليهم ، ومطل إدارة المكس وتسويفها لهم، بعذر الحاجة إلى المال ، ولا
مشتكى إلا إلى الله.
(6)
أبطل جميع الأفران التي للأهالي ، وفتح أفرانًا لنفسه ، يعطيها الدقيق
المختلط من عنده ، ويكره الناس على الشراء منها دون غيرها ، وهو يربح منها كل
يوم أكثر من تسعين جنيهًا من مكة ، وجاء في رواية أخرى كتبها بعض الحجاج
المصريين أنه يربح من أفرانه ثلاثمائة جنيه في كل يوم ، وقد قال النبي صلى الله
عليه وسلم: (احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه) رواه البخاري في تاريخه وأبو
داود وأشهر رواة التفسير بالمأثور من حديث يعلى بن أمية ، وفي لفظ من حديث ابن
عمر مرفوعًا: (احتكار الطعام بمكة إلحاد) رواه البيهقي في شعب الإيمان، وروى
سعيد بن منصور والبخاري في التاريخ أيضًا وابن المنذر عن عمر بن الخطاب
أنه قال: (احتكار الطعام بمكة إلحاد بظلم) . روي عن ابن عباس أنه قال: في
تفسير الآية: (تجارة الأمير بمكة إلحاد) . فما بال المكوس؟ !
(7)
جعل قيمة الجنيه سبعة ريالات مجيدية ، يغرم من يخالف ذلك بمبلغ
من المال له ، لكنه يبيع الذهب للصيارف بألوف الجنيهات ، كل جنيه باثني عشر
ريالاً ثم يجبرهم على إعطائه الجنيه بالسعر الرسمي ، وهو سبعة ريالات، والتجار
يرفعون الأثمان؛ لتقرب من سعر الذهب، ومن فوائد الملك من ذلك أن من كان
راتبه من رجال حكومته عشرة جنيهات ، يعطيه 72 ريالاً قيمتها الحقيقية ستة
جنيهات.
(8)
ما يأخذه من الغرامات ، وينزله من العقاب على من يخالف السعر أو
يعترض على اختلاف ما يأخذه هو ويعطيه، لا مستند له إلا رأيه، وقد جازى
التجار على ذلك مرارًا ، حتى بلغت الغرامة من جماعتهم من مائة جنيه إلى ثلاثمائة
جنيه ، بل عاقب بعد الموسم خمسة من تجار مكة المحترمين بالجلد الشديد وكنس
الشوارع؛ لأن جواسيسه بلغوه عنهم أنهم قالوا: إن سعر النقود العثمانية سينزل ،
حتى مات أحدهم من شدة الضرب ، كما جاء في كتاب خاص من مكة لأحد التجار
هنا.
(9)
استأثر لنفسه بالغلال المصرية سنتين ، فلم يعط المستحقين شيئًا حتى
مات بعض المستحقين لها من فقراء المدينة المنورة جوعًا ، ثم صار يعطي الأحياء
نصف ما يستحقونه ، ويستأثر بحصص الأموات كلها ، فلا يعطي ورثتهم منها
شيئًا ، ولعل هذا أحد أسباب امتناع الحكومة المصرية ، عن إعطائه مخصصات
الأهالي؛ لأجل أن يتولى توزيعها عليهم مستخدموها ، في التكيتين المصريتين بمكة
المكرمة والمدينة المنورة.
(10)
استبد بوقف الشريف أبي نمي فلا يوزعه على المستحقين من ذريته
حسب شرطه ، حتى قيل: إن بعض الشريفات يخرجن في الليل متسولات ، يتكففن
أيدي الناس في الشوارع.
(11)
قد استعار من أغنياء مكة أثاثًا ورياشًا وماعونًا كثيرًا ، للدار التي
أنزل فيها السلطان وحيد الدين المخلوع وحاشيته ، ثم لما ذهب السلطان من مكة
استأثر بهذه العواري النفيسة، ولم يردها إلى أصحابها.
(12)
جمع ثلاثين ألف جنيه من أهل الحجاز بالإكراه والإجبار ، ومن
الحجاج بالاختيار؛ لإعانة المسجد الأقصى، وأرسل منها اثني عشر ألف
وخمسمائة جنيه، وقد نشر في جريدة القبلة ما أخذ من كبار التجار والموظفين في
الحكومة ومن الحجاج ، وأما ما أخذ من العوام وصغار التجار فلم ينشر فيها [1] .
(13)
ذهب إلى مكة الشرفاء زامل وجعفر وعلي أولاد السيد ناصر أخي
الملك فوضعهم الملك تحت المراقبة الشديدة والقهر ، وكان مرادهم الإقامة في مكة
شهرًا واحدًا ، فأكرههم على الإقامة زهاء سنة ، ولما عادوا إلى مصر أرسل إلى
وكيل أطيانه إسكندر بك طراد كشف فيه أنه أنفق عليهم في مكة ألف وثمانية
وعشرين جنيهًا وكسورًا ، وأمره أن يطالب أخاه الشريف ناصر بهذا المبلغ ،
وينذره بإمساكها من إيراد الوقف المشترك ، إذا لم يؤدها إليه نقدًا.
***
العقاب والأحكام
إنه يذيع في جريدته القبلة أن أحكامه كلها شرعية ، مستمدة من الكتاب والسنة،
والواقع الذي يعرفه أهل الحجاز ومن أقام فيه زمنًا يزيد على مدة الحج من غيرهم ،
ولا سيما الذين استخدموا فيه - أن أحكامه شخصية محضة ، لا يتقيد فيها بقيد
من شرع ولا مشاورة، ولا قانون، وهو وإن كفر الترك والمصريين بوضعهم
للقانون الأساسي وغيره ، فقد وضع بعض القوانين وأمر بتنفيذها ومنها:
(قانون هيئة المعاملات العمومية) الذي أمر فيه بتشكيل لجنة بهذا الاسم ،
تفصل في قضايا الإجارة والديون (والكشفيات ونحوها) ، مما هو من خصائص
المحاكم بدون محاكمة شرعية ، وفيها أحكام وضعها برأيه لم يرجع فيها إلى
دليل شرعي ، وسماها دستورًا للعمل كما سماها قانونًا، وقد أعطى بهذا القانون
حق الاجتهاد لأعضاء اللجنة ، في كل فروع الإجارات غير الداخلة في المادة 43
منه ، ولا حاجة بنا إلى تفصيل ذلك ، بل المراد به التنبيه على أنه يحرم على أهل
البلاد التركية والمصرية ، ما أباحه لنفسه من وضع القوانين ، وإن كان هو
وجميع أعضاء حكومته دون أهل هاتين المملكتين علمًا بالشرع ، وبأصول القوانين
وفروعها.
***
قانون الطاغوت أبي نمي
وأدهى من هذا وأعظم في رد الشرع ونبذه وراء الظهر، وتفضيل حكم
الطاغوت على حكم القرآن المنزل من عند الله عز وجل، حكمه بقانون جده الأمير
أبي نمي في جميع مسائل الدماء بين البدو. ومن أصول مواد هذا القانون أن دم
شرفاء الحجاز مربع ، فإذا قتل أحدهم يقتل به أربعة من خواص رجال القبيلة
المتهمة بقتله، ولا شك في أن استحلال هذا كفر وردة عن الإسلام. وإن إمام
المسلمين وخليفتهم يجب عليه شرعًا أن يقاتل من يتحاكمون ومن يحكمون بمثل
هذا وغيره ، من أصول الجاهلية المقررة فيه، ومرجعها كلها إلى ما يسمونه
(السوالف)، وهي الأحكام السابقة التي قبلها سلف المتحاكمين؛ أي: شيوخ قبيلتهم
من قبلهم في مثل واقعة الدعوى، فالأحكام التي قبلها طواغيتهم هي التي
يرضونها ويحكم لهم بها من يدعي أنه أحق الناس بخلافة النبوة وإقامة شرع
الإسلام ، ومن شاء أن يعرف منزلة هذا القانون من الكفر والنفاق فليراجع تفسيرنا
لقوله تعالى من سورة النساء {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا
أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ} (النساء: 60) الآيات.
وقد حدثنا الضابط نوري بك الكويرى (من بني غازي) الذي كان في الجيش
العربي المنظم ، الذي يساعد الحجازيين في حصار المدينة المنورة ، أن أحد البدو
قتل ضابطًا أو جنديًّا حضريًّا من الجيش المنظم ، واعترف بأنه قتله عمدًا ، فطلب
الضباط وغيرهم قتله قصاصًا ، بمحاكمة عسكرية أو شرعية ، فامتنع قائدهم العام
الشريف عبد الله ، ورفع الأمر إلى الملك فأمر بإرسال الضباط الذي طلبوا القصاص
إلى مصر بحيلة ، وإعلامهم بعد ذلك بطردهم من الجيش الهاشمي، وكذلك كان،
ويعلم جماهير الناس في شرق الأردن وفلسطين أن عبيد الأمير عبد الله فوق الشرع
والقانون في إمارته البريطانية الحقيرة ، فلا يحاكمون ولا يعاقبون على فاحشة ولا
منكر.
وأما ما نقلته جريدة قبلة من أحكامه ، التي سمتها إقامة لحدود الشرع وعملاً
بالقرآن ، فقد جاءنا الخبر من الثقات في الحجاز ، بأنه ليس فيها شيء موافق لحكم
الشرع ، ولا كان شيء منها بمقتضى محاكمة شرعية ، فقد أمر بقطع يد رجل
ورجله؛ لأنه فر من سجنه الذي هو شر من سجن الحجاج، وفعل مثل ذلك بمن
اعترض على الخطيب بالمدينة المنورة؛ لإطرائه إياه في الخطبة، وادعوا أن هذا
عمل بقوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ
فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} (المائدة: 33) الآية وهي في البغاة الذين يؤلفون
العصابات المسلحة ، يقطعون بها الطرق ويفسدون النظام ، لا فيمن يفر من الظلم
أو ينتقد بدعة من البدع: كمدح الحكام وإطرائهم في الخطب الدينية ، ولا سيما إذا
كانوا من الظلمة.
وكتب إلينا أن اللص الذي قطع يده في عرفة ، قد اتهمه بعض الناس بأنه
سرق له بعض متاعه ، فبمجرد دعواه استحضر المتهم وجيء بفأس قطعت به يده ،
وكتب إلينا أيضًا أن العقاب في الحكومة الهاشمية ، لا يكاد يقع إلا على الضعفاء
الذين لا ناصر لهم ، وأن جواسيس الملك إذا طعنوا له في شخص يتهمه بعضهم ،
بأنه شرب الخمر فيؤتى به ويجلد بغير بينه ولا يسمع لإنكاره.
واطلعنا في مذكرة لحاج مصري ، أنه يأمر المحاكم الشرعية بالذي يريده
وإنها فشت فيها شهادة الزور بالإكراه، وأنه لا ينفذ من أحكامها إلا ما يريده ، ويرد
الإعلام الشرعي الذي تصدره بالحكم النهائي ويأمر بتجديد الدعوة لأجل الحكم فيها
بما يأمر به، ويقول: إنه إمام المسلمين والوارث لجده الشارع في التشريع
وهو غير مقيد فيه بشيء، بل فيها أن له مخالفة نصوص الكتاب والسنة ، وكنا
سمعنا هذا من بعض خدمه في مكة عدد سنين ، ولكن الله تعالى لم يعط للرسول
صلى الله عليه وسلم أن يغير أو يبدل شيئًا من القرآن ، وهو معصوم من فعل ذلك من
تلقاء نفسه بدليل النص والإجماع. قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ
الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ
نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَاّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (يونس: 15) ، وقد منع الإمام الشافعي نسخ القرآن بالسنة مطلقًا ، وجوزه الجمهور
بالسنة المتواترة لأن ثبوتها قعطي كثبوته، ولكنهم أجمعوا على أن ذلك لا يكون برأي
النبي صلى الله عليه وسلم واجتهاده ، بل بوحي من الله تعالى ، واستدلوا على الجواز
بمفهوم قوله تعالى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي} (يونس: 15) .
وفي هذه المذكرة أنه يقطع يد السارق ، إذا كان من قبيلة ضعيفة ، فإذا كان
من قبيلة قوية فلا يقطع ولا يسجن ، وقد سرقت امرأة قرشية من بني مخزوم في
عهد النبي صلى الله عليه وسلم فأهم أمرها قريشًا فقالوا: من يكلم فيها رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ومن يجترئ عليه إلا حبه أسامة بن زيد، فكلمه أسامة فقال
صلى الله عليه وسلم: (يا أسامة أتشفع في حدٍ من حدود الله ، ثم قام فخطب قال:
(إنما أهلك الذين كانوا من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا
سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت
لقطعت يدها) متفق عليه، بل رواه الجماعة كلهم.
(تنبيه) :
كتب هذا الخطاب منذ بضعة أشهر؛ ليكون مقدمةً لطلب الإصلاح في
الحجاز، وأخر نشره؛ رجاء أن يغير الملك سيرته بزيارته لأطراف سورية.
(له بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
المنار: لعل سبب عدم نشره قلة المبالغ مع كثرة الأسماء لا قصد أكله.
الكاتب: محمد رشيد رضا
كلمة في التعريف بمجموعة الحديث النجدية
وتجديد السنة في بلاد الوهابية
(وهو ما وضعناه فاتحة لنسختها التي طبعناها حديثًا ، وفيها كلام في تصحيح
المطبوعات ، ولا سيما تصحيح ما طبع عن نسخ غير صحيحة ، وكونه يتعذر معرفة
الأصل في بعض المسائل ، ويشق العثور على بعضها بمراجعتها في مظانها حتى
الأحاديث النبوية ، وخاصة أحاديث البخاري) .
من المعلومات المسلمات عند كل مسلم أن أحاديث الرسول صلى الله عليه
وسلم بيان لكتاب الله عز وجل ، وتفسير وشرح لهدايته ، وتفصيل لحكمه
وأحكامه، وأنها مستمدة منه، فإنه - جزاه الله عن البشر أفضل الجزاء - قد عاش
قبل النبوة أربعين سنة ، وهو أمي لم يُؤْثَرْ عنه شيء من علوم القرآن الإلهية ، ولا
الأدبية ولا الشرعية، ولا شيء من حكمه العقلية ، ولا قواعد السنن الكونية
والاجتماعية، وقد خاطبه الله تعالى في هذا المعنى بقوله: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ
لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) وبقوله: {إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ
بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ} (النساء: 105) ، وقد عصمه الله تعالى من
الخطأ في بيان دينه المودع في كتابه ، كما عصمه من الخطأ في تبليغه ، وكل أحد
غيره يخطئ في فهم الكتاب ، وفي بيان ما فهمه تارة ويصيب أخرى، وقد نقل
المحدثون روايات من خطأ بعض الصحابة فغيرهم أولى.
هذا وإن تأثير حديثه وسنته صلى الله عليه وسلم في القلوب ، هو في الدرجة
التالية لتأثير كلام الله عز وجل، ولهذا ضعفت هداية الدين في نفوس المسلمين منذ
صاروا يستغنون عن القرآن والسنة بكتب المتكلمين والفقهاء، وإنما العلماء أدلاء
معلمون، لا شارعون ولا مستقلون بالهداية، ولن يعود روح الدين إلى المسلمين،
ولن يشرق نور الإسلام في قلوبهم، إلا بالعود إلى تلاوة القرآن بالتدبر، ومدارسة
السنة بالتفقه والتأدب.
وقد كان مما استعمل الله تعالى به الشيخ محمد عبد الوهاب مجدد الدين في
نجد وما حولها ، أن أحيا مدارسة السنة النبوية فيها؛ للاهتداء بها، لا لمجرد
التبرك بألفاظها، ولا لأجل الاستقلال فيها دون ما كتب المحدثون والفقهاء في
شرحها والاستنباط منها، بل نرى من هداهم الله تعالى بدعوته ، وأنقذهم من
الجاهلية التي عادت إلى أكثر أهل جزيرة العرب ما زالوا يحيون كتب فقه شيخ
السنة الأكبر الإمام أحمد - رضي الله تعالى عنه - مع خيار كتب التفسير والحديث
لغير الحنابلة من علماء السنة ، فكانوا من أجدر المسلمين بلقب أهل السنة.
وقد انتدب إمامهم وسلطانهم في هذا العصر السلطان عبد العزيز عبد الرحمن
فيصل آل سعود لتجديد طبع هذه المجموعة النفيسة مع كتب أخرى أهمها: تفسير
الحافظ ابن كثير ، وابتداء طبع كتب أخرى دينية من أعظمها وأجلها: كتاب
(المغني) في الفقه الإسلامي الذي فضله الإمام المجتهد عز الدين بن عبد السلام ،
هو وكتاب المحلى لابن حزم على جميع ما كتب المسلمون في الفقه ، ونقل عنه أنه
لم تطب نفسه للإفتاء ، حتى حصل على نسخة من المغني ، فهو يطبع الآن على نفقته
مع كتاب الشرح الكبير، على متن المقنع الشهير ، والمغني والمقنع كلاهما للشيخ
العلامة موفق الدين أبي محمد عبد الله الشهير بابن قدامة المقدسي، المتوفى سنة
620 ، وهو الذي ينصرف إليه لقب (الشيخ) إذا أطلق في كتب الفقه الحنبلي ،
التي ألفت بعده وأما الشرح الكبير فلابن أخيه وتلميذه العلامة الشيخ عبد الرحمن
ابن قدامة المتوفى سنة 682 ، وهما من أوسع الكتب أحكامًا وبيانًا للمذاهب
بأدلتها.
هذه المجموعة الحديثية مشتملة على تسعة كتب بيناها في طرتها، فالأربعون
النووية من الأحاديث المختارة في أصول الإسلام ، وأسس قواعده أشهر من أن
تعرف، وعمدة الأحكام للحافظ المقدسي المتوفى سنة 620 مشهورة مشروحة ،
وهي مأخوذة من صحيحي البخاري ومسلم - تعطي المطلع عليها علمًا إجماليًّا
بأصح نصوص السنة لجميع أبواب الفقه ، وذكر لها في كشف الظنون عدة شروح
لكبار العلماء، وشرحها لشيخ الإسلام المحقق ابن دقيق العيد طبع في الهند ويطبع
الآن بمصر.
وكتب إلينا صديقنا علامة العراق السيد محمود شكري الآلوسي أنه اطلع على
الجزء الأول من شرح شيخ الإسلام ابن تيمية للعمدة (فرأى فيه ما لا عين رأت ولا
أذن سمعت) ولم يبلغنا شيء عن هذا الشرح من غيره، وذكر صاحب كشف
الظنون أن كتاب العمدة هذا ثلاثة مجلدات عز نظيره ، وأن أوله: (الحمد لله أتم
الحمد وأكمله) ، وأن الكلام فيه خمسة أقسام: أحدها الأحاديث، وما عندنا هو تجريد
الأحاديث فقط ، وأوله (الحمد لله الجبار) ، ونقل عن بعض شراحه أن عدد أحاديثه
خمسمائة ، ولعله عدَّ ما في بعضها من اختلاف الألفاظ وتعدد الروايات ، أو وجد هذا
في بعض نسخها ، وإلا فقد أحصيناها بالأرقام حسب عدَّ المصنف لكل باب فبلغت
409 ، ولكن وقع غلط في الأرقام في مواضع أولها صفحة 110 فينبغي أن يجعل
أول رقم فيها 48 ويصحح ما بعده بالتسلسل.
وأما كتب الشيخ محمد عبد الوهاب الأربعة ، فقد راعى في جمعها أحوج ما
يحتاج إليه جماهير المسلمين من السنة ، مع تلقيهم أحكام العبادات والمعاملات من
كتب الفقه ، وهو أربعة أقسام: أحاديث الإيمان الاعتقادية، وأصول الإسلام الكلية،
وكبائر الإثم والفواحش التي يجب تركها، والآداب الشرعية التي يجب أو
يستحب فعلها والتأدب بها، وكلها ملخصة من دواوين السنة المشهورة: كالكتب
الستة والمسند والموطأ وغيرها ، ومنها ما ليس لدينا نسخ منه: كالسنن الكبرى
وشعب الإيمان للبيهقي.. وقد ترك - رحمه الله تعالى - بعض الأحاديث غير
مخرجة، ولعل سبب ذلك أنه أراد أن يراجعها في غير الكتب التي نقلها منها،
ليبين جميع من خرجوها.
وأما الرسالة السنية للإمام أحمد في الصلاة فهي على ما نعتقد ، لا يستغني
مسلم عن الاستفادة منها ، قد جمعت في صفة الصلاة وآدابها الظاهرة والباطنة ،
بين الأخبار النبوية والآثار النافعة عن الصحابة والتابعين ، ما كانت به سفر تفسير
وحديث وفقه وتصوف شرعي ، وقد رأيت لها من التأثير في القلب ما لم أره لغيرها،
فأنا أنصح لكل مسلم أن يطالعها مرارًا، ولكل معلم وواعظ أن يقرأها لطلاب
العلم وللعوام جميعًا.
وأما كتاب الصلاة للمحقق ابن القيم فهو أشبه الكتب برسالة الإمام أحمد في
مبناها ومعناها ومغزاها، حتى كأنه شرح لها وتفصيل لمجملها، مع بسط مسائل
أخرى استوفاها أو حققها، وناهيك بوصفه لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم ،
واختلاف أحوالها من تطويل وتخفيف بالروايات المعتمدة، وبيانه لحكم الصلاة
وأسرارها، وندب إطالتها ومنافعها، وتحقيق فرضية صلاة الجماعة، ومسألة
تكفير تارك الصلاة ، ومسألة الخلاف في وجوب قضاء الترك منها عمدًا وعدمه.
فهكذا لعمري يكون اتباع الأئمة والاقتداء بهم، لا اتخاذهم شركاء لله تعالى في
شرع الدين، ولا قرناء لرسوله صلى الله عليه وسلم في العصمة في تبليغه وفهمه،
دع تقديم كلامهم على كلامهما، واتباعهم بالتقليد المحض من دونهما.
وأما كتابه الوابل الصيب فهو طرد لهذه المعاني والمغازي ، في جميع الأذكار
والأدعية المأثورة ، وتأثيرها في القلب، والقرب بها من الرب، جل ثناؤه وتقدست
أسماؤه، ومن فوائده: بيان مراتب الناس في الصلاة، وصفات القلوب في الظلمة
والنور، وبحث في نور العلم والإيمان عال مشرق مؤثر ، لا يوجد في غيره مثله،
أورده في سياق الكلام على فوائد ذكر الله تعالى، ومنه تفسير المثل الذي ضرب
في سورة النور: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} (النور: 35) الآية، واستطرد من هذا المثل إلى أمثال أخرى في القرآن مائية
ونارية كمثل: سيلان الماء في الأودية، ونار الصائغ لاتخاذ الحلية والآنية - ومثل:
الصيب فيه الظلمات والرعد والبرق - وقد بلغ ما أورده من فوائد الذكر ومزاياه
وتأثيره في تغذية الإيمان وصالح الأعمال 79 فائدة [1] .
فهذه الكتب لا يقرؤها ولا يسمعها مؤمن إلا يشعر بالإيمان يربو وينمي في قلبه،
وبمضمون قوله تعالى: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} (الزمر: 22) فيزداد به من العبادة ويكثر فيها من ذكر الله تعالى ، فقد كتب -
قدس الله روحه - في الأذكار المأثورة ما لا يحسنه إلا مثله - ومثل كثير في الأنام
قليل - فرضي الله تعالى عن جامعي هذه الأحاديث النبوية، ومبيني ما أودعته من
الهداية الإلهية، وأثاب من جمعها وألف بينها، ومن أنفق على طبعها، وسعى
لتعميم نفعها، ومن تولى طبعها وتصحيحها، ومن يقرؤها للاهتداء وللهداية بها.
وكنت أود لو أتيح لي أن أخدمها ، بتخريج جميع ما أغفل تخريجه من
أحاديثها ، وتعليق حواش وجيزة في تفسير جميع غريب لغتها، وبيان وجيز لكل ما
يخفى أو يشكل من معانيها، وزيادة العناية بتصحيحها، كالنموذج الذي يراه قارئها
في بعض حواشيها. ولكن كثرة الشواغل والموانع، وقلة العون والمساعد،
واستعجال السلطان بطبعها ، قد حالت دون المراد من ذلك في هذه الطبعة، وعسى
أن يوفقنا الله تعالى وإياه لذلك في الطبعة الثالثة.
وإن هذا العمل لشاق دونه الإنشاء والتأليف المستقل، ولا يعرف صعوبته إلا
من ابتلي به ، وإنما يكون التصحيح سهلاً ، إذا وجدت أصول صحيحة مضبوطة
للمقابلة عليها، والأصل الذي طبعنا عنه هذه المجموعة مطبوع في الهند طبعًا كثير
الغلط والتصحيف والتحريف كأكثر الكتب العربية المطبوعة في ذلك القطر، ولا
سيما المطبوع منها على الحجر، وقد وجدنا لشرح الأربعين النووية ولرسالة الإمام
أحمد ، وكتاب الصلاة لابن القيم نسخًا مطبوعة في مصر ، فانتفعنا بالمقابلة عليها
على أن تصحيحها غير تام ، وجعلنا اعتمادنا في تصحيح آخر كتاب العمدة مقابلته
على النسخة المطبوعة مع الشرح في الهند، بعد أن كنا نعتمد أولاً على مراجعة
الصحيحين فقط. ولكن بعض هذه الأحاديث غير مبين مكانها فيهما، وبعضها
معزو إلى أحد الصحيحين وهو في غيره، ولا ندري سبب ذلك، وقد بينا بعض
ذلك في الحواشي. على أن المراجعة في صحيح البخاري في مكان من الصعوبة لا
يعرفه إلا من عالجه، فإن الحديث الواحد قد يوجد في عدة أبواب منه بألفاظ مختلفة
فمن وجد غلطًا في حديث منها ، كان عليه أن يراجع جميع رواياته فيها؛ ليمكنه
الجزم بالصواب، ومن لم يدقق النظر في اختلاف الروايات والرواة والألفاظ فربما
جعل الصواب خطأ.
مثال ذلك الحديث العاشر من كتاب صفة الصلاة في العمدة (صفحة 120) :
عن أبي قلابة - هو عبد الله بن يزيد الحضرمي البصري رضي الله عنه قال:
جاءنا مالك بن الحويرث في مسجدنا هذا فقال: (إني لأصلي بكم وما أريد الصلاة؛
أصلي كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي.
هكذا أورد الحديث صاحب العمدة ولم يعزه ، ولما كلفت اثنين من إخواننا
المشتغلين بعلم السنة قراءة هذه المجموعة بعد تمام طبعها؛ لاستخراج ما يجدان
فيها من خطأ الطبع وبيان صوابه ، رأى من قرأ العمدة منهما أن هذا الحديث غير
جلي ، فظن أنه لا يخلو من غلط ، فطفق يبحث عنه في صحيح البخاري فوجده في
(باب كيف يعتمد على الأرض إذا قام من الركعة) بلفظ: جاءنا مالك بن الحويرث
فصلى بنا في مسجدنا هذا فقال: إني لأصلي بكم ، وما أريد الصلاة، ولكن أريد أن
أريكم كيف رأيت النبي - وفي رواية رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي؟ إلخ ،
فجعل المصحح هذا صوابًا لوضوحه ، وذاك خطأ؛ لخفاء المراد منه ، ولما قرأت
جدول الخطأ والصواب بعد جمعه للطبع ، رمجت هذا التصحيح؛ لأن ما أورده
صاحب العمدة رواية أخرى للبخاري ، أوردها في (باب من صلى بالناس وهو لا
يريد إلا أن يعلمهم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وسننه.
فلمثل هذا الاختلاف في الروايات ، لا يجزم المصحح بأن كل ما رآه خفي
المعنى محرف فيراجعه، ولا بأن كل ما رآه جلي المعنى هو الصحيح من
الروايتين أو الروايات، بل لا بد من النقل واستقصاء الروايات عند المراجعة ،
وذلك من العسر بمكان. فنحن نرى الحفاظ وكبار المحدثين وشراح دواوين السنة
ينسون بعض الروايات أحيانًا ، أو يغفلون ذكرها في مواضعها: فهذا الحافظ ابن
حجر - وناهيك بسعة حفظه - قد ذكر في شرحه لحديث أبي قلابة باللفظ الذي أورده
صاحب العمدة ، أن البخاري أورده في (باب المكث بين السجدتين) أيضًا ، مع
أنه رواه فيه بلفظ آخر ليس فيه ما نحن بصدده ، ولم يذكر أنه أورده في (باب
كيف يعتمد على الأرض
…
) الذي يوضح معنى الأول ، وكذلك القسطلاني لم يذكر
سائر الأبواب الثلاثة عند ذكر كل منها كعادته الغالبة. فمن هذا المثال يعلم
القارئ لهذه المقدمة درجة عسر تصحيح الأحاديث النبوية المنقولة عن نسخة
غير صحيحة ، والمحدثون لا يعتدون بنسخة كتاب غير مروية عن المؤلف
بالسند ، أو مقابلة على أصل صحيح.
وقد كانت طريقة تصحيحنا لهذا المجموعة (كغيرها) أن مصحح المطبعة
يقرؤها مقابلة على أصلها ، فإذا رأى أن في الأصل خطأ ، لم يهتد إلى صوابه تركه
لنا ، فإذا كان مما نعرف أصله بالقطع صححناه ، وإلا بحثنا عن مظانِّ أصله في
عدة كتب مما عندنا ، بقدر ما نجد من سعة الوقت ، حتى ربما أنفقنا نصف النهار
أو نصف الليل في تصحيح كراسة أو نصف كراسة، وكنا نؤخر طبع الكراسة في
بعض الأحيان عدة أيام؛ لأجل أن نجد وقت فراغ لمراجعة بعض العبارات ، التي
نجزم بوقوع الغلط فيها. وقد نكتب في الحاشية كلمة (يراجع) ، ونحيل على
مصحح المطبعة ، فإن لم يظفر بالأصل الصحيح يترك الكلام على ما هو عليه تارة
ويعيده إلينا تارة ، ولهذا نبطئ في طبع ما ليس له أصل صحيح عندنا ، كأكثر كتب
هذه المجموعة ولا سيما (الوابل الصيب) منها ، الذي لم نجد له أصلاً ما في دار
الكتب الكبرى ولا في غيرها.
وقد كان شقيقنا السيد صالح - رحمه الله تعالى - يحمل أكثر أعباء المطبعة
عنا ، والمطابع التجارية لا تبالي بذلك مثلنا، بل يكتفي أيها أشد إتقانًا ، بأن يكون
ما يطبعه كالأصل المطبوع عنه تقريبًا. وبعضهم لا يصل إلى هذه الدرجة ، ومنها
ما يتصرف أصحابها في التصحيح بآرائهم ، حتى اعترف بعضهم بأنه كان يزيد في
الأصل ، أو ينقص منه وأنه إذا وجد كلامًا ساقطًا أو خفيًّا لا يقرأ ، وضع بدله
بحسب فهمه ، وهذا تزوير لا يصدر عن صاحب أمانة أو دين.
ولعمري إن إتقان التصحيح لما يطبع عن أصل غير صحيح لا يتيسر إلا
لجماعة من العلماء الأخصائيين ، تتعاون عليه بمراجعة كل مسألة في مظانها،
وهذا غير موجود في شيء من مطابع هذه البلاد إلا المطبعة الأميرية ، ومع هذا
نرى في بعض مطبوعاتها غلطًا كثيرًا، ولقد عهد إلينا السلطان عبد العزيز آل
سعود بطبع تفسير الحافظ ابن كثير فيما أمر بطبعه من الكتب كما تقدم، ولم نجد له
أصلاً إلا ما طبع في المطبعة الأميرية ونسخة خطية حديثة في دار الكتب الكبرى ،
ولعلها هي التي طبع عنها فإنهما سيان في كثرة الغلط ، حتى في الأحاديث المعزوة
إلى كتب السنة المعروفة ، وأسماء رجال الحديث على ما فيهما من نقص أشير إليه
بترك بياض يدل عليه، مع كتابة (بياض في الأصل) في الحاشية ، وقلما قرأنا
في هذا الكتاب تفسير آية ولم نجد فيه غلطًا مما نعرفه من ذلك، فكيف بما لا يعرف
بالرواية والحفظ لكلام المؤلف نفسه؟! وقد توسلنا ببعض الوسائل إلى تصحيحه
على نسخة معتمدة من خزائن كتب الآستانة، ولما يتم لنا ذلك ولعله يتم قريبًا.
هذا وإنه لما كان غرض السلطان من طبع هذه المجموعة وأمثالها؛ تعميم
العلم في بلاده دون بلادنا طبعنا بإذنه زيادة عما طلبه طائفة قليلة من النسخ؛ لتعميم
نفعها، فإذا بعناها بثمن قليل بالنسبة إلى أمثالها كان له شركة في أجرها.
هذا وإننا نسعى منذ سنين إلى استئجار دار واسعة؛ لأجل توسيع مطبعة
المنار ، وتأليف لجنة من أهل العلم؛ لتصحيح مطبوعاتها ، وضبط النسخ التي
تلقى إلينا قبل الطبع بمعارضتها على الأصول الصحيحة في دار الكتب الكبرى
وخزانة كتب الجامع الأزهر، أو حيث توجد في غيرها من خزائن الكتب الخاصة؛
كالخزانة الزكية ، والتيمورية ، والجعفرية ، والنورية [2] فعسى أن يهيئ الله تعالى
لنا ذلك ، ويوفقنا لكل ما توجهت إليه نفسنا من خدمة العلم والدين، والله ولي
المتقين، والحمد لله رب العالمين.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
محمد رشيد رضا
صدر في جمادى الأولى سنة 1342
_________
(1)
وقع غلط مطبعي في عدها ، فجعل العدد الذي (في ص 745) هو 35 ، والصواب أنه 37 فيصحح مع هذه.
(2)
الأولى منسوبة لأحمد زكي باشا ، والثانية إلى أحمد تيمور باشا ، والثالثة إلى جعفر والي باشا ، والرابعة لنور الدين بك مصطفى.
الكاتب: عبد القادر المغربي
تزويج المسلم بغير المسلمة [
1]
يكاد يكون جواز تزوج المسلم بالكتابية من الأمور المعلومة من الدين
بالضرورة ، ولا أظن أن أحدًا من المسلمين يكابر فيه [2] ، وجل ما يقوله فقهاؤنا في
هذا الزواج: إنه مكروه تنزيهًا؛ أي: لا تحريمًا. ومعنى ذلك أن الأفضل للمسلم أن
يتزوج بمسلمة ، فإذا تزوج بكتابية وترك المسلمة ارتكب خلاف الأولى. ولكن لا
يكون آثمًا أو مرتكبًا حرامًا ، وعللوا الكراهة (بخوف أن يتخلق الولد بخلق
أمه) والأخلاق أثر من آثار الدين ، فيخشى على الولد أن يتأثر بمؤثرات دين غير
دين أبيه.
هذا ما يقال في المسألة من طريق التفقه ، وأما ما يقال فيها من طريق
الاجتماع ومباحث العمران ، فهو: أن الشرع الإسلامي أباح لنا التزوج بالكتابيات
توصلاً إلى نشر الإسلام ، وحمل الكافة عليه ، فإن الأصول أن يحمل البشر على
الحق ولو بالقوة ، ولكن الشرع عذر أهل الكتاب بما أوتوه من روح الدين السماوي
وإن كانوا شوهوا هذه الروح بما بدلوا وغيروا ، والشرع إذا أمهل غير المسلمين ولم
يقسرهم على الإسلام فهو لم يهملهم، ولم يغفل أمرهم ، بل هو يريد من المسلمين أن
يعملوا على نشر الدين بينهم ، وعلى دعوتهم إليه بالتي هي أحسن، والدعوة كما
تكون بلسان المقال تكون بلسان الحال، ولسان الحال أشد تأثرًا ، وأقرب منالاً من
لسان المقال، والمراد من الدعوة إلى الإسلام بلسان الحال أن يكون المسلمون على
وضع اجتماعي راقٍ ، يحمل معاشريهم من غير أبناء ملتهم على النظر في دينهم ،
وحب التخلق بأخلاقهم، والاهتداء بهديهم، وهذا يكون بشيئين:
(1)
العدل في حكومة الإسلام.
(2)
حسن الأخلاق في أهل الإسلام.
وإننا معشر المسلمين لو حافظنا على هذين الأمرين في تاريخنا الماضي ، لما
بقي في بلادنا غيرنا بل كانوا أسلموا كلهم. ولقد بسطت هذا الموضوع يوما أمام
بعض عامة المسيحيين ، فرسم إشارة الصليب على وجهه وصدره وقال: نشكر الله
ياسيدي، إذ لم تعملوا بأصول دينكم ، وإلا لما عبد المسيح في بلادكم.
ومن جملة الطرق التي شرعها الإسلام؛ لتكون دعوة إليه بلسان الحال -
إباحة تزوج المسلم بالكتابية - فإن زواجه بها يوثق علائق المصاهرة والنسب بعدة
عائلات كتابية ، فإذا كان الصهر المسلم على ما يزيده الإسلام من كرم الأخلاق
والتحلي بالفضائل، فإن ذلك يستدرج عائلة زوجته إلى الإسلام بلطف ، ويستهويهم
من حيث لا يشعرون إلى الإعجاب به، والدخول فيه، عدا إسلام الزوجة نفسها بما
لزوجها المسلم من السلطة ، وحسن التلطف ، وقوة التأثير عليها.
وأما اليوم فإن أخلاقنا وفشو الطلاق بيننا ، حمل الكتابيين على زيادة التمسك
بدينهم، وعلى النفرة منا ومن ديننا، ولقد سألت مرة صديقًا لي من وجهاء
المسيحيين: هل يرضون أن يزوجوا بناتهم من شبان المسلمين المهذبين ما دام هذا
الزواج جائزًا في الشريعة الإسلامية؟ فقال: إننا لا نراه محظورًا من الوجهة
الدينية [3] ، وإنما نراه محظورًا من باب الاحتياط والتدبر، وذلك خشية أن يطلق
الزوج المسلم ابنتنا، أو يتزوج بأخرى سواها فتعيش منغصة.
ونعيد القول في الموضوع بشيء من الشرح والإيضاح فنقول: يفهم من
تضاعيف أقوال علمائنا أن التسامح مع أهل الذمة ، وتركهم أحرارًا في دينهم ، إنما
هو مؤقت ومنتظر فيه سنوح الفرص، حتى إذا سنحت الفرصة حملوا على الإسلام
لا بطريق الإكراه والقسر، بل بطريق الدعوة اللينة، والمجادلة بالتي هي أحسن
والعدل في الحكومة، والأخلاق الحسنة في المعاشرة.
ومن هذه الطرق: التزوج ببناتهم، وهذا التزوج يفيد في نشر الدين
وتكثير سواد أهله ، كما يفيد (الاسترقاق) في ذلك؛ إذ ليس الغرض من
الاسترقاق مجرد استغلال الأرقاء ، والانتفاع بخدمتهم كما ينتفع بالدابة، وإنما
الغرض نفع الرقيق نفسه، ونفع البشرية بنشر تعاليم الإسلام بين أبنائها ، فإننا نأخذ
الأرقاء في الحرب أسرى ، ونؤديهم إلى بيوتنا ونمزجهم بعائلاتنا كي يتخلقوا
بأخلاقنا، ويدخلوا أخيرًا في ديننا، ويكثر بهم سواد أمتنا، وربما كان نصف
المسلمين [4] اليوم هم من سلالة أولئك الآباء الذين دخلوا الإسلام من طريق الرق،
فالرق في نظر العالم المسلم الاجتماعي ضرب من ضروب الاستعمار ، أو ما يسميه
سواس هذا العصر (التجنس بالتابعية) .
وقد تنبه بعض ملوك الإسلام الأقدمين إلى وجوب الاستفادة من (الاسترقاق)
بشكل آخر ، فاتخذ من أسارى الحرب أو من صغارهم عسكرًا جرارًا ، بعد أن كان
يهذبهم ويعلمهم آداب الإسلام، ويخصصهم لفنون القتال، وهكذا فعل الخليفة
(المعتصم) العباسي في أرقاء الترك، والسلطان (أورخان) العثماني في أرقاء
الروم والصقالبة الذين سموا (أنكشارية) .
فإباحة التزوج بالكتابيات هو كإباحة استرقاق أولاد المحاربين ، من حيث إن
كلاًّ منهما وسيلة لنشر الدين، وتكثير سواد المسلمين، ولكن قومي كانوا عن هذا
غافلين: غفلوا في أزمنتهم التاريخية الماضية - وقت أن كانت الغلبة لهم والقوة
المادية والمعنوية في جانبهم - عن الانتفاع بهذا التشريع الحكيم - أعني التزوج
بالكتابيات [5]- ولو تزوجوا بهن وأحسنوا المعاملة، وتمسكوا بآداب الشريعة،
وأطاعوا الله فيما نهى وأمر - لكان المسلمون أكثر سوادًا وعددًا مما هم اليوم أضعافًا
مضاعفة، ولكانوا استفادوا من هذه الشريعة فائدة اجتماعية عمرانية، كما استفادوا من
شريعة الاسترقاق، لكنهم - وا خجلاه - لم يستفيدوا من شريعة (التزوج)
بالكتابيات ، لا في الأول ولا في الآخر، وأفسدوا شريعة (الاسترقاق) وغيروها
عن وضعها السماوي، فأصبحت تجارة قاسية، ومعاملة وحشية، يحبذ
الشارع الأعظم عمل الساعين في منعها، والضاربين على أيدي مروجيها.
قلنا: إن شريعة التزوج بالكتابيات كانت تفيدنا في الزمن السابق فائدة عظيمة،
ولكن هل تفيدنا اليوم لو عملنا بها؟!
أرى أن الفائدة غير مرجوة اليوم كما كانت مرجوة في السابق، وذلك
لانعكاس الحال في هذا العصر: فبعد أن كانت الغلبة لنا والقوة في جانبنا في العهد
الماضي ، وكان يمكننا ونحن غالبون أن نؤثر في نفوس زوجاتنا الكتابيات ، وفي
نفوس أهليهن ، فنجذبهم إلينا ونطويهم في هيئة اجتماعنا - أصبحنا اليوم مغلوبين
مقلدين للكتابيين ، سواء كانوا حربيين أو معاهدين أو ذميين؛ إذ إن الناموس
الاجتماعي الأعظم هو أن يقلد المغلوب الغالب في أطواره ومختلف عاداته ، وكذا
في تقاليده أحيانًا ، وإنما جعلت الكتابيين غالبين مع أن الكثرة لنا ، والحكومة [6]
متدينة بديننا - ذلك بما تيسر لهم من أسباب الرقي العلمي والاقتصادي والعائلي ،
وبما توفر فيهم من تقليد الأوربيين في دينهم ومناحي عمرانهم ، وأساليب حياتهم
والأوربيون هم الغالبون ، فمن يسبق إلى تحديهم يكون هو الغالب بالطبع ، وإن
زوجة أوربية أو ذمية إذا دخلت عائلة إسلامية ، تصرفت في أخلاقها ، وبدلت من
طباعها، وأفرغتها على طول الزمان في القالب الذي تريد ، وذلك لما عليه معظم
الكتابيات من العلم والتربية والتحيل والدراسة ، وما عليه معظم عائلاتنا ونساء
بيوتنا من الجهل والغباوة ، وضعف الملكة والانصراف عن فهم معنى الحياة السعيدة
خذ أية بلدة من بلادنا ، فلا تكاد ترى فتاة مسلمة تحذق القراءة والكتابة كما لا تكاد
ترى فتاة كتابية تجهلها [7] .
لا ريب أن وجود الزوجات الكتابيات المتعلمات في العائلة المسلمة مفيد
كوجود المعلم في المدرسة ، لكن تؤدي كثرته بالتدريج إلى صبغ الأمة الإسلامية
بصبغة لا تتفق مع مصلحتها ، من حيث هي أمة مستقلة تريد أن تنشئ أبناءها على
دينها وآدابها وتقاليدها.
فالتزوج اليوم بالكتابيات موضع نظر، ومناط حذر، كوضع أبنائنا في
مدارس الفرير والجزويت والأميركان، فإنهم يتعلمون، ولكنهم عن التربية
الإسلامية يبتعدون، وفي المهاوي الأخرى قد يتدهورون.
هذا ما نقوله: لو كان لنا من أمر النواميس الاجتماعية ، والسنن الكونية شيء؛
أما والأمر ليس بيدنا، وتحويل مجرى السنن غير داخل تحت قدرتنا، فإن هذه
النواميس حاكمة على الأمم متحكمة في أبنائها شاؤوا أو أبوا، رضوا أو سخطوا،
والأرض لله يورثها من يشاء من عباده الصالحين.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
المغربي
(المنار)
إن مسألة تزوج المسلم بالكتابية ، وتزوج الكتابي بالمسلمة قد طال بحث الكتاب
فيها بمصر في هذه الأثناء ، وقد أتى الكاتب فيها ببحث جديد مفيد ، أوجز فيه وهو
منتقد من وجوه ، أشرنا إلى بعضها في حواشي الصحائف ، ولا سعة عندنا في
الوقت لتحقيق المسألة من جميع وجوهها، وقد فتحت له زميلتنا (الهلال) بابًا
واسعًا ، نشرت فيه آراء كثيرين من أشهر كتاب العصر البحاثين ، بعد أن استفتتهم
في مسائل معينة فيه ، وكنا ممن استفتتهم وحالت كثرة أعمالنا دون كتابة شيء
لها ، وإنما نقول بالإجمال: إن كان في تزوج بعض المصريين بالإفرنجيات
فائدة ما في نظام المعيشة ، فإن فيه من الغوائل المنزلية والاجتماعية ما يفسد نظام
الأمة المصرية برمتها ، إذا كثر، ويحول دون تجديد تكوينها تكوينًا مستقلاًّ ، لا ذبذبة
فيه ولا اضطراب، وما أنكره على صديقنا المغربي إنما هو المبالغة في المسألة ،
وإلا فقد قلنا في تعليل منع التزاوج بين المؤمنين والمشركين من سورة البقرة: إن
هذا الأمر يختلف باختلاف الأشخاص، فرب مسلم مقلد يتزوج بكتابية عالمة ،
فتفسد عليه تقاليده (ص361 ج 2 تفسير) وسنشرح المسألة في أول فرصة إن
شاء الله تعالى.
_________
(1)
للأستاذ الشيخ عبد القادر المغربي العضو في المجمع العلمي بدمشق.
(2)
قد منعه بعض المتقدمين والمتأخرين ، وهو مما شذ به عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن جمهور الصحابة.
(3)
المنار: إن هذا القول غير صحيح ، فقائله إما أن يكون حاكيًا عن فئة معينة غير مقيدة بتعليم الكنيسة ، وإما أن يكون جاهلاً أو مصانعًا ،على أنهم لا يزالون يزوجون المسلمين.
(4)
المنار: هذه مبالغة عظيمة.
(5)
إن الإكثار منهن لم يكن ممكنًا ولا مصلحة؛ لأنه يقتضي تأييم الكثير من المسلمات ، وكفى أن السراري كن منهن في الغالب.
(6)
أنشئت هذه المقالة في عهد الحكومة العثمانية (الكاتب) .
(7)
المنار: هذه مبالغة بل غلو كبير فاللواتي يجدن القراءة والكتابة فينا واللواتي يجهلنها فيهم كثيرات جدًّا ، ولكن المتعلمات فيهن أكثر بالنسبة إلى عددهن وعددنا. هذا وإننا نعرف كثيرًا من رجالنا في مصر وسورية تزوجن بنساء أوربيات ، فأسلمن وتبعن أزواجهن ، أو بقين على دينهن ولا نعرف واحدة منهن نصرت زوجها ، ولا تصرفت في أهل بيته كما تشاء، وإني أذكر هذا الرأي لصديقي الأستاذ الكاتب ، منذ كنا نطلب العلم في طرابلس الشام ومن العجيب أنه بقي مصرًّا عليه بعد أن زار مصر واتسع اختباره.
الكاتب: محمد رشيد رضا
مسألة تحديد الزواج
بقانون ومسلك الحكومتين العثمانية والمصرية فيه
قد بيَّنا في الجزء السابق نص ما وضعته الحكومة العثمانية منذ سنين من
أحكام هذه المسألة في (قانون الأسرة - العائلة) وما بينته من مداركها ، ووجه
الحاجة إليها ، وأقوال الفقهاء المجتهدين فيها، ثم ما وضعته الحكومة المصرية هذه السنة في ذلك.
ومما يستحق الذكر في هذا المقام ، أن بين المصريين وبين الترك ، ومن
نشؤوا في مدارسهم من مسلمي الشعوب العثمانية المسلمة شبهًا ، ظهر أثره في
الحكومتين.
المدارس العصرية في بلاد الفريقين: إما إفرنجية أو متفرنجة ، وأكثر
المتعلمين فيها قد غلب على أرواحهم وعقولهم وأهوائهم وأذواقهم تشريع الإفرنج
ونظامهم وأدبهم وعاداتهم؛ لأنهم لا يتعلمون أصول الشريعة التي ينتمون إليها ، ولا
الآداب الإسلامية التي كان عليها أسلافهم وبناة مجدهم، ولأن الذين لا يزالون
يتدارسون العلوم الشرعية في بلادهم تسقط قيمتهم وقيمة ما يتعلمونه من أنفس
الطبقات العليا فالوسطى عامًا بعد عام بجمودهم على التقليد الجاف ، لما يقول
شيوخهم المتأخرون: إنه المعتمد أو المفتى به في المذهب. وإن كان مخالفًا لما عليه
سائر الأئمة المجتهدين ، والعلماء الراسخين من أهل الملة - ومخالفًا لنص صريح
عن الشارع أيضًا.
وإنما يعتذرون عنه إذا احتج عليهم به بأنه لم يصح عند إمامهم وإن اتفق
حفاظ الحديث ونقلة السنة عليه - ومخالفًا لمصلحة المسلمين العامة في معايشهم أو
الدفاع عن أوطانهم - فبهذا صاروا حجة على أحكام الشريعة العادلة، وآداب
القرآن والسنة الكاملة، وفتنة للمتفرنجين ، يصدونهم عن أصل الدين ويغرونهم
به. وصارت الحكومتان تنشئ المدارس؛ لتعليم نشء الأمة كل ما هو
أوربي بصبغته الأوربية ، حتى أصول التشريع وأنواع القوانين ، وتدخلها في
أعمالها ومحاكمها العسكرية والجنائية والتجارية والمدنية، وتتفصى من كل ما هو
شرعي إسلامي بالتدريج ، وبضروب من التأويل والتلفيق مراعاة لتقاليد العامة
ونفوذ شيوخ الفقه في أنفسهم ، حتى انتهتا في هذا الجيل إلى جعل أحكام الزواج
والطلاق ، وما يتعلق بهما من أحكام النفقات والعدة وغيرهما قانونًا كسائر القوانين
وقد بينا ما في هذا من الجناية على الشريعة من قبل [1] ، كما بينا مرارًا أن شيوخ
الفقه الجامدين على التقليد الجاف ، هم الذين ألجؤا الحكومتين إلى ما ذكر ، وأنهم
كانوا وما زالوا يأبون في كل بلد أن يسيروا في تعليم الشريعة ودراستها على
الطريقة الاستقلالية ، فينظروا إليها في جملتها لا في كل مذهب على حدته ، بحيث
يتعصب له فريق معين على سائر المذاهب ، ويقارنوا بين ما استنبطه المجتهدون،
ويقيموا بينها ميزان التعادل والترجيح ، الذي يتدارسون ألفاظه لذاته، كأنه منزل
للتعبد كالقرآن، أو لأجل أن يستعين به أهل كل مذهب على إبطال غيره أو توهينه.
ثم إنهم بعد هذا لا يقاومون الحكومة فيما يعتقدون أنها خالفت الشرع فيه ، بل
أكثرهم يسكت عنها، وبعضهم يتأول لها، وبعضهم يفتيها فتاوى مبهمة ، يتحرى
فيها أن يكون ما قاله صحيحًا في نفسه ومرضيًّا عندها ، وإن لم ينطبق على واقعة
الفتوى وموضوعها ، وهم يعلمون أنها تقنع به العامة بأنها لم تفعل إلا ما أفتاها به أكبر علماء الدين.
ولو أنهم سلكوا مسلك الاستقلال الصحيح ، والنظر إلى جميع الأئمة
المجتهدين بعين واحدة ، وجعلوا من قواعد الترجيح بين آرائهم الاجتهادية اختيار
أيسرها؛ عملاً بالقاعدة القطعية الثابتة بنص القرآن كقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ
بِكُمُ اليُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْر} (البقرة: 185) وقوله عز وجل: {مَا
يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ} (المائدة: 6) {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ
حَرَج} (الحج: 78) وقوله صلى الله عليه وسلم: (يسروا ولا تعسروا،
وبشروا لا تنفروا) متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه. وفي رواية
(وسكنوا) بدل (وبشروا) وورد من حديث أبي موسى بالتثنية؛ أي: إن
النبي صلى الله عليه وسلم خاطبه هو ومعاذ رضي الله عنهما بذلك حين أرسلهما
عاملين إلى اليمن، وأمرهما بالاتفاق وهو متفق عليه أيضًا ، وقالت عائشة - رضي
الله تعالى - عنها: ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ
أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس عنه. وهو متفق عليه واللفظ
لمسلم - لو سلكوا هذا المسلك ، مع بقاء طوائف من طلاب الشريعة يتوسعون في فقه
كل مذهب - لأمكنهم جعل التشريع الإسلامي فوق كل تشريع ، وكان عليه مدار
الأحكام في جميع البلاد الإسلامية، وكان لهم مندوحة عن التأويل والأخذ بالأقوال
الشاذة ، والتفصي بفتوى مبهمة ، يظنون أنهم يسلمون بها من إقرار الحكومة على
ما تخالف فيه الشريعة.
نعم: قد آن للعلماء أن يأخذوا بإيمانهم جميع أمور التشريع ، ويبنوا ما هو
قطعي ، لا مندوحة للمسلمين عنه ، وما هو دون ذلك مما يجب الأخذ فيه بما هو
أيسر على الناس ، ما لم يكن معصية لله تعالى ، وقد دخلوا الآن في طور جديد ليس
فيه حاكم مستبد يرهقهم أو يعاقبهم إذا أظهروا ما عندهم ، ولكن يجب أن يعلموا أنه
يستحيل أن يلتزم البشر في هذا العصر تقليد عالم واحد ، فيما يعسر عليهم وينافي
مصالحهم. وهاهم أولاء قد خرجوا عن هذا في الحكومتين، ورجحوا على المذاهب
الأربعة في جملتها قولاً شاذًّا لأحد العلماء المتقدمين ، بحجة أنه هو الأيسر والموافق
للمصلحة العامة ولمصلحة من يتحكم الأولياء بتزويجهم صغارًا، وما استخرجه
للحكومتين ، من زوايا مسائل الخلاف إلا بعض هؤلاء الفقهاء، فلماذا لا يأخذون
الأمر بجملته في التشريع كله؟
وقد علم القراء مما نشرناه في الجزء السابق ، أن ما قررته الحكومة العثمانية
في هذه المسألة أصح أحكامًا، وما دعموه به أحسن بيانًا، ولا يرد عليه من الطعن
ما يرد على ما قررته الحكومة المصرية من تحريم ما أحل الله وأجمع عليه
المسلمون، كتزويج البالغين بالفعل قبل السن المعينة ، وعدم الاعتداد بنكاحهما وما
يترتب عليه من الأحكام الكثيرة وإن ولد لهما، وعدم سماع دعوى لأحدهما تتعلق
بهذه القضية في حال حياة الآخر ولا بعد موته لا في الطلاق والنفقة، ولا في
الإرث ولا في غير ذلك - وإباحتها للمحرم بالإجماع من العقد على المتزوجة لرجل
آخر بعد بلوغ السن المقررة - إلى غير ذلك، فالقانون العثماني اختار قولاً مشهورًا
من أقوال أئمة الفقهاء في سن البلوغ ، وجعله مناط أهلية التعاقد في النكاح وغيره
وجعل لمن يدعي البلوغ بالفعل ، فله أن يستأذن الحاكم الشرعي في الزواج إذا أراده،
وحتم على الحاكم أن يأذن له إذا رأى أن بنيته تطيق ذلك. فوقف عند حد منع
الضرر والضرار الممنوعين بنص الشارع، ولم يمنع من سماع أي دعوى تترتب
على نكاح لم يبلغ فيه أحد الزوجين تلك السن ، لما في ذلك من المفاسد الكثيرة،
وتضييع الحقوق الكبيرة. ومن ادعى أن كل زواج قبل السن المحددة في القانون ،
فهو ضار كذبه الطب والحق الواقع، ومن ادعى أنه لا ضرر في شيء منه فهو
جاهل بالواقع أو مكابر.
ومن المغالطة أن يجعل الخلاف في هذا القانون دائرًا بين منع زواج الصغير
والصغيرة مطلقًا وإباحته مطلقًا. فإن بين الأمرين وسطًا لم ينقل عن أحد من العلماء
خلاف فيه ، وهو من بلغ بالفعل في سن الخامسة عشرة أو السادسة عشرة أو
السابعة عشرة - وهو لا يصدق عليه وصف الصغر لغةً ولا شرعًا.
لم يبلغنا أن أحدًا من علماء الترك ، ولا غيرهم من العثمانيين أنكر على
حكومتهم الأحكام التي جعلتها مواد قانونية لهذه المسألة ، ولكن جميع أهل البصيرة
بالدين ، يطعنون في دين رؤساء تلك الحكومة الاتحادية ، ويحكمون بردتهم،
ويعتقدون أنهم يحاولون هدم هذه الشريعة الإلهية العادلة.
وأما علماء مصر من مدرسي الأزهر ومدرسة القضاء الشرعي ومدرسة دار
العلوم والمحامين الشرعيين وغيرهم ، فقد تجرؤوا في هذه المرة وانتقدوا هذا القانون
من وجوه عديدة وأنكروا على واضعي نصه ، وعلى الشيخين الكبيرين - شيخ
الأزهر ومفتي الديار المصرية - إجازته ، واقتصارهما على نقل قول الحنفية بجواز
تخصيص القضاء - ومنهم من أطلق القول في الإنكار وبالغ فيه ، ومنهم من عرف
بعضًا وأنكر بعضًا، وقد حوم بعضهم حول مسألة الاجتهاد ، وهل يدعيه واضعو
هذا القانون مطلقًا أو مقيدًا؟ وألم آخر بمسألة جعل الشرعية قانونًا ، وهو ما سبقنا
إليه عند الأمر بتأليف اللجنة العلمية؛ لوضع قانون الأحكام الشخصية - فبدأنا
بإظهار إنكارنا للشيخ محمد بخيت أكبر أعضاء تلك اللجنة ، وثنينا بوزير الحقانية،
ثم كتبنا ما كتبنا في المنار.
ولما كانت هذه المسألة مفتاحًا لمسائل ستتلوها من جنسها ، وتكون موضوع
البحث والمناقشة في مجلس النواب المصري الذي سينعقد قريبًا رأينا من المفيد أن
ننشر أقوى ما اطلعنا عليه مما كتب في تأييد هذا القانون ، وفي نقده والإنكار عليه؛
ليحفظ أو يسهل الرجوع إليه، والفريق الأول عندنا محصور في الشيخ محمد بك
الخضري - وهذا نص ما كتبه ونشره في جريدة الأهرام:
***
تحديد سن الزواج
للأستاذ الشيخ محمد بك الخضري من المفتشين للمدارس الأميرية [2]
فاجأ الجمهور مرسوم جلالة الملك ، بتحديد السن لزواج الصغير والصغيرة ،
حتى لو حصل الزواج قبل هذه السن لا تعترف به المحاكم الشرعية ، ولا تبني
عليه شيئًا من آثار الزوجية ، ولا يسمح لمن يباشرون عقود الزواج من
المأذونين والقضاة ، أن يحرروا عقد زواج بين اثنين لم يبلغ أحدهما السن التي
قررها المرسوم لكل من الزوجين ، فاجأهم ذلك فكان مجالاً للأحاديث والسمر،
واستفتاء المستفتين، وانتقاد المنتقدين، من علماء ومحامين، على صفحات الجرائد ، وقد دعاني بعض من أحب إلى أن أكتب على صفحات الأهرام الغراء ،
ما يتضح به صبح هذا الأمر الخطير ، قبل أن تتشعب الآراء، وتكثر الظنون.
***
زواج الصغير والصغيرة
مما كان موضوع خلاف بين فقهاء المسلمين ، عقد زواج الصغيرة والصغير
فمنهم من أجازه ، ومنهم من منعه ، أما الذين أجازوه فهم جمهور الفقهاء ، وهم بين
مضيق لدائرته وموسع لها ، ولهم في ذلك ثلاثة مذاهب:
(الأول) رأي الفقيه المقدم أبي حنفية النعمان بن ثابت رحمه الله وهو
الذي توسع فيه توسعًا عظيمًا ، حيث أجاز لكل ولي قرب أم بعد أن يتولى تزويج
الصغيرة والصغير ، إلا أنه ميز الأب والجد بامتياز ، وهو أن عقدهما نافذ لا خيار
فيه ، بعد أن يبلغ ذلك الذي زوج وهو صغير ذكرًا أكان أم أنثى أما إن باشره
غيرهما من الأولياء من أخ أو عم أو ابن عم ، فإنه يثبت فيه الخيار بعد البلوغ
بشروط وقيود ، جعلت ذلك الحق في الغالب عديم الجدوى ، وليس من غرضنا الآن
أن نتوسع في شرح تلك القيود.
(الثاني) رأي الفقيه المصري [3] الكبير محمد بن إدريس الشافعي وهو أنه
لا يزوج الصغير والبكر الصغيرة إلا الأب أو الجد ، وقيد حقهما في ذلك بقيود
تحفظ للصغير والصغيرة بعض حقوقهما.
(الثالث) رأي إمام دار الهجرة مالك بن أنس وهو أنه لا يباشر هذا العقد إلا
الأب وحده في حياته ، ووصيه في التزويج بعد وفاته - احترم رحمه الله إرادة
الأب حيًّا أو ميتًا.
وأما الذين منعوا تزويج الصغيرة والصغير قبل البلوغ ، فقليل من الفقهاء ذكر
منهم صاحب المبسوط: بن شبرمة وأبا بكر بن الأصم. والأول فقيه من كبار فقهاء
الكوفة ، وكان قاضيها في عصر الإمام أبي حنيفة رحمه الله وقد ساق صاحب
المبسوط دليل هذا المذهب واضحًا مع مخالفته لمذهبه ، كما هو شأن العلماء أمنة
العلم وسرج الهداية - قال - لقوله تعالى: {وَابْتَلُوا اليَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} (النساء: 6) : فلو جاز التزويج قبل البلوغ لم يكن لهذا فائدة. يلاحظ أن أئمة الفقهاء وكبار المفسرين قرروا أن كلمة النكاح ، لم تأت في القرآن الكريم إلا بمعنى
العقد.
ولأن ثبوت الولاية على الصغير؛ لحاجة المولى عليه ، حتى إن فيما لا
تتحقق فيه الحاجة لا تثبت الولاية كالتبرعات - ولا حاجة بهما إلى النكاح؛ لأن
مقصود النكاح طبعًا هو قضاء الشهوة - وشرعًا النسل - والصغر ينافيهما.
ثم هذا العقد يعقد للعمر ويلزمهما أحكامه بعد البلوغ ، فلا يكون لأحد أن
يلزمهما ذلك؛ إذ لا ولاية لأحد عليهما بعد البلوغ.
هذا دليل المذهب المانع لزواج الصغيرة والصغير ، احتج عليه أصحابه بدليل
منقول وهو إشارة الكتاب ، وبدليل راجع إلى العلة التي شرعت من أجلها الولاية ،
وهي حاجة الصغير. فمتى انتفت الحاجة انتفى معلولها، وهي هنا منتفية. وبدليل
معقول وهو ما يترتب من الفساد على هذا العقد ، وهو إلزام الصغير بعد بلوغه
أمرًا لم يلتزمه
لمن أجازوا تزويج الصغيرة والصغير - وهم جمهور الفقهاء - أدلة أخرى
وليس القراء في حاجة إلى أن نذكرها لهم؛ لأن الغرض أن نبين أن هناك مذهبًا
إسلاميًّا منع زواج الصغيرة والصغير ، وحتم الانتظار إلى البلوغ ، والذين رووا
هذا المذهب هم علماؤنا الذين نطمئن إليهم ، يظهر أن الحكمة المصرية سمحت
لنفسها منذ أزمان ، أنها إذا رأت في حكم من المذهب المعمول به ضررًا يلحق
الجمهور ، أن تشير على جلالة الملك بتعديل هذا الحكم مستعينًا بآراء الآخرين من
الفقهاء ، سواء أكانوا من أرباب المذاهب المعروفة ، كما فعلت في الطلاق على
الغائب ومسائل أخرى ، أم من غيرهم كما فعلت في هذه المسألة ، وعدم الاعتراض
عليها فيما سبق شجعها على تحديد سن الزواج بعد أن علمت من أضرار تزويج
الصغار ما علمت.
وليس هناك مانع من التلفيق ، كما صرح به كبار رجال الأصول ، وفي
مقدمتهم: الكمال بن الهمام أشهر الأصوليين من الحنفية.
***
المنع وعدم سماع الدعوى
الحكومة متى تحققت من ضرر السير على حكم من الأحكام في المذهب
المعمول به ، ليس في مقدورها أن تمنع من العمل على خلافه ، والدليل على ذلك
أن المحاكم الشرعية تسير في أحكامها على الراجح من مذهب أبي حنيفة - رحمه
الله - وهناك أقوال لأصحابه تخالف ذلك الراجح ومذاهب أخرى تخالفه كذلك ، فهل
في مقدور الحكومة أن تمنع زواجًا يعقد بين اثنين على مذهب الشافعي رحمه الله
وتقول للزوجين: تفرقا؛ لأن العقد بينكما ليس على الراجح من مذهب أبي حنيفة؟ !
كلا ليس ذلك في مقدورها ، ما دام الزوجان راضيين ، إنما الذي في مقدورها ألا
تعترف محاكمها بهذا العقد ولا بالآثار المترتبة عليه.
هب أن زوجًا قال لزوجه مُطَلِّقا: أنت بائن. وفي أثناء عدتها راجعها من
غير عقد جديد ، فهل في وسع حكومة من حكومات العالم الإسلامي أن تقول للزوج
الذي عاد إلى معاشرة زوجه: لا تعد؛ لأن أبا حنيفة يعتبر هذا الطلاق بائنًا ولا عودة
إلا بعقد جديد؟ ! كلا ليس ذلك في وسع أحد ، وإنما إذا تقدما للمحكمة لا تعتبرهما
زوجين ، وإذا مات أحدهما لا تورث الآخر منه؛ لأن الزوجية في نظر المحكمة قد
انحلت ولم تعد - فما رآه بعض المحامين من أنه كان الأولى بالحكومة ، أن تضع
عقوبة على من زوج ابنه أو ابنته في حال الصغر ، رأي لم ينضج؛ إذ كيف يعتبر
مجرمًا من اتبع مذهبًا من مذاهب المسلمين في عمل من أعماله الشخصية ويجر إلى
المحاكم المدنية لتحكم عليه بالعقوبة؟ ! .
إن هذا المرسوم الكريم قد دعا إلى الابتعاد عن أمر فيه ضرر عظيم - كانت
هناك عقود تعقد ، لا لمصلحة الصغيرة والصغير بل لمصالح آخرين ، يريدون
الاستفادة من تقييد أحد الزوجين بالآخر ، قبل أن تعرف إرادتهما أو إرادة أحدهما،
وكثير من المطلعين على أحوال الناس يقولون: إن عاقبة مثل هذا الزواج في
الغالب نكد على الزوجين جميعًا. وأكثر من ذلك أن ذوي الخبرة من الأطباء قرروا
لهذا الاجتماع أضرارًا ، ليس شرحها بميسور على صفحات الجرائد ، وقد سمعت
الكثير منها فآلمني سماعه ، ولا طريق إلى تنفير الناس منه ، وإبعادهم عنه إلا أن
يروا محاكمهم الشرعية تأبى أن تعترف به.
أما الاعتراض على ذلك ، بما يوجد من تحريم حلال وإحلال حرام؛ فلا محل
له ما دامت هناك مذاهب مختلفة ، وكثير من العقود يعتبرها أبو حنيفة - رحمه
الله- صحيحة ، ويعتبرها الشافعي باطلة ، ولكن القاضي يحكم بالصحة ويحل
الاجتماع ، فهل يقوم الشافعي ويقول للمحكمة: قد أحللت ما حرم الله؟ كلا بل
متى حكم القاضي بأي مذهب أبيح له أن يقضي به - كان حكمه قاضيًا على كل
خلاف ، وصارت الحادثة كأن فيها قولاً واحدًا ، فإذا أباح ولي الأمر لقاضيه أن
يقضي بمذهب ابن شبرمة في زواج الصغيرة والصغير ، فقضى حتى ببطلانه لم يعد
هناك خلاف بين الفقهاء في بطلانه ، وهكذا الشأن في كل حكم لم يخالف كتابًا ولا
سنة ، ومع هذا فإن المرسوم لم يكلف القاضي أن يحكم ببطلان الزواج ، وليته فعل
فإن الجادة خير من بنيات الطريق.
ولا محل لقول كاتب في المقطم أمس: (فرأيت الشريعة برمتها لا تحظر ما
منعه القانون الملحق ، ولا تمنع ما حرمت هاتان المادتان) فإنه إن أراد بالشريعة
بعض المذاهب الإسلامية ، كان قوله صحيحًا ، وليست الشريعة مذهبًا معينًا ، وإذا
أراد بالشريعة إجماع المسلمين على حل ما يريد المرسوم الامتناع منه خطأه صاحب
المبسوط بما رواه واستدل عليه في الصفحة 212 من الجزء الرابع.
ليس للجمهور المصري بعد ذلك إلا أن يساعد حكومته ، التي أرادت به خيرًا
فيمتنع من تلقاء نفسه عن عقد زواج، أحد طرفيه صغير أو صغيرة.
…
...
…
...
…
...
…
محمد الخضري
***
زواج الصغير والصغيرة
رد للأستاذ الشيخ محمد بخيت أشهر علماء
الأزهر وفقهاء الحنفية
أرسله إلينا ونشر في بعض الجرائد اليومية ، قد بدأه بمقدمة في حكم النكاح
(التزوج) واختلاف العلماء فيه، هل فرض أو واجب أو سنة على الأعيان أو
على الكفاية، وكونه بصرف النظر عن الخلاف تعتريه الأحكام ، فيجب على من
خاف على نفسه الزنا ـ وبعد هذه المقدمة قال:
قد اطلعنا في جريدة الأهرام عدد 14231 الصادر في يوم الإثنين 17 ديسمبر
سنة 1923 - جمادى الأولى سنة 1342 على مقال مذيل بإمضاء الأستاذ الفاضل
الشيخ محمد الخضري ، ومذكرة مذيلة بإمضاء علماء من أفاضل العلماء ، وبعد أن
ذكروا مذاهب جمهور العلماء في تزويج الصغير والصغيرة ، وأن ذلك جائز على
اختلاف بينهم فيمن يتولاه ، ذكروا بعد ذلك مذهب الذين منعوا من زواج الصغير
والصغيرة وتزويجهما قبل البلوغ ، وأن ذلك مذهب ابن شبرمة وأبي بكر الأصم ،
وأن دليل هذا المذهب قوله تعالى: {وَابْتَلُوا اليَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} (النساء: 6) إلى آخر ما ذكروه من الأدلة.
وأقول: إني أعتقد أن من البعيد أن يكون ذلك النقل صحيحًا وإن نسبه في
المبسوط لها ، ولذلك قال صاحب البدائع: يحكى عن عثمان البتي وابن شبرمة أنهما
قالا: ليس لهما؛ أي: للأب والجد ولاية التزويج. ولم يستدل لهما بتلك الآية
بل استدل بالمعنى ، فقول صاحب البدائع: يحكي دليل على ضعف النقل عن ابن
شبرمة ومن معه ، وأن صاحب المبسوط وغيره ممن نقلوا هذا المذهب عمن
ذكروا إنما نقلوه؛ لإبطاله، بقطع النظر عن صحة النقل وعدمه ، وأيضًا يبعد كل
البعد أن ابن شبرمة ومن ذكر معه ، يستدلون بهذه الآية على منع زواج
الصغير والصغيرة وتزويجهما ، ويقولون: إنه لو جاز لم يكن لهذا فائدة؛ وذلك لأن
الآية إنما سيقت لما يتعلق بأموال اليتامى الصغار ، ولا دلالة فيها على منع تزويج
الصغير والصغيرة ، لا بطريق العبارة ولا بطريق الإشارة ، ولا بطريق آخر من
طرق الدلالات.
وإلى كافة العلماء بيان ذلك فنقول: قال تعالى في أول سورة النساء:
{وَآتُوا اليَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} (النساء: 2) قال المفسرون جميعًا: فيما نعلم الخطاب
للأوصياء والأولياء ، والمراد بإيتاء الأموال: إما تركها سالمة غير متعرض لها بسوء ، وإما الإيتاء بالفعل ، والمراد باليتامى: إما معناه اللغوي؛ فيشمل الكبار
والصغار فهو حقيقة في ذلك وارد على أصل اللغة ، وإما مجاز باعتبار ما كان؛ لأن إيتاء المال بالفعل إنما يكون بعد البلوغ، ثم قال تعالى في تلك السورة:
{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} (النساء: 5) قال المفسرون: هذا رجوع إلى بيان
بقية الأحكام المتعلقة بأموال اليتامى ، وتفصيل ما أجمل فيما سبق من شرط إيتائها ،
وكيفيته إثر بيان الأحكام المتعلقة بالأنفس - أعني الزواج - ، وبيان بعض
الحقوق المتعلقة بالأجنبيات ، من حيث النفس ومن حيث المال استطرادًا؛ إذ
الخطاب كما يدل عليه كلام عكرمة للأولياء ، وصرح هو وابن جبير بأن المراد من السفهاء: اليتامى ، ومن أموالكم: أموالهم. ثم قال عز من قائل بعد ذلك:
{وَابْتَلُوا اليَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ
أَمْوَالَهُمْ} (النساء: 6) الآية.
قال شيخ الإسلام [4] : إن هذا شروع في تعيين وقت تسليم أموال اليتامى
إليهم وبيان شرطه بعد الأمر بإيتائها على الإطلاق ، والنهي عنه عند كون أصحابها
سفهاء. وقال غيره: إن هذا رجوع إلى بيان الأحكام المتعلقة بأموال اليتامى لا
شروع. وأيًّا كان فقد أطبق المفسرون على أن الابتلاء معناه الاختبار ، وعلى أن
معنى الآية: واختبروا من عندكم من اليتامى بتتبع أحوالهم في الاهتداء إلى ضبط
الأموال ، وحسن التصرف فيها ، وجربوهم بما يليق بحالهم. غير أن أبا حنيفة قد
اقتصر في الاختبار على الاهتداء إلى ما ذكر.
وزاد الشافعي على هذا الاهتداء: الاهتداء إلى الصلاح في الدين ، واتفق
الإمامان رضي الله عنهما على أن هذا الاختبار يكون قبل البلوغ. وظاهر الآية
يشهد لهما لما تدل عليه (حتى) التي هي للغاية ، غير أنهما اختلفا في طريق الاختبار
فقال أبو حنيفة: يكون ذلك بإذن الولي أو الوصي لليتيم في أن يباشر البيع والشراء
مثلاً. وقال الشافعي: لا يكون بذلك بل يكون بدونه على حسب ما يليق بالحال بأن
يمرنه على كيفية البيع والشراء ، حتى إذا جاء وقت البيع أو الشراء باشره الولي أو
الوصي؛ وذلك لأن الإذن في مباشرة البيع والشراء مثلاً يتوقف على دفع المال
لليتيم ، ودفع المال إليه لا يكون إلا بعد البلوغ وإيناس الرشد والغرض الاختبار قبل
ذلك. وقال مالك: الاختبار يكون بعد البلوغ ، وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا
النِّكَاحَ} (النساء: 6) معناه - على ما اتفق عليه المفسرون - حتى إذا بلغوا الحلم
وحد البلوغ ، سواء كان ذلك بالحيض والاحتلام، أو بالسن بالنظر إلى الصغيرة،
أو بالسن أو الاحتلام بالنظر إلى الصغير. ويستوي في ذلك المعنى أن يكون لفظ
النكاح في الآية بمعنى العقد ، أو بمعنى الوطء ، وإن قال الحنفية: إنه حقيقة في
الوطء. والشافعية: إنه حقيقة في العقد. وقد جاء بمعنى الوطء في قوله تعالى:
{وَلَا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِنَ النِّسَاءِ} (النساء: 22) الآية. فلا وجه للقول بأنه
لم يجئ في القرآن إلا بمعنى العقد ، وقالوا جميعًا: إن معنى قوله تعالى: {فَإِنْ
آنَسْتُم مِنْهُمْ رُشْداً} (النساء: 6) الآية، إن أحسنتم أو تبينتم اهتداء إلى ضبط
الأموال ، وحسن التصرف أو إلى ذلك ، وصلاح في الدين على ما سبق من الخلاف ،
فادفعوا إلى اليتامى أموالهم عقب البلوغ بدون تأخير فحتى للابتداء وللغاية
و {إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} (النساء: 6) جملة شرطية ، جعلت غاية للابتلاء ،
وفعل الشرط (بلغوا) وجوابه الشرطية الثانية ، فكان دفع الأموال معلقًا على
شرطين: الوصول إلى حد البلوغ ، وإيناس الرشد ، ولذلك قال الفخر الرازي: لا
شك أن المراد من ابتلاء اليتامى المأمور به ابتلاؤهم فيما يتعلق بمصالح حفظ المال ،
وقد قال الله تعالى بعد ذلك الأمر: {فَإِنْ آنَستُم مِنهُمْ رُشْداً} (النساء: 6)
فيجب أن يكون المراد: {فَإِنْ آنَستُم مِنهُمْ رُشْداً} (النساء: 6) في ضبط
مصالحهم ، فإنه إن لم يكن المراد ذلك تفكك النظم ، ولم يبق للبعض تعلق بالبعض.
انتهى.
إذا علمت هذا تعلم أن الآية لا دلالة فيها على منع تزويج الصغير والصغيرة
قبل البلوغ ، حتى يقال: لو جاز التزويج قبل البلوغ لم يكن لهذا فائدة ، وما هو
الشيء الذي لا تكون له فائدة في هذا الآية ، إذا جاز التزويج قبل البلوغ؟ وقد
علمت معناها الذي أطبق عليه المفسرون.
على أن هذا المذهب بعد كونه غير مدون ، ولا أصحاب له يعتمد عليهم في
النقل مصادم لصريح قوله تعالى: {وَاللَاّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِسَائِكُمْ إِنِ
ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَاّئِي لَمْ يَحِضْنَ} (الطلاق: 4) قال صاحب
المبسوط: بين الله تعالى عدة الصغيرة وسبب العدة شرعًا هو النكاح، وذلك دليل
على تصور زواج الصغيرة.
ومصادم أيضًا لقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَاّ تُقْسِطُوا فِي اليَتَامَى فَانكِحُوا مَا
طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ} (النساء: 3) فإن هذا القول إنما يتحقق إذا كان زواج
اليتيمة جائزًا. وقد أخرج البخاري ومسلم والنسائي والبيهقي في سننه عن عروة ابن
الزبير أنه سأل عائشة رضي الله عنها عن هذه الآية فقالت: يا ابن أختي، هذه
اليتيمة تكون في حجر وليها ، يشركها في مالها ، ويعجبه مالها وجمالها ، فيريد أن
يتزوجها من غير أن يقسط في صداقها ، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره ، فنهوا أن
ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق ، وأمروا أن
ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن. فالمراد من اليتامى المتزوج بهن ، والقرينة
على ذلك الجواب، فإنه صريح فيه ، والربط يقتضيه. والمراد من النساء:
غير اليتامى ، كما صرحت به الحميراء رضي الله عنها بدلالة المعنى عليه ، وإشارة لفظ النساء إليه ، وقد روى ابن جرير وابن المنذر وابن حاتم عن عائشة رضي الله عنها مثل ما رواه البخاري ومسلم والنسائي والبيهقي عن عروة، فهذا دليل على جواز تزويج اليتيمة.
وقد زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بنت عمه حمزة من عمر بن سلمة
وهي صغيرة ، وقد تزوج قدامة بن مظعون بنت الزبير يوم ولدت ، وقال: إن مت
فهي خير ورثتي ، وإن عشت فهي بنت الزبير. وزوج ابن عمر بنتًا له صغيرة
من عروة بن الزبير. وزوج عروة بن الزبير بنت أخيه ، وهما صغيران.
ووهب رجل ابنته الصغيرة من عبد الله بن الحسن فأجاز ذلك علي رضي الله
عنه ، وزوجت امرأة ابن مسعود بنتًا لها صغيرة ابنًا للمسيب بن نخبة، فأجاز ذلك
عبد الله.
قال في المبسوط: ولكن أبا بكر الأصم لم يسمع بهذه الأحاديث ، ثم قال:
والمعنى فيه: إن النكاح من جملة المصالح وضعًا في حق الذكور والإناث جميعًا ،
وهو يشتمل على أغراض ومقاصد لا تتوفر إلا بين الأكفاء ، والكفء لا يتفق في
كل وقت ، فكانت الحاجة ماسة إلى إثبات الولاية للولي في صغرها؛ لأنه لو انتظر
بلوغها لفات ذلك الكفء ولم يوجد مثله ، ولما كان هذا العقد يعقد للعمر بتحقق
الحاجة إلى ما هو من مقاصد هذا العقد ، فتجعل تلك الحاجة كالمتحققة في الحال
بإثبات الولاية للولي. انتهى.
وبعد أن حكى صاحب البدائع أن لا خلاف في تزويج الأب والجد إلا بشيء
يحكى عن عثمان البتي وابن شبرمة - بهذا اللفظ الذي يفيد ضعف النقل عنهما كما
ذكرنا- استدل للقول بجواز تزويج الأب والجد للصغير والصغيرة بقوله تعالى:
{وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ} (النور: 32) وقال: الأيم اسم للأنثى من بنات آدم
عليه السلام ، كبيرة كانت أو صغيرة لا زوج لها ، وكلمة (من) إن كانت للتبعيض
يكون هذا خطابًا للآباء ، وإن كانت للجنس يكون خطابًا لجنس المؤمنين ، وعموم
الخطاب يتناول الأب والجد ، وأنكح الصديق رضي الله عنه -عائشة وهي بنت
ست سنين ، وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وزوج علي ابنته أم كلثوم
وهي صغيرة من عمر بن الخطاب، وزوج عبد الله بن عمر ابنته وهي صغيرة
عروة بن الزبير - وبه تبين أن قولهما خرج مخالفًا لإجماع الصحابة ، فكان مردودًا.
وأما قولهما: إن حكم النكاح بقي بعد البلوغ. فنعم ، ولكن بالإنكاح السابق لا بإنكاح
مبتدأ بعد البلوغ ، وهذا جائز كما في البيع ، فإن لهما ولاية بيع ما للصغير ، وإن
كان حكم البيع وهو الملك يبقى بعد البلوغ لما قلنا، فكذا هذا اهـ.
وقال الكمال في فتح القدير بعد أن استدل على جواز زواج الصغير
والصغيرة بقوله تعالى: {وَاللَاّئِي لَمْ يَحِضْنَ} (الطلاق: 4) : فبطل به منع ابن
شبرمة وأبي بكر بن الأصم ، وتزويج أبي بكر لعائشة رضي الله عنهما وهي
بنت ست نص قريب من المتواتر. اهـ.
فكان هذا المذهب مذهبًا باطلاً مردودًا مخالفًا لصريح الكتاب والسنة والإجماع
فلا يجوز العمل به.
سلمنا صحة النقل عمن ذكروا ، وأن المذهب مذهب صحيح يجوز العمل به
لكن أصحاب المذكرة والأستاذ الشيخ الخضري في مقاله لم يعملوا بهذا المذهب ،
ولا بغيره من مذاهب علماء المسلمين؛ وذلك لأن ابن شبرمة وعثمان وأبا بكر بن
الأصم إنما خالفوا على فرض صحة النقل عنهم في تزويج الصغير والصغيرة ،
قبل بلوغهما لا بالحيض ولا بالاحتلام ولا بالسن ، ولا يوجد من علماء المسلمين
قاطبة من يقول: بأن بلوغ الصغير والصغيرة لا يكون إلا بالسن ، بل الإجماع من
العلماء سلفًا وخلفًا إلى يومنا هذا قائم على أن البلوغ في الصغيرة إما بالحبل أو
بالحيض أو بالاحتلام ، وفي الصغير إما بالإحبال أو الاحتلام أو السن ، وأنه لا
يصار إلى اعتبار البلوغ بالسن إلا إذا انعدم الحبل والحيض والاحتلام في
الصغيرة، وانعدم الإحبال والاحتلام في الصغير ، وأما إذا وجد شيء مما ذكر في
الصغير أو الصغيرة ، فقد بلغت هي وبلغ هو النكاح؛ أي: حد بلوغ الحلم وصارا
مكلفين بإجماع المسلمين ، فكان حصر بلوغ الصغير والصغيرة في كونه بالسن
ودعوى أنه أضبط - أمارة للبلوغ كما جاء في المذكرة ، وفي مقال الأستاذ الشيخ
الخضري مخالف لكتاب الله وسنة رسول الله وإجماع السلمين ، فالقرآن دال
والإجماع قائم على أن الصبي والصبية متى بلغا الحلم ، بأن حاضت الصبية أو
احتلمت أو حبلت وكانت رشيدة وقت بلوغها ، وجب تسليم أموالها إليها بدون تأخير ،
ولو كانت بنت تسع سنين ، وكذلك الصبي إذا احتلم أو أحبل امرأته ، وتبين رشده
وقت البلوغ وجب تسليم أمواله إليه ، ولو كانت سنه ثنتي عشر سنة بدون تأخير ،
ولا اعتبار بالسن في هاتين الحالتين. وأما إذا لم تحض الصبية ولم تحتلم ولم تحبل ،
ولم يحتلم الصبي ولم يحبل امرأته كان بلوغهما حينئذ بالسن ، وهو خمس عشر سنة
عند الشافعي وأبي يوسف ومحمد وهي رواية عن أبي حنيفة ، وعليها الفتوى عند
الحنفية ، كما أن العادة الفاشية أن الصبي والصبية يصلحان للزواج وثمراته في هذه
المدة ولا يتأخران عنها.
وشاع عن الإمام الأعظم أن السن للصغير ثمان عشرة ، وللصبية سبع عشرة
سنة. وعلى كل حال فاعتبار السن أمارة للبلوغ وحدًّا له متأخر بالإجماع ، عن
اعتبار الحيض والاحتلام حدًّا للبلوغ وأمارة له ، فلا يصار إليه إلا عند عدمهما ، لا
فرق في ذلك بين أن يزوج الإنسان نفسه، أو يزوجه وليه بإذنه على اختلاف
المذاهب في تفصيل ذلك ، وبين أن يملك التصرف في ماله ومتى بلغ بالسن على
اختلاف المذاهب ، فإن كان رشيدًا وجب تسليم ماله إليه عقب بلوغه هذه السن ،
وإن كان سفيهًا وجب الحجر عليه على قول الشافعي وأبي يوسف ومحمد ومن
وافقهم ، ولا يحجر عليه عند أبي حنيفة بل يؤخر ماله إليه إلى أن تبلغ سنه خمسًا
وعشرين سنة ، فإنْ بلغ تلك السن سلم إليه ماله على كل حال.
وأما ما أجاب به الأستاذ الفاضل الشيخ الخضري عن السؤال الرابع الذي هو:
ما الرأي فيمن يبلغ بعلامات البلوغ قبل هذه السن؟ بأنه لا يعلم تفصيلاً لمذهب
ابن شبرمة في ذلك- فنقول له:
إذا كنت لا تعلم تفصيلاً لمذهب ابن شبرمة فيمن يبلغ بعلامات البلوغ قبل هذه
السن ، فلم يكن حد البلوغ معلومًا عند ابن شبرمة ، فلا يعلم حد الصغر، فيكون
مذهبه مجهولاً عندنا ، فلا يجوز الأخذ به ومع ذلك فمذهب ابن شبرمة وعثمان
البتي وأبي بكر بن الأصم لم يكن مدونًا ، وليس له أصحاب نقلوه بطريق صحيح ،
وإنما علمناه مما ذكره بعض علماء المذاهب الأخرى، كصاحب المبسوط وصاحب
البدائع وصاحب الفتح ، وهؤلاء قد ذكروه مجملاً ، ومع ذلك فهؤلاء يصرحون بأن
هؤلاء العلماء الثلاثة لم يخالفوا إلا في تزويج الصغير والصغيرة قبل البلوغ،
وأطلقوا اعتمادًا على ما هو متفق عليه بين الجميع ، من أن البلوغ كما يكون بالسن
يكون بغيرها قبل هذه السن ، على ما نطق به الكتاب والسنة وعبارة المبسوط قال
بخلاف ما يقوله ابن شبرمة ، وأبو بكر الأصم أنه لا يزوج الصغير والصغيرة حتى
يبلغا؛ لقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} (النساء: 6) اهـ.
فكان المنع في هذا المذهب مقيدًا بالبلوغ بأي أمارة كانت ، كما هو المراد من
قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} (النساء: 6) على ما فصلناه ، وقال في
البدائع: جملة الكلام فيه: إنه لا خلاف في أن للأب والجد ولاية النكاح ، إلا شيئًا
يحكى عن عثمان البتي وابن شبرمة أنهما قالا: ليس لهما ولاية التزويج. واستدل
لهما بأن حكم الزواج إذا ثبت لا يقتصر على حال الصغر ، بل يدوم ويبقى إلى ما
بعد البلوغ. إلى آخر ما استدل به لهما مما هو صريح في أن منعهما مقيد بحال
الصغر ، وأما بعد البلوغ فلا خلاف لأحد في جواز التزويج والتزوج ، وهل بمجرد
عدم علم الأستاذ الشيخ الخضري بتفصيل هذا المذهب فيمن يبلغ بعلامات البلوغ
قبل هذه السن ، يثبت أن هناك خلافًا ومذهبًا في عدم اعتبار علامات البلوغ في هذه
السن ، وإن لم ينقل العلماء خلافًا في ذلك خصوصًا مع الإجماع على أن التكليف
مرفوعٌ عن الصبي حتى يحتلم ، وعن الصبية حتى تحيض.
وأما ما قاله في مقاله المنشور بجريدة الأهرام نمرة 14236 ، في يوم السبت
22 ديسمبر سنة 1923 من أن الأصوليين اشترطوا في العلل التي تناط بها
الأحكام أن تكون أوصافًا ظاهرة منضبطة ، وعلامات البلوغ ، وإنْ تكن منضبطة
ليست بظاهرة. إلى آخر ما قال [5]- فنقول له: إن علامات البلوغ ظاهرة منضبطة،
منها الحيض والاحتلام والحبل والإحبال ، وكما اعتبر الشارع هذه الأمارات في
البلوغ ، فقد اعتبر الحيض أمارة في العدة في ذوات الحيض؛ لانقضائها وتعرف
براءة الرحم ، حتى على القول بأن عدة ذوات الحيض بالأطهار؛ لأن الأطهار التي
تنقضي بها العدة إنما تعرف بالحيض ، وكما اعتبر الشارع الحيض فيما ذكر قد
اعتبره واعتبر الاحتلام في توجه خطاب التكليف ، وأجرى على كل بنت حاضت
أو احتلمت ، وابن احتلم أحكام البالغين والمكلفين ، فإن كان لدى حضرة الأستاذ علم
بأن في هذا خلافًا، فليدلنا على مذهب المخالف ، وكذلك الشارع اعتبر الحبل علة؛
لإيقاف نصيب الحمل في الميراث ، ولوجوب الحد على من حملت من الزنا ، على
أن المثبت للحكم في مورد النص هو النص لا العلل ، وأما ما في دعوى الحيض
من البلاء على الأزواج والزوجات ، فهذا منشؤه عدم التزام الشرع والعمل به على
فرض أن الدعاوى تخالف الواقع قال تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ
قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ} (البقرة: 228) ، وبالجملة فارتكاب مخالفة الحكم لا
ينسخ الحكم.
ومن هذا تعلم أنه لا معنى لقول أصحاب المذكرة: (اتفق العلماء على بطلان
العقد إذا باشره غير مميز) إلخ. بل هو لغو من القول وخروج عن الموضوع ،
ولا علاقة له به؛ لأن الكلام ليس في مباشرة غير المميز عقد الزواج ، ولا في
مباشرة المميز له ، وإنما الكلام في مباشرة ولي الصغير والصغيرة تزويجهما حال
الصغر بلا فرق بين مميز وغير مميز ، كما أنه لا معنى لقول أصحاب المذكرة.
(اتفقت كلمة الحنفية أنه بعد البلوغ لا جبر لأحد في عقد الزواج) . فإنه خروج عن
الموضوع أيضًا؛ لأن الكلام ليس في الجبر وعدم الجبر.
على أن قولهم فيها: (لأن البلوغ آية الرشد واستكمال العقل) . يهدم جميع ما
قصدوه من المقدمات التي ذكروها في المذكرة ، ويبطل ما يريدون ترويجه بناء عليها
من جواز تحديد السن للزواج؛ وذلك لأنهم متى اعترفوا بأن البلوغ آية الرشد
واستكمال العقل ، وكان البلوغ بإجماع المسلمين كما يكون بالسن - على التفصيل
الذي قدمناه عند عدم الحيض والاحتلام للصبية ، وعدم الاحتلام للصبي - يكون
بالحيض والاحتلام متى بلغت تسع سنين ، والاحتلام للصبي إذا بلغ ثنتي عشرة
سنة ، ولو لم يبلغ كل منهما السن التي حددوها لزواجه ، فكان تحديد السن بما حددوه للزواج مخالفًا للكتاب والسنة والإجماع ، كما أن ما ذكروه بالمذكرة من
اختلاف العلماء على فرض صحة الخلاف في جواز تزويج الصغير والصغيرة قبل
البلوغ ، لا ينبني عليه جواز تحديد السن التي حددوها للزواج؛ لأن الصغير أو
الصغيرة إذا بلغا بغير السن ، فقد بلغا الحلم، وملك تزويج نفسه ، إن كان ذكرًا ، أو
تزويجها وليها جبرًا أو ندبًا إن كانت أنثى بكرًا أو ثيبًا.
كما أن قول أصحاب المذكرة: (إن من اللازم أن يناط سن الزواج بسن
الرشد بالنسبة لكل من الزوجين إلخ) . قول باطل؛ لأن ذلك يقتضي أن هناك شرعًا
سنًّا للزواج وسنًّا للرشد ، بل إن الصبي والصبية متى بلغا الحلم بأي أمارة من
أمارات البلوغ ، سواء كانت بأمارة السن أو بالأمارات الأخرى ، التي تكون قبل
السن إن كان رشيدًا مهتديًا لضبط ماله؛ سلم إليه ما له ، وإن لم يكن كذلك بأن كان
سفيهًا يحجر عليه أو لا يحجر على الخلاف السابق ، وأما حد البلوغ فلا فرق فيه بين
الزواج وغيره.
وأما استدلال الأستاذ الخضري وأصحاب المذكرة لمذهب ابن شبرمة ومن
معه بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تنكح اليتيمة حتى تستأمر) وقوله عليه الصلاة
والسلام: (لا يتم بعد الحلم) ، فهو استدلال لا يرضاه صاحب المذهب المذكور ، فإن
الحديث الأول يدل بمنطوقه على أن اليتيمة وهي التي لا أب لها لا تنكح حتى
تستأمر ، على معنى: حتى تبلغ وتستأذن، كما يقول ذلك الشافعي. أو أن المراد
باليتيمة باعتبار ما كان ، كما يقول ذلك أبو حنيفة ، ويدل بمفهوم المخالفة على أن
الصغيرة التي لها أب ينكحها أبوها، كما أن الحديث الثاني يدل بمنطوقه على أن اليتم
ينتفي بعد الحلم ولو بالحيض أو بالاحتلام ، ولو لم تبلغ البنت ست عشرة سنة ولا
الابن ثماني عشرة سنة ، وقد ذكر صاحب المبسوط هذين الحديثين ، وجعلهما دليلين
للإمام الشافعي رضي الله عنه على مذهبه من أنه لا يجوز لغير الأب والجد
تزويج الصغير والصغيرة ، وأما الأب والجد فلهما تزويجهما عملاً في ذلك بمنطوق
الحديث ومفهومه المذكور.
فكيف يمكن الاستدلال بهذين الحديثين لمذهب ابن شبرمة ومن معه وهم
يمنعون تزويج الصغير والصغيرة مطلقًا؟ ولا أدري من أين نقلوا الاستدلال بهذين
الحديثين لمذهب المانعين لتزويج الصغير والصغيرة؟ وأما ما اشتمل عليه مقال
الأستاذ الشيخ الخضري والمذكرة ، من التعاليل لهذا المذهب فليس شيء منها يصلح
دليلاً؛ وذلك لانحصار الدليل الشرعي في الكتاب والسنة والإجماع والقياس
الصحيح ، وليس ما ذكروه من العلل واحدًا منها.
أما أنه ليس من الكتاب والسنة والإجماع فظاهر ، وأما أنه ليس بقياس؛
فلأنهم لم يذكروا الأصل المقيس عليه من الكتاب أو السنة أو الإجماع ، وعلى
فرض أنه قياس صحيح فهو في مقابلة الكتاب والسنة أو الإجماع ، فلا يعول عليه
ولا يلتفت إليه.
وأما ما قالوه ترويجًا لتحديد سن الزواج: من أن الزواج في الصغر يترتب
عليه المفاسد التي ذكروها ، ويضر بصحة الصغير والصغيرة. فغير مسلم؛ لأنه لم
يقل أحد من المسلمين بأن الزواج فيه مفسدة لا في وقت الصغر ولا في وقت الكبر.
والأطباء مختلفون في أن الأفضل التبكير بالزواج أو التأخير ، واختلافهم يوجب
الشك في أقوالهم ، على أنه لا يمكن لعاقل أن يقول: إن مجرد حصول عقد الزواج
يحصل به ضرر لصحة الصغير أو الصغيرة. وإنما الذي يتوهم أن يقال إنما هو
في الوطء، وأما العقد فلا يترتب عليه شيء أصلاً ، فلا وجه لتجديد السن له،
على أنه لا وجه للقول لترتب الفساد أو الضرر بالصحة إذا كانت الصغيرة تشتهي،
وبلغت السن التي تطيق فيه الوطء ، ولو لم تبلغ حد البلوغ في الشرع ، فإنه لو كان
في ذلك أدنى مفسدة ما أمر الله به في كتابه ، ورسوله في سنته ، وأجمعت الأمة على
سنته أو إباحته {قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} (البقرة: 140) - {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ
خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ} (الملك: 14) .
***
مسألة تخصيص القضاء
وأما ما رتبه أصحاب المذكرة على تلك المقدمات ، التي أطالوا فيها بلا طائل ،
من أن المنصوص عليه شرعًا أن لولي الأمر ولاية تخصيص القضاء إلخ. ففضلاً
عن كون ذلك لا يتفرع على تلك المقدمات ولا ينبني عليها ، ولا علاقة بينه وبينها؛
لأن كون ولي الأمر يملك التخصيص، معلوم للخاص والعام ، ومبناه على وجوه
المصلحة التي تقتضيه على ما فصلناه بمحاضراتنا التي قرأناها بمدرسة الحقوق
الملكية في أوائل ديسمبر سنة 1919 ، ونشرت بمجلة الأحكام الشرعية في 21 ديسمبر من تلك السنة في عدد 3 ، وجرى على ذلك العمل. وأصحاب المذكرة لم يبينوا فيها وجه المصلحة العامة ، التي اقتضت هذا التخصيص ، فإنه ليس معنى
التخصيص هو ما فهموه ، من أن ولي الأمر يمنع جميع قضاته عن أن ينظروا
حادثة يخرجها عن اختصاصهم جميعًا ، ولا ينصب لها قاضيًا يفصل الخصومات
فيها ، كما هو الشأن فيما قضت به المذكرة ، فإن جميع حوادث الزواج الذي يقع
قبل سن ست عشرة سنة للبنات أو ثماني عشرة سنة للبنين قد منع جميع قضاة مصر
عن أن ينظروا فيها ، وقولهم في المادة: إلا بالأمر. لا يغني شيئًا ، ولا يقتضي
نصب قاض بالفعل ينظر في تلك الحوادث ، بل معنى تخصيص القضاء الذي
تقضيه المصلحة أن يقسم ولي الأمر جميع أماكن مملكته إلى دوائر متعددة ، فيجعل
لكل دائرة محكمة تحكم في قضايا القاطنين بها في حوادثهم ، ويقسم الحوادث
كذلك بين قضاة تلك المحاكم فيجعل ما يخرج من اختصاص هذا القاضي داخلاً
في اختصاص ذلك القاضي. وعلى هذا لا يوجد مكان في المملكة ، أو حادثة
لرعايا ولي الأمر إلا ولها قاض يفصل فيها ، خصوصًا إذا كانت تلك الحوادث
في الحقوق المشتركة بين كونها حق الله سبحانه وكونها حق العبد، كالزواج
والطلاق أو الحقوق الخالصة لله تعالى ، فإن الزواج بما فيه من حقوق أحد
الزوجين على الآخر حق العباد ، ولما يترتب عليه من الحل والحرمة من حقوق
الله تعالى ، كما أن الطلاق من حقوق العباد من وجه ، ومن حقوق الله من
وجه آخر؛ وذلك لأن الشأن في الحقوق المشتركة أو الخالصة لله تعالى ، إنما
هو للحاكم وولي الأمر ، فيجب أن يكون لها قاض يفصل فيها أو يفصل فيها ولي
الأمر بنفسه.
على أن التخصيص على فرض وجود المصلحة - وإن لم تظهر - إنما هو فيما
أضيف على المادة نمرة 101 من قانون سنة 1910 ، وأما ما أضيف على المادة
نمرة 366 من ذلك القانون من أنه (لا يجوز مباشرة عقد الزواج ولا المصادقة
على الزواج المسند إلى ما قبل العمل بهذا القانون) فليس من التخصيص في شيء
بل هو نهي عن مباشرة عقد الزواج والمصادقة عليه مسندًا إلى ما قبل العمل بذلك
القانون؛ لأن كلا من المباشرة والمصادقة ليس من عمل القاضي ، بل إن الذي
يباشر عقد الزواج أو يتصادق عليه إما الزوجان أو وكيلاهما ، إن كانا بالغين بالسن
أو بغيره ، أو وليهما إن كانا قاصرين، أو ولي القاصر ووكيل البالغ ، وأما المأذون
فوظيفته تلقين صيغة العقد لمن يحتاج إلى التلقين ، والكتابة في دفتر، وتحصيل ما
فرضته الحكومة من الرسوم ، فعقد الزواج متى كان مستوفيًا أركانه وشروطه كان
صحيحًا شرعًا ، حضر المأذون أو لم يحضر ، كتب أو لم يكتب.
ففضلاً عن كون عقد الزواج أدنى مراتبه السنية المؤكدة ، أو الإباحة التي ندب
الشارع إلى فعلها فهو من الأمور الخاصة لا من الأمور العامة ، ولا يجوز النهي
عنه، كما لا يجوز نهي الإنسان عن بيع ملكه إذا كان عاقلاً بالغًا رشيدًا ، ولم
يحجر عليه لدين ، فضلاً عن أن تحديد سن الزواج والنهي عن مباشرة عقده قبل هذه
السن المحددة يقتضي تحريم الحلال ، الذي ندب الشارع إليه وحض الناس إليه أو
تحريم السنة المؤكدة ، وكلا الأمرين معصية بإجماع المسلمين.
أما قول حضرة الأستاذ الشيخ الخضري: (أما الاعتراض على ذلك بما
يوجد من تحريم حلال وإحلال حرام ، فلا محل له ما دامت هناك مذاهب مختلفة)
فنقول له: يا حضرة الأستاذ، إن الخلاف - على فرض أنه خلاف معتبر - إنما هو في الصغير والصغيرة قبل البلوغ ، وأما بعد البلوغ ولو قبل بلوغ السن
المحددة للصغير والصغيرة ، فليس هناك مذاهب مختلفة ، بل إجماع المسلمين وسنة
سيد المرسلين كلها متفقة على أن الصبية إذا بلغت ، والصبي إذا بلغ الحلم بأي أمارة
كانت كان كل منهما بالغًا شرعًا ، لا يخالف في زواجه أحد من العلماء ، ولو لم تبلغ
البنت ست عشرة سنة والابن ثماني عشرة سنة ، وقد صرح الفقهاء قاطبة بأن
البنت إذا بلغت تسع سنين ، وادعت الحيض أو الاحتلام تصدق في ذلك ، وكانت
بالغة شرعًا، وكذا الابن إذا بلغ ثنتي عشرة سنة وادعى الاحتلام صدق في ذلك ،
وكان بالغًا شرعًا ، وإن وجدت أحدًا يخالف فيما قلنا فعليك بالبيان.
فلو فرضنا أن البنت إذا تزوجت بعد البلوغ زواجًا صحيحًا شرعًا ، ولم تبلغ
تلك السن المحددة ، أليست تلك البنت تحل شرعًا لهذا الزوج الذي تزوجها وتحرم
على غيره ، ولا يحل لأحد غير هذا الزوج أن يتزوجها ما دامت في عصمته ،
ووطؤها حلال لهذا الزوج حرام على غيره؟ فلو فرضنا أنها مكثت مع هذا الزوج
مدة ، ثم ادعى آخر بعد أن بلغت سنها ست عشرة سنة أنه تزوجها بنكاح صحيح
شرعي وادعاها الأول كذلك ، أليس الحكم الشرعي يقتضي أن يحكم لأسبقهما
تاريخًا ولو كان زواجه بها قبل أن تبلغ السن المحددة؟ فإذن ماذا يصنع القاضي؟
أيحكم بمقتضى الشرع للأول ، وقد كان زواجه بها قبل أن تبلغ السن المحددة
المذكورة ويخالف ما تحبذه من ذلك التخصيص أو ذلك النهي ، وهو معزول
بمقتضى ذلك التخصيص عن أن يحكم بالزواج قبل بلوغ هذه السن؟ أو يحكم
للزوج الثاني وقد أمره الله أن يحكم للزوج الأول لا للثاني؛ لأن زواجه باطل
بالإجماع؟ أليس في ذلك تحريم الحلال وإحلال الحرام؟ وما قلناه في البنت إذا
بلغت تسع سنين وحاضت أو احتلمت وتزوجت ، يقال أيضًا في الابن إذا بلغ ثنتي
عشرة سنة واحتلم وتزوج وأحبل زوجته ، ثم جاء آخر يدعي أن تلك الزوجة
زوجته ، وكان المدعي تبلغ سنه ثماني عشرة سنة ، والأول لم يبلغ تلك السن ولم
تبلغ الزوجة أيضًا سن ست عشرة سنة ، بل بلغت بغير السن. فماذا يصنع القاضي
أيحكم للسابق كما قضى به الشرع أم يحكم للثاني كما قضى به الرأي المخالف
للشرع؟
إني أعتقد - والله على ما أقول وكيل - أنك وأصحاب المذكرة لا تقولون
بجواز حكم القاضي للثاني ، بل بوجوب الحكم للأول وأنكم لا تخالفون في هذا ولا
تستطيعون المخالفة فيه؛ لما في المخالفة من مخالفة الكتاب والسنة والإجماع ، ولا
يسعني إزاء ما وقع إلا أن أقول كما قال صاحب الروض من أئمة الشافعي:
من قلد العلما وأقدم أعذرا
…
وعلى الذي أفتى........
إلخ إلخ
هذه نصحيتنا نقدمها لأولياء الأمور وعامة المسلمين عسى الله أن يهدينا جميعًا
إلى سواء السبيل ، ويغفر لنا خطايانا وهو حسبنا ونعم الوكيل.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
محمد بخيت
…
...
…
...
…
...
…
مفتي الديار المصرية سابقًا
(المنار)
لما شرعت الجرائد اليومية في نشر هذه الرسالة ، كتب الشيخ محمد
الخضري بك مقالة ثانية؛ لتوضيح المقالة الأولى ، والرد على بعض ما نشرته في
الرد عليه ولاسيما هذه الرسالة ، وقد تضمنت هذه الرسالة الرد على أقوى ما كتبه،
ثم كتب صاحبها رسالة أخرى ، استوفى فيها الرد عليه من الجهة الفقهية ، وبقي في
رسالته الأخيرة مسائل أخرى مهمة تتعلق باجتهاد القضاة والحكام ، وهو يرى
ويشايعه بعض من كتب في المسألة أن للملوك ورؤساء الحكومات في هذا العصر
مثل هذا الحق في الاجتهاد ، وإلزام المسلمين العمل باجتهادهم في كل المعاملات
حتى ما يسمونه الأحكام الشخصية ، وأن طاعتهم تجب في ذلك
…
وفي هذه المسألة بحث طويل، ونحن نعتقد أن الشريعة لا حياة لها ولا بقاء
لأحكامها في مثل مصر والترك إلا بالاجتهاد الصحيح ، وأما انتحال الحكومات
للاجتهاد بغير ما لا يمكن بدونه من العلم بالكتاب والسنة وأصول الفقه فهو مفسدة
عظيمة في الدين والدنيا.
وههنا مسألة أخرى اختصر فيها وأوجز كل من كتب في هذا الموضوع ،
وهو ما ادعى واضعو مذكرتي القانون من الترك والمصريين من الضرر العظيم في
زواج من لم يبلغ السن التي حددوها ، فقد بالغوا فيها على اختلاف الفريقين في
تحديد السن ، وجعلها في أشد القطرين حرًّا - وهو المصري - أطول منها في
أشدهما بردًا - وهو التركي - مع العلم بأن البلوغ الطبيعي يكون أسرع في الأول
وأبطأ في الثاني غالبًا ، وقد جعل الأستاذ الشيخ بخيت الضرر المدعى مشكوكًا فيه؛
بدليل اختلاف الأطباء فيه ، وأشار إلى أن العبرة فيه بقوة البنية وطاقتها في
الأنثى البالغة على احتمال أعباء الحمل والولادة ، فهذا الضرر خاص بمن لا
تطيق ذلك لا عام ، فرب بالغة للسن التي ذكروها لا تطيقه، ورب غير بالغة إياها
وهي تطيقه. وقد راعى الترك هذا في قانونهم ، ولا ندري ما هم فاعلون في
تنقيحه في هذا الطور الذي اشتد فيه التنازع الصريح بين الإسلام ، والغلو في
التفرنج حتى إن كثيرًا منهم يطالبون حكومتهم بمنع تعدد الزوجات ، على علمهم بأن نساءهم أضعاف رجالهم.
وأما الضررالاقتصادي في حال عجز الصغير عن الكسب الذي يمكنه من النفقة
التي يتوقف عليها تكوين الأسرة فالشرع الإسلامي يراعيه ، كما يراعي منع الضرر
البدني فهو لا يشرع الزواج إلا للقادر على النفقة ، بل التشريع الإسلامي مبني على
منع كل ضرر يجني به الإنسان على نفسه أو على غيره وفي الحديث: (لا
ضرر ولا ضرار) رواه أحمد وابن ماجه.
والقوانين الوضعية الأوربية تبيح لكل أحد أن يضر نفسه بالسكر والقمار
والزنا وغير ذلك ، وإذا كان مدمن هذه الموبقات صاحب زوج وأولاد فإنه يجني
عليهم باقترافه إياها ما لا يذكر معه كل ما بالغوا فيه من زواج من دون السن التي
حددوها ، ولا يزال كثير من الإفرنج يبكرون بالزواج ، وقد قرأنا في هذه الأيام
مقالة في جريدة (السياسة) المصرية موضوعها (تبكير أهل أمريكا بالزواج) .
وقد وفَّى هذا الموضوع حقه من الوجهة الطبية وغيرها الدكتور محمد توفيق
صدقي الطبيب العالم الكاتب الشهير (رحمه الله تعالى) في المحاضرات التي كان
يلقيها في مدرسة دار الدعوة والإرشاد ونشرت في المنار ، وطبعت على حدتها في
جزأين ، ونشر هذا البحث في جريدة الأهرام ومما قاله: إن السن القانونية للزواج
في الشريعة الإنجليزية 14 للذكور و12 للإناث ، وتعتبر زواج الأطفال القاصرين
صحيحًا إذا لم يطعن أحد الزوجين في العقد عند بلوغ السن ، وعزا ذلك إلى
ص 56 من كتاب (أصول الطب الشرعي) لمؤلفيه جاي وفرير الإنكليزيين
فليراجع البحث من شاء في المجلد 18 من المنار (ص 366 م18) أو في الجزء
الأول من (دروس سنن الكائنات ص 143) .
وجملة القول أن القانون الذي هو محل بحثنا لم يترو في وضعه من الوجهة
الشرعية ، ولا من الوجهات الطبية والاجتماعية ، فيجب إلغاؤه وتأجيل مسألة سن
الزواج إلى أن ينظر مجلس نواب الأمة في قانون الأحكام الشخصية وحينئذ نعود
إلى الموضوع فنوفيه حقه إن شاء الله تعالى.
_________
(1)
راجع ص 404 م20 و 542 م23.
(2)
منقولة عن جريدة الأهرام.
(3)
الذي عليه العلماء والمؤرخون نسبة الإمام الشافعي كالإمام مالك إلى الحجاز ، وقد نسبه الكاتب هنا إلى مصر؛ لأنه هاجر إليها وتوفي ودفن فيها رحمه الله تعالى.
(4)
يعني: أبو السعود العمادي رحمه الله تعالى.
(5)
هذه مقالة ثانية للشيخ الخضري ، وضح بها مراده في المقالة الأولى؛ ردًّا على بعض المنكرين.
…
...
…
الكاتب: محمد رشيد رضا
العبر التاريخية في أطوار المسألة المصرية [*]
(3)
قد بينا في مجلدات المنار 21-23 أطوار المسألة المصرية منذ تألف الوفد
المصري برياسة سعد للمطالبة باستقلال البلاد ، وكيف اجتمعت كلمة الأمة مع
رجال الحكومة على تأييده سلبًا وإيجابًا [1] ، حتى أثبتوا للحكومة البريطانية
وهي خارجة من الحرب العظمى على رأس الدول الفائزة ، أنه يتعذر عليها إدارة
الأمور في مصر بأيدي المصريين الساخطين عليها كما يتعذر عليها إدارتها
بيدها هي بالأولى.
وكيف بعد أن أرسلت لورد ملنر على رأس لجنة؛ ليقف على آرائهم، وقاطعوه
تلك المقاطعة الإجماعية ، التي تجلت بها الوحدة في أكمل مظاهرها لجأت إلى
السعي لتفريق كلمتهم؛ إذ لا سبيل إلى الفوز ودوام السيطرة عليهم بدون ذلك [2] ،
وكيف وقع الشقاق في الوفد نفسه فكان بعض أعضائه مع عدلي باشا في طرف،
والباقون مع سعد باشا في طرف آخر.
وكيف دبر في (لندن) نصب وزارة عدلي باشا وتأييد الوفد المصري لها؛
ليسمح لرئيسه وسائر أعضائه بالعودة إلى مصر، فكان نصبها وإظهار الوفد الثقة
بها على دَخَلٍ خادع به كل من الفريقين الآخر ، حتى ما عاد سعد باشا للاتصال
بالأمة وتمكن عدلي باشا من تأليف وزارة رضيت عنها الأمة - عاد الشقاق إلى أشد
مظاهره [3] .
ولكنه تولى مفاوضة الحكومة البريطانية باسم الحكومة المصرية؛ للاتفاق
معها على حل القضية ففشل - لعلم الحكومة البريطانية بأن الأمة لا تؤيده ، وأنها لا
تستطيع عملاً بعد أن صارت إلى شر مما كانت عليه قبل الاتحاد؛ إذ لم يكن
زعماؤها متعادين ولا متحدين على عمل من الأعمال ، فأفضى ذلك إلى استقالة
عدلي باشا وتعذر تأليف وزارة أخرى من حزب العدليين؛ لسخطهم الشديد من الحل
الفظيع الذي عرضه اللورد كرزون على عدلي باشا [4] فصاروا كالسعديين في
الإحجام عن تأليف وزارة، تتولى العمل في ظل الحماية البريطانية.
ثم كيف اضطرت الحكومة البريطانية بهذا إلى نفي سعد باشا مع بعض
أعضاء الوفد إلى جزيرة سيشل الصغيرة المنقطعة عن العالم في البحر المحيط
الهندي وإلغائها للحماية ، واعترافها بكون مصر دولة ذات سيادة مع الاحتفاظ
بالمسائل الأربع المعلومة ، وكان ذلك إثر مذاكرة بين دار المندوب البريطاني
السامي وعبد الخالق ثروت باشا رضي بها هذا أن يتقلد الوزارة ، ويتولى وضع
دستور للبلاد يتألف بموجبه برلمان يفوض إليه تقرير أمر الاتفاق مع الدولة
البريطانية في الأمور المحتفظ بها ، ولكن جمهور الأمة قابل ذلك بفتور ونفور ، ولم
يحفل بهذا الاستقلال المقيد بالأربعة القيود الذي مهد له السبيل بنفي زعيم الشعب
مع بعض رجاله ، وهو حامل لوائه وزمر استقلاله ، واشتد ضغط الاحتلال بعد
نواله [5] .
ظن الإنكليز أنهم يرضون السواد الأعظم من المصريين ، وينالون مرادهم من
مصر والسودان بالاتفاق مع حكومة مصرية نيابية زمامها بأيدي أصدقائهم الذين
يصفونهم بالمعتدلين ، من حيث يقضون على الحياة القومية المصرية بإبعاد الزعيم
الأكبر وبعض رجاله ، والتنكيل بمن يتصدى للمعارضة من الباقين منهم بمساعدة
الحكومة الوطنية ، ولكن بدا لهم ما لم يكونوا يحتسبون.
اشتد استياء الشعب وتهيجه وتألفت للوفد لجنة أخرى ، وصرحت بالمعارضة
ودعت البلاد إلى مقاطعة الإنكليز في كل معاملة تجارية أو شخصية ، فحكموا عليها
أحكامًا شديدة ، حكموا بعد الاعتقال بالإعدام ، ثم استبدلوا به حكم السجن وتغريم
الأموال ، وهو أن يدفع كل فرد من أفرادها خمسة آلاف جنيه للسلطة العسكرية.
ثم تألفت لجنة ثالثة فحكموا على بعض أفرادها بالنفي إلى بعض الواحات
المصرية ، وساموهم فيها سوء العذاب، فتألفت لجنة رابعة.
وظهر في أثناء ذلك الاعتداء على أشخاص الإنكليز من الموظفين والجند
وغيرهم ، فكان يغتال الواحد منهم بعد الآخر في الشوارع العامة في وقت الظهيرة
أو طرفي النهار أو ناشئة الليل ، وقد أرهق أهل القاهرة بتفتيش الحكومة المصرية
لبيوتهم؛ للبحث عن آثار يستدل بها على الجناية ، فكان رجال الشرطة يدمرون
على أهل البيوت في الليل أو النهار ، وإن لم يكن فيها أحد من الرجال فيفتحون
الخزائن والصناديق ، ويقلبون الأثاث والرياش ، ويأخذون كل ما يجدون من
القراطيس المكتوبة ، وقد يقلعون بلاط الحجرات؛ رجاء أن يجدوا تحته سلاحًا،
وكانوا مع بعض الجند الإنكليزي ، يستوقفون الناس في الطرقات رجالاً أو ركبانًا
في أنواع المركبات ، ويفتشون ثيابهم وجيوبهم ، ولم يكن هذا ولا ذلك قاصرًا على
من كان موضع الظنة ومثار الشبهة ، بل كان كل أحد عرضة لهذه الإهانة ، وليس
من موضوعنا ذكر ما كان يلابس ذلك من الفساد ، ولم يكن هذا الإرهاق كله ولا
اعتقال من اعتقل بالتهم بمانع من تكرار الاغتيال ، وإنما كانت تقع فترات عند
العناية ببث العيون والرقباء وكثرة الحرس السيار ، وقد حوكم كثير من المتهمين
بالشبهات في المحكمة العسكرية فلم يثبت شيء من تلك الجنايات على أحد ، ولا
كون شيء منها بإغراء الوفد المصري أو جمعية سياسية أخرى ، كما زعم بعض
الرعاع الذين تصدوا لشهادة الزور؛ رجاء نيل المكافآت التي كانت تعد بها الحكومة ،
وتنشر وعودها في الجرائد وعلى الجدران وهي ألوف من الجنيهات.
سارت وزارة عبد الخالق ثروت باشا لطيتها في هذه المآزق القاتمة بجرأة
نادرة ، كان فيها مهددًا بالاغتيال ، وقد اعتدي عليه بالفعل فنجا فتألفت لجنة من
ثلاثين رجلاً من أنصارها ، فوضعوا مشروع دستور للمملكة المصرية ، وطفقت
تمهد السبيل لانتخاب غير السعديين بكل حزم وعزم.
وفي تلك الأثناء ألف حزب الأحرار المعتدلين ، وانتخب عدلي باشا رئيسًا له
فاكتتب كثير من أغنياء البلاد؛ للاشتراك بالحزب وجريدته (السياسة) ، فاجتمع
له بنفوذ الحكومة عشرات الألوف من الجنيهات ، وصدرت الجريدة بشكل راق كل
عدد منها (8 ص) خص بعضها بالآداب ، وبعضها بالأمور النسائية ، وبعضها
بالزراعة أو التجارة.
ولكن جمهور الشعب عاداها حتى كان يعد شراؤها وقراءتها من الذنوب
المنافية للوطنية ، وكان الغرض من تأليف هذا الحزب السعي لجعل أكثر أعضاء
النواب والشيوخ من رجاله ، وقد اغتيل رجلان من خيرة رجاله.
وكان الشعب لا يزال نافرًا من القصر السلطاني فالملكي منذ أعلنت الحماية
وسمي أمير البلاد سلطانًا ، ثم سمي بالتصريح البريطاني الذي ألغيت فيه الحماية
ملكًا ، وأشيع أن سعد باشا غير مخلص للملك ، وما زال العدليون يرجفون بهذا إلى
عهد قريب ، ولكن هذه الغمة تقشعت بسعي محمد نسيم باشا ومن واتاه من رجال
الوفد المصري ، وتلا ذلك نفور الملك من وزارة عبد الخالق ثروت باشا ، فوقعت
عدة أزمات وزارية انتهت باستقالة هذه الوزارة ، وخلفتها وزارة محمد نسيم باشا
فأثار ذلك سخط السياسة الإنكليزية فكادت لها دار المندوب السامي ، حتى اضطرتها
إلى الاستقالة باقتراح حذف اسم السودان من الدستور المصري ، وكان قد نص فيه
أن ملك مصر هو ملك السودان ، وأن حكومة مصر هي التي تتولى إدارته ، وأيدت
الاقتراح بتهديد عظيم ملجئ، قوي به اعتقاد الجمهور أن الاستقلال الذي اعترف به
الإنكليز على غير مسمى صحيح ، وأن الاستقلال الصحيح لا يمكن تحققه إلا على
يد رئيس الأمة العبقري الأحوذي الشِّمِّري [6] سعد زغلول باشا ، فكيف يعقل جعل
إبعاده عن البلاد تمهيدًا له؟ !
وخلفت وزارة محمد نسيم باشا وزارة يحيى باشا إبراهيم فكان استسلامها
للإنكليز ، وصدعها بالأوامر السرية التي تصدر عن دار المندوب السامي شرًّا من
كل استسلام سبق من الحكومات المصرية ، للسيطرة الإنكليزية في عهد الحماية،
وأشد ما كان قبلها من وطأة الاحتلال ، حتى كادت تقضي على المالية المصرية ،
وتجعل النهوض بأعباء الاستقلال متى تم متعذرًا ، وكان شر أعمالها قانون
التضمينات ، الذي أجاز للسلطة الإنكليزية كل ما فعلته في زمن الحرب من تقتيل
وتغريم ، وتغريب وتخريب ، وتصرف فيما تملك الحكومة والأمة والأجانب في
بلاد مصر بحيث لا تجوز مطالبتها ، ولا مقاضاتها في شيء منها وكان هذا موقوفًا
على المفاوضات المؤجلة ، وكذا قانون المكافآت التي تعطى لمن يترك خدمة
الحكومة المصرية من الإنكليز ، فكانت تعطي الألوف الكثيرة من الجنيهات لمن
يستقيلون من وظائفهم ، حتى التي تنوطها الوزارة بآخرين منهم ، أو تنوط بهم
غيرها فمال الحكومة يذهب سدى ، ثم قيدت الوزارة هذه العطايا بقانون؛ ليكون
حقًّا ثابتًا لا ينقض ، وقد وفت الجرائد الوطنية ذلك حقه من النقد.
***
نتيجة الأطوار السابقة
علمت الحكومة البريطانية في عهد وزارة ثروت باشا أن ما عدته منتهى
الجود على مصر من إلغاء الحماية والاعتراف لها بالاستقلال والسيادة ، وما رأته
من منتهى الشدة والحزم في إدارة أمر البلاد من قبل وزارة موالية لها ، ومن شدة
قسوة السلطة العسكرية البريطانية في التنقيب عن المعتدين على رجالها - لم يرض
الرأي العام المصري بل لم يزده إلا تماديًا في عداوتها ، وجرأة على اغتيال رجالها، وأن نفوذ الوفد المصري الممثل في شخص رئيسه الزعيم الأوحد لا يعلوه
نفوذ فعادت إلى وضع سياسة الحكمة في موضع تحكم السلطة العسكرية ،
والغشمرة الاستعمارية، فطفقت تفرج عن المعتقلين من أعضاء الوفد ، وأمرت
بنقل الزعيم من معقل جبل طارق حيث شاء من أوربة، وكانت قد جاءت به من
جزيرة سيشل إليه؛ مراعاة لصحته؛ إذ خشيت أن يموت فيعتقد المصريون أنها قتلته
أو عرضته للموت عمدًا. وكان قد سعى له بذلك بعض رجال الإنكليز وفي مقدمتهم
صديقه رئيس حزب العمال البريطاني ، الذي هو رئيس الوزارة الإنكليزية اليوم.
نقل من جبل طارق إلى فرنسة فزاره فيها هذا الرئيس مرتين ، ثم لما دنا موعد
انتخاب أعضاء مجلس النواب المصري سمح له بالعودة إلى مصر حتى لا يقال:
إن الانتخاب لم يكن حرًّا ، وأن المجلس النيابي الذي يقرر الاتفاق مع الدولة
البريطانية لا يمثل الأمة المصرية.
عاد الزعيم إلى وطنه والكثير من الناس يظنون أن حزب الأحرار المعتدلين
قد انتظم أمره واشتد أزره ، وأن الحزب الوطني قد نشط من الخمول الذي كان قد
عرض له ، وشرع بعد إلغاء الأحكام العرفية يجدد نفوذه ، وأن الوفد المصري قد
صار حزبًا مثلهما ، ولم يبق رئيسه زعيمًا للأمة بأسرها ، وأن زعامته الحقيقية لا
تعدو طلاب المدارس وجمهور المحامين ، وأما كبار الأغنياء والمتحلين بالرتب
الفخمة والألقاب الضخمة وأكثر رجال الحكومة، فهم عليه لا له ولا معه ، وأن أكثر
الفلاحين معلقة إرادتهم بإرادة العمد ، الذين هم آلة في أيدي مأموري المراكز الذين
يسيرهم المديرون كما تشاء وزارة الداخلية ، وأن لعدلي باشا وقد صار مديرا للبنك
العقاري نفوذًا كنفوذ الحكومة في نفس فريق كبير من الأغنياء ، وهم الذين رهنوا
أطيانهم لهذا البنك فهم يرجون رضاه ويهابون شذاه.
وكان جمهور رجال الإنكليز في مصر يرون هذا الرأي ، ويعتقدون هذا
الاعتقاد ، فما سمح الإنكليز لسعد بالعودة إلى مصر إلا وهم يحسبون أن عودته تزيد
التفرق والشقاق احتدامًا ، ولا يكون هو الجواد السابق الذي يربح السبقة.
وكان جمهور المصريين المستقلين في الرأي غير المتحيزين إلى فئة ولا
شخص يخشون من عاقبة الشقاق في هذا العهد ، فوق ما كان من سوء عاقبته من
قبل، يرون أن الخطة المثلى أن يبدأ الزعيم الأكبر بدعوة خصومه إلى الاتفاق
والاتحاد؛ ليكون (البرلمان المصري قوة متحدة أمام الدولة البريطانية القوية في
كل شيء ، وهو لا يملك غير قوة الوحدة ، فلما لم يفعل نقموا منه، وانطلقت ألسنة
بعضهم تعذله وتخطئه ، وتشاءموا من سوء المصير، ولكن الشؤم والسعد ضدان لا
يجتمعان) .
وأما رأي سعد باشا ورجال الوفد فهو أن جمهور الأمة الأعظم معهم ، فإذا هم
أعلنوا له أنهم متفقون مع زعماء هذه الأحزاب بعد أن كانوا هم الذين أحدثوا الشقاق
في الوفد ، وصدعوا بناء وحدة الأمة ، وأن انتخابهم أعضاء لمجلس النواب
كانتخاب رجال الوفد ومن يرشحه سواء ، فإنهم ينالون بنفوذ الوفد ورئيس الأمة
كثيرًا من الأعضاء ، ويحسبون أو يدعون بعد ذلك أنهم إنما نالوا ذلك بنفوذهم
والثقة بأحزابهم ، ويوقعون الشقاق في مجلس الأمة كما أوقعوه في وفدها من قبل
وتكون هي القاضية على الأمة؛ لأن هذا المجلس هو الممثل الرسمي لها الذي لا
يمكن أن يكابر فيه الإنكليز كما كابروا في تمثيل الوفد؛ إذ ادعوا أنه حزب لا قوة
له إلا تلاميذ المدارس الأغرر.
وقد أجمع الناس على أن الشقاق الذي حصل في الوفد وفرق الكلمة كان أضر ما
منيت به الأمة ، ولكن وجد شيء من الخلاف فيمن تلقى عليهم التبعة ، فينبغي أن
يجمعوا أيضًا على أن تلافي ذلك الشقاق وما ترتب عليه من إرهاق البلاد بالتنكيل
والتغريب ، والتعذيب وسفك الدماء ، ومصادرة الأموال لا علاج له إلا تأليف
مجلس النواب من المتفقين في المشرب السياسي، وعلى الزعيم السياسي، وهو لا
يرجى ممن وصل بينهم الخلاف والشقاق إلى الحد المعروف بين الوفديين ، وبين
المعتدلين ومن شايعهم من جماعة الحزب الوطني.
وإذا كان الأمر كذلك فالمعقول أن يجتهد كل فريق أن ينال في الانتخاب
الأكثرية العظمى ، التي تمكنه من حل القضية المصرية بما يرى أنه هو الذي تطلبه
الأمة التي تمنحه ثقتها.
وقد جرى الانتخاب على هذه القاعدة ، فتبارى كل فريق في السعي لانتخاب
رجاله الذين ورشحهم في الطعن في خصمه بالنشر في الجرائد وبإلقاء الخطب في
المحافل ، وكانت حرية كل منهم تامة لم تعارضها الحكومة ولا الأمة ، ولكن جميع
أهل الفضل ولاسيما المستقلين في الرأي كانوا متألمين من القذع بهجر القول
والتمادي في المطاعن الشخصية ، وقد قال سعد باشا كلمة في خطبة له أراد أن
تكون فصل الخطاب وهي: (لهم السباب ولنا مقاعد النواب)
تم الانتخاب في القطر كله وأعلنت الحكومة نتيجته فكانت الأكثرية الساحقة
في جانب الوفد المصري ، وظهر أن مجلس النواب سعدي وأي سعدي ، فإن بعض
الأعضاء الذين لم يرشحهم الوفد - وقليل ما هم- كانوا يذهبون إلى سعد باشا مهنئين
له بفوزه معترفين برياسته وزعامته ، ثم اتفق جمهورهم على إقامة حفلة له جمعوا
نفقتها بالاكتتاب من أنفسهم فحضرها 200 وتخلف عنها 10 اعتذر بعضهم ، وقد
ألقى عليهم خطبة تاريخية أودعها مجمل برنامجه السياسي لمجلسهم ، فصفقوا لها
وأجمعوا عليها وعدوها كبرنامج سياسي شبه رسمي لمجلس الأمة ، وقد صرح فيها
بأن لم يبق لوزارة يحيى باشا إبراهيم مندوحة عن الاستقالة ، فلم تلبث هي أن
استقالت ، وتلاها طلب الملك لسعد باشا ومذاكرته مشافهة في تأليف الوزارة بعد
بحث طويل سبق للوفد في المسألة ، وتقريره قبول الرئيس للوزارة، فقبل. وهذا نص الوثائق الرسمية للوزارة السعدية:
***
وزارة سعد باشا زغلول
أمر ملكي رقم 14 لسنة 1924
عزيزي سعد زغلول باشا
لما كانت آمالنا ورغائبنا متجهة دائمًا نحو سعادة شعبنا العزيز ورفاهته ، وبما
أن بلادنا تستقبل الآن عهدًا جديدًا ، من أسمى أمانينا أن تبلغ فيه ما ترجوه لها من
رفعة الشأن وسمو المكانة ، ولما أنتم عليه من الصدق والولاء ، وما تحققناه فيكم
من عظيم الخبرة والحكمة وسداد الرأي في تصريف الأمور ، وبما لنا فيكم من الثقة
التامة ، قد اقتضت إرادتنا توجيه مسند رئاسة مجلس وزرائنا مع رتبة الرياسة
الجليلة لعهدتكم.
أصدرنا أمرنا هذا لدولتكم للأخذ في تأليف الوزارة ، وعرض مشروع هذا
التأليف علينا لصدور مرسومنا العالي به.
ونسأل الله جلت قدرته أن يجعل التوفيق رائدنا فيما يعود على بلادنا بالخير
والسعادة، إنه سميع مجيب.
صدر بسراي عابدين في 22 جمادى الثانية سنة 1342 - في 28 يناير سنة
1924.
***
بيان الوزارة وأسماء الوزراء
هذا هو البيان الذي قدَّمه سعد باشا زغلول لجلالة الملك
مولاي صاحب الجلالة:
إن الرعاية السامية التي قابلت بها جلالتكم ثقة الأمة ونوابها بشخصي
الضعيف توجب علي والبلاد داخلة في نظام نيابي ، يقضي باحترام إرادتها وارتكاز
حكومتها على ثقة وكلائها ألا أتنحى عن مسؤولية الحكم ، التي طالما تهيبتها في
ظروف أخرى ، وأن أشكل الوزارة التي شاءت جلالتكم تكليفي بتشكيلها من غير
أن يعتبر قولي لتحمل أعبائها اعترافًا بأية حالة أو حق استنكره الوفد المصري ،
الذي لا أزال متشرفًا برياسته.
إن الانتخابات لأعضاء مجلس النواب أظهرت بكل جلاء إجماع الأمة على
تمسكها بمبادئ الوفد ، التي ترمي إلى ضرورة تمتع البلاد بحقها الطبيعي في
الاستقلال الحقيقي لمصر والسودان مع احترام المصالح الأجنبية ، التي لا تتعارض
مع هذا الاستقلال ، كما ظهرت شدة ميلها للعفو عن المحكوم عليهم سياسيًّا، ونفورها
من كثير من التعدات والقوانين التي صدرت بعد إيقاف الجمعية التشريعية
ونقصت من حقوق البلاد ، وحدت من حرية أفرادها، وشكواها من سوء التصرفات
المالية والإدارية ، ومن عدم الاهتمام بتعميم التعليم ، وحفظ الأمن وتحسين الأحوال
الصحية والاقتصادية وغير ذلك من وسائل التقدم والعمران ، فكان حقًّا على الوزارة
التي هي وليدة تلك الانتخابات وعهدًا مسئولاً منها أن توجه عنايتها إلى هذه المسائل
الأهم فالمهم منها ، وتحصر أكبر همها في البحث عن أحكم الطرق وأقربها إلى
تحقيق رغبات الأمة فيها ، وإزالة أسباب الشكوى منها، وتلافي ما هناك من
الأضرار مع تحديد المسئوليات عنها ، وتعيين المسؤولين فيها ، وكل ذلك لا يتم
على الوجه المرغوب إلا بمساعدة البرلمان ، ولهذا يكون من أول واجبات هذه
الوزارة الاهتمام بإعداد ما يلزم؛ لانعقاده في القريب العاجل ، وتحضير ما يحتاج
الأمر إليه من المواد والمعلومات؛ لتمكينه بمهمته خطيرة الشأن.
ولقد لبثت الأمة زمانًا طويلاً تنظر إلى الحكومة نظرة الطير للصائد ، لا
الجيش للقائد ، وترى فيها خصمًا قديرًا يدبر الكيد لها لا وكيلاً أمينًا يسعى لخيرها،
وتولد عن هذا الشعور سوء تفاهم أثر تأثيرًا سيئًا في إدارة البلاد ، وأعاق كثيرًا من
تقدمها ، فكان على الوزارة الجديدة أن تعمل على استبدال سوء هذا الظن بحسن
الثقة في الحكومة [7] ، وبإقناع الكافة بأنها ليست إلا قسمًا من الأمة، تخصص
لقيادتها والدفاع عنها ، وتدبير شؤونها بحسب ما يقتضيه صالحها العام ، ولذلك
يلزمها أن تعمل ما في وسعها؛ لتقليل أسباب النزاع بين الأفراد وبين العائلات
وإحلال الوئام محل الخصام بين جميع السكان على اختلاف أجناسهم وأديانهم ، كما
يلزمها أن تبث الروح الدستورية في جميع المصالح ، وتعود الكل على احترام
الدستور والخضوع لأحكامه ، وذلك إنما يكون بالقدوة الحسنة ، وعدم السماح لأيِّ
كان بالاستخفاف بها والإخلال بما تقتضيه.
هذا هو بروجرام وزارتي وضعته طبقًا لما أراه وتريده الأمة ، شاعرًا كل
الشعور بأن القيام بتنفيذه ليس من الهنات الهينات ، خصوصًا مع ضعف قوتي
واعتلال صحتي ، ودخول البلاد تحت نظام حرمت منه زمنًا طويلاً ، ولكني أعتمد
في نجاحه على عناية الله وعطف جلالتكم ، وتأييد البرلمان ومعاونة الموظفين
وجميع أهل البلاد ونزلائها ، فأرجو إذا صادف استحسان جلالتكم أن يصدر المرسوم
السامي بتشكيل الوزارة على الوجه الآتي:
سعد زغلول باشا
…
...
…
... للرئاسة ووزارة الداخلية
محمد سعيد باشا
…
...
…
لوزارة المعارف
محمد توفيق نسيم باشا
…
...
…
لوزارة المالية
أحمد مظلوم باشا
…
...
…
... لوزارة الأوقاف
حسن حسيب باشا
…
...
…
... لوزارة الحربية والبحرية
فتح الله بركات باشا
…
...
…
لوزارة الزراعة
مرقص بك حنا
…
...
…
... لوزارة الأشغال
مصطفى النحاس باشا
…
...
…
لوزارة المواصلات
واصف بطرس غالي أفندي
…
... لوزارة الخارجية
محمد نجيب الغرابلي أفندي
…
... لوزارة الحقانية
وأدعو الله أن يطيل في أيامكم ، ويمد في ظلالكم حتى تنال البلاد في عهدكم
كل ما تتمناه من التقدم والارتقاء.
وإني على الدوام شاكر نعمتكم ، وخادم سيادتكم
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... سعد زغلول
وقد صدر أمر المرسوم الملكي باعتماد هذا البيان ، والتشكيل الذي فيه
للوزارة بتاريخه ، وأصبح سعد زغلول باشا رئيس هذه الأمة ورئيس حكومتها،
وكان فضل الله بهذا عظيمًا وما يجب عليه من الشكر عظيمًا ، وإنما الشكر على
هذا الفضل بتحري إقامة ميزان الحق والعدل ، ومراعاة المصلحة العامة بدون محاباة
أحد من جماعة أو فرد ، وإن كان من أفراد الوفد، إلا أن يكون المرجح له على
مساويه زيادة الثقة بإخلاصه ومباديه ، وأرى أنه قد آن لسعد باشا أن يري العالم
بأعماله أنه الأب الحكيم الرحيم لهذا الشعب ، وأن من عقه من أبنائه لم يقطعه من
شجرة نسبه ، بل يكون أحرص على عودته إلى البر من حمله على التمادي في
العقوق ، وأن يترفع عن الانتقام لنفسه ، ويتأسى ما استطاع برسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم ، حين ظفر بزعماء قومه ودخل عليهم عاصمتهم أم القرى فاتحًا بعد أن
كانوا يسيرون الجيوش لقتاله في دار هجرته بإغراء أبي سفيان عدوه وعدو
عشيرته ، وقد قال يومئذ:(من دخل دار أبي سفيان فهو آمِن)(رواه مسلم) .
ويجب على كل مخلص لبلاده من خصوم سعد والوفد أن يؤيد ما استطاع هذه
الحكومة ورئيسها ، ولا يدع سبيلاً لإساءة ظنها فيه ، ولا يشترط في ذلك عصمتها
من الخطأ ، ولا قدرتها على كل عمل ، ولا يجعل ما يقترح عليها من إصلاح
وسيلة للمعاجزة والإرهاق ، وجملة ما أريده من الساخطين والمعارضين الذين
يعتقدون أنهم مخلصون في معارضتهم ، أن يجتهدوا في محاسبة أنفسهم وتمحيص
نيتهم في كل معارضة وكل انتقاد ، فإن السخط يري النفس الأشياء بغير لونها
ويحليها لها في غير صورتها ، وأما سيء النية ومتبع الهوى فالنصح له بهذا سدى
وإنني أرى - وأنا مستقل الرأي بعيد عن الهوى والتحيز إلى أي حزب - أن الفرصة
التي سنحت لمصر بهذه الوزارة ومكانتها من الأمة الممثلة في (برلمانها) ومن
ملكها ، وبصيرورة الوزارة البريطانية إلى حزب العمال ، وما بين رئيس وزارتنا
ورئيس وزارتها من التعارف والثقة- أرى أن هذه الفرصة أمثل الفرص وأقرب
الوسائل الممكنة؛ لحل عقدة التنازع بين مصر وبريطانية، أو اليأس من وصول
هذه البلاد إلى حقها بالأساليب السياسية ، ولا بد حينئذ من إفضاء الفشل إلى ثورة
عامة طامة ، لا يعلم مبدأها ومنتهاها وعاقبتها إلا الله تعالى ، فيا أيها الظافرون
اتقوا الغرور بظفركم ، وأيها المعارضون الساخطون صححوا نياتكم وحاسبوا
أنفسكم ، وافسحوا لهذه الحكومة في مجال العمل ، يفسح الله لكم تأملوا قوله تعالى:
{بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} (القيامة: 14-15) .
_________
(*) تابع لما في ص 62 و 226 م 23.
(1)
ص 274 م 21.
(2)
ص 540 م 21.
(3)
ص397 والمقالة التاريخية الجامعة في ص 496 - 522 م 22.
(4)
راجع ص 62 - 77 م 23.
(5)
راجع ص 226 - 235 م 23.
(6)
العبقر: النادر المثال من إنسان وغيره ، وقد قيل في عمر رضي الله عنه: لم أر عبقريًّا مثله، والأحوذي: الذي يسوق الأمور أحسن مساق لعلمه بها، والشَّمِّري - بتشديد المعجمة المكسورة والميم -: المشمر للأمور المجرب ذو المضاء فيها.
(7)
المراد أن يكون حسن الظن بالحكومة بدلاً من سوء الظن ، فجرى التعبير على العرف الغالب في هذا العصر في مادة الاستبدال والتبدل ، وهو عكس الثابت في اللغة.
الكاتب: محمد رشيد رضا
تقريظ المطبوعات
(الوفاق)
جريدة أسبوعية سياسية اجتماعية أدبية ، أنشئت في (بينن زورغ - جاوه)
مديرها المسؤول (محمد بن محمد سعيد الفتة) وقد جاء في فاتحة العدد الأول منها
أن الغاية منها ربط العلائق الودية ، وتوطيد دعائم الجامعة والوفاق ونشر الحقائق ،
وبث التعارف والتعاون على البر والتقوى ، ومؤازرة مجلة الجامعة الإسلامية الهندية
وسائر ما وصل إلينا من أعددها مباحث في شؤون العالم الإسلامي ، وبيان ما جاء
عليه ملك الحجاز السيد حسين بن علي مفصلاً تفصيلاً ، وقيمة الاشتراك فيها عشر
روبيات في جزائر جاوه الهندية الشرقية وخمس عشرة (أي: جنيه إنكليزي) في
سائر البلاد فنتمنى لها التوفيق والرواج.
***
(حضرموت)
جريدة أسبوعية وطنية ، تبحث في السياسة والاجتماع صاحبها ومديرها
المسؤول السيد عيدروس المشهور ، ورئيس تحريرها السيد محمد بن هاشم - تصدر
في جزيرة سربايا (جاوه) الغرض الأول: حض الحضرميين الكثيرين في جزائر
جاوه على العناية بأمر وطنهم (حضرموت) ، والسعي لعمرانه وإصلاح شؤونه ،
كما صرح به في فاتحة عددها الأول. على أنها لا مندوحة لها عن جعل حال الإسلام
في جاوه ثم في غيرها في الدرجة الأولى من مباحثها - وهو ما نراه في كل عدد
منها في هذا الزمن ، الذي تساعد فيه الحكومة الهولندية دعاة النصرانية على
هدم الإسلام فيها ، فنسأل الله تعالى أن يقرن سعيها بالتوفيق وينفع البلاد والعباد
بها ، وإنه ليسرنا ظهورها وظهور رفيقتها الوفاق والذخيرة في هذه البلاد في هذا
الوقت ، ونتمنى أن يجدد جوالي العرب في جاوه همة سلفهم الصالح الذين نشروا
الإسلام في تلك البلاد؛ فيتمكنوا من حفظه وتجديده بما تقتضيه حالة العصر.
***
(الشرق والغرب)
جريدة أسبوعية مصورة تصدر في مدينة (سنتياغورل أستارو) من
(الأرجنتين) رئيسة تحريرها الأديبة السورية الشهيرة لبيبة هاشم منشئة مجلة
(فتاة الشرق) التي لا تزال تصدرها باسمها في مصر ، ومديرها العام ملحم أفندي
خير الله ، وموضوعها يعرف من اسمها، هي تؤيد النهضة العربية الأدبية ، يسرنا
أن عرف إخواننا السوريين لهذه الأديبة البارعة قدرها ، وشدوا أزرها ، وما زلنا
نرى في كل عدد منها أسماء كثيرين يشتركون فيها لأنفسهم ولغيرهم ، ويدفعون
قيمة الاشتراك سلفًا عن سنة أو أكثر.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الدعوة إلى انتقاد المنار
والمواد المتأخرة لدينا
إننا نُذكِّر قُرَّاء المنار من أهل العلم الديني وأولي الرأي فى مصالح الأمة بما
التزمنا الدعوة إليه في فاتحة كل مجلد من الكتابة إلينا ، بما يرونه منتقدًا في المنار
لمخالفته للحق أو للمصلحة العامة؛ لإعانتنا على هذه الخدمة وقيامًا بما شرعه الله
تعالى من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقد ضاق الجزء الأول عن هذه
الدعوة؛ إذ عرض لنا في أثناء كتابة فاتحته أن ننشر فيها ما يناسب الحالة
الحاضرة من مقصورتنا ، وكنا تركنا لها كراسة واحدة وطبعنا ما بعدها فضاقت
الكراسة عن كل ما أردنا نشره من المقصورة وعن الدعوة إلى الانتقاد كما ضاق ذلك
الجزء ثم هذا عن نشر ما كتبناه من انتقاد سابق علينا من الشيخ عبد الظاهر،
ومن صاحب مجلة السعادة ، ومن ترجمة صديقنا الشيخ مهدي أستاذ الأدب
المشهور - رحمه الله تعالى - وغير ذلك من المواد التي جمعت حروفها ، وموعدنا
بها الجزء الثالث إن شاء الله تعالى.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
التبشير والمبشرون في نظر المسلمين
(س2-8) من القس المحترم ألفرد نيلسن الدانيمركي بدمشق.
1-
هل يحسب المسلم كل تبشير مسيحي للمسلمين مفسد وغير لائق مهما
كان منصفًا وبعيدًا عن الطعن؟
2-
هل يحسب المسلم على حد سوى المسيحي الغيور في دينه والمريد نشره
للغير ، والمسيحي الذي لا يعمل بدينه في حياته ولا لأجله عند غيره؟
3-
أليس من واجبات كل متنور أن يعرف الكتاب المقدس الذي أسس عليه
تمدن الغرب (قابل الحديث: اطلبوا العلم ولو في الصين) ؟
4-
ألا يستحق التبشير بالكتاب المقدس شكر كل إنسان؛ إما لأنه يعرف
الإنسان فوائد لم يحصل عليها قبل، أو لأنه يجعل الإنسان بعد التأمل بتدقيق يفضل
كتابه الخاص؟
5-
أليس عصرنا الحاضر في كل دين عصر الاجتهاد فيطلب من أصحاب
الدين أن يتمسكوا به ، ليس لأنهم هكذا وجدوا آباءهم، لكن لأنهم تدققوا ، فوجدوا
الدين نافعًا لأنفسهم وللهيئة الاجتماعية أكثر من أي شيء في الدنيا؟
6-
من هو أحسن: الذي يتمسك بدين من الأديان بعد الاقتناع ويطبق حياته
عليه، أم الذي يبقى في دين آبائه بدون اعتقاد داخلي ، وبدون أن يطبق حياته على
أعلى مبادئ الدين وأشرفها؟
(الجواب) :
عبارة هذه الأسئلة ضعيفة؛ لضعف عربية صاحبها. ونجيب عن الأول
والثاني جوابًا واحدًا؛ لاشتراكهما في المعنى فنقول:
إن المسلم يميز بقدر ما أوتي من العقل والعلم بين التبشير النزيه الخالي من
الطعن ، والتبشير البذيء المبني عليه، ويميز بين المسيحي الغيور في دينه العامل به
وبين من اتخذه تجارة كأكثر المبشرين الذين عرفنا حالهم ، ومن جعله سياسة كالذين
رباهم هؤلاء المبشرون على التعصب وعداوة المخالف لدينهم من أبناء وطنهم ،
فصار الدين جنسية سياسية لهم، فهم لا يعملون بأمره بالفضائل ولا بنواهيه عن
الرذائل ، وإنما حظهم منه مقاومة المخالف ، ولا يحتقر المسلم بطبيعة دينه شيئًا من
الأشياء كاحتقاره للنفاق وأهله. وأما كون كل تبشير يوجهه النصارى إلى المسلمين
مفسدًا وغير لائق ، فهو ما أثبته الاختبار إلى الآن ، وإن لم يكن من الضروريات
المنطقية في حد نفسه - وأعني بهذا الاختبار سيرة جماعات المبشرين العامة ،
ولكن يوجد أفراد يدعون إلى دينهم بإظهار ما فيه من الفضائل ، والدفاع عما يرد
على عقائده وأصوله من الاعتراضات ، بما أوتوه من معرفة مع مراعاة النزاهة
واجتناب كل ما يؤذي المناظر ، وقد عاشرت بعضهم في طرابلس الشام أيام طلبي
للعلم ، وجرت بيني وبينهم مناظرات كثيرة في بضع سنين ، لم يشك أحد منا
صاحبه في شيء ، بل كنا نحترمهم لآدابهم وعدم اتجارهم بدينهم ، وإن كانوا
يأخذون الرواتب من بعض جمعيات التبشير.
ومن أضر أعمال المبشرين في مدارسهم حتى الأميركانية منها ، وهي أنزهها
أنهم يشككون الطلاب المسلمين في دينهم ، ولا يقنعونهم بالنصرانية ، فيخرج
الكثيرين منهم ملحدين أو منافقين وكذا طلاب النصارى وغيرهم ، وهذا إفساد عظيم
لا يخفى على ذكاء السائل المحترم ، بل يوافق رأيه كما يؤخذ من سؤاليه 5و6 دع
خدمة هذه المدارس ومثلها مستشفياتهم لمطامع السياسة الاستعمارية ، حتى قال لورد
سالسبوري الوزير الإنكليزي المشهور: إن مدارس المبشرين أول خطوة من
خطوات الاستعمار؛ لأن أول تأثيرها إحداث الشقاق في الأمة التي تنشأ فيها ،
فينقسم بعضهم على بعض باختلاف الأفكار والشك في الاعتقاد؛ أي: فيتمكن الأجنبي
من ضرب بعضهم ببعض، وينتهي ذلك بتمكين المستعمرين من نواصيهم ،
وسلب استقلالهم وإذلالهم وسلب ثروتهم.
وأما الجواب عن السؤال الثالث ففيه تفصيل لا يتسع لبسطه باب الفتوى
فنلخص الكلام فيه بأن مجموعة الأسفار التاريخية الدينية التي تسمى (الكتاب
المقدس) هي من الكتب التي ينبغي للمشتغلين بالتاريخ وبعلم الملل والنحل وأمثالهم
أن يطلعوا عليها ، ولكن لا يجب على كل متنور أن يعرفها ، ودعوى بناء تمدن
الغرب عليها ممنوعة على إطلاقها وباطلة بالصفة التي يدعيها المبشرون في هذه
الأيام؛ لاستمالة المفتونين بالمدنية الأوربية إلى النصرانية بها ، فقوانين الغرب
أبعد شرائع الأمم عن شريعة التوراة إلا في القسوة على الضعفاء المغلوبين ، وآداب
أهله أبعد من آداب جميع شعوب البشر عن آداب الإنجيل من كل وجه ، فمدنية
الأمم الغربية مادية شهوانية قوامها الكبرياء والتعالي ، وعبادة المال والطمع والرياء
والإسراف في الزينة والشهوات ، فأين هي من أصول آداب الإنجيل المبنية على
التواضع والزهد ، والإيثار والصدق ونبذ الزينة واحتقار الشهوات؟ وقد فصلنا ذلك
مرارًا كثيرًا في المنار.
وأما العلوم والفنون وشكل الحكومات المقيدة فلم تكن أثرًا من آثار انتشار تلك
المجموعة في بلاد الغرب ، بل كانت من آثار العرب والإسلام؛ إذ من المسلمات
التي لا جدال فيها أن تأثير الدين في الأمم يكون على أشده وأكمله في أول العهد
بالاهتداء به ، وبعد أن يأخذ مده غاية حده من النماء يضعف بالتدريج ، وقد مكث
الغرب عدة قرون بعد انتشار النصرانية فيه ، ولم يظهر فيه شيء من مبادئ هذه
العلوم والفنون ، واستقلال الفكر والسلطة المقيدة ، بل كان هذا مما انتقل إلى أوربة
من الأندلس العربية الإسلامية ، ومما حمله غزاة الحروب الصليبية إليها من سورية
ومصر الإسلاميتين ولا يجهل القس الفاضل ما لاقى الدعاة إلى ذلك في أوربة من
اضطهاد حملة تلك المجموعة المقدسة ، وحماتها من الظلم والاضطهاد في محاكم
التفتيش وغيرها ، ولو اقتبس الغرب من الشرق دين العرب كما اقتبس علمهم
وحكمتهم؛ لجمعت مدنيته بين الكمال في الدين والدنيا؛ ولم تكن مادية محضة كما
هي الآن.
وأما الجواب عن السؤال الرابع: فهو أن التبشير بهذا الكتاب ليس نعمة على
كل فرد من أفراد البشر ، حتى يجب شكره على كل فرد منهم ، وإنما الشكر على
النعم ، بل نقول: إنه كان نقمة ومصيبة على جميع أهل البلاد التي نعرفها ، بما
أحدث من الشقاق والتعادي بين أهلها وفاقًا لما قررها اللورد سالسبوري ، وإن جميع
أهل العلم والبصيرة من أهل البلاد السورية التي يقيم فيها السائل يعلمون اليوم
حق العلم أنه ما أفسد ذات بينهم ، وفرق كلمة طوائفهم وحرمهم نعمة الرابطة
الوطنية التي تفتخر بها البلاد الغربية إلا مدارس المبشرين ونزعاتهم ، وقد صر ح
بهذا أشهر كتابهم وخطبائهم وأهل الرأي فيهم من المسلمين والنصارى جميعًا ، ومن
المتفق عليه بين هؤلاء العارفين بشؤون البلاد الدينية والاجتماعية ، أن التدين
بالنصرانية كان أقوى وأصدق بين أهلها قبل هؤلاء المبشرين ، والتعصب الذميم
كان أضعف، وإن كانوا لا ينكرون أن المعرفة بالديانة كانت أقل ، ولا نعرف لهم
أثرًا في تنصير أناس ارتقوا بتنصيرهم إياهم ، فصاروا خيرًا مما عليه أهل دينهم
فضيلة وآدابًا وعبادة لله عز وجل ، دع ما يعتقده المسلمون من بطلان كل عبادة
مشوبة بالشرك.
نعم إن هذه المدارس نفعت البلاد بما بثته فيها من العلوم والفنون العملية
ولا سيما الطب والزراعة والتجارة ، وهذه نعم تشكر، ولكنها ليست من التبشير في
شيء ، وإن الذين حذقوها في المدارس أبعد عن تعاليم الكتاب المقدس في عقائده
وأحكامه ممن لم يدخل فيها.
وما علل السائل المحترم به وجوب هذا الشكر ، من كون هذا التبشير يعرف
الإنسان فوائد لم يحصل عليها من قبل ، أو يجعله بعد التأمل الدقيق يفضل كتابه
الخاص - ففيه بحث ونظر من حيث كونه ليس من لوازم هذا التبشير الخاص به؛
فإن كل ما يتعلمه الإنسان يفيده ما لم يعلمه من قبل ، ويقل من يدرس هذا الكتاب
بسبب التبشير وبدلالة المبشرين دراسة استقلال تهديه إلى تفضيل كتابه عليه ، على
أن كل مسلم عرف حقيقة الإسلام ثم درس هذا الكتاب ، يزداد به علمًا بتفضيل
القرآن على جميع الكتب وكونه مهيمنًا عليها ، وحكمه هو الحكم الفصل فيها
وهؤلاء قليلون وأنا منهم ، وهذا الكتاب الجامع لما عندهم منها من جملة الكتب التي
أضعها بجانبي دائمًا لكثرة مراجعتي لها.
وأما الجواب عن السؤال الخامس، فنقول فيه: إن القرآن أوجب الاجتهاد
والاستقلال في فهم الدين ، والاستدلال الذي ينتج اليقين في كل زمن وكل عصر،
وإن الحاجة إلى هذه الهداية في هذا العصر أشد؛ لانتشار التعليم الاستقلالي وحرية
الفكر فيه ، فصار التقليد فيه أضر مما كان في العصور التي قبله ، وآيات القرآن
في ذم التقليد واتباع الآباء والأجداد صريحة لا تحتمل التأويل ، ولكنها لم تمنع
أدعياء العلم الدجالين من تحريم الاجتهاد وذم الاستقلال ، ولولا رواج دعوة هؤلاء
الدجالين واغترار كثير من العوام لهم، لكان المسلمون على أحسن حال ، ولما صاروا
حجة على الإسلام ، ينفرون الناس عنه بجهلهم وصدودهم عنه؛ لستر جهلهم ،
حتى صاروا يحرمون العلم بالدين نفسه وهو المسمى عندهم بالاجتهاد الذي أوجبه
الله ، ويوجبون الجهل وهو التقليد الذي حرمه الله تعالى.
وأما الجواب عن السؤال السادس فنجيب عنه بما يصححه فنقول: إن
المنتحل للدين لا يكون صادقًا في انتسابه إليه إلا إذا كان موقنًا بصحته مذعنًا
لأحاكمه إذعانًا نفسيًّا عمليًّا بأداء عباداته وترك محارمه ، والتزام سائر أحكامه
وآدابه إلا ما يعرض للبشر عادة من بعض المخالفات ، التي يستغفرون الله منها
ويتوبون إليه ، وأما مجرد اللقب الموروث فلا قيمة له ، والاعتقاد اليقيني هو
المعبر عنه بالإيمان، والإذعان النفسي العملي هو المعبر عنه بالإسلام ، هذا إذا قوبل
أحدهما بالآخر وإلا فالمؤمن والمسلم يصدقان على شيء واحد ، وقد بينا هذه
المسائل في مواضع كثيرة من المنار بالتفصيل والدلائل.
ومن القواعد المقررة عند علماء العقائد الإسلامية أن دين الإسلام ليس فيه
شيء يحكم العقل باستحالته ، وأن المسلم لا يكلف أن يعتقد ما هو محال عقلاً ، وأنه
إن وجد في الشريعة ما يعارض القطعي حسًّا أو عقلاً وجب تأويله بما يجمع بين
العقل والنقل؛ لأن الله تعالى يقول: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا} (البقرة:
286) والقاعدة عند غيرنا بخلاف ذلك ، وهي أنه يجب الإيمان ولو بالمحال وإن
كان بديهيًّا كالجمع بين النقيضين، أو الضدين المساويين للنقضين كالتوحيد
الحقيقي والتثليث الحقيقي؛ أي: كون الإله واحدًا حقيقة وغير واحد حقيقة - فالمسلم
الذي يتبع ما يوجبه عليه دينه من العلم الصحيح به والأخذ باليقين في عقائده لا
يخشى أن تؤثر في نفسه دعوة دين آخر ، وقد بينا في الرد على دعاة النصرانية
بمصر منذ بضع سنين أن المسلم لا يمكن أن يصير نصرانيًّا؛ لأن الإسلام
نصرانية وزيادة كما قال السيد جمال الدين الأفغاني ، أو لأن من وصل إلى الكمال
في أمر لا يختار أن يستبدل به ما دونه كما نقول نحن.
وقد بين الله تعالى في كتابه المعجز للبشر من وجوه كثيرة أنه قد أكمل دينه
الذي بعث به رسله ، وعلى لسان خاتمهم محمد صلوات الله وسلامه عليه وعليهم
أجمعين فقال: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ
دِيناً} (المائدة: 3) وهذا يوافق سنته تعالى في النشوء والارتقاء.
على أن كتب من قبله من الرسل لم تحفظ كلها كما حفظ كتابه ، وسننهم
وتواريخهم لم تحفظ كما حفظت سنته وتاريخه ، فهذا المسيح عليه السلام ليس في
الأناجيل الأربعة التي اعتمدتها الكنيسة من الأناجيل الكثيرة إلا الشيء القليل من
تاريخه ، وهي غير منقولة بالأسانيد المتصلة ، وقد وقع الخلاف في تواريخ كتابتها
وفي اللغة التي كتبت بها ، وفي بعض أشخاص كاتبيها كما صرحوا به في تواريخ
الكنيسة ، وفي معاجمهم العلمية الكبرى (دوائر المعارف) .
ونحن إنما نذكر هذه المسألة هنا على سبيل الاستطراد ، وغرضنا منه أن
المسلم العارف بدينه المتلقي له بالدلائل كما أمر لا يخاف أن يزداد بتبشير المبشرين
إلا ثباتًا ويقينًا فيه ، ولكن هؤلاء المبشرين يبثون دعوتهم في العوام الذين لا
يعرفون من الإسلام إلا بعض الأحكام التقليدية ، وفي التلاميذ المبتدئين في طلب
العلوم والفنون ، وقد تمر السنين على هذا ولا يوجد واحد في الألف من هؤلاء
الجاهلين بأكثر حقائق الإسلام من عوام وتلاميذ يتنصر ، ولكن يكون كثيرون منهم
ملاحدة معطلة أو مشككة (لا أدريين) والسائل المحترم يرى أن هؤلاء شر من
المتدين بأي دين من الأديان التي تنهى عن الشر ، وتأمر بالخير وهو مصيب في
ذلك.
وليعلم القس المحترم أن من أصول ديننا الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله
{لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} (البقرة: 285) وأنه تعالى بعث في جميع الأمم
القديمة رسلاً هادين مرشدين إلى توحيده وعبادته ، وفعل الخير وترك الشر ، وأن
أمر هدايتهم جرى على سنة الارتقاء بالتدرج؛ لاختلاف استعداد البشر كما قلنا آنفًا ،
حتى كمل ذلك الاستعداد ختم الله النبوة بمحمد عليه وعلى سائر إخوانه النبيين
صلوات الله وسلامه ، وأن ما جاء به مكمل لما سبقوه به، وأن من معجزاته أنه جاء
بالخلاصة الصحيحة الفضلى لما كان عليه أشهر الرسل القريبي العهد به ، الذين
حفظ من دينهم ما لم يحفظ من تعاليم من قبلهم ولاسيما موسى وعيسى (عليهما
السلام) على كونه أميًّا لم يطلع على شيء من الكتب مطلقًا. قال تعالى: {وَمَا
كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَاّرْتَابَ المُبْطِلُونَ} (العنكبوت:
48) فلا يسع عاقلاً منصفًا عرف دينه أن يؤمن بغيره ولا يؤمن به ، والذي نعهده
من هؤلاء المبشرين أنهم ينظرون في الإسلام بقصد العثور على شيء فيه قابل
للطعن فيه ، ولو بالتمحل لا بقصد معرفة حقيقته ، ولا المقايسة بينه وبين غيره
بالإنصاف.
ولقد كان من العجب عندي أن أرى هذا المبشر- السائل المحترم - يكتب
بأسلوب واثق بما يرمي إليه كلامه ، وقلما عرفنا منهم من هو كذلك ، وإنما تدل
كتابة أشدهم مبالغة في التبشير وتفضيلاً لما عندهم على ما عند غيرهم ، على أنهم
يكتبون ما لا يعتقدون ويقولون الكذب وهم يعلمون ، ويحرفون الكلم عن مواضعه
كما فعل سلفهم الأولون ، والله يعلم ما يسرون وما يعلنون ، فهؤلاء لا يحترمون
عندنا ، وأما من دعا إلى دينه عن عقيدة هو مذعن لها ومخلص فيها، فكل عاقل
يحترمه وقليل ما هم.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تسكين كلمات الآذان وجواب الإقامة
وبدء السلام ورده
(س9-12) من الشيخ محمد عبد الظاهر برمل الإسكندرية
بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة أستاذنا العلامة السيد محمد رشيد رضا
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
(1)
صدر من بعض السبكية إنكار على من لم يجب المقيم ، ولم يصل
على النبي صلى الله عليه وسلم عقب الإقامة كالآذان ، ولم يأتوا بدليل وقد رأينا
فيه حديث أبي أمامة عند أبي داود ولكنه لم يصح؛ إذ فيه راو مجهول.
(2)
وأنكروا وصل المؤذن بين تكبيرتين من تكبيرات الآذان كما يفعل
المؤذنون اليوم ، ويقولون: السنة الفصل بين كل تكبيرة وأخرى وإفرادها بالوقف
على كل واحدة ، ولا يجوز قطعًا تحريك آخر التكبيرة الأولى لوصلها بالثانية. ولم نعثر لهذا على دليل صريح.
(3)
وقالوا: لا سلام على الجالسين في درس علم ، فإن العلم أولى
وأفرض. فعارضناهم بأن الأمر عام ، والتخصيص لا دليل عليه ، وقد سلموا على
الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فرد بالإشارة.
(4)
وقالوا: لا كلام على الوضوء ، وزعموا أن رجلاً سلم على النبي صلى
الله عليه وسلم وهو يتوضأ ، فلم يرد عليه حتى أتم الوضوء ، ولم نعلم صحة
هذا الحديث ولم يعلموا هم أيضًا. فهل عند سيدنا الأستاذ شيء ثابت في السنة على
هذا كله؟ نرجو إفادتنا؛ لأجل العمل به ولكم الأجر والثواب على هداية السائل
وإرشاد الحيران والسلام.
***
إجابة الإقامة كالآذان
(ج) لم يفتجر تلاميذ الأستاذ الشيخ محمود خطاب السبكي شيئًا من هذه
المسائل؛ أي: لم يأتوا بها من عند أنفسهم ، بل نقلوها عن الفقهاء، فأما استحباب إجابة المؤذن في الإقامة كالآذان فقد استدلوا عليه بحديث أبي أمامة ولم يروا
ضعفه مانعًا من العمل به في مسألة من فضائل الأعمال على قاعدتهم المعروفة ، ولو
قالوا: إن سماع النداء في الأحاديث الصحاح الواردة في ذلك يشمل الإقامة؛ لأنها
نداء كالآذان لم يكن بعيدًا وفي الحديث المتفق عليه: (بين كل آذانين صلاة لمن
شاء) رواه الجماعة من حديث عبد الله بن مغفل ، واتفق العلماء على أن المراد
بالآذانين فيه الآذان والإقامة. وكون هذا من باب التغليب لا ينافي ما قلناه من عدم
البعد وإلا كان نصًّا في المسألة.
***
تسكين كلامات الآذان
وأما الجواب عن الثاني فهو أن للمسألة أصلاً من وجهين: (أحدهما) : ما نقل
عن السلف في ذلك ، ففي كتابي المغني والشرح الكبير للمقنع من كتب الحنابلة
(التي تتحرى نقل أقوال الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار المجتهدين وأدلتها) أن
عبد الله بن بطة قال: إن في الآذان والإقامة لا يصل الكلام بعضه ببعض معربًا بل
جزمًا. وحكاه ابن الأعرابي عن أهل اللغة وروي عن إبراهيم النخعي أنه قال:
شيئان مجزومان كانوا لا يعربونهما: الآذان والإقامة. قال صاحب المغني وصاحب
الشرح الكبير: وهذه إشارة إلى جماعتهم؛ أي: الصحابة ، فإن إبراهيم من
أشهر علماء التابعين. اهـ وهذه حجة لهم.
(والثاني) - وهو معارض له - إن حديث عمر بن الخطاب (رضي الله
عنه) في إجابة المؤذن ، يدل على الوقوف عند كل كلمة (أي: جملة) من كلمات
الآذان إلا التكبير ، فإنه يقف عند كل تكبيرتين فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إذا
قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر. فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر. ثم قال: أشهد أن
لا إله إلا الله. قال: أشهد أن لا إله إلا الله إلخ
…
) ففيه أنه جعل الوقف على
تكبيرتين في أول الآذان وآخره ، بخلاف سائر الجمل المقررة مثنى مثنى ، فقد
وقف على كل واحدة منها ورتب الجواب عليهما - ومن المعلوم أن الوقوف في لغة
العرب يكون بالسكون والوصل بالتحريك - فظاهر الحديث يوافق ما عليه المؤذنون
اليوم في أمصار الإسلام من الجمع بين كل تكبيرتين ، وهو يقتضي أن تحرك كلمة
أكبر بالرفع في الأولى على القاعدة العامة في هذه اللغة ، وهو التحريك في أثناء
الكلام ، لكن بعض المؤذنين يصلون أكثر كلمات الإقامة فيقفون بعد التكبيرات
الأربع، والشهادتين كلتيهما، والحيعلتين كلتيهما؛ لأنهم يحدرون في الإقامة فلا
يمدون كلماتها الممدودة ولا يمدونها ، وكذا ويرتلونها كالآذان وهو المنقول ، فهؤلاء
ينبغي الإنكار عليهم، وكذا من يصل التكبيرتين الأوليين بالأخريين فيقف عند
الرابعة.
***
السلام على المشتغل بالعلم
وأما الجواب عن الثالث وهو عدم السلام على الجالسين في دروس العلم فلا
نص فيه عن الشارع ، ولكنه منقول عن بعض الفقهاء وله نظائر: كقارئ القرآن
بالتدبر ، والملبي في الحج ، قالوا: لا يسلم عليهم؛ لئلا يشغلهما عما هما فيه.
وقالوا: إنه إذا سلم عليهما وجب عليهما الرد. فأمر الرد أعظم من البدء فقد قالوا:
إن الإجماع قد انعقد على أن ابتداء السلام سنة ، وأن رده فرض. وهو ظاهر
آية {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} (النساء: 86) ولا
يترك الواجب إلا بدليل قوي ، فمن ترك السلام على المشتغل بالعلم والعبادة؛ لظنه
أنه يتأذى بصرفه به عما شغل ذهنه وقلبه فله وجه وجيه ، فإن السلام للتحاب
والتواد ، فإذا كان في حالة تنافي ذلك تركه ، ولا يعد تاركًا للسنة المستفادة من
عموم الأمر بإفشاء السلام؛ لأنه معارض في مثل هذه الصورة بما هو ثابت
ومقطوع به من تحريم الإيذاء ، ومنع الضرر والضرار المحقق، وكراهية ما
كان مظنة له ، وقد صرح بعضهم بأن السلام غير المشروع لا يستحق جوابًا.
وترى تتمة بحثه في الجواب الآتي وهو:
***
الكلام على الوضوء
والسلام على المتوضئ
وأما الجواب عن الرابع فهو أن الحديث الذي ذكروه هو ما رواه ابن جرير
عن البراء بن عازب أنه سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ ، فلم يرد
عليه حتى فرغ من الوضوء مد يده إليه وصافحه. ونذكر بهذه المناسبة ما يتعلق
بمحظورات السلام ، وأوسعها ما جمعه في هذا الشيخ محمد السفاريني الحنبلي في
شرح كتابه (غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب) في التنبيهات المتعلقة بالسلام
قال: يكره السلام على جماعة منهم: المتوضئ ، ومن في الحمام ، ومن يأكل أو
يقاتل ، وعلى تالٍ وذاكر وملب ، ومحدث وخطيب وواعظ ، وعلى مستمع لهم
ومقرر فقه ، ومدرس وباحث في علم ومؤذن ومقيم ، ومن على حاجته ومتمتع
بأهله أو مشتغل بالقضاء ونحوهم ، فمن سلم في حالة لا يستحب فيها السلام لم
يستحق جوابًا ، وقد نظمهم الخلوتي وزاد عليهم جماعة فقال:
رد السلام واجب إلا على
…
من في الصلاة أو بأكل شغلا
أو شرب أو قراءة أو أدعيه
…
أو ذكر أو في خطبة أو تلبيه
أو في قضاء حاجة الإنسان
…
أو في إقامة أو الآذان
أو سلم الطفل أو السكران
…
أو شابة يخشى بها افتتان
أو فاسق أو ناعس أو نائم
…
أو حالة الجماع أو تحاكم
أو كان في الحمام أو مجنونا
…
فهي اثنتان قبلها عشرونا
ورد النص في بعض هذه والبقية بالقياس على المنصوص ، وإذا انتفى
الوجوب بقي الاستحباب أو الإباحة ، نعم في مواضع يكره الرد أيضًا كالذي على
حاجته، ولعل مثله من مع أهله ، ويحرم أن يرد وهو في الصلاة لفظًا وتبطل
به، ويكره إشارة. قدمها في الرعاية ، وقيل: لا كراهة؛ للعموم، ولأن النبي
صلى الله عليه وسلم رد على ابن عمر إشارة وعلى صهيب كما روى الإمام
أحمد والترمذي وصححه.
وإن رد عليه بعد السلام فحسن؛ لوروده في حديث ابن مسعود ، وإن لقي
طائفة فخص بعضهم بالسلام كره ، وكره السلام على امرأة أجنبية غير عجوز
وبرزة ، فإن سلمت شابة على رجل رده عليها ، وإن سلم لم ترد عليه. قال ابن
الجوزي: المرأة لا تسلم على الرجال أصلاً. وروى من الحلية عن الزهري عن
عطاء الخراساني يرفعه (ليس للنساء سلام ولا عليهن سلام) وكره الإمام السلام
على الشواب دون الكبيرة، وقال شيخ الإسلام: لا ينبغي أن يسلم على من لا يصلي
ولا يجيب دعوته. اهـ
ولنذكر ما اطلعنا عليه في كتب السنة مما يصلح دليلاً لما أورده أيضًا أو
قياسًا عليه أو معارضًا له فنقول: روى أبو داود والنسائي وابن ماجه وغيرهم أن
رجلاً - هو المهاجر بن قنفذ- سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول ، فلم
يرد عليه ثم قال له: (إذا رأيتني على مثل هذه الحالة فلا تُسَلِّم عليّ ، فإنك إن
فعلتَ ذلك لم أردّ عليك) وفي بعض الرويات أنه رد عليه بعد أن تسمح ، وفي
أخرى: بعد أن توضأ. وتعليل عدم الرد بأنه كان على غير طهارة.
وروى الشافعي في سننه، والبيهقي في المعرفة، والخطيب عن ابن عمر:
(أن رجلاً مرَّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبول ، فسلَّم عليه فردَّ عليه
وقال: إنما حملني على الرد عليك مخافة أن تذهب إلى قومك فتقول: إني سلمت
على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد علي. فإذا رأيتني على هذه الحالة
فلا تسلمن ، فإنك إن سلمتَ لم أرد عليك) وروى ابن جرير عن أبي جهم أنه سلم
على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول فلم يرد عليه حتى فرغ، ثم جاء إلى
حائط فتيمم ثم رد عليه السلام. وروي عن ابن عمر مثله مرفوعًا فيمن سلم عليه
وهو مقبلٌ من الغائط.
وأما حديث: (ليس للنساء سلام ولا عليهن سلام) الذي احتج به السفاريني ،
فقد أشار السيوطي في الجامع الصغير إلى ضعفه ، وهو من مراسيل عطاء
الخراساني وهو مدلس لا يحتج بمراسيله من يحتج بالمراسيل ، فكيف بمن لا يحتج
بها كالجمهور ومنهم الشافعية وهو معارض لأحاديث صحيحة.
عقد البخاري في صحيحه البخاري بابًا في مشروعية (تسليم الرجال على
النساء والنساء على الرجال) قال الحافظ ابن حجر: في شرح ترجمة الباب
من الفتح: أشار بهذه الترجمة إلى رد ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن يحيى
بن أبي كثير: بلغني أنه يكره أن يسلم الرجال على النساء والنساء على الرجال.
وهو مقطوع أو معضل. والمراد بجوازه أن يكون عند أمن الفتنة ، وذكر في
الباب حديثين يؤخذ منهما الجواز ، وورد فيه حديث ليس على شرطه وهو حديث
أسماء بنت يزيد: مر علينا النبي صلى الله عليه وسلم في نسوة فسلم علينا. حسنه
الترمذي اهـ.
ثم ذكر الحافظ حديث واثلة عند أبي نعيم في عمل اليوم والليلة مرفوعًا (يسلم
الرجال على النساء ولا يسلم النساء على الرجال) قال: وسنده واه. ومن حديث
عمرو بن حريث مثله موقوفًا وسنده جيد. وثبت في مسلم من حديث أم هانئ: أتيت
النبي صلى الله عليه وسلم وهو يغتسل فسلمت عليه اهـ.
أقول: تسليم الرجال على النساء يوافق آداب الإفرنج ومقلديهم في هذا الزمن
وأما حديثا الباب في البخاري ، فأحدهما: حديث سهل بن سعد الساعدي - رضي الله
عنه - أنه كان لهم عجوز ، تطبخ كل يوم جمعة أصول السلق بدقيق الشعير ،
وكانوا إذا صلوا الجمعة ينصرفون فيسلمون عليها، فتقدمه إليهم، فيفرحون به.
والثاني: تبليغ النبي صلى الله عليه وسلم عائشة سلام جبريل فترد عليه السلام ،
وكان يجيء بصورة رجل.
وحديث أم هانئ حجة على من منع السلام على من في الحمَّام ، وفي
الصحيحين وغيرهما ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم على الصبيان.
وعقد البخاري له بابًا للرد على من قال: لا يشرع. كالحسن البصري ، وقيده الفقهاء
بما قيدوا به السلام على المرأة التي يخشى الافتتان بها ، وأما الفاسق فاحتج
الجمهور في ترك السلام والرد عليه بمنع النبي صلى الله عليه وسلم الناس من
الكلام عن المتخلفين في غزوة تبوك.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
سكة الحديد الحجازية
(استولت السلطة الفرنسية في سورية على ما فيها من سكة الحديد الحجازية ،
التي هي وقف إسلامي خاص بالبلاد المقدسة ، استولت على إدارتها وأدواتها
وأموالها ، وجعلتها تابعة لشركة الخط الحديدي الفرنسية بين الشام وحماه ، وقد
كتب إلينا كاتب سوري من أعلم الناس بتاريخ هذه السكة المقالة الآتية في سبب
إنشائها ، وإثبات وقفيتها وبيان حالها ، واغتصاب السلطة الفرنسية لها ، وهذا
نصها) :
إن الدولة العثمانية لما رأت أن المسلمين الساكنين في ممالكها ، والمتفرقين
في أنحاء كرة الأرض كمسلمي تونس والجزائر وفاس في المغرب، ومسلمي
الهند والأفغان وإيران والصين ، وسائر المشرق ، يأتون من كل فج عميق في
كل سنة؛ لأداء فريضة الحج ، وزيارة حرم الرسول المصطفى صلى الله عليه
وسلم وقبره الشريفين ، ورأت ما يعانيه أولئك الحجاج من بعد المسافة وتحمل مشاق
الطريق المملوء بالمصاعب والمتاعب ، وركوب متون الإبل لقطع تلك الصحاري
الشاسعة - ارتأت [1] أن تمد سكة حديدية تمتد من حيفا ومن دمشق إلى المدينة المنورة.
وقد كان لهذا الأثر الجليل مقصدان:
(الأول) إجابة إلحاح مسلمي الأرض على مقام الخلافة في ذلك الوقت بهذا
العمل؛ ليتمكنوا من أداء فريضة الحج ، وسنة الزيارة بسرعة تامة وراحة واطمئنان
على أموالهم؛ إذ يوجد فيهم الشيخ العاجز والطفل الصغير ، والنساء المخَدَّرات
وغيرهم من ذوي المعاذير كالأعرج والأعمى والمقعد.
(الثاني) تأمين سلطة الخليفة على الحرمين الشريفين، إذ كان كل خليفة من
خلفاء المسلمين يلقب بخادم الحرمين الشريفين ، ويفتخر هو بأن يتولى هذه الخدمة
إما بنفسه أو بواسطة من ينوب عنه؛ ابتغاء مرضاة الله تعالى. وإذ كان هذا العمل
العظيم يحتاج إلى نفقات طائلة وافرة ، لا يمكن أن يقوم بها فرد من أفراد المسلمين ،
بل يتعذر أن تقوم به الدولة نفسها تقرر بعد الاستشارة والمذاكرة ما يأتي:
(1)
تشكلت لجنة عامة لهذا المشروع ، أوفدت من قبلها الوعاظ المرشدين
إلى جميع الأقطار الآهلة بالمسلمين؛ لحثهم على جمع الإعانات له، فأجيبت الدعوة
في كل قطر إسلامي ، وكانت اللجنة العليا تنشر مقدار الإعانات وأسماء أصحابها
في الجرائد التركية والعربية ، وغيرها من صحف العالم. وقد وضعت الدولة
العثمانية لتنشيط هذا العمل (مداليات) أنواطًا من الذهب والفضة ، وسمتها باسم
إعانة السكة الحجازية ، ويوجد كثير منه عند المتبرعين، كما أنها أحدثت أوراق
طوابع خاصة سمتها بالطوابع الحجازية؛ لكي تلصق على كل ورقة من الأوراق
الرسمية لمعاملات الدولة على كل سند وعقد ينظم بين عاقدين ، لا فرق بينه وبين
الطوابع المختصة بالديون العامة ، ولا تزال هذه الطوابع إلى يومنا هذا تلصق
ويؤخذ رسمها على جميع الأوراق والمستدعيات ، التي ترفع إلى المقامات الرسمية
في تركيا وفى المقاطعات التي انفصلت عنها في أثر الحرب وتقرر انسلاخها عنها
بموجب معاهدة لوزان الأخيرة.
(2)
قبل وقوع الحرب الأخيرة حصل اعتراض من سفراء الدول الأجنبية
على إلصاق طوابع الإعانة الحجازية على الأوراق التي تتقدم من طرف رعايا
الأجانب ، وكان من حجج اعتراضهم أن هذه الطوابع وضعت؛ لإعانة دينية
إسلامية ، فلا يجب على الأجانب دفعها ، وبناء على هذا الاعتراض قررت حكومة
الآستانة وقتئذ أن إلصاق الطوابع الحجازية على الأوراق المتعلقة بالأجانب أمر
اختياري لا إجباري ، وبلغت جميع ولاياتها هذا القرار ، وهذه التبليغات لا تزال
محفوظة في الدوائر الرسمية.
(3)
في 18 أغسطس سنة 1330 (الموافق سنة 1921) صدر قانون
بإلحاق السكة الحجازية بنظارة الأوقاف بناءً على كونها من الأوقاف الإسلامية
الموقوفة على الحرمين الشريفين ، وفيه أن ريعها يصرف قسم منه على تأمين دوام
عمارتها. والقسم الآخر يصرف على الخيرات والتحسينات في سبيل استكمال
استراحة حجاج بيت الله الحرام ، وتأمين راحتهم في حلهم وترحالهم.
ومن المعلوم أن الوقف في عرف الشرع عبارة عن حبس العين الموقوفة على
وجه تعود به منفعتها إلى ما وقفت له منه ، وتبقى ثابتة لا تملك ولا يتصرف فيها
ببيع ولا رهن ولا هبة ولا غير ذلك ، مما يخل بغرض الواقف وينافي نص الشارع.
فالأوقاف الصحيحة المماثلة لوقف السكة الحجازية لا تباع ولا تشترى ، ولا يجوز
هبتها لأحد ، وإن لكل فرد من أفراد الأمة الإسلامية بعيدًا كان أو قريبًا حق الانتفاع
بها في الحج والزيارة ، وما يتبعهما من تجارة وحق المدافعة عنها إذا اعتدي عليها.
وليس الوقف خاصًّا بالشرع الإسلامي، فعند سائر الملل أوقاف دينية وخيرية مصونة
من كل اعتداء ، ومحترمة عند سائر أهل الأديان.
(4)
كانت الحكومة الفرنسية في أثناء عقد قرضها الكبير لتركيا سنة
1914 طلبت جعل الخط الحجازي تحت إدارتها من قبيل الكفالة والضمان لذلك
المال أو بعضه ، فردت الحكومة التركية هذا الطلب الشاذ ردًّا قطعيًّا بحجة كون
الخط وقفًا شرعيًّا ، لا يجوز لها التصرف فيه بذلك على ما كان من احتياجها الشديد
إلى النقود في ذلك الوقت.
(5)
كان الخليفة عند إنشاء هذا الخط هو الناظر عليه بما له من حق
الولاية العامة في الشرع الإسلامي، لا بصفة أخرى.
بعد هذه البينات نقول:
إن السلطة الفرنسية في سورية لم تراع حق وقفية هذا الخط ، ووجوب جعله
في يد المسلمين الموقوف على منفعتهم الدينية ، فاستولت عليه في آخر شهر شباط
(فبراير) سنة 1924 ، وجعلته تابعًا لشركة سكة حديد الشام وحماه وتمديداتها
الفرنسية ، بموجب مقاولة عقدتها معها مباشرة بغير استشارة أحد من متولي إدارة
الوقف ، ولم تشأ السلطة الأفرنسية المذكورة نشر تلك الاتفاقية؛ لما تعلم هي من
إجحافها العظيم بمصالح الخط ، بل أبقتها سرًّا مكتومًا بينها وبين الشركة المذكورة،
ولكن تيسر لبعض المنقبين أن يعلم من أحد كبار مأموري هذه الشركة ، أن حصتها
هي بنسبة ستين بالمائة من أصل ريع (واردات) الخط ، ولها فوق ذلك امتيازات
أخرى من التصرف فيه كاستعمال قاطراته وشاحناته (عربات النقل) على خطها
بلا مقابل ولا بدل ، ولم يسمع ولم ير في زمن من الأزمان ولا في مكان من الأمكنة
ذات القوانين والنظام ، عقد اتفاقية جائرة ظالمة بهذه الدرجة المدهشة لا تأتلف مع
شرع ولا منطق ولا قانون.
على أن شركة سكة حديد الشام وحماه وتمديداتها لم تتمكن من تاريخ تأسيسها
قبل ثلاثين سنة تقريبًا حتى الآن من تحسين شئون إدارتها وتلافي عجزها المالي
السنوي المستمر ، وهي تستوفي أعشار حمص وحماه؛ لسد عجزها، خصوصًا
فيما يتعلق بخط رياق - حلب؛ إذ الكفالة الكيلو مترية بموجب صك امتيازها لأن
تكون الحاصلات غير الصافية ثلاثة عشر ألف وستمائة فرنك ، عن كل كيلو متر
في السنة، علاوة على كون مقدار هذه الحاصلات زهيدًا جدًّا بالنسبة إلى
الخطوط الحديدية ، لم تتمكن الشركة الذكورة من الوصول إليه والحصول عليه ،
وأما حاصلات إدارة السكة الحجازية التي نزعتها السلطة الفرنسية من يد إدارتها ،
التي لم يكن يوجد بين رجالها أحد ما من الأجانب ، فلم تنقص عن ثمانية وعشرين
ألف فرنك في السنة ، عن كل كيلو متر من السنين الأربع الأخيرة ، وهي قد
تمكنت من أن توفر مبلغًا نقديًّا قدره (470522) ليرة؛ لأجل استعماله في ترميم أقسام الخط المخربة ما بين معان والمدينة المنورة ، ولكن الشركة الأفرنسية
استولت على هذا المبلغ أيضًا وعلى جميع ما في مخزن الإدارة الكبيرة من
الأدوات ، التي تبلغ أثمانها مائتين وعشرين ألف ليرة أخرى ، وعلى جميع
القاطرات والشاحنات والعربات بما فيها ، والقسم الذي تم إصلاحه وترميمه
المعد لاستئناف العمل، وتأمين السير والسفر للحجاج الكرام حتى المدينة المنورة،
كما كان متبعًا قبل الحرب.
نفذت السلطة الأفرنسية في سورية هذه المعاملة المجحفة خلافًا للشرع الشريف
ولنص المادة (60) الستين من معاهدة لوزان ، ولأحكام المواد السادسة والتاسعة
من صك الانتداب على سورية ، التي تقضي باحترام الأوقاف ، وعدم التجاوز
عليها والتدخل في شؤونها ، فهذا الاعتداء يعد اعتداءً على الشرع الإسلامي نفسه
وعلى المصالح الإسلامية الخاصة بالمسلمين ، وقد تبعه الاعتداء على جماعة كثيرة
من المسلمين، فإن الشركة المذكورة قد بادرت من أول العهد باستيلائها على الخط
الحجازي في سورية بإخراج مائتين وواحد وأربعين مأمورًا ومستخدمًا فيه ، فقضت
بذلك على مائتين وإحدى وأربعين عائلة ، واستخدمت من عندها من يقوم مقامهم
ممن ليس له مثل ما لهم من الخبرة والتمرن على العمل؛ لأنهم شبوا في خدمة
الخط الحجازي، وتدربوا وتمرنوا فيه منذ سنين طويلة ، وكانوا معدين للاستخدام
فورًا على ما يتجدد من أقسامه ويوجد من فروعه تأمينًا؛ لدوام سير الأعمال،
ومنعًا لتأخير السفر إلى مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام.
إن حركة السلطة الأفرنسية الواقعة هي عبارة عن ضربة متوجهة إلى قلب
الإسلام ، وكان يجب عليها أن تساعد على توحيد فروع الخط مع إدارته ، وتشكيل
لجنة إسلامية؛ لمراقبة سير أعماله بموجب قرار لوزان المؤرخ في 27 كانون الثاني
(يناير) سنة 1923 خدمة للمقصد الجليل ، الذي أسس لأجله ولإدامة حياته ولكنها لم
تفعل هذا، ولم تترك الخط لإدارته الإسلامية المنظمة ، بل شاءت أن تقضي عليه،
وأن تجعله للفرنسيين لا للمسلمين.
إن تجزئة خط الحديد الحجازي جناية عليه ، لا يجوز التسامح فيها ألبتة؛
لأن بعض أقسامه يضمن بقاء البعض الآخر؛ إذ منها ذو الربح الدائم. وبعضها
لا ربح فيه في معظم السنة ، وإننا نرى بعض أقسامه المثمرة كقسم حيفا بيد سلطة
غريبة غير مسلمة أيضًا ، فهي تجني الثمار منه وتصرفها في غير ما وقفت عليه
الخط وما أنشئ لأجله ، وبذلك يبقى القسم الجنوبي الكبير الممتد إلى المدينة المنورة
في منطقة الحجاز خرابًا ، لا يقوم بالمقصد السامي الذي أسس لأجله، وهو نقل
الحجاج الكرام إلى مدينة الرسول ، وتقريبهم من بيت الله الحرام، لعدم كفاية
حاصلاته لتسديد ما يحتاج إليه من النفقات ، فإننا نرى في آخر إحصاء للخط
الحجازي قبل الحرب (وهو إحصاء سنة 1913) أن واردات الخط الكبير كانت
(191374)
ليرة عثمانية ذهبية ، وأن نفقاته بلغت (221430) ليرة فيكون
النقص (30056) ليرة ، ولكن واردات قسم حيفا كانت في السنة المذكورة
(92421)
ليرة، ونفقاته (29599) ليرة، فتكون الزيادة (62824) .
فيتضح من ذلك أن قسم حيفا أيضًا لازم غير مفارق للخط الكبير ، وأنه بدونه
لا يمكن السير والسفر على هذا الخط المقدس بسبب العجز البالغ (30056) ليرة.
يضاف إلى ذلك أيضًا أنه إذا بقى قسم حيفا منفصلاً عن الفرع الكبير على اتصاله
بالبحر ، فإن تعليمات الفحم التي تقدر بـ (18000) طن ستنقل بأجرتها على هذا
القسم ، وتبلغ مصاريفها (14500) ليرة تقريبًا. يعني أن الخط الجنوبي الكبير
يخسر لذلك سنويًّا (44556) ليرة ، وهذا الحال يكون قاضيًا على حياته مما لا
يرضاه العدل النزيه ، والوجدان الطاهر اهـ.
(المنار)
يجب على العالم الإسلامي أن يرفع صوته بالاحتجاج على ما فعلته السلطة
الفرنسية في سوريا من الاستيلاء على السكة الحجازية، وسنبين هذا في جزء ثان
إن شاء الله تعالى.
_________
(1)
المنار: الحق أن السلطان عبد الحميد هو الذي ارتأى هذا الرأي ، ونفذه بقوة إرادته وعلو همته ، وثقة العالم الإسلامي به ، كما بينا ذلك في المنار في ذلك العهد.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الوثائق الرسمية في المسألة العربية
(1)
الاتفاق بين الأمير فيصل والدولة
الفرنسية على الانتداب في سورية
نشرت الحكومة الفرنسية بيانًا عن المسألة العربية جاء فيه نص الاتفاق الذي
عقدته بينها وبين الأمير فيصل في أواخر سنة 1919 ، وهو الذي حمله فيصل إلى
سوريا في شهر فبراير سنة 1920؛ ليأخذ من زعماء الأمة تفويضًا بعقده نهائيًّا.
وقد بينا ما كان من أمر خيبته فيه من قبل وهذه ترجمة الاتفاق:
باريس في 6 يناير (كانون) الأول سنة 1919
المادة1 - تؤيد حكومة الجمهورية الفرنسية اعترافها بحق الشعوب السورية
في حكومة ذاتية.
المادة2 - تتعهد الحكومة الفرنسية ببذل مشاركتها بكل صفة للأمة السورية
وضمان استقلالها ضد كل تعد في الحدود التي سيعترف لها بها مؤتمر الصلح.
المادة3 - يعترف صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بأن الأمة السورية
المستقلة لا يمكنها أن تستغني الآن عن مشاورة ومساعدة (مندوب) يرشدها في
إدارتها إلى الوقت الذي تقدر فيه على إدارة شؤونها بنفسها ، ويقبل باسم الشعوب
السورية أن يفوض إلى فرنسة هذا الانتداب.
المادة4 - يتعهد صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بأن يطلب من الحكومة
الفرنسية - من هذه الحكومة وحدها - المستشارين اللازمين؛ لتنظيم الإدارات
الملكية والعدلية والنافعة ، والمعارف وكل الفروع التي يتبين النفع من إنشائها باتفاق
مشترك بقصد النظام والتقدم.
ويكون للحكومة الفرنسية حق الأولوية في المشروعات الصناعية ، والقروض
المحلية ، وتحترم أساس القانون الشرعي في مسألة الأوقاف.
المادة 5 - تسهيلاً لتسيير الضمان المعطى من فرنسة للأمة السورية يطلب
صاحب السمو الملكي الأمير فيصل حالاً من الحكومة الجمهورية رجالاً - ضباطًا -
مدربين؛ لتنظيم الدرك والشرطة.
المادة 6 - يقيم صاحب السمو الملكي الأمير فيصل في باريس بجانب ناظر
الخارجية معتمدًا مفوضًا موكلاً ، يتتبع المسائل الخارجية التي تهم الأمة السورية،
ويفوض إلى الممثلين السياسيين والقناصل الفرنسيين في الخارج تمثيل المصالح
الخارجية للدولة السورية، ويصدر للقناصل توكيلاً منه بالمسائل السورية.
المادة 7 - يكون لبنان مستقلاًّ تحت الوصاية الأفرنسية في الحدود التي
يخصصها له مؤتمر السلم.
المادة 8 - سيبقى هذا الاتفاق الحاضر الذي تعين به القواعد العمومية مكتومًا
بين الطرفين إلى حين إمضاء الاتفاق القطعي المفصل (ويدون عند رجوع الأمير
فيصل من سوريا) . ويتبلغ هذا الاتفاق إلى مؤتمر الصلح في الوقت الملائم.
***
(2)
تعديل هذه الوثيقة
باريس في 16 يناير (كانون الأول) 1919
بناءً على التصريح الفرنسي - الإنجليزي بتاريخ 9 تشرين الثاني سنة 1918
من جهة، وبناءً على المبادئ العامة المختصة بتحرير الشعوب ، وبالمشاركة الودية
المعلنة من قبل مؤتمر السلم من جهة أخرى ، تؤكد الحكومة الجمهورية الأفرنسية
اعترافها بالحق للأهلين الناطقين باللغة العربية والقاطنين في أرض سوريا من كافة
المذاهب أن يتحدوا؛ ليحكموا أنفسهم بأنفسهم بصفتهم أمة مستقلة يعترف صاحب
السمو الملكي الأمير فيصل بأن اللأهلين السوريين ، لا يستطيعون في الوقت
الحاضر؛ لاختلال النظام الاجتماعي الناشئ عن الاضطهاد التركي، والخسائر
المحدثة أثناء الحرب - أن يحققوا وحدتهم ، وينظموا إدارة الأمة دون مشورة ولا
معاونة من أمة مشاركة ، على أن تسجل تلك المشاركة Cooperation من قبل
جمعية الأمم عند إبرامها فعلاً.
وباسم الشعب السوري يطلب هذه المهمة من فرنسة.
1-
تتعهد الحكومة الأفرنسية بأن تمنح للأمة السورية مساعدتها على شؤونها
بجميع أنواعها ، وأن تضمن استقلالها ضد كل تجاوز ضمن الحدود التي سيعترف
بها مؤتمر السلم ، وفي تعيين هذه الحدود ستبذل الحكومة الأفرنسية جهدها؛ لتقرير
التعديلات العادلة من حيث الجنسية واللغة العربية.
2-
يتعهد صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بأن يطلب من الحكومة
الجمهورية الأفرنسية - هذه الحكومة وحدها - المستشارين والمدربين والمأمورين
الفنيين اللازمين لتنظيم جميع الإدارات الملكية والعسكرية ، وهؤلاء المستشارون
والأخصائيون يستمدون تفويضهم وسلطتهم التنفيذية من الأمة السورية.
يشترك المستشار المالي في إعداد ميزانية الخرج والدخل؛ لإقامة أساس
التنظيم المالي ، الذي تبنى عليه قواعد إدارة الدولة (السورية) الجديدة، وهو الذي
ينفذ بالإجبار جميع نفقات الإدارات المختلفة ، وله أن يبحث عن حصة سورية من
الديون العمومية العثمانية.
وستكون السكك الحديدية المعطى امتيازها من خصائص مستشار (النافعة)
وفي أثر انعقاد الاتفاق الحاضر تمنح الحكومة الفرنسية مساعدتها؛ لأجل تنظيم
الدرك والشرطة والجيش.
يعترف صاحب السمو الملكي الأمير فيصل للحكومة الفرنسية بحق الأولوية
التامة في المشروعات والقروض المحلية ، إلا ضد الوطنيين الذين يعملون لأنفسهم
ولا يعيرون أسماءهم لرأس مال أجنبي.
3-
يقيم صاحب السمو الملكي الأمير فيصل في باريس لدى ناظر الأمور
الخارجية مفوضًا ، ينتدبه سكرتيره للأمور الخارجية ، يعهد إليه النظر في المسائل
الخارجية التي تهم الأمة السورية ، ويعهد إلى ممثلي فرنسة السياسيين وقناصلها في
الخارج بتمثيل مصالح دولة سورية الخارجية.
يكون للمفوض السوري الذي يقيم في باريس مندوبون تابعون لأمره في لندن
ورومة وواشنطن ضمن نطاق السفارة الأفرنسية ، ووظيفتهم رؤية المسائل المختصة
بأحوال السوريين الشخصية.
وسيعهد للقناصل الفرنسويين بمهمة القنصلية السورية.
4-
يعترف صاحب السمو الملكي الأمير فيصل باستقلال لبنان تحت الوصاية
الفرنسية، وبالحدود التي سيعينها له مؤتمر السلم.
5-
يتعهد صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بأن يتعاون مع فرنسة على
تنظيم حكومة لدروز حوران في داخل الدولة السورية تكون متمتعة بأوسع شكل من
الاستقلال الإداري يلتئم مع وحدة الدولة.
6-
تتعهد الأمة السورية بأن تبذل جميع قواها في المساعدة التامة لفرنسا في
كل فرصة؛ امتنانًا من العهد الذي عقدته مع المندوب العالي الأفرنسي ممثل الدولة
المساعدة إقامة عادية في حلب؛ ليكون بهذه الصورة على مقربة من كيليكيا، وهي
منطقة الحدود التي تجتمع فيها عادة الجنود الحامية، ويكون لرئيس الدولة السورية
والمندوب العالي الأفرنسي مشتى في بيروت التي ستتمتع بإدارة بلدية مختارة.
يبقى هذا العهد الذي تضبط به المبادئ العمومية مكتومًا بين الفريقين إلى
إمضاء الاتفاق القطعي المفصل ، الذي سيحرر عند رجوع صاحب السمو الملكي
الأمير فيصل إلى فرنسة ، وسيعرض في الوقت الموافق على مؤتمر السلم اهـ.
(المنار)
هذا هو الاستقلال الذي كانت جرائد الدعاية البريطانية تبشر به السوريين مع
سائر العرب ، وفي مقدمتها جريدة القبلة ، وجريدة الكوكب ، وجريدة المقطم.
هذا هو الاستقلال الذي كان فيصل يحلف الأيمان المغلظة في خطبه ومحادثاته
بأنه لا يقبله إلا تامًّا ناجزًا مطلقًا من قيود الحماية والوصاية ، وكل تدخل أجنبي
وإلا كان بريئًا من دم محمد ، ومن نسب محمد صلى الله عليه وسلم. وكان يطلب
من وجهاء السوريين وأحزابهم ، ومن المؤتمر السوري أن يفوضوه في سياستهم
الداخلية والخارجية بلا شرط ولا قيد ، وكادوا يخدعون، ولو فعلوا لسجل على بلادهم
حمل العبودية ، ولكنه خاب أولاً وآخرًا. ولله الحمد، ولا ندري ما تكون عاقبة أمره
فيما عاهد عليه الإنكليز في العراق ، من تقييد الأمة بإمضاء صك عبوديتها وبيع
استقلالها.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد الرشيدي بك آل الحجازي
أثارة من تاريخ الزلازل وعلم الأرض
لمحمد الرشدي بك آل الحجازي
من أركان الحرب
(كتب بمناسبة تلك الزلازل الشديدة التي انتابت المدن الكبرى في بلاد
اليابان، فخربت العمران، وقتلت مئات الألوف من السكان، وسارت أخبار
أهوالها الركبان، وقد جمعت المقالة للمجلد السابق ومرت سنة كاملة ولم يمكن
نشرها، وإنما ننشرها الآن للعبرة بها والتذكير بحقارة هذه الدنيا وعمرانها
والترغيب في العمل للآخرة التي يندر في هذا العصر من يذكر بها. قال الكاتب) :
رمى الحدثان أهل اليابان بمأساة صمدوا لها صمودًا، وقرحوا أعينًا وخدودًا،
ولا عجب، فإن الخطب الذي لحق بهم من أقسى الأرزاء التي أصابت الإنسانية من
غليان مراجل الأرض التي اتخذ الناس مسكنهم منها، واعتمدوا في معاشهم عليها،
ولكن الإنسان جبل على النسيان، فمن ذا الذي يذكر زلازل مسيني التي أودت بما
يزيد عن مائتي ألف نفس، وزلازل صقلية التي خربت مرارًا مدنها وقراها ،
ونخص بالإشارة منها تلك التي خربت في عام 1693 وحده أربعًا وخمسين مدينة
وثلاثمائة قرية ، وقتلت ستين ألف نسمة! فكأنما قيل لأهل تلك الجزيرة الجهنمية:
لدوا للموت وابنوا للخراب
…
فكلكمو يصير إلى تراب
ولكن ليس بسير الأمور إلى الزوال بالسنة الطبيعية المطردة، بل فجأة وغيلة بغدر الطبيعة وحسن ظن الناس بدنياهم.
دار الردى وقرارة الأكدار ومن ذا الذي فكر قبل مصيبة (طوكيو
ويوكوهامة) وغيرهما من مدن اليابان وقراها أو بين وقوعها وبين حدوث التثور
الأخير لبركان أثنة في صقلية في أن ليسابونه (أو ليشبونة) عاصمة البرتغال منها
أصابتها مثل هذه الأرزاء مرارًا، وأنها في شهر نوفمبر من عام 1755 رجتها
الزلازل رجة شعر بها في مقدار جزء من اثني عشر جزءًا من سطح الكرة
الأرضية، وصيرتها أطلالاً تدفن تحت ترابها وأحجارها ، وخشبها وحديدها أكثر من
ستين ألف شخص!
نعم، لا يذكر إلا القليل من أهل التاريخ - الذين مهمتهم أن يحفظوا ذكرى
الحوادث - تلك الكوارث التي انتابت الإنسانية في عام 79 قبل الميلاد حيث زلزلت
الأرض زلزالها، وأخرجت أثقالها في ساحل نابولي وما اكتنفه، فقوضت أعراش
بومبئي وهركولانوم، وأطغت عليهما سيلاً من المواد الذائبة التي لفظها بركان لم
تطفئ الأيام إلى الآن جمر صدره - وهو بركان فيزوف - وما أصاب منها أرجاء
البحر المتوسط في عامي 19 و 526 بعد المسيح ، حيث قضت في كل مرة على
نحو مائة وعشرين أو مائة وخمسين ألفًا من البشر ، وما كان لهم من أموال وأنعام،
وفي مدينة نابولي نفسها التي رجت أرضها عام 1638 رجة قضت على ما فوق
ثلاثين ألفًا من الأنفس، وجزيرة جامايكا التي اهتزت اهتزازًا كفى لإزالة مدينة
وأهلها من عالم الأحياء؛ إذ محت مدينة بور روايال ، وأماتت أكثر من ثلاثة آلاف
نفس من أهلها، وفي ليما وكالاس حيث دمرت المدينتان ، وفارق ثمانية عشر
(ألفًا) من السكان الحياة فيهما، وفي المارتينيك حيث صارت مدينة سان بيير إلى ما
صارت إليه بور روايال.
لا يذكر سوى المؤرخين ذلك وغيره مثل طغيان الماء على الأرض في مدينة
(جالفستون) بسبب حركة الزلازل التي دمرت المدينة كلها، وحكمت طوفان السيل
فيها، وما لحق بالإنسانية قبله وبعده من الجوائح والمصائب
بل سينسى أهل اليابان أنفسهم ما لحق بجزائرهم في أوائل هذا الشهر، كما
نسوا ما حل بهم من قبله، وسينسى أهل مسيني ما أصابهم من أثنة وزلازل مسيني
وصقلية، وأهل إيطالية ما أصاب أنحاءهم الجنوبية، كما سينسى أهالي الدرمانال
منهم طغيان النيل في هذا العام.
ولولا ذلك لما سكن أحد نابولي وليشبونه ومسيني وأراضي صقلية وجزائر
اليابان والأقيانوسية وغيرها، ولما اتخذت إيطاليا نابولي أهم مرفأ لها، ولما شنت
الأمم الحروب بعضها على بعض، مع إنه لم تخرج أمة مرة من حرب ولو ظافرة إلا
وأسفت على ما ضاع من النفوس والأموال، وفضلت الرغبة إلى نعيم السلام،
الذي هيهات أن تسمح به الأيام ......
ولكن أين يذهبون إذا أرادوا السكنى في جهة لا زلازل تحركها؟
إن شرقي آسية ووسطها وجنوبيها وجزائر الأقيانوسية ووسط أفريقية
وشماليها وجنوبيها ووسط أوروبة وجنوبيها وغربها أراض صلبة ، هي من أكثر
الأراضي تأثرًا بالزلازل ، وفيها كثير من البراكين لا تزال تلفظ اليحموم وسيول
المواد الذائبة والنار، كما أن أميريكة من أراضي أمير الويلس (برنس أوف ويلس)
وإسلانده أو (آيلند) - إذا اعتبرنا إسلانده من أميريكة (- وهو على رأينا أصح
من اعتبارها من أوروبة) - شمالاً إلى رأس القرن (كاب هورن) في أراضي
النار جنوبًا بلاد أوجدتها سلسلة براكين ، قد تكون سبب زوالها بعد أن كانت سبب
وجودها.
ولقد أصابت اليابان قبل الآن من هذا القبيل مصائب كثيرة ، أخصها مصيبة
زلازل عامي 1891 و 1896 وأكثر منهما مصيبة 1855 التي دمرت طوكيو
وكانت وقتئذ تدعى (ييدو) ، كما أن زلازل كراكاتا التي لم تقتصر على رج ما
على القشرة الأرضية من جزائر الأقيانوسية وجنوب الصين والصين الهندية وسيام
الهند، بل وصلت تموجات الارتجاج إلى جنوب أفريقيا، بل إلى جنوب أميريكة
أيضًا، بل إلى ما وراء رأس القرن غر.
وكذلك الهند التي أصابها ارتجاج عقب زلازل طوكيو ويوكوهامة، هذه
الأخيرة هزتها كلها زلازل عام 1861 هزة عنيفة ، وكذلك أواسط آسية ، رأت من
الزلازل ونتائجها كثيرًا مما يروع ويفزع، وخصوصًا زلازل أرجاء بحيرة
البيكال التي طرأت في عام 1888. ولقد ذكرنا زلازل ليشبونة في عام 1755
وقد اهتزت لرجاتها أرجاء الجزيرة (أو شبه الجزيرة!) الأميرية - أي:
البرتغال وأسبانية وإفرنسة وسويسرة وجزء من شمالي إيطاليا وجزء من غربي
ألمانية وشماليها وجنوبي السويد ، وجنوبي النرويج وغربيها وجزء من شماليها ،
وأراضي الدانمارك وهولاندة و (بلجيكة) وجزيرتي إنكلترة وأيرلندة كلها.
ولم تكن أمريكة الشمالية ولا أمريكة الجنوبية بأسعد حظًّا، فقد أصابت الأولى
زلازل كثيرة، نخص بالذكر منها زلازل 1875 التي رجت شرقيها، وزلازل
1895 التي رجت وسطها، وزلازل 1811 و 1711 التي رجت كل أراضي
جنوبي أميريكة الشمالية، وبعض أراضي شمالي أمريكا الجنوبية وما بينهما
من جزائر الانتيل ، وأما الثانية - أي: أمريكة الجنوبية - فقد أصابها في شمالها
ووسطها وجنوبها الغربي والشرقي ما دونته سجلات التاريخ، وقماطر علم
الأرض، وخصوصًا زلازل 1815 التي أصابت الشيلي، وزلازل 1895 التي
عمت الشيلي وقسمًا كبيرًا من الجمهورية الفضية (الأرجنتين) والأوروجواي
والباراجواي وبوليفية، وجزءًا من البرازيل.
فهل سلمت أراضي الشرق العربية - ونعني بها ما جاور مصر - من تلك
الزلازل؟ لا، بل تناوبتها الزلازل حينًا بعد حين، نخص بالذكر منها تلك التي لم
تمر عليها ثلاث وخمسون سنة كاملة، وهي زلازل عام 1870 التي شملت مصر
وقسمًا كبيرًا من سودانها وطرابلس الغرب وتونس غربًا، وقسمًا كبيرًا من بلاد
العرب وسورية والأناضول والبلقان وجنوبي إيطالية!
وأما أراضي الجزائر والمغرب الأقصى فهي جبلية بركانية في أكثر مساحتها ،
ومن المعلوم أن أفريقية كانت متصلة بأوروبة - وعلى الأخص في جهة المغرب
الأقصى ، وما فصلتهما سوى الزلازل التي مزقت القشرة الأرضية البارزة عند
مقترب المحيط الأطلسي والبحر المتوسط وأنشأت بينهما بحر الزقاق أو ممر جبل
طارق.
وإذا لم يسجل التاريخ زلازل في صحراء أفريقية الكبرى ولا في غربيها
ووسطها وجنوبيها ، فليس ذلك لأنه لم تحدث هناك زلازل؛ بل لأن الطوارق
وأهالي السودان والكونغو والهوتانتوتيين وغيرهم ، لم يسجلوا ما لحق بهم منها، ولم
يقيسوا مدى تموجاته بآلات قياس الزلازل
…
بل لم يرتقوا إلى تدوين أمثال هذه
الأحداث الكونية في تواريخ بلادهم.
لقد درس علماء الأرض والباحثون منهم في الزلازل خاصة هذه الشؤون،
واستعملوا ما يستخدمون من آلات رصد الزلازل كالبندول الأفقي ، وآلة مقياس
الزلازل وغيرهما، فوجدوا أنه لا يوجد مقدار شبر من الأرض خلوا من الاهتزاز
الذي قد يشتد يومًا ، فيكون زلزلة تميد بها الدور والقلاع والجبال
…
ولا تترك من
البروج المشيدة إلا الأطلال
…
فأين يقطن الناس المساكين ليأمنوا أن تخسف بهم الأرض؟ ؟ ؟
لعمري إن آمن أنواع المساكن ضررًا هي الأهرام لمن أراد سكنى قصور
الأحجار ، وما بنى بالبتون على نمط مخازن الذخائر في القلاع، وأخفها وأسلمها
الخيام التي يقطنها البدو آمنين أن تسقط عليهم السقوف والجدران
…
فهل تعود
المدنية بعد ازدهارها ورفاهتها، إلى ما كانت الإنسانية عليه في بداوتها وتقشفها؟
لقد كان اليابانيون ولا يزال بعضهم إلى الآن يبنون دورهم بقصب البمبو
جاعلين جدرانها من الورق
…
كما كان أهل الآستانة يبنون مساكنهم بالخشب ، ثم
هؤلاء وأولئك اتبعوا حركة (المدنية) الحديثة في البناء بالأحجار والبتون والحديد،
ومنهم من فكر في اتباع الطريقة الحمقاء ، أو طريقة وضع الربح فوق كل اعتبار
آخر - وهي الطريقة الأميركية الفظيعة التي تشيد بها منازل ذات طباق تعد
بالعشرات
…
فإذا ارتجت الأرض تداعت جدران هذه الأبراج المشيدة ، وسقط
سكانها من أعلى عليين إلى أسفل سافلين تحت الأنقاض وفيما بينها!
إن هذه الحماقة في التقليد نراها هنا في ألمانية أيضًا .... فإن كثيرًا من
الشركات اغتنمت حلول الحكم الجمهوري الذي ترك الأعنة لكل النزعات في
محل الحكم القيصري الذي كان يحرم على الناس أن يعلوا دورهم، فأخذت في بناء
الدور الشاهقة التي تريد بها أن تضارع (المحتكات بالسحب) الأميركية..
ويعلم الله متى يعاقب البانون والساكنون على هذا الخطأ الفظيع، نسأل الله
السلامة لنا وللناس من عواقب حماقتهم ، واندفاعهم وراء الربح بغير تروٍ ولا تفكير!
تسجل مراصد الزلازل في أنحاء العالم آلافًا من الزلازل في كل عام، ولا
يفهم الناس أنهم يعيشون ويبنون قصورهم على قمة بركان ، إذا كان لم ينفجر اليوم
فقد ينفجر غدًا أو كما قال أحد الناس في إبان الثورة الأفرنسية إنهم يرقصون
فوق وعاء أو (برميل) بارود) .
إن هذه الأرض التي يظنها الناس ساكنة لها في (بدنها) حركة دائمة، وكيف
تستقر قشرة رقيقة على نواة غليظة من الجمر؟ وما البحر بآمن من الأرض فإنه
على زلازل أنوائه وأمواجه، له زلازل من تحته كالأرض.
فمتى تعقل الإنسانية وتتخذ لنفسها الحيطة من خطر هي معرضة له في كل
طرفة عين؟
فليرجع الناس إلى ما كانت عليه مبانيهم من البساطة والصغر، وإذا كان العلم
قد أفادهم، فليتخذوا وسائل لمنع سقوط السقوف والجدران، والوقاية من الحريق
الذي كان يلتهم أخشاب الآستانة وورق اليابان
…
إن مصيبة اليابان على فداحة ضحاياها من الأنفس والأموال، لا يقف مدى
خطبها لدى ما ظهر من جسامة الرزء ، بل إنها أكبر بكثير من كل مصيبة حلت
بتلك الأرض الجهنمية. فإنها ضربت (اقتصاد) اليابان من زراعة وصناعة
وتجارة ضربة تكاد تكون قاضية عليه ، إذا لم يبذل في إصلاح ما أفسدت فوق ما
يستطاع من الجهد الإنساني، وإذا لم تمد لها الأمم الأخرى يد المعاونة والمساعدة،
ومتى تعيد اليابان بناء مصانعها ومتاجرها ومزارعها التي قوضتها الزلزلة وأعفت
النار ثارها؟ ومتى تعيد دور علومها وأماكن فنونها، وتستعيض عمن قضت عليه
هذه الكارثة من رجال العلم والسياسة والاقتصاد؟
نعم، إنه لا يجوز اليأس ما دامت في اليابان أم تلد (والأمهات يلدن كثيرًا في
اليابان - ويفاخرن أمم العالم بكثرة من يلدن) ولكن مما لا يجوز للشك أن يتطرق
إليه، هو أن خطب اليابان أعظم خطب رأته أمم الإنسانية بعد خطب عاد وثمود.
(المنار)
بعد كتابة هذه المقالة وقبل نشرها نقلت صحف العالم عن أحد علماء الفلك في
إنكلترة، أنه بعد الدراسة والبحث في أسباب الزلازل عشرين سنة، قامت عنده دلائل
أقنعته بأن هذه الأرض ستخرب في سنة كذا- وذكر سنة قريبة نسيتها الآن -
بزلزلة تعم الغرب والشرق فتطغى بها البحار على اليابسة إلخ.
وقد صار الناس يتمارون بأمثال هذه النذر المحددة لموعد خراب الأرض
وهلاك عالمها ، أو قيام الساعة؛ لتعدد الذين تنبؤوا بها وظهر كذبهم ، وكان الناس
يصدقونها في القرون الوسطى حتى كانوا يتوبون إلى الله، ويتركون المعاصي
ويكثرون الصدقات استعدادًا للقاء الله تعالى ، وقد وقف الألوف من أهل أوروبة
أملاكهم للكنائس في إثر مزعم من هذه المزاعم. ولكن أقوال علماء الفلك
والزلازل في خراب العالم مبنية على أصول علمية ، إذا لم تبلغ فروعها درجة
القطع وتحديد الزمن ، فلا يستطيع أحد أن ينكر أصولها وإمكان وقوع ما أخبر به
هذا العالم الإنكليزي في وقت ما ، وقد صرح كتاب الله تعالى بأن للساعة زلزلة
عظيمة تتقدمها ، ولكنه قال:{لا تَأْتِيكُمْ إِلَاّ بَغْتَةً} (الأعراف: 187) .
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الشيخ محمد مهدي
فُجع القطر المصري في الشهر الماضي فجأة بوفاة أخينا وصديقنا الكريم،
وولينا الحميم، الأستاذ محمد مهدي بك وكيل مدرسة القضاء الشرعي ، والمدرس
في القسم العالي منها، فكانت وفاته زلزالاً عظيمًا، ورزءًا أليمًا، وخطبًا جسيمًا،
شعر بشدة وقعه عارفو فضله من العلماء والأدباء ولا سيما الذين تخرجوا به ، أو
تلقوا عنه في المدارس الأميرية الابتدائية فالثانوية فالعالية - وآخرها دار العلوم
والجامعة المصرية ومدرسة القضاء الشرعي - والذين عاشروه وحظوا بنصيب من
آدابه النفسية واللسانية - فقد كان رحمه الله تعالى نادر المثل ، ومنقطع النظير في
مجموعة أخلاقه وفضائله ومعارفه وآدابه. إنني أذكر من ترجمته بعض ما سمعت
ورأيت منه وما رويت عنه بالإيجاز ، وأختص ما كان من أمره في حزب الإصلاح
ومريدي الأستاذ الإمام:
هو من عرق ألباني جاور في الأزهر سنين، وتخرج في مدرسة دار العلوم،
وكان ممن تلقوا عن الأستاذ الشيخ حسن الطويل أحد أفراد علماء الأزهر في هذا
العصر ، في استقلال الفكر وسعة الاطلاع والجرأة على مخالفة الجماهير في الرأي،
وكان تلاميذه في الدرجة الثانية بعد تلاميذ الأستاذ الإمام الذين دخلوا هذه المدرسة
في أول العهد بتأسيسها، وأعني درجات الاستعداد للإصلاح. ولهذا كانوا أشد
خريجيها رغبة في الاتصال بالإمام في قيامه بالنهضة الأخيرة، وأكثرهم استفادة منه،
ولا غرو! فقد كان الشيخ حسن الطويل صديقًا للشيخ محمد عبده وأستاذاً له في
الأزهر قبل مجيء السيد جمال الدين إلى هذه البلاد، جمع بينهما الميل إلى العلوم
العقلية، والبحث عن غير ما يقرأ في الأزهر، وكانا أول من لقي السيد، وسمع منه
مباحث في تفسير بعض آيات القرآن الحكيم ، لم يطرق آذانهما مثلها، جذبت إليه
ثانيهما ، فانقطع عن كل شيوخه وانفرد بصحبته وكان الوارث الأكبر له.
كان الجامدون من أهل الأزهر لا يستطيعون فتح أبصارهم في نور حكمة
الأستاذ الإمام وعلمه الاستقلالي وآرائه الإصلاحية ، بل كان بعضهم كالأعمى،
وبعضهم كالأعشى تجاه ذلك النور. وكان تلاميذ الطويل يصرفون أبصارهم إليه إذا
صرفت أبصار غيرهم عنه، فربما طرفت عين أحدهم عند النظرة الأولى، ولكنه
لا يلبث أن يعيدها مرة بعد أخرى، حتى تقوى على إدراك ذلك النور وإدراك
الحقائق به، وكذلك وقع للمهدي.
حدثني فقيدنا الكريم بأول عهده بمعرفة الأستاذ قال: ذهبت مع صديق لي إلى
دار سعد بك زغلول في (الظاهر) ليلة ، فوجدت عنده الشيخ محمد عبده وقاسم
بك أمين وآخرين، وكانوا يتكلمون في سوء حال المسلمين وما ينتقد عليهم من
أمور دينهم ودنياهم، فرأيت أنهم مخطئون في بعض ما يقولون، وقد أردت أن
أجول معهم فيما رأيته خطأ من أقوالهم وما يقرره الشيخ فيوافقونه عليه ، فألفيتني
عاجزًا عن الرد عليهم وضقت بهم ذرعًا، فرأيت من الدهاء أن أورطهم فيما يظهر
به خطأ رأيهم للناس ، فقلت للأستاذ بعد جولة قصيرة معه: إذا كان المسلمون
بحيث تذكرون فما بالكم لا تبينون لهم ضلالهم، وتدلونهم على المخرج منه بمقالات
تنشرونها في الجرائد؟ - وكنت أمكر به؛ ليكتب فيتصدى للرد عليه من هم أقدر
مني على ذلك - فقال الأستاذ: قد صدرت هنا جريدة جديدة ، لأجل هذه المباحث
فيحسن بك أن تقرأها؟ وذكر (المنار) .
كان هذا القول سبب اشتراك الفقيد في المنار منذ السنة الأولى ، وتلا ذلك
تعارفنا وتآلفنا، وكان في أول العهد به يجادلني في بعض مباحث المنار التي يرى
فيها نظرًا أو خطأ، وكانت طريقته في المذاكرة أو المناظرة أنه يحفظ لنفسه خط
الرجعة غالبًا، فلا يظهر رأيه بصيغة الجزم، حتى إذا ظهر له أنه مخطئ لم يشق
عليه أن يعترف بالحق، وكان هذا دأبه طول عمره، وكان يسر بالفلج والإحسان
والإصابة، ويدل به فيبتسم وتبرق أساريره ، فإذا جاراه جليسه وشاركه في تبسمه
ضحك، فإذا شاركه فيه أطال وأغرب، وكان يكتئب إذا أخطأ فتراه قد تخاوص
وقطب.
وقد حمد - رحمه الله تعالى - صحبتي وحمدت صحبته، ولما اقترحت على
الأستاذ الإمام عقد مجالس خاصة يتلقى عنه فيها الحكمة العالية بعض خواص
المستنيرين من أساتذة المدارس وغيرهم كان الشيخ مهدي أول من ذكرت له منهم
فقال لي: إن هذا من الجامدين. قلت: لا بل هو مستقل الفكر، حريص على
حقائق العلم. وكان سبب هذا الظن فيه سمره تلك الليلة معهم في دار سعد باشا
زغلول - ثم كان من أحظى الإخوان عند الإمام رحمهما الله تعالى.
كان الفقيد يحضر معنا دروس الأستاذ الإمام في الأزهر؛ رسالة التوحيد
والتفسير والمنطق والبلاغة، ولما خرجنا من الدرس الأول من دروس كتاب أسرار
البلاغة قال لي: إننا في هذه الليلة قد اكتشفنا معنى علم البيان. وكان يحضر
الدروس أو المجالس العالية الخاصة التي كان الأستاذ يلقيها على فئة مختارة في دار
أحمد بك تيمور (هو أحمد باشا تيمور عضو مجلس الشيوخ) في شارع درب
سعادة، ثم في داره هو بعين شمس - فبهذا كان الفقيد من خواص مريدي الأستاذ
الإمام الذين وردوا حوضه وشربوا نهلاً وعلاً، وأشربوا آراءه الإصلاحية، فنشروها
قولاً وفعلاً، إلا أنه لم يكن يتحرى الدعاية لها، ولم يكن يجهر بنضال الخصوم
دونه ودونها، بل كان يوردها في الأكثر من تلقاء نفسه ويجادل فيها على طريقته
التي بيناها آنفًا.
وكذلك كان شأنه في آراء المنار، كان معجباً بها ومظاهراً لي عليها، وكان
يقول لي: إننا نرى في كل جزء من المنار شيئًا جديدًا ما كنا نعلمه، وكان يحب نشر
ذلك والدفاع عنه بما بينا من أسلوبه وطريقته. فإذا تصدى له بعض خصوم الأستاذ
الإمام أو خصوم المنار منكرًا ومجادلاً تحرى في الدفاع أن يكون محايداً لا ضلع له
معنا، إلا أن يكون المنكر من تلاميذه أو ممن هم كتلاميذه في توقيره واحترام رأيه،
فقد يصرح حينئذ بالانتصار والثناء، وكان يرى أن هذا الأسلوب وهذه الطريقة
أقرب وسائل الإقناع، وهو الذي كان يخبرني بهذا عن نفسه، وكنت أرى أن هذا
من الضعف الناشئ عن تحاميه أسباب الانتقاد عليه والتخطئة له، فإنه لم يكن
يطيق هذا، فكان البون بيننا في هذه الخليقة واسعًا.
وكان بعض إخوانه يتهمه بحب الانفراد ولو تشبعًا. قال لي أستاذ في الذروة
منهم علمًا واستقلالاً وصراحة: فاجأنا أخونا فلان بآراء جديدة ومباحث طريفة،
يلقيها علينا في سامرنا لم نكن نعهدها منه، ونحن أعلم الناس به، فكنا نجادله فيها
ولم نعرف مصدرها ، حتى اشتركنا في المنار (وكان اشتراك هذا الأستاذ في أثناء
السنة الثانية) . وعندي من النظر في إطلاق هذه التهمة أن الإنسان إذا اقنع بشيء
وتمكن من نفسه صار رأيًا له ومذهبًا، وصار يتحدث به من عند نفسه، فهي التي
تلقى على لسانه وتملى على قلمه، ما لعله في غفلة عن مصدره، وتكثر هذه الغفلة
إذا طال العهد على تلقي ذلك الشيء ولا سيما إذا كان من المسائل التي تتكرر
بالأساليب المختلفة؛ لأجل الإقناع بها وتعميم نشرها، دع ما كان من توارد
الخواطر، ووقع حافر في إثر حافر.
تلك المباحث الإصلاحية التي كانت جديدة في أول العهد بظهور المنار هي ما
أشرنا إليه في فاتحته، وشرحناه بالتدريج في المقالات المتسلسلة والمتفرقة كمقالات
منكرات الموالد ، ومقالات الإصلاح الإسلامي التي أنحينا فيها على رؤساء الدين
والدنيا من الخلفاء والملوك والمتكلمين والفقهاء والمتصوفة، وأهمها مسألة التقليد
وتفرق المذاهب ، ولما عزمت على بسط هذا البحث وإقامة الحجج عليه ، ووصف
العلاج للتفرق بجمع الكلمة على المجمع عليه في الإسلام ، وجعل المسائل الخلافية
في الدين كأمثالها في اللغة والعلوم والفنون البشرية، لا تقتضي تفرقًا ولا عداوة ولا
طعنًا في المخالف - كاشفت الفقيد بذلك فنصح لي بأن لا أصرح بذلك؛ لئلا تقوم
قيامة الشيوخ على المنار، فقلت له: سأكتب ذلك بصفة مناظرة بين مصلح ومقلد -
وأفتح باب الرد عليها لمن شاء. وقد نفذت ذلك في المجلدين الثالث والرابع
وجمعت تلك المقالات في كتاب (محاورات المصلح والمقلد) التي طبعت في كتاب
مستقل كان له في العالم الإسلامي تأثير عظيم ، ولقد كنت أرجو عند إنشاء المنار
أن أجد من هؤلاء الداربين في مصر حزبًا كبيرًا يشد أزري في عملي ، فلم أجد إلا
أفرادًا ، كان الفقيد أبرهم وأوفاهم وأوصلهم - فجزاه الله خير الجزاء - وقد كان من
حبه لي أن سمى نجله الوحيد باسمي، فأسأله أن يجعله خير خلف له.
وجملة القول في نشأة الفقيد الأدبية الإصلاحية: إنه كان من خيرة الذين
تخرجوا في دار العلوم ، وأرقاهم تحصيلاً وأحسنهم تعليمًا، ومن وسط المستعدين
للإصلاح، وأوائل الفئة التي اتصلت بالأستاذ الإمام في عهدنا ، فأشربت طريقته
المعتدلة في الإصلاح ومذهبه الوسط الجامع بين هداية الدين على منهاج السلف
الصالح وتجديد حضارة الأمة ، بما يقتضيه ترقي العلوم الكونية والفنون الحديثة.
ومن أكبر الآيات على ذلك تربيته وتعليمه لكريمته (أسماء) فقد رباها تربية
إسلامية فاضلة ، وعلمها تعليمًا عصريًّا راقيًا. وكان من شجاعته الأدبية أن أرسلها
إلى إنكلترا؛ لإتمام تعلمها واثقًا بدينها وأدبها، فحقق الله ظنه فيها، وهي الآن ناظرة
لمدرسة من مدارس البنات الأميرية ، تديرها أحسن إدارة.
ومسألة المرأة أهم مسائل تجديد الحضارة في الشرق ، والمذاهب فيها ثلاثة:
مذهب ملاحدة المتفرنجين: وهو جعلها كالمرأة الإفرنجية حتى في الخلاعة
والرقص مع الرجال نصف عارية ، ومعاقرة الراح معهم وما وراء ذلك من وقاحة
وإباحة. ومذهب الجامدين: وهو أن تكون جاهلة مظلومة مستضعفة. ومذهب حزب
الإصلاح والتجديد المعتدل: وهو أن تربى البنات على التدين والفضيلة والعفاف
والتقوى ، وتعلم القراءة والكتابة بلغة أمتها وملتها وأمور الدين، وكل ما تحتاج إليه
للقيام بتكوين الأسرة ونظامها من أمور الصحة ، وتربية الأطفال وتدبير المنزل إلخ
وأن لا يحرم المستعدات منهن للعلوم العالية منها ولا سيما الطب ، وآكده ما يختص
منه بالنساء، وإدارة مدارس البنات، والملاجئ الخيرية للنساء، وكل ما تمس
إليه حاجة الأمة.
حسبك يا قارئ المنار في الآفاق أن تعرف مما ذكرنا أن الفقيد كان من مريدي
الأستاذ الإمام؛ أي: من الحزب الإسلامي المعتدل ، الذي لا يرجى بدونه صلاح حال
المسلمين، وارتقاؤهم المدني والاجتماعي والسياسي ، مع بقائهم مسلمين كما
شهد بذلك بعض أقطاب السياسة من الأوربيين أولي العلم والاختبار لأمور الشرق
الذين وصفوه بالحزب الوسط بين جمود السواد الأكبر ، وبين غلاة المتفرنجين.
صرح اللورد كرومر بهذا في تأبينه للأستاذ الإمام في تقريره عن مصر سنة 1905 ،
وسبقه إلى ذلك مراسل جريدة الطان الفرنسية بتونس.
بعد هذا أنقل إليك ما كتبه أحد تلاميذ الفقيد من دعاة التفرنج أنصار الجديد
أعداء القديم فيه من هذه الجهة.
***
رأي تلميذ له فيه
كتب الدكتور طه حسين مقالاً فيه نشره في جريدة السياسة ، وهو أحد كتابها
ذكر فيه أن الأستاذ المهدي كان له تأثير عظيم في أنفس تلاميذه الكثيرين ، وأنهم
كانوا يحبونه حبًّا شديدًا ، وأن منهم كثيرًا من كبار المعلمين والقضاة والمحامين من
شيوخ مصر وشبانها ثم قال:
ولقد أريد أن أترك منه في هذه الكلمة صورة قريبة من الصدق، أريد أن
أكون مؤرخًا لا مداحًا ولا راثيًا، وأشعر بأن عمل المؤرخ في مثل هذا المقام ليس
بالشيء السهل.
(لم يكن الشيخ محمد مهدي من أنصار القديم ، ولكنه لم يكن من أنصار
الجديد، وإنما كان وسطًا بين هاتين الطائفتين، كان يزدري أنصار القديم ويغلو
بعض الشيء في ازدرائهم، وكان يراهم خطرًا على الرقي العقلي وعلى الحياة
الصالحة، كما أنه لم يكن يحب الغلاة من أنصار الجديد ، بل كان يتبرم بهم كثيرًا
ويراهم خطرًا على الحياة الاجتماعية والدينية بنوع خاص ، كان شديد الإعجاب
بالأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده وبعض تلاميذه، بل كان إعجابه هذا لا حد له،
وكان سببًا من أسباب قصوره عن إدراك الحياة الجديدة، فكان يخيل إليه أن المثل
الأعلى من الرقي العقلي ومن الحرية العقلية ، إنما هو ما وصل إليه الشيخ محمد
عبده، وأن الذين ينحرفون عن طريق الأستاذ الشيخ محمد عبده إلى ناحية الجمود
كالذين ينحرفون عن طريقه إلى ناحية التقدم، خطرون على الحياة الاجتماعية
والدينية والعقلية ، أولئك يؤخرونها والتأخر شر، وهؤلاء يثبون بها والوثوب خطر.
ثم كان الأستاذ الشيخ مهدي يمثل جيلاً خاصًّا من الأساتذة والأدباء هو أقرب
الآن إلى أن ينتهي ، ويترك مكانه لجيل من الشبان يخالفه المخالفة كلها. كان قد أدرك
ذلك العصر الذي لم تكن فيه حياتنا العقلية والأدبية راقية ولا مرضية، وكان من
الذين ظهر فيهم الرقي الجديد ، فكان معجبًا بهذا الرقي مفتونًا به، وحفظ هذا إلى آخر
أيامه، فكان يرى نفسه خيرًا من غيره، وكان لا يتكلف الاحتياط في إخفاء ذلك أو
الاقتصاد فيه، وكان أصدقاؤه وتلاميذه الذين يحبونه ويميلون إليه يسمعون منه ذلك
راضين بل متفكهين، كانوا يبسمون له ويستعيدونه، فإذا انصرف عنهم الأستاذ
أعادوا ما سمعوا منه وضحكوا لا ضحك سخرية وازدراء بل ضحك عطف وحب)
اهـ.
(المنار)
هذا قول صريح من الدكتور طه حسين في رأيه ورأي أمثاله من غلاة التفرنج
في حزب الأستاذ الإمام ، الذي بينا أساسه آنفًا. وإذا كان الدكتور طه يعد الفاسق
الخليع أبا نواس من المصلحين في عصره، فلا غرو أن يعد الأستاذ الشيخ محمد
مهدي ممن يضحك منهم في هذا العصر، ومن آرائهم في الإعجاب بالشيخ محمد
عبده ومبادئه في الجمع بين هداية الدين والترقي الدنيوي. وإننا نود من الدكتور
وشبان حزبه أن يبينوا لنا بمثل هذه الصراحة وجه تفضيل جيل الشبان الجديد على
جيل المعتدلين المصلحين ، وهل منه أن السيدة أسماء كريمة المهدي التي تربأ
بشرفها ودينها أن تتعلم الرقص مع الرجال الذي شرحته لنا السياسة من عهد قريب؛
تعد من نساء العهد القديم الذين يدعون إلى القضاء عليه؟ أم تعد كأبيها ممن يضحك
منهن ويعطف عليهن؛ لأنهن تعبن في اقتباس العلوم العصرية ولم يقدرن أن يصلن
بها إلى الرقي الجديد، فوجب عليهن أن يتركن مكانهن لبنات الجيل الجديد اللواتي
يرقصن مع الرجال الأجانب ، والوطنيين في مصر الجديدة وشارع عماد الدين كما
يرقص أخواتهن التركيات في مراقص غلطه وبيرا مع رجال الروم والإفرنج بإغواء ملاحدة المتفرنجين هنالك؟
إن شأن غلاة التفرنج في مصر لعجيب، وأعجب منه تفضيل مثل الدكتور
طه المدرس في الجامعة المصرية ، والمحرر في جريدة السياسة هؤلاء الغلاة على
المعتدلين الذين يرشدون الأمة إلى كل نافع ويزجرونها عن كل ضار من قديم وجديد.
إن هؤلاء الغلاة في التفرنج أشد إفسادًا لأممهم من الجامدين على كل جديد ،
فهم الذين يبددون ثروتها في الفسق والفجور، وهم الذين يفسدون أخلاقها وآدابها
وأعراضها، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل من مقوماتها ومشخصاتها، فإن كانوا
على شيء من العقل والفضيلة؛ فليبينه لنا الدكتور طه وأمثاله لنقيم له ميزان
المناظرة، ونحكم فيه مصلحة الأمة.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تحريم المسلمات على غير المسلمين [*]
النص الأصولي القطعي والنص اللغوي - الوصف الذي يتخذ علمًا وعنوانًا
على أمة أو أهل ملة ، والوصف الذي يطلق بمعنى قيام الحدث بالموصوف ،
والفعل المسند إلى القوم أو الأمة - إنكاح المشركين المؤمنات محرم بالنص القطعي
وإنكاح غيرهم من الكفار محرم بنصوص لغوية لا أصولية قطعية ، وبإجماع
المذاهب والقياس.
قد عرض في أثناء إصدارنا لأجزاء المجلد الرابع والعشرين أحداث سياسية
واجتماعية إسلامية شغلتنا عن إتمام عدة أبواب من أبواب المباحث ، التي كنا دخلنا
فيها كالرحلتين السورية والأوربية ، ومنها ما كتب إلينا من الانتقاد على المنار،
وأهمه ما كتبه إلينا الشيخ محمد عبد الظاهر من خواص إخواننا في الدين ، وأولادنا
في العلم انتقادًا على قولنا في مقالة (مدنية القوانين) التي نشرت في ج6م 23 من
أن النص القطعي في القرآن إنما ورد بالنهي عن نكاح المشركات وإنكاح المشركين ،
وَبِحِلِّ نكاح المحصنات من أهل الكتاب ولم يصرح بتحريم إنكاحهم - وأن
التحقيق أن المشركين والمشركات في آية البقرة خاص بالعرب منهم - أعني قوله
تعالى: {وَلَا تَنكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنّ} (البقرة: 221) الآية - فهو يرى
أن عنوان (المشركين) فيها وفي غيرها يعم جميع أهل الملل غير المسلمين ، ومن
الدلائل على هذا عنده إسناد القرآن الشرك إلى أهل الكتاب في قوله تعالى:
{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ
لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لَاّ إِلَهَ إِلَاّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (التوبة: 31) كما نزه
نفسه عن شرك مشركي العرب بمثل هذه الجملة في سورة المائدة - وأن الوعيد على
الشرك المطلق يشملهم - وأن كونهم صنفًا مستقلاًّ لا ينافي دخولهم في الجنس العام،
وأن ابن جرير ذكر وروى عن قتادة أن لفظ المشركين في آية: {وَلَا تَنكِحُوا
المُشْرِكَاتِ} (البقرة: 221) يشمل أهل الكتاب ولم يذكر مخالفًا (فعدم ذكره
مخالفًا دال على الإجماع) ! !
كان أخونا المذكور كتب إلينا انتقاده هذا مختصرًا ، فكتبنا إليه كتابة تبعثه
على المراجعة والبحث في بعض المسائل كمعنى النص الأصولي القطعي المراد،
والفرق بين عنوان المشركين، وإسناد فعل الشرك إلى أهل الكتاب وغير ذلك؛ لأنه
يعنى بعلم الأثر دون علم الأصول وغيره من كتب المعقول - وهذا دأبنا مع إخواننا -
فبحث كثيرًا ثم كتب إلينا مقالاً طويلاً يبلغ 8 صفحات مزج فيه المسائل، وخلط
الدلائل، وشنع على علماء الأصول، وجعل التحاكم إليهم تحاكمًا إلى أهل
الطاغوت، وإبطالاً لكلام الله عز وجل، برأهم الله تعالى من ذلك، ومن جهل شيئًا
عاداه، وكنا نريد أن ننشره ، ونتكلم على مسائله وأدلته وما فيها، وإن كان أكثره لا
يفيد جمهور القراء، بل يكرهه أكثرهم؛ لأنه مناقشات لفظية واصطلاحية في شأن
فهم باحث أخطأ في فهمه واستدلاله - ولذلك طال الزمان ولم نجد الفرصة،
وخشينا أن يطول الزمان على ذلك في المستقبل أيضًا، فرجحنا أن نكتب ما
نرى فيه الفائدة العامة في المسألة وهو:
(1)
أن النص الأصولي الذي نعنيه هو عند أهله ما يحتمل معنًى واحدًا لا
يحتمل غيره حقيقة ولا مجازًا ولا كناية، وهو إنما يشترط في أصول الدين التي
يطلب فيها القطع ، ويعد جاحدها خارجًا من الملة فلا يقبل له عذر بالتأويل، وأما
الأحكام العملية فيكتفى فيها بالنصوص اللغوية من منطوق ظاهر ومفهوم موافق،
وفي المفهوم المخالف الخلاف المشهور في الأصول ، وهو أن أبا حنيفة ينفيه،
والجمهور يثبتون ماعدا مفهوم اللقب منه، فاستعظام صاحبنا لنفي نص أصولي
قطعي في حكم شرعي عملي من الأمور الشخصية - استعظام لما ليس بعظيم في
نفسه، فإن أهل السنة يذكرون في العقائد السمعية مسائل ليس فيها نص قطعي بل
يثبتونها بظواهر النصوص اللغوية كميزان الأعمال يوم القيامة ، ولا يعدون من
يتأولها خارجًا عن الملة، فالأحكام العملية أولى بذلك؛ إذ لم يشترط القطع العقلي في
إثباتها أحد من المسلمين - فإضاعة الوقت وكثرة الجدال في محاولة إثبات هذه
المسألة بنص قطعي أصولي لا يحتمل التأويل، لا حاجة إليهما. فحسبنا الظواهر
واتفاق المذاهب الإسلامية على هذا الحكم، إلا إذا كان المنتقد يرى أن للمسلمين
مصلحة راجحة في تكفير من يتأول شيئًا من أمثال هذه الظواهر، أو ينكر دلالة مثل
هذا الإجماع متأولاً لا مكابرًا ولا معاندًا. ونحن نحرص على اتقاء الجزم بإخراج
أحد المسلمين من ملة الإسلام ما استطعنا.
(2)
الفرق بين الوصف الذي يتخذ علمًا وعنوانًا على طائفة أو شخص
وبين الوصف أو المصدر أو الفعل الذي يراد به قيام المعنى بالموصوف - ظاهر،
ولكل منهما موقع في الكلام. مثال ذلك: أن الكفر والشرك والفسق والظلم وما
اشتق منها قد أطلقت في الكتاب والسنة بحسب معانيها اللغوية على الكفار إطلاق
المترادفات، وقوبلت بالإيمان والإسلام مقابلة المتضادات، وإطلاقًا يشمل بعض
منافقي المسلمين الذين لم يدخل الإيمان في قلوبهم ، وبعض من صح إيمانهم ، ولكن
بمعنى قول العلماء: (كفر دون كفر، وشرك دون شرك) ؛ أي: لا بالمعنى
المقابل للإسلام والإيمان، وقد بين ذلك المفسرون وشراح الصحيحين وغيرهما من
كتب السنة ، وسبق لنا الإلمام به مرارًا. آخرها البحث المستفيض الذي نقلناه عن
كتاب الصلاة للمحقق ابن القيم (ص673ج 9م24) واصطلح علماء الشرع
على تخصيص لفظي الكفر والشرك بما يقابل الإسلام ، ولفظي الفسق والظلم بما
يقابل الصلاح والعدل.
والملل المخالفة للإسلام كثيرة ومن المخالفين له من ليس لهم ملة ينتمون إليها
كمنكري الألوهية ، فإذا صح أن يسمى كل من ليس بمسلم كافرًا اصطلاحًا ، كان
لهذه التسمية وجه في اللغة - وإن كان الاصطلاح الغالب عند أهل هذا العصر أن
لفظ الكافر لا يطلق إلا على المعطل الجاحد لكل الأديان - ولا مشاحة في الاصطلاح -
ولكن لا وجه في اللغة لتسمية كل من ليس بمسلم مشركًا، فإن من غير المسلمين
المعطل الجاحد، ومنهم الموحد الذي توحيده أرسخ وأصح من توحيد الكثير من
طائفة المسلمين الجاهلين بحقائق الإسلام، وما أكثرهم في هذا الزمان.
إن الفلاسفة الإلهيين ومن يعرفون من أهل أوروبة بالعقليين وجملة اليهود
والآريوسيين من النصارى المتقدمين ، وأكثر نصارى هذا العصر الذين تعلموا
تعليمًا راقيًا ، ولم يمرقوا من الدين - كل هؤلاء وطوائف غيرهم من العلماء
المستقلين في العلم والدين موحدون ، ليس في عقولهم شيء من الشرك بالله بالمعنى
المعروف في القرآن. سألت عجوزًا إفرنسية كانت جارة لنا: ما لي أراك لا تذهبين
إلى الكنيسة يوم الأحد؟ ألست متدينة؟ قالت: بلى وإنني أصلي لله في بيتي وما
الكنيسة ورجالها إلا جماعة احتيال على المال والجاه، والله يعلم بصلاتي حيث كنت.
قلت: وما تقولين في السيد المسيح عليه السلام؟ أهو إله أم لا؟ قالت: الإله
واحد والمسيح مثل نبي؛ أي: هو نبي، أو من قبيل الأنبياء. وقالت: إن أكثر
المتدينين المتعلمين عندهم يعتقدون اعتقادها، ومنه أن لا أحد من الأنبياء ولا
القديسين يقدر على نفع أو ضر أو أي عمل مخالف لسنن الكون.
والتوحيد هو أصل دين جميع الرسل عليهم السلام ، وما طرأ على أهل
الكتاب من الشرك هو عين الذي طرأ على كثير من المسلمين ، الذين لم يتلقوا
التوحيد الخالص تلقيًا صحيحًا عن أهل العلم والبصيرة في الدين، وهو لم يكن
مستغرقًا لجميع أفرادهم ، حتى ما أسنده الله تعالى إليهم في القرآن فهو كإسناده إلى
اليهود قتل الأنبياء عليهم السلام بغير حق ، وهو إنما وقع من بعضهم. ووجهه في
اللغة معروف مبين في التفسير وقد قال الله تعالى: {وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ
بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} (الأعراف: 159) وقال: {مِّنْهُمُ المُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ
الفَاسِقُونَ} (آل عمران: 110) ثم قال بعد ذكر كفرهم وقتلهم الأنبياء: {لَيْسُوا
سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِر} (آل عمران: 113-114) الآيات - قال ابن عباس -
رضي الله عنه في تفسير أمة قائمة: على أمر الله لم تنزع عنه وتتركه كما تركه
الآخرون وضيعوه. اهـ. ولم يقل مثل هذا في المشركين.
لأجل هذا جعل الله تعالى لفظ المشركين لقبًا أو علمًا لمن كان الشرك قاعدة
دينهم والوصف العام لجماعتهم ، وجعل العلم لليهود والنصارى (أهل الكتاب) وما
أسنده إليهم أو وصفهم به من الشرك ، فلما كان عرضًا طارئًا لم يجعله علمًا ولا لقبًا
ولا وصفًا عامًّا ، يطلق عليهم في كل حال أو يميزهم عن غيرهم من أهل الملل ،
بل هو من قبيل ما بيناه في أول هذه المسألة ، ومن إطلاق ما صدر من البعض
على الكل كقتل الأنبياء وأكل السحت.
مثال ذلك قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ
ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لَاّ إِلَهَ إِلَاّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (التوبة: 31) فسر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الشرك بقوله: (أما إنهم لم
يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئًا استحلوه ، وإذا حرموا عليهم شيئًا
حرموه) . رواه مخرجو التفسير المأثور والترمذي والطبراني وأبو الشيخ والبيهقي
في سننه من حديث عدي بن حاتم. ورواه أكثرهم عن حذيفة أيضًا. وهذا النوع من
الشرك طرأ على المسلمين أيضًا فكثير منهم - إن لم نقل: أكثر المتأخرين منهم.
يستحلون ما أحل لهم رؤساؤهم الدينيون، ومنهم شيوخ الطريق الجاهلون -
ويحرمون ما حرموه عليهم ، ولكنه من الشرك الذي لا يعده الفقهاء خروجًا من الملة إلا
إذا كان في أمر مجمع عليه معلوم من الدين بالضرورة. وهذه الآية أقوى ما استدل به
المنتقد على كون أهل الكتاب من المشركين - وقد وردت بعد قوله تعالى: {وَقَالَتِ
اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} (التوبة: 30) ومن
المعلوم أن هذا القول قد يطلق عندهم إطلاقًا مجازيًّا لا يعد من الشرك في شيء كقوله
تعالى حكاية عنهم: {وَقَالَتِ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} (المائدة:
18) وقد ورد في التفسير المأثور وغيره: أن من قال من اليهود: عزير ابن الله -
بعضهم. وروي أنه واحد منهم اسمه فنحاص. فهو من باب إسناد ما كان من البعض
إلى الجنس أو القوم وهو كثير كما تقدم آنفًا.
وجملة القول أن أهل الكتاب قد فشا فيهم الشرك وهو ليس من أصل دينهم
ولا عامًّا فيهم ، بل جميع أهل الملل القديمة كالمجوس والبوذية كانوا أهل كتاب
وأتباع رسل ، ثم طرأ عليهم الشرك والوثنية بالتأويل، ولم يعد يعرف لكتبهم أصل
لطول العهد، وأما اليهود والنصارى فقد دل القرآن على أن كتبهم لم تذهب كلها، بل
أوتوا نصيبًا منها ونسوا آخر- وما بقي لهم طرأ عليه التحريف ، فلذلك ميزهم عن
سائر أهل الملل بتسميتهم (أهل الكتاب) . وهو يعطيهم هذا اللقب في مقابلة
المشركين تمييزًا لهم، كما ميزهم بأحكام خاصة من دون مشركي العرب وغيرهم -
والمنتقد يعترف بهذا للآيات الصريحة فيه ، ولكنه يجعله كاللغو الذي لا يترتب عليه
حكم ولا يراد به بيان حقيقة ، ولا يصح أن يستدل به على أنهم لا يعدون من جنس
المشركين عند إطلاق كلمة المشركين على الجنس المعين من أهل الملل - وهو
مخطئ في هذا.
فعلى هذه التفرقة بين الأمرين نقول في قوله تعالى: {وَلَا تَنكِحُوا
المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنّ} (البقرة: 221) الآية -: إما أن يراد بالمشركين
والمشركات فيه معنى اسم الفاعل ، وهو من اتصف بالشرك بالفعل وإما أن يراد
أهل الملة الذين أطلق عليهم في كتاب الله لقب المشركين - فإن أريد به الأول فهو
لا يشمل إلا من كان مشركًا بالفعل، ويخرج من مفهومه من لم يكن كذلك من بقايا
الحنفاء الموحدين ، الذين كانوا يهزؤون بالأصنام وعبدتها من جاهلية العرب ،
والموحدون من سائر الأمم - وهو ظاهر البطلان ولم يقل به أحد - فتعين أن يراد
به لفظ المشركين علمًا لهم ولقبًا يميزون به من غيرهم ، ولذلك جعل غاية النهي
دخولهم في أهل الإيمان المراد بهم المسلمون - والظاهر بناءً على ما تقدم أن
المشركين بهذا المعنى هم أهل الأوثان الذين لا يعرف لدينهم أصلٌ من كتاب منزل
كاليهود والنصارى ، ولا شبهة كتاب بحيث يكون لدينهم لقب خاص كالمجوس
على قول الجمهور. (وقال بعضهم: إنهم كانوا أهل كتاب) ؛ ولذلك خصوا
بلقب مميز في مقابلة المشركين وغيرهم بقوله تعالى في سورة الحج: {إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ
بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (الحج: 17) وإنما ذكر المشركون
في هذه الآية دون آية البقرة التي ذكر فيها بقية الأصناف؛ لأن سياق آية الحج لبيان
الحساب والجزاء المطلق، وهو عام، وسياق آية البقرة؛ لبيان أجر من أقام أصول
دينه الصحيحة ، وانتفاء الخوف والحزن عنهم يوم القيامة؛ إذ كانت كلها
أصولاً صحيحة ، والمشركون لا يشاركون هذه الأصناف فيها، وهي قوله تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: 62) .
وإذا أمكن المراء في أن يكون هذا هو الظاهر المتبادر من لقب المشركين
والمشركات ، فلا يمكن المراء في أنه ليس نصًّا أصوليًّا قطعيًّا فيما عدا المسلمين
من أهل الكتاب وغيرهم، والقول باتحاد الحكم وتحريم إنكاح أهل الكتاب لا
يقتضي ذلك؛ لجواز أن يكون قد ثبت بدليل آخر - فهذا الوصف ليس نصًّا لغويًّا
ولا شرعيًّا في ذلك، بدليل ما بيناه من معناه اللغوي ومن استعماله في الكتاب
العزيز، ومثله في كتب السنة كثير، ومنه بعض ما نقله المنتقد من صحيح
البخاري كقوله: (باب إذا أسلمت المشركة أو النصرانية) إلخ فالعطف يقتضي
المغايرة - وهذا هو اصطلاح الشرع في اللقب، وجعله عنوانًا على أهل الملة -
فكيف يقال: إنه نص أصولي قطعي في كل كافر لا يحتمل غير ذلك لغة ولا عرفًا ،
ولو بطريق التجوز وغيره من طرق التأويل؟ هذا لا يمكن أن يقوله أحد يفهم معنى
النص القطعي ، ولا يحتاج إليه من ذهب إلى عموم الحكم في آية البقرة ، فقد يكون
كلامهم من باب التفسير بالمراد. وما نقل عن ابن عمر من تأوله الآية وتحريمه
للكتابيات لم يوافقه عليه أحد من الصحابة فهو شاذ ، وله نظائر رضي الله عنهم
وما هم بمعصومين، وإنما الحجة إجماعهم على أمر ديني، ويقرب منه ما ثبت عن
جمهورهم، ولا عبرة بشذوذ الأفراد كقول ابن مسعود رضي الله عنه: إن المعوذتين
ليستا من القرآن مثلاً.
نعم إننا نعترف بأننا أخطأنا فيما عزوناه إلى قتادة من القول بأنه خص
المشركين والمشركات في آية البقرة بوثيني العرب ، فإن الذي روي عنه أنه قال في
المشركات: (يعني: مشركات العرب اللائي ليس لهن كتاب يقرأنه) ولم يقل مثله
في المشركين - ولكن التفرقة بين مدلول (المشركات) ومدلول المشركين في آية
واحدة تحكم. وعدم نقله عنه لا يدل على أنه يقول بالتفرقة - ومسألة الحكم ليست
موضوعنا هنا بل لا خلاف فيها بيننا وبين المنتقد.
ولم يكن قتادة هو الذي قال هذا وحده، ففي الدر المنثور عن سعيد بن جبير في
تفسير: {وَلَا تَنكِحُوا المُشْرِكَاتِ} (البقرة: 221) الآية - قال: يعني أهل
الأوثان. وعن مجاهد: نساء أهل مكة من المشركين. وعن حماد قال: سألت
إبراهيم (يعني: النخعي) عن تزويج اليهودية والنصرانية فقال: لا بأس. قلت:
أليس الله يقول: {وَلَا تَنكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} (البقرة: 221) ؟ قال:
إنما ذاك المجوسيات وأهل الأوثان.
وقال أبو بكر الجصاص من أئمة الحنفية في القرن الرابع في كتابه أحكام
القرآن ما نصه: وقوله تعالى: {وَلَا تَنكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} (البقرة:
221) غير موجب لتحريم الكتابيات من وجهين: أحدهما: أن ظاهر لفظ
المشركات يتناول عبدة الأوثان منهم عند الاطلاق ، ولا يدخل فيه أهل الكتاب إلا
بدلالة، ألا ترى إلى قوله: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَلَا المُشْرِكِينَ أَن
يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ} (البقرة: 105)، وقال: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ} (البينة: 1) ففرق بينهم في اللفظ وظاهره
يقتضي أن المعطوف غير المعطوف عليه، إلا أن تقوم الدلالة على شمول الاسم
للجميع. اهـ.
وقد قالوا مثل هذا في عهود المشركين ، والأمر بعموم قتالهم في أول سورة
براءة ، وأنه نزل في مشركي العرب ولا يشمل أهل الكتاب.
وجملة القول أن (لقب المشركين) لا يصح إطلاقه على جميع الكفار لغة
ولا شرعًا ، وأن الفرق بين المشركين وأهل الكتاب عظيم جدًّا. أصول الدين
الإلهي الإجمالية ثلاثة: الإيمان بالله، والإيمان باليوم الآخر ، والعمل الصالح على
الوجه المشروع؛ ابتغاء مرضاة الله وثوابه، كما في آية البقرة ، ويدخل في
التفصيل الإيمان بالملائكة والكتب الإلهية والرسل عليهم السلام ودار الثواب
ودار العقاب.
وأهل الكتاب يؤمنون بهذه الأصول كلها بالإجمال، وأما المشركون فلا يؤمنون
بشيء من تلك الأصول ، ومن آمن منهم بالله أشرك معه غيره من خلقه، فجعل له
أندادًا يزعمون أن من تقرب إليهم يشفعون له عنده ، فيقضي لهم حاجتهم لأجلهم ،
وأما ما دخل على كثير من أهل الكتاب من مثل هذا الشرك وغيره مما ينافي هداية
الرسل، فقد دخل على المسلمين مثله ، وصدق عليهم قوله صلى الله عليه وسلم:
(لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع ، حتى لو سلكوا في جحر ضب
لسلكتموه ، قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟) رواه
الشيخان وغيرهما عن أبي سعيد الخدري وغيره بألفاظ متفقة في المعنى وهذا لفظ
البخاري عنه.
وإنما نفضلهم بأن كتابنا قد حفظ بلفظه ونقل باللسان والكتابة تواترًا ، وبأن سنة
نبينا صلى الله عليه وسلم ضبطت ونقلت بالأسانيد المتصلة، فالرجوع إلى أصل
الدين ممكن في كل وقت ، والإسلام حجة عليهم فمن كفر به بعد بلوغ الدعوة
بشرطها لا يعتد بإيمانه بغيره، كما إننا نكفر من جحد نبوة موسى وعيسى عليهما
السلام ولا نعتد بإسلامه.
لهذا الفرق العظيم بين أهل الكتاب والمشركين خص الله تعالى على أهل
الكتاب ببعض الأحكام؛ كأكل طعامهم، وصحة ذبائحهم ، والتزوج منهم. وفي هذا
وذاك من أسباب المودة معهم ما هو معروف بالبداهة وبالتجربة، وبما بينه الله
تعالى من سنته في الزواج بقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ
أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} (الروم: 21) وقال في بعض
العاملين بدينهم منهم: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا
وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانا
وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} (المائدة: 82) وأقرهم على دينهم حتى إن بعض الصحابة
كانوا قبل الإسلام أعطوا أطفالهم ليهود بني النضير؛ ليربوهم لهم ، فلما كتب الله
عليهم الجلاء أرادوا أن يستردوا أولئك الأولاد، وكانوا قد كبروا وتهودوا ، فأنزل الله
تعالى في ذلك الوقت {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيّ} (البقرة:
256) فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يخيروهم، فمن اختار اليهودية جلا مع
اليهود، ومن اختار الإسلام بقي مع المسلمين. ولم يعامل المشركين بشيء من
هذا، بل قال صلى الله عليه وسلم في بيان العداوة بينهم وبين المسلمين ، والبعد
الشاسع الذي لا تستقيم معه معاشرة: (أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر
المشركين. قالوا: يا رسول الله، ولم؟ قال: لا تتراءى ناراهما) رواه أبو داود
والترمذي وابن ماجه من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه ورجال إسناده
ثقات ، ولكنهم صححوا إرساله، ورواه الطبراني موصولاً. وفي معناه أحاديث
أخرى.
(له بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) كتب هذا الباب للجزء الأول ، ثم اضطررنا إلى تأخيره إلى الثالث.
الكاتب: محمد رشيد رضا
زيارة ملك الحجاز لشرقي الأردن
مقدماتها وأسبابها ونتيجتها
كان الشريف حسين ولا يزال يمني نفسه بملك عظيم تؤسسه له الدولة
البريطانية؛ جزاء له على ثورته العربية وموالاته لها في قتال الترك ، بأن تجعله
خليفة للمسلمين وملكًا على البلاد العربية المؤلفة من جزيرة العرب كلها والعراق
وسورية وفلسطين ، وتمده بالمال والسلاح؛ لتوطيد سلطانه في هذه البلاد تحت
حمايتها وبمساعدة رجالها ، وكان يعتقد أن حلفها أقوى من الحلف الألماني، ولذلك لم
يقبل ما عرضته عليه الدولة العثمانية من الاستقلال بضمان ألمانية ، وكان يهنئها
بكل فتح في البلاد العربية القدس وبغداد ودمشق ، ولذلك سمى نفسه ملك العرب.
وبعد احتلال سورية اعتقد أن أحلامه جاء تأويلها، وكان يشتهي أن يزور البلاد
السورية بعد توطيد سلطانه فيها، وتكرر وعده لأناس من أهلها بذلك، وفي جريدته
(القبلة) حتى إنه صرح بأن سيزور كل بلد وقرية فيها؛ أي: ليراه جميع أفراد
رعيته، ويتمتعوا ببهاء جلاله وعزته.
أفلت ملك سورية من قبضة وهمه:
(أولاً) بقرار المؤتمر السوري العام الذي أعلن فيه استقلال جميع البلاد
السورية دون الحجاز وغيره.
(وثانيًا) بتنفيذ إنكلترة وفرنسة لما كانتا قد اتفقتا عليه من اقتسام بلاد الحضارة
العربية سورية والعراق بينهما، ورأى أن ملكه لم يتجاوز إمارة الحجاز التي كانت
له من قبل الدولة العثمانية ، على أنها منقوصة الأطراف غير تامة الحدود على ما
يدعي - فكان المعقول أن يتناسى ذلك الوعد أو الوعود ويتحول عنها.
ولكن الرجل يحيا حياته السياسية بشيئين: (أحدهما) نفسي، وهو الأماني
والأوهام. (وثانيهما) عملي، وهو الدعاية (البوربغندة) التي لم يحذق من شؤون
سياسة هذا العصر غيرها، وهو قد أوتي غريزة الثبات والإصرار ، التي هي
أعظم الغرائز مساعدة لصاحبها على النجاح ، إذا هو طلب الأمور بأسبابها، وأتاها
من أبوابها.
أصر على تسمية نفسه بملك العرب ، وأمكنه بالدعاية أن يحمل بعض
أصحاب الجرائد في سورية وغيرهم أن يتبعوا جريدته (القبلة) في تحليته بهذا
اللقب، وبلقب المنقذ، وإن كان الحق الواقع المشاهد أنه لم ينل بلقب ملك العرب
تصرفًا ولا سيادة على شبر من أرض العرب لم يكن تحت سيادته قبله، وأنه لم
ينقذ بلدًا من بلاد العرب، ولا قرية من سيادة أجنبية ولا مهلكة، فإن كان أحد يسمي
انتقال البلاد السورية والعراقية بمساعدته من سيادة الدولة العثمانية المؤلفة من
الترك والعرب وغيرهم إلى سيادة إنكلترة وفرنسة إنقاذًا ، فلا أنقذه الله من الذل في
الدنيا ولا من العذاب في الآخرة، على أن هذا الإبسال [1] الذي سماه إنقاذًا لم يقع إلا
بترجيح دولة الولايات المتحدة لإحدى كفتي الحرب على الأخرى لا بترجيحه،
ولكن هذه الحقائق لا تمنع الملك حسينًا من التلذذ باللقبين كلما رآهما في جريدته
(القبلة) ، وفي بعض الجرائد المأجورة أو المغرورة.
وهنالك دعوى أخرى ظاهرة البطلان كظهور كذب اللقبين الضخمين الفخمين،
ولكنه فاز بتكرار الدعاية ، واصطناع بعض الجرائد من غش كثير من الناس فيها
حتى صاروا يصدقونها كما يصدق الغافلون الإعلانات التجارية التي تنشر في
الجرائد زمنًا طويلاً ، ولا يبحثون عن مصدرها؛ ليعلموا أنها شهادة من صاحب
الدعوى لنفسه.
تلك دعوى قيامه بأمر الوحدة العربية بجمع كلمة العرب وتوحيد قواهم وترقية
شؤونهم. والأمر بالضد، فهو هو المفرق لكلمة العرب والمحدث للشقاق بينه
وبينهم، فإنه يتوهم بكونه ملكًا للعرب وثبوت هذا الخيال في مخه، تخيل أيضًا
أن الوحدة العربية إنما تكون أو ستكون بقبول أمراء جزيرة العرب وأئمتها
لسيادته السياسية والعسكرية عليهم طوعًا أو كرهًا ، وتحكيمه في شكل إدارة البلاد ونزع ما شاء منها من أيدي من شاء؛ ليولي عليه من شاء، حتى حمله الخيال على
مخاطبتهم بذلك كتابة، فضحكوا ساخرين. وطالما بينا هذا في المنار وفي غيره من
الصحف. ولكن بياننا لم يحل دون تأثير دعايته المتصلة الدائمة ، حتى إنه صرح في
جريدته (القبلة) تصريحاً رسميًّا بما صدق أقوالنا الماضية؛ لما سأله رئيس
مؤتمر الجزيرة الذي هو من أبواق دعايته عن مراده بالوحدة، ونشرنا تصريحه في
المنار والأهرام، فقرأه الكثيرون في البلاد السورية، كما قرأه آخرون في الجزء
الذي صدر من جريدة القبلة في 6 ربيع الآخر من هذه السنة، ولم يكن هذا ولا ذاك
بصارف للمخدوعين بالدعاية السابقة من طلاب الوحدة العربية أن يظنوا أنه يسعى
لها، وأن يوجهوا وجوههم إليه فيها.
فهذه الوقائع زادت الملك حسينًا إيمانًا وتسليمًا بأن الدعاية (البوربغندة) تقلب
الحقائق ، فتجعل الحق باطلاً والباطل حقًّا عند الجماهير من الناس، بل هي
كالسحر تخيل إلى المسحور أنه يرى بعينيه ما لا حقيقة له في الخارج.
على أنه خاب مرة في دعايته ، ولم يلبث أن تدارك الخيبة وجعلها نسيًا منسيًّا
عند كثير من السوريين وخاصة الفلسطينيين منهم.
ذلك بأن الدولة البريطانية اختارت أن تعقد معه معاهدة تثبت بها اعترافه
بانتدابها على فلسطين وما تريد أن يكون لها من الحقوق في الحجاز ، والتصرف في
شؤون الحجاج، وتقطع بها لسانه وألسنة الفلسطينيين دون الاحتجاج عليها بما سبق
لها معه من اتفاق ووعود. وقد طالت المراجعة بينها وبينه في ذلك، حتى إذا ما
أرسل الدكتور ناجي الأصيل الموصلي إلى لندن للبحث معها في صيغة هذه
المعاهدة في العام الماضي ، قامت قيامة الدعاية حوله وأمطرت شركة روتر
الإنكليزية على البلاد العربية وغيرها برقيات خادعة فيما ينتظر من الوحدة العربية
واستقلال العرب بسعي الأصيل.
وكانت الجرائد العربية في مصر وسورية والعراق تنشر هذه البرقيات وتعلق
بعضها عليها من الشروح ما يكبر شبح الوهم، وكان بعضها ينشر مقالات مستقلة في
ذلك، ولما عاد الأصيل إلى مكة يحمل نص المعاهدة ، كان له من الحفاوة فيها ما
كان، وتلا نص المعاهدة المترجم بالعربية في حفلة رسمية فخمة، وأطلقت المدافع
وصدرت الإرادة الهاشمية بجعل ذلك اليوم عيدًا رسميًّا للأمة العربية بأسرها
…
ثم
ماذا كان؟ ظهرت الفضيحة للعيان ، ورفض أهل فلسطين ما يتعلق بهم منها،
واضطر الملك إلى عدم الإمضاء النهائي عليها.
بعد هذه الفضيحة استأنف الملك دعاية جديدة في المسألة الفلسطينية قدم بين
يديها مساعدة لأهل فلسطين بما جمعه من الإعانة القهرية؛ لعمارة الحرم الأقصى
من أهل الحجاز، والاختيارية من الحجاج، وسمح لوفد منهم بالطعن في وعد بلفور
في الحجاز، فوضعت خطة جديدة؛ لبث الدعاية له في سورية وفلسطين ، يقوم بها
نفر ممن كان بمكة من حجاج البلاد مع صنائعه فيها تكون تمهيدًا لزيارته لأطراف
سورية؛ لأجل أن يتقرر في هذه الزيارة مع زعماء البلاد أمر الوحدة العربية وما
يتعلق بها من المسألة الفلسطينية، بل وجد له دعاة من حجاج المصريين يمدحونه
ويدافعون عنه أيضًا.
ولا ندري هل كوشف أحد من الدعاة الذين كانوا في مكة بمسألة المبايعة
بالخلافة أم لا؟ ويجزم بعض أذكياء المصريين أن الإنكليز كانوا قد اتفقوا مع
عصمت باشا على إلغاء الخلاقة التركية، في زمن لا يتأخر عن أول سنة الترك
الجديدة (مارس) ، وأحبوا أن تكون زيارة ملك الحجاز لأطراف سورية قبل ذلك
الوقت، وأن يظل هنالك إلى أن تلغى الخلافة التركية، فيجعل ذلك سببًا لتأسيس
الخلافة العربية - كما إنهم قرروا أن تجتمع جمعية العراق التأسيسية للنظر في
المعاهدة العراقية البريطانية التي أمضاها الملك فيصل والسير برسي كوكس
المندوب البريطاني السامي في العراق ، في الوقت الذي يجتمع فيه المؤتمر
البريطاني التركي لحل مشكلة الموصل، ووضع الحدود بين العراق والأناضول؛
ليخوفوا العراقيين بالتفريط بولاية الموصل، إذا هم رفضوا المعاهدة التي تضيع
جميع العراق لا ولاية الموصل وحدها.
مهما يكن من الأمر في هذا وذاك، فالدعاية لتشريف الملك قد بثت قبل مجيئه
وفي أثناء وجوده، حتى وصلت هينمتها في الحالين إلي - وعرضت شبهاتها
وأمانيها علي، واقترح علي أن أكون من الزائرين له، وسئلت عما أشترطه في
ذلك، وقنع أحذق من كلمني في ذلك بأن أسكت عنه، ولو ريثما تظهر نتيجة ما
يرجى منه، وزعموا أنه قد اتعظ واعتبر بأغلاطه السابقة. وقال بعضهم: إن
الإنكليز قد غيروا سياستهم معه، وأنهم سيمنحون البلاد ما يرضيها على يده، إذا
رأوا أن الأمة تؤيده. (قالوا) : فلا تكن من أسباب حرمانها من ذلك. فقلت: إني
سأصبر في هذه المرة كما صبرت فيما قبلها ، حين بثت الدعاية لسعي ناجي
الأصيل ، وأنا لا أرجو لهذه الأمة خيرًا على يده، ولا آمن عليها من شر عمله،
فتجربة المجرب تحصيل حاصل، بل عبث يتنزه عنه العاقل و (المؤمن لا يلدغ
من جحر مرتين) وإنما أسكت؛ لأقيم الحجة بعد الحجة عليكم، وأعدكم بأن أبذل
جهدي في تأييده إذا كذب ظني وصدق ظنكم، وإن ظل يؤذيني هو وأولاده
وخليفتهم، فأنا أعمل لأمتي لا لهم
…
هكذا كانت الدعاية تنشر، وكان من حسن حظ دعاتها أن وقع تنازع بين
فرنسة والترك حمل من في سورية من الفرنسيس على الإغماض عن هؤلاء الدعاة
لإضعاف ما كان قوي من نفوذهم، فنجحوا وأوهموا أكثر أهل البلاد الغافلين بأن
السعادة للعرب ستتم بتشريف ملكهم إلى ضواحي سورية.
تحرك الركاب الهاشمي - كما يقولون - متنقلاً في البلاد الحجازية إلى أن
وصل إلى شرق الأردن، وهو يقابل في كل مكان بالحفاوة والتكريم والدعوات
والخطب والقصائد، وجرائد مسلمي سورية تحلق في فضاء الخيال، وتصور فيه
ما تصور من الأماني لا الآمال، وأرسلت المكاتبين إلى شرقي الأردن؛ ليحصوا
لها ما يكون هنالك من عظمة (ملك العرب ومنقذهم) ، وما يقرره المؤتمر العربي
الذي زعموا أن سيعقده من وفود الأحزاب وزعماء البلاد، تنجيزًا للوعود التي
بشرهم بها الدعاة.
وقد أعد الوجهاء ولجان الأحزاب المختلفة عدتهم للقاء الملك ، وعرض
مطالبهم القومية على مسامعه، بناءً على ما صدر به الوعد من أنه يريد أن يعمل
في هذه المرة بالشورى (خلافًا لعادته) وكان أحسن ما قرروه - لو صادف محله -
أن يتفقوا على برنامج عام؛ لمصلحة العرب العامة يكتبونه، ويوقعه مندوبون من كل
حزب، ويرفعونه إليه - وأن يكون ما يعرضه بعضهم من الاقتراحات الموضعية
الخاصة غير معارض لهذه المطالب العامة - وقد فعلوا - ومما اتفقوا على أن
يكاشفوه متفقين بما يشكون من سوء سيرة نجله الأمير عبد الله في أقواله وأفعاله
المنافية للمصالح الوطنية العربية، والمؤيدة للسلطة الأجنبية - وقد فعلوا كما أخبرنا
الرواة عنهم - ثم كان ماذا؟
كان أن شغلت جرائد سورية وفلسطين عدة أشهر بأخبار الوفود ، ووصف
الاحتفالات والسمط (أو السماطات) ونشر القصائد والوعود ، وحكايات الأقوال
والمفاخر الهاشمية، حتى إذا ازدوجت المخيلات بالواهمات، ولقحت بالأماني
المستعذبات، جاءها المخاض بسقوط الخلافة التركية، فأجهضت فوضعت الخلافة
العربية، فالتقطها (ملك العرب الخيالي) سقطًا لم يستهل، ومضغة لم تكتمل،
معتقدًا أن الدعاية (البوربغندة) تُتِمُّ خلقها، وتنفخ الروح فيها، كما فعلت بمنصب
(ملك البلاد العربية) قبلها ، ويكفي في هذه الحياة عنده أن يبث لها دعاية جديدة
بين حجاج الآفاق، ويستعين بها في الجزيرة على بث الشقاق، وأن تقول جريدة
القبلة بمكة، وجريدة الشرق العربي الرسمية في عمان، وجرائد الطبل والزمر
ولسان العرب بفلسطين، وجريدة الحقيقة ببيروت، وأمثالهن من جرائد سورية
والعراق: إن صاحب الجلالة الهاشمية، هو خليفة المسلمين، وأمير المؤمنين،
وملك العرب أجمعين. بل يقدر الملك حسين ودعاته أن يستأجروا في مصر
وغيرها أمثال هذه الجرائد لذلك.
حمل الرجل اللقب وانقلب إلى بلده مسرورًا، وظل الأمير عبد الله حيث كان
بالرغم من أنوف السكان والجيران، وصارت إمارته شرًّا مما كانت، وأبعد عن
الاستقلال، واشتد ضغط الفرنسيس على المسلمين الذين بايعوه، فاعتقل أفراد من
الوجهاء وأخرج آخرون، وفر دعاته أصحاب جريدة الحقيقة هاربين من بيروت،
وازدادت المسألة العربية بعدًا عن الوحدة بفشل مؤتمر الكويت الذي كان سببه
اقتراحات (منقذ العرب ومؤسس وحدتهم) واقتراحات ولده الأمير عبد الله التي
أملاها الغرور بالاتكال على الإنكليز في تمليكهم لنجد وغيرها من الجزيرة، وما كان
لهذا الشقاق من سبب، إلا الغرور بلقب ملك العرب، فكيف وقد ضم لقب الخليفة
الأعظم وأمير المؤمنين إلى لقب ملك العرب أجمعين؟ دع الغرور بلقب الشريف،
الذي يدعي هو ودعاته أنه هو المؤهل للملك والخلافة، ولكن له ولأولاده دون سائر
شرفاء الأمة.
إننا لنقول والحزن يملأ قلوبنا: إن الترك قد فضحوا العالم الإسلامي بما فعلوا
بخلافتهم شرًّا مما فضح به الملك حسين بمبايعته الأولى والثانية؛ إذ ظهر للإفرنج
أن مبايعة الملايين لرجل بالخلافة ليس إلا كلامًا لغوًا لا يترتب عليه عمل يذكر،
وقد أدرك الإنكليز ذلك قبل غيرهم ، فلم يبالوا بمبايعة الجماهير من مسلمي مصر
والهند لخليفة تركي، ولا مبايعة أهل فلسطين لخليفة عربي، وقد عد العقلاء منهم
ومن غيرهم اهتمام فرنسة بمبايعة مسلمي سورية رعونة وخفه من رجالها هنالك،
ولو كانت إنكلترة تعتقد أن هذه البيعات حقيقية، يترتب عليها ما في كتب الشرع
من الأحكام الشرعية؛ لبذلت كل نفوذها في إبطالها، ولما تجرأ الملك حسين حينئذ
على التصدي لها، فإن أول ما يترتب عليها قتاله إياها في فلسطين؛ لإخراجها منها،
وهي الآن ترجو أن تنتفع من الخلافة الحجازية حتى بتوطيد نفوذها فيها، على
أن يكون للخليفة وأولاده شركة في ذلك.
ولما طفقت السلطة الفرنسية في سورية تعارض مسلميها في المبايعة لحسين،
والدعاء له في خطبة الجمعة ، احتجوا عليها بأنها تمنعهم من حريتهم الدينية
المحضة، وذلك أنهم عالمون بأنهم لم يكونوا بهذه المبايعة تابعين له في السياسة ولا
الإدارة، ولا الحرب ولا القضاء ، ونحن نزيد على ذلك أنهم غير تابعين له في
صلاتهم ولا صيامهم ولا زكاتهم، حتى ما هو من شأن الخليفة من ذلك كتعيين
الأئمة والخطباء للصلاة وأخذ مال الزكاة ، وأما الدعاء للخلفاء في خطبة الجمعة
فليس من أركانها ولا من شروط صحتها، فلم يبق لفرنسة عذر في معارضة القوم
في مبايعتهم، ولا في الدعاء له في خطبهم، وما تكرهه من قوة نفوذه الروحي بذلك،
فالمعارضة لهم أشد تأثيرًا في زيادته.
ومما يؤيد قولنا في رأي مسلمي سورية في الخلافة أنها أمر ديني لا علاقة له
بالسياسة - ما يقوله ويكتبه بعض المصريين في ذلك بعد أن كان من مبايعتهم لعبد
المجيد أفندي ما كان، ثم من اقتراح بعضهم دعوته للإقامة بمصر، فأنصاره
يعدون معارضة الحكومة المصرية لهم في الدعوة له اضطهادًا للحرية الدينية، ولو
كانوا يفهمون معناها الشرعي ويريدونه، لعلموا أن عملهم يقتضي إسقاط الحكومة
المصرية ، وجعلها تابعة لعبد المجيد أفندي! ! وهل هذا إلا أساس السياسة الذي تبني
عليه جميع أركانها؟
إنني مضطر إلى إظهار الحق عريانًا في هذه المسألة كما فعلت في مسائل
كثيرة، ولم أخف في الله لومة لائم، حتى إن شيخنا الأستاذ الإمام كان أول من
وصفني بهذا وانتقده علي في بعض المسائل ، وما أبرزته عريانًا في مسألة إلا بعد
أن عرضته مزينًا بالحلي والحلل، فلم يعرفه ممن عرضته عليهم أحد، فأقول:
إنه لا خوف على سلطة فرنسة في سورية من مبايعة هذا الرجل إلا إذا
استعمله الإنكليز في مقاومتها، وما دام الفرنسيس متكافلين مع الإنكليز فيما اعتدوا
به علينا باسم الانتداب فلا خوف منه، فإن تحرش هو وأولاده بهم، فإنما يفعلون
ذلك لجر مغنم يريدونه منهم، ولا يجهل الفرنسيس أنهم يبيعون العرب والإسلام
بلقب ملك أو سلطان، وقد جربوا فيصلاً من قبل عبد الله في ذلك ورأوا تجربة
الإنكليز من قبلهم. على أننا نحمد الله تعالى أن بَغَّضَ هذا الأسرة التي رزئت بها
الأمة العربية إلى الفرنسيس ، فلم يقبلوا إبقاء فيصل في سورية؛ لإخضاعها لهم
وفاء باتفاقه مع كليمنصو بعد إسقاطهم لحكومتها الاستقلالية، وتوطين نفسه على أن
يبقى ملكًا في ظل الانتداب الذي قبله أولاً وآخرًا، ثم لم يقبلوا استخدام أخيه عبد
الله بمثل ذلك ، وقد بذل شرفه وكرامته في السعي له، نحمد الله على ذلك؛ لأن
أكثر مسلمي سورية لا يزالون يخدعون بلقب شريف، ولم يطل خداع الشيعة في
العراق به كما طال خداعهم، ولو كان سائر المسلمين كذلك لوجب على عقلاء
طلاب الإصلاح وإعادة مجد الإسلام أن يقرروا حرمان كل من يحمل هذا اللقب من
كل رياسة في هذه الأمة، ولا سيما إذا كان مفتونًا به كشرفاء مكة، أقول هذا وأنا
شريف مقابل.
أما والله لو كنت أعلم أنه يرجى منهم إخراج فرنسة من سورية على أن تكون
مستقلة دون نفوذ أجنبي آخر ، ولو تابعة للحجاز - لبذلت كل ما أستطيع في تأييدهم
ومساعدتهم على ذلك بدلاً من مجاهدتهم على تمكين نفوذ الأجانب فيها وفي غيرها،
فإنني أعلم أن ملك الحجاز لا يستطيع أن يستبد في سورية، ولا أن يحول دون
حريتها.
ووالله لو كنت أعلم أنهم يستطيعون جعل جزيرة العرب وغيرها مملكة واحدة
خاضعة لهم وحدهم بدون نفوذ أجنبي - لتمنيت نجاحهم على ما أعلم من ظلمهم
واستبدادهم؛ لاعتقادي أنهم لا يستطيعون الاستبداد بهذه الأمة بعد جمع كلمتها
وتوحيد حكومتها، وأن المصلحة في ذلك أرجح من المفسدة في كثرة الحكومات
المتعادية.
ثم والله لو كنت أعلم أنه يرجى من حسين جمع كلمة المسلمين كلهم أو أكثرهم
أو عدة شعوب منهم باسم الخلافة على الحق والإصلاح - لوددت تقمصه إياها، ولو
نهض بها كما يجب لبذلت وسعي في تأييده، وإن كنت أعلم أنه فاقد لسائر شروطها،
وحسبي هذا منها لو حصل، ولكنني أعتقد أنه يخشى ضره، ولا يرجى
نفعه، وقد بينت هذا بالبراهين الكثيرة ، ولم أره أجاب عن شيء منها في جريدته
جوابًا معقولاً ولا غير معقول، ولا أجاب عنها أحد من أنصاره، وإنما سبوني تبعًا
له وشتموني، وادَّعوا أنني ناقضت نفسي بأن مدحته ثم ذممته، وأيدته ثم خذلته،
وأن لي هوًى في ذلك، وليس هذا من الرد على براهيني بشيء. فإن صح قولهم
الأول فما هو من التناقض المنطقي الذي يبطل به الدليل؛ لأن من شروطه
اتحاد الزمان والموضوع وغير ذلك من (الوحدات الثمان) . وإن صح الثاني
فحسابي فيه على الله تعالى ، ويبقى عليهم أن يبطلوا براهيني في الطعن في
سياسته ، وبيان ضررها وكثر ما قلت لمن كلمني من أنصار ولا أزال أقول:
أقنعوني ببطلان ما أثبته، ولكم علي أن أرجع عنه وأخطئ نفسي. فلم يقدروا، كما
عاهدتهم بأن أنصرهم إذا هم رجعوا إلى الصواب الذي قام عليه البرهان عندي وعند
جميع من أعرفه من العقلاء حتى ممن يرجون الخير منهم أو يدعونه لهم، ولا
أريد على ذلك جزاءً ولا شكورًا.
إننا قرأنا ما فيه العبرة من أحداث التاريخ ولا سيما تاريخ الاستعمار للبلاد
الشرقية عامة والإسلامية خاصة ، ورأينا كيف ضرب المستعمرون بعض أمرائها
وملوكها ببعض، وهكذا يفعلون اليوم في جزيرة العرب، وأخشى أن تكون هذه
الخلافة الباطلة من شر آلاتهم في ذلك ، فيجب علي أن أنكر هذا المنكر العظيم،
ويحرم علي أن أسكت عنه، لكيلا أكون شريكًا لهم في إثمه.
إن الدولة البريطانية لم تستهن بأمر (الملك حسين) في السنين الأخيرة؛ إلا
لأنها رأت أنه لم يبق له شيء من النفوذ يمكن أن تستفيد منه، وهي الدولة العريقة
في التجارة بالسياسة، وكان أول غرض له من زيارة أطراف سورية وما بذله في
سبيلها أن يريها نفوذه فيها، وستستأنف العمل معه وإرضاءه بعد هذه المبايعة، فإن
الخلافة بضاعة ثمينة ، قد طفقت تجرب نفوذ اسمها في الشافعية من أهل تهامة
اليمن وحضرموت بعد أن فشلت فيما كانت تسعى إليه منذ هدنة الحرب العظمى
من عقد اتفاق مع الإمام يحيى حميد الدين يجعل لها من الحقوق والامتيازات في
بلاده المستقلة ما يكون بابًا للتدخل في شؤونها، والعبث باستقلالها، فخاب سعيها،
وعاد مندوبها (الكولونيل جاكوب) من روضة صنعاء بخفي حنين، وسنعود إلى
هذه المسألة بعد تمحيص ما جاءنا من أخبارها.
وغرضنا الآن أن نثبت أن إخواننا في فلسطين وسورية قد استعجلوا في أمر
كانت لهم فيه أناة، ولم يصغوا إلى نصيحة الناصح الأمين انخداعًا بالدعاية
الحجازية، فبايعوا حسينًا بالخلافة بدون أن يقيدوه بقيد ما يصلح به ما أفسده من
قبل، كما ذكرناهم في المقال الذي نشرناه في الأهرام.
بل أعطوه سلاحًا يزيده قوة في عداوة جيرانه أئمة الجزيرة العربية المستقلين
المسلحين، وهي الدعوة إلى الشقاق والفتن باسم أمير المؤمنين. فالحكم الشرعي:
أن من صحت إمامته وجبت طاعته في قتال من شذ عن جماعته ، المفروض أنهم
أهل الحل والعقد في الأمة وأولو الأمر منها، فإذا أمكنه بالدعاية والدنانير
الإنكليزية أن يجعل هذا الهزل جدًّا، وهذا الباطل حقَّا، وعجز معشر العلماء الذين
لا تأخذهم في الحق لومة لائم أن يظهروا الحق للناس. أفلا يخشى أن يقضي
بخلافته الباطلة على ما للعرب من هذه القوة الباقية، فيتغلغل الأجانب فيما بقي من
الجزيرة المقدسة ، التي أحاطوا بها بمساعدته ومساعدة ولديه عبد الله وفيصل من
الشمال والشرق، كما يحيط بها البحر من الجنوب والغرب؟ فما لإخواننا هؤلاء لا
يتفكرون، ويرون العبر بأبصارهم ولا يعتبرون.
أما كان يجب عليهم أن يترووا في درس هذه المسألة، وأن يقترحوا على
الرجل اقتراحات يجعلون تنفيذها شرطًا مقدمًا على عقد البيعة، إن قنعوا بعد
التروي بترجيح مبايعته؟ بلى وأهم ما كان يجب عليهم أخذ الميثاق عليه فيه
وانتظار تنفيذه - الأمور الآتية:
(1)
نبذ الحماية البريطانية التي تقيد بها فيما يسميه مقررات النهضة،
وعدم تقييد البلاد بمعاهدة أخرى تجعل للأجانب نفوذًا في البلاد.
(2)
الاعتراف بالحالة الحاضرة في إمارات بلاد العرب ، وإلغاء ما صرح
به لرئيس مؤتمر الجزيرة، من عقده العزم على جعل جميع إمارات الجزيرة من نجد
واليمن وتهامة تابعة لحكومة ملك العرب في السياسة الخارجية والعسكرية والإدارة
العامة.. إلخ.
(3)
السعي لعقد محالفة بين هذه الإمارات كلها ، يتقرر فيها اتفاق الجميع
على الدفاع عن جزيرة العرب ، والتعاون فيما بينهم على عمرانها، وعقد مجلس
تحكيم للفصل في كل نزاع يقع بينهم، وتفصيل ذلك باتفاق يوقعه الجميع ، وقد
سبق لنا تفصيله.
(4)
السعي لجعل بلاد الحجاز قطر سلام وحياد لا يعادي ولا يعادى، ولا
يقاتل ولا يقاتل، وأن تعترف بذلك الدول الإسلامية وغيرها.
(5)
وضع نظام للخلافة يعلم كل مطلع عليه أن الخليفة لا يمكنه أن يستبد
في عمل من الأعمال ، وأنه يرجى أن ينفذ لعقلاء الأمة وحكمائها ما يطلبون لها من
الإصلاح، وغير ذلك مما ذكرناه، بعضه في كتاب (الخلافة) ولا محل للخوض فيه
هنا.
وإنهم سيقرؤون في باب الفتوى من (ج4) أن مبايعة هذا الرجل بالإمامة
العظمى باطلة شرعًا من بضعة وجوه، وأنها على بطلانها شرعًا، ضارة قطعًا،
وإن أكبر عار وخزي على أمتنا أن توجد فيها كل هذه المهلكات ، ولا يتصدى أحد
لإنكارها والتحذير منها.
ولا يحسبن أحد أننا علمنا الأجانب بما كتبنا ما لم يكونوا يعلمون، ويا ليت
الذين يظنون ذلك يعلمون ما يعلمه الأجانب من أحكام الخلافة وأحوال المسلمين فيها،
إننا نعلم أن الإنكليز قد استكتبوا في سنة 1914 كثيرًا من علماء الأقطار
الإسلامية هذه الأحكام ، وألفوا لجنة أو لجانًا لدرسها، وقد اطلعت مرة على نصوص
فيها ، كتبها لهم بعض كبار علماء الأزهر. ولا أدري من طلب لهم ذلك.
هذا وإننا نطالب من يزعم أن ما كتبناه خطأ من الجهة الشرعية أو الجهة
السياسية الدائرة على مصلحة العرب والمسلمين ، أن يبين لنا ذلك بإبطال أدلتنا
وإقامة أدلة أخرى على صحة خلافة الرجل ، وعلى فائدتها وكونها غير معارضة
بمفسدة تقدم عليها ، فإن فيمن بايعوه أفرادًا من أصدقائنا وغيرهم نجلهم ونحترمهم،
إما لعلمهم وأخلاقهم، وإما لوطنيتهم، ولكننا نقول: إنهم قد أخطؤوا في مبايعة
حسين كما أخطأ أمثالهم من علماء مصر في مبايعة عبد المجيد، أو في القول
بصحة خلافته ووجوب طاعته على أهل مصر وغيرهم، ونحن مستعدون لمناظرة
الفريقين، في موضوع الفتوى التي بينا فيها بطلان البيعتين، (والله يقول الحق
وهو يهدي السبيل)
_________
(1)
أبسله: أسلمه للهلاك ومنه قوله تعالى: {وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} (الأنعام: 70) الآية وفيها ما فيها من العبرة.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الخلافة والخليفة
الإمام الحق في هذه الأيام
(س13 - 16) من صاحب الإمضاء في حمص (سورية) .
حضرة الأستاذ الفاضل صاحب المنار الشيخ العلامة محمد رشيد رضا وفقه
الله، وأمتعه بتقواه.
إن ثقتنا بدرجتكم العلمية العالية، واعتقادنا بإحاطتكم الكاملة لقواعد الشريعة
المحمدية، دعتنا أن نوجه لحضرتكم الأسئلة الآتية، آملين الإجابة عليها بسرعة،
دون احتراز من ملامة، أو اكتراث لغاية، بل لإنقاذ المسلمين من الضلالة، وإزالة
الفتن، وتنوير البصائر، وأجركم وحسابكم على الله:
1 -
هل للخليفة عبد المجيد اليوم - في هذه الحالة - من بيعة له في أعناق
المسلمين؟ أسباب بقائها أو زوالها مفصلاً؟
2 -
هل تصح إمامة المسلمين للملك حسين - وهو والإسلام في هذه الحالة؟
أسباب صحتها أو عدم صحتها مفصلاً؟
3 -
من هم اليوم أهل الحل والعقد في جميع الأقطار الإسلامية المستقلة أو
غيرها الذين في استطاعتهم نصرة وإرشاد من أرادوا مبايعته، والذين يعدون
حائزي الشروط لأن يكونوا أولي الأمر.
4 -
من هو الإمام للمسلمين (إذا لم تصح الخلافة لعبد المجيد ولحسين)
الذي يجب أن يعرفه كل مسلم - لبينما يجتمع أهل الحل والعقد، أو يعقد مؤتمر
إسلامي للبت في الخلافة - لئلا تموت الناس ميتة جاهلية؟ محمد فوزي القاوقجي
خلافة عبد المجيد التركي:
1 -
الجواب عن السؤال الأول هو أن عبد المجيد أفندي المسؤول عنه لم
تنعقد له خلافة فيسأل عن بقائها أو زوالها؛ ذلك بأنه لم يبايعه أهل الحل والعقد من
أهل بلاده بالخلافة الإسلامية التي هي الإمارة العليا ورئاسة الحكومة في أمورها
الدينية والدنيوية من سياسية وحربية وقضائية وإدارية، بل أسسوا حكومة جمهورية
جعلوا لها رئيسًا آخر، وجعلوا هذه الحكومة مدنية غير دينية؛ أي: ليست مقيدة
بأحكام الشرع الإسلامي، ولأمر ما سموا عبد المجيد أفندي المشار إليه خليفة بعد
إقراره إياهم على حكومتهم الجديدة، وصرحوا بأنهم أرجؤوا بيان معنى هذه الخلافة
الجديدة التي ليس لها أدنى علاقة بحكومتهم، وأذيع عنهم أنهم سيشاورون بعض
كبراء الشعوب الإسلامية في ذلك لجعله خليفة للجميع بمعنًى ديني أو روحاني
جديد مبهم؛ أي: كخلفاء طرق المتصوفة. وكان كثير من أهل الرأي يرون أن هذه
التسمية مؤقتة لأمر ما. ثم ظهر السر في ذلك وهو أنه لما تم لهم الأمر ورأوا
أن جمهوريتهم قد توطدت أركانها ، ألغوا هذه الخلافة أيضًا وطردوا المسمى
الخليفة من بلادهم مع جميع أهل بيته والأسرة العثمانية بأسرها.
وإذا كان الذين انفردوا بالشوكة فصاروا بها أهل الحل والعقد في الترك لم
يبايعوا عبد المجيد أفندي بالخلافة الشرعية فهو لم يكن خليفة فيهم، ولو بايعوه بها؟
لرضوا أن يكون هو رئيس حكومتهم سواء سميت جمهورية أم لا، وأن تكون
حكومتهم مقيدة بنصوص الشرع القطعية المجمع عليها، والأحكام الاجتهادية التي
ثبتت عند الخليفة وأهل الشورى في حكومته دون غيرها من آراء المجتهدين، ولما
جاز أن يجعلوا حق التشريع فيها للمجلس الوطني بلا شرط ولا قيد. كما نصوا عليه
في قانونها الأساسي.
على أن خلافته تكون فيهم خلافة تغلب ، ولا تكون هي الإمامة الحقيقية التي
تجب طاعة صاحبها بأنه خليفة الرسول صلى الله عليه وسلم، والإمام الحق لجميع
المسلمين؛ إذ يشترط في الإمام الحق شروط أخرى أجمع عليها أهل السنة كالنسب
القرشي الذي يماري فيه اليوم بعض الجاهلين، وبعض الذين يحكمون أهواء
السياسة في الدين، وعبد المجيد أفندي غير مستجمع لهذه الشروط كالقرشية والعلم
الاجتهادي ، والعدالة الشرعية التي ينافيها رضاه بالحكومة اللادينية - وفيهما خلاف لبعض الحنفية - وكذا عنايته بالتصوير والعزف على الآلات الوترية عند جمهور
فقهاء المسلمين. على أنه من أفضل أسرته وغيرها سيرة وسريرة وتدينًا ورغبة في
خدمة المسلمين، كما نقل إلينا الثقات الذين عرفوه. دع كون أهل الحل والعقد في
الترك ليسوا أهل الحل والعقد في سائر الشعوب الإسلامية المستقلة كعرب الجزيرة
وغيرهم، ودع كون بيعتهم مسبوقة ببيعة غيرها أقرب إلى الشرع منها، كما تراه في
الجواب عن السؤال الثاني.
وأما بيعة من بايع عبد المجيد أفندي من مسلمي مصر والهند وأفريقية فهي
باطلة لا يثبت بها شيء؛ لأنهم ليسوا أهل الحل والعقد في بلادهم الذين يترتب على
بيعتهم نفوذ أحكام من بايعوه فيها، ولم تكن بيعتهم تابعة لبيعة أهل الحل والعقد في
بلاده هو ، ولا في غيرها لتكون مؤكدة لها، وإنما تنعقد البيعة شرعًا بمبايعة أهل
الحل والعقد من أهل الاختيار الذين بينا شروطهم ، وما يعتبر فيهم في كتابنا
(الخلافة أو الإمامة العظمى) كما بينا فيه شروط الخليفة ، وما تنعقد به البيعة، وما
يجب بها على المبايع والمبايعين له.
واعلم أن الحكم الشرعي في خلافة التغلب كالخلافة العثمانية السابقة - أن
الطاعة فيها للخليفة إنما تجب على من هو متغلب عليهم بشوكته دون غيرهم من
المسلمين، وإنما ذلك لدفع الفوضى فهو ضرورة تقدر بقدرها، وأنه إذا وجد في
بلاد أخرى خلافة صحيحة، ودعا الإمام الحق فيها هذا الخليفة المتغلب وقومه لطاعته
وجب عليهم ذلك. فإن أبوا وجب عليه قتالهم إن قدر، ووجب على كل من دعاه
إلى ذلك من المسلمين أن يقاتلهم معه؛ أي: تحت لوائه.
وقد صرح شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر في شرحه للحديث الثاني من كتاب
الأحكام من صحيح البخاري بأن الذين انتحلوا منصب الخلافة من غير قريش
بشوكة التغلب حكمهم حكم البغاة؛ أي: قطاع الطريق الذين يخرجون من طاعة الإمام
الحق.
خلافة حسين العربي المكي:
وأما السؤال الثاني فصحته كما يفهم بالقرينة لضعف عبارته العربية: هل
تصح إمامة الملك حسين للمسلمين؟ أو هل تصح توليتهم إياه إمامًا عليهم؟ وهو
يريد بذلك مبايعة بعض أهل فلسطين وسورية والحجاز والعراق له.
والجواب عنه أن هذه المبايعة لا تجعله إمامًا للمسلمين ، فهي بيعة غير
صحيحة وبيان ذلك من وجوه:
(الوجه الأول) أنه يوجد بجوار بلاده إمام آخر قد ولي الإمامة قبله بسنين
كثيرة في اليمن ، وهو قرشي علوي مستجمع للشروط الشرعية التي يفقدها هو:
كالعلم والعدالة والشوكة كما يعلم مما يأتي. ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه
وسلم أمر بقتل من يبايع بالخلافة مع وجود إمام آخر بويع قبله. والحديث في ذلك
مشهور رواه مسلم في صحيحه.
فإن قيل: إن إمام اليمن زيدي غير سني. أجيب!
(أولاً) بأنه من أهل العلم الاجتهادي، ولا يبايع علماء الزيدية أنفسهم أحدًا إلا
إذا ثبت عندهم اجتهاده.
(وثانيًا) بأن علماء السنة اشترطوا في الإمام الإسلام، ولم يشترطوا مذهبًا
معينًا، بل اشتراطهم للاجتهاد في الدين ينافي اشتراط المذهب، وأما ما يسمونه
البدع وخاصة ما كان منها محل النظر والاجتهاد - كاختلاف المذاهب - فلا يعدون
مخالفة السنة فيه بالتأول مانعًا من صحة الخلافة ، كما في شرح البخاري للحافظ ابن
حجر. واستدل على هذا بأن كبار أئمة السنة كالإمام أحمد لم يقولوا ببطلان خلافة
المأمون والمعتصم اللذين حملا الناس على القول بخلق القرآن، وقد استدل الحافظ
بإمامة اليمانيين على بقاء الإمامة في قريش إلى عصره وكانوا زيدية فيراجع في
شرح حديث (لا يزال هذا الأمر في قريش
…
) من شرح للبخاري.
(وثالثًا) أن حسين بن علي ليس من علماء أهل السنة المجتهدين ، ولا
المقلدين لأحد مذاهبهم عملاً وحكمًا كما يعلم مما يأتي، وإن كان قد نشأ في قوم
يسمون سنية وحنفية وشافعية ، فذلك لا يقتضي أن يكون ملتزمًا لمذهب الحنفية أو
الإمام الشافعي، وسنبين هذا بالإجمال هنا، وقد بيناه بالتفصيل مرارًا آخرها:
الخطاب الذي نوجهه في شأنه إلى العالم الإسلامي وينشر في المنار تباعًا. ومما
فيه أنه يحكم بين الناس في الحضر برأيه وهواه، وبين البدو بقانون أبي نمي
المخالف لنصوص القرآن وإجماع المسلمين.
فإن قيل: إن إمامة يحيى محصورة في بلاده ولم يعترف بها غير أهلها.
(فالجواب) أن إمامة حسين محصورة كذلك، بل دون ذلك. ففي اليمن من أهل
الحل والعقد ما ليس في الحجاز وهم أكثر عددًا، وأشد بأسًا وشوكة من أهل
الحجاز ومن أهل سورية وفلسطين - إن فرضنا أن لاعترافهم تأثيرًا شرعيًّا -
بدليل أن الدولة العثمانية قاتلتهم عدة قرون ولم تقدر على إزالة إمامتهم. فيحيى
يرجح على حسين من وجوه، وحجته عليه بمبايعته بالإمامة قبله قائمة. (وللكلام
فيها بقية تأتي في جواب السؤال الرابع) . وبهذا يعلم خطأ الذين بايعوا حسينًا بدعوى
أن الخلافة التركية قد سقطت ، وأصبح منصب الخلافة معطلاً، وأنه يجب التعجيل
بإقامة إمام للمسلمين؛ لئلا يصدق على من يتأخر عن ذلك حديث: (من مات وليس
في عنقه بيعة لإمام مات ميتة جاهلية) فقد غشوا الناس بهذا القول، كما غشوهم بأنه
لا يوجد أحد مستجمع لشروط الإمام غير هذا الرجل ويعلم هذا بما يأتي:
(الوجه الثاني) : أن الملك حسينًا فاقد للعلم الشرعي اجتهادًا وتقليدًا كما
يعلم بالقطع من مكتوباته الرسمية وغير الرسمية ، فإنها مشتملة على الأغلاط
اللغوية الفاحشة في المفردات والجمل والأسلوب. وفهم الكتاب والسنة وكتب أئمة
العقائد والفقه يتوقف على إتقان اللغة العربية. ومشتملة على تحريف فظيع للآيات
والأحاديث، وعلى تفسيرهما بالرأي بل الهوى، وعلى أحكام باطلة لا دليل عليها،
وأحاديث موضوعة لا أصل لها، وقد أوردنا في مواضع متعددة من المنار بعض
ذلك، فإذا وجد من أدعياء العلم المتحيزين إليه من ينكر علينا ذلك؛ فإننا نجمعه في
كتاب نطبعه على حدته ونطالبهم بالرد عليه إن استطاعوا.
(الوجه الثالث) أنه فاقد للعلم بالسياسة العامة وشؤون الدول والأمم التي
صارت تتوقف في هذا الزمان على علم واسع، وهو مع ذلك ينفرد بعقد الاتفاقات
مع الدول، فيقع فيما يضيع به حقوق المسلمين ومصالحهم ، كما يعلم بالقطع من
الاتفاق مع الإنكليز على ما يسميه (مقررات النهضة) وفيها التصريح بجعل البلاد
العربية وفي مقدمتها الحرمان الشريفان تحت حماية دولة أجنبية غير مسلمة ،
تجتهد في إزالة ملك الإسلام وشرعه من الأرض. وقد نشرنا هذه المقررات مرارًا
وبيَّنا مفاسدها. ومثلها المعاهدة الأخيرة المبنية على أساسها: التي كان أعلن قبولها
بادئ بدء في أول شوال من السنة الماضية - 1341 - ولكن كان من توفيق الله
تعالى أن علم بجل مضمونها أهل فلسطين وغيرهم ، فانتقدوها وصرحوا برفض ما
يتعلق بهم منها، وبينا نحن وغيرنا سائر مفاسدها، فاضطر الملك حسين إلى
الامتناع من إمضائها النهائي بعد أن أمضاها الإمضاء المبدئي وأمر باتخاذ يوم
إعلانها عيدًا رسميًّا للأمة العربية. وقد أرسل قبل سفره إلى شرق الأردن خطابًا
إلى الأمة الإنكليزية اعترف فيه بموالاة حكومتها - خلافًا لنص القرآن - وبأنه
أضاع بذلك استقلال من تبعه في ذلك من الأمة العربية؛ ونشر هذا الخطاب في
الجرائد العربية واشتهر.
(الوجه الرابع) فقده للعدالة من شروط الخلافة ، والدلائل على ذلك كثيرة
جدًّا من أهمها: استبداده الذي لا يكابر فيه أحد يعرف حاله، وظلمه الذي نذكر منه
منعه لشرفاء قومه الذين كانوا في الآستانة وغيرهم من الرجوع إلى بلدهم ،
واستيلاؤه على أموالهم من أملاكهم وأوقافهم ، وعدم إعطائهم شيئًا منها، وناهيك بما
ذكرناه آنفًا من حكمه بما يخالف كتاب الله وإجماع المسلمين. ومن أشهر أعماله
الاستبدادية! ضربه الضرائب على الحجاج، وظلمه لأهل الحرمين الشريفين
ومنه: حرمانهم من مئات الألوف من الدراهم والغلال التي كانت ترسلها إليهم
الحكومة المصرية في كل عام وقد رأينا ما دافع به عنه بعض المأجورين
والمنافقين في العام الماضي.
وملخصه أنه ملك للحجاز ومالك له وله أن يمنع من دخوله ولو لأداء فريضة
الحج من شاء ويأذن لمن شاء (وقد صرح بهذا ولده الأمير عبد الله ونشر في
الجرائد) وأن يشترط ما شاء على من شاء من الحجاج كمنع ركب الحج المصري من
وضع أدويته وأدواته الصحية في جدة ومكة وغير ذلك، مع أن المعلوم من الدين
بالضرورة أنه ليس لأحد أن يشترط على مؤدي ركن من أركان الإسلام شروطًا أو
يضع عليه ضريبة ، ولو جاز هذا في أداء الحج لجاز في أداء الصلاة ، فإذًا لا
يجوز له أن يتحكم في حرية الحجاج بشيء إلا إذا ارتكب أحد ذنبًا يعاقب عليه
الشرع، فله أن يحاكمه وينفذ ما يحكم به عليه بالعدل. وأما استصحاب الحجاج
للأطباء وللأدوية والعقاقير ، واستخدامهم للمطوفين أو غيرهم من أهل البلاد في
أعمال مشروعة بالتراضي - فليس له أن يمنع أحدًا منها.
(الوجهان الخامس والسادس) فقده للشوكة والقوة المالية والجندية اللتين
يتوقف عليهما حفظ البلاد وحماية الثغور والجهاد المشروع، وجعله البلاد تحت
حماية الدولة البريطانية بنص مقررات النهضة. وقد رفع استقالته المرة بعد المرة
إلى الحكومة الإنكليزية ، وطلب منها أن تولي غيره على الحجاز، وتختار له
ولأولاده مكانًا يقيمون فيه. ونشر هذا في جريدته (القبلة) ونقلناه عنها في
المنار مرارًا، ولو لم يكن له إلا هذه الخزية لكفت مانعًا من جواز خلافته، فإن
المراد من الخلافة إعزاز الإسلام والمسلمين بالاستقلال والحرية الشرعية، لا
جعلهم أذلة تحت سلطان دولة غير إسلامية.
(الوجه السابع) أن الذين بايعوه ليسوا أهلاً لأن يبايعوا ، كما أنه هو ليس
أهلاً لأن يبايع. أما من حضر الحجاز منهم فهم تحت سيطرته وقهره؟ فليسوا أحرارًا
ولا مختارين، وليس لهم صفة أهل الحل والعقد، كما يعلم مما بيناه مفصلاً في كتاب (الخلافة - أو الإمامة العظمى) وأما من بايعه من أهل سورية وفلسطين
والعراق فهم تحت سيطرة دولتين أجنبيتين قويتين؛ لا يملكون من أمرهم طاعة حاكم
آخر. وإنما المبايعة على السمع والطاعة في الجهاد ، وأموال الزكاة وإقامة الحدود
وغير ذلك من الأحكام، فلا الملك حسين يستطيع أن يقيم شيئًا من هذه
الأحكام في هذه البلاد ، ولا أهلها قادرون على إعطائه هذه الاستطاعة، ولا على
طاعته إذا هو أمر بشيء منها (والمبايعة في عقد الخلافة كالمبايعة في عقد البيع) بل
هذا هو الأصل وذلك وما في معناه مأخوذ منه، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ
المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} (التوبة: 111) - إلى أن قال:
{فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِه} (التوبة: 111) ولا تتحقق المبايعة في هذا
ولا ذاك إلا إذا كان كل من المتبايعين أهلاً للقيام بنصيبه من العقد. كأهلية الخليفة
لإقامة أحكام الله تعالى كما أنزلها بما له من صفتي العلم والعدالة، وأهليته لتنفيذها
بما له من القوة والشوكة، وأهلية المبايعين له لقبول أحكامه وطاعته فيها وإعانته
عليها. ومثال ذلك في بيع الأعيان ملك البائع لما يبيعه وقدرته على تسليمه، وقدرة
المشتري على أداء الثمن. ومن المعلوم بالضرورة لكل من الملك حسين ومن بايعوه
في شونة شرق الأردن - كما بايع سلفهم في هذه البلاد مروان بن الحكم - أن كلاًّ
منهما عاجز عما توجبه عليه البيعة، فمثلهما كمثل من قال لآخر: بعتك هذا
الطائر في الفضاء، بهذا القمر الذي يلوح في السماء. فقال: قبلت.
على أنني أعلم أن أكثرهم لا يعرف معنى الخلافة ، ولا معنى المبايعة ، ولا
ما توجبه عليهم ، وأن من يعرف ذلك منهم لم يقصدوه بمبايعتهم حتى فيما
يستطيعونه منه ، كأن ينفروا إلى قتال سلطان نجد أو إمام اليمن إذا استنفرهم
خليفتهم ، ولم تمنعهم الدولة المسيطرة على بلادهم من القتال معه. والدليل على
ذلك أن هذه البلاد كلها كانت قد بايعته من قبل ، وكان أهل سورية وفلسطين يظنون
عقب احتلال ولده الأمير فيصل للبلاد مع جيوش الحلفاء أنه تنفيذ لما كانوا يعدونهم
به في زمن الحرب، من أن الشريف يحارب لاستقلالهم وأنه هو ملكهم، فلهذا
بايعوه، وخطبوا باسمه في طول البلاد وعرضها. ولما انعقد المؤتمر السوري
لتقرير استقلال البلاد وإعلانه لم يجعل له شيئًا من الأمر فيها لا بلقب الخليفة ولا
غيره، وقد استنجد ولده فيصلاً ملك سورية لحرب النجديين مرة، فقررت وزارة
هاشم بك الأتاسي رفض الطلب ، وإنما سمحت بالتطوع لمن شاء من السوريين
باختياره على نفقة الحجاز. ولو كانوا بايعوا على علم وعزم؛ لربطوا سورية
بالحجاز في ذلك العهد، ولكانوا أجدر بالنجاح يومئذ منهم اليوم.
ما بايع القوم لأجل السمع والطاعة. وإنما بايع بعضهم لهوى أو منفعة
شخصية، وبعضهم لنكاية الدولة الأجنبية المسيطرة ، ولا سيما الذين صدقوا
قول دعاة الرجل: إنه هو القادر وحده على إنقاذهم من هذه السيطرة. وبايع
بعضهم لتصديق من قال له: إن هذه المبايعة فرض عليه لا يترتب عليها غرم
ولا تخلو من غنم، وإنه إذا امتنع منها ومات من ليلته مات ميتة جاهلية ، وكان من
أهل النار. وقد يوجد في هؤلاء العوام المخلصين من إذا دعي مثل هذه الدعوة إلى
القتال مع الخليفة استجاب على غير علم ولا هدى.
وهنالك أناس آخرون بايعوا لغرض سياسي عام أو خاص؛ أما الخاص فهو
غرض من ظن من أهل فلسطين أن تقوية رابطتهم بملك الحجاز بالخلافة يحمله
على مساعدتهم ولو فيما يغضب الدولة البريطانية، أو يمنعه أن يعقد معاهدة معها
يوافقها فيها على الحالة الحاضرة ، وهي حالة الانتداب المرتبط بوعد بلفور بجعل
فلسطين وطنًا قوميًّا لليهود الصهيونيين، وقد كان رضي بالمعاهدة المشتملة على
هذا وأعلنها رسميًّا بمكة في أول شوال من السنة الماضية ثم اضطر إلى طلب
تعديلها كما تقدم آنفًا.
وأما الغرض العام فهو ما أراده أولو العصبية العربية من إعادة الخلافة
الرسمية العامة إلى العرب ، وقد ظنوا أن الفرصة قد سنحت لهم بما فعل الترك.
وأكثر أهل البصيرة والمعرفة والإخلاص من هؤلاء يعلمون أن هذا الرجل ليس
أهلاً للخلافة ولا للملك، ولكنهم يقولون: إن مركزه البارز في الحجاز جعله مرجحًا
على غيره من العرب، وهو شيخ كبير ، إذا لم ينتفع العرب بهذا المركز في حال
حياته - لما نعلم من صفاته - فلا يمنع ذلك من انتفاعهم به بعد وفاته، ومهما يطل
أجله الشخصي فهو قصير في جانب أجل الأمة. وقد خاطبني بعضهم بهذا قولاً
وكتابة. ولكن المبايعة لأجل العصبية باطلة، والعصبية محرمة، والأحاديث
فيها معروفة في الصحاح والسنن، وهي تضر العرب بتنفير الأعاجم منهم وهم في
غنى عنها بجعل الشارع الإمامة في قريش، وما على قريش وغيرهم إلا أن يرشحوا
من أفضل رجالات قريش من تقوم الحجة على قدرتهم على النهوض بهذا الأمر ، وأما
إلصاقه برجل يمقته أكثر مسلمي الأرض، ويرمونه بأقبح الطعن كخيانة
العرب والإسلام وإضاعة ملكهم - كما اعترف به في خطابه الأخير للشعب
البريطاني - فهو أكبر العقبات في سبيل إعادة هذا الحق إلى أهله.
حفظ هؤلاء السياسيون شيئًا وغابت عنهم أشياء لا محل لبيانها هنا، وإنما
نقول: إن إعطاء لقب الخلافة لهذا الرجل سيكون أضر على الأمة العربية عامة من
إعطائه لقب ملك العرب ، ومن جعله زعيمًا للأمة العربية من قبل بما يزيد هذه
الأمة تفرقًا وعداوة وضعفًا في أنفسها، وكراهة واحتقارًا من جميع الشعوب
الإسلامية الذين أرادوا أن يجعلوه إمامًا لها، وخليفة مطاعًا أو محترمًا عندها، ومن
ثم يزيد نفوذ الأجانب قوة فيها، ودسائسهم توغلاً في بلادها. وهو قد بدأ ببث
الدسائس في شافعية اليمن العليا والسفلى لإيقاع الفتن بينهم وبين الإمام يحيى،
وإيقاد نار الحرب؛ إذ بلغهم دعاته بأنه سينقذهم من سلطان هذا الإمام الزيدي،
ويقيم لهم حكامًا شافعيين من أهل مذهبهم يكونون تابعين له ومستمدين للسلطة منه.
وهذا يوافق ما صرح به لرئيس مؤتمر الجزيرة بمكة ، ونشر في جريدة (القبلة)
في أوائل ربيع الآخر من هذه السنة - أعني أنه لا بد من إعطاء أهل هذه
البلاد من اليمن ما يطلبون من شكل الحكومة الداخلية التابعة لملك العرب! ! !
وإن من أعجب العجائب وأغرب الغرائب أن يوجد رجل عربي يحب أمته
ويعمل لها بإخلاص يزيد في غرور هذا الرجل وتجرئته على المضي في سياسته
العربية ، بعد أن صرح في جريدته (القبلة) تصريحًا رسميًّا بأنها قائمة على
أساس عداوته لجميع أمراء الجزيرة أصحاب القوة والبأس فيها، مع العلم بأنه
أضعف من كل واحد منهم، وأنه لا اتكال له وله اعتماد في هذه العداوة إلا على
قوة الأجنبي الطامع في استذلال جميع العرب والسيطرة على جميع بلادهم، وأنه
لا وسيلة لهذا الأجنبي إلى غرضه إلا هذا الشقاق الذي يعتمد فيه على هذا الملك
وأولاده، ولذلك جعل واحدًا منهم ملكًا في العراق؛ ليقنع أهله بعقد محالفة
العبودية والاسترقاق لأهله، والتصرف في أرضه. ويطمع الآخرون أن يصيروا
ملوكًا في سورية وفلسطين واليمن ونجد تحت ظل هذا الأجنبي وحمايته، وهذا ما
يبغونه من الوحدة العربية.
أمثل هذا يعطى لقب الخلافة ليتخذه آلة للدعاية المروجة لهذه السياسة؟ أبمثل
هذا تتحد الأمة العربية ، وتستعيد مجد الخلافة وتعيد بها مجد العرب؟ ألا إن الأمة
العربية لم تصب بمصيبة أشد ضررًا وأعظم خطرًا من هذا الرجل وأولاده، وإنه
لا أحد من أشياعهم أجدر باللوم على مبايعته وموالاته من إخواننا الفلسطينيين
والسوريين الذين كنت أجل كثيرًا من أذكيائهم وأولي الخبرة والاطلاع منهم أن
يظلوا منقادين بالدعاية الكاذبة الخاطئة إلى هؤلاء الأفراد، بعد أن افتضح أمرهم
فعرفه كل حاضر وباد، ولم أر أحدًا منهم استطاع أن يدافع عنهم بكلمة حق، وكان
يجب على من يظنون منهم أنه يمكن استصلاحهم والانتفاع منهم - وقد خاطبنا
بعضهم بذلك قولاً وكتابة - أن يحتفظوا بمبايعة كبيرهم بالخلافة - التي هي منتهى
أمانيه وأول ما خاطب به أولياءه الإنكليز قبل الاتفاق معهم -؛ ليمهدوا لها بنظام
معقول وضمان يوثق به. فماذا أبقوا بأيديهم، بعد أن أعطوه حق الولاية الشرعية
عليهم، إن كانوا يعدون بيعتهم له صحيحة؟ وسيبث هو الدعاية بأنه لا معنى لها
إلا وجوب طاعته في كل مستطاع يأمر به بلا شرط ولا قيد ولا نظام ولا قانون،
إنا لله وإنا إليه راجعون.
(الوجه الثامن) حرصه على السلطة وتهالكه على لقب خليفة وملك؛ حتى
إنه اعتمد فيه على موالاة دولة غير مسلمة ، كما ثبت من المكاتبات الرسمية بينه
وبينها التي انتهت بقبوله لحمايتها ، كما أشرنا إليه في هذه الفتوى وفصلناه بالوثائق
الرسمية في عدة أجزاء من المنار.
وما كان يدعيه من التعفف وعدم الرغبة في الخلافة يوجد في قوله وفعله
ومنشوراته وأقواله المطبوعة في جريدته ما يناقضه أو يعارضه. وذلك شأنه في
جميع أقواله وأعماله كالوحدة العربية وغيرها: صرح بأن الخلافة قد ماتت،
وصرح بأنه لا يقبل أن يبايع بها إلا إذا أجمع المسلمون على اختياره لها، وكان
يسعى لها هو وأولاده قبل ذلك وفي أثنائه! ثم قبل المبايعة من بعض أهل فلسطين
وشرقي الأردن وسورية المستعبدين للأجانب بشؤم نهضته، وقد كان أهل هذه
البلاد بايعوه في عهد وجود ولده فيصل في سورية، وصرح أهل مكة في مبايعته
بأنهم قد كانوا بايعوه من قبل وهم يبايعونه الآن تجديدًا وتوكيدًا. وقد نشرت هذا
المعنى جريدته (القبلة) ، فأين الإجماع من المسلمين وما ثم شيء جديد؟!
وأما الدليل على أن طالب الولاية والحريص عليها لا يولى؛ فأحاديث، منها
قوله صلى الله عليه وسلم لرجلين طلبا منه أن يؤمرهما: (إنَّا والله لا نوَلِّي على هذا
العمل أحدًا سأله ولا أحدًا حرص عليه) رواه الشيخان في الصحيحين واللفظ
لمسلم، وفي رواية للإمام أحمد (إنَّ أَخْوَنَكُم عِندنا مَنْ يطلُبه) وقد ورد أنه صلى
الله عليه وسلم لم يستعن بأحد من الرجلين حتى مات. وحكمة ذلك ومدركه
أن حب الملك والرياسة هو أكبر أسباب الفتن التي سفكت فيها الدماء أنهارًا ،
ومزقت الأمة شر ممزق ، وأفسدت عليها أمر دينها ودنياها أممًا وشعوبًا متعادية،
والله يقول: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 92) وهي
التي أخضعت أمثال هؤلاء الأمراء للأجانب في الأجيال الأخيرة ، وكانوا أولياءً
وأنصارًا لهم على سلب سيادة الإسلام عن بلادهم وغير بلادهم. وقد آن للمسلمين
أن يقيموا شرعهم باختيار أهل الحل والعقد لأئمتهم بنظام تضمن فيه حريتهم
وحرية الأمة، وتلتزم فيه أحكام الشرع وحكمه، وإن لم يكن تنفيذه إلا بعد زمن
طويل، وهذا أهم ما يطلب من المؤتمر الإسلامي المقترح.
3-
أهل الحل والعقد
وأما الجواب عن السؤال الثالث وهو تعريف أهل الحل والعقد في هذا العصر
إلخ فنجيب عنه بما يتعلق بالمقام فنقول: إن من عرف المراد من كلمتي الحل
والعقد في اللغة يعرف أهلهما، وكذلك كلمة الأمر. الحل والعقد عبارة عن
التصرف في الأمور العامة. والأمر هو الشأن، والمراد به شأن الأمة العام من
سياستها وإدارة مصالحها ونظام أحكامها، ويؤخذ هذا من تعريف الكلمة بالألف
واللام، وهو المراد من قوله تعالى:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل عمران:
159) وقوله: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: 38) وقوله: {وَلَوْ رَدُّوهُ
إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُم} (النساء: 83)
والضمير في قوله: (ردوه) يرجع إلى أمر الأمن والخوف وخاصة في حال
الحرب، فأولو الأمر هم أصحاب الرأي والمكانة الذين تثق بهم الأمة وتعول على
تدبيرهم وتتبعهم فيه. وكانوا موجودين مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان
يستشيرهم في كل شيء ليس فيه وحي من الله تعالى ، ويعمل برأي من اتضح له
صواب رأيه منهم، كما عمل برأي الحباب بن المنذر في غزوة بدر لما راجعه في
المكان الذي أمر صلى الله عليه وسلم بنزولهم فيه - ويعمل برأي الأكثرين وإن لم
يره صوابًا ، كما وقع في مسألة الخروج من المدينة في غزوة بدر وكان مخالفًا لرأيه
ورأي بعض كبراء الصحابة: كأبي بكر رضي الله عنه ولكن الاستشارة
في أحد كانت للأمة لا للزعماء المعبر عنهم بأولي الأمر وأهل الحل والعقد فقط.
والأمة هي الصاحبة الشأن والسلطة في أمرها العام بنص آية الشورى ،
ولما كان من المتعذر أن يقوم جميع أفرادها أو أكثرهم بالأمور العامة من
حربية وسياسية وقضائية وإدارية ، كان المشروع المعقول أن ينوب عنها من
يكونون محل ثقتها من الأفراد الممتازين فيها بالعلم والتجارب والاستقامة ، فيكونوا
هم أرباب الحل والعقد فيها الذين يختارون لها الرئيس (الخليفة أو الإمام) المنفذ
لشريعتها ، ويؤيدونه بالرأي والعمل؛ فيكون منهم أهل الشورى له والوزراء والقواد
والقضاة وغيرهم. وقد بينا ذلك بالتفصيل في المبحث الثالث: (مَن ينصب الإمام
ويعزله؟) ، والمبحث الرابع:(سلطة الأمة ومعنى الجماعة) ، والمبحث
الخامس: (شروط أهل الاختيار للخليفة) من كتابنا (الخلافة أو الإمامة
العظمى) ، ثم عقدنا المبحث التاسع عشر (وطبع 17 غلطًا) لأهل الحل والعقد في
هذا الزمان، وما يجب عليهم في أمر الأمة والإمام. وقد صرحنا فيه بأن أهل الحل
والعقد قلما يوجدون في غير الأمم الحرة إلا أفرادًا ، يكون لهم هذا الوصف بالقوة لا
بالفعل.
والقول الفصل في النازلة التي هي موضوع الفتوى ، والشغل الشاغل لأكثر
المسلمين اليوم هو أن أهل الحل والعقد بالفعل في العالم الإسلامي الآن هم رؤساء
الحكومات الإسلامية المستقلة ، وأركان دولتهم وأصحاب الزعامة الذين يوجدون في
بعضها دون بعض، وتوجد الشروط الشرعية في بعضهم دون بعض، وهم على ما
هم إذا بايعوا رجلاً بالخلافة، وعاهدوه على السمع والطاعة، وكان مستجمعًا
للشروط الشرعية المجمع عليها عند أهل السنة والجماعة؛ صار هو الإمام الحق
الذي تجب طاعته على كل مسلم في الحق والمعروف. وإن لم يكن كذلك؛ وجبت
طاعته على البلاد التي بايعه أولو الأمر والحل والعقد فيها دون غيرهم.
في مصر الملك فؤاد ووزراؤه وكبار العلماء ، وأعضاء مجلسي النواب
والشيوخ ، وفي الأفغان الأمير أمان الله خان وأركان دولته، وفي الترك أعضاء
المجلس الوطني الكبير، وفي جزيرة العرب أمراؤها وأئمتها المعروفون: إمام
اليمن، وسلطان نجد، وملك الحجاز، وأمير تهامة. ولدى كل من هؤلاء زعماء
وعلماء إذا لم يوافقوه على البيعة لا تنفذ الأحكام في بلادهم؛ فهم من أهل الحل والعقد
فيها، إلا ملك الحجاز فهو المستبد المطلق الذي ليس لأحد من مدن بلاده معه
أمر ولا رأي. وأما القبائل فأهل الحل والعقد فيهم شيوخهم ، وأكثرهم غير
خاضعين له.
4-
إمام المسلمين الذي تجب معرفته اليوم
وأما السؤال الرابع وهو تعيين الإمام الذي يجب أن يعرفه كل مسلم مؤقتًا إلخ
فنقول في جوابه:
- أولاً - إن السؤال يشعر بأن السائل يعتقد أنه لا بد من وجود إمام للمسلمين
بالفعل في كل وقت تجب عليهم معرفته والاعتراف بإمامته ، وإن لم يكن له فيهم
أمر ولا نهي إلى أن يقوموا بنصب الإمام الحق ، باختيار المؤتمر الإسلامي العام
الذي يجب اتباعه على جميع المسلمين ، وفي هذا مباحث لا تتسع لبسطها هذه
الفتوى. منها: هل يجوز خلو الأرض من إمام يقيم الحق والعدل في جماعة من
المسلمين؟ في الأحاديث الصحيحة أنه لا تزال طائفة من هذه الأمة ظاهرين على
الحق يقاتلون عليه لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله. والظاهر أنهم الإمام
وجماعته، وقيل: إن المعنى أعم مما ذكر. وحديث الصحيحين (لا يزال هذا
الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان) وهذا لفظ مسلم - يدل على ذلك إن عُدَّ
خبرًا. والأظهر أنه إنشاء حكم؛ أي: يجب ذلك.
وفي الصحيحين من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: (كان
الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر
مخافة أن يدركني فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير
فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: (نعم) قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟
قال: (نعم وفيه دخن) قلت: وما دخنه؟ قال: (قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم
وتنكر) قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: (نعم دُعاة على أبواب جهنم مَن
أجابهم إليها قذفوه فيها) ، قلت: يا رسول الله صِفهم لنا. قال: (هم من جلدتنا،
ويتكلمون بألسنتنا) . قلت: يا رسول الله فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال:
(تلزم جماعة المسلمين وإمامهم) . قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال:
(فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت
على ذلك) [1] وهذا محل الشاهد، واللفظ للبخاري في كتاب الفتن من صحيحه،
وهو يدل على جواز خلو الأرض من الإمام والجماعة، إلا أن يقال: إنه ذكر على
سبيل الفرض والاحتمال العقلي.
أما الشر الأول في هذا الحديث فهو الفتن التي تجمعت في خلافة عثمان
واشتدت في خلافة علي ، وأما الخير الذي بعده فهو الرجوع إلى السنة والجماعة ،
ونبذ البدع في خلافة عمر بن عبد العزيز ومن بعده من الأمويين والعباسيين ما كان
المسلمون على إمام واحد. والدخن الذي في هذا العهد ما دخل على بعض الخلفاء من
الفسق وعلى بعضهم البدع الاجتهادية، فكان منهم ما يعرفه الشرع وما ينكره. وأما
الدعاة على أبواب جهنم، فهم الذين فرقوا الكلمة وتعمدوا صدع وحدة الأمة والإمامة
بتعدد السلطة، اتباعًا لعصبيات المذاهب والأجناس، فكان منهم القرامطة وغيرهم
من الباطنية (الزنادقة) الذين يدعون إلى الإيمان بالأئمة المعصومين، ويؤولون
النصوص القطعية حتى في أركان الإسلام وأصول الدين، ومنهم المبتدعة فيما
دون الكفر، ووصفه صلى الله عليه وسلم إياهم بقوله: (
…
من جلدتنا ويتكلمون
بألسنتنا) قيل: معناه من العرب. وقيل: من بني آدم. ويؤيده جمع الألسنة،
وليس للعرب إلا لسان واحد، وهو صريح أو كالصريح في عصبية الأجناس
اللغوية التي سنها الفرس وتبعهم فيها الترك وغيرهم.
- وثانيًا - مذهب أهل السنة والجماعة في الإمامة أنها من أمور الإسلام
العملية لا الاعتقادية ، فليس الواجب على كل مسلم في كل زمن أن يعتقد بوجود
إمام وأن يعرفه بالعيان أو بالوصف والاسم ، حتى يخرج من الإثم؛ لأنه اعتقاد
مطلوب لذاته ، وإنما يجب على المسلمين في جملتهم أن ينصبوا لهم إمامًا يكون
رئيسًا لأولي الأمر وأهل الحل والعقد في إقامة أمور دينهم ، ونظام حكومتهم وحفظ
بيضتهم. فإن تعدد الحكام في المسلمين، ووجد الإمام الحق والجماعة أولو الأمر
وجب على المسلم أن يعتزل سائر الفرق وحكوماتها، ويلزم الإمام والجماعة ولو
بالهجرة إليهم. فإن تعددوا وجب الوفاء للأول وقتل من يبايع بعده، كما أمر النبي
صلى الله عليه وسلم وقيدوه بما إذا لم يندفع إلا بالقتل. وفي صحيح مسلم من
حديث أبي هريرة مرفوعًا: (كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبيُّ
خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فتكثر) قالوا: فما تأمرنا؟ قال: (فوا ببيعة الأول فالأول) الحديث ، وإن لم يوجد فيهم الإمام الحق والجماعة الذين
يقيمون الحق والعدل بشرع الله ، وجب على الفرد اعتزالهم جميعهم إن استطاع، وإلا
أطاع المتغلب على بلاده في غير معصية الله. وعلى مجموع الأمة أن يسعوا
لإيجاده وإلا كانوا آثمين ، والمطالب بذلك أهل الحل والعقد منهم، فإن فقدوا وجب
على سواد الأمة السعي لإيجادهم، ويحصل ذلك بوضع نظام كنظام الأحزاب
والجمعيات في هذا العصر؛ يختارون بها زعماء من أمثل أهل العلم والرأي
والاستقامة ، ويعضدونهم بشروط يحصل بها المقصود.
- وثالثًا - إذا كان غرض السائل أن يعلم هل يوجد إمام للمسلمين في أي
بقعة من بقاع الأرض؟ ليطمئن قلبه بأن الأمة الإسلامية كلها غير آثمة كلها، وإن
لم يعترف غير أهل بلاده بإمامته - فقد علم أن في اليمن إمامًا، وقد ذكرنا في كتاب
الخلافة أن في نجد إمامًا حنبليًّا، وفي تهامة إمامًا شافعيًّا، وكل من الثلاثة مبايع
قبل حسين الذي في مكة، ولكنه هو أبرع وأحذق منهم في بث الدعاية لنفسه ،
ومقامه في مكة المكرمة يساعده على ذلك، فهو يجتهد في تكثير أفراد مبايعيه من
الحجاج وغيرهم ، وينشر ذلك في جريدته (القبلة) وربما يعبر فيها عن مبايعة
فرد أو أفراد من عامة السوقة في بلدة بمبايعة البلدة أو القطر التي هي فيه،
وهذا ضرب من ضروب اللذة والجاه ، وهو ما أنشأ جريدة (القبلة) إلا لأجل إطراء
نفسه فيها ووصفه بملك العرب ومنقذهم وإمام المسلمين وخليفتهم. وأكثر ما
ينشر فيها من ذلك فهو الذي يكتبه أو يأمر بكتابته، فخلافته للمسلمين كملكه
للعرب سيظلان حيث هما من الحجاز وجريدة (القبلة) ، إلى أن يقوم العرب
مع الرأي الإسلامي العام، بما يجب عليهم لمهد الإسلام، وبلد الله الحرام، وعسى أن
يكون قريبًا.
_________
(1)
الدخن - بوزن جبل - الغش والفساد ، وأصله لون في الدابة غير لونها يشبه الدخان.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الانقلاب الديني السياسي
في الجمهورية التركية
(الدسائس الأوربية في الدولة العثمانية، تأثير التعليم الأوربي والمدارس
في حل المسألة الشرقية ، طلاب الإصلاح للدولة مقلدون مدحت باشا وعصبته،
جمعية الاتحاد والترقي، الكماليون. إلغاء الخلافة العثمانية وطرد الخليفة الوهمي
وعشيرته من البلاد التركية ، واستصفاء أموالهم. إلغاء نظارة الأمور الشرعية،
إلغاء وزارة الأوقاف، إلغاء المدارس الدينية ، جعل التعليم بجميع أنواعه لنظارة
المعارف التركية. عَمَهُ المسلمين واضطرابهم) .
تمهيد ومقدمات:
ما زالت الدسائس الأوربية تتغلغل في مدارس الدولة العثمانية ، فتفسد الأفكار
الدينية التي خولت هذه الدولة انتحال مقام الخلافة الإسلامية، وتفسد المقومات
الاجتماعية ، وتقطع الروابط السياسية التي كانت بها هذه الدولة سلطنة
(إمبراطورية) إسلامية عظيمة ، يخضع لها كثير من الشعوب المختلفة في
الأنساب واللغات والأديان والأقاليم - ما زالت كذلك حتى صارت مصداقًا لقول
بعض عقلاء الأوربيين: إن المدارس الثانوية قد عملت في حل المسألة الشرقية ما
عجز عن مثله جميع سفراء الدول في الآستانة.
بدأ ساسة أوربة وأساتذتها ينفثون سم العصبيتين الدينية والجنسية في
الشعوب الأوربية المسيحية العثمانية: كاليونان والصرب والرومان والبلغار حتى
نهضوا بهما إلى طلب استقلال بلادهم وساعدتهم الدول الأوربية على ذلك حتى
نالوه، ثم طفقوا ينفثون هذا السم في أرواح سائر الشعوب العثمانية عامة، وعصبة
الجنس واللغة في شعب الترك خاصة، حتى صار المتعلمون من هؤلاء أشد كراهة
للسلطنة العثمانية من الروم والأرمن فيها، فطفق بعض هؤلاء الترك الذين لقبوا
أنفسهم بالأحرار يسعون لإسقاط هذه الدولة العظيمة؛ ليبنوا من أنقاضها دولة تركية
محضة ، يكرهون جميع أهلها على قبول الجنسية التركية ، وما تعذر تتريكه منها
يجعلون بلادها مستعمرة للترك، ولم يكتفوا ببقاء السلطنة كلها والرضا بما لهم من
الامتياز فيها بكون لغتهم هي الرسمية لها، وشعبهم هو الشعب الممتاز فيهما بلغته ،
وبحصر الملك والخلافة في بيت من بيوته وبجعل العاصمة في بلاده.
فتن المتفرنجون من الترك بتقليد الأوربيين في نظم حكوماتهم وقوانينها ،
وفي أزيائهم وعاداتهم ، في مجامعهم وأكلهم وشربهم ولهوهم ولعبهم ، فجروا على
ذلك جيلاً بعد جيل ، وهم يزدادون ضعفًا وفقرًا كلما أوغلوا فيه؛ لأن التقليد الأعمى
لا يأتي بخير ، وإنما ترتقي الأمم بالعلم الاستقلالي ، مع البصيرة والروية في وضع
كل شيء في موضعه بقدر الحاجة إليه ، مع مراعاة استعداد الأمة ومقوماتها،
واتقاء ضرر التحول والانقلاب فيها. ومن غريب هذا التقليد أن أنفع ما أخذته
الدولة عن أوربة به وهو النظام العسكري ظلت عالة على الأوربيين فيه إلى هذا
اليوم ، فلم تكن مستقلة دونهم بعلم ولا عمل ولا صناعة مما يتعلق به.
وكانوا كلما فشلوا وخابوا في تجربة من تجارب التفرنج يحسبون أن سبب
ذلك من رسوخ الاستبداد في سلاطينهم، المؤيد بتقديس منصب الخلافة لهم
بمقتضى تعاليم دينهم، لا من جهلهم هم في أخذ النافع وترك الضار، وضلالهم في
ظنهم أن الإسلام يؤيد الاستبداد؛ فجزموا بأن التفرنج المطلوب لهم لا يتم إلا بترك
التقيد بالإسلام في حكومتهم، وأن الأسرة السلطانية العثمانية قد رسخت في الإسلام
وما فيه من رياسة الخلافة ، حتى صار يتعذر سلها منه والاستعانة بأفرادها على
سل سائر الشعب التركي منه؛ فقرروا إسقاط الدولة، والقضاء على هذه الأسرة.
يقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد:
11) وهذه قاعدة اجتماعية لا يختلف فيها عاقلان، ومن فروعها ما أفاده قوله تعالى:
{وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} (الشورى: 30) وهي قاعدة
أخرى ولكنها أخص من الأولى التي تشمل النعم والنقم، والرغائب والمصائب.
وهما يطردان في الأمم دون الأفراد ، فقد تمس الفرد نعمة أو تصيبه مصيبة بغير
سعي منه ولا كسب لسبب هذه أو تلك، بأن يرث مالاً من قريب، أو يقع عليه ظلم
من معتد أثيم. وأما الأمم فلا تتغير أحوالها من خير أو شر ، إلا بعمل منها ناشئ
عن تغير ما في نفس السواد الأعظم من أفرادها من العقائد والأفكار ، والملكات
والوجدانات التي هي مصادر أفعالها ، سواء كان هذا التغير بالاستقلال أو باتباع
الدهماء للزعماء والكبراء من رؤساء الدنيا والدين.
وقد كان الذين شعروا بحاجة الدولة العثمانية إلى الإصلاح في القرن (الثالث
عشر الهجري) الماضي يجهلون أولاً هذه القاعدة الاجتماعية ، فلم يبحثوا عن علل
الضعف وأسباب الفساد كالجهل والخلل والرشوة، وعن علاجها اللائق بها في
أنفس الأمة أولاً وبالذات وفي نظام الدولة ثانيًا وبالتبع لحال الأمة، بل حصروا
وجهة نظرهم في مظاهر قوة الإفرنج الحادثة بعد ضعف، وفي أعراض ضعف
دولتهم الطارئ بعد قوة، فاستنبطوا من هذا النظر في المظاهر والأعراض أن
الدولة تقوى وتعتز بتقليد الإفرنج في قوانين حكوماتهم ونظمها ومظاهر حياتها،
ولكن لم يراعوا ما في ذلك من الموافقة لمقوماتها ومشخصاتها من عقائد وتقاليد
وآداب وأخلاق وعادات موروثة ومكتسبة بالتربية والتعليم، ولم يفطنوا لما بينهم
وبين الإفرنج من الاختلاف والفروق في ذلك، ولا تأملوا في الأطوار التي تنقل
فيها الإفرنج من حال إلى حال، ولا قدروا ما يحيط بدولتهم من الأمور السياسية
وغيرها، وكذلك شأن المقلد، وناهيك بمقلد يسترشد برأي أعدائه من حيث لا يدري.
وكان من معلولات هذا الجهل أن كل مانع يعرض لهؤلاء المتصدين للإصلاح
يظنون أنه من أسباب الفساد ، ويحاولون إزالته وإن كان من مقومات الأمة التي لم
تكن هي إياها إلا به - فكان مثلهم كمثل من رأى حلة على امرأة مهفهفة القوام
فاشترى مثلها لامرأته الضخمة فلما تعذر عليها لبسها؛ رأى أن لا سعادة له ولها إلا
بترقيق بدنها ، بإذابة لحمه وشحمه ليمكنها لبسها، فإن لم يمكن؛ وجب إلقاء الحلة
عليها وإن لم تلبسها لبسًا.
هذا مثل من كان مخلصًا في محاولة إصلاح هذه الدولة من رجالها ، لما له
فيها من عرق راسخ أو دين ثابت، وكأي من متصد لذلك وهو يبغي الإفساد؛ لأنه
دخيل فيها وهو من أعدائها الذين تربوا في مدارسها التقليدية. وكم تخرج في هذه
المدارس من عدو للدولة دسه فيها قومه الأعداء ، ثم تعاهدوه وسعوا إلى ترقيته في
المناصب الملكية والعسكرية بالرشوة والشفاعات ، حتى صار من كبار رجالها الذين
يسعون في خرابها بما في أيديهم من أزمة أمورها.
مدحت باشا والإنكليز:
كان مدحت باشا من هؤلاء المخلصين المقلدين المخدوعين. قال حكيم الشرق
السيد جمال الدين الأفغاني فيه وفي رجاله من مقال له عنوانه (الشرق
والشرقيون) ضرب فيه الأمثال بجهل حكومات الهند وإيران والأفغان وبخارى
والقوقاس والعثمانيين والمصريين الذي كان سببًا لضرب الإفرنج المستعمرين
بعضهم ببعض للاستيلاء على ممالكهم - ما نصه:
(وإن مدحت باشا وأعوانه لو نظروا بعين بصيرتهم إلى أركان سلطنتهم
المتداعية إلى السقوط، وشعروا بهداية عقولهم أن دعائم حكومتهم كادت تنهد بما أَلَمَّ
بها من المصائب، وعلموا بتدبرهم أن البلايا تترصدهم من جوانبهم - لما تقحموا
غرورًا وضلالة في خلع السلطان عبد العزيز وقتله وقتما تترقب الأعداء سقطاتهم،
وتغتنم هفواتهم، ولكنهم اعتمادًا على واهي آرائهم، واغترارًا بدسائس الحكومة
الإنكليزية قد جلبوا الهلاك على أمتهم ، ويظنون أنهم هم المصلحون) .
وقد كان من رأي مدحت باشا يومئذ الفصل بين الدولة والخلافة ، وكلم
الشريف عبد المطلب في جعله خليفة في مكة تابعًا للدولة في السياسة الخارجية
ومحميًّا بقوتها ، فأبى واحتج بأن مصلحة الدولة والعرب تأبى ذلك، ولما طفق
يشرح رأيه قال له مدحت باشا: شريف أفندي! نحن جئنا بك لنعرض عليك أمرًا،
لا لنطلب رأيك فيه، وإذ أبيت فتفضل بالرجوع من حيث أتيت.
وكان الشريف عبد المطلب أعقل شرفاء مكة، ولم ينل أحد منهم مثل منزلته
عند رجال الدولة، وهو لم يكاشف السلطان بهذه المسألة، ولكن السلطان عبد
الحميد كان منذ نزل بعمه عبد العزيز ثم بأخيه مراد ما نزل يذكي العيون ،
ويصطنع الجواسيس؛ لإخباره بما يدبر رجال الدولة، وصار أقدر الناس وأحذقهم
في ذلك بعد توليه أمر السلطنة، فعلم أن (الجون ترك) يكيدون له ولأسرته كلها ، فلج في مطاردتهم، فكان له من مكابدتهم في الداخل، ومكايدة الدول من الخارج، ما صرفه عن إصلاح الدولة، واضطره إلى الإسراف واتباع الوساوس التي
يثيرها في خياله مرتزقة الجواسيس وصنائع الأعداء منهم، حتى صار كل مخلص
للدولة من أهلها يتمنى زواله، ويعتقد أن جميع أنصاره في بلاد الدولة
منافقون أو مأجورون، وجميع أنصاره من الأقطار الأخرى جاهلون، أو مغلوبون
على أمرهم بين آلام من استذلال الأجنبي لهم، وآمال في الدولة الإسلامية المستقلة ،
يكرهون أن ينغصها البحث في عيوبها عليهم.
مقاصد الإنكليز من الترك والعرب والإسلام:
وكان عطف الدولة البريطانية على (الجون ترك) ومساعدتها لهم من دلائل
استخدامها إياهم في سياستها من حيث يشعرون أو من حيث لا يشعرون، ولكن
سياستها العثمانية كانت موضع الخلاف ومثار الشبهات، فكان بعض رجال الدولة
يرون هذه الدولة صديقة لدولتهم بما كانت تعارض روسية في محاولة فتح
القسطنطينية والاستيلاء على زقاقي البوسفور والدردنيل، وبما كانت تقاوم محمد
علي باشا الكبير وأحفاده في تأسيس مملكة عربية جديدة في مصر، ثم تبين أن هذه
السياسة كانت مبنية على القواعد الآتية:
(1)
يجب أن تكون الدولة العثمانية في الأرض كأهل جهنم: لا تموت فيها
ولا تحيا - لا تموت؛ لئلا تحل الروسية محلها من الآستانة، فهو على حد المثل (لا
حبًّا في علي ولكن بغضًا في معاوية) ، ولا تحيا؛ لئلا يعتز بها المسلمون فيحول ذلك
دون مطامعها في استعباد من بقي منهم، وتتعلق آمال مسلمي الهند بالتحرر من
رقهم. وقد هدمت هذه القاعدة بالاتفاق البريطاني الروسي على التوازن في الشرق ،
والبدء باقتسام إيران بجعلها منطقتي نفوذ لهما، ثم بالاتفاق معها ومع فرنسة سنة
1912 على تقسيم الدولة بينهن.
(2)
التوسل بإظهارها المساعدة لهذه الدولة إلى اصطناع كثير من رجالها
والاستعانة بالملاحدة منهم على إفساد أمر الخلافة عليها، وبالمتدينين على جعل
الخليفة عضدًا لها، قبل قضاء الملاحدة عليها. وقد ثبت عندنا أن ساسة الإنكليز
قالوا: إن قوة الإسلام في الشرق لا يمكن القضاء عليها إلا بتولي ملاحدة الترك
لأمور دولتهم. وأنها لهذا كانت تعطف عليهم في كل زمان ومكان، حتى إنها لم
تقطع آمالها منهم بتحيز من تحيز من زعمائهم إلى الألمان، ولكنها بعد الحرب
طفقت تصطنع بعض الرجال المتدينين؛ لأن زعماء المتفرنجين صاروا مع أعدائها
عليها.
(3)
التوسل بسيادة هذه الدولة على مصر والحجاز وسائر البلاد العربية
إلى إحباط كل سعي لتأسيس دولة عربية جديدة في مصر أو غيرها.
(4)
انتهاز الفرص من وراء كل ما ذكر إلى الاستيلاء على مصر فالعراق
فجزيرة العرب، وقد تم لها جل ما كانت تنويه وتقصد قصده حتى القضاء على
خلافة الترك ، فقد تعددت الروايات بأنهم هم الذين أقنعوا الكماليين بالإقدام على
إلغائها.
نقف عند هذا الحد من التمهيد للانقلاب ، ونعود إلى بيان جهل الذين تصدوا
لإصلاح الدولة وما فعلوه فنقول:
الطور الاستقلالي للانقلاب التركي:
ما زالت الحال في متفرنجة الترك على ما ذكرناه من التقليد الصوري حتى
نبتت فيهم نابتة تلقوا عن أساتذتهم من الإفرنج ما جهله من قبلهم، وهو أن تغيير
حال الدولة، لا يتم ولا يثبت إلا بتغيير حال الأمة، وإن الواجب عليهم أن يجعلوا
هذه الدولة تركية محضة لا بلغتها فقط، فإن كون لغة الدولة العثمانية هي التركية لم
يجعلها تركية محضة، بل هي بعد بضعة قرون من تكوينها مشتركة بين الترك
والعرب والكرد والألبان والروم والأرمن والجركس وغيرهم، وقد جعل لهم
الدستور من الحقوق فيها ما لم يكن لهم. وإنما تكون الدولة تركية محضة إذا كانت
أمتها تركية محضة، وإنما تكون كذلك إذا كانت سائر مقوماتها تركية، وهي
التشريع والتهذيب والتقاليد التاريخية، وهذه المقومات في الدولة العثمانية عربية
محضة؛ لأنها مستمدة من الدين الإسلامي. فتوجهت وجوه هذه النابتة إلى تكوين
أمة تركية جديدة لا تستمد تشريعها ولا تهذيبها ولا تقاليدها من الإسلام ، ولكن لا
بأس عندها باستمداده من الإفرنج، وطفقت تبث الدعاية لذلك في مدارس الدولة
وأكثر طلابها من الترك، وفي الجيش أيضًا. وألفوا في ذلك الكتب ونظموا
القصائد والأناشيد ، وكانوا في عهد السلطان عبد الحميد يتحامون الدعوة الصريحة
إلى ترك الإسلام والطعن فيه، إلا فيما ينشرونه في أوروبة أو غيرها من البلاد
حتى إذا زالت دولته، وورثت جمعية الاتحاد والترقي نفوذه؛ ظهرت الدعاية
الصريحة ، ودخل الانقلاب في طور عملي عاجل.
جمعية الاتحاد والترقي:
لما ظفر السلطان عبد الحميد بمدحت باشا وكبار حزبه وداس دستوره واستبد
بجميع أمور الدولة ، وتفرق طلاب الانقلاب في بلاد أوربة وغيرها؛ انحصر همهم
في إسقاطه وإعادة القانون الأساسي، ولما أديل لهم منه بإعادة الدستور وانتخب
النواب لمجلس المبعوثين ، ورأوا كثرة نواب الغرب وغيرهم فيه ، ورأوا من
معارضتهم فيه ما أثبت لهم أن الدولة ليست تركية محضة، وأن جعل المجلس آلة في
أيديهم للتصرف فيها كما يشاؤون ليس بالخطب السهل - لما رأوا ذلك عزموا
على تنفيذ مقاصدهم بقوة الجيش التي قضوا بها على سلطة عبد الحميد الراسخة،
وكان من أمرهم ما هو معروف ، وقد شرحنا ما يتعلق منه بالإسلام في مجلدات المنار
السابقة.
ألفوا الجمعيات واللجان فنشرت الكتب الطاعنة في الإسلام الداعية إلى
استبدال الرابطة التورانية بالإسلامية، ولكنهم كانوا يخافون عاقبة تنفيذ مقاصدهم
حتى إذا تهوَّكوا في الحرب الأوربية الكبرى مع الحلف الجرماني ولاحت لهم
مخايل النصر في أوائل العهد بالحرب ، شرعوا في التنفيذ - أعني أنهم شرعوا
في إذابة بدن هذه العجوز العفضاج الشرقية؛ ليلبسوها ثوب تلك المهفهفة الغربية.
كانت عاقبة إصلاح مدحت باشا ورجاله فقد الدولة لبعض من ممالكها،
وتأليف دول منها في أوربة يهددون بمساعدة بعض الدول الكبرى حياتها.
وكانت عاقبة إصلاح جمعية الاتحاد والترقي فقد الدولة لسائر ممالكها في
أوربة وأفريقية وآسية، بل إلى سقوط هذه السلطنة (الإمبراطورية) العظيمة
وزوالها، وكاد الشعب التركي أن يفقد كل سلطة في عقر داره من الأناضول
والآستانة وما جاورها من بقية الرومللي وهو القطعة المعروفة بتراقية الشرقية،
ولكن الله سلم.
قضت الأقدار الربانية بوقوع الشقاق والتنازع بين دول الحلفاء الذين مزقوا
هذه الدولة (بمعاهدة سيفر) شر ممزق ، حتى صار بعضهم يساعد الترك على
اليونان الذين توغلوا في بلاد الأناضول وجاسوا خلالها مخربين مدمرين محرقين
هاتكين للأعراض، تجاه مساعدة الآخرين لليونان. وبما سخر الله دولة الروس
البلشفية لمساعدة الترك أيضًا. وبما ارتفع من الصياح في وجه الدولة البريطانية
المتصدية للإجهاز على الدولة من صياح مسلمي الهند وهندوسها وتهديدها بالخروج
عليها - هذه الأقدار وغيرها مكنت الترك المستبسلين من النصر على اليونان
المتهوكين، ثم من عقد صلح شريف مع دول الأحلاف.
تقرر في معاهدة الصلح بلوزان استقلال ما بقى للترك مما أشرنا إليه، وإلغاء
الامتيازات الأجنبية منه، وكان على رأس هؤلاء الغزاة من الترك قائد باسل حازم
اسمه (مصطفى كمال باشا) ، ألف عصبة من الضباط الموافقين له في الرأي
ومن غيرهم من كبراء المجلس الوطني ، الذي تولى إدارة البلاد في أثناء
الحرب الدفاعية فأطلق على هؤلاء اسم (الكماليين) .
الكماليون:
الكماليون هم الاتحاديون، لا فرق بينهما في المقصد ولا في الوسائل ، وإنما
كانوا ينسبون إلى معنى فصاروا ينسبون إلى جثة أو شخص، وهذه النسبة تنافي ما
يتبجحون به من القضاء على نفوذ الأشخاص وسلطتهم وإحلال سلطة الأمة محلها،
فما تغير شيء إلا التسمية التي صارت ممقوتة عند الأمة بما جنته الجمعية عليها -
وإلا رؤساء الزعماء، وأما العاملون بنفوذ الرؤساء في الانقلاب الديني والاجتماعي
فهم هم، وكون كل عمل يعملونه في الحكومة والأمة بالاعتماد على قوة الجيش فهو
هو. وحل اسم حزب الشعب محل اسم جمعية الاتحاد والترقي، واسم مصطفى
كمال باشا وعصمت باشا وغيرهما محل اسم طلعت باشا وجمال باشا والدكتور
ناظم وغيرهم.
بل أقول: قد كنا نظن أن الكماليين ربما يكونون أقل من الاتحاديين جرأة
على التغيير والتبديل المراد بهذا الشعب الذي أتى من طاعته العمياء لرؤسائه، لما
كان للاتحاديين من سوء الخاتمة، فإذا هم أشد منهم جرأة. وسبب الجرأة في
الفريقين واحدة ، وهي القبض على أعنة السلطة بالقوة العسكرية، وقد تم هذا
للاتحاديين في عهد الحرب ، وهو آخر العهد بهم، ولكن الكماليين نالوه في أول
العهد بسلطتهم ولا نعلم متى يكون آخرها.
سهل عليهم إسقاط نفوذ السلطان محمد وحيد الدين عقب تحرير البلاد
بالانتصار على اليونان؛ لأنه كان مقاومًا لهم باجتهاد منه أخطأ فيه وأحبطه عليه
ظفرهم وخذلانه، كما أشرنا إليه في تعليقنا على الوثائق الرسمية لهذه المقاومة
وتمثلنا بقول الشاعر.
والناس من يلق خيرًا قائلون له
…
ما يشتهي ولأم المخطئ الهبل
وكانوا كلما ازدادوا تمكنًا من السلطة ينفذون من برنامجهم شيئًا - أعني برنامج
غلاة المتفرنجين الذي أشرنا إليه في صدر هذا المقال - بعد تمهيد قليل، وإلباس
الباطل ثوبًا يشبه الحق بضرب من التأويل، فكانوا يرون أن الشعب التركي
يرضى ويستكين في الداخل، والعالم الإسلامي يهلل ويكبر في الخارج، فجروا في
الميدان إلى آخر الشوط أو إلى مقربة منه. فإن وراء إبطال تعليم الدين بلغته
ترجمة القرآن المجيد ، وإلزام الترك بالتعبد بالقرآن التركي الذي ينشئه بعض
رجالهم، وترك القرآن العربي المنزل من عند الله تعالى على خاتم رسله محمد
النبي العربي بلسان عربي مبين. وما يتبع ذلك من الكفر والضلال.
كانت الخطوة الأولى لإلغاء الخلافة أن وضعوا قانون الدولة الأساسي في
أول سنة 1321 الميلادية ، وصرحوا في المادة الأولى منه بأن (السيادة للشعب
بلا قيد ولا شرط) وفي المادة الثانية (باجتماع القوة التنفيذية والقوة التشريعية
في الجمعية الوطنية الكبرى) فلم يبحث معهم أحد: ألا يجب أن تكون السيادة
والسلطة التشريعية مقيدتين بالشريعة الإسلامية التي يدين بها الشعب صاحب
السلطة ربه، ويعتقد أنها مناط سعادة الدنيا والآخرة؟!
أولاً يجب أن يكون بعض أعضاء الجمعية - على الأقل - عارفين بأصول
هذه الشريعة وفروعها ، بتلقيها عن أهلها فيشترط ذلك في قانونها؟؟
ربما يكون الناس قد استغنوا عن هذا السؤال بما في المادة السابعة من أن
تنفيذ الأحكام الشرعية خاص بالجمعية الوطنية كسن القوانين وتعديلها، ومن أن
الأحكام الفقهية والحقوقية الموافقة لمعاملات الناس ، وحاجيات الزمان والمكان
والآداب تتخذ أساسًا لوضع القوانين والنظم. وإن كان هذا يحتاج إلى البحث فيه
كالذي سبقه ، ولكن هذه السلطة المطاعة للجمعية تقتضي إلغاء الخلافة ، وإن لم
تذكر في ذلك القانون ألبتة، فلم لم يسأل عنها أحد؟
وكانت الخطوة الثانية أنهم قبل مضي سنتين على وضع هذا القانون وضعوا
قرارًا في الجمعية الوطنية ، ونشروه في أول نوفمبر سنة 1923 من التاريخ
الميلادي ، صرحوا فيه بتأييد ذلك القانون ، وبأنه قد ترتب عليه أن الشعب التركي
يعتبر أن الحكومة التي في الآستانة المستندة على السيادة الشخصية قد زالت
وانتقلت إلى التاريخ انتقالاً أبديًّا من يوم 16 مارس سنة 1920 ، وأن الخلافة في
آل عثمان فتنتخب الجمعية الوطنية لها من آل هذا البيت أرشدهم وأصلحهم علمًا
وأخلاقًا. والدولة التركية سناد مقام الخلافة.
وقد تلقى جماهير المسلمين في البلاد التركية وغيرها هذا العمل بالقبول ، ولم
ينتقده إلا أفراد منهم كما بيناه في المنار (ج10 م23) بل زعم بعضهم أنه إحياء
لخلافة الراشدين، وتجديد لمجد الدين (!!!) حتى فسره أعلم الناس بمعناه من
أساطين الكماليين؛ إذ كان هو المقترح الأول له مع جماعة من أصحابه في الجمعية
الوطنية وهو الدكتور رضا نور بك ، فإنه بعد أيام من وضع القرار مر بالآستانة
في طريقه إلى لوزان؛ إذ كان عضوًا مع عصمت باشا في مؤتمر الصلح، فسأله أحد
محرري الصحف أسئلة في الموضوع أجاب عنها بصراحة، ومما قاله: (من
الحقائق الثابتة أن الأمة التركية لا تعيش في داخل دائرة امتزج فيها الدين بالدنيا) .
ثم صرحت الحكومة بفصل الدولة من الدين، وجعل الحكومة بمعزل من
الخلافة، وسموا عبد المجيد أفندي بن السلطان عبد العزيز خليفة ، ثم أقاموا له
حفلة سموها حفلة المبايعة ، بأن مر أمامه الكبراء والوجهاء والعلماء مسلمين،
وذهب إلى صلاة الجمعة باحتفال جميل، ولكن لم يقل له أحد: بايعتك على السمع
والطاعة، ولا على السنة والجماعة؛ إذ لا أمر له فيطاع، بل قرروا التصريح
بجعل حكومتهم جمهورية وبفصل الخلافة منها، فهنأ الخليفة رئيسها مصطفى كمال
باشا بها، مقرًّا له عليها، داعيًا لهم بالتوفيق فيها، ولم يسم خليفة إلا بعد إقراره
ورضاه بإبطال مسمى الخلافة وتحليته بلفظها، وماذا فعل غيره من المسلمين؟
ضجت أكثر البلاد الإسلامية لهذه المبايعة بالتهليل والتكبير والفرح والسرور،
وتجاوبت أسلاك البرق من أقطار العالم الإسلامي بتهنئة (الغازي مصطفى كمال
باشا بطل الإسلام) بإحيائه لسنة الخلفاء الراشدين ، في إقامة كل من الدولة
والخلافة على أساس الشورى، وبالمبايعة لعبد المجيد أفندي بالخلافة الكبرى
والإمامة العظمى، وتلقيبه بأمير المؤمنين، وخليفة رسول رب العالمين،
وبالسلطان الأعظم، وبحامي الحرمين الشريفين. وكان أسرع الناس إلى هذه
التهاني وأشدها مبالغة فيها مسلمو الهند ، وفي مقدمتهم أعضاء جمعية الخلافة،
وجمعية العلماء، ومسلمو مصر وجمهور الجماعات الراقية فيها كالعلماء ،
وأساتيذ المدارس ، والمحامين الشرعيين ، والقانونيين وفي مقدمتهم علماء الدين في
الأزهر والمعاهد الملحقة به في الإسكندرية وطنطا وأسيوط وغيرها، اللهم ماعدا
الرؤساء الرسميين كشيخ الجامع الأزهر رئيس هذه المعاهد كلها، ومفتي الديار
المصرية ومن تبعهم. وربما كان في الساكتين من كان سبب سكوتهم العلم ببطلان
هذه المبايعة ، وكونها من العبث والاستهزاء بالإسلام وأهله، ولكن لم نسمع لأحد
منهم صوتًا بذلك، وقد كلمت شيخ الأزهر في الأمر وسألته السعي لمنع العلماء من
هذه المبايعة الباطلة فلم يجب. وأردت مخاطبة الملك بذلك وبسوء عاقبته ، فلم
يسمح لي رئيس الأمناء بذلك.
نعم كتب في بعض الجرائد شيء من الإنكار على ذلك، بعضه بقلمنا أو
بإيعاز منا، وهو غير ما كتبنا في المنار ثم في جريدة الأهرام بإمضائنا، وبعضه
بإمضاء مستعار وأقله بإمضاء صريح.
كان الكتاب الذين خاضوا في المسألة أزواجًا أربعة:
(1)
الذين يقولون: إن هذه البيعة صحيحة شرعًا، وإن اشتراط الحكومة
التركية على الخليفة أن لا يكون له في الدولة أمر ولا نهي - فاسد، ويجب على تلك
الحكومة طاعته. سمعت هذا القول من بعض الأزهريين وقيل لي: إن الذين بايعوه
يرون ذلك ولأجله بايعوا.
(2)
الذين يقولون: إن البيعة صحيحة ، وإن الخليفة لا يجب أن يكون
صاحب نفوذ ولا أمر ولا نهي بدليل ما فعله سلف هؤلاء الترك ، الذين غلبوا الدولة
العباسية على أمرها، بقوة الجند الذي اعتز به بعض خلفائها، فسلبوا منها السلطة
والنفوذ، وكانوا يكرهون الخليفة على ما يطلبونه، وإذا غضبوا عليه يقتلونه، وقد
بلغ من أمر الخليفة في مصر في بعض الأوقات أن صار يعيش من النذور والهبات.
وأكثر هؤلاء من الجاهلين بأحكام الشرع، ولكن أيدهم الشيخ محمد الخضري بك
المفتش في وزارة المعارف ، فزعم أنه يكفي في صحة الخلافة أن يكون الخليفة
إمامًا في صلاة الجماعة، ولم يدر أن عبد المجيد أفندي لم يعط هذه الإمامة
أيضًا.
(3)
الذين يقولون: إن ما فعلته الحكومة التركية من الفصل بين الدين
والدولة ، هو الصواب الموافق لما جرى عليه أحرار الأوربيين من الفصل بين
الكنيسة والحكومة، ومن هؤلاء من صرحوا بوجوب تصريح تلك الحكومة بأنه لا
دين لها ألبتة.
(4)
الذين يقولون: إن هذا العمل باطل، وإن هذه البيعة باطلة، وإن
الخلافة بهذا المعنى كخلافة مشايخ الطرق وهي مبتدعة ، ليست من الإسلام في
شيء.
فالفريق الأول أيد حكومة أنقرة وهو لا يدري من أمرها ولا من أمر العالم
شيئًا، وأكثر أفراده لم يكونوا يعرفون أحكام الخلافة الشرعية معرفة تامة وإن كانوا
معممين، ومن عرفها منهم فهو لا يعرف وجه انطباقها على النوازل.
والفريق الثاني أيدها بغير علم أيضًا ، وإنما قصارى احتجاجه لها أن سلفها
من الترك جنوا على الخلافة العباسية مثل جنايتها على الخلافة العثمانية، وهي
أولى منهم بذلك، وهذا رأي مصطفى كمال وحزبه ، كما يعلم من خطبته التي
جعلها مقدمة لهذا العمل، وعلى هذه القاعدة تباح كل جناية وفاحشة ومنكر في العالم؛
لأنه وجد في المتقدمين من فعله، ولا سيما القتل. فإن أحد أولاد آدم قتل أخاه بغيًا
وعدوانًا، فسن القتل لكل قادر عليه، ولكن الباعث لهؤلاء على هذه الأقوال هو هوى
السياسة الذي يفسد كل شيء دخل فيه.
والفريق الثالث أيدها وهو يعلن كُنه ما عملت ويوافقها عليه؛ لأنه غير متدين
ويكره أن تكون الحكومة مقيدة بدين أو منسوبة إليه، لا يخاف في ذلك عذلاً ولا
إنكارًا.
والفريق الرابع هو الذي خطأها على علم بما فعلت، وعلى علم بأحكام الشرع
ومصلحة المسلمين العامة، ولعله لم يصل إلى حكومة أنقرة إلا أسماء معدودة من
أفراد هذا الفريق لقلة من كتب في الجرائد منهم ، ولم يكتب أحد فيه ما كتبنا ، فقد
بلغت مقالاتنا في المنار وحده أن صارت مصنفًا حافلاً، فلم ندع للذين على رأينا
مجالاً واسعًا للكتابة فيه، وإلا فهم - ولله الحمد - كثيرون.
إلغاء الخلافة والمصالح الإسلامية الكبرى من الدولة:
لهذا كله اعتقد هؤلاء الكماليون أن العالم الإسلامي يؤيدهم في كل ما يعملون:
إما عن جهل ، وإما عن هوى وخضوع لسلطة القوي، وأن الفرصة سانحة لإتمام
تنفيذ برنامجهم باستسلام شعبهم الفقير المنهوك لهم، وتأييد العالم الإسلامي إياهم،
إلا من شذ من الأفراد الذين لا تُحْبِطُ العملَ مُعَارَضَتُهُمْ، بل أقول: إنهم أصبحوا لا
يبالون بالعالم الإسلامي رضي أم سخط ، إذا كان رضاه أو سخطه لا يؤثر في
الشعب التركي تأثيرًا يحمله على معارضة الحكومة ، وقد صرحوا بعدم مبالاتهم به
مطلقًا.
يقول بعض علماء الاجتماع والباحثين في أخلاق الأمم والشعوب: إن الترك
إذا ظفروا بطروا، وإذا غُلِبوا وخُذِلوا استكانوا واستخذوا، فإذا ربحوا في الحرب
يخسرون في الصلح.
فعلى هذا لا يكثر على الكماليين - وقد ربحوا في هذه المرة في الحرب والصلح
معاً - أن ينتفخوا عجبًا وغرورًا، وأن يطمع زعيمهم أن يفعل في الخلافة الإسلامية
فوق ما فعله نابليون الأول في البابوية، وأن يحدث في الشعب التركي أكبر مما
أحدثه بطرس الأكبر أو لينين وتروتسكي في الأمة الروسية، منتهزًا الفرصة
السانحة باضطراب الشرق والغرب من دوار الحرب، مغترًّا بظهور أفراد تمكنوا
بقوة العزيمة أن يتصرفوا بإرادتهم في أرقى أمم الغرب، آمنًا من كل مقاومة من
الداخل، محتقرًا كل معارضة من الخارج - بعد أن اغتيل أحد أعضاء الجمعية
الوطنية اغتيالاً خفيًّا لإظهاره الإنكار على ما تقرر من فصل الخلافة من الدولة -
وبعد أن قضي على الحركة التي ظهرت في الآستانة تجاه الخلافة الاسمية، بنصب
محاكم الاستقلال الممنوحة حق الحكم بالقتل على كل معارض للجمهورية، فسيق
إليها أكبر أصحاب الصحف ومحرريها وغيرهم من قادة الأفكار كلطفي بك نقيب
المحامين. وبعد أن اتهم أحد أركان الدولة الجديدة ورئيس وزارتها السابق رؤوف
بك بالخيانة لزيارته الخليفة عند إلمامه بالآستانة، فنوقش الحساب لدى إخوانه من
أعضاء الشعب في الجمعية الوطنية، حتى آل أمره إلى مغادرة البلاد إلى أوربة
بصفة اختيارية.
بعد هذا كله جمع حزب الشعب أعوانه وأنصاره للخطوة الثالثة، فأجمعوا
أمرهم وهم يمكرون، ووضعوا قرارهم وهم يأتمرون، وأعلنوا إلغاء الخلافة وطرد
الخليفة وعشيرته من المملكة، وإلغاء المصالح والأركان الكبرى للدين وهي التعليم
الديني والمحاكم الشرعية والأوقاف الإسلامية.
قد مهَّد مصطفى كمال باشا للفصل بين الحكومة الجمهورية والخلافة الإسلامية
بخطبة كتبها له الأستاذ سيد بك الأزميري ، الذي هو وكيل (وزير) العدلية
(الحقانية) في حكومته اليوم، كما مهدوا لإلغاء الخلافة بكتاب (خلافت
وحاكميت مليه) الذي لفقه لهم سيد بك هذا ، ونشروه في بلاد الترك وغيرها من
الأقطار الإسلامية على نفقة الحكومة التي طبعته ، ولم تكتب عليه اسم المؤلف ،
وتولت توزيعه (إدارة الاستخبارات التركية في أنقرة) .
وسيد بك هذا رجل عليم اللسان جريء الجنان ذكي الذهن ، اشتغل أولاً
بالعلوم الدينية ، ثم تعلم علم الحقوق وصار محاميًا في المحاكم العدلية ، ونزع
العمامة ثم انتخب مبعوثًا، واتفق أن التقيت به في الباخرة (إسماعيلية) من بواخر
الشركة الخديوية عندما جرت بنا من ميناء أزمير في رحلتي إلى الآستانة سنة
1923 ، وكنت كلما رأيته في الآستانة يسألني عما تم في مشروع الدعوة والإرشاد
مظهرًا الاهتمام به والرغبة في تنفيذه. ثم بلغني أن الاتحاديين استعملوه في وضع
ما يريدون من الصيغ والتوجيهات ، والتأويلات لما يريدون التصرف فيه من أمور
الشرع الإسلامي ، وأنه هو الذي وضع لهم (قانون العائلة) كما أنه هو الذي نقحه
للكماليين.
وقد رددت على خطبة مصطفى كمال باشا عند نشرها في أواخر المجلد
الثالث والعشرين (ج10 ص772 - 785) ، ثم رددت على كتاب (خلافت
وحاكميت ملية) في المجلد الرابع والعشرين (ص692) ، وسأعود إلى رد
شبهات أخرى لهم في الخلافة وفي مسائل التعليم الديني والمحاكم الشرعية والأوقاف.
ليس سيد بك وحده هو الذي يعمل للكماليين ما كان يعمل للاتحاديين ، بل أوى
إليهم سائر دعاة الانقلاب الديني ودعاة تحويل الترك عن القواعد الإسلامية إلى
القواعد التورانية والإفرنجية: كضياء كوك آلب صاحب ديوان الشعر الذي سموه
(قرآن الترك) وأحمد أغايف، ويوسف أقشورا، وآغا أوغلي أحمد، وحمد
الله صبحي وكذا جلال نوري، فهم الآن يتولون إدارة رحى الانقلاب الديني
والاجتماعي، ولهم من المكانة والحرية في الطعن في الإسلام والصد عن سبيل الله
وابتغائها عوجًا فوق ما كان لهم في عهد الاتحاديين.
وقلما يعرف لأحد من هؤلاء المفسدين نسب صحيح وعرق راسخ في الترك،
ولكن نعلم أن منهم من قذفته البلاد الروسية إلى عاصمة الترك لأجل هذه الأعمال.
وكل من قال للترك: إنني منكم. يعدونه منهم إذا كان يتكلم بلغتهم. وإنما عني
زعماء الاتحاديين فالكماليين بما أشرنا إليه من عمل هؤلاء لأجل سل الشعب
التركي من الإسلام ليكون الانقلاب بتغيير الأمة ما في أنفسها فيدوم. فإنهم علموا
أن ما وجد بقوة خارجية يزول بقوة مثلها معارضة لها وفاقًا لما بيناه في المقدمة
التمهيدية، وأما مراعاة شعور العالم الإسلامي فلا قيمة لها عند هؤلاء ، بل يظهر
لنا أنهم وازنوا بين ما لهم من الفائدة السياسية والمادية من عطف العالم الإسلامي
عليهم مع تقيدهم بالإسلام والخلافة التي تمثل حكومته أو هدايته، وبين فوائد
الانطلاق من هذا القيد ، فترجح عندهم هذا الانطلاق، وقد خطأهم في هذا الترجيح
العالم الإسلامي والعالم الأوربي ، كما علم مما نقلته البرقيات وصحف الأخبار من
آراء العاملين في إلغاء الخلافة، وإننا ننشر نموذجًا منها للاستدلال والاعتبار.
***
تأثير الانقلاب التركي في العالمين
لقد رجفت في الترك الراجفة، وتبعتها الرادفة، فإذا قلوب أهل الشرق واجفة،
وأبصارهم خاشعة، يقولون أئنا لمردودون في الحافرة؟ ذهبت خلافة النبوة،
فانقطع سلك الجامعة الإسلامية، وستبدها الحكومات الضعيفة أو المحمية بددًا،
ويفرقون بها المسلمين طرائق قددًا....
وإذا عيون أهل العرب شاخصة، وأذهانهم حائرة، يتساءلون عن النبأ العظيم،
متعجبين من تهوك الترك المغرورين، مراقبين لما يكون من أمرهم وأمر المسلمين.
لم تبق جريدة من جرائد الشرق والغرب للمسلمين أو الكتابيين أو الوثنيين إلا
وقد استكبرت هذا الخطب جدًّا، وعدته أمرًا إدًّا، وإن سر أقوامًا وساء آخرين،
ولكن كان أغرب أنبائه أنه أحدث هزة في جميع العالم إلا في البلاد التركية التي
فيها حدث وعنها صدر، وهذا دليل على إحداثه بقوة الجندية، وعلى فقد الحرية
من البلاد التركية، كما بيناه آنفًا، فنسبته إلى الشعب التركي باطلة؛ إذ لا يعقل أن
يتجرد شعب من الشعوب في أيام أو أعوام معدودات مما رسخ في نفسه مدة بضع
قرون من عقائد ونظم وأحكام وحكام، توارثت إجلالها الأجيال بعد الأجيال.
إن زعماء هذا الانقلاب يعترفون بأن أدنى شعوب أوربة أرقى من الشعب
التركي في علوم الحقوق وملكات الحكم الديمقراطي ، وفي الحرية بأنواعها ، ولذلك
يريدون بكل ما عملوا ويعملون اللحاق بالأوربيين في ذلك وفي ثمراته. ولا يزال
أكثر هذه الشعوب عددًا، وأرقاها أحكامًا ونظمًا، وأرسخها في الديمقراطية قدمًا،
راضية بأن يكون رئيس حكومتها عاهلاً وملكًا، وأن يكون حامي الإيمان ورئيس
الكنيسة فيها كالشعب الإنكليزي وكذا الشعب الألماني ، الذي فاقه في العلوم
والفنون، وإنما جمهوريته الحادثة عرض من أعراض الخذلان في الحرب، تحافظ
عليه الدولة الظافرة المسيطرة على هذا الشعب، ولم تكن هذه الدولة ولا تلك
كدولة آل عثمان فيما كان لها من النفوذ الديني والدنيوي، لو كانت ذات أمة تحسن
الانتفاع بهذا النفوذ، وتقيده بما شرعه الإسلام من الشورى وسيطرة أهل الحل
والعقد.
ليس من موضوعنا الإطالة في هذه المسألة ، ولا ننكر أن الحكم الإسلامي
أقرب إلى الجمهورية منه إلى الملكية المطلقة، وإنما موضوعنا تأثير الانقلاب
التركي في العالم، وإننا نذكر هنا بعض الشواهد على تأثيره في مصر، ونرجئ
الشواهد على تأثيره وآراء غير المصريين فيه إلى جزء آخر.
***
رأي المصريين في الانقلاب التركي
أرسل أفراد كثيرون وجماعات كثيرة برقيات إلى مصطفى كمال باشا يصفونه
فيها بضد ما كانوا وصفوه عند الصدمة الأولى ، التي لم يفقهوا المراد منها، فقد
وصفوه الآن بالكفر والإلحاد، وعداوة الإسلام والظلم والطغيان، وقد نصح له
بعضهم بوجوب الرجوع عن غيه وضلاله، وهدده آخرون بما هو جدير بأن
يضحك منه، وكتب كثيرون مقالات في جميع الصحف نختار منها هنا بعض ما
كتبه أشد كتاب المصريين المشهورين تأييدًا للترك ومبالغة في الدعوة إليهم والدفاع
عنهم: الأستاذ الشيخ عبد العزيز شاويش - وقد صار أوسعهم بهم علمًا - والأستاذ
أمين بك الرافعي والأستاذ محمد شاكر.
رأي الشيخ شاويش في كمال والكماليين والاتحاديين:
مما كتبه في جريدة الأخبار ثلاث مقالات عنوانها (القنبلة الكمالية) ، افتتح
المقالة الأولى وقد نشرت في عدد الأخبار الذي صدر في 3 رجب الموافق 6 مارس
بوصف ما ناله مصطفى كمال باشا من الشهرة والعظمة الإسلامية والعسكرية
والسياسية ، بحيث لو مات أو اعتزل شؤون الدولة بعد ختام مؤتمر الصلح؛ لكان
له مقام لا يبلغه زعيم في التاريخ - وهذا رأي قد شارك الشيخ فيه كثير من
المفكرين ثم قال ما نصه:
(لقد كان يمكن أن يكتفي مصطفى كمال في مسألة الخلافة بالنحو الوسط
الذي كان قائمًا لعهد جلالة الخليفة عبد المجيد ، ذلك الحل الذي منع الخليفة من
التدخل والاتصال بأمر الدولة التركية السياسي ، والذي لم يحدث من الخليفة ولا من
أسرة البيت العثماني ما يدعو إلى تغييره بله محوه.
خرج الخاقان السابق وحيد الدين على النحو المعروف فكتب الغازي إلى ولي
العهد عبد المجيد خان يقترح بيعته بالخلافة، على شريطة ألا يمس شؤون الدولة
السياسية ، فلم يلبث عبد المجيد أن قبل البيعة على هذا الشرط ، وظل صادقًا لوعده
موفيًا لعهده. حتى لقد أكد الخليفة لي ذات يوم أنه قطع على نفسه ألا يفكر في شيء
من أمور تركيا وأن كل همه أن ينقطع لخدمة الإسلام. ولقد أعرب لي عن
ضرورة إيجاد مجلس للخلافة ، تمثل فيه الشعوب الإسلامية؛ ليتمكن بذلك من
إصلاح شؤون المسلمين وترقيتهم ومحاربة البدع والخرافات والضلالات التي
وجدت سبيلها بينهم، وأذهبت ريحهم.
كان يذكر جلالة الخليفة ذلك وهو مطمئن القلب ، لا يحلم بما كمن له وراء
آكام أنقرة ، فالخليفة كما أعلم يقينًا لم يدر بخلده أن يكيد للجمهورية ، ولا أن
يشخص ببصره إلى التدخل في شيء من أمورها ، ولكن أبى الله لحكمة يعلمها إلا
أن يتقدم الغازي بما قرره اليوم فيصيب كبد الإسلام بتلك القنبلة القتالة ، ويزلزل
صرح الوحدة الإسلامية ذلك الزلزال الشديد.
لقد طمح الغازي ذات يوم أن يكون الخليفة كما علمت عند هبوطي أنقرة ، فلم
يمنعه من ذلك سوى خشيته أن يحدث اضطراب داخلي يهدد المملكة قبل تمام
الصلح ، لما يعلمه من فرط تعلق الأمة التركية بالبيت العثماني وبالخلافة الإسلامية
فهل تبدلت اليوم ميول الأمة التركية وعواطفها إزاء خليفتها والبيت الذي أورثها هذا
الملك العظيم؟ إن الغازي يعلم - فيما أعتقد - أن خطوته التي خطاها محفوفة
بالأخطار في الداخل. وهذا يفسر لنا ما نشرته التلغرافات العمومية الخصوصية،
من أنه قرر تكثير محاكم الاستقلال ومنحها حتى الحكم بالقتل ، وامتدادها حتى فوق
ضفتي البسفور. ولكن هل يغني حذر من قدر؟! إن الأمة التركية - فيما نعلم -
أمة مسلمة ومحاربة ، وإذا اعتمد الغازي على بعض اللادينيين ممن حوله فإن في
الضباط من لا يزالون يعتصمون بالإسلام ، وينقشون على (قلابقهم) كلمة
(يا غازي يا شهيد [1] ) .
إن الذين يزينون لمصطفى ما فعل إنما هم فئة التتار التي دستها روسيا
القيصرية بين الترك لا لغرض سوى القضاء عليهم، وإفساد أمرهم وقطع ما
يصلهم بالمسلمين.
ذلك النفر من التتار لم يترب تربية إسلامية قط ، ولا أثر للروح الإسلامية في
أفئدتهم ، ولكنهم مسلمون منبتًا وروسيون روحًا.
جاء هؤلاء المفسدون إلى الآستانة قبل الدستور العثماني ، فزينوا للاتحاديين
مسألة العنصرية والتباعد عن الإسلام.
وسوسوا للاتحاديين أن سبب تألب أوربة على تركية إنما هو الإسلام وقيام
الخلافة فيها ، ثم أخذوا يزينون لهم أن تعتبر غير البلاد التركية من الإمبراطورية
العثمانية مستعمرات محكومة، وأن يكون للعنصر التركي وحده حق الحكم غير
مشارك. ساقوهم إلى الطورانية، وزينوا لهم أن ذلك يمكنهم من ضم عشرات
الملايين من الأتراك القاطنين في آذربيجان والتركستان إليهم.
كما استدرجوهم إلى محاربة اللغة العربية بعد إذ صارت نحو 70% من اللغة
العثمانية ، وإلى استبدال الحروف اللاطينية بالحروف العربية، مع أن اللغة التركية
لم تكتب - فيما نعلم - بغير الحروف العربية منذ دخل الترك في الإسلام.
لم يقف وسواس تلك الطائفة وإفسادها للأمة العثمانية عند هذا الحد ، بل
خاضوا في الشريعة ومسألة المرأة ، وجرؤوا الترك على الفساد وإعلان الإلحاد.
ولما لها من سعة الاطلاع والدرس ، استطاعت أن تسوق ذوي الرأي من الترك ،
وجلهم قليل التحصيل محدود الدراسة ، لم تثقفه التربية ، ولم تنضجه التجارب ، ولم
تفقهه بأمر الدين أو التاريخ مدرسة ولا كتاب.
ولقد كادت تنجح تلك الفئة الضالة في زمن الاتحاديين لولا وجود المرحومين
البرنس سعيد حليم وأنور باشا ، فإن امتلاء قلوب هذين الرجلين بالإسلام ووفرة
محصولهما التاريخي ، ويقينهما أن سلامة تركية لا تتحقق إلا بارتباطها بالعالم
الإسلامي ، وأن عظمتها لا تقوم إلا على دعائم الخلافة ، كل ذلك حمل هذين
الرجلين العظيمين على القيام في وجه أولئك الهادمين ومن حذا حذوهم من الترك
الغافلين، ولكن - ذهب الناس وبقي النسناس - فقد حرمت المملكة العثمانية
المصلحين المفكرين ، وخلا الجو لذلك النفر من التتار المارقين، فما لبثوا أن
بطشوا بيد مصطفى بطشتهم بالإسلام وبتركية جميعًا. (ثم قال بعد كلام في تعظيم
وقع الخطب وخطره على المسلمين) .
(أما تركية فقد مادت بها أنقرة ميدًا هدم أركان عظمتها وهبط بها في
الدول السياسية إلى ما دون منزلة بلغاريا. فلقد كانت معدودة من الإمبراطوريات لا
بواقعة سقاريا ولا بخرائب أنقرة ، ولكن بقيام مقام الخلافة في ربوعها - ذلك المقام
الذي ملك الترك القلوب والأبصار من ثلاثمائة مليون من المسلمين - ذلك المقام الذي
جعل مسلمي الأرض يدخلون في الإمبراطورية التركية ، ويدعون سليمًا وغير سليم
لاستلحاق ممالكهم راغبين، فلم يكن يجد هؤلاء في آسيا وإفريقيا الشمالية ما
يضطرهم إلى امتشاق الحسام وسوق الفيالق ، بل كانوا يدعون إلى دخولها كما
يدعى الأخ إلى منزل أخيه، ولولا ما كان لبعض أمراء تلك البلاد من المقاومات
التي لم يؤيدها شعوبهم؛ ما وجد الترك في صدر دولتهم - ببركة الخلافة - عقبة ما
في نشر رواق سلطانهم على تلك الممالك.
فقدت تركية اليوم ذلك المقام (مقام الخلافة) ، ففقدت بفقده تلك الرابطة
القدسية التي كانت سياجًا لها في أحرج أوقاتها ، فهل تستطيع جمهورية مصطفى
كمال اليوم - وهي ذات خمسة ملايين من النفوس - أن تحمي نفسها أمام
مطامع الطامعين بعد إذ حرمت عطف العالم الإسلامي؟) اهـ.
ثم ختم المقال بتهديد الكماليين بانفصال الكرد عنهم ، وتألب العنصر التركي
عليهم ، وتهديد تركية بالتردي في الحفرة التي حفرها لها سادتها وكبراؤها.
***
القنبلة
رواية الشيخ شاويش عن مصطفى كمال:
ومما قاله في المقالة الثانية التي نشرت في الأخبار بتاريخ 3 شعبان الموافق
9 مارس:
(هبطت أرض أنقرة في السابع عشر من شهر ديسمبر سنة 1922 ، وبعد
بضعة أيام ذهبت مع صديق لي من الوزراء إلى دار المجلس الوطني الكبير؛
لزيارة مصطفى كمال باشا ، وقد كنت عاهدت نفسي ألا أتكلم معه في أمر الخلافة ،
لما اتصل بي من نيته تجاه البيت الشاهاني قبل ذلك بأيام؛ أي: يوم هبطت
مدينة أزمير ، ولكن لم نكد نأخذ مجلسنا في حضرته حتى استقبلني بهذا السؤال. ما
رأيك يا فلان في أمر الخلافة وفصلها عن سياسة الدولة؟ فاستقلته الجواب معتذرًا بأن
في المجلس الوطني الكبير من العلماء وذوي الرأي ما يغنونه عن رأيي ، ولكنه أصر
علي إلا أن أبسط له ما لدي من الرأي ، ولقد علمت من بعد أنه ما كان يريد
من استفتائي الوقوف على ما حف به ذلك الأمر الخطير من المحاذير والأخطار ،
أو العلم بما جاء في الشريعة من أحكام الخلافة والخلفاء ، ولكن كان كل همه أن
يسبر غوري ، ويعرف مجرى فكري ، ولذلك ألح في سؤالي وأبى إلا أن أصارحه
برأيي ، فلما لم أجد بدًّا من القول أجبته أنه (ليس في الإسلام خلافة بلا قوة ،
كما أنه ليس في الإسلام خلافة مستبدة) أجبته بهذه العجالة الوجيزة وكنت أرجو
أن يجد فيها من المعاني والمغازي ما يصدفه عن الاسترسال في المساءلة ،
ولكنه عاد فسألني: إذن بم تفسر ما فعله عبد الحميد وغيره من الخلفاء العثمانيين؟
وإلام تعزو ما أصابوا به الدولة من النكبات والأرزاء؟ أليس أولئك الخلفاء هم
الذين كانوا مصدر شقائنا وبلائنا؟ أو ليسوا هم الذين ساقونا إلى تلك الحرب
الطاحنة ، وضاعفوا مصابنا بما أصدروا من فتوى الجهاد وأمثالها؟ فلما فرغ من
أسئلته هذه قلت: إن الخلفاء الذين قاموا في السنوات الدستورية لم تطلق أيديهم في
تدبير البلاد ، ولا كانوا مستبدين بأمرهم ، بل كانت تجري الأمور في المملكة لا
يحيطون بها علمًا. وكلنا يعلم كيف تقرر إعلان الجهاد ، وكيف كانت حادثة البحر
الأسود التي انتهت بإعلان الحرب ، وكيف جرد المرحوم السلطان محمد الخامس
من القوة ، حتى لقد رأينا الدكتور ناظم بك أحد أركان الاتحاديين يذهب إلى سراي
الخليفة عام 1916؛ لينقص أعطية من فيها من الرجال والنساء ، ويفرض لهم من
الرزق مثل ما كانوا يفرضون للعامة والآفاقيين، على أنه إذا كان لهؤلاء الخلفاء
في زمن الدستور شيء من الامتيازات القانونية، فما ذلك إلا لكون الدستور جعلهم
خلفاء على الأصول الرومانية، لا خلفاء وفق الشريعة الإسلامية.
فلما بلغت هذه العبارة تخلّجتْ عينَا الباشا ، وأخذه ما يأخذ المستفسر العجل
من الحركات المضطربة ، وسألني متخازرًا: وكيف ذلك؟
قلت: ذلك أن الإسلام أنكر الفروق الطائفية وامتياز الطبقات والأفراد بعضها
على بعض في الأحكام والتكاليف الشرعية ، بل أقام سائر العوالم البشرية في
مستوى من تكاليفه تتحاذى فيه الأقدام والرؤوس ، فلا يمتاز في أحكام دين الإسلام
رجل عن امرأة ، ولا أمير عن سوقة ، ولا فقيه عن غيره ، بل كلهم خاضعون
للقانون السماوي] ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجز به. ولا
يجد له [2] من دون الله وليًّا ولا نصيرًا [بذلك سوى الإسلام بين الرعاة والرعايا
في سائر الأحكام والتكاليف ، فقضى بمجازاة من يعتدون حدود الله بلا تفرقة ولا
تفاوت، فإذا أصاب أمير أو سلطان أو خليفة أي فرد بأذى؛ كان عليه من الجزاء
مثل ما على غيره من عامة الناس، سواء كان ذلك الأذى عدوانًا على نفس أو
جارحة أو عرض أو مال. فليس في دين الإسلام فوق الشرائع والأحكام أمير ولا
خليفة ولا سلطان، ولكن تركية التي قلدت أوربا اقتبست من القوانين الرومانية
قاعدة أن الخلفاء فوق القانون والشرائع ، فأصبح الخلفاء بهذا خلفاء رومانيين لا
خلفاء إسلاميين، ولو عقل رجال النهضة الدستورية إذ ذاك؛ لأدركوا ذلك الفرق
البعيد بين دين يقول: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (الأنبياء: 23) ويقول:
{إِنِ الحُكْمُ إِلَاّ لِلَّهِ يَقُصُّ الحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الفَاصِلِينَ} (الأنعام: 57) ويقول:
(كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) وبين شرائع قامت في أقوام ، كانت
تعبد الملوك والبراطرة ، وتعدهم مصدر الاشتراع والحكم ، فرفعتهم إلى مستوى
الإله الحق الذي هو وحده يحكم لا معقب لحكمه.
أوجب دين الإسلام طاعة أولي الأمر ولكن على شريطة ألا يأمروا بما يخالف
أوامر الخالق، ثم أبان لنا أنه إذا وقع تنازع بين الراعي والرعية؛ وجب أن
يتحاكموا إلى كتاب الله وسنة رسوله ، فلم يبح لأحد مهما بلغ سلطانه وصولته أن
يحكم الناس بما تهواه نفسه وتستطيعه شهوته ، حتى لقد أجاز للناس الخروج على
غير العدول الذين لا يقفون عند حدود الله من السلاطين والأمراء مبيحًا لأولي
الأمر مقاتلتهم، بل وقتلهم ، ولقد قتلت طائفة من المسلمين اجتهادًا منهم الخليفة عثمان
ابن عفان ومنزلته من الدين وبلاؤه في نصرة الرسول ما نعلم. وكذلك ألزم الناس
علي بن أبي طالب أن يقبل التحكيم عندما رفعت المصاحف على أسنَّة الرماح ،
وطلب خصومه التحاكم إلى كتاب الله ، فلم يسعه - وهو يعلم أن ذلك خدعة
منهم دبروها لبلوغ حاجاتهم - لم يسعه إلا أن ينزل على ما طلبوا من الرجوع إلى
كتاب الله؛ ليفصل فيما شجر بينهم ، ولم يغنه أن كان خليفة الرسول ، وزوج
ابنته ، وصاحب الحق في ذلك المقام.
(وبينا نحن كذلك دخل علينا أحد النواب فقال: يا حضرة الباشا إن أعضاء
المجلس قد اختلفوا أمن قيام يقرأ تلغراف الخليفة الذي أرسله بقبول بيعته أم من
جلوس؟ فسأله الباشا: وكم القائلون بالقيام؟ قال النائب: فوق الثمانين. فما لبث
مصطفى أن أقبل علي وقد قطّب غضبًا يسألني: أحكومة شعب هذه التي تريد
قراءة تلغراف الخليفة من قيام؟ فأجبته: (إنه ليس في الشريعة يا حضرة
الغازي ما يوجب القيام ولا يمنعه ، وإنما يرجع في أمثال هذه الحالة إلى ما يجري به
العرف والعادة في الناس. وهنا أحس مصطفى باشا عين ما أحسست أننا لا نتفق
أصلاً. فهَمَّ بالوقوف إيذانًا بالانصراف ، فخرجت من عنده وأنا أذكر ما قصه علي
صديق لي في برلين خلال الحرب الكبرى أيام كان مصطفى باشا ياورًا لولي
العهد إذ ذاك وحيد الدين أفندي؛ إذ قال له: إن الاتحاديين دعوني ذات يوم للدفاع عن
جبهة العراق فأجبتهم إلى ذلك وكنت أضمر أن أستقل بالعراق ، إذا ما أمكنوني من
السلاح والأموال الكافية. قال: ولكنهم - فيما أظن - شعروا بذلك يوم عرضت
عليهم مطالبي. فإنهم بعد إذ تدبروها أعرضوا عن تعييني في ذلك الميدان ،
واستبدلوا بي غيري. فهم الغازي مما دار بيننا كنه رأيي وفكري ، ولكنه لم يكتف
بذلك ، فلقد أوعز إلى فرقته في المجلس أن تدعوني ذات يوم للاستفتاء
رسميًّا. فجاءني كتاب من أحد أعضاء هذه الفرقة جلال نوري بك لأكون بمركزها في
يوم 2 يناير سنة 1923 ، وهنالك جرى ما سأقصه على العالم الإسلامي فيما
يلي، مما يتبين منه جليًّا أن سبب شقاء الترك وتأخرهم لم يكن دين الإسلام ، ولا
قيام الخلافة في ديارهم كما يزين لهم التتار الواغلون ويتوهمه الرهط المارقون،
ولكنها الأمراض الاجتماعية والجهالة الفاشية الفاعلة فيهم ما تعجز عنه الأوبئة
القتالة مما سنأتي بعد على شيء من تفصيله.
…
...
…
...
…
...
…
عبد العزيز جاويش
(المنار)
إنما بدأنا بإيراد بعض ما كتبه هذا الأستاذ لثلاث:
(1)
إنه كتب عن علم وخبرة؛ لأنه عاشر كبار الاتحاديين ، وخدمهم بضع
سنين في عاصمة الدولة خدمة سياسية ، ثم خدم الكماليين وأحاط خبرًا بنشأتهم وكنه
حالهم.
(2)
إنه غير متهم في انتقاد هؤلاء ولا أولئك؛ لأن كلاًّ منهما أكرم مثواه ،
وقلده أعمالاً عظيمة كان يأخذ عليها راتبًا كبيرًا.
(3)
العبرة بما كان من الخلاف بيننا وبينه في الاتحاديين في المسألتين
الإسلامية والجنسية ، فإننا قد سبقناه إلى معرفة كنه حالهم وما يكيدون للإسلام ، وما
يسيئون به إلى الأمة العربية المشاركة لهم في الجنسية العثمانية السياسية ، وكتبنا
في ذلك منتقدين وناصحين ، فأنكر ذلك علينا الأستاذ الشيخ عبد العزيز شاويش ،
وأساء فينا الظن بقدر ما كان يحسنه في الاتحاديين ، ورد علينا وطعن فينا، بل كان
خصمًا لكل العرب المستائين من معاملة الاتحاديين، وعونًا لهؤلاء عليهم. ثم ظهر له
أنهم شر مما كنا نقول فيهم. وأكبر وجوه العبرة في هذه المسألة ما نبهت عليه من
قبل ، وهو أننا - معشر العرب أو المسلمين أو الشرقيين - لا نزال بعداء عن
العمل المنظم المشترك؛ إذ لا يكاد أحد منا يهتم بأن يبني عمله في خدمة أمته على
اختبار من سبقه من قومه في تمحيص بعض الأمور، بل يعمل كل متصد
للعمل عملاً مستأنفًا ، فإذا دمنا على هذا فلا يمكن أن نتقن عملاً ولا أن نرتقي فيه؛
إذ لا يمكن لكل فرد منا أن يحيط علمًا واختبارًا بكل شيء بنفسه، ولو استفاد
المصريون والهنود من اختبارنا السابق ، واختبار الشيخ شاويش اللاحق لما
رأيتهم اليوم يطمعون في تحويل مصطفى كمال عن رأيه في الخلافة والدين والدولة.
***
ما هذه العاصفة الهوجاء
أول مقالة للأستاذ الشيخ محمد شاكر في الانقلاب نشرها في المقطم
خليفة يخلع، وخلافة تلغى، وأموال تصادر، وأوقاف تضم إلى أملاك الدولة
وتعليم ديني يمحى، ومحاكم شرعية تغلق، وأسرة عثمانية تطرد من آفاق البلاد،
وتحرم حتى من جنسيتها التركية، فما هذه العاصفة الهوجاء؟ عاصفة الجنون التي
تهب على العالم في مشارق الأرض ومغاربها ، من عاصمة الجمهورية التركية
بقرارات الجمعية الوطنية في أنقرة كما تقول جريدة الجورنال الباريسية.
رحم الله زمانًا كنا نعطف فيه على هذه الفئة إبان تمردها على السلطنة
العثمانية ، وهي تجالد مجالدة الأبطال؛ لطرد الأعداء من الأناضول، وزحزحة
الحلفاء عن دار الخلافة. والله يشهد أن الذي حدا بنا إلى العطف على هؤلاء
المتمردين ، إنما هو الإشفاق على الخلافة العظمى أن تمتد إليها يد المهانة
والاستذلال. وهي البقية الباقية من مجد الإسلام ، وعهد النبوة الأولى ، وهي
العزاء الوحيد الذي كنا نتعزى به في نكبات الأيام وصروف الليالي {فَهَلْ عَسَيْتُمْ
إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} (محمد: 22) {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى
الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46) .
عاصفة جنون هذه التصرفات التي بها دمر المجلس الوطني في عاصمة
الجمهورية التركية مجد السلطنة العثمانية ، حتى جردها من تاج الخلافة العظمى
وقد احتملته رؤوس العظماء من آل عثمان أكثر من أربعة قرون.
عاصفة جنون هذه التصرفات التي ألغى بها المجلس الوطني نظامًا كان ولا
يزال من مقومات العالم الإسلامي في تكوينه الحيوي. وأنى لهؤلاء المتمردين على
النظام الديني أن يقتطعوا من مقومات الحياة الإسلامية نظام الخلافة فيقرروا إلغاءه.
حقًّا إن التمرد إذا انتهى بالبطولة استحال إلى العبث بكل نظام يعترضه في
طريقه. فالأبطال من المتمردين ينقلبون مدمرين ، إذا لم تقلم أظفارهم هيمنة الأمم والشعوب بقوتها القاهرة. وسوف يرى هؤلاء المدمرون من المتمردين
كيف تقلم الأمم الإسلامية أظافرهم، وكيف يرتدون على أعقابهم خاسرين
أمام العالم الإسلامي حتى من الشعب التركي نفسه {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا
السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ العَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} (النحل: 45-47) . {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَاّ القَوْمُ الخَاسِرُونَ} (الأعراف: 99) .
عجيب أمر هؤلاء الذين تسللوا في جنح الظلام إلى كهوف الأناضول ، وظلوا
يهتفون باسم الإسلام ، حتى حازوا فخار النصر. كيف ارتدوا على أدبارهم ،
يحاربون الإسلام بأسوأ أداة ملكتها أيديهم في أعز عزيز على العالم الإسلامي وهو
نظام الخلافة؟
ما كانت الخلافة يومًا ما نظامًا قوميًّا ، تتقاذفه أيدي المتسلطين في الجمعيات
الوطنية ، حتى يتسنى لزعماء الجمهورية التركية أن يقرروا إلغاءه.
إنما الخلافة نظام ديني عام لا يحل لرجل يؤمن بالله ورسوله أن يتخلى عن
الاندماج في دائرته المرنة. كذلك كان نظام الخلافة منذ تولاها أمير المؤمنين أبو
بكر الصديق رضي الله عنه وهو أول خليفة بعد رسول الله صلى الله عليه
وسلم. إلى أن تقلدها بالبيعة العامة أمير المؤمنين عبد المجيد بن عبد العزيز {فَمَنْ
نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (الفتح: 10) .
ماذا تركته حكومة الجمهورية التركية من التقاليد الإسلامية لم تنقضه رأسًا على
عقب بعد خلع الخليفة وإلغاء الخلافة ، وهي تضم أوقاف المسلمين إلى أملاك الدولة
وتقرر إلغاء المحاكم الشرعية ، وإغلاق معاهد التعليم الديني ، وتضع للنظام العائلي
قانونًا يهدم أصول الشريعة الإسلامية في كثير من أحكامه ، ويذهب بتلك الفضائل
والآداب التي أفاضها الإسلام على المستمسكين بعروته الوثقى والمستعصمين في
حرز صيانته الحصين؟! {مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ المُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِياً مُّرْشِدًا} (الكهف: 17) .
عاصفة جنون هذه التي هبت على العالم الإسلامي من عاصمة الجمهورية
التركية في نظامه الدولي، ونظامه الحكومي، ونظامه العائلي. ولكنها ستنقشع
بتوفيق الله ، وحكمة عظماء الإسلام وقادته المحنكين في مشارق الأرض ومغاربها
{فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ
يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ
وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (المائدة: 54) .
…
...
…
...
…
...
…
...
…
محمد شاكر
…
...
…
...
…
...
…
... وكيل الجامع الأزهر سابقًا
***
كلمة الأستاذ أمين بك الرافعي
(من مقالة له في جريدة الأخبار بتاريخ 29 رجب الماضي)
يعمل الكماليون بسرعة على تنفيذ قرارهم الطائش بإلغاء الخلافة وعزل
الخليفة، وقد استعملوا في أقوالهم عبارات تدل على غرورهم وجهلهم بعاقبة ما
ارتكبوه ضد الإسلام والمسلمين. فعصمت باشا يزعم في خطبته التي نقلت إلينا
التلغرافات خلاصتها ونشرناها في باب التلغرافات: أن العالم الإسلامي لم يصادق
تركيا إلا لأنها قوية، لا لأنها دولة الخلافة. فهل بعد ذلك جهل وغرور؟!
وقد ذهبوا إلى جلالة الخليفة في ساعة متأخرة من الليل ، وأمروه بالجلوس
فوق العرش ، وبعد أن تلوا عليه قرار العزل أنزلوه وساروا به في سيارة إلى
الحدود، ومنها إلى سويسرا. فعلوا به ذلك في جنح الظلام؛ لأنهم يعلمون أنهم
يرتكبون جريمة شنيعة ، ومن أجل ذلك تراهم أيضًا يعقدون محاكم التفتيش في
جميع أنحاء البلاد ، ويخولونها سلطة الحكم بالإعدام؛ ليملؤوا النفوس إرهابًا حتى
لا تثور على قرارهم.
ولكن هل مثل هذه التدابير الإرهابية تحول دون إظهار الاستياء العام من
فعلتهم القبيحة؟
وبهذه المناسبة لا نرى بُدًّا من توجيه نظر علمائنا الأفاضل إلى ضرورة
قيامهم بواجبهم الديني في هذه الحادثة الخطيرة. فقد سبق لهم أن أعلنوا بيعتهم
لجلالة الخليفة ، ولما كانت البيعة قائمة بالرغم من قرار أولئك الملحدين الخارجين
على الإسلام ، فيجب على العلماء أن يعلنوا ذلك في اجتماع كبير يعقدونه ،
ويبرقون بقراراته إلى حكومة أنقرة؛ لتعلم أن العالم الإسلامي ساخط على أعمالها
المنكرة.
كما نرجو من علمائنا أن يدعوا جلالة الخليفة للحضور إلى مصر ليعيش
وأسرته في بلد إسلامي ، ويكون متصلاً بالمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؛
لأن فكرة إبعاده إلى سويسرا لا يقصد منها سوى الحيلولة بينه وبين المسلمين.
وبالجملة! فإن على علماء المسلمين في الظرف العصيب الذي يجتازه الإسلام
الآن فروضًا مقدمة ، يجب عليهم أن يقوموا بها بلا توان ولا تردد لدرء الخطر
الذي يتهدد الإسلام والمسلمين.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... أمين الرافعي
_________
(1)
المنار: يا في التركية كإما العربية، والغازي المجاهد الذي يظفر في القتال في سبيل الله والمعنى: أطلب إما شرف لقب الغازي وإما شرف الشهيد وثوابه، وهذا مأخوذ من أمر الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يخاطب الكفار بقوله:[هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين] أي: الخصلتين والعاقبتين التين تفضلان كل ما سواهما وهما النصر أو الشهاد - والقلبق كمة توضع على الرأس.
(2)
وفي جريدة الأخبار (ولن تجد له) وهو غلط.
الكاتب: محمد رشيد رضا
رسالة ملك الحجاز إلى الأمة البريطانية
لما أراد ملك الحجاز زيارة شرقي الأردن من أطراف البلاد السورية؛ قدم بين
رحلته هذه الرسالة متوهمًا أن يكون حاملاً للحكومة الإنكليزية على العطف عليه بما
يتقرب به إلى أهل فلسطين وينال موافقتهم على المعاهدة العربية، فجاءت هذه
الرسالة حجة لنا عليه وعلى أنصاره، ولو كانوا منصفين أو مخلصين لقلنا: (أقر
الخصم وارتفع النزاع) ولكن كم أقر الخصم قبل هذا بما كان حجة لنا في سائر ما
انتقدنا عليه ، ولم يرتفع النزاع بيننا وبين الغارين والمغرورين من أنصاره ، وأما
المخلصون فهم يرجعون إلينا آنا بعد آن (والعاقبة للمتقين) وقد نشرت الرسالة في
جرائد لندن فرد عليها (اللورد رجلان) بمقالة شديدة اللهجة في إهانة ملك الحجاز
وأولاده الملوك والأمراء خلاصتها أنهم كانوا أجراء للدولة البريطانية ووفتهم
أجورهم بأكثر مما يستحقه عملهم؛ إذ جعلت حسينًا ملكًا للحجاز وفيصلاً ملكًا في
العراق وعبد الله أميرًا في شرق الأردن
…
وإننا ننقل ترجمة الرسالة بالعربية عن
المقطم وهذا نصها:
تلغراف خصوصي للمقطم
لندن الإثنين في 31 ديسمبر الساعة 9 صباحًا
تلقت الصحف الكبرى بلندن نداءً بالإنكليزية من جلالة ملك الحجاز ، وجه
فيه الخطاب إلى الأمة البريطانية ، وقد أرسلت نسخ منه إلى أعضاء مجلس الأعيان
وغيرهم من الكبراء وأصحاب الكلمة النافذة ، فرأيت أن أرسل إليكم صورته كما
تلقيناه وهو:
***
إلى الأمة البريطانية الكريمة
من الحسين بن علي
بناءً على ما اشتهر به الشعب البريطاني الكريم من الثبات والنزاهة وهي
الصفات المعروفة لي شخصيًّا ، رأيت أن أعرض على ضميره الصادق ، وحكمه
السليم آرائي في الحيف الذي أصاب قومي العرب في بلدانهم المختلفة.
لقد لبيت دعوة حكومة جلالة الملك؛ لأني كنت أعتقد أن في دعوتها منافع
مادية وأدبية متبادلة ، وهو اعتقاد أعترف بأن الحكومة البريطانية كانت تشاطرني
إياه.
ولم تكن لتلبيتي لهذه الدعوة تنافر ما مع شيء من العواطف القومية أو الدينية،
بدليل ما جاء في منشوراتي الرسمية العديدة ، فنهضت مع شعبي بعد نيل ضمانات
تضمن مصالحهم ومستقبلهم ، وخضت معهم غمار القتال جنبًا إلى جنب ، وكنت
وطيد الإيقان بأننا نحارب في جانب شرف الأمة البريطانية كلها ، لا بجانب أفراد
تفصم العرى التي تربطنا زوالهم، ومثل لعيني شرف الأمة البريطانية وشهامتها
وعظمتها ، فأقدمت على خوض القتال وأنا ممتلئ ثقة ، في حين كانت فيه كفة
الخصم راجحة في كوت الإمارة والقنال والدردنيل وجميع ساحات الحرب في
أوربا ، وواصلت اشتراكي وشعبي إلى النهاية وإلى أن تقشعت السحب السوداء
الملبدة ، التي كانت تنذر بحرب دينية في الشرق ، تكون بعيدة المدى والعواقب،
وضربت المثل الأعلى للعالم في سعة الصدر والتسامح والدفاع عن المبادئ السامية،
فلبى العرب دعوتي في العراق وفلسطين وسورية.
وكان بيدي وثائق الساسة المسؤولين وتصريحاتهم الرسمية والخصوصية التي
فاهوا بها على رؤوس الأشهاد، وكلها مجمع على أن العرب سيفوزون بوحدتهم
واستقلالهم مكافأة على ولائهم، وأن مصائبهم ومحنهم ستزول. وقد وضعوا أقصى
ثقتهم وآمالهم - بعد الله - في شرف الأمة البريطانية. ومما يشهد بذلك ويثبته أيضًا
أنهم أبوا صلحًا منفردًا ، يعقد مع العدو الذي عرض عليهم أن ينيلهم استقلالهم،
وقطع لهم المواثيق الرسمية والضمانات المؤكدة؛ وذلك لأن العدو أخذ يشعر
بتأثير الصدمة الشديدة الأدبي والمادي من جراء قتال العرب في جانب بريطانيا
العظمى وحلفائها.
وكان من نتائج هذا الولاء والوفاء تلغراف رسمي ورد من وزير الخارجية
البريطانية يؤكد به وحدة العرب واستقلالهم ، وتصميم الحلفاء على تحقيقهما، وأنه
يستحيل أن يعقدوا صلحًا إلا إذا نص في شروطه الأساسية على حرية شعوبنا
واستقلال بلدانهم، وقد أرسل هذا التلغراف باسم حكومة جلالة الملك البريطانية
وأبلغنيه المعتمد البريطاني في جدة يوم 8 فبراير 1918.
فلهذه الأسباب ألفت نظر الأمة البريطانية إلى ما حل بحلفائها العرب ، الذين
لا يزالون يعدون أنفسهم حلفاءها على قلة ما في العالم من الحلفاء الحقيقيين اليوم
فقد مزقت وحدتهم وقطعت أوصالها، وتفككت بلدانهم وصارت محتلة، وأخذ العالم
الإسلامي خاصة والسواد الأعظم من قومي يرميانني بتهمة أني بعت بلدانهم
لبريطانيا العظمى وحلفائها ، وهي تهمة تكفي لتلطيخ كرامة بيتي وتسويد تاريخه.
وصمة لا يصبر عليها حتى الذين تجردوا من كل معاني الشرف وكرم الشيم [1] ،
ولا أعرف أن العرب ارتكبوا ما يستحقون أن يعاملوا لأجله هذه المعاملة إلا ثقتهم
المطلقة ببريطانيا العظمى ، ووفاؤهم لها إن صح أن يعد هذا جناية حقيقية [2] .
فالعرب المدفوعون بآخر شرارة في جوانحهم من الوفاء لحليفتهم العظيمة،
وبما فطر عليه جنسهم من عرفان الجميل والوفاء بالعهود، يرغبون إليَّ أن أبلغ
الشعب البريطاني أنهم لا يبغون بهذه الأقوال أن يباهوا بفعلهم ، أو يمنوا بمساعدتهم
أو ينكروا على بريطانيا العظمى حقها في ضمان مصالح شعبها ، أو يعارضوا في
صدق وطنية الأمة البريطانية، ولكنهم يرون من الإنصاف أن لا تنحصر هذه
الصفات فيها بل أن تكون في سواها أيضًا، وقد جاء في الحديث النبوي الشريف
(حب الوطن من الإيمان)[3] فالعرب - والحالة هذه - حائرون كيف يوفقون
بين وطنيتهم ووفائهم وولائهم لحلفائهم.
ولهذا أرغب في أن أصف في رسالتي هذه دهشتي وحالتهم الحاضرة للشعب
البريطاني الكريم؛ لئلا يقع عليهم لوم ما إذا توسلوا بوسائل أخرى إلى درء هذا
الذل العظيم الذي يسود تاريخهم المجيد ، غير مكترثين للعواقب مهما كانت، وإلا
انطبق عليهم بحق المثل القائل: (فر من الموت وفي الموت وقع) وهذه أبسط تهمة
يلصقها بهم أعداؤهم؛ إذ يحق لهم أن يخاطبوهم بقولهم: (لو بقيتم كما كنتم قبلاً
لنجوتم من جميع هذه البلايا والرزايا) .
أما الحجاز فقد كان متمتعًا بامتيازاته واستقلاله في الماضي.
ويستحيل الصبر على موقف الأمة العربية في عيون العالم الإسلامي والشرق
عامة ، وفي عيونهم أنفسهم وفي مرآة تاريخهم ، وأن ينظر إليهم كخونة ظالمين.
إن هذا الموقف الشائن مما يستحيل قبوله والتسليم به.
ولست في ما أقول منذرًا، ولكنني مذكر، فقد كانت شهرة بريطانيا العظمى
أساس عظمتها في الشرق ، وهذه الشهرة أعظم نفوذًا من أساطيلها العظيمة وجيوشها
الجرارة، فهي في حاجة عظيمة إلى تجديد مكانتها. أقول ذلك بصراحة العربي
وإخلاصه ، وعلى بريطانيا العظمى أن تبدأ بمعاملة العرب الذين حالفوها ووالوها
إلى يومنا هذا مع كل ما طرأ من الطوارئ من اليوم الذي كانت فيه الحرب حقيقة
بادية للعيان إلى أن صارت خفية مستورة. ولا أطيل الكلام في هذا الصدد ولكني
أرجو أن تشرع الأمة البريطانية في أن تلقي عن عاتقها جميع هذه الأعباء، وأن
تنصف العرب حلفاءها الأوفياء، وخير لها أن يكون لها حليف متحد قوي مستقل،
من أن يكون هذا الحليف ممزقًا مقطع الأوصال ذليلاً كما هي حالة العرب الآن،
ولا يعلم إلا الله إلى أين يسوقهم قنوطهم بعد ما طفح الكيل.
أقول ما تقدم مدفوعًا إليه بعامل الإخلاص والوفاء ، لما علي من العهود
والواجبات.
…
...
…
...
…
...
…
... البلاط الهاشمي بمكة
…
...
…
...
…
...
…
في24 نوفمبر سنة 1923
(المنار)
إن هذا الخطاب يشرح للناس كنه عقل السيد حسين المكي ومبلغه من العلم
والسياسة ، فهو صريح في أنه قد أسس سياسته في نصر الإنكليز على الترك على
شفا جرف هار من تخيل ما يسميه (الحسيات النجيبة البريطانية) ، وتوهم أن
الإنكليز يعاملون الناس بمقتضى الحس والشعور بالوفاء والنجدة والكرم والإيثارعلى
أنفسهم ، والوفاء بوعودهم وعهودهم مضاعفة. وجميع ذوي الإلمام بشؤون العالم
في الشرق والغرب يعلمون أن السياسة ليس فيها عواطف ولا فضائل ولا تقرب إلى
الله تعالى بإسداء المعروف إلى الناس - وأن الإنكليز خاصة أبعد البشر عن بناء أي
عمل من أعمالهم على الشعور والعواطف، وأنهم تجار ماديون قليلو التأثر والشعور ،
ولذلك لقبوا في كل العالم بأصحاب الدم البارد ، وأنهم أبعد خلق الله عن الوفاء فيما
لا يعدونه من مصلحتهم التي يفتدون بها مصالح الخلق كله ، ولكنهم لبراعتهم في
الرياء الفريسي - كما يصفهم أهل أوربة - يدعون الوفاء بتأويل ما يقع منهم من الغدر
والإخلاف، كتأويل معاوية وعمرو بن العاص لقتل عمار، وقد قال فيهم إمام
السياسة الأوربية ودهقانها في عصره (البرنس بسمارك)
إن الإنكليز أبرع الأمم في التفصي من المعاهدات بالتأويل. ونقول نحن:
إن هذا شأنهم مع الدول العظمى ، وأما الضعفاء فإنهم لا يهتمون بتأويل غدرهم
وإخلافهم معهم.
ولنا من سياستهم في مصر والسودان مئات من الأدلة القطعية على ذلك ،
ولكن هذا الرجل لا يعرف من تاريخ مصر المجاورة له - دع تاريخ الهند وغيرها من
البلاد التي ابتليت بالإنكليز. اعترف الزعيم العربي بهذا الأساس الخيالي لسياسته ،
وأنه لم يبال برمي أمته له بالخيانة لثقته بهذه الخيالات ، وأنه مصر على ذلك إلى
الآن، فهل يجوز أن يتخذ مثل هذا زعيمًا لشعب أو أمة ، وخليفة للرسول الأعظم
على أمته وهو يخالف كتاب الله وسنته في كل خطوة من خطوات سياسته؟
سيقول الجاهلون بالتاريخ الحديث والسذج الذين لا يتفكرون في عواقب
احتلال الأجانب لأخصب البلاد العربية، والطامعين في الاستيلاء على ما بقي
منها وهو مركز القوة الدفاعية: ما بال صاحب المنار يوالي الطعن في الملك حسين
وأولاده دون غيرهم؟ ونقول لهؤلاء: إن الأمر أعظم مما وصلت إليه عقولكم،
وإن خطر هؤلاء على أمتكم أبعد مما تصورته أفكاركم، فانظروا وتفكروا، ثم
انظروا وتفكروا، ثم انظروا وتفكروا.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
المنار: حكم الشيخ على نفسه.
(2)
لا شك إنها من أقبح الجنايات.
(3)
هذا ليس بحديث، قال الحافظ السخاوي في المقاصد الحسنة: لم أقف عليه ومعناه صحيح.
الكاتب: محمد رشيد رضا
خطاب عام للمسلمين
(3)
وجاء في الرسالة المطولة التي أشرنا إليها من قبل ما يأتي:
الحدود
سمع مولانا المنقذ بأن إمام اليمن يحكم بالشرع المنيف ، ويقيم الحدود فعمل
شر المنكر ليذكر. فكل من ساء حظه أمسكه المنقذ بتهمة سرقة، يأمر بقطع يده،
أو يده ورجله اعتباطًا، وبدون محاكمة ولا مراعاة لشروط الحد من حرز أو عدالة
للشهود والأمر بدرء الحدود بالشبهات ، وإليك إشارة إلى التنفيذ الفظيع.
***
(التنفيذ)
تأخذ الزبانية هذا التعس ، فيضعون العضو المأمور ببتره على خشبة،
ويمسكون المسكين كما يمسك العصفور للذبح ، ويقوم على رأسه أحدهم شاهرًا
سيفه ممسكًا له بكلتا يديه ، فيهوي به إلى ذلك العضو فإن أصاب مَفْصِلاً أبانه وذلك
من رحمة الله بالمسكين ، ولكن الغالب أنه يصيب محلاً آخر فوق المَفْصِل أو دونه ،
فتتهشم العظام ولا ينقطع العضو إلا بعد ضربات عديدة يذوق ذلك المنكود الحظ
منها الموت الزؤام مرارًا عديدة، ولذلك لا يسلم من الموت ممن قطعهم ذلك القاطع
إلا نحو العشر، ولا بد أن يقلقوا بصياحهم أهل الحارة التي يكونون فيها. أفهذا حكم
الشرع المنيف؟ حاشى لله ألف ألف مرة. إن الشرائع كلها السماوية والوضعية تتبرأ
من هذه الوحشية السبعية الإبليسية فإنا لله وإنا إليه راجعون. أي جناية على
الدين؟ وأي ازدراء به شر من هذا؟ إن أكبر أعدائنا لا يقدر أن يذمنا وينفر عن ديننا
بمثل ما يصنعه (سيدنا وسيد الجميع) .
***
(السجن الهاشمي)
أخبرنا الثقات من المكيين أن هذا السجن شر من سجن الحجاج؛ ففيه ضروب
من التعذيب ، لم يبق لأقلها وجود في منشوريا ولا غيرها - بل هنالك سجنان:
(أحدهما) سجن المجرمين العاديين ، وهو بناء كان مخازن للغلال ذات
رواق فبني الرواق ، وجعل له باب أو بابان. وهو مع المخازن لا يسع مائة رجل ،
ولكن له رحبة أو حوشًا تسع مائة أو أكثر، وهو ليس لها سقف يقي هاجرة الحر
المحرقة في الصيف وبرد الليل في الشتاء ، والمسجونون فيه خمسمائة أو يزيدون
(وثانيهما) القبو وما أدراك ما القبو؟! وهو سجن الذين ينزل عليهم
الغضب الهاشمي كالأستاذ العلامة الشهير أبو بكر خوقير علامة الحنابلة ومفتيهم
الذي كان يتهمه بأنه وهابي. وهو قبو مظلم تحت دار الإمارة له منفذ ودرج - بل
درك - للنزول إلى أسفله ، وأرضه رطبة عفنة كثيرة الحشرات والغازات السامة ،
قلما يعيش أحد فيه عدة أيام ، وليس له نوافذ غير مدخله، فلا يدخله نور الشمس
المطهر ولا الهواء المنقي للهواء من الأبخرة السامة ، وليس فيه مرحاض ولا مكان
للطهارة.
ومن ضروب الفظاعة المشتملة على عدة محرمات أن زبانيته يسلكون الآحاد
والعشرات من المسجونين في سلسلة واحدة من الحديد آناء الليل والنهار ، فكلما
ذهب واحد لقضاء حاجته جرهم كلهم معه ، ويؤيد هذا ما كتبه ذلك العالم الفاضل
من جزائر الهند الشرقية في مذكرته المذكورة آنفًا وهو:
(ومما اختصت به مكة - صانها الله تعالى دون سائر الأرض - أن
العقوبات تجري فيها بمنتهى الوحشية استبدادًا ، ولو رأى أحد المنصفين السجن
بمكة لبكى الدم حنانًا على من أوقعه نحس الطالع فيه ، فإن أكثره لا سقف له يقي
من تلك الشمس المحرقة نهارًا والبرد القارص في أيامه ليلاً ، وهو محل قذر للغاية
وضيق لا يتسع لأكثر من 70 شخصًا ، وقد حشروا فيه نحو ألف إنسان والحكومة
لا تعطيهم طعامًا ، وكثير منهم يموتون جوعًا ، وقل أسبوع لا تحدث فيه حوادث
من هذا القبيل ، ومن أرسل له أهله قوتًا؛ تخاطفه عليه الجياع، هذا إن سلم من حراس السجن فإن لهم حتمًا أطايبه ، ومن مات يبقى بين من هم هناك نحو
يومين حتى تفوح رائحته لشدة الحرارة وكثرة التحلل من الجيفة بسببها ، وبذلك
يحصل الإذن من الذات المقدسة بالدفن ، وليس لمن في السجن محل للغسل ولا لهم
بيت للراحة إلا محلاًّ واحدًا يؤمه ألف شخص
…
ومن رحمة سيدنا المنقذ أنه يطوق بعض رعاياه المحكوم عليهم بالسجن
بأطواق من الحديد ، ويعلق فيها من القلل ما تنوء بحمله العصبة أولو القوة ، وينظم
الخمسة إلى العشرة في سلسلة واحدة. إلى ما أخاف أن لا يصدقني القارئ إن ذكرته
من الفلكة الهاشمية والقبو ، وما ضاهى ذلك مما لم يتفطن له الحجاج ولا نيرون ولا
نمرود، ولا وسوس لهم به إبليس، فليبحث عن هذا من يحب معرفة الحقيقة)
اهـ وفيه خطأ بتقدير ما يسع السجن وعدد المسجونين ، والصواب ما قلناه ومسألة
القلل لم تبلغنا عن غيره.
***
(ظلمه للأشراف)
اختارت الدولة العثمانية بطنين من بطون شرفاء مكة لإمارتها تولي واحدًا من
هؤلاء مرة، وواحدًا من الآخرين مرة - فأوقعت به التعادي والتنافس بينهما،
وأغرتهما باحتكار الجاه والرفاهة دون سائر الشرفاء الذين أصبحوا في دركة من
الجهل والفقر، تحول دون كل مطمع في نباهة الذكر. وكان الملك حسين من أشد
من ولي الإمارة بغضًا في البطن الآخر، ولا سيما آل الشريف عبد المطلب الشهير،
فهو يتصرف في أملاكهم وأوقافهم كما يشاء. وقد أشرنا إلى ذلك في الشاهد
العاشر من شواهد المالية في الحجاز.
وقد كان نفر من كبار هؤلاء الشرفاء يقيمون في الآستانة مكرمين منعمين بما
تجريه الدولة العثمانية عليهم من الرواتب الكافية ، وقد منعتهم دولة الجمهورية من
ذلك ، فأمسوا في أسوأ حال، وتعذر عليهم السكنى في الآستانة وفي غيرها ، ولم يعد
يسعهم إلا وطنهم (مكة) ولهم فيه أملاك وأوقاف، ولكن رئيس أسرتهم وملك
العرب ومنقذهم، لا يأذن لهم بالعودة إلى بلدهم، ولا يرسل إليهم شيئًا من حقوقهم،
على أن الذين يعيشون هنالك في أسوأ حال كما أشرنا إلى ذلك في الشاهد العاشر من
شواهد الجناية الثالثة ، وهم أحق من سائر العرب بما يدعيه من إنقاذهم وإسعادهم.
ومن لا يصل رحمه ولا يغار على شرف أهله؛ فكيف يصدق بدعوى الغيرة على
غيرهم؟
وقد ختم ذلك العالم الجنوبي مذكرته بوصف حالهم وهذا نص ما كتبه:
(ولو أردت أن أكتب ما عرفته من فضائح جمرك جدة لأضجرت القارئ ،
ولكني أختم مقالي بالإشارة إلى حالة أشراف الحجاز الذي ينتمي إليهم مولانا المنقذ ،
فإنهم في أحط الحالات دينًا ومعاشًا ، وكل ذلك سببه الآن أعمال هذا المنقذ، فإن سلفه
قد تعمد وحتم بقاء سائر الأشراف إلا قرابته الأدنين على شر حالات البداوة جهالة،
وقذارة ، وغباوة، وبعدًا عن العلم والمعارف؛ لئلا يشاركوه في أمور الإمارة،
وليتسنى له الاختصاص بالظلم ليشبع نفسه الأمارة. وقد زاد (منقذنا) على هذا
بأن عمد إلى مكاسبهم ، فوضع عليهم إتاوات ثقيلة ، ثم فرض مناصفة ما تنتجه
زروعهم من قصب وحشيش يحملونه ويسلمونه مجانًا للإسطبل الهاشمي ، وما بقي
لهم يدفعون عليه إتاوة دخولية تستغرق جل الثمن ، وقد كانوا يكسبون من كراء
جمالهم ، أما الآن فقد مر بك ما يختص بالجيب أو الجراب العلي الشأن ، وذلك
مما يؤخذ من كرى الجمال أكثره ، فلا يبقى لصاحب البعير إلا ما يكفي أكل الجمل
بشرط أنه هو وعياله يجوعون أو يقتل الجمل جوعًا؛ ليسد رمقه ورمق عياله ،
ولذلك صار الجمالة يستجدون الحجاج في محلات الأمن وينهبونهم في خارجها؛ إذ
لم يبق لهم إلا تلقيهم بعر الجمال برؤوسهم ، إذ يسوقونها والكرى الصافي
(لسيدهم وسيد الجميع) .
ويكفي أن أقول: إن الأشراف عدد عديد وجلهم أمي ، ومن يكتب ويقرأ منهم
فكتابتهم ضعيفة كأنها العبرانية، ولا أرى الباحث يجد منهم من يخرجه عن حكم
الأمية إن أنصف، فضلاً عن أن يجد منهم عالمًا أو عارفًا بأحوال الوقت، وقد
عرفت بعض الأشراف ، وخضت معه فحاول إرسال أولاده إلى مصر ليتعلموا،
فمنعهم من ذلك (مولانا المنقذ) وقال: إن أعلى مدارس الدنيا تلك الكتاتيب القذرة
التي يقيمها بمكة لذر الرماد (هكذا وهكذا وإلا فلا لا) .
***
الجناية الرابعة
معاملته للحجاج وسلب أموالهم
نحمد الله تعالى أن وفقنا لقول الصدق، والتزام الحق، ومنه أن صرحنا
مرارًا بما ثبت عندنا من عناية الملك حسين بأمر الحجاج ما استطاع ، مع مراعاة
غاية الدقة واللطف فيما يناله منهم من المنفعة ، وسبب هذا ظاهر، وهو أن جاهه
وكرامته وثروته رهينة بتسهيل الحج وإرضاء الحجاج، ولكن تسمية نفسه بملك
العرب وسعيه الدائم لصدق التسمية اقتضيا منعه أهل نجد من إرسال ركب للحج.
كما أن سخط مسلمي الهند عليه وطعنهم في سياسته البريطانية حملاه على إيذاء
حجاجهم ، كما روته مجلة الجامعة الهندية المشهورة وغيرها. وحاجته إلى الدراهم
الكثيرة لجعل الحجاز دولة عسكرية مستعدة لإخضاع الإمارات المجاورة له في
نجد واليمن وتهامة ، وجعلها تابعة له (كما علم من كلامه في الوحدة العربية الذي
نقلناه في الوثيقة الخامسة) حملته على زيادة ما يأخذه على نقل الحجاج من مكان
إلى آخر، وعلى فرض ضرائب جديدة لا تحل له شرعًا وهي أنواع:
(الضرائب على الحجاج)
(1)
قد فرض على كل حاج ضريبة لا يؤذن له بدخول الحجاز إلا إذا
أداها لعماله ، وعند النزول في ثغر جدة أو غيره إلا أن يكون قد دفعها لوكيله في
القطر المصري ، ووقع له على جواز السفر باستيفائها منه ، وهذه الضريبة جنيه
إنكليزي على من يجيء من الجنوب كأهل الهند وجاوه وغيرهم ، ونصف جنيه
على من يجيء من الشمال: كمصر وغيرها أو تزيد فهو يجبي منها مئات الألوف
من الجنيهات في كل سنة.
(2)
قد فرض على كل الحجاج ضريبة أخرى برسم الحجر الصحي ، ولها
شروط مخصوصة مُدوَّنة بأوراق رسمية.
(3)
قد فرض عليهم ضريبة ثالثة ، يؤديها كل خارج من جدة قبل خروجه
باسم الشهادة الطبية ، وقدرها ريالان مجيديان أو 30 قرشًا مصريًّا صحيحًا،
ويعطى بها ورقة رسمية.
هذه الضرائب تعد في أحكام الشرع من أكل أموال الناس بالباطل المنهي عنه
بنص القرآن، وأخذها من الحجاج يعد من الإلحاد في الحرم بالظلم ، وهي أولى
بذلك مما ورد في الأحاديث المرفوعة والموقوفة في تفسير {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ
بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الحج: 25) كالاحتكار وتجارة الأمير ، وقد تقدم -
وتعد أيضًا من الصدِّ عن المسجد الحرام ، فإن من الفقراء من لا يستطيع دفعها على
أن بعض الفقهاء قالوا: بسقوط الحج عمن تصادر أمواله بسببه.
ولأجل انتفاع الملك من هذه الضرائب أسس محجرًا صحيًّا ، يُكْرَه الحجاج
على الدخول فيه ولا يعتد بدخولهم قبله في المحجر المصري ، في الطور من جهة
الشمال والمحجر البريطاني في قمران من جهة الجنوب ، مع العلم بأنه عاجز عن
إتقان محجره كإتقانهما. هذا إذا فرضنا أنه فوض أمر محجره إلى أطباء ثقات ، ولم
يكن له رأي ولا أمر في أعمالهم الفنية المحضة، أما إذا كان المحجر يدار برأيه
فهنالك البلاء المبين، إذ يخشى أن يمنع بعض الأدوية المتفق عليها بين الأطباء ،
ويستبدل بها بعض مجرباته أو ماء زمزم الذي صرح في جريدته (القبلة) بأنه شفاء
من كل داء ، وإن كان مشوبًا بقذر المصابين بالهيضة الوبائية ، وأمثالها من
الأمراض التي أجمع أطباء هذا العصر من مسلمي جميع الشعوب ومن غيرهم على
أنها معدية، وأن أسباب العدوى فيها ثابتة بالتجربة وبالمشاهدة بالمناظر المكبرة.
ثم إنه لأجل هذه المنافع المالية بينه وبين الدولة البريطانية قد وضعا لها مواد
في مشروع المعاهدة البريطانية الحجازية أو العربية ليتقاسما المنفعة، على ما في
هذا العمل من التضييق على الحجاج وتنفيرهم من الحج، وقد بينا في تعليقنا على
هذه المواد ما فيها من الضرر على الحجاج ، والدلالة على كون الحجاز تحت سيادة
الإنكليز.
(أجور نقل الحجاج)
(1)
جعل أجرة الجمل بين الحرمين الشريفين أربعة عشر جنيهًا إنكليزيًّا
وريالين مجيديين ، يأخذ هو نصفها أو أكثرها والباقي لصاحب الجمل ولسائقه ولمن
يتبعهما في خدمة الحجاج كالمطوف. وهو يساوم أصحاب الجمال ، فمن كان منهم
بليدًا جبانًا يأخذ منه أكثر مما يأخذه من الجريء المجادل.
وهو يأخذ على كل جمل ينقل الحجاج من جدة إلى مكة والعكس، ومن مكة إلى
عرفة والعكس نصف جنيه مصري أو أكثر - فهو بهذا يأخذ من كل حاج جنيهين
من هذا الباب وحده ، وذلك أنه جعل أجرة الجمل جنيهًا يأخذ صاحبه ربعه في
الغالب والباقي للملك، وإن من الحجاج من يحتاج كل واحد منهم إلى جمل خاص
لأجل حمل زاده ومتاعه ، فإن حجاج جاوه يحملون كل ما يحتاجون إليه من الزاد
من بلادهم. ولحجاج جاوه معاملة خاصة؛ وذلك أن لهم بمكة مطوفين يسمون مشايخ
الجاوه ، وهم يتولون خدمتهم في مسكنهم وتنقلهم ، وكان الشريف أو الملك قد جعل
لهم على كل حاج ثلاثة جنيهات ونصف إنكليزية ، يأخذ منها لنفسه جنيهًا واحدًا ،
وقد سمح لهم منذ سنتين بأخذ أربعة جنيهات ونصف من كل حاج على أن يكون له
اثنين منها ، وقد بلغ حجاجهم في الموسم الماضي 35 ألفًا.
ولولا مقاسمته لأصحاب الجمال لأمكنه جعل أجور نقل الحجاج رخيصة جدًّا،
ولكن هذه شنشنة قديمة له ولسلفه وما هي بالجديدة.
(الأمن في الحجاز)
هو والحق يقال يعنى بحفظ الأمن في المنطقة التي ينفذ حكمه فيها من جدة
إلى مكة إلى عرفات ، ولكن لا نفوذ له ولا سلطان على الأعراب بين الحرمين
الشريفين، وإنما الوسيلة لتأمين الطرق هنالك واحدة ، وهي بذل مبالغ معينة من المال
لهم بدلاً مما كانوا يأخذونه من الدولة العثمانية والحكومة المصرية.
وقد كان الشريف وعدهم عند دعوتهم إلى الثورة والخروج معه على الدولة
بأنه يعطيهم تلك المخصصات مضاعفة ، وكانت الأموال الإنكليزية في مدة الحرب
تغدق عليه إغداقًا ، فكان يفيض عليهم منها ويرضيهم، ثم أعطى قليلاً وأكدى - أي:
منع الباقي - وهم يعلمون أنه أخذ باسم ثورتهم عشرات الملايين من تلك الجنيهات،
وأنه ما زال يأخذ الأموال من الحكومة المصرية، وأنه يأخذ أكثر أجور نقل
الحجاج بغير حق، فلم يجدوا بدًّا من مطالبة الحجاج ببعض نصيبهم من ذلك وبيان
سببه لهم ، وقد بلغنا أنهم كانوا في الموسم الأخير (سنة 1341) يعطون الحجاج
سندات بما أخذوا منهم ، ويحولونهم به على الملك حسين ليدفعه لهم من الأموال
المستحقة لهم عنده بحسب الاتفاق معه المبني على التعامل السابق، وهم يرون أن
أخذ المال منهم كأخذه منه؛ إذ كان من الواجب عليه المحافظة على أموال الحجاج
وأنفسهم، وضمان ما يؤخذ منهم - وهو قد أعلن في جريدته أنه يعطي ذلك ، ولكنه
أوعز إلى المطوفين بأن ينصحوا لمن أخذ منهم المال ، بأن يتعففوا عن تكليف
الملك دفعه، فكان نصحهم مقبولاً.
كان الزوار في الموسم الماضي يدفعون لكل قبيلة ما تطلبه منهم ، وأقله
ريالان مجيديان ، وهو ما كان يأخذه بنو عوف الذين لم يكن لهم مرتبات على الدولة ،
وأما أصحاب المرتبات الرسمية كقبائل الأحامدة فقد كانوا يأخذون من كل حاج
من 20 - 25 ريالاً مجيديًّا ، ومن حجاج إيران خاصة ستين ريالاً مجيديًّا ، وقد
كان من جملة الزائرات الأميرة الأفغانية زوجة الأمير عبد الرحمن خان جد أمير
الأفغان لهذا العهد، وقد أوقفها الأحامدة في الطريق أيامًا حتى افتداها جلالة الملك
المنقذ حامي الحرمين الشريفين بألفي جنيه وخمسمائة جنيه أرسلها إليهم من مكة ،
ولابد أن تكون الأميرة قد أعادتها إليه مع الهدايا اللائقة.
هذا ما كنا كتبناه منذ بضعة أشهر مما جاءنا عن موسم سنة 1341، وتريثنا في
نشره، وقد حدث في أثناء العام انتحاله لمنصب الخلافة فصار خطره أشد،
والسعي لتلافيه أوجب، ونبين ذلك بالإجمال فنقول:
(له بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تحريم المسلمة على الكتابي
(بقية ما في ص 222 من ج3م25)
دين الله على ألسنة رسله واحد ، وما الإسلام إلا إصلاح وتكميل للشريعة
الموسوية الشديدة الوطأة ، الخاصة بشعب واحد في تاريخ خاص، وتكميل للآداب
المسيحية الشديدة المبالغة في الفضيلة ، لما كان عليه الروم واليهود من المبالغة في
الطمع والشهوات، فأجدر بأهل الكتاب إذا عرفوا الإسلام حق المعرفة بمعاملته
إياهم بالعدل والحرية والألفة، أن يعرفوا بفهمهم له أنه هو دين أنبيائهم الذي نسوا
حظًّا منه وحرّفوا شيئًا منه، وأن الله تعالى أكمله لهم بحسب سنته تعالى في الترقي
الإنساني كما بشّروهم به. ففي الإنجيل أن المسيح عليه السلام صرح بأنه لا
يستطيع أن يقول لهم كل شيء لعدم استعدادهم وعدم حرية حكومتهم، ولكن
سيأتي بعده روح الحق الذي يقول لهم كل شيء؛ أي: لظهوره في أمة حرة ولإعداد
الله الأمم كلها لاستقلال الفكر. وكذلك فعل غير المتعصبين الموثقين بالتقليد، وقد
آمن بهذه المعاملة ألوف الألوف من المستقلين الذين قال الله تعالى فيهم: {الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ
عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (الأعراف: 157) الآية ، ولو أن
المسلمين يدعون إليه في شعوب الإفرنج دعوة صحيحة تؤيدها أفعالهم وأخلاقهم -
لدخل الناس فيه أفواجًا لشدة الحاجة إلى الدين المعقول الذي يتفق مع العمران في
هذا العصر ، بعد ظهور مفاسد التعاليم المادية، ولقوة استقلال أفكار تلك الشعوب
الغربية.
ولو أعطي مشركو العرب هذه الحرية ، وعوملوا هذه المعاملة؛ لبقيت عبادة
الأصنام سائدة في جزيرة العرب كلها، وفي مكة نفسها. ونتيجة ما شرحناه أن
التسوية بين المشركين وأهل الكتاب باطلة لا تصح بحال، ويترتب عليه أن ما ورد
في المشركين من النصوص لا يجري على أهل الكتاب بذلك النص بل يحتاج
إجراؤه عليهم إلى دليل آخر.
وما نقل مخالفًا لهذا التحقيق من بعض الآثار أو أقوال العلماء؛ فهو إما خاص
بأناس بأعيانهم، أو تساهل في إطلاق الخاص على العام فيما يرى المطلق له أن
الحكم في العام والخاص واحد، وقد يكون مخطئًا في ذلك وقد يكون مصيبًا.
***
حكم الزوجية مع اختلاف الدار والدين
بقي ادعاء المنتقد أن آية الممتحنة {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ
وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنّ} (الممتحنة: 10) نص أصولي في المسألة ، وهي قد نزلت
عقب صلح الحديبية في النساء المؤمنات اللاتي هاجرن من بلاد الشرك إلى
دار الإسلام والهجرة ، وطلبهن أزواجهن، نهى الله تعالى عن إرجاعهن إلى الكفار
في دار الشرك ، عملاً بما اشترطوه في الصلح من إرجاع من يجيء النبي صلى
الله عليه وسلم منهم مسلمًا. تخصيصًا لعموم الشرط بجعله للرجال المحاربين،
وسورة الممتحنة نزلت بعد سورة البقرة التي حرمت المؤمنات على المشركين ،
فهي في واقعة معينة مع المشركين سبق فيها نص قطعي ، فبنيت عليه. فالمراد
بالكفار فيها المشركون بدليل نزولها في واقعة معهم ، وسبق بيان حكم الله تعالى في
تحريم مناكحتهم ، بعد أن كانت مباحة قبل نزول التحريم في المدينة.
والأصل في وقائع الأعيان أنها لا عموم لها ، فإن تسامحنا وقلنا بجواز
عمومها، فلا يمكن أن نقول: إنه نص أصولي قطعي ، والاحتمال قائم وقد صرح
المفسرون بنزولها في المشركين خاصة ، وهو مروي عن مجاهد كما في صحيح
البخاري ، وقد اختلف الفقهاء في الموجب لفرقة المرأة من زوجها في مثل هذه
الحالة ، هل هو إسلامها أو هجرتها؟ فقال أبو حنيفة ومن وافقه: هو اختلاف
الدارين؛ إذ لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يفرق بين المرأة التي تسلم وبين
زوجها المشرك في الدار الواحدة كمكة ، وقد أطال الإمام الجصاص الحنفي في
ترجيح هذا القول في تفسير الآية من كتابه (أحكام القرآن)، وقال الجمهور: إن
الموجب لذلك الإيمان، قال ابن العربي بعد ذكر هذا الحكم في كتابه أحكام القرآن:
(المسألة التاسعة){وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (الممتحنة: 10) يعني إذا أسلمن وانقضت عدتهن ، لما ثبت من تحريم نكاح
المشركة والمعتدة ، فعاد جواز النكاح إلى حالة الإيمان ضرورة.
(المسألة العاشرة) قوله: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكَوَافِرِ} (الممتحنة: 10)
هذا بيان لامتناع نكاح المشركة من جملة الكوافر ، وهو تفسيره والمراد به. قال
أهل التفسير: أمر الله تعالى من كان له زوجة مشركة أن يطلقها ، وقد كان الكفار
يتزوجون المسلمات والمسلمون يتزوجون الكافرات ، ثم نسخ الله ذلك في هذه الآية
وغيرها اهـ المراد منه.
فهذا المفسر المحقق القائل بأن علة التحريم إيمان المرأة يقول: إن الآية
خاصة بنكاح المشركة من جملة الكوافر ، ومثله قول البيضاوي في تفسير {وَلَا
تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكَوَافِرِ} (الممتحنة: 10) قال: (والمراد نهي المؤمنين عن
المقام على نكاح المشركات) والأول أصرح في التخصيص ، وكل منهما يؤيد قولنا:
إن كلمة الكفار والكوافر لا عموم لها هنا ، وإنما هي خاصة بأهل الشرك من الكفار.
فإن ساغ لنا أن نرد هذا القول فلا يمكن أن نعلل الرد بأن العموم فيها نص
أصولي لا يحتمل غير هذا المعنى ، ويؤيد هذا ما أقره المنتقد من الروايات في
الاستدلال على تحريم المسلمة على الكتابي بالسنة ، فكانت حجة عليه لا له وهي:
(1)
ما رواه البخاري عن ابن عمر من تحريم النصرانية وتعليله بأنها
مشركة ، وقد تقدم أنه أثر شاذ مخالف لإجماع الصحابة ونص آية المائدة، وقد
صرح بهذا القسطلاني وغيره من شراح البخاري ، وذكروا في رده أيضًا أن بعض
السلف قالوا: إن المراد بالمشركات في آية البقرة عبدة الأوثان ، وقول من قال من
العلماء: إن الذين قالوا من اليهود والنصارى: العزير ابن الله والمسيح ابن الله
طائفتان منهما لا كلهم. فهل يدخل عند المنتقد في مفهوم السنة رأي شاذ لصحابي
أجمع السلف والخلف من أهل السنة على رفضه وغلطه في تأوله الآية له؟ ؟
(2)
ما رواه البخاري في باب: (نكاح من أسلم من المشركات وعدتهن)
عن ابن عباس قال: كان المشركون على منزلتين من رسول الله صلى الله عليه
وسلم والمؤمنين - كانوا مشركي أهل حرب يقاتلهم ويقاتلونه، ومشركي أهل عهد لا
يقاتلهم ولا يقاتلونه.. (قال المنتقد) : فلم يذكر ابن عباس قسمًا ثالثًا للمشركين فدل
على أن أهل الكتاب منهم.
ونقول: إن ابن عباس لم يذكر قسمًا ثالثًا؛ لأن أهل الكتاب ليسوا من صنف
المشركين وإلا لجعلهم ثلاثة أقسام ، الثالث: أهل الذمة الذين أقرهم صلى الله عليه
وسلم على دينهم ، وعقد بينه وبين من يجاوره منهم اتفاقًا معروفًا في كتب الحديث
والسير ، فليراجعه في الهدي النبوي؛ ليعلم الفرق بين معاملته لهم ومعاملته
للمشركين.
(3)
ما ذكره البخاري عن ابن عباس تعليقًا لا مسندًا ، كما توهم المنتقد في
(باب إذا أسلمت المشركة أو النصرانية تحت الذمي أو الحربي) وهو حجة عليه
بعطف النصرانية على المشركة ، فإن العطف يقتضي المغايرة.
وأما المسألة أو المسائل التي أورد البخاري هذه الآثار فيها فهي ما تقدم آنفًا
في الكلام على آية الممتحنة من الخلاف في المسلمة إذا هاجرت من دار الحرب إلى
دار الإسلام ، هل ينقطع نكاحها إذا كانت متزوجة حالاً أو بعد انقضاء العدة ، أو
يستمر إلى ما بعد ذلك بحيث إذا أسلم زوجها وهاجر تحل له بالنكاح الأول؟ وهل
الانقطاع باختلاف دار الحرب أم باختلاف الدين؟ ويتبعها ما هو أعم منها وهو
الحكم في إسلام المرأة قبل زوجها ولو في دار الإسلام. ومذهب البخاري في هذا
الباب موافق لما نقله عن عطاء ومجاهد من كون انقطاع النكاح باختلاف الدين ،
وهو قد نقل في هذا الباب عن مجاهد ، أن آية الممتحنة نزلت في العهد الذي كان
بين النبي صلى الله عليه وسلم ومشركي مكة. ولم ينقل المنتقد هذه الجملة عنه
(! !) ، ومن أهم ما ورد في السنة في أصل المسألة ما رواه أحمد وأبو داود
والحاكم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم رد ابنته زينب على أبي
العاص بن الربيع بالنكاح الأول بعد سنتين ، وفي رواية ست سنين من إسلامها ،
ولم يحدث عقدًا جديدًا ولا صداقًا - قيل: إن رواية ست سنين هي ما بين إسلامها
وإسلامه ، ورواية سنتين ما بين نزول آية التحريم وإسلامه، ويحتمل أن يكون
مرادهم بآية التحريم آية البقرة ، وهي لا تنافي قول أهل السير: إنه أسلم قبل صلح
الحديبية. والتحقيق في حكم المسألة - كما قال ابن القيم - أن الكافرة إذا أسلمت
وبقي زوجها كافرًا ، يكون نكاحها موقوفًا إلى انقضاء العدة ، فإن انقضت العدة ولم
يسلم كان لها أن تتزوج ، فإن أحبت انتظاره وأسلم بعد انقضائها كانت زوجته
بالعقد الأول.
وأما ما ذكر في هذه الآثار من تحريم المسلمة على الكتابي فليس من نصوص
الكتاب ولا من نصوص السنة، فهو ليس من موضوع انتقاده علينا؛ إذ لسنا نحل
المسلمة للكتابي، ولو كان إثبات تحريمها عليه مقصورًا على هذه الآثار لكان في
غاية الضعف.
***
أدلة تحريم المسلمة على الكتابي
قلنا في تفسيرنا لقوله تعالى: {وَلَا تَنكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنّ} (البقرة: 221) ما نصه:
وأما الكتابيات فقد جاء في سورة المائدة أنهن حل لنا ، وسكت هناك عن
تزويج الكتابي بالمسلمة وقالوا - ورضيه الأستاذ الإمام -: إنه على أصل المنع
وأيدوه بالسنة والإجماع. ولكن قد يقال: إن الأصل الإباحة في الجميع ، فجاء
النص بتحريم المشركين والمشركات تغليظًا لأمر الشرك، وبحل الكتابيات تألفًا
لأهل الكتاب ليروا حسن معاملتنا وسهولة شريعتنا، وهذا إنما يظهر بالتزوج منهم؛
لأن الرجل هو صاحب الولاية والسلطة على المرأة ، فإذا هو أحسن معاملتها كان
ذلك دليلاً على أن ما هو عليه من الدين يدعو إلى الحق وإلى طريق مستقيم، وأما
تزويجهم بالمؤمنات فلا تظهر فيه هذه الفائدة؛ لأن المرأة أسيرة الرجل ولا سيما في
ملل ليس للنساء فيها من الحقوق مثل ما أعطاهن الإسلام ، فقد يصح أن يكون هذا
هو المراد من النصين في السورتين. وإذا قامت بعد ذلك أدلة - من السنة أو الإجماع
أو من التعليل الآتي لمنع مناكحة أهل الشرك - على تحريم تزويج الكتابي بالمسلمة؛
فلها حكمها، لا عملاً بالأصل أو نص الكتاب ، بل عملاً بهذه الأدلة اهـ (ص 355
ج2 تفسير) .
ونقول الآن: أما كونه غير عمل بالأصل، فلأن المسلمين كانوا يتزوجون
بالمشركات قبل نزول الآية، وأما كونه غير عمل بالنص، فالمراد به القطعي وهو
موضع الخلاف ، وقد بينا وجهه ودفعنا الشبهات عنه ، وأما التعليل الذي قلنا إنه يؤيد
السنة والإجماع في تحريم المسلمة على الكتابي فهو قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ
إِلَى النَّارِ} (البقرة: 221) وقد بينا في تفسير الآية أنه يتحقق في تزوج الكتابي
بالمسلمة دون تزوج المسلم بالكتابية، فراجعه في محله (ص359 منه) .
ويجوز أن يستدل على ذلك بقوله تعالى: {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى
المُؤْمِنِينَ سَبِيلا} (النساء: 141) وهو ليس نصًّا قطعيًّا في المسألة لا ظاهرًا
فيها ، ولكنه دليل صحيح يثبت الحكم مع عدم معارضته بنص أقوى منه.
وإذا كان المنتقد لا يرضيه من الأدلة على حظر تزويج المسلمة للكتابي السنة
المتبعة وإجماع الأمة ، والقياس الجلي المأخوذ من العلة المنصوصة في القرآن، وإن
شئت قلت: وفحوى القرآن وبعض الظواهر العامة. بل يطلب عليه نصًّا أصوليًّا لا
يحتمل التأويل ، فهذا التزام لم يلتزمه أحد من السلف ولا من الخلف في شيء من
أحكام الدين العملية ، فهذه هيئة الصلاة التي هي عماد الدين ، لم ترد في نصوص
القرآن القطعية ولا غير القطعية ، فأين النص فيه على أن الصلوات خمس: واحدة
منها ركعتان ، وواحدة ثلاث ركعات ، والبواقي رباعيات؟ وأين النص فيه على
توحيد الركوع وتثنية السجود؟ وإنما ثبتت هذه الأركان بالسنة والإجماع. والفقهاء
متفقون على أن أحكام الفروع تثبت بالأدلة الظنية ، ومرادهم بالفروع ما يتعلق
بالعمل من عبادات ومعاملات لا ما فهمه المنتقد. وقد زاد هذا الرد على ما قدرنا
فعسى أن يكون مقنًعا له ، ووفقنا الله تعالى وإياه لاتباع الحق في كل حال.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
موقف العالم الإسلامي مع الجمهورية التركية
إن كل ما قرر في الجمعية الوطنية للجمهورية التركية من إلغاء الخلافة
والمحاكم الشرعية والتعليم الديني والأوقاف قد حف في أثناء المناقشة بتأويلات
وتمويهات ، مما لفقه سيد بك وأمثاله لإقناع المتدينين من أعضائها ، أو إلزامهم
الحجة بأنه لا ينقض شيئًا من عرى الإسلام ولا يهدم شيئًا من أركانه ، وإنما هو
إصلاح لحال الأمة التركية ، إذا لم يوافق نصوص الشرع فإنه يوافق مقاصده.
والظاهر أنهم تحروا في انتخاب الأعضاء أن لا يكون فيهم أحد من علماء الشرع
الأعلام، الجامعين بين قوة الإيمان وطلاقة اللسان وجراءة الجنان؛ إذ لم ينقل إلينا
عن أحد منهم دفاع يدل على ذلك.
ولما كانت هذه التأويلات الخادعة مضلة للمسلم الجاهل، وشبهة للمنافق
الضال، ومزلة للمحب الغال، وجب علينا أن نفندها، ونبين الحق الصراح فيها،
كما فندنا بدعة الخلافة الروحانية التي بدأوا خطتهم بها، ونحن لا نكفر شخصًا
معينًا إلا بكفر بواح بإجماع أهل الحق، وإنما نبين الأحكام، ونترك تطبيقها إلى
القارئ.
ورأينا أنه يجب على العالم الإسلامي أن يزداد عطفًا على الشعب التركي
وعناية بأمره ودفاعاته، وأن لا يقصر في الدفاع عن حكومته أيضًا فيما تختلف فيه
مع الأجانب، ولكن من أكبر الجنايات عليه وعلى الإسلام أن يتأولوا لهذه الحكومة
ويواتوها في أي عمل من الأعمال ، التي تضعف الدين أو الشرع في هذه الأمة ،
بل من أكبر المحرمات أن يسكتوا لها عن شيء من ذلك ، كما كان يفعل أكثرهم من
قبل في الدفاع عن السلطان عبد الحميد ثم عن الاتحاديين الذين تغلبوا عليه وخلعوه ،
فكانوا شرًّا منه، وقد خلفهم الكماليون ، فكان الافتتان بهم أشد منه بمن قبلهم، ولم
يلبثوا أن هتكوا الستر فانقلب العالم الإسلامي كله عليهم، وبعد أن أشبعوهم طعنًا
ولعنًا وتكفيرًا عاد بعضهم إلى نوط الآمال بهم، والتأول لهم والرضى منهم بأسماء
يسمونها ما أنزل الله بها من سلطان.
هذا النوع من المحبة والعطف الذي جرى عليه الكثيرون من مسلمي الهند
ومصر وتونس قد أضر الترك ولم ينفعهم. وهو هو الذي أنطق عصمت باشا بأن
العالم الإسلامي لم يكن يعطف على الدولة التركية ويظاهرها؛ لأنها دولة الخلافة بل
لأنها قوية، وقد أنكر الكثيرون هذه الكلمة وعدوها من الغرور، وهو فيها معذور أي
معذور، فإن العالم الإسلامي لم يكن يشعر بخلافة العثمانيين في وقت من الأوقات كما
يشعر بها في عهد السلطان عبد الحميد، ولم يلقب أحد بالخليفة في الجرائد والقصائد
غيره أو مثله، ثم أسقطته جمعية ماسونية إلحادية ، ونصبت بعده آخر لم تجعل له
أمرًا ولا نهيًا، فلم تر من العالم الإسلامي إلا مدحًا وإعجابًا، ثم جاءت شيعة الكمالية
فجعلت الحكومة جمهورية، وأزالت سلطة الخلافة من الدولة، ولكنها سخرت من هذا
العالم الإسلامي بتسمية خليفة أخذت عليه العهود والمواثيق بأن لا يكون خليفة،
فرضي، فصفق لها الجماهير، وقالوا: إن هذه خلافة الراشدين! !
ومن العجيب أن بعض المتحككين بالسياسة من المسلمين لا يزالون يحمدون
كل ما تفعله ، بشرط أن تحافظ على بعض الألفاظ الإسلامية محافظة رسمية ، كأن
تسمي الحكومة الجمهورية التي تعطي جمعيتها الوطنية حق التشريع والتنفيذ بلا
شرط ولا قيد (حكومة الخلافة) - وتسمي إلغاء المحاكم الشرعية توحيدًا للقضاء،
وإبطال المدارس الدينية تنظيمًا للمعارف
…
ولا يعقل لهذا سبب إلا الاعتزاز بالقوة
ولو وهميًّا، ومن هؤلاء السياسيين من يفهم الحقائق ولكنهم كانوا قد ألقوا أنفسهم في
ورطة ، ثم رأوا أنفسهم عاجزين عن الخروج منها بغير التأويل لمصطفى كمال
وشيعته كل ما يفعل إلا إلغاء كلمة (خلافة) ! ! !
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
فتاوى المنار
الدعاء للميت في الصلاة
واستغفار المؤمنين لمن سبقهم بالإيمان
واستغفار الرسول صلى الله عليه وسلم للتائبين ولنفسه ولغيره من المؤمنين
(س 17 - 20) مِن صاحب الإمضاء في ولتفريدن (جاوه)
حضرة الفاضل السيد محمد رشيد رضا حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أقدم إليكم السؤال الآتي أرجو منكم الجواب ولكم الأجر والثواب.
ما قولكم في الدعاء على الميت (؟) في التكبيرة الثالثة والرابعة من الصلاة
على الميت؟ وفي قوله تعالى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} (الحشر: 10) ؟ وفي قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَاّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ
وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ
تَوَّاباً رَّحِيماً} (النساء: 64) ؟
سؤالي مخصوص في استغفار الرسول لهم ، وفي قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا
إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (محمد: 19) أمر الله عز
وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بالاستغفار لنفسه ولأمته ، مع أنه مغفور له: أما
ذلك ليستنوا به ويقتدوا به؟
أفتونا مأجورين - والسلام
انشروا الجواب على صفحات مناركم الغراء
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... كاظم وشركاه
الجواب
الدعاء للميت في تكبيرات الصلاة عليه
(ج) أما الدعاء للميت - لا عليه - في التكبيرة الثالثة والرابعة فهو مشروع،
فقد روى الشافعي في مسنده عن أبي أمامة بن سهل أنه أخبره رجل من أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم ، أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام ، ثم
يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى سرًّا في نفسه ، ثم يصلي على النبي صلى
الله عليه وسلم ، ويخلص الدعاء للجنازة في التكبيرات ولا يقرأ في شيء منهن ، ثم
يسلم سرًّا في نفسه. وأخرج نحوه الحاكم من وجه آخر ، وأخرجه أيضًا النسائي
وعبد الرازق. قال الحافظ في فتح الباري: وإسناده صحيح ، وليس فيه قوله: بعد
التكبيرة الأولى. ولا قوله: ثم يسلم سرًّا في نفسه.
***
الاستغفار للسابقين الأولين
وأما قوله تعالى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا} (آل عمران: 147) إلخ. فلم يذكر
السائل وجه السؤال عنه ، وهذه الآية قد جاءت مع آيتين في وصف المهاجرين
والأنصار - رضي الله تعالى عنهم - ويعلم المراد منها بإيرادهما فنذكر الثلاث من
سورة الحشر وهي: {لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ
يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ *
وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي
صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ
شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا
وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ
رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (الحشر: 8-10) .
***
جعل الله تعالى المؤمنين ثلاث درجات: (الأولى) المهاجرون وهم السابقون
إلى الإيمان والنهوض بنصر الرسول صلى الله عليه وسلم على نشر دعوته ومعاداة
أهليهم ، وأقوامهم في هذه السبيل سبيل الله عز وجل على ضعفهم وقوة قومهم.
(الثانية) الأنصار الذين أظهر الله تعالى هذا الدين وأيده بهم.
(الثالثة) الذين جاءوا من بعدهم ، وهم سائر المؤمنين. وصفهم الله تعالى بهذا
القول الدال على علمهم بفضل السابقين الأولين عليهم ، وقدرهم قدرهم وحبهم
والدعاء لهم، وهو يتناول سائر مؤمني ذلك العصر من الصحابة وغيرهم، كمن آمن
في عصره صلى الله عليه وسلم ، ولم يره ويشتمل من بعدهم إن شاء الله تعالى
بمشاركته لهم في وصفهم المذكور آنفًا ، وقيل: هو خاص بهؤلاء.
روى الحاكم وصححه وابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله
تعالى عنه - أنه قال: الناس على ثلاث منازل قد مضت منزلتان ، وبقيت منزلة ،
فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت ، ثم قرأ الآيات
الثلاث.
وروى ابن مردويه عن ابن عمر أنه سمع رجلاً يتناول بعض المهاجرين
فقرأ عليه {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} (الحشر: 8) - الآية - ثم قال: هؤلاء
المهاجرون فمنهم أنت؟ قال: لا. ثم قرأ عليه {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ} (الحشر: 9) - الآية - ثم قال: هؤلاء الأنصار: أفأنت منهم؟ قال: لا. ثم قرأ عليه {وَالَّذِينَ جَاءُوا} (الحشر: 10) - الآية - وقال: من هؤلاء أنت؟
قال أرجو، قال: لا. ليس من هؤلاء من يسب هؤلاء.
وفي رواية أخرى عنه أنه بلغه أن رجلاً يسب عثمان فدعاه فأقعده بين يديه ،
فقرأ عليه هذه الآيات كما تقدم ، فقال الرجل بعد الأخيرة: أرجو أن أكون منهم. فقال
ابن عمر: لا والله ما يكون منهم من يتناولهم ويكون في قلبه الغل عليهم.
ووصفه تعالى لأهل الدرجة الثالثة من المؤمنين بذلك شهادة لمن كانوا في
عهد نزول الآيات بذلك ، وإرشاد لمن بعدهم أو أمر بأن يكونوا كذلك؛ ليدخلوا
في هذه الحظيرة الإيمانية الشريفة. وقد قال الضحاك: أمروا بالاستغفار لهم ،
وقد علم ما أحدثوا - يعني ما أخطأ به بعضهم في عهد الفتنة اهـ. وذلك أن هؤلاء
أحوج إلى الاستغفار لهم، والمؤمن الصادق في الإيمان يحب أن يغفر الله تعالى
لإخوانه المؤمنين إذا أذنبوا ، كما يحب أن يغفر له ولأولاده ولإخوته إذا أذنبوا ، ولا
ينطوي على الغل والحقد عليهم ، ولا يقطع أخوتهم ، وقد قال صلى الله عليه وسلم:
(لا يؤمن أحكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) رواه أحمد والشيخان وأصحاب
السنن ما عدا أبا داود عن أنس رضي الله عنه.
وروي عن بعض السلف ومنهم الإمام مالك أن هذه الآية في التابعين ومن
بعدهم. واستدل بها مالك على أن من سب الصحابة فلا حق له في الفيء ، فإن
الآية نزلت في قسمة الفيء. وجملة القول: إن من شأن المؤمنين التحاب والتواد
والرأفة والرحمة {أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح: 29) ومنه نصيحة
من حضر والاستغفار لمن غبر، ومن رأيته يحمل عليهم الغل ويذكرهم بالسوء، فهو
منافق.
***
استغفار الرسول لمن تاب من المنافقين
وأما استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم لمن ذكر في الآية ، فلم يبين
السائل مراده منه أيضًا، وهو في نفسه ليس محل إشكال فالاستغفار دعاء ، وهو
مطلوب شرعًا ، ودعاء الرسول فالأمثل من المؤمنين الصالحين أرجى للقبول. ولعل
وجهه المطلوب: بيان حكمة ضم استغفاره صلى الله عليه وسلم إلى هؤلاء التائبين
المشار إليهم في الآية ، وكونه لم يكتف في توبتهم باستغفارهم كسائر المذنبين ، وقد
سبق لنا بيان هذه النكتة والحكمة في تفسير الآية من سورة النساء ، ونمهد له هنا
بأن نقول:
(أولاً) إن الذين نزلت فيهم هذه الآية هم الذين قال تعالى فيهم قبلها:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن
يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ} (النساء: 60) إلخ.
(وثانيًا) إن هؤلاء كانوا من المنافقين ، وكانت رغبتهم عن التحاكم إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيثارهم التحاكم إلى الطاغوت إظهارًا للكفر
والعصيان ، فكان لا بد في قبول توبتهم من اعتداد الرسول صلى الله عليه وسلم بها
وحكمه بصحتها واستغفاره لهم ، بأن يقبلها الله تعالى منهم؛ لتظل أحكام الإسلام
جارية عليهم ، وليست كالمعاصي الشخصية التي يكره الشرع إظهارها ويكتفي من
صاحبها بتوبته في خاصة نفسه. وقد كان بعض المنافقين يطلبون استغفار الرسول
صلى الله عليه وسلم في أمثال هذه الذنوب المتعلقة بالمصالح العامة ومنه قوله تعالى:
{سَيَقُولُ لَكَ المُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ
بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} (الفتح: 11) وربما دعي بعضهم إلى ذلك إرشادًا
له واختبارًا لإيمانه فأبى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ
وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} (المنافقون: 5) .
بعد هذا التمهيد ننقل ما كتبناه في تفسير الآية (من ص 234ج 5 تفسير)
وهو:
وإنما قرن استغفارهم الذي هو عنوان توبتهم باستغفار الرسول صلى الله عليه
وسلم؛ لأن ذنبهم هذا لم يكن ظلمًا لأنفسهم فقط لم يتعد منه شيء إلى الرسول فيكفي
فيه توبتهم ، بل تعدى إلى إيذاء الرسول ، من حيث إنه رسول، له وحده الحق في
الحكم بين المؤمنين به، فكان لا بد في توبتهم وندمهم على ما صدر منهم أن يظهروا
ذلك للرسول؛ ليصفح عنهم فيما اعتدوا به على حقه، ويدعوَ الله تعالى أن يغفر
لهم إعراضهم عن حكمه، ومن هذا البيان تعرف نكتة وضع الاسم الظاهر موضع
الضمير؛ إذ قال: {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} (النساء: 64) ولم يقل: (واستغفرت
لهم) فإن التوبة عن المعاصي المتعلقة بحقوق الناس لا تكون مقبولة ولا صحيحة
إلا بعد استرضاء صاحب الحق. وجعل بعض المفسرين نكتة وضع الظاهر
موضع الضمير إجلال منصب الرسالة ، والإيذان بقبول استغفار صاحب هذا
المنصب الشريف ، وعدم رد شفاعته. والظاهر ما قلناه، والمنصب هو هو في شرفه
وعلوه، ولكن الله لا يغفر للمنافقين إذا لم يتوبوا ، وإن استغفر لهم الرسول؛ لأن الله
تعالى قال له فيهم: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن
يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} (التوبة: 80) والآية ناطقة بأن التوبة الصحيحة تكون مقبولة حتمًا إذا كملت شرائطها، وظاهر الآية أن منها أن تكون عقب الذنب كما يدل
الشرط والعطف بالفاء ، وهو بمعنى (ثم يتوبون من قريب) وتقدم تفسيره.
وذكر الأستاذ الإمام أنه تعالى سمى ترك طاعة الرسول ظلمًا للأنفس؛ أي:
إفسادًا لمصلحتها؛ لأن الرسول هاد إلى مصلحة الناس في دنياهم وآخرتهم، وهذا
الظلم يشمل الاعتداء والبغي والتحاكم إلى الطاغوت وغير ذلك. والاستغفار هو
الإقبال على الله وعزم التائب على اجتناب الذنب وعدم العود إليه مع الصدق
والإخلاص لله في ذلك ، وأما الاستغفار باللسان عقب الذنب من دون هذا التوجه القلبي
فليس استغفارًا حقيقيًّا.
أقول: يعني أن ما اعتاده الناس من تحريك اللسان بلفظ (أستغفر الله) لا
يعد طلبًا للمغفرة؛ لأن الطلب الحقيقي ينشأ عن الشعور بالحاجة إلى المطلوب ، فلا
بد أن يشعر القلب أولاً بألم المعصية وسوء مغبتها، وبالحاجة إلى التزكي من دنسها،
ولا يكون هذا إلا بما ذكر الأستاذ من التوجه القلبي إلى الله بالصدق والإخلاص
والعزم القوي على اجتناب سبب هذا الدنس والمعصية، وكيف يكون متألمًا من
القذر الحسي من ألفه وعرض بدنه له ، إذا طلب غسله باللسان، وهو لا يترك
الالتياث به ولا يدنو من الماء؟ !
وقال في استغفار الرسول: إنكم تعلمون أن مشاركة الناس بعضهم لبعض في
الدعاء مسنونة ، وإن من سنته تعالى أن يتقبل من الجماعة بأسرع مما يتقبل من
الواحد، فدعاء الجماعة أرجى للإجابة وإن كان كل داع موعودًا بالاستجابة.
وحقيقة الدعاء إظهار العبودية والخضوع له تعالى، والإجابة التي وعد بها هي
الإثابة وحسن الجزاء ، فمتى أخلص الداعي؛ أجاب الله دعاءه، سواء كان
بإعطائه ما طلب أو بغير ذلك من الأجر والثواب، وإنما كانت المشاركة في
الدعاء أرجى للقبول؛ لأن الداعين الكثيرين لشخص يؤدون هذه العبادة بسببه؛ أي:
إن ذنبه يكون هو السبب في شعورهم وإحساسهم كلهم بالحاجة إلى الله تعالى
والخضوع له والاتحاد المرضي عنده ، فكأن حاجته حاجتهم كلهم. فإذا كان الرسول
صلى الله عليه وسلم هو الداعي والمستغفر لأولئك التائبين من ظلمهم لأنفسهم مع
استغفارهم فذلك من اشتراك قلبه الشريف مع قلوبهم بالحاجة إلى تطهير الله لهم من
دنس الذنب وطلب النجاة من عقوبته ، وناهيك بقرب الرسول صلى الله عليه وسلم
من ربه، والرجاء في استجابة دعائه.
وأما اشتراط ضم استغفار الرسول إلى استغفارهم فمعناه أن توبتهم لا تتحقق
إلا إذا رضي عنهم رضاءً كاملاً ، بحيث يشعر قلبه الرحيم بالمؤمنين بحاجتهم إلى
المغفرة لصحة توبتهم وإخلاصهم ، فذنبهم ذلك لا يغفر إلا بضم استغفاره صلى
الله عليه وسلم إلى استغفارهم ، وليس كل ذنب كذلك بل يكتفى في سائر الذنوب
بتوبة العبد المذنب حيث كان، والإخلاص لله تعالى اهـ.
***
استغفار الرسول لذنبه
وأما استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم لذنبه فللعلماء فيه أقوال: منها ما
ذكر السائل، وسبب الإشكال الذي أثار ذلك أن الأنبياء معصومون من المعاصي
وهي قاعدة قطعية يجب تأويل ما عارضها، وظنوا أن منها أمر الله لخاتم رسله
صلى الله عليه وسلم بالاستغفار لذنبه ، وليس منها في الحقيقة ، فإن الذنب أعم من
المعصية كما حققناه في مواضع من التفسير وغيره ، فهو عبارة عما تكون له تبعة
أو عاقبة تستوخم أو تضر أو تنافي المصلحة. وقال المحقق الراغب في مفردات
القرآن: والذنب في الأصل الأخذ بِذَنَبِ (بالتحريك) الشيء. يقال: ذنبته - أصبت
ذنبه، ويستعمل في كل فعل تستوخم عقباه اعتبارًا بذنب الشيء ولهذا يسمى الذنب
تبعة اعتبارًا لما يحصل من عاقبته. اهـ
فالذنب ، قد يكون قولاً وقد يكون عملاً بدنيًّا أو نفسيًّا ، وقد يكون أمرًا سلبيًّا
كترك ما ينبغي، والتقصير فيما يضر التقصير فيه في المعاش أو المعاد، وهو
أعم من المعصية فإنها خاصة بمخالفة ما أمر الله تعالى به أو نهى عنه، وترى جميع
الناطقين بالعربية يستعملون الذنب في هذا المعنى العام ، فيقول أحدهم لمن أساء إليه
أو قصر في شيء من حقوقه العرفية كحقوق القرابة والصداقة: إنني مذنب أو
معترف بذنبي فلا تؤاخذني. والأنبياء عليهم السلام معصومون من عصيان الله
تعالى فيما شرعه لهم من أمر ونهي، وليسوا معصومين من كل عمل ، أو ترك قد
تكون له عاقبة غير حسنة ، إذا لم يعلموا ذلك، بل هذا من الاجتهاد الذي يجوز عليهم
فيه الخطأ بمقتضى الطبيعة البشرية ، وإنما قال العلماء: إن الله تعالى يبين لهم هذا
النوع من الخطأ إذا وقع ولا يقرهم عليه.
ويؤيد هذا ما ورد في الكتاب العزيز من معاتبة الله تعالى خاتم رسله على
أمثال هذه الذنوب وأمره بالاستغفار منها كقوله تعالى في سورة النساء: {إنَّا أنزَلْنَا
إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيماً *
وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً * وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ
اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً} (النساء: 105-107) الآيات - وسببها قضية
أراد بعض المنافقين فيها أن يخدعوا النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليحكم على يهودي
بريء بالسرقة انتصارًا لبعض المسلمين ، وكاد صلى الله عليه وسلم يصدقهم ويحكم
على اليهودي ، وكان هذا هو الظاهر من الدعوى ومال قلبه صلى الله عليه وسلم
إليه؛ لأن المسلمين كان يغلب عليهم الصدق، واليهود بالعكس، وكان المنافقون
أكذب الكاذبين، فنزلت الآيات مبينة له الحق في القضية.
ومنها إذنه صلى الله عليه وسلم لبعض المنافقين في التخلف عن الخروج معه
إلى غزوة تبوك حين استأذنوا في ذلك ، وكان وجه اجتهاده صلى الله عليه وآله
وسلم صحيحًا من وجه أيده القرآن بعد ذلك بقوله: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَاّ
خَبَالاً} (التوبة: 47) الآية، ولكن كانت المصلحة الراجحة أو أرجح المصلحتين
أن لا يأذن لهم ، فعاتبه الله تعالى وبين له ذلك بقوله: {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الكَاذِبِينَ} (التوبة: 43) ومثل ذلك اجتهاده
صلى الله عليه وسلم في فداء أسرى بدر الموافق لاجتهاد أبي بكر الصديق - رضي
الله تعالى عنه - وكان العتاب عليه أشد وهو قوله تعالى:
{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْض} (الأنفال: 67) إلى
قوله: {لَوْلا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (الأنفال:
68) .
وهذا الوجه لا ينافي حكمة اقتداء الأمة به صلى الله عليه وسلم ، وأن لا
يدعي أحد مهما تكن درجته في المعرفة والصلاح ، أنه لا ذنب له يستغفر الله منه -
ولا قول من خرج المسألة على قولهم: حسنات الأبرار سيئات المقربين. فإن ما عد
من ذنوب النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن إلا اجتهادًا في إقامة الدين ، بحسب ما
وصل إليه علمه ، وعلم الله تعالى فوق كل علوم خلقه. فهو في نفسه حسنة له
عليها أجر الاجتهاد، وباعتبار آخر ذنب لا معصية، وحسبنا هذا هنا فقد تكرر
بسط المسألة في المنار.
***
أسئلة في الهبة والميراث
من صاحب الإمضاء - في كلوغ بنكوك نوى (سيام)
بسم الله الرحمن الرحيم
حمدًا للواحد الخلاق، وصلاة وسلامًا على سيدنا محمد أفضل الخلق على
الإطلاق، وعلى آله وصحبه أئمة أعلام الهدى في الأنحاء والآفاق.
وبعد، فيا حضرة صاحب الفضيلة السيد محمد رشيد رضا المحترم أرشدنا الله
برشدك، وأسعدك في الدارين، ودمت مصباح النيرين، وعلوت معالي الفرقدين،
آمين آمين.
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
مولاي إني أتشرف أن أرفع لمسامع فضيلتكم أمرًا أرجو أن تبينوا لي حكم الله
تعالى فيه وهو ما يأتي:
(1)
كان حضرة والدي العزيز - رحمه الله تعالى - قبل وفاته إلى رحمة
الله تعالى ، وهب من ملكه قطعة الأرض هبة شرعية ، بلا عوض وهو صحيح
عقلاً وجسدًا ، فذهب معي إلى مصلحة التملك (Department deeds Title)
طلبًا من بعض موظفي هذه المصلحة أن يكتبوا اسمي على صك الملكية (حجة
التملك) لتحويل الملك فيها ، وجعلوه مكتوبًا فيها وهم شاهدون على ذلك ، وذلك
بإمضاء اسم والدي المرحوم واسمي فيها بتمام الإيجاب والقبول لدى الشهود
الموظفين في تلك المصلحة ، وهم متدينون بدين البوذ!
(2)
ثم وهب لحضرة والدتي المحترمة (زوجته الأولى) داره المبنية على
قطعة الأرض المذكورة هبة شرعية بلا عوض ، وهو سليم العقل والجسم ، وذلك
بأن والدي المرحوم كتب لوالدتي العزيزة كتابًا ، أمضى فيه اسمه على أنه قد جعل
داره المذكورة مملوكة لوالدتي المحترمة بتمام الرضاء والإيجاب والقبول ، ولكن
لا شاهد على ذلك.
(3)
وقد اتفق والدي الكريمان على شراء قطعة الأرض من المزارع
(Yards Farm) برأس مالهما الذي قد استعاراه من الغير ، ويقضيان بما
يستفيدانه من أجرات هذه المزرعة ، فإلى الآن لم يتخلصا بينهما (كذا) .
فلما توفي والدي إلى رحمته تعالى، حكم بعض علماء بلادي بأن قطعة الأرض
والدار الموهوبتين لنفسي ولوالدتي المحترمة لا تصح هبتهما ، وأن المزرعة لا
تصح أن تملكها والدتي ، ولا يصح أن يقسم نصفها لحضرتها قبل أن تكون واقعة
في الميراث ، بل تكون هذه الأشياء الثلاثة (أي: قطعة الأرض والدار والمزرعة)
كلها مما تركه حضرة والدي من ميراثه ، فيضمونها إلى تركته؛ ليقسموها لزوجتيه
الأولى والثانية ، ولجميع أولاده من جهتهما.
فلذلك - يا سيدي الأستاذ المخلص - أحرر هذا راجيًا من فيض علومكم
وملتمسًا من فضل فضيلتكم أن تشرفوني بالجواب الشافي والبيان الكافي فيما يأتي:
(ا) هل تصح هبة قطعة الأرض والدار اللتين وهبهما لي ولحضرة والدتي
أم لا؟
(ب) هل تصح أن تكون قطعة الأرض ملكًا لي أم لا؟
(ج) هل تصح أن تكون الدار مملوكة لوالدتي أم لا؟
(د) هل تصح أن تكون قطعة الأرض والدار مما تركه والدي أم لا؟
(هـ) هل يصح أن تحصل والدتي على نصف الملك في المزرعة أم لا؟
(و) هل تصح أن يقسم نصفها لحضرتها أم لا؟
(ذ) هل تصح أن تكون المزرعة كلها ميراثًا أم لا؟
فهل تسمحون لي بذلك فلكم مني خالص الشكر ، ومن الله جزيل الأجر
والثواب وأستسمحكم العفو عما زل قلمي من الخطأ والنسيان وسوء العبارة ، التي
قد تكون في كتابي هذا؛ لأني مع صغري لفي دراستي للغة العرب.
وختامًا أرجو سيدي المفضال أن يتفضل حضرته بقبول عاطر سلامي وفائق
احترامي وإخلاصي.
…
...
…
...
…
...
…
... ولدكم المخلص بالشرق الأقصى
…
... محمد علي الكريمي
(ج) إن السؤال مجمل ، ولم يذكر السائل فيه ما بنى عليه بعض علماء بلده
إبطال الهبة والشركة في شراء الأرض المذكورة ليعلم أصواب هو أم خطأ؟ وهل
هو مبني على الدليل أم على أحد المذاهب المتبعة في تلك البلاد؟ - فالهبة للوارث
في حال الصحة صحيحة ، وهي تنعقد بالإيجاب والقبول، ولكن يشترط في
الموهوب له أن يكون أهلاً للقبول والقبض بصحة تصرفه ، فهل كان السائل كذلك
أم لا؟ ويقول أكثر العلماء: إن الهبة تتم بالقبض فهل قبض كل من السائل
ووالدته ما وهبه لهما والده وتصرفا فيه أم لا؟
وجملة القول أن بيان الحق في هذه المسائل يتوقف على الاطلاع على صورة
الحكم الذي حكم به بعض علماء بلاد السائل والوقوف على أدلته ، ولا سيما الأرض
التي اشتراها الزوجان بمال اقترضاه وهما يؤديانه مما يستغلانه من الأرض ، وليت
شعري هل يعني بالحكم معناه القضائي أم يريد به الفتوى ، وبيان حكم الشرع في
هذه الوقائع؟ وإذا كان هذا حكمًا قضائيًا فمن الذي نصب هذا العالم قاضيًا؟
أحكومة البلاد الوثنية أم المسلمون أنفسهم؟ وما فائدة استفتائه إيانا إن كان حكم ذلك
العالم نافذًا؟ وهل المسلمون هنالك يلتزمون العمل بفتوى علمائهم اختيارًا أم تلزمهم
الحكومة إياها إلزامًا؟ أم لا يعملون إلا بما يعتقدون أنه صواب منها؟ نرجو السائل
أن يبين لنا ذلك، وكل ما يتعلق بهذه المسائل، وإن كان لذلك العالم فتوى مكتوبة فيما
ذكر فليرسل إلينا صورتها بحروفها، هذا إذا كان لبياننا الحكم الصحيح فائدة
له، وإلا فهو مخير. وقد طال العهد عندنا على هذه الأسئلة فمضى على وصولها إلينا
بضعة أشهر ولم نجد فراغًا نكتب إليه فيه بذلك.
_________
الكاتب: أحمد بن تيمية
أهل الصفة وأباطيل بعض المتصوفة فيهم وفي الأولياء
وأصنافهم والدعاوى فيهم
لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية قدس سره
تتمة لما في الجزء 7م 24 (ص508)
(فصل) وليس في أولياء الله المتقين ، بل ولا أنبياء الله ولا المرسلين من
كان غائب الجسد دائمًا عن أبصار الناس ، بل هذا من جنس قول القائل: بأن عليًّا
في السحاب، وأن محمد بن الحنفية في جبال رضوى، وأن محمد بن الحسن في
سرداب سامرا، وأن الحاكم في جبل مصر ، وأن الأبدال رجال الغيب في جبل
لبنان. فكل هذا ونحوه من قول أهل الإفك والبهتان. نعم قد تخرق العادة في حق
الشخص فيغيب تارة عن أبصار الناس إما لدفع عدو عنه وإما لغير ذلك ، وأما
أنه يكون هكذا طول عمره فباطل. نعم يكون نور قلبه وهدى فؤاده وما فيه من
أسرار الله وأمانته وأنواره ومعرفته غيبًا عن الناس، ويكون صلاحه وولايته غيبًا
عن أكثر الناس، فهذا هو الواقع. وأسرار الحق بينه وبين أوليائه وأكثر الناس لا
يعلمون.
(فصل) وقد بينا بطلان اسم الغوث مطلقًا ، واندرج في ذلك غوث العرب
والعجم ومكة والغوث السابع، وكذلك لفظ خاتم الأولياء لفظ باطل لا أصل له،
وأول من ذكره محمد بن علي الحكيم الترمذي، وقد انتحله طائفة كل منهم يدعي أنه
خاتم الأولياء كابن حمويه وابن العربي وغيرهما ، وكل منهم يدعي أنه أفضل من
النبي صلى الله عليه وسلم من بعض الوجوه، إلى غير ذلك من الكفر والبهتان ، وكل
طمعًا في رياسة خاتم الأنبياء.
وقد غلطوا فإن خاتم الأنبياء إنما كان أفضلهم للأدلة الدالة على ذلك، وليس
كذلك للأولياء ، فإن أفضل أولياء هذه الأمة السابقون الأولون من المهاجرين
والأنصار ، وخير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر وخير قرونها القرن الذي
بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم الذي يلونهم ثم الذي يلونهم. وخاتم
الأولياء في الحقيقة هو آخر مؤمن تقي يكون من الناس، وليس ذلك بخير الأولياء
ولا أفضلهم، بل خيرهم وأفضلهم أبو بكر ثم عمر اللذان ما طلعت الشمس وما
غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل منهما.
(فصل) وأما هؤلاء القلندرية المحلقين اللحى؛ فمن أهل الضلالة والجهالة
وأكثرهم كافرون بالله ورسوله ، لا يرون وجوب الصلاة والصيام، ولا يحرمون
ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق، بل كثير منهم أكفر من اليهود
والنصارى ، وهم ليسوا من أهل الملة ولا من أهل السنة، وقد يكون فيهم من هو
مسلم لكن مبتدع ضال أو فاسق فاجر. ومن قال: إن قلندر كان موجودًا في زمن
النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد كذب. وافترى: بل قد قيل أصل هذا الصنف أنهم
كانوا قومًا من نساك الفرس ، يدورون على ما فيه راحة قلوبهم بعد أداء الفرائض
واجتناب المحرمات. هكذا فسرهم الشيخ أبو حفص السهرودي في عوارفه. ثم
إنهم بعد ذلك تركوا الواجبات وفعلوا المحرمات بمنزلة الملامية الذين كانوا يخفون
حسناتهم ويظهرون ما لا يظن بصاحبه الصلاح من زي الأغنياء ولبس العمامة،
فهذا قريب وصاحبه مأجور على نيته.
ثم حدث قوم فدخلوا في أمور مكروهة في الشريعة ، ثم زاد الأمر ففعل قوم
المحرمات من الفواحش والمنكرات، وترك الفرائض والواجبات، وزعموا أن ذلك
دخول منهم في الملاميات. ولقد صدقوا في استحقاقهم اللوم والندم والعقاب من الله في
الدنيا والآخرة ، وتجب عقوبتهم جميعهم، ومنعهم من هذا الشعار الملعون ، كما يجب
ذلك في كل معين ببدعة أو فجور ، وليس ذلك مختصًّا بهم ، بل كل من كان من
المتنسكة والمتفقهة والمتعبدة ، والمتفقرة والمتزهدة والمتكلمة ، والمتفلسفة ومن
وافقهم من الملوك والأغنياء ، والكتاب والحساب والأطباء وأهل الديوان والعامة
خارجًا عن الهدى ودين الحق الذي بعث الله به رسوله باطنًا وظاهرًا ، مثل من
يعتقد أن شيخه يرزقه وينصره أو يهديه أو يغيثه، أو كان يعبد شيخه ويدعوه ويسجد
له، أو كان يفضله على النبي صلى الله عليه وسلم تفضيلاً مطلقًا أو مقيدًا في شيء
من الفضل الذي يقرب إلى الله تعالى، أو كان يرى أنه هو وشيخه مستغن عن متابعة
الرسول، فكل هؤلاء كفار إن أظهروا، ومنافقون إن أبطنوا. وهؤلاء الأجناس
وإن كانوا قد كثروا في هذه الأزمان، فلقلة دعاة العلم والإيمان، وفتور آثار
الرسالة في أكثر البلدان، وأكثر هؤلاء ليس عندهم من آثار الرسالة وميراث
النبوة ما يعرفون به الهدى ، وكثير منهم لم يبلغهم ذلك. وفي أوقات الفترات وأمكنة
الفترات يثاب الرجل على ما معه من الإيمان القليل ، ويقضي الله فيه لمن لم يقم
الحجة عليه ما لا يغفر به لمن قامت الحجة عليه كما في الحديث المعروف:
(يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه صلاة ولا صيامًا ولا حجًّا ولا عمرة إلا الشيخ
الكبير والعجوز الكبيرة ، ويقولون: أدركنا آباءنا وهم يقولون: لا إله إلا الله)
فقيل لحذيفة بن اليمان: ما تغني عنهم لا إله إلا الله؟ فقال: (تنجيهم من النار ،
تنجيهم من النار ، تنجيهم من النار) .
وأصل ذلك أن المقالة التي هي كفر بالكتاب أو السنة أو الإجماع ، يقال: هي
كفر. قولاً يطلق كما دل على ذلك الدليل الشرعي ، فإن الإيمان من الأحكام المتلقاة
عن الله ورسوله ليس ذلك مما يحكم فيه الناس بظنونهم وأهوائهم. ولا يجب أن
يحكم في كل شخص قال ذلك بأنه كافر حتى يثبت في حقه شروط التكفير وتنفى
موانعه، مثل من قال: إن الخمر أو الربا حلال. لقرب عهده بالإسلام أو لنشوئه
في بادية بعيدة، أو سمع كلامًا [1] أنكره ، ولم يعتقد أنه من القرآن ولا أنه من
أحاديثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما كان بعض السلف ينكر أشياء حتى
يثبت عنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها ، وكما كان الصحابة يشكون في
أشياء: مثل رؤية الله وغير ذلك، حتى يسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، ومثل الذي قال: إذا أنا مت فاسحقوني وذروني في اليم؛ لعلي أضل عن الله.
ونحو ذلك فإن هؤلاء لا يكفرون حتى تقوم عليهم الحجة بالرسالة كما قال الله تعالى:
{َ لِئَلَاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (النساء: 165) وقد عفا الله
لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان ، وقد أشبعنا الكلام في القواعد التي في هذا الجواب
في أماكنها، والفتوى لا تحتمل البسط أكثر من هذا.
(فصل) وأما النذر للقبور أو لسكان القبور أو العاكفين على القبور؛ سواء
كانت قبور الأنبياء أو الصالحين ، فهو نذر حرام باطل يشبه النذر للأوثان، سواء
كان نذر زيت أو شمع أو غير ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله
زوَّارت القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج) [2] وقال: (لعن الله اليهود
والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يحذر ما فعلوا [3] وقال: (إن من كان
قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن
ذلك [4] ) وقال: (اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعبد من بعدي)[5] .
وقد اتفق أئمة الدين على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور، ولا أن تعلق
عليها الستور، ولا أن ينذر لها النذور ولا أن يوضع عندها الذهب والفضة، بل
حكم هذه الأموال أن تصرف في مصالح المسلمين ، إذا لم يكن لها مستحق معين.
ويجب هدم كل مسجد بني على قبر كائنًا من كان الميت ، فإن ذلك من أكبر أسباب
عبادة الأوثان كما قال تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَداً وَلَا سُوَاعا وَلَا
يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرا * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرا} (نوح: 23-24) وقال طائفة من
السلف: هذه أسماء قوم صالحين لما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم عبدوهم ، ومن
نذر لها نذرًا لم يجز له الوفاء ، لما ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه وعليه
كفارة يمين [6] ) ، ولما روي عنه أنه قال: (لا نذر في معصية، وكفارته كفارة
يمين) [7] .
ومن العلماء من لا يوجب عليه إلا الاستغفار والتوبة. ومن الحسن أن
يصرف ما نذره في نظيره من المشروع ، مثل: أن يصرف الدهن إلى تنوير
المساجد، والنفقة إلى صالحة فقراء المؤمنين ، وإن كانوا من أقارب الشيخ، ونحو
ذلك. وهذا الحكم عام في قبر نفيسة ومن هو أكبر من نفيسة من الصحابة مثل قبر
طلحة والزبير وغيرهما بالبصرة، وقبر سلمان الفارسي وغيره بالعراق، والمشاهد
المنسوبة إلى علي رضي الله عنه والحسين وموسى وجعفر وقبر مثل معروف
الكرخي وأحمد بن حنبل وغيرهم رضي الله عنهم.
ومن اعتقد أن بالنذور لها نفعًا أو أجرًا ما، فهو ضال جاهل. فقد ثبت في
الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النذر وقال: (إنه لا يأتي بخير
وإنما يستخرج به من البخيل) [8] وفي رواية: (إنما يلقي ابن آدم إلى القدر) فإذا
كان هذا في نذر الطاعة؛ فكيف في نذر المعصية؟ فيعتقدون أنها باب الحوائج إلى
الله ، وأنها تكشف الضر وتفتح الرزق وتحفظ مصر فهذا كافر مشرك يجب قتله ،
وكذلك من اعتقد ذلك في غيرها كائنًا من كان. {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلَا
يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ
الوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} (الإسراء: 56-57) ، {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ
ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ *
وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} (سبأ: 22-23) ، {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ مَا لَكُم مِّن
دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} (السجدة: 4)، وقال الله: {وَقَالَ
اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ * وَلَهُ مَا فِي
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ * وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ
ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم
بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} (النحل: 51-
55) .
والقرآن من أوله إلى آخره وجميع الكتب والرسل إنما بعثوا بأن يعبد الله
وحده لا شريك له، وأن لا يجعلوا مع الله إلهًا آخر. والإله من يألهه القلب عبادة
واستعانة وإجلالاً وإكرامًا وخوفًا ورجاءً ، كما هو حال المشركين في آلهتهم، وإن
اعتقد المشرك أن ما يألهه مخلوق مصنوع ، كما كان المشركون يقولون في تلبيتهم:
لبيك لا شريك لك، إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك. وقال النبي صلى الله
عليه وسلم لحصين الخزاعي: (يا حصين كم تعبد؟ قال: أعبد سبعة آلهة، ستة
في الأرض وواحد في السماء. قال: فمن ذا الذي تعبده لرغبتك ورهبتك؟ قال:
الذي في السماء. قال: يا حصين فأسلم حتى أعلمك كلمات ينفعك الله بهن. فلما أسلم
قال: قل: اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي) .
(فصل) وأما من زعم أن الملائكة والأنبياء تحضر سماع المكاء والتصدية [9]
محبة له ورغبة فيه فهو كاذب مفتر، بل إنما تحضره الشياطين وهي تنزل
عليهم وتنفخ فيهم كما روى الطبراني وغيره عن ابن عباس مرفوعًا إلى النبي صلى
الله عليه وسلم (إن الشيطان قال: يا رب اجعل لي بيتًا. قال: بيتك الحمام. قال:
اجعل لي قرآنًا. قال: قرآنك الشعر. قال: اجعل لي مؤذنًا. قال: مؤذنك
المزمار) ، وقد قال تعالى في كتابه مخاطبًا للشيطان:{وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ} (الإسراء: 64) وقد فسَّر ذلك طائفة من السلف بصوت الغناء،
وهو شامل له ولغيره من الأصوات المستفزة لأصحابها عن سبيل الله، وروي عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما نهيتُ عن صوتين أحمقين فاجرين:
صوت لهو ولعب ومزامير الشيطان، وصوت لطم خدود وشق جيوب ودعاء
بدعوى الجاهلية ذات المكاء والتصدية) وكيف يذر الشيطان عليهم حتى يتواجدوا
الوجد الشيطاني ، حتى إن بعضهم صار يرقص فوق رؤوس الحاضرين؟! ورأى
بعض المشايخ المكاشفين أن شيطانه قد حمله حتى رقص به ، فلما صرخ قال:
هرب شيطانه. وسقط ذلك الرجل!
وهذه الأمور لها أسرار وحقائق لا يشهدها إلا أهل البصائر الإيمانية والمشاهد
الإيقانية، ولكن من اتبع ما جاءت به الشريعة، وأعرض عن السبل المبتدعة، فقد
حصل له الهدى وخير الدنيا والآخرة، وإن لم يعرف حقائق الأمور ، بمنزلة من
سلك السبيل إلى مكة خلف الدليل الهادي ، فإنه يصل إلى مقصوده ويجد الزاد والماء
في مواطنه، وإن لم يعرف كيف يحصل ذلك وسببه، ومن سلك خلف غير الدليل
الهادي كان ضالاًّ عن الطريق، فإما أن يهلك، وإما أن يشقى مدة ثم يعود إلى
الطريق. والدليل الهادي هو الرسول الذي بعثه الله إلى الناس بشيرًا نذيرًا، وداعيًا
إلى الله بإذنه وهاديًا إلى صراط مستقيم، صراط الله الذي له ملك السموات
والأرض. وآثار الشيطان تظهر على أهل السماع الجاهلي مثل الإزباد والإرعاد
والصرخات المنكرة ونحو ذلك ما يجدون في نفوسهم من ثوران مراد الشيطان
بحسب الصوت.
إما وجد في الهوى مذموم، وإما غضب وعدوان على من هو مظلوم، وإما
لطم وشق ثياب وصياح كصياح المحزون المحروم، إلى غير ذلك من الآثار
الشيطانية التي تعتري أهل الاجتماع على شرب الخمر إذا سكروا بها ، فإن السكر
بالأصوات المطربة قد تصير من جنس الإسكار بالأشربة المطربة فتصدهم عن
ذكر الله وعن الصلاة، وتمنع قلوبهم حلاوة القرآن وفهم معانيه واتباعه،
فيصيرون مضارعين للذين يشترون لهو الحديث ليضلوا عن سبيل الله، ويوقع
بينهم العداوة والبغضاء حتى يقتل بعضهم بعضًا بأحواله الفاسدة الشيطانية، كما يقتل
العائن من أصابه بعينه، ولهذا قال من قال من العلماء: إن هؤلاء يجب عليهم القَوَد
أو الدية إذا عرف أنهم قتلوا بالأحوال الشيطانية الفاسدة؛ لأنهم ظالمون وهم
إنما يغتبطون بما ينفذونه من موادهم المحرمة كما يغتبط الظلمة المسلطون.
ومن هذا الجنس حال خفراء الكافرين والمبتدعين والظالمين ، فإنهم قد يكون
لهم زهد وعبادة وهمة ، كما يكون للمشركين وأهل الكتاب، وكما كان للخوارج
المارقين الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (يحقر أحدكم صلاته مع
صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز
حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية؛ أينما لقيتموهم فاقتلوهم،
فإن في قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة) وقد يكون لهم مع ذلك أحوال
باطنة كما يكون لهم ملكة ظاهرة ، فإن سلطان الباطن معناه السلطان الظاهر. ولا
يكون من أولياء الله إلا من كان من الذين آمنوا وكانوا يتقون ، وما فعلوه من الإعانة
على الظلم ، فهم يستحقون العقاب عليه بقدر الذنب، وباب القدرة والتمكن باطنًا
وظاهرًا ليس مستلزمًا لولاية الله تعالى ، بل قد يكون ولي الله متمكنًا ذا سلطان ،
وقد يكون مستضعفًا إلى أن ينصره الله، وقد يكون عدو الله مستضعفًا، وقد يكون
سلطانًا إلى أن ينتقم الله منه، فخفراء التتار في الباطن من جنس التتار في الظاهر،
هؤلاء في العباد، بمنزلة هؤلاء في الأجناد.
وأما الغلبة فإن الله قد يديل الكافرين على المؤمنين تارة ، كما يديل
المؤمنين على الكافرين، كما كان يكون لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع
عدوهم، لكن العاقبة للمتقين، فإن الله يقول: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي
الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} (غافر: 51) وإذا كان في المسلمين
ضعف وكان العدو مستظهرًا عليهم ، كان ذلك بسبب ذنوبهم وخطاياهم: إما
لتفريطهم في أداء الواجبات باطنًا وظاهرًا. وإما لعدوانهم بتعدي الحدود باطنًا
وظاهرًا، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ التَقَى الجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ
الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} (آل عمران: 155) وقال تعالى: {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم
مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ} (آل عمران: 165)
وقد قال تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ
فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ
الأُمُورِ} (الحج: 40-41) .
(فصل) وأما هذه المشاهد المشهورة فمنها ما هو كذب قطعًا مثل المشهد
الذي بظاهر دمشق المضاف إلى أبي بن كعب، والمشهد الذي في ظاهرها المضاف
إلى أويس القرني، والمشهد الذي في سفح لبنان المضاف إلى نوح عليه السلام،
والمشهد الذي بمصر المضاف إلى الحسين - إلى غير ذلك من المشاهد التي يطول
شرحها بالشام والعراق ومصر وسائر الأمصار ، حتى قال طائفة من العلماء منهم
عبد العزيز الكناني: كل هذه القبور المضافة إلى الأنبياء لا يصح فيها إلا قبر النبي
صلى الله عليه وسلم. وقد أثبت غيره قبر الخليل عليه السلام أيضًا، وأما مشهد
علي فعامة العلماء على أنه ليس قبره ، بل قد قيل: إنه قبر المغيرة بن شعبة وذلك
أنه إنما ظهر بعد نحو ثلاثمائة سنة من موت علي في إمارة بني بويه. وذكروا أن
أصل ذلك حكاية بلغتهم عن الرشيد أنه أتى إلى ذلك المكان ، وجعل يعتذر إلى من
فيه مما جرى بينه وبين ذرية علي. وبمثل هذه الحكاية لا يقوم شيء فالرشيد أيضًا
لا علم له بذلك ، ولعل هذه الحكاية إن صحت عنه فقد قيل له ذلك كما قيل لغيره.
وجمهور أهل المعرفة يقولون: إن عليًّا إنما دفن في قصر الإمارة أو قريبَا
منه وهذا هو السنة، فإن حمل ميت من الكوفة إلى مكان بعيد ليس فيه فضيلة أمر
غير مشروع ، فلا يظن بآل علي رضي الله عنهم أنهم فعلوا به ذلك ، ولا
يظن أيضًا أن ذلك خفي على أهل بيته والمسلمين ثلاثمائة سنة حتى أظهره قوم
من الأعاجم الجهال ذوي الأهواء، وكذلك قبر معاوية الذي بظاهر دمشق ، قد قيل:
إنه ليس قبر معاوية، وإن قبره بحائط مسجد دمشق الذي يقال: إنه قبر هود.
وأصل ذلك أن عامة هذه القبور والمشاهد مضطرب مختلف ، لا يكاد يوقف
منه على علم إلا في قليل منها بعد بحث شديد؛ وهذا لأن معرفتها وبناء المساجد
عليها ليس من شريعة الإسلام، ولا ذلك من حكم الذكر الذي تكفل الله بحفظه حيث
قال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9) بل قد نهى النبي
صلى الله عليه وسلم عما يفعله المبتدعون عندها مثل قوله الذي رواه مسلم في
صحيحه عن جندب بن عبد الله قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن
يموت بخمس وهو يقول: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد فإني
أنهاكم عن ذلك) وقال: (لعن اللهُ اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) .
وقد اتفق أئمة الإسلام على أنه لا يشرع بناء هذه المشاهد التي على القبور،
ولا يشرع اتخاذها مساجد، ولا تشرع الصلاة عندها، ولا يشرع قصدها لأجل
التعبد عندها بصلاة واعتكاف أو استغاثة وابتهال ونحو ذلك، وكرهوا الصلاة
عندها، ثم كثير منهم قال: الصلاة باطلة؛ لأجل النهي عنها.
وإنما السنة إذا زار قبر مسلم ميت إما نبي أو رجل صالح أو غيرهما أن يسلم
عليه ويدعو له بمنزلة الصلاة على جنازته ، كما جمع الله بين هذين حيث يقول في
المنافقين: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} (التوبة:
84) فكان دليل الخطاب أن المؤمنين يصلى عليهم ويقام على قبورهم، وفي السنن
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دفن الميت من أصحابه يقوم على قبره ثم
يقول: (سلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل) .
وفي الصحيح أنه كان يعلّم أصحابه أن يقولوا إذا زاروا القبور: (السلام
عليكم أهل دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمين
منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا
تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم) .
وإنما دين الله تعالى تعظيم بيوت الله وحده لا شريك له ، وهي المساجد التي
تشرع فيها الصلوات جماعة وغير جماعة ، والاعتكاف وسائر العبادات البدنية
والقلبية من القراءة، والذكر، والدعاء لله، قال تعالى: {وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا
مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (الجن: 18) وقال تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا
وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (الأعراف: 29) وقال تعالى:
{يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (الأعراف: 31) وقال تعالى:
{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ
إِلَاّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئَكَ أَن يَكُونُوا مِنَ المُهْتَدِينَ} (التوبة: 18) وقال تعالى: {فِي
بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ *
رِجَالٌ لَاّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْما
تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ
يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (النور: 36-38) فهذا دين المسلمين الذين
يعبدون الله مخلصين له الدين.
وأما اتخاذ القبور أوثانًا فهو من دين المشركين، الذي نهى عنه سيد المرسلين.
والله تعالى يصلح حال جميع المسلمين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على
سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا طيبًا مباركًا كما هو أهله.
(تمت الرسالة)
(طبعت عن نسخة كتبت في بغداد بقلم محمد صالح المصطفى الوتار)
فيها شيء من الغلط والتحريف
عفا الله عنا وعنه.
_________
(1)
لعله سقط من هنا وصف لهذا بأنه من كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
(2)
رواه أبو داود والترمذي والنسائي والحاكم من حديث ابن عباس بلفظ زائرات وسنده صحيح، و (لعن الله زوارات القبور) حديث آخر صحيح أيضًا.
(3)
رواه الشيخان وغيرهما عن عائشة ، وفي بعض الروايات تعليل آخر لهذا اللعن غير تحذير المسلمين عن اتخاذ القبور مساجد وهو قولها: ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدًا.
(4)
هذه جملة من حديث آخر لها في هذا الموضوع عند مسلم ، وهنالك ألفاظ أخرى بمعنى واحد ، وصرحت بأنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك في مرضه الأخير قبل وفاته بخمسة أيام.
(5)
رواه مالك في الموطأ.
(6)
رواه أحمد والبخاري وأصحاب السنن الأربعة عن عائشة.
(7)
رواه أحمد وأصحاب السنن عنها أيضًا وهو صحيح.
(8)
رواه أحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن من حديث عبد الله بن عمر إلا الترمذي ومن حديث أبي هريرة إلا أبا داود - وفي رواية (أنه لا يرد شيئًا) بدل لا يأتي بخير.
(9)
المُكاء بالضم: هو صفير الطائر ، والتصدية: الصوت الذي يجرى مجرى الصدى وهو ما يرجع عن غيره بالانعكاس وفسر بالتصفيق، قال تعالى في الجاهلية:[وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِندَ البَيْتِ إِلَاّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً](الأنفال: 35) .
الكاتب: محمد رشيد رضا
الخلافة والمؤتمر الإسلامي
قرار كبار العلماء الرسميين في القاهرة
بلاغ رسمي للصحف
في يوم الثلاثاء 19 شعبان 1342 - 25 مارس سنة 1924 اجتمعت بالإدارة
العامة للمعاهد الدينية هيئة علمية دينية كبرى تحت رياسة حضرة صاحب الفضيلة
الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر ورئيس المعاهد الدينية العلمية الإسلامية ،
وبعضوية أصحاب الفضيلة: رئيس المحكمة العليا الشرعية، ومفتي الديار
المصرية، ووكيل الجامع الأزهر ومدير المعاهد الدينية ، والسكرتير العام لمجلس
الأزهر الأعلى والمعاهد الدينية، وشيخ المعاهد الدينية الكبرى ، ومشايخ الأقسام
بالجامع الأزهر، والكثير من هيئة كبار العلماء ، وغيرهم من العلماء والمفتشين
بالمعاهد الدينية؛ للمداولة في شؤون الخلافة الإسلامية ، وقر قرارهم بعد بحث طويل
على ما يأتي:
1-
كثر تحدث الناس في أمر الخلافة بعد خروج الأمير عبد المجيد من
الآستانة ، واهتم المسلمون بالبحث والتفكير فيما يجب عليهم عمله قيامًا بما يفوضه
عليهم دينهم الحنيف؛ لذلك رأينا أن نعلن رأينا في خلافة الأمير عبد المجيد ، وفيما
يجب على المسلمين اتباعه الآن وفيما بعد.
2-
الخلافة - وتسمى الإمامة - رياسة عامة في الدين والدنيا ، قوامها النظر
في مصالح الملة وتدبير الأمة. والإمام نائب عن صاحب الشريعة صلى الله عليه
وسلم في حماية الدين وتنفيذ أحكامه ، وفي تدبير شؤون الخلق الدنيوية على مقتضى
النظر الشرعي.
3-
الإمام يصير إمامًا بالبيعة من أهل الحل والعقد، أو استخلاف إمام قبله.
ولا بد مع هذا من نفاذ حكمه في رعيته خوفًا من قهره وسلطانه ، فإن بايع الناس
الإمام ، ولم ينفذ حكمه فيهم لعجزه عن قهرهم ، أو استخلفه إمام قبله ولم ينفذ
حكمه في الرعية لعجزه؛ لا يصير إمامًا بالبيعة أو الاستخلاف.
وتستفاد الإمامة أيضًا بطريق التغلب وحده ، فإذا تغلب شخص على الخليفة
واغتصب مكانه انعزل الأول. وقد يوجد التغلب مع البيعة أو الاستخلاف كما
حصل لأكثر الخلفاء في العصور الماضية. وهذا كله مستفاد صراحة من نصوص
السادة الحنفية.
4-
ولما كان الإمام صاحب التصرف التام في شؤون الرعية ، وجب أن
تكون جميع الولايات مستمدة منه وصادرة عنه: كولاية الوزراء، وكولاية أمراء
الأقاليم ، وولاية القضاء، وولاية نقباء الجيوش وحماة الثغور.
5-
وينحل عقد الإمامة بما يزول به المقصود منها: كأسره بحيث لا يرجى
خلاصه، وعجزه عن تدبير مصالح الملة والإمامة ، ومتى وجد منه ما يوجب اختلال
أحوال المسلمين وانتكاس أمور الدين ، جاز للأمة خلعه ما لم يؤد ذلك إلى فتنة،
فإن أدى إليها احتمل أخف الضررين.
6-
رضي المسلمون الذين كانوا يدينون لخلافة الأمير وحيد الدين عن خلعه؛
للأسباب التي علموها عنه ، واعتقدوا أنها مبررة للخلع ، ثم قدم الأتراك للخلافة
الأمير عبد المجيد معلنين فصل السلطة جميعها عن الخليفة ، ووكلوا أمرها إلى
مجلسهم الوطني ، وجعلوا الأمير عبد المجيد خليفة روحيًّا فقط.
7-
وقد أحدث الأتراك بعملهم هذا بدعة ما كان يعرفها المسلمون من قبل ، ثم
أضافوا إليها بدعة أخرى وهي إلغاء مقام الخلافة.
8-
لم تكن خلافة الأمير عبد المجيد - والحالة هذه - خلافة شرعية ، فإن
الدين الإسلامي لا يعرف الخليفة بهذا المعنى الذي حدد له ورضيه ، ولم تكن
بيعة المسلمين له بيعة صحيحة شرعًا.
9-
وإذا غضضنا النظر عن هذا وقلنا: إن البيعة صحت له. فإنه لم يتم له
نفوذ الحكم الذي هو شرط شرعي لتحقيق معنى الخلافة.
10-
وإذا فرض أنه تم له وصف الخلافة بمعناها الشرعي ، فقد انحل عنه
ذلك الوصف بعجزه حقيقة عن القيام بتدبير أمور الدين والدنيا ، وعجزه عن الإقامة
في بلده ومملكته ، وعن حماية نفسه وأسرته بعد أن تم للأتراك تغلبهم عليه.
11-
والنتيجة لهذا كله أنه ليس للأمير عبد المجيد بيعة في أعناق المسلمين
لزوال المقصود من الإمامة شرعًا، وأنه ليس من الحكمة ولا مما يلائم شرف
الإسلام والمسلمين أن ينادوا ببقاء بيعة في أعناقهم لشخص لا يملك الإقامة في بلده،
ولا يملكون هم تمكينه منها.
12-
ولما كان مركز الخلافة في نظر الدين الإسلامي ونظر جميع المسلمين
له من الأهمية ما لا يعدله شيء آخر لما يترتب عليه من إعلاء شأن الدين وأهله،
ومن توحيد جامعة المسلمين ، وربطهم برباط قوي متين - وجب على المسلمين أن
يفكروا في نظام الخلافة وفي وضع أسسه على قواعد تتفق مع أحكام الدين
الإسلامي ، ولا تتجافى مع النظم الإسلامية التي رضيها المسلمون نظمًا لحكمهم.
13-
غير أن الضجة التي أحدثها الأتراك بإلغاء مقام الخلافة والتغلب على
الأمير عبد المجيد ، جعلت العالم الإسلامي في اضطراب لا يتمكن المسلمون معه
من البت في هذه النظم ، وتكوين رأي ناضج فيها ، وفيمن يصح أن يختار خليفة
لهم إلا بعد الهدوء والإمعان والروية ، وبعد معرفة وجهات النظر في مختلف
الجهات.
14-
لهذه الأسباب نرى أنه لا بد من عقد مؤتمر ديني إسلامي ، يدعى إليه
ممثلو جميع الأمم الإسلامية؛ للبحث فيمن يجب أن تسند إليه الخلافة الإسلامية.
ويكون بمدينة القاهرة تحت رياسة شيخ الإسلام بالديار المصرية وذلك نظرًا لمكانة
مصر الممتازة بين الأمم الإسلامية ، وأن يكون عقد المؤتمر في شهر شعبان سنة
1343 هـ (مارس سنة 1925م) .
15-
ولا بد لنا من إعلان الشكر لكل من أبدى غيرة دينية إسلامية في أمر
الخلافة ، وأظهر اهتمامًا بهذا الواجب.
16-
ونعلن أيضًا شكرنا للأمم التي تدين بأديان أخرى غير الدين الإسلامي
ولدول تلك الأمم على ما أظهروه إلى الآن من ابتعادهم عن التدخل في شؤون
الخلافة الإسلامية، ونرجو منهم أن يلاحظوا أن مسألة الخلافة مسألة إسلامية
محضة ، لا يجوز أن تتعدى دائرتها، ولا أن يهتم بها أحد من غير أهلها ، والعالم
الإسلامي جميعه يريد أن يعيش بسلام مع الأمم الأخرى ، وأن يحافظ على قواعد
دينه الحقة، ونظمه البريئة بطبعها من العدوان.
17-
هذا ما رأينا من الواجب الديني علينا إذاعته إلى العالم الإسلامي في
مختلف البقاع ، وإلى الأمم الأخرى؛ ليكون الجميع على بينة من الأمر.
القاهرة في 19 شعبان سنة 1342 و (25 مارس سنة 1924) .
(ويلي ذلك الإمضاءات)
***
موافقة علماء الإسكندرية على قرار علماء الأزهر
(اجتمع جمهور علماء الإسكندرية ، ووضعوا البيان التالي بعد أن كثر
القول في مخالفتهم لعلماء الأزهر) .
نحن علماء معهد إسكندرية نظرنا في القرار الذي وضعه أصحاب الفضيلة
العلماء ، الذين اجتمعوا في الإدارة العامة للمعاهد برئاسة صاحب الفضيلة مولانا
شيخ الجامع الأزهر ورئيس المعاهد الدينية ، فوجدناه مشتملاً على موضعين:
(أحدهما) الحكم الشرعي في خلافة الأمير عبد المجيد.
(وثانيهما) لزوم عقد مؤتمر إسلامي عام للنظر فيمن تسند إليه الخلافة بعدما
تنحى الأتراك عنها.
(أما الأول فقد راجعنا بشأنه قرارات الجمعية الوطنية بأنقره، واطلعنا على
قرارها الصادر بتاريخ 1 نوفمبر سنة 1922 المندرج بجريدة المقطم الصادر
بتاريخ 16 نوفمبر سنة 1922 القاضي بسحب السلطة بنوعيها التشريعية والتنفيذية
من الخليفة ، وجعلها حقًّا خاصًّا بالجمعية المذكورة ، وجعل الخلافة في آل عثمان ،
وجعل حماية الخلافة راجعة للجمعية، والذي يقضي بتجريد الخليفة من كل اشتراك
أو تدخل في تدبير شؤون الرعية وحراسة المسلمين بما يقتضيه النظر الشرعي في
مصالحهم. واطلعنا أيضًا على قرار الجمعية المذكورة الصادر في 18 نوفمبر سنة
1922 المندرج بجريدة الأهرام عدد 13917 الصادر في 8 ديسمبر سنة 1922
القاضي بخلع الأمير وحيد الدين وتولية الأمير عبد المجيد خليفة مع مراعاة
الأصول المرعية في قرار أول نوفمبر السالف الذكر. واطلعنا على صورة
التلغراف الصادر من الأمير عبد المجيد إلى رياسة مجلس الأمة الكبير المنشور
بجريدة المقطم عدد 10262 الصادر بتاريخ 9 ديسمبر سنة 1922 ردًّا على
التلغراف الصادر من مجلس الأمة الكبير بتاريخ 18 نوفمبر سنة 1922 الذي جاء
فيه: إن الأمة قد احتفظت لنفسها بالسيادة في تركيا بلا قيد ولا شرط طبقًا لأحكام
دستورها الذي يوحد بين القوتين التشريعية والتنفيذية، ويجمعهما في مجلس الأمة
الكبير شاكرًا المجلس على انتخابه لمقام الخلافة ، مع تجريده عن السلطتين
التشريعية والتنفيذية. وحيث إن انتخابه لمقام الخلافة كان على شرط أنه ليس له من
الأمر شيء، وقد أقرهم على ذلك وشكرهم عليه فقد تبين أنه وقع انتخابه لوظيفة
لم يبق فيها لأعمال الخلافة الشرعية شيء ، فلا تعد البيعة التي حصلت من
المسلمين له بيعة بالخلافة.
نعم إن المسلمين ما كانوا في غفلة عن هذا حينما بايعوه ، ولكن دعاهم إلى
البيعة بل إلى الإسراع بها ذلك الظرف العصيب ، والمحنة التي تجهمت للمسلمين
إذ ذاك بفرار وحيد الدين على ظهر مركب أجنبي مناديًا بأنه لا يزال خليفة
المسلمين ، فلم يشك أحد في أنه بعد أيام سيكون في الهند مثلاً بهذا اللقب. وهذا مما
يفت في عضد الإسلام وأهله ، ويحدث صدعًا خطرًا في بناء الهيئة الإسلامية، ثم
في الوقت نفسه انهالت الطلبات على كبار حكام الترك لتعيين امتيازات الخليفة
الجديد؛ لتحقيق مبدأ الخلافة في حدود الشورى، فكانت أجوبتهم متحدة بأن الخليفة
الآن محصور بجيوش الحلفاء بالآستانة ، فلا نأمن أن يتخذوا مقام الخلافة سلاحًا
للنكاية بالترك ، وبعد جلاء الجيوش تعين له الامتيازات. فهذا طمأن المسلمين على
أنها ستكون خلافة شرعية ، وأن تجريدها مؤقت وذاك ما أوجب سرعتهم في البيعة
حتى يقطعوا السبل في وجه الغادر بالمسلمين وحيد الدين.
وحيث إن الأمير عبد المجيد بويع في هذه الظروف ، وليس له من رئاسة
المسلمين شيء ، ولم يحقق الأتراك وعدهم بشأنه للمسلمين بل شردوه من بلاده-
فإنا نوافق على القرار القاضي بأنه لا بيعة له في رقاب المسلمين، وأن مقام
الخلافة الآن خال لا يشغله إمام.
وأما (الثاني) وهو لزوم الدعوة للمؤتمر الإسلامي العام فإنا نحبذه كل
التحبيذ؛ لأن الحالة التي أصبح فيها المسلمون توجب عليهم شرعًا التذرع بجميع
الوسائل النافعة لخلاصهم من هذه الورطة الشديدة التي وقعوا فيها ، وليس أمامهم منها
إلا عقد مؤتمر إسلامي عام يعالج حل هذه المعضلة وكشف هذه البلية.
والله سبحانه يتولى المسلمين بعنايته ، ويوفقهم لجمع الكلمة على ما به
سعادتهم في الدنيا والآخرة اهـ.
وضع هذا البيان أصحاب الفضيلة علماء الإسكندرية في 27 رمضان الماضي
(2 أبريل) ، وقدموه ممضيًّا منهم إلى مشيخة الإسكندرية، وأرسله مراسل جريدة
الأهرام في الإسكندرية إليها في 19 أبريل فنشرته على الناس.
(تأثير قرار كبار العلماء، وفوضى العلم والدين في هذه الديار)
لما أذاعت الجرائد تسمية منح حكومة أنقرة لعبد المجيد أفندي نجل السلطان
عبد المجيد لقب خليفة لموافقته إياها على الفصل بين الدين والدولة وبين الخلافة
والحكومة؛ بادر كثير من علماء الأزهر وعلماء سائر المعاهد الدينية التابعة له إلى
مبايعة عبد المجيد بالخلافة الإسلامية النبوية ، ونشروا نصوص مبايعتهم في
الصحف اليومية كغيرهم من الطبقات التي لا تعرف أحكام الإمامة الإسلامية
وشروطها ، بل اغتر بهم أكثر الذين بايعوا واتبعوهم.
وإننا على علمنا بأن مبايعتهم هذه لغو لا يترتب عليها حكم ، ولا تجعل الرجل
خليفة مطلقًا ولا إمامًا متبعًا في الدولة التركية ولا في غيرها بالأولى؛ لأنهم ليسوا
أهل الحل والعقد هنالك ولا هنا - إننا على علمنا بهذا تألمنا لوقوع هذه المبايعة
ضنًّا بكرامة علماء مصر أن يصدر عن الجماعات الكثيرة العدد منهم مبايعة باطلة
شرعًا، ولما يترتب على ذلك من تأييد جماعة أنقرة العابثين بهذا المقام الأعلى في
الأمة الإسلامية. وقد عجبنا أشد العجب من إقدامهم على هذا العمل ، ولم نجد له إلا
أحد تعليلين لا مانع من اجتماعهما للبعض: الغفلة المطلقة عن أحكام الخلافة،
ونسيانها لعدم وضعها موضع البحث والعمل ، أو الجريان في تيار السياسة
ومجاراة العوام فيها. وإنا لنكره لهم كلاًّ منهما، ونود تكريمهما وتنزيههما عنه، وإنما
أخطر ببالنا التعليل الأول ما كان وقع لنا مع عالمين من أذكى علماء الأزهر:
أحدهما من قضاة الشرع ، والآخر من المدرسين ، كانا قد زارانا قبل حادثة الخلافة
بسنين ، فكان من شجون الحديث بيننا أن ذكرت مسألة الخلافة وشرط النسب
القرشي فيها ، فقال الشيخان: إن مذهبنا الحنفي لا يشترط هذا الشرط. قلت: لا
خلاف في هذه المسألة بين مذاهب أهل السنة الأربعة ولا غيرهم بل هي إجماعية
عندهم. فأنكرا ذلك فجئتهم بالنص عليه من شرح البخاري والمواقف والمقاصد
وغيرها، وقد بينا مسائل الخلافة مفصلة تفصيلاً ، ونشرناها في المنار وكلمنا
بعض الأزهريين في خطئهم ، وأقمنا لهم الحجج على بطلان ما فعلوه فأصروا عليه.
ثم بطشت أنقرة بطشتها الكبرى ، فألغت خلافتها أصلاً وفرعًا، وطردت
صاحب لقب الخلافة من بلادها وسائر الأسرة السلطانية فرادى وجمعًا، ولكن
علماءنا المبايعين ثبتوا على بيعتهم ، وزعموا أن عبد المجيد أفندي المنفي في
سويسرة من بلاد أوربة لا يزال كما لقبوه هم وأمثالهم من غير قومه: إمام
المسلمين، وخليفة رسول رب العالمين، وأن بيعته لا تزال في الأعناق، وطاعته
واجبة على الشعوب والأفراد، ونصرته على حكومة بلاده محتمة ولو بالقتال،
فعدنا إلى الكتابة في المسألة ، ونشرنا بعض المقالات في جريدة الأهرام، ورغبنا
إلى شيخ الأزهر في تلافي هذه الفوضى وحفظ كرامة العلماء.
ثم اجتمع كبار العلماء تحت رياسته ، عند وجود الباعث ووضعوا قرارهم
ونشروه في الصحف اليومية كلها ، وأيدهم فيه كبار علماء الإسكندرية، واعتذر
هؤلاء عن مبايعة جمهور العلماء بما هو صريح تعليلنا الثاني ، وهو اعتذار يصدق
في بعض أولئك المبايعين دون بعض، ويؤيد هذا ما حدث بعد، وهو إنكار
الكثيرين منهم لقرار كبار العلماء، ثم إن هؤلاء ألفوا لجنة المؤتمر ودعوا إليها
بعض أولئك المصرين فرجعوا عن رأيهم وقولهم ، وأصر آخرون وأنشؤوا ينشرون
المقالات في الجرائد في الرد على القرار، وشايعهم على ذلك آخرون من سائر
الطبقات، ولا سيما الذين سبقوا إلى تأليف لجنة أو لجان لأجل المؤتمر المقترح.
ساءتنا هذه الفوضى ، وساءنا تصدي بعض الأزهريين أنفسهم للرد على
شيوخهم وكبار مُعِدِّهم حتى بالباطل، وبالخروج عن الأدب اللائق، حتى إننا كنا
في أواخر رمضان شرعنا في كتابة مقالة في تأييد كبار العلماء ، والدفاع عنهم من
غير أدنى طعن في غيرهم ، فأمسكنا عن إتمامها قرفًا من هذه الفوضى التي أحدثتها
حرية النشر في البلاد. ومن يضلل الله فما له من هاد.
_________
الكاتب: محمد بهجت الأثري
عالم العراق ورحلة أهل الآفاق
السيد محمود شكري الألوسي
قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: (إن الله لا يقبض العلم
انتزاعًا ينتزعه من العباد ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم؛
اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسُئلوا فأفتوا بغير علم فَضَلّوا وأضلوا) متفق عليه من
حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
وقد قبض الله تعالى إليه في الرابع من شهر شوال الماضي عالم العراق
ورحلة أهل الآفاق، ناصر السنة، قامع البدعة، محيي هدي السلف، حافظ فنون
الخلف، علامة المنقول، دراكة المعقول، دائرة المعارف الإسلامية، نبراس الأمة
العربية، حجة العترة النبوية، عميد الأسرة الألوسية، صديقنا وأخانا في الله عز
وجل السيد محمود شكري الألوسي قدس الله روحه.
كان - رحمه الله تعالى - إمامًا يقتدى به في علمه وعمله وهديه وآدابه
وفضائله. وقف جميع حياته على علوم الإسلام وفنون اللغة العربية في هذا العصر
الذي قل فيه الاشتغال بالعلم والأدب في تلك البلاد بين أهل السنة، وكاد ينحصر
في الشيعة، فبعد أن كانت بغداد في عهد العباسيين عاصمة العلوم والفنون في
الأرض، وكانت المدرسة النظامية فيها أول مدرسة جامعة في العالم، ثم بعد أن
كان يوجد فيها في كل عصر أفراد نابغون كجد الفقيد صاحب روح المعاني (رحمه
الله تعالى) استقبلنا هذا القرن الرابع عشر للهجرة من أوله في الاشتغال بالعلم ،
وصار لنا بنشر المنار وبالسياحة علم واختبار بأحوال الأقطار الإسلامية ، فلم نسمع
للعلوم العربية والدينية على مذهب السنة صوتًا إلا من هذا الرجل، لهذا لقبناه في
مكتوباتنا له بعالم العراق، كما لقبنا المرحوم جمال الدين القاسمي بعالم الشام.
إنما العالم من كان مستقلاًّ في فهمه للعلم واستدلاله على مسائله ، وقد مات
العلم الحي المنتج في بلاد الإسلام بالتقليد رويدًا رويدًا ، حتى صار وجود العالم
(المستقل) نادرًا، وصار إذا وجد متهمًا في دينه من أهل الحشو والجمود من
أصحاب العمائم المكورة، والأردان المكبرة، والأذيال المجررة.
إن التعليم في المدارس الدينية الإسلامية كله تقليدي ، فإذا رأيت عالمًا مستقلاًّ؛
فاعلم أنه لا فضل لمدرسته ولا لشيوخها في ذلك ، بل سببه استعداد خاص فيه، قارنه
إرشاد مرشد من غير العلماء الرسميين في الغالب - أو اطلاع على بعض
المصنفات التي ترشد إلى العلم الصحيح ، فلقحه فأثمر وأنتج، وحسب فقيدنا الكريم
أنه كان في أثناء طلب العلم يراجع تفسير جده ، أو يطالع كتاب أستاذه وعمه
(جلاء العينين) فهما يرشدانه إلى ترك التزام ما قرره أفراد من العلماء لتسميتهم
علماء مذهبه ، ونبذ كل ما أثر عن غيرهم من علماء الملة؛ وإن وضح دليلهم لأنهم
أئمة مذاهب أخرى أو منسوبون إليها. وما يدرينا لعل عمه السيد خير الدين كان
يرشده إلى الاستدلال والاستقلال ولو في الأصول، وإن كان كوالده صاحب
التفسير يلتزمان التقليد في الفروع، فمهما تكن حالهما في التدريس والفتوى ، فقد
كانا غريبين في عصرهما؛ لما أوتيا من سعة الاطلاع وعدم الجمود على المألوف
عند الأشياخ، دع التعصب الذميم للمذهب.
والذي يظهر لنا أن الأستاذ رحمه الله لم يعن بالدعوة إلى الاستقلال
وترك التقليد وتربية نشء جديد يقوم بذلك، على ما كان عليه من الشجاعة وعدم
المبالاة بالدنيا وأهلها، ولو عني بهذا لكان له به شغل عن شرح فاتحة كتاب
المطول للسعد وأمثالها، ولعل عذره أنه لم يجد في بغداد طلابًا مستعدين ، ولذلك لم
نر له غير تلميذ واحد يرجى أن يكون خلفًا صالحًا له في التدريس والتصنيف
وإحياء موات الكتب النافعة بالتنقيب عنها، واستنساخها، والسعي لطبعها، وفي غير
ذلك من فضائله، ألا وهو الأستاذ الشيخ محمد بهجت الأثري - فقد عهد الفقيد إليه
بمكاتبتنا بالنيابة عنه لما تناوبته الأمراض في السنين الأخيرة فرأينا من مكتوباته
خير مثال لمكتوبات أستاذه في اللفظ والمعنى، وفي الخط أيضًا فخطه كخطه كأنه
هو، ولولا آمالنا بهذا لكان حزننا على فقيدنا العزيز مضاعفًا أضعافًا كثيرة، وهو
الذي تفضل علينا بترجمته المفصلة الآتية، فنبدأ بنشرها، ثم نقفي عليها ببعض
الفوائد في جزء آخر إن شاء الله تعالى.
***
ترجمة الفقيد
هو العالم الكبير، التقي الورع الزاهد، تذكرة السلف، وحجة الله على
الخلف، الإمام السيد محمود شكري ابن العالم الصوفي السيد عبد الله بهاء الدين ابن
إمام القرن الثالث عشر أبي الثناء السيد محمود شهاب الدين صاحب تفسير (روح
المعاني) ابن السيد عبد الله رئيس المدرسين في بغداد ومدرس المدرسة العظمى في
جامع الإمام أبي حنيفة ، ابن السيد محمود الخطيب الألوسي البغدادي، وينتهي
نسبه إلى الإمام الحسين رضي الله عنه.
ولد ببغداد في (19 رمضان سنة 1273 هـ) . في بيت عريق في الحسب
والنسب، ضليع في العلم والأدب، ينسب إلى ألوس (بالقصر على الأصح) وهي
قرية على الفرات قرب (عانات) نبغ فيها قديمًا كثير من الفضلاء: كمحمد بن
حصن بن خالد، والمؤيد الشاعر المتوفى سنة 557 هـ الذي اتهمه المقتفي لأمر
الله بممالاة السلطان ومكاتبته ، فأمر بحبسه في خبر ليس هذا محله.
وقد فر إليها أحد أجداده من وجه هولاكو عندما دهم بغداد وفتك بأهلها، ومنذ
نحو ثلاثمائة سنة رجع أبناؤه إلى بغداد ولبثوا فيها ، وبنوا لهم بجدهم واجتهادهم
مجدًا رفيعًا.
يبلى الزمان وحسنه يتجدد
نشأ رحمه الله في حجر والده كما ينشأ ربيب العز والمجد، وتلقى عنه
القراءة ومبادئ النحو والصرف والحساب ، وأتقن عليه الخط فاشتهر وهو صغير
بإجادته ، وكان يعتني بتربيته وتهذيبه لما يتوسم فيه من أمارات النباهة والذكاء،
ثم بعد وفاة أبيه لازم عمه العلامة السيد نعمان الألوسي وأكب على المطالعة وعكف
على اكتساب العلم ، وأكمل دروسه على سائر علماء بغداد فأتقن علوم الأدب والفقه
والحديث والتفسير ، والهيئة والحكمة الطبيعية والإلهية ومنطق اليونان والجبر
وغير ذلك، وتعلم من اللغات الفارسية والتركية، وألف وهو ابن عشرين عامًا ،
وكان كتاب (شرح الثناء) باكورة مؤلفاته ، ودرس في بادئ أمره في بيته ، ثم
انتقل إلى مدرسة (جامع العدلية) ، ثم أسند إليه تدريس مدرسة والسيد سلطان علي
وتدريس المدرسة الداودية (الحيدر خانة) ، وأخيرًا أحيل إليه تدريس (مدرسة
مرجان) ، فترك تدريس (السيد سلطان علي) لأحد أبناء أسرته اكتفاء بمدرسة
مرجان والحيدرية، وقد تخرج به كثيرون اشتهروا بالعلم أو الأدب كابن عمه شيخنا
العالم الأديب الكبير المغفور له السيد علي علاء الدين الآلوسي، ومعروف الرصافي
الشاعر المشهور ، وأخذ اسمه ينتشر، وشهرته تتعاظم يومًا بعد يوم بدروسه التي
يلقيها على تلامذته الكثيرين ومؤلفاته التي تنمقها أنامله وتدبجه يراعته العسالة،
ولا سيما كتابه (بلوغ الأرب في لسان العرب) الذي ألفه تلبية لنداء لجنة الألسنة
الشرقية المنعقدة في (استوقهلم) بدعوة (أسكار الثاني) ملك أسوج ونروج. فقد
اقترحت هذه اللجنة منذ نحو أربعين عامًا على علماء الشرق والغرب تأليف كتاب
يعرب عن أحوال العرب قبل الإسلام ويستوعب بيان ما كانوا عليه في جاهليتهم
من العوائد والأحكام وغير ذلك ، فأجاب هذا الاقتراح كثير من علماء الشرق
والغرب ومن بينهم المترجم ، وعرض كل منهم مؤلفه على تلكم اللجنة ، ولدى
السبر أدركت أن أجمعها مادة، وأوسعها جادة، وأغزرها فائدة، وأجزلها عائدة،
وأزيدها إيضاحًا، وأقربها مراعاة للشروط التي ألزمتها اللجنة من يريد الخوض في
عباب هذا البحث - هو كتاب (بلوغ الأرب) فاستحق الكتاب التقريظ والإطراء ، كما
فاز مؤلفه دون سواه بالوسام الذهبي والجائزة.
وقد بعث إليه (الكونت كرلودي لندبرج قنصل أسوج ونروج العام في مصر
ووكيلها السياسي) برسالتين - فيما أعلم - أثنى بهما عليه وشكر له عنايته ،
ووعده بطبع كتابه تخليدًا لمآثره في خزائن الآداب، وقد نشرت إحداهما في أواخر
الكتاب، والثانية في جريدة (الزوراء) التي كانت تصدر في بغداد.
هنالك - بعد ما طبع الكتاب ونشر اسم الفائز في ذلك المضمار البعيد المدى -
كتبت الصحف والمجلات السيارة في الشرق والغرب الفصول الضافية الذيول في
تقريظ الكتاب وإطراء مؤلفه النابغة الذي نشأ في بيئة منحطة علمًا وأدبًا ، فسبق
بجده واجتهاده كل من حبر وكتب من أبناء البلاد المتقدمة في مضمار العلم
والأدب، فطار صيته في الآفاق، وعرف فضله الخاص والعام حتى يكاد لم يبق
أحد لم يسمع باسمه. وتعرف به كثير من أفاضل المستشرقين ، واستفادوا من
فضله وسعة اطلاعه ، نخص منهم بالذكر العلامة مرغليوث الإنجليزي صاحب
المؤلفات الكثيرة ، وصديقنا الجهبذ البارع لويز ماسنيون الفرنسي.
وقد عرف الأمراء والولاة فضله فقربوه منهم ، وعرضوا عليه مناصب في
الحكومة سامية ، فزهد فيها ورغب عنها؛ لانصرافه بكليته إلى العلم، ومقته
الاشتغال في المناصب ، والتزلف من الحكام وكل ما يصده عن خدمة العلم والأدب،
حتى إنه رغب عن لذات الدنيا ولم يتزوج قط. ولما جاء الوزير سري باشا التركي
واليًا على بغداد، أدناه منه كثيرًا دون غيره من علماء بغداد واستفاد من محاضراته
الأدبية ومحاوراته العلمية، ثم اقترح عليه بإلحاح بأن يتولى إدارة جريدة (الزوراء)
وهي أول جريدة أنشئت في بغداد أنشأها الوزير مدحت باشا الشهير ، وأن ينشئ
فيها القسم العربي ، فلما لم يجد منه بدًّا لباه، وأجاب نداه، فتولى شؤونها وكتب
فيها بعض المقالات الأدبية ، ونشر قسمًا من (بلوغ الأرب) وأعمل حركة أدبية في
ذلك الجو الساكن القاتم ذلك اليوم ، بما كان يعرضه فيها من الأسئلة في شتى
العلوم على علماء البلد.
وقد كان عصر الفقيد الذي تلقى فيه العلم عصر تقليد وجمود على الرث البالي،
يتلقى الطالب ما يقرؤه في كتب الأعاجم المؤلفة في عصور التأخر والتقهقر بالتسليم،
ويأخذ ما يتلقفه من مشايخه بالقبول من غير نقد أو تمحيص، ويحرص عليه
حرصًا يجره إلى تكفير كل من يخالفه غالبًا، فاستمر الفقيد على هذه الطريقة
العوجاء متأثرًا بها، حتى برقت له بارقة اليقين، وقد تجاوزت سنه الثلاثين، فهدته
بنورها الخلاب إلى المحجة البيضاء التي لا يضل سالكها، وكسر أغلال التعصب،
وفك ربقة الجمود من عنقه، وأطلق طائر فكره من قفص التقليد الأعمى إلى فضاء
التساهل والتيسير، والتبشير دون التنفير، وطفق يأخذ بالكتاب والسنة، وبما
يوافقهما من كلام سلف الأمة من غير تحزب لشيعة أو مذهب، فصدع - بعد أن
رسخت قدماه بالأخذ بالدليل - بالحق ، وشن غارات شعواء على الخرافات المتغلغلة
في النفوس والتقاليد الذميمة بمؤلفاته العديدة، تلك المؤلفات التي زعزعت أسس
الباطل، وأحدثت بين حين وآخر انقلابًا عظيمًا في الأفكار: ككتاب المنحة الإلهية،
وغاية الأماني ، والسيوف المشرقة ، وصب العذاب ، وفتح المنان وغيرها.
ودعا المقلدين الجامدين إلى الهدى، وترك ما وجدوا عليه آباءهم، فشالت
نعامتهم وصبوا عليه جام التشنيع في المجالس، ونبذوه بالوهابية وهي كلمة يعظم
وقعها على الهمج والرعاع، وناصبوه العداء، غير أنهم لم يجدوا لأنفسهم عليه
سبيلاً. إلى أن كانت سنة 1320 فسعوا به إلى والي بغداد وهو يومئذ عبد الوهاب
باشا ، وكان من الحشوية الضالين يناصب كل من يدعو إلى الإصلاح، المتوقف
عليه الفلاح والنجاح، فاتخذ بعض التدابير السيئة ، وكتب لعبد الحميد ولأبي
الهدى يخبرهما (بأن الفقيد له تأثير كبير على نفوس العراقيين لمنزلته العلمية
الكبرى ، وأنه أخذ ينشر مبادئ الوهابيين ، ويؤسس مذهبًا جديدًا مخالفًا لمذهب أهل
السنة! ! وأن دعوته أخذت بالانتشار في سائر أنحاء العراق، فمن الخطر العظيم
إذا ظل الرجل ينشر دعوته ومبادئه) ! فجاء الأمر من عبد الحميد بنفيه ونفي كل
من ينتمي إليه ، فنفي هو وابن عمه السيد ثابت الألوسي والحاج حمد العسافي من
التجار الصالحين إلى الأناضول ، وما كادوا يصلون الموصل حتى قام رؤساؤها
لهذا الظلم وقعدوا، فكتبوا لعبد الحميد يكذبون ما نسب للفقيد ، ويطلبون إليه إرجاعه
ومن معه إلى وطنهم ، فقبل شهادتهم فيه وأمر بإرجاعهم بعد أن قضوا في
الموصل الحدباء شهرين لاقوا فيهما من حفاوة أهلها الكرام ما يعجز عن بيانه اللسان،
ويكل دون سطره البنان ، فعادوا سالمين غانمين، وعاد الشامتون نادمين على ما
فرطوا في جنب الشيخ قارعين سن الندم على ما عملوا.
أكب رحمه الله بعد عودته على التدريس والتأليف والنشر وخدمة العلم
الصحيح بكل ما يصل إليه جهده ، إلى أن كانت سنة 1330 هـ فأدناه الوالي
(وهو يومئذ جمال باشا) منه، فكان يشاوره في الأمر، ويأخذ منه الرأي السديد
في الحادثات، ثم اتفق أن ناصب الوالي بعض أعداء الفقيد من وجهاء بغداد ،
ففصله عن منصبه (وهو عضوية مجلس الإدارة) فعرضه على الفقيد ، فزهد فيه
فألح عليه إلا القبول ، فلما لم يجد منه بدًّا قبله ، وبقي فيه مدة من الزمن كان فيها
نصير الحق وحليف الإنصاف، وسار كما هي شيمته سيرة مرضية وأخذ بضبع
المظلومين ولم يمكن منهم الظالمين. إلى أن كانت السنة الأولى من سنين الحرب
العامة ، فندبته الحكومة للذهاب إلى صاحب نجد في أمر سياسي خطير - ليس هذا
محل ذكره - فرحل إليه عن طريق سورية فالحجاز فنجد ، واجتمع به فأكرم نزله
واحتفى به حفاوة عظيمة لعظم منزلته العلمية وكبير تأثيره ، ففاوضه الفقيد في
الأمر الذي جاءه به من قبل الحكومة العثمانية، ثم رجع أدراجه.
وتفقد معاهد العلم وخزائن الكتب الحافلة بالآثار الجليلة النادرة في سورية
والحجاز ونجد ، واجتمع به أكابر علماء هاتيك الأقطار ، فاستفادوا منه علمًا جمًّا
وأدبًا غضًّا. وهنالك عندما وصل إلى الشام عائدًا بخفي حنين ظن الناقمون عليه
أنهم وجدوا لهم سبيلاً لإيذائه ، فأغروا به جمال باشا السفاح الذي استدنى الفقيد منه
يوم كان واليًا على بغداد، زاعمين - وبئس الزعم ما زعموا - أنه هو الذي متن
صاحب نجد على الحكومة، فلم يصغ إليهم لما يعهد فيه من الصدق مع الحكومة،
والحرص على جمع كلمة المسلمين.
ثم عاد رحمه الله بعد أن نجا من كيد الجاهلين إلى بغداد ، وعاد إلى
سيرته الأولى ودرس وألف وأفتى حتى سقوط بغداد بيد الإنجليز ، فعرضوا عليه
القضاء وغيره ، فزهد فيه وامتنع عن التدخل معهم، ثم عرض عليه زمن تشكيل
الحكومة العربية المؤقتة الإفتاء فرياسة مجلس التمييز الشرعي فالقضاء فالمشيخة
الإسلامية وغيرها ، فرفض كل وظيفة غير خدمة العلم الصحيح ونشره بإخلاص
وصدق بين أفراد الأمة تدريسًا وتصنيفًا ، وانتخب أخيرًا عضوًا لمجلس المعارف
كما انتخبه المجمع العلمي العربي الزاهر في دمشق عضو شرف، ولم يزل يخدم
العلم والأدب بإخلاص ، وشأنه يزداد يومًا فيومًا علوًّا ورفعة حتى توفاه الله (يوم
الخميس 4 شوال سنة 1342 هـ) .
وقد كان رحمه الله إمامًا في معرفة مذهب السلف، يأخذ بالدليل دون التقليد،
شديد الإنكار على الحشويين لا يعرف المحاباة ولا المداجاة ، يقول للمصيب:
أصبت. وللمخطئ: أخطأت. وللصادق: صدقت. وللكاذب: كذبت.
وكان مستجمعًا للفضائل ، عظيم التواضع ، كثير الحياء ، غض الأدب ، أبي
النفس ، عزيز الجانب ، أريحيًّا لطيف المعشر ساعة الرضى ، يقتبس منه الجليس
النادرة إثر الشاردة ولا يمله ، بل يود لو أنه يصاحبه الدهر، يورد النكتة في حديثه
فيطرب لها السامع ولا يكاد ينساها.
وكان قوي الشكيمة ، شديد الغضب ، سريع الرضى ، طاهر القلب ، لا يفتر
لحظة عن التفكر في مستقبل الإسلام وأهله ، وقد بالغ في ذلك حتى أدى به إلى
تعب الخاطر ، ونحول الجسم. وكان مهيبًا وقورًا ، ولا أتذكر أنني ملأت عيني
منه يومًا.
وكان بعيدًا عن التأنق في المأكل والملبس والاغترار بالمظهر الكاذب، وإن
رائيه - لولا ما عليه من نور النبوة - ليحسبه من سائر الناس لعدم اعتنائه بنفسه
ولكن لسان حاله يقول نحو ما قاله الإمام الشافعي نفسه:
علي ثياب لو يباع جميعها
…
بفلس لكان الفلس منهن أكثرا
وفيهن نفس لو تباع بمثلها
…
نفوس الورى كانت أعز وأكبرا
وقد خدم رحمه الله العلم والأدب خدمة قل من تسنى له مثلها، ومؤلفاته
الكثيرة في شتى الأبواب شاهد عدل على ما أقول. وإليك أسماءها:
***
مصنفات الفقيد
مرتبة على الحروف
(1)
إتحاف الأمجاد في ما يصح به الاستشهاد. رسالة صغيرة فرغ من
تأليفها في 21 صفر سنة 1301 هـ) .
(2)
الأجوبة المرضية عن الأسئلة المنطقية: في (42 صفحة) فرغ منه
في 13 صفر سنة 1340 هـ.
(3)
أخبار بغداد. في ثلاثة أجزاء:
(الأولى) في (بيان حال بغداد) ومحالها وقصورها وقراها المجاورة لها
ووصف مبانيها وما آل إليه أمرها على سبيل الإجمال ، ولم يستوعب الكلام على
ما جرى عليها في عنفوان شبابها وأيام هرمها وهو في نحو 15 كراسة.
(الثاني) في تراجم العلماء والأدباء الذين اشتهروا في القرن الثالث عشر
في بغداد. وقد سماه (المسك الأذفر) وهو في 450 صفحة بقطع الربع.
(الثالث) في وصف مساجد بغداد وتاريخ بنائها إلخ في نحو 140 صفحة.
(4)
أخبار الوالد. جزء لطيف في ترجمة أبيه.
(5)
إزالة الظماء بما ورد في الماء. في نحو كراسة.
(6)
الأسرار الإلهية شرح القصيدة الرفاعية. طبع بمصر سنة 1305 هـ
وهو من مؤلفاته في نشأته الأولى!
(7)
أمثال العوام في مدينة دار السلام. مجموع ما يدور على ألسنة العوام
من الأمثال المشهورة - نقل اللفظ العامي من غير تغيير وربما غيره إلى ما يقاربه
التعبير تحاشيًا عن بعض الألفاظ العجمية
…
رتبه على حروف الهجاء، وهو في
نحو 80 صفحة.
(8)
الآية الكبرى، على ضلال النبهاني رائيته الصغرى. كتاب جدلى في
نحو (50 صفحة) فرغ من تأليفه سنة 1330 هـ.
(9)
بدائع الإنشاء. في جزئين:
(1)
مجموع رسائل والده في (..) صفحة.
(2)
مجموع مكاتباته أدباء العصر في (340) صفحة.
(10)
بلوغ الأرب في أحوال العرب. طبع في بغداد سنة 1318 هـ في
ثلاثة مجلدات ، ويطبع اليوم في مصر مصححًا ومشروحًا بقلم كاتب السطور،
وكان قد نقل بعضه الشاعر البليغ عبد الحميد الشاوي الحميري إلى التركية وأسماه
(منتهى الطلب في ترجمة بلوغ الأرب) ونشر طرفًا منه في جريدة (الزوراء) .
(11)
بنان البيان. متن صغير في علم البيان.
(12)
تاريخ نجد. طبعت مقدمته في إحدى المجلات البغدادية وفقد باقيه.
(13)
تجريد السنان في الذب عن أبي حنيفة النعمان. رد على بعض غلاة
الشافعية في نحو مائتي صفحة بالقطع الكبير ، وهو كتاب جليل يشتمل على مطالب
في الفقه مهمة ، فرغ منه في أواخر شعبان سنة 1306هـ.
(14)
ترجمة رسالة للقوشجي. في 7 كراسات ولم أره، ولعله فقد.
(15)
الجواب عما استبهم من الأسئلة المتعلقة بحروف المعجم. جواب
عن أسئلة السيوطي السبعة التي لم يجب عنها أحد في زمانه فرغ منه في 15
رمضان سنة 1319 هـ وهو في 40 صفحة.
(16)
الجوهر الثمين، في بيان حقيقة التضمين. في 50 صفحة.
(17)
الدر اليتيم، في شمائل ذي الخلق العظيم. لم يتمه.
(18)
الدلائل العقلية على ختم الرسالة المحمدية. في نحو 40 صفحة فرغ
منه في 17 ذي القعدة سنة 1317هـ.
(19)
رسالة في كيفية استخراج القياس. أظنها فقدت.
(20)
رياض الناظرين، في مراسلات المعاصرين. في نحو 560 صفحة
(21)
الروضة الغناء، شرح دعاء الثناء: هو باكورة مؤلفاته ألفه سنة
1294هـ.
(22)
سعادة الدارين، في شرح حديث الثقلين. هو رسالة في الرد على
الرافضة باللغة الفارسية للشيخ عبد العزيز الملقب بغلام حليم ابن الشاه ولي الله
أحمد بن عبد الرحيم الدهلوي الفاروقي مصنف - حجة الله البالغة -، وقد
عربها المترجم ، وضم إليها بعض الفوائد المتعلقة بهذا الحديث ، ورتبها على
مقدمة ومقصد وخاتمة ، فرغ منه في شهر رمضان سنة 1336هـ وهو في 40 صفحة.
(23)
السيوف المشرقة، مختصر الصواعق المحرقة، للشيخ محمد
الشهير بخواجه نصر الله الهندي. رد على الرافضة في 300 صفحة بالقطع الكبير
فرغ منه سنة 1303هـ.
(24)
شرح أرجوزة تأكيد الألوان. نشر في مجلة المجمع العلمي العربي
في دمشق (م1 ص76) .
(25)
شرح خطبة المطول. لم أره.
(26)
شرح منظومة عمود النسب. في نحو 1000 صفحة ، وقد وصفناه
في مجلة المجمع العربي (م3 ص 105) .
(27)
شرح القصيدة الشاوية. في نحو 80 صفحة ، والقصيدة للأديب
الكبير أحمد بك الشاوي الحميري رحمه الله في مدح الشارح.
(28)
شرح منظومة الشيخ حسن بن العطار في الوضع أحد الفنون العربية.
(29)
صب العذاب، على من سب الأصحاب. رد على أرجوزة لبعض
الرافضة من سكان كربلاء، في مائة صفحة وصفحتين. فرغ منه في 11 جمادى
الأول سنة 1304هـ.
(30)
الضرائر، فيما يسوغ للشاعر دون الناثر. كتاب جليل كنت قد
شرحته في أوائل ملازمتي له وعنيت بنشره ، وطبع في المطبعة السلفية بمصر
سنة 1340هـ.
(31)
عقد الدرر شرح مختصر نخبة الفكر. في مصطلح الحديث والمتن
للشيخ عبد الوهاب بركات الشافعي الأحمدي.
(32)
عقوبات العرب في جاهليتها ، وحدود المعاصي التي يرتكبها بعضهم.
رسالة لطيفة نشرتها في ممتاز جريدة العراق لعامها الخامس.
(33)
غاية الأماني، في الرد على النبهاني. كتاب إصلاحي جدلي في
سفرين كبيرين ، رد بهما على ما جاء به الشيخ يوسف النبهاني من الآراء السخيفة
والنقول الواهية في جواز الاستغاثة والاستعانة بغير الله تعالى، وما تجاوز به دائرة
الأدب في سب كبار أئمة الدين كالإمام ابن تيمية والإمام ابن قيم الجوزية من
المتقدمين ، والإمام السيد صديق حسن خان والمصلح السيد نعمان الألوسي وأبيه
أبي الثناء من المتأخرين إلخ ، وقد طبع في مصر بمطبعة كردستان العلمية.
(34)
فتح المنان، تتمة منهاج التأسيس رد صلح الإخوان. كتاب
إصلاحي جدلي رد به على بعض متصوفة بغداد. طبع في الهند سنة 1309 على
نفقة الأمير الشيخ قاسم بن محمد بن ثاني.
(35)
فصل الخطاب في شرح مسائل الجاهلية للإمام محمد بن عبد
الوهاب.
(36)
القول الأنفع، في الردع عن زيارة المدفع [1] . في كراسة ولم أره.
(37)
كتاب ما اشتمل عليه حروف المعجم، من الدقائق والحقائق والحكم.
في 115 صفحة.
(38)
كتاب ما دل عليه القرآن، مما يعضد الهيئة الجديدة القويمة البرهان.
في 100 صفحة ، وقد فرغ من إملائه علي في 6 شوال سنة 1339هـ.
(39)
كشف الحجاب. عن الشهاب في الحكم والآداب للقضاعي لم أره
ولعله فقد.
(40)
كنز السعادة، في شرح كلمتي الشهادة. في 54 صفحة ، وقد فرغ
منه في 6 ج 2 سنة 1198هـ.
(41)
لعب العرب. رسالة لطيفة (اقتطفها من لسان العرب) أثناء
مطالعته له عام 1326هـ.
(42)
اللؤلؤ المنثور، وحلي الصدور. مجموع مكاتيب والده وجده في
نحو 170 صفحة.
(43)
مختصر الضرائر، فيما يسوغ للشاعر دون الناثر [2] .
(44)
مختصر مسند الشهاب للقضاعي.
(45)
المسفر عن الميسر.
(46)
المفروض، في علم العروض. اقتطفه من لسان العرب أثناء
مطالعته له.
(47)
المنحة الإلهية تلخيص ترجمة التحفة الاثني عشرية. رد على
الرافضة ، طبع في الهند في 200 صفحة بقطع كبير.
(48)
منتهى العرفان والنقل والمحض، في ربط بعض الآي ببعض.
شرع فيه في أوائل الماضي فوافته المنية قبل إتمامه.
(49)
كتاب النحت. في 13 صفحة.
وله مجموعات ومؤلفات أخرى فقدت أثناء نفيه منها:
(50)
كتاب جليل في بيان سرقات اليازجي في مقاماته (مجمع البحرين) .
وقد وجدت منه بعض الأوراق، ولعلي أعثر عليه بجملته.
هذا ما أردت كتابته بإيجاز ، وتفصيل ترجمته وأحواله وأطواره وآرائه وغير
ذلك في كتابنا (ذكرى الإمام الألوسي) الذي شرعنا في تأليفه.
بغداد
…
...
…
...
…
محمد بهجت الأثري
(المنار)
نشكر للأستاذ الأثري عنايته بتتبع آثار الفقيد ، وبيان فضله، وسنقفي على
ترجمته ببعض الفوائد في جزء آخر إن شاء الله تعالى.
_________
(1)
مدفع: من مدافع الإيرانيين ، يعرف (بطوب أبي خرامة) ، تزوره النساء ، وتوقد له الشموع ، وتعلق عليه التمائم والأحجار.
(2)
المنار: من الغريب أن يختصر المؤلف كتابه الضرائر ويشرحه تلميذه ، وقد كان الأصل مغنيًا عن الشرح ، ولكنها شنشنة مصنفينا في القرون الوسطى.
الكاتب: محمد رشيد رضا
انتحال السيد حسين أمير مكة للخلافة
إننا لم نر في كل ما علمناه من عبر التاريخ أدل على الحكمة النبوية في منع
طلاب الولاية منها ، وعدم توليتهم شيئًا من أمور الناس - كالعبرة التي رأيناها في
السيد حسين المكي وأولاده.
رأينا أناسًا تعدى الأجانب على بلادهم ، وغلبوهم على السلطان فيها
فساعدوهم على إدارتها؛ ليشاركوهم في التمتع بنصيب من أموالها ولذة الحكم
الصوري فيها، ولكننا لا نعرف في التاريخ القديم ولا الحديث رجلاً وضع بسوء
اجتهاده ومحض اختياره خطة لجعل أمته وملته وبلاده تحت سيادة دولة أجنبية
مخالفة له في الدين والجنس واللغة والاشتراع والآداب لأجل أن يكون تحت ظل
حمايتها متمتعًا هو وأولاده بألقاب الإمارة والملك ، كما فعل حسين المكي بمقررات
نهضته المخزية الخاسرة.
وأغرب من ذلك وأخزى أنه قد أسرف هو وأولاده في التبجح بنسبهم وادّعاء
انحصار حق الملك والإمارة والإمامة فيهم دون من هم أصح وأصرح منهم نسبًا
وأكرم حسبًا ، بما لهم مع شرف النسب من شرف الوراثة النبوية بالعلم والعمل ، ثم
إنه على هذا الإسراف يسعى لنيل خلافة النبوة بنفوذ أعدى أعداء النبي صلى الله
عليه وسلم في أمته وملته وقومه وشرعه ولغته.
أما (مقررات النهضة) فقد وضعها بنفسه واختياره بدون مشاورة أحد من
العرب أو غيرهم من المسلمين ، حتى إن ولده فيصلاً قد صرح وأذن بنشر
تصريحه بأنه لم يطلع على هذه المقررات إلا بعد ذهابه إلى لندن عقب هدنة
الحرب ، وهو الذي نشرها في جريدة المفيد بدمشق.
وقد جاء في أول المادة الأولى منها: (تتعهد بريطانيا العظمى بتشكيل حكومة
عربية مستقلة)
…
وفي أول الثانية: (تتعهد بريطانيا العظمى بالمحافظة على هذه
الحكومات وصيانتها من أي مداخلة كانت في داخليتها ، وسلامة حدودها البرية
والبحرية من أي تعد بأي شكل يكون ، حتى ولو وقع قيام داخلي من دسائس
الأعداء ، أو من حسد بعض الأمراء فيه؛ تساعد الحكومة المذكورة مادة ومعنًى على
دفع ذلك القيام لحين اندفاعه ، وهذه المساعدات في القيامات أو الثورات الداخلية
تكون مدتها محدودة؛ أي: لحين يتم للحكومة العربية المذكورة تشكيلاتها المادية اهـ
بنصه. ومعناه الصريح أن الإنكليز يظلون محتلين للبلاد العربية التي عهد إليهم
إيجاد حكومتها ، وحامين لها إلى أن يصير عند حسين أو خلوفه أسطول كأسطولهم ،
وجيوش يقهر بها أعداء أمراء العرب! !
وقد كان وضعه لهذه المقررات إثر مراسلات بينه وبين المعتمد البريطاني
بمصر ، أقرته فيها الحكومة البريطانية على انتحال الخلافة كما صرح به السير
(هنري مكماهون) في الكتاب الذي أرسله إليه في 19 شوال سنة 1333- 30
أغسطس سنة 1915 وهذا نص عبارته العربية بالحرف (من ص 616ج 8م 23
المنار) :
(فنحن نؤكد لكم أقوال فخامة اللورد (كتشنر) التي وصلت إلى سيادتكم عن يد
(علي أفندي) وهي التي كان موضحًا بها رغبتنا في استقلال بلاد العرب وسكانها ،
مع استصوابنا للخلافة العربية عند إعلانها، وإننا نصرح هنا مرة أخرى أن
جلالة ملك بريطانيا العظمى رحب باسترداد الخلافة إلى يد عربي صميم من فروع
تلك الدوحة النبوية المباركة) ! ! !
اعتقد هذا الرجل منذ وصل إليه هذا الكتاب أنه لم يبق بينه وبين منصب
الخلافة إلا أن يخرج الترك من الحجاز أو من مكة وما حولها ، فإن ترحيب ملك
الإنكليز باستردادها كافٍ بعد ذلك لنيلها ، وكان قد تقرر أن يبايع بها في موسم الحج
الذي أخرج الترك في أيامه من مكة وجدة والطائف ، ولكن الله سلم ، وكان من
فضله تعالى على كاتب هذا أنه كان سببًا لصرفه عن تلك المبايعة كما بيناه في
المنار مرارًا، وهو لم يقبل نصحنا له بترك مسألة الخلافة إلى ما بعد الحرب؛ إلا
لأننا أقنعناه بأن العالم الإسلامي كله ساخط عليه ، وكاره لثورته ، ويرجو انتصار
الدولة العثمانية مع حلفائها والعاقبة مجهولة ، وبأن فشل انتحاله للخلافة معلوم
بالقطع.
على أنه كان مطمئنًّا بما يتمناه من انكسار الدولة؛ لأنه يعتقد أن الدولة
البريطانية لا تغلب، فانتظر وأعلن في بعض منشوراته الرسمية ترك مسألة
الخلافة إلى العالم الإسلامي ، ثم صرح مرارًا بأنه لا يقبل منصب الخلافة إلا إذا
أجمع المسلمون على تقليده إياه، ونقل عنه هذا كثير من الجرائد، كما أنه صرح
مرارًا تصريحًا نقلته عنه جريدته (القبلة) بأن الخلافة قد ماتت وصارت إلى
رحمة الله تعالى، وذلك شأنه ودأبه في الإتيان بالنقائض والكلام المتعارض، وقد
يتعمد بعض هذا؛ لأجل أن يحتج لدى كل قوم من المختلفين في الرأي بما يراه
مقبولاً عندهم، أو لدفع بعض التهم، كما يكتب ويقول كثيرًا: إنه لا يطمع في ملك
ولا جاه ولا مال ، وإنما يريد الخدمة العامة، وإنه مستعد لمبايعة كل من يرضاه
المسلمون للخلافة. ولكن أعماله وكذا أقواله تنقض هذا كله ، وآخره انتحاله للخلافة
الآن.
على أنه كان منذ ذلك العهد يسعى للخلافة سعيها، ويبث الدعاة لها، وأول
من عرفناه منهم (رضا أفندي الصبان الدمشقي) الذي كان يتردد في أثناء الحرب
بين سورية ومكة، وقد أطلعنا مرة على (ورقة مبايعة) فيها أسماء كثير من
أهل الشام ، ودعانا إلى إمضائها مع بعض وجهاء السوريين الذين كانوا هنا، فأبينا
(شرعًا وطبعًا) ، وقال لنا بعض فضلاء أهل دمشق الذين اطلعوا على تلك
الورقة: إن بعض الأسماء التي فيها قد مات أصحابها ، وبعضها لا مسميات لها،
وأكثرها أسماء بعض العوام الذين لا يفهمون معنى المبايعة ، ولا يمتنعون من كتابة
أسمائهم، أو أذن الأمي منهم بكتابة اسمه بأدنى استمالة.
ولما دخل (الأمير فيصل) سورية مع الفاتحين من الخلفاء اعتقد أهلها أن البلاد
السورية بل العربية كلها قد استقلت ، وخلصت السيادة عليها لأبيه إنجازًا لما وعدت
به على ألسنة دعاة الحجاز والإنكليز ، ونصوص جرائدهم (كالقبلة) في مكة ،
و (الكوكب) في مصر، ونصوص المنشورات الهاشمية ، والمنشورات المبهمة التي
كان الإنكليز يمطرونها على جميع البلاد العربية في زمن الحرب. وكانت الثقة بصدق
الإنكليز يومئذ لا تقل عن الثقة بكذبهم الآن! لهذا دعا فيصل ورجاله المسلمين إلى
مبايعة والده بالخلافة ، فلبوا الدعوة مسرعين يقلد بعضهم بعضًا.
وقلما كان يوجد أحد منهم يشك في كون الملك حسين حل محل السلطان
العثماني في البلاد العربية ، فصار يسمى ملكًا وخليفة ، وكان خطباء المساجد
يذكرون اسمه في دعاء الخطبة ويلقبونه بأمير المؤمنين ، ويذكرون بعده اسم الأمير
فيصل، وكان السيد حسين نفسه يعتقد ذلك أيضًا ، حتى إنه أصدر أمره مرة بهبة
بعض المباني الأميرية في الشام؛ لأجل أن يتخذ مدرسة - ولكن لم ينفذ - وكان
يصدر إرادته بتوجيه الرتب العسكرية وترقية الضباط. حدثني ياسين باشا الهاشمي
أن الأمير فيصلاً بلغه مرة نص إرادة هاشمية بنقل بعض الضباط إلى رتب فوق
رتبهم ، فرد عليه فيما معناه: إن هذا إفساد للنظام العسكري لا يمكن تنفيذه. (قال) :
ولكم أنتم أن تعطوهم من الألقاب والرواتب المالية ما شئتم ، على شرط أن لا
يعدو أحد طوره ولا لقبه، ولا راتبه عندي في الجيش إلا بمقتضى القانون
العسكري.
ذلك - وإنني لما أمكنني زيارة سورية بعد الهدنة وكانت فرنسة قد استولت
على سواحلها من حدود فلسطين إلى حدود الأناضول كان مسلمو سواحل ولاية
بيروت يعتقدون أنها ستكون مع البلاد الداخلية إمارة واحدة ، يتولاها فيصل من قبل
والده (ملك العرب وخليفة المسلمين) بمساعدة الدولة البريطانية! ! غرورًا بشهادة
فيصل الذي كان يقول لهم: يجب أن تربوا أولادكم على حب الإنكليز! ! وكان
من النادر أن ترى فيها من يفهم كنه اتفاق هذه الدولة مع فرنسة على اقتسام البلاد
العراقية والسورية ، وعزم إنكلترة وحدها على سلب استقلال جزيرة العرب نفسها
واستعباد أهلها.
وكان أذكياء الناس يستغربون ما نبينه لهم من الحقائق عن الحجازيين
والبريطانيين- وهو ما لو سمعوه من غيرنا لكذبوه وعادوه- وكان بعضهم يناشدنا
أن لا نذيع عن الشريف ما يبطل الثقة به؛ لئلا يشمت النصارى بالمسلمين! !
ولكن لم تمض بضعة أشهر حتى عرف المتمرسون بالسياسة كثيرًا من الحقائق
ظهر أثرها في قرار المؤتمر السوري العام الذي أعلن به استقلال البلاد ووحدتها ،
فإنه لم يجعل لحكومة الحجاز ولا لملك الحجاز أدنى شأن في سورية لا باسم
الخلافة ولا باسم السيادة ولا باسم الاتحاد، فكان وقع ذلك الاستقلال كالصاعقة على
الملك حسين ، وغضب على الملك فيصل غضبة مضرية عرفها جميع الناس.
على أن فيصلاً لم يكن يقدر على أن يجعل لأبيه من الأمر شيئًا لو أراد ذلك ، وهو
لم يكن يريد؛ لأنه أعلم الناس بأن سلطة والده لا تطيقها الحجارة الصم. على أنه
لم يستطع إقناع إخواننا بقبول ما سموه (العلم العربي) إلا بعد عناء عظيم ، فقبلوه
على شرط زيادة نجم فيه تفرقة بينه وبين علم الحجاز.
ولما تمكن الأمير عبد الله من أرض شرق الأردن؛ ليصد للإنكليز تعدي
العرب على فلسطين ، ويؤمن لهم اختراق قلب صحراء العرب إلى العراق؛ طفق
يبث الدعاية فيها وفي فلسطين وسائر سورية لخلافة والده ، وصرح بذلك لمراسل
جريدة اللواء المصري وغيره في الإسكندرية؛ إذ مر بها مسافرًا إلى إنكلترة
وفرنسة
…
، وقد بلغت دعايته ما كان مجالاً للسخرية والانتقاد الأدبي؛ إذ
وضع فوق باب مسجد قرية عمان عاصمة شرق الأردن عند ترميمه حجرًا نقش فيه
أبياتًا نظمها له قاضي قضاته الشيخ سعيد الكرمي قال فيها:
حسين بن عون من بنى مجد عدنان
…
فأضحى أمير المؤمنين بلا ثاني
أعاد له عرش الخلافة بعد ما
…
ثوت زمنًا بالغصب في آل عثمان
فعجب الأدباء كيف خفيت على القاضي والأمير وشاعره الشريقي وغيرهم
النكتة التي في البيت الأول (أمير بلا ثان) ولها حكاية مشهورة مع بعض الشعراء.
ثم كثر الدعاة لذلك توطئة لقدوم الملك حسين إلى أطراف البلاد السورية
ولا سيما في موسم الحج الماضي (أي: سنة 1342) ، كما أشرنا إليه في المقال
الذي عقدناه لزيارته هذه وأسبابها ونتيجتها ، ونشرناه في الجزء الثالث من هذا
المجلد وقلنا فيه: إن التخيلات ازدوجت بالواهمات، ولقحت بالأماني المستعذبات،
حتى جاءها المخاض بسقوط الخلافة التركية، أجهضت فولدت الخلافة العربية،
فالتقطها (ملك العرب الخيالي) سقطًا لم يستهل، ومضغة لم تكتمل، معتقدًا أن
الدعاية تتم خلقها، وتنفخ الروح فيها، كما فعلت بمنصب (ملك البلاد العربية
قبلها) !! إلخ.
كيف كانت مبايعة السيد حسين المكي في شونة شرق الأردن؟
بعد أن مهد الدعاة السبل أولاً في القدس الشريف مع رجال الوفد الفلسطيني
المرتبطين بالملك بالمساعدات المالية والسياسية وهم الذين تولوا جمع الوفود من
فلسطين ثم في سائر سورية، وبعد إعداد حكومة شرق الأردن وسائل الاحتفال لأجل
البيعة، بدأ البيعة أهل شرق الأردن ووفد المؤتمر الفلسطيني، وخالفه كثير من أهل
البلاد وجمعياتها وأحزابها ، وتلا ذلك إرسال برقيات الدعاة إلى مدن سورية
المشهورة وغيرها بأن أهل الحل والعقد في فلسطين وسائر البلاد العربية وغيرها
قد بايعوا فلانًا، فكانت كل برقية تصل إلى بلد توهم أهلها أن هذه البيعة عامة ،
اشترك فيها ممثلو جميع شعوب العالم الإسلامي ، وقد ساعدتهم وكالة البرقيات
الفلسطينية على هذه الدعاية ، حتى كان في تلك البرقيات أن الخليفة التركي عبد
المجيد ومسلمي مصر والهند قد بايعوا وهم أبعد الخلق عن هذه المبايعة.
نموذج من برقيات الدعاية:
جاء في جريدة (الجزيرة) الفلسطينية ما نصه:
تلقينا يوم 10 الجاري آذار (مارس) من القدس التلغراف الآتي:
بايعت وفود فلسطين جلالة الحسين بالخلافة (يونس الخطيب) وتلقينا يوم
11 الجاري من شونة عمان التلغراف الآتي:
اليوم بايع مندوبو فلسطين وقضاتها وأهل الحل والعقد جلالة الملك حسين
بالخلافة في مقره بالشونة بحفلة بالغة منتهى الجلال: البطاركة ورؤساء الأديان
(! !) ومراسلو الصحف ومشايخ العشائر كانوا حاضرين، أمير إحدى مقاطعات
الهند ، شجاع الملك وحاشيته بايعته وشهدت الحفلة، الحماس شديد، والسرور عام
والمظاهرات على ساق وقدم- سورية بايعت وخطب باسم جلالته في الجامع
الأموي [1] .
…
...
…
...
…
...
…
(المظفر)
…
...
…
...
…
***
الخليفة السابق يبايع الخليفة العربي
روت وكالة البرقيات الفلسطينية أنه شاع أن الخليفة السابق عبد المجيد أرسل
برقية إلى الملك حسين يبايعه فيها بالخلافة باسم آل عثمان.
***
مبايعة الهند
وروت أن الهنود أرسلوا برقية إلى الملك حسين ، يبايعونه فيها بالخلافة.
ومن البرقيات التي نشرتها الجرائد السورية والفلسطينية ما ننقله عن
مراسل جريدة المقتبس الدمشقية في عمان ، وهي التي أرسلها إليها في 13 شعبان -
20 آذار (مارس) مع (منشور العودة) وهذا نصه:
(بيعة الهند) وردت على جلالة الملك برقية من الهند تفيد بمبايعة الهند
لجلالته ، وهم يذكرون جلالته بلزوم تأسيس مجلس شورى عام من جميع الأقطار
الإسلامية مركزه للنظر في شؤون الإسلام بصورة عامة. كما أن برقية وردت
على جلالته من الوفد الفلسطيني الموجود في الهند تفيد مبايعة الأهالي لجلالة أمير
المؤمنين، وعند انعقاد المؤتمر الأول في الهند يدعون بالخلافة لصاحب الجلالة
بدون ريب) اهـ.
وهاتان البرقيتان من أغرب الأكاذيب الصريحة التي أحاطت بهذا الرجل
ولا سيما في مبايعته ، فأهل الهند أشد المسلمين كرهًا له وطعنًا فيه وإنكارًا على
خلافته ، ولكن صح أنه هنأه وبايعه رجلان من زهاء تسعين مليون مسلم في الهند
أحدهما يسمى الشيخ عبد الحي اللكنوي من شيوخ الجمود والحشو ، والثاني أحد
أنصار الإنكليز في بمبي ، وهو وأعوانه لا يمتنعون عن التعبير عن ذلك بأهل الهند ،
ورأينا لذلك نظائر في التعبير عن أهل مصر وغيرها؛ إذ هنأه وبايعه رجل
واحد من المعروفين فيها ، وقد أذاعت جريدة (القبلة) تلك البرقيات الكاذبة ، وأغرب
ما جاء فيها ما يأتي:
***
نموذج من برقيات جريدة القبلة غير السرية
ورد في آخر الصفحة الرابعة من عدد جريدة القبلة ، الذي صدر بمكة في 30
رجب متضمنًا مبايعة الحجاز ثلاث برقيات من (شونة عمان) نص الأول:
(أصبح في حكم المقرر إلغاء الخلافة ، وإخراج الخليفة وكافة الأسرة العثمانية من
تركيا ، وربما أعلن هذا بعد غد ، فالرأي تعجيل العرب بمبايعة ملكهم الحسين بن
علي بها بمجرد إعلان مصطفى كمال لذلك) ومضمون الثانية: أن مجلس أنقرة قد
قرر ما أشير إليه في الأولى وهذا نص الثالثة:
**
ترشيح المقطم أمير الحجاز بالمبايعة وشهادته
بأهلية حسين للخلافة
(أمر مدير البوليس بإخراج الخليفة والأسرة. الصحف اليوم طافحة بالسخط
والآراء في الموضوع. صرحت المقطم بأن (الملك حسين) خير كفء للخلافة
مستجمع لشروطها) .
***
مقدمة مبايعة
وفد مؤتمر فلسطين ونص المبايعة
اجتماع الوفود في القدس للنظر في أمر الخلافة [2]
(اجتمع في القدس وفود المدن الفلسطينية، خلا طبرية وبئر السبع
للمذاكرة في أمر الخلافة، وقد امتنع وفد نابلس عن الاشتراك في المذاكرة؛ لأن
النابلسيين يرون: إما عقد مؤتمر فلسطيني إسلامي للنظر في هذا الأمر ، أو انتظار
ما تفعله بقية الأقطار الإسلامية، ولكن بوجود أهل الحل من كل مدينة (؟) تم
انعقاد المؤتمر الذي يقولون عنه فلم يبق من داعٍ للتأخير، بيد أنهم أصروا على
رأيهم، على أن معظم أهل نابلس يريدون مبايعة الملك حسين ، وإنما هم
يستحسنون التربص في الأمر. أما رأي سائر الوفود فهو مبايعة الملك حسين
بالخلافة بعد مفاوضته في بعض الشؤون التي تهم فلسطين والأمة العربية والعالم
الإسلامي.
وقد عقد الوفود الجلسة الأولى في الساعة العاشرة من صباح يوم الإثنين
برئاسة الحاج أمين أفندي الحسيني رئيس المجلس الإسلامي الأعلى، وانتخب السيد
شكري أفندي التاجي كاتبًا لضبط مقررات الجلسة، فشرح سماحة الرئيس الغاية من
الاجتماع وما آلت إليه الخلافة ، وأنه لا يجوز بقاؤها عاطلة ، وطلب إلى الوفود
المجتمعة أن تنظر في الأمر، فقال بعضهم: إننا جميعًا نؤيد فكرة مبايعة جلالة
الحسين، ولكن يجب أن نتفق وإياه على شروط البيعة. وسأل آخر عما إذا كان
يحق لنا انتخاب الخليفة باجتماعنا هذا ، مع أننا جزء صغير من العالم الإسلامي؟
فأجيب بأن أمامنا ما فعله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب باختياره ستة من خيرة
الصحابة لانتخاب خليفة بعد وفاته وذلك خير منهج تنهج عليه الأمة [3] وقد أقر
المجتمعون هذا الرأي، ثم دار البحث حول اشتراك وفد نابلس في الجلسة ،
ووجوب جمع الرأي الفلسطيني في الأمر وعدم تفرقه، وأخيرًا تقرر تأجيل الجلسة
إلى الساعة الثانية بعد الظهر.
***
الجلسة الثانية
افتتحت الجلسة الثانية الساعة الثالثة بعد الظهر في دار المجلس الإسلامي
الأعلى ، فأعرب سماحة رئيس المجلس عن أسفه؛ لأن أهل نابلس ومفوضيهم
مصرون بكل أسف على عدم الاشتراك؛ ما لم يعقد مؤتمر إسلامي غير هذا، فطلبت
الهيئة البت في أمر البيعة ، فوافق الجميع عليها. واقترح شكري أفندي التاجي
مندوب الرملة أن يكلف جلالة الملك تأليف مجلس من ثلاثين مندوبًا من الأقطار
الإسلامية يستشيره في أمور المسلمين ، فأيد رأيه سليم أفندي عبد الرحمن ورفيق
بك التميمي، وهنا بين الشيخ محيي الدين أفندي الملاح عدم جواز البيعة بشروط ،
فأجابه فضيلة مفتي عكا الشيخ عبد الله أفندي الجزار: إن الآية الكريمة {يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَاّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا
يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا
يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الممتحنة:
12) هي من قبيل نص الشروط في البيعة ، فإذا أمر الله النبي بذلك في المبايعة
فلماذا نحيد نحن عنها؟ !
وهنا طلب البعض عدم وضع قيد أو شرط في المبايعة ، ثم اتفق الرأي على
أن توضع شروط في مصلحة الأمة. ووضعت صيغة المبايعة وهذا نصها:
***
نص صيغة المبايعة التي قررت في القدس
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
(نحن مفتي وقضاة وعلماء وأشراف ووفود البلاد الفلسطينية أهل الحل
والعقد [4] بايعنا صاحب الجلالة الهاشمية ملك العرب الحسين بن علي بن عون
الهاشمي بالخلافة الإسلامية ، على أن يكون الأمر شورى كما أمر الله تعالى، وعلى
أن لا يجري ما يخالف المصلحة العامة للمسلمين، وأن لا يكون البت في أمر البلاد
الفلسطينية ، وفي شكل حكومتها ورأسها إلا برأي أهلها.
{فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا
عَظِيمًا} (الفتح: 10) ثم يلي ذلك أسماء الموقعين، ولكثرة المواد لم نستطع
سردها.
***
البيعة في دمشق [5]
أرسل بعض أفاضل دمشق وأدبائها وتجارها البرقية الآتية:
عمان: أمير المؤمنين وخليفة المسلمين الحسين بن علي ، نصره الله وأبقاه.
نحيي جلالتكم بتحية الخلافة ، ونبايعكم البيعة الشرعية على السمع
والطاعة عاقدين على ناصيتكم الغراء الآمال بمعزة الإسلام ومجد العرب.
عثمان الشراباتي ، الحاج ياسين دياب ، سعيد الباني ، محمد علي دياب ،
شكري الشربجي ، عبد الغني العسلي ، موفق الحسيبي ، محمد صائب العظم ،
درويش البكري ، شفيق دياب ، عبد القادر راضي ، زكي الركابي ، فهمي قزما ،
أحمد المنجد ، محمد سعيد عبيد ، أكرم الركابي ، حمدي الشبندر ، توفيق القباني ،
محمد الإمام ، وجيه المالكي ، نسيب شهاب ، منير العيطه ، أديب الصفدي ، ثابت
القباني ، عبد الوهاب أبو السعود ، عبد الوهاب مغربية ، حسام الدين الكزبري ،
إحسان العابد ، ياسين الخانجي ، رشدي الدقر ، جميل الموره لي ، فوزي الدقر.
واتصل بالصحف أن وفدًا كبيرًا يتألف من علماء دمشق ومفكريها يبرحها
قريبًا إلى عمان ، يحمل مضبطة موقعة من العلماء والأعيان وهيئات الطبقات
الاجتماعية؛ لمبايعة جلالته ، وتقديم التهاني باسم السوريين؛ لعودة الإمامة الكبرى
إلى أصحابها [6] . اهـ
***
صورة بيعة مسلمي بيروت وملحقاتها
بسم الله الرحمن الرحيم
{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ
عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (الفتح: 10)
هذه بيعة رضوان تشهدها الجماعة، ويشهد عليها الرحمن، ويلزم طائرها
العنق، بيعة شريفة بها السلامة في الدين والدنيا مضمونة.
ولما أصبح مقام الخلافة شاغرًا بسبب طرد الخليفة ، وعجزه عن القيام بالأمر،
ولما كان نصب الإمام واجبًا على الأمة ، وحيث لم يكن في البيت القرشي ولا في
الأقطار الإسلامية من تسلم إليه أمة محمد صلى الله عليه وسلم مقاليد أمورها ألا
وهو (كذا) ، من انحصر فيه استحقاق ميراث أجداده الأطهار ، المجتمع فيه
شروط الإمامة والقائم بمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخليفته سيدنا ومولانا
عبد الله ووليه (الحسين بن علي) أمير المؤمنين أيد الله تعالى ببقائه الدين، وكتب
له النصر إلى يوم الدين، وأعاد بعدله أيام الخلفاء الراشدين، والأئمة المجتهدين.
وحيث قد صحت إمامته ، وانعقدت له البيعة من أهل الحل والعقد والعلماء
وذوي الرأي والعقل في كثير من الأقطار الإسلامية.
وحيث أصبحت طاعته واجبة للحديث الشريف (من خرج عن الطاعة وفارق
الجماعة مات ميتة جاهلية) فإننا نحن مسلمي بيروت نبايع جلالته على أن يهتم
بمصالح الإسلام ، ويقدم الفتوى أمامه، ويقرن عليها أحكامه (كذا) ، ويتبع
الشرع الشريف ويقف عنده ويوقف الناس، وأن جلالته يشهد وخليفته (كذا)
على أنه لا يريد سوى وجه الله (كذا) ، ولا يحابي أحدًا في دين، ولا يحامي عن
أحد في حق (كذا) ، وأن يسير بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم،
بيعة صحيحة شرعية ، انعقد عليها الإجماع ، ووصل بها الحق إلى مستحقه إن
شاء الله تعالى) .
بيروت في غرة شعبان المعظم سنة 1342
(المنار)
هذه الصيغة منقولة عن جريدة الحقيقة البيروتية التي كانت أشد الصحف
إسرافًا في الدعاية لهؤلاء الحجازيين ، وعلمنا أن المفتي وكبار العلماء وأكثر
الفضلاء لم يوقعوها بغير توقيع ، وهي أشد الصيغ خطأً وكذبًا ، ولا سيما الحيثيات
فكلها كذب كما سنبينه، وسنذكر في الجزء التالي بقية مبايعة سورية وصفه المبايعة
في الحجاز ، ثم نعلق على المسألة ما نبين به الحق إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
المنار: ظاهر هذا أن سورية بايعت قبل فلسطين غيابًا، و11مارس يوافق 5شعبان ، وسترى ما كتب في مبايعة بيروت في غرة شعبان.
(2)
ننقل ما يأتي عن جريدة الجزيرة ، ونشر في سائر جرائد سورية وفلسطين.
(3)
المنار: قد جهل الذي أجاب هذا الجواب أن أولئك الستة كانوا أعظم زعماء قريش المرشحين للخلافة ، بحيث لا تخالفهم غيرهم إذا اتفقوا ، وتتفرق الكلمة إذا اختلفوا ، وقد وصفهم عمر بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وهو راضٍ عنهم، ومن المعلوم أنه بشرهم بالجنة، فصار مقطوعًا لهم بها، فهل لأولئك النفر من فلسطين هذه المنزلة في العالم الإسلامي؟ وكيف يدعون الحل والعقد في الأمة الإسلامية أو في بلادهم وهم مستعبدون فيها للأجنبي؟ ولم يتبعهم جميع أهل بلادهم في مبايعتهم كما تبع الستة جميع المسلمين.
(4)
أهل الحل والعقد: هم الذين إذ بايعوا أحدًا نفذت أحكامه ، فهل تنفذ أحكام حسين في فلسطين بمبايعة من ادعوا هذه الدعوى؟ دع العالم الإسلامي كله.
(5)
منقولة عن جريدة المقتبس الدمشقية.
(6)
هذا الخبر لم يتحقق.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الوصية المزورة باسم المدينة المنورة
(س 21) من صاحب الإمضاء في (ميت غمر)
سيدي الأستاذ الجليل، محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار، حرسه الله،
تحية الله وسلامه إليك وبعد:
الدين الإسلامي الذي جاء فاصلاً بين الحق والباطل، وعلم الناس أن هناك
إلهًا لا يطلع أحدًا على غيبه، وأنه لا يظلم مثقال ذرة، الدين الإسلامي الذي أنقذ
الناس من جاهليتها الأولى، وأبطل الخرافات والاعتقادات الباطلة، دين هدى لمن
يريد أن يهتدي، دين توحيد لمن يريد أن يوحد ربًّا واحدًا، دين وجهة واحدة لمن
يريد أن يولي وجهه شطره، إلا أن الناس الذين يدينون به وينتسبون إليه لم
يحافظوا عليه ولم يحترموا تعاليمه.
وبذلك حقت علينا كلمة العذاب؛ لأن أكثر المسلمين لا يعقلون.
سيدي: أكتب إليك هذا وأنا في ذهول مستمر وحزن دائم لما وصلت إليه
حالة المسلمين، حتى أصبحت حياتنا الدينية والدنيوية تشبه الكفار من كل الوجوه.
وإن المنشور المرسل طي هذا الكتاب لأكبر دليل على صدق هذا القول، حتى لا
يقال بأننا نكتب على غير حق، فهل يصح يا فضيلة الأستاذ لأمة دينها الإسلام،
وكتابها القرآن، أن يوزع بينها هذا المنشور ويلصق على أبواب بيوت العبادة؟
فباسم الإسلام الذي وقفت حياتك على خدمته، والمحافظة عليه، وباسم العلم الذي
أخذت منه قسطًا وافرًا، وبحق ما لك علينا من فضل بمباحثك الدينية القيمة، التي
كثيرًا ما هدت ضالاًّ وعلمت جاهلاً، أن تبين لنا صحة هذا المنشور ، وأصل
مصدره والغاية التي يرمي إليها ناشره، وذلك يكون بنشر الرد بجريدة الأهرام حتى
يطلع الناس عليها، ويقفوا على حقيقتها، ولك من الله حسن الجزاء، ومن الناس
أجمل الثناء، وإنا لذلك لمنتظرون، والله المسؤول الذي بيده المصير أن يتولاك
برعايته. واقبل احترام وإخلاص مسلم معجب بعلمك ودينك.
ميت غمر في 27 مارس سنة 1924
…
... المخلص
…
...
…
...
…
...
…
... زكي محمد عبد الله
…
...
…
...
…
...
…
معاون سلخانة ميت غمر وأمين مخزن البلدية
وهذا نص الوصية المزورة المرسلة مع هذا السؤال.
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين على القوم الكافرين ، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم الأنبياء
والمرسلين وعلى آله وصحبه وسلم.
هذه وصية من المدينة المنورة
عن الشيخ أحمد خادم حرم النبي الشريف قال: كنت ساهرًا ليلة الجمعة أتلو
القرآن وبعد تلاوته قرأت أسماء الله الحسنى ، فلما فرغت من ذلك تهيأت للنوم
فأخذتني سنة من النوم ، فرأيت الطلعة البهية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذي
أظهر الآيات القرآنية والأحكام الشرعية؛ رحمة للعالمين سيدنا ونبينا محمد صلى
الله عليه وسلم فقال لي: يا شيخ أحمد. قلت: لبيك يا رسول الله ، ويا أكرم خلق الله.
فقال لي: أنا خجلان من أفعال الناس القبيحة ، ولن أقدر أن أقابل ربي ولا
الملائكة، ووَقْف على قدم؛ لأنه مات من الجمعة إلى الجمعة مائة وستون ألفًا على
غير الإسلام وواحد مات على الإسلام ، فنعوذ بالله من شر ذلك، وصار غنيهم لا
يرحم فقيرهم ، وأصبح كل شخص لا يسأل إلا عن نفسه ، وقد ارتكبوا المعاصي
والكبائر والزنا، وأنقصوا المكيال والميزان ، وكثرت المعاصي وأكلوا الربا وشربوا
الخمر ، وتركوا الصلاة ومنعوا الزكاة. فهذه الوصية لأجل أن يتعظوا؛ لأني في
شدة التعب من أجلهم، فأخبرهم يا شيخ أحمد قبل أن ينزل بهم العذاب من ربهم
العزيز الجبار وتغلق أبواب الرحمة، فنعوذ بالله من شر هذا القرن وأهله؛ لأنهم
عن طريق الحق ضالون، وبالله تعالى يشركون، وبالدين الحنيف ينكرون،
وبأديانهم الباطلة يمجدون. وإن الساعة قد قربت، وفي سنة 1340 هجرية تخرج
النساء من غير إذن أزواجهن ، وفي سنة 1350 هجرية تظهر علامة في السماء
مثل بيض الدجاج وهي علامة القيامة، وفي سنة 1370 هجرية تغيب الشمس ثلاثة
أيام بلياليها ، وبعد ذلك تشرق من المغرب ، وتغلق أبواب التوبة، وفي سنة 1380
هجرية يرفع القرآن العظيم من صدور الرجال، ويظهر المسيخ الدجال، وتتفاتن
النساء والرجال، ويعود الإسلام كما كان خرابًا. فأخبرهم يا شيخ أحمد بهذه
الوصية ، وعرفهم بأنها منقولة (بقلم القدرة من اللوح المحفوظ) .
ومن يكتبها ويرسلها من بلد إلى بلد أو من محل إلى محل، كتب الله له قصرًا
في الجنة ، ومن لا يكتبها ولا يرسلها حرمت عليه شفاعتي يوم القيامة، ومن لا
يعرف أن يكتبها يأمر كاتبًا بكتابتها بثلاثة دراهم، ومن كتبها وكان فقيرًا - أغناه الله،
أو كان مديونًا قضى الله دينه عنه، أو عليه ذنب غفر الله له ولوالديه ببركة هذه
الوصية، ومن يكتمها عن عباد الله اسود وجهه في الدنيا والآخرة.
وقال الشيخ أحمد: والله العظيم ثلاثًا، إن هذه حقيقة، وإن كنت كاذبًا أخرج من
الدنيا على غير الإسلام ، ومن يصدق بها ينجو من عذاب النار ، ومن كذب بها كفر،
وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
(مؤمن مصدق)
(جواب المنار) : جاءنا هذا السؤال فقدمنا عليه في النشر والجواب أسئلة
أخرى جاءت قبله، ثم أطلعنا قلم التحرير في جريدة الأهرام على كتاب يقترح فيه
مرسله نشر هذه الوصية في الأهرام ، ومطالبة العلماء ببيان ما يجب في شأنها
فتذكرنا أننا قد سئلنا عنها هذه الوصية.
هذه الوصية فرية ملفقة سبقها أمثال لها كثيرة ، وكلها معزوة إلى اسم الشيخ
أحمد خادم الحرم النبوي الشريف أو خادم الحجرة النبوية الطاهرة، وأذكر أني
رأيت أول وصية منها بين أوراق لوالدي من زهاء أربعين سنة أو أكثر، فصدقتها
واهتممت بأمرها ، وكان ذلك قبل طلبي للعلم بل في أول العهد بالقراءة.
ومنذ عشرين سنة أرسل إلى أمين أفندي السرجاني، الصائغ المشهور بمصر
وصية أخرى منها ، وسألني عن رأيي فيها فنشرتها في باب الفتوى من المجلد
السابع (غرة شعبان 1322) وأجبت عنها بما سأعيده هنا، ثم أرسلت إلي نسخة
أخرى من السويس بعد سنة ونصف من نشر تلك الفتوى ، فاعتذرت عن نشرها في
فتاوى (ج 3 م 9 الذي نشر في ربيع الأول سنة 1324) .
والظاهر أن الذين يلفقون هذه الوصايا من الجهال يظنون أنه ربما يكون
لنشرها تأثير عظيم في المسلمين، وأنهم يقصدون النفع، ويستحلون في التوسل إليه
تعمد الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم ، كما كان يفعل بعض الوضَّاعين
لأحاديث الترغيب والترهيب، مع علم أولئك بقوله صلى الله عليه وسلم: (من
كذب عليَّ متعمدًا فليتبوّأ مقعده من النار) فإنه روي متواترًا في الكتب الستة
وغيرها من المسانيد والمعاجم عن عشرات من الصحابة. ثم ينسخها بعض العوام
حيث لا مطابع ، ويطبعونها في مثل هذه البلاد؛ لتصديقهم بما في آخرها من الوعد
والوعيد، ومن العجب أن الذين يجددون تلفيق الوصية لا يتركون اسم الشيخ أحمد
كأنه خالد في الحرم النبوي الشريف ، وكأنه أعطي خدمة الحجرة الطاهرة خالدة
تالدة ، لا تؤثر فيها أحداث الزمان ولا مرور السنين ولا تغير الحكومات. ويلوح
في ذاكرتي أن بعض زوار المدينة سأل عن الشيخ أحمد هذا منذ سنين كثيرة ، فلم
يجد في الحرم النبوي من يعرفه!
ومن دلائل كذب هذه الوصايا أسلوبها العامي ، على أن الوصية الجديدة دون
ما سبقها في اللحن والاصطلاحات العامية (ومنها) وهو أقواها: زعم مختلقها أن
النبي صلى الله عليه وسلم صار محجوبًا عن ربه وعن الملائكة بسبب ذنوب
الناس ، وهذه أعظم العقوبات التي توعد الله تعالى بها الفجار الكفار بقوله: {كَلَاّ
إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} (المطففين: 15) فجميع ما نعاه على المسلمين
من المعاصي هو دون الكذب على الرسول بأصل الوصية والكذب على الله ،
بزعمه أنه عاقب أفضل رسله بذنب غيره ، كما يعاقب الكفار في الآخرة، وهو
مغفور له بنص القرآن، على أنه لا يعاقب أحد من الخلق بذنب غيره بالنص أيضًا ،
ومن جهله تعبيره عن التجلي الرباني بالمقابلة، كما يعبر أهل هذا العصر عن لقاء
بعض الناس لبعض.
وقوله: وفي سنة 1340 تخرج النساء من غير أذن أزواجهن، يدل على
أن الوصية لفقت قبل هذا التاريخ ، ولما وصلنا إليه لم نر شيئًا لم يكن قبله ، فقد كان
كثير من النساء يخرجن قبله بدون إذن أزواجهن ، ولم يخرج فيه جميعهن ولا فيما
بعده ، فنقول: إنه مصداق للجملة. وما ذكر قبله من المعاصي فهو قديم أيضًا ،
ولكنه يزداد بلا شك، كما أنه قد تجدد من علم السنة ومحاربة البدع والدعوة إلى
الإصلاح الديني ، والتوفيق بينه وبين الحضارة والقوة ما لم يكن.
وقاعدة هؤلاء المصلحين أن الله تعالى قد أكمل دينه فلا نزيد في الأمور الدينية
المحضة شيئًا لم يرد في الكتاب أو السنة الثابتة أو إجماع الصدر الأول، وأن أسعد
السعداء من يعبد الله تعالى كما عبدوه فعلاً وتركًا حسب الأمر والنهي ، وأن
في الكتاب والسنة وهدي السلف الأول غنًى عن كل ما عداها في النصح
والإرشاد، والزجر عن الفساد، فمن كان مخلصًا في نصح المسلمين، فليعضد
هؤلاء المصلحين، فهو خير له من اختراع الرؤى الباطلة، والوصايا السخيفة
المزورة ، التي صار يقل في العوام من يصدقها، وجميع الخواص يلعنون مزورها.
وإننا نذكر هنا ما أجبنا به السائل عن هذه سنة 1322 إتمامًا للفائدة - وكانت تلك
في منتهى السخف لفظًا ومعنًى وهذا نصه:
إننا نتذكر أننا رأينا مثل هذه الوصية منذ كنا نتعلم الخط والتهجي إلى الآن
مرارًا كثيرة ، وكلها معزوة كهذه إلى رجل اسمه الشيخ أحمد خادم الحجرة النبوية ،
والوصية مكذوبة قطعًا ، لا يختلف في ذلك أحد شم رائحة العلم والدين، وإنما
يصدقها البلداء من العوام الأميين، ولا شك أن الواضع لها من العوام الذين لم
يتعلموا اللغة العربية ، ولذلك وضعها بعبارة عامية سخيفة، لا حاجة إلى بيان
أغلاطها بالتفصيل ، فهذا الأحمق المفتري ينسب هذا الكلام السخيف إلى أفصح
الفصحاء وأبلغ البلغاء صلى الله عليه وآله وسلم ، ويزعم أنه وجده بجانب الحجرة
النبوية مكتوبًا بخط أخضر ، يريد أن النبي الأمي هو الذي كتبه ، ثم يتجرأ بعد هذا
على تكفير من أنكره ، فهذه المعصية أعظم من جميع المعاصي - التي يقول: إنها
فشت في الأمة، وهي الكذب على الرسول عليه الصلاة والسلام ، وتكفير علماء أمته
والعارفين بدينه ، فإن كل واحد منهم يكذب واضع هذه الوصية بها ، وقد قال
المحدثون: إن قوله صلى الله عليه وسلم: (من كذب علي معتمدًا فليتبوأ مقعده من
النار) ، قد نقل بالتواتر ، ولا شك أن واضع هذه الوصية متعمدٌ لكذبها، ولا ندري
أهناك رجل يسمى الشيخ أحمد أم لا؟ !
وأما تهاون المسلمين في دينهم وتركهم الفرائض والسنن ، وانهماكهم في
المعاصي، فهو مشاهد، وآثار ذلك فيهم مشاهدة ، فقد صاروا وراء جميع الأمم بعد أن
كانوا بدينهم فوق جميع الأمم {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ} (فصلت:
16) إلا أن يتوبوا. ولا حاجة لمن يريد نصيحتهم بالكذب على الرسول ،
ووضع الرؤى التي لا يجب على من رآها أن يعتمد عليها شرعًا، بل لا يجوز له
ذلك إلا إذا كان ما رآه موافقًا للشرع ، فالكتاب والسنة الثابتة بين أيدينا، وهما مملوآن
بالعظات والعبر ، والآيات والنذر. اهـ.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
خطاب عام للمسلمين في شأن الحجاز
(4)
مفاسد الطاغوت بعد ادعائه للخلافة:
ذكرنا في الفصول السابقة بعض الحقائق عن سلب الملك حسين أموال أهل
الحجاز والحجاج والظلم في الحرم ، وفقد الأمن بين الحرمين التي جاءتنا من أخبار
موسم الحج (سنة 1341)، وقلنا: إنه قد صرح في أثناء السنة الماضية قبل
موسمها بانتحاله لمنصب الخلافة، فصار خطره أشد، والسعي لتلافيه أوجب، وذلك
أن الرجل كلما كبرت مطامعه وتنفخ وانتفخ في مظاهره، يزداد احتياجه إلى النقود،
ولا مستغل له إلا الحجاج وأهل الحرمين؛ لأن الإنكليز منعوه ما كانوا يعطون،
ولا بد من مورد غزير يقوم بنفقات الجمع بين عظمة الملك وفخفخته، وإخضاع
أمراء العرب المنكرين لإمبراطوريته وخلافته، ونشر دعاية الخلافة ومقاومة
خصومها في الشرق والغرب إلى أن تستقر وتكون مستغلاًّ جديدًا؛ وما هي مستقرة
أو يهلك العرب والمسلمون، فخصومه في الملك والسلطان أمراء جزيرة العرب
المستقلون، وكل واحد منهم يفوقه قوة وإدارة وعدلاً، وخصومه في الخلافة
الشعوب الإسلامية ماعدا بعض أهل فلسطين وسورية والعراق من المنتفعين بماله،
والراجين لنواله، أو المخدوعين بدعايته ودعاية رجاله، أو المتلذذين بنكاية
فرنسة، والخائفين من شماتة جيرانهم من النصارى الذين عادوا ولده فيصلاً في تلك
الأيام، التي كان المسلمون فيها سكارى بخمرة الأوهام، أو عائشين في غمرة من
أضغاث الأحلام، على أن هؤلاء الأنصار يقلون عامًا بعد عام؛ لأن جناياته
ظهرت للخواص والعوام، وطفقت تتبرأ منه الجماعات والأحزاب كالأفراد.
كان هذا الرجل المفتون بالألقاب الضخمة والمظاهر الفخمة أميرًا للحجاز،
وكان بدو البلاد كحضرها يخضعون له، ويخشون بأسه، ويقبلون حكمه لعلمهم بأن
وراءه دولة يرجى برها، ويخشى ضرها، وقد صلي نار الحرب العامة باسم
العرب، وهو لم يعمل ولا يعمل ولن يعمل إلا لنفسه وولده، ولم يكن إلا متجرًا
بالعرب وبلاد العرب، وبدين الإسلام أيضًا كما ظهر واتضح لغير العميان
المنكوسين من البشر، استبد بالأمر وحده على جهله وعجزه، فأضاع الفرصة التي
سنحت لاستقلال العرب واتساع ملكه، ولم ينل شيئًا من مطامعه الواسعة لنفسه،
بل لم يبق له من إمارة الحجاز إلا هذه المدن والقرى المعدودة على الأصابع ، وأما
القبائل القوية فليس له عليها من سلطان.
ولكن افتتانه بعظمة الملك وفخامة الألقاب، وغروره بالوعود الشيطانية
والأماني فيما يسميه (الحسيات النجيبة للعظمة البريطانية) جرآه على تسمية نفسه:
ملك العرب وصاحب البلاد العربية، وصار يمتع نفسه بما تصبو إليه من عظمة
الملك الصورية، فأحدث أوسمة ورتبًا متعددة. تصدر جريدته (القبلة) آونة بعد
آونة ، وفي صدرها إما عنوان (توجيهات) الذي كان يعهد في الجرائد العثمانية
الحميدية، وتحته: وجه وسام النهضة أو وسام الاستقلال العلي الشأن إلى فلان،
ووجه 000 إلى 000 وإما نبأ من أنباء القصر العالي ، ومن تشرف بتقبيل أعتابه،
حتى إن أولاده يقبلون فيما يكتبون إليه الأعتاب، ويعبر أحدهم عن نفسه بخادم
تراب الأقدام (؟ ؟) ولم يدع سيئة من سيئات عبد الحميد إلا وتقلدها، حتى إذكاء
الجواسيس على رجال حكومته وأولاده، دع غيرهم من الناس الذين قد يعذر بعدهم
أعداء له؛ لأنه لهم عدو مبين ، وقد حمله ادعاؤه هذا الملك، وافتتانه به إلى ما تقدم
بيانه من مصارحة جميع أمراء جزيرة العرب بالعداوة، وإنذارهم إسقاط إمارتهم
وضمها إلى ملك البلاد العربية كلها.
كان هذا بعض شأنه، على ضعفه وعجزه، وخيبة آماله في (العظمة
البريطانية وحسياتها النجيبة) - إلا أن يقال - ولا يعوز الدليل من قال: إنه لا
يقنط من رحمتها، ولا ييأس من روحها. فإنه تبرأ من رحمة الله، إن كان يقبل
بقرار الدول كلها أضعاف ما تعطيه هي إن لم يكن بواسطتها؛ فماذا ينتظر من
غروره وطمعه وعنجهيته وكبريائه ، وقد ادعى الخلافة العربية، وطفق ينشر في
جريدته الكاذبة الخاطئة دعاوى مبايعة جميع الشعوب الإسلامية، (لصاحب الجلالة
الهاشمية، أمير المؤمنين، وخليفة رسول العالمين، المنقذ الأعظم) كقولها:
(مبايعة أهل مصر، مبايعة بلاد جاوه، مبايعة بلاد السودان) إلخ.
إلا أنه لا ينتظر من بعد هذا إلا الإسراف في الظلم، والإلحاد في الحرمين
الشريفين، وتثقيل الغرامات على الحجاج، وبث الفساد السياسي في سائر بلاد
العرب، وتمكين النفوذ الأجنبي فيها، ومقاومة الإصلاح ، ونشر الخرافات في
العالم الإسلامي كله.
وقد أخرنا إتمام هذا الخطاب في العام الماضي؛ لنقف على ما يكون له من
التأثير في عمله بعد لقاء أنصار وأصحاب الآمال فيه بزيارته لشرق الأردن ، ثم
بعد تنحله لمنصب الخلافة، حتى تكون النتيجة من خطابنا هذا بعد استيفاء
المقدمات، فجاءتنا أخبار موسم الحج الأخير (سنة 1342) بشر مما نشرنا
خلاصته في أوائل هذا الخطاب من الإصرار على ما تقدم أو الزيادة عليه، وشرها
قطعه لماء عين زبيدة في يوم عرفة؛ لأجل أن يبيع أعوانه الماء المدخر بأغلى
الأثمان ، واتفق أن كان حر الصيف شديدًا حتى في البلاد المعتدلة، فكان موقف
عرفة كموقف الحساب يوم القيامة، شغلت شدة الحر وشدة الظمأ أكثر الناس عن
أداء العبادة براحة وحضور قلب، ومات ألوف من الناس في عرفات وفي الطريق
بينها وبين مزدلفة فمنى فمكة. أخبرنا الكثيرون من الحجاج بذلك، ونشره بعضهم
في الجرائد، وقالوا: إن قربة الماء قد صارت تباع بعشرين قرشًا أو ثلاثين قرشًا في
الغالب ، واشتراها بعض الأغنياء بأكثر من ذلك.
ومن الشواهد على الإفساد السياسي ما نقله الجرائد من إرسال دعاته إلى عدن
وبلاد الشافعية من تهامة اليمن؛ ليأخذوا له البيعة، ويخدعوا الناس بأن خليفة
المسلمين وملك العرب سيجعل أمرهم بأيديهم، وحكامهم من أهل مذهبهم، وإدارتهم
كما يرغبون ويقترحون، وهذا موافق لتفسيره الرسمي للوحدة العربية ، الذي بيناه في
الوثيقة الخامسة المتعلقة بالجناية الثانية من هذا الخطاب.
وقد تثبتنا في نشر هذه المفسدة، فكتبنا إلى اليمن بالسؤال عن ذلك ، فجاءنا نبأ
رسمي لا شك فيه بتأييد الخبر.
ومن الشواهد على مقاومة الإصلاح ونشر الخرافات ، وتحكم الجهل في العلم
والدين ما قرأناه في أنباء الحجاز من جريدة المقتبس الدمشقية من تصدي الخليفة
(خليفة الشيطان) لاستخدام مجلس شورى الخلافة الذي استحدثه؛ لمنع انتشار
الكتب والرسائل التي اشتهرت في بلاد جاوه من قبل الشيخ محمد عبده والشيخ
رشيد رضا، كما منع من قبل ذلك كتب شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم
وغيرها من الكتب القديمة التي لا توافق هواه، ولا نقول: رأيه أو فهمه؛ إذ هو عامي لا رأي له ولا فهم في علم ولا دين.
ثم أخبرنا أحد علماء الأزهر الذين حجوا في الموسم الأخير، أنه علم من الثقات
في الحجاز أن حسينًا كلف بعض علماء حكومته ومجلس شورى خلافته - كتابة
فتوى ، يطعنون فيها بالشيخ محمد عبده ومحمد رشيد رضا صاحب المنار؛ تبعًا لتهم
دونها في الأسئلة الذي كلفهم الجواب عنها، فكتبوا له ما لا يرضيه تمام الرضا؛
لأن ما يرضيه يغضب الله تعالى واتقوا شره بأن كتبوا أنهم لم يطلعوا على شيء من
كتب الشيخين المذكورين مشتملة على ما ذكر في الاستفتاء هذا ملخص الخبر
بالمعنى.
***
علاوة
من روايات الحجاج في ظلم حسين في الحرمين الشريفين:
عهدنا إلى أحد علماء الأزهر الذين ذهبوا إلى الحجاز في الموسم الأخير أن
يستقصي لنا أعمال هذا الطاغوت ، وذكرنا له بعض الثقات الذين يعرفون هذه
الحقائق ، ولا يبخلون بها على من يثقون بأمانته، ويأمنون شر سعايته، فجاءنا
بمسائل كثيرة. ثم جاءنا بيان آخر من بعض سكان المدينة المنورة الذين حضروا
موسم الحج الأخير أيضًا ، فنلخص البيانين؛ لإطلاع العالم الإسلامي عليهما،
ودعوته إلى القيام بما يجب عليه من العمل لمهد الإسلام، وحرم الله تعالى وحرم
رسوله عليه الصلاة والسلام، وخدمة للتاريخ الخاص والعام.
ملخص ما جاء به العالم الأزهري من مكة:
(1)
صدرت أوامر الملك حسين بمنع مشتري الأعشاب قبل أخذ ما يلزم
لحيواناته ، فتجاسر أحد التكارنة ، واشترى، فقبض عليه، وسجنه عامًا واحدًا ،
وقال: إنه سجنه بمقتضى الوجه الشرعي من الكتاب والسنة. فاستفتى أبو المسجون
المفتين الأربعة بمكة، فأفتوه أنه لا يستحق الحبس شرعًا ، فأطلع الملك عليها فغضب
وقال أنه يخالف الشرع ولا يطلقه من الحبس ، وصار يكرر قوله: أشهد أني أخالف
الشرع في أحكامي.
(2)
في شعبان سنة 1342 اشتكت فتاة امرأة من موالي الشناقطة أحد
موالي العربان بأنه اغتصبها بعد أن تهددها بالقتل في طريق الرصفة ، وهو حمى
الملك الذي لا يدخله سوى جماله، وأي حيوان يدخله يصادر- وقد وصفت الفتاة
المتهم ، فقبض الملك على غيره من المغضوب عليهم، فقطع يده ورجله من خلاف
من غير أن تراه الفتاة ، وتشهد أنه هو الجاني، وهذا حكم الشرع.
(3)
جعل رسمًا على كل جمل وحمار وبغل يجيء من جدة إلى مكة - نصف
جنيه إنكليزي وريالين مجيدين ، ومن مكة إلى عرفات نصف جنيه إنكليزي ، ومن
مكة إلى المدينة ثلاثة جنيهات: جنيهًا برسم الحكومة والخزينة الخاصة.
(4)
لأجل جمع الإعانات من الحجاج؛ وضع في مجاري عين زبيدة أكياسًا
من الرمل فوق عرفة بقليل ، وذلك قبل يوم عرفة فلم يأت وقت الظهر حتى نضب
الماء من حياض عرفة ، ونشأ عن ذلك عطش شديد جدًّا ، مات بسببه خلق كثير
من الفقراء ، ولما ظهر سره امتنع عن جمع الإعانة ، وعلى ذلك أدلة:
(منها) أن الماء كان فوق عرفة طافيًا في الآبار على وجه الأرض ، حتى
كان من أخبر بذلك من العرب يملأ بيديه من غير دلو ولا رشاء.
(ومنها) أننا عند نزولنا إلى منى وجدنا الماء فيها كثيرًا ، وما كان غلاء
ماء منى إلا من توهم الناس أن الماء مقطوع مما جرى لهم بعرفة. ولكن الذي كان
يشاهد الآبار بنفسه وهي تجيش بالماء الغزير يعلم الحقيقة.
(ومنها) أنه قبل خروج الناس إلى عرفة بأيام ، طلب من مطوفي الجاوه
والهنود جمع حجاجهم له في الحرم؛ ليكلمهم في أمر مهم. ثم قال للمطوفين:
تدرون هذا الأمر؟ فقالوا: لا. فقال: لأجل جمع إعانة لتصليح عين زبيدة.
(5)
طريقته في جمع الإعانة للعين: أن ما زاد على عشرين جنيهًا يوضع
في صندوقه الخاص ، وما نقص عنها ففي صندوق العين ، وإذا احتاجت العين
للتعمير لا يعطيها شيئًا ، وإذا طلب من صندوقه للحاجة يغضب. وحصل ذلك مرة،
فغضب وحاسب أمين الصندوق ، وعطل أعمال لجنة العين أحد عشر شهرًا.
وبعض الحجاج لجهل أو غفلة أو حب رياء وظهور ، يدفعون له مباشرة ما
يتبرعون به ، فيكون خالصًا له، والمعروف منه لا يقل عن 500 جنيه.
(6)
عند مبايعته بالخلافة في عمان وصلت منه برقية لقاضي القضاة بمكة
بأنه إذا امتنع أحد عن البيعة يقتل رميًا بالرصاص.
(7)
لما وصلت الكسوة من مصر أغرى بعضهم أن يحضروا له بعض
المصريين؛ ليقولوا له: إنه بلغهم أنه يريد رد الكسوة ، وأنه سيكسو الكعبة من
عنده كما كساها في العام الماضي ، وأن يسترحموا جلالته ويرجوه عدم ردها
ويلحوا عليه في ذلك، فيقبل رجاءهم. وأظهر للناس أنه في غنى عن كسوة مصر
ولولا إلحاح المصريين لم يقبلها ، والكسوة التي جاء بها في العام الماضي ثمنها
300 جنيه وهي من الصوف القيلان ، وكانت عند ما دخلنا مكة باهتة وشكلها في
غاية الكآبة.
(8)
كان حول المسجد الحرام ميضأة من أوقاف سلاطين مصر والأتراك
فهدمها ، وجعل محلها دكاكين ملكًا له ، وصار الناس يبولون في الشوارع،
ويتوضؤون على أبواب المسجد الحرام ، ورأيت بعيني ناسًا كثيرًا يفعلون ذلك.
(9)
أمر أن لا يتجاوز الحمل 20 أقة ، والجمل يستطيع حمل 70 فأكثر،
فصار أكثر الحجاج يضطر لترك كثير من حاجاته في جدة. وهو يدعي أنه فعل
ذلك شفقة على الجمال، والحق أنه أراد كثرتها لأجل المال ، ومن جراء ذلك تعطل
في العام الماضي عدد غير قليل عن الحج ، وفاتهم يوم عرفة وهم بجدة ينتظرون
عودة الجمال ، التي رحلت بهذه الأحمال الخفيفة.
(10)
أنه يأخذ من أصحاب الخيام المعدة للأجرة ما يحتاج إليه لإكرام
ضيوف منصبي الملك والخلافة بغير أجرة (وذكر الكاتب حكاية طويلة سمعها من
رجل كردي فقير ، كلفه الملك الخليفة الإتيان بخمس خيام ، فاعتذر بفقره وغربته،
فوضعه في سجنه الذي سماه هذا المسكين جهنم ، ووصف ما فيه من السلاسل
والأغلال 000 ثم افتداه بعض الموسرين باستئجار الخيام المطلوبة له، ولكن لما آن
وقت إرجاعها بعد عرفة أرجعوا ثلاثًا واغتصبوا اثنين.
(11)
إذا حكمت المحكمة الشرعية حكمًا ، وصدق عليه قاضي القضاة
والتدقيقات الشرعية، ووسط المحكوم عليه واسطة أو رشوة أو نفاقًا أو تجسسًا أو
إطراءً - انعكست القضية وأصبح المحكوم عليه محكومًا له ، وهذا الباب مفتوح
للجميع ، وبعد قليل يصل الآخر إلى ما وصل إليه المحكوم عليه ، فتنعكس القضية
مرة ثانية ، وبعد مدة تنقلب أخرى، وهلم جرًّا.
(12)
القاضي لا يحكم إلا بأمر الملك، وحجته أنه هو الذي ولاه فكيف
يحكم بغير أمره واستحسانه ، وإذا شهد شاهد فتزكيته أن يكون مخلصًا لسيدهم
وبذلك يكون أعدل الناس ، ويقوم مقام اثنين وأكثر.
(13)
كان على سواري المسجد الحرام كتابات من قبل سلاطين مصر
وتركية وغيرهما بإبطال المكوس بمكة والمدينة ، فطمس الكتابة بالجير ، ولكنها لا
تزال ظاهرة الأثر.
(14)
إذا أراد اغتصاب قطعة أرض من صاحبها؛ تذرع بالطرق العامة
وأنه يريد أن يفتح طريقًا أو يوسعه، فيكره صاحب العقار على تركها له في مقابل
شيء لا يذكر ، ثم يأخذ الملك منها قطعة صغيرة للطريق ، والباقي يبنيه لنفسه بيوتًا
ودكاكين، وبهذه الطريقة صار له عقار كثير جدًّا. وإنما يأخذ ذلك باسمه بناءً على
فتوى من القضاة بأن التمليك للحكومة لا يصح؛ لأنها هيئة ، وإنما يصح لشخص
بعينه.
(15)
إذا اضطر أحد الأعيان - من شدة تضييقه عليهم - إلى عرض
بعض الحلي والجواهر للبيع ، فللشريف دلال مخصوص ، لا يمكن أن يباع شيء من
ذلك حتى يعرض عليه ، وهو يأخذها بأبخس الأثمان لحساب سيده بعد أن يحذر
الدلالين من المساومة فيها والمزايدة.
(16)
إذا ورد رقيق يأخذ لنفسه الوصائف والغلمان الحسان بأبخس ثمن،
فإذا تظلم النخاس يقال له: هذه عشور الحكومة التي تحافظ عليك من قناصل الدول.
ومرارًا طلب قنصل الإنكليز تسليم النخاسين من رعاياهم ورعايا الحكومة
الإيطالية ، فلم تسلمهم الحكومة.
(17)
كان له دار في المسعى ، جعلها مدرسة بعد أن جمع لها إعانات
كثيرة ، وسلب الأوقاف من أهلها وحبسها على المدرسة ، وشرط لها شروطًا تجعل
المدرسة في أي وقت عرضة للإغلاق وطرد المدرسين والطلبة، ويرجع بناءها
لملكه الخاص يؤجره ، وزاد أن ضم الأوقاف الكثيرة إلى ملكه أو أوقافه أيضًا.
(18)
أسس شركة تجارية سماها (الشركة الوطنية) رئيسها أحد صنائعه
يدعى عبد الوهاب قزاز ، ولا مال لهذه الشركة ، وإنما رأس مالها ما تأخذه من
التجار من البضائع بالطريقة الآتية: إذا وصلت البضائع إلى الجمرك ، فللملك
عمال هناك يعرفون البضائع الرابحة ، فيحجزونها على اسم الشركة، وترسل إلى
مكة في أول قافلة ، وتمنع البضائع الأخرى من الخروج حتى تباع هذه كلها ، وبعد
ذلك يسمح للبضائع الأخرى بالخروج إلى مكة، والبضائع التي أخذتها الشركة هي
من أموال التجار ، ولكن لا يدفع ثمنها إليهم إلا بعد بيعها بأشهر، ونادر جدًّا أن يدفع
الثمن كله. وهذه الشركة تخلط الزيت مع السمن ، والماء مع الغاز ، وتتطفف
الكيل والميزان وقد صار الآن رأس مالها عظيمًا ، وهي ملك خالص للشريف لا
شريك له فيها.
(19)
يقول دائمًا: (جوِّعْ كلبك يَتبعك) فلذلك تراه دائمًا ضد التجار
ويسعى في معاكستهم ، وفي كل شهرين أو ثلاثة يزيد رسم الجمرك، والغرامات
عظيمة ، والبضائع متراكمة بدون بيع؛ لأنه لا يسمح لهم إلا بالكاسد بعد أن يبيع
هو ما انتقاه من بضائعهم، وإن دام هذا الحال على التجار فعاقبتهم الإفلاس حتمًا.
وكذلك يضيق على العربان أولاً: في بيع ما يجلبونه إلى مكة من غنم وغيرها،
فلا يأذن لهم أن يبيعوها إلا بالسعر الذي يسمح لهم به، ولا يسمح لهم بشراء الطعام
إلا بمقادير قليلة جدَََّا، فمن طلب أرزًّا أو دقيقًا لا يعطى إلا الربع ، ومن طلب ثوب
قماش لا يسمح له إلا بالربع ، حتى أصبح العربان في ضيق شديد وضنك من
العيش ، حتى قال بعضهم: إنه يمنعنا طعامنا الذي نأخذه بدراهمنا ، حتى صرنا
نهرب من الضيوف؛ لأننا لا نجد ما نطمعهم بعد أن كنا في كل ليلة نذبح الخرفان
ونطبخها بالأرز ، وثانيًا: في أجور جمالهم للحجاج والقوافل لأجل سمسرته كما تقدم.
وقصده من كل ذلك جعل جميع الناس فقراء؛ حتى يتبعوه، ويجند منهم من يشاء
بمرتب عشرة ريالات مجيدية؛ ليقاتل بهم ابن السعود والإمام يحيى والإدريسي.
(20)
سبب منع العربان للحجاج من زيارة المدينة المنورة إلا بجعل
يأخذونه منهم - أنه كان لقبائل حرب منذ القدم مرتبات من الدول الإسلامية وآخرها
الدولة العثمانية (40) ألف جنيهٍ سنويًّا في مقابل أمن الطرق وحفر الآبار
وإحضار الحطب والماء للحجاج في الطريق ومحطاتها ، ولما ثار الشريف على
الدولة العثمانية كان يعطيهم إياها للاستعانة بهم على فتح المدينة بعد حصارها ، فلما
فتحت المدينة بالهدنة قطع تلك المرتبات ، وصار العربان من حرب وغيرهم
يتعرضون للحجاج في طريق المدينة ، ويأخذون من كل شخص جنيهين فأكثر، وفي
كل سنة يكون عدد الزائرين (30) ألف جمل أو يزيدون ، ثم ما اكتفى بقطع
المرتبات ، بل صار يجعل أجرة الجمل من مكة أو جدة إلى المدينة (16) جنيهًا
يأخذ منها (6) لنفسه وللحكومة واحد ، وللمقدم والمطوف والرهينة (واحد)
ولقائم مقائم القصر الشريف محسن (واحد) وللوسائط (واحد) فيبقى
للجمال خمسة ، فتضرر العربان من هذه الحالة وطلبوا منه الإنصاف، فامتنع
وامتنعوا هم أيضًا من حمل الحجاج، وذهبوا بجمالهم إلى ديارهم ، فأرسل لهم
الوسائط تسترضيهم، فرجعوا وشرطوا شروطًا منها: منع السخرة على جمالهم،
وعدم تكليفهم بالذهاب بها إلى مواقع الحرب جهة أبها عسير والطائف وعدم شراء
جمالهم من المزاد، وإعطاؤهم المعاشات من رجب سنة 1342 إلى آخر سنة
1342 مبلغ (18) جنيه مقدمًا ، وجعل كراء الجمل الصافي بيدهم (8) ولغيرهم
(8)
، وإذا وقع على القافلة تعد فهم يقاتلون المتعدي إلى آخر قطرة من دمائهم
خلافًا لما كان سابقًا من عدم القتال، فحلف لهم بالوفاء ولكنه لم يف، وأعطاهم من
الثمانية عشر ألف جنيه ألفي جنيه ، فامتنعوا عن قبولها وخرجوا من مكة غضابًا ،
ولما وصلت القافلة إلى رابغ أرجعوها إلى مكة بدون زيارة ، وقد مكثت القوافل في
رابغ عشرة أيام؛ لأن بعض الجمالة هربوا بجمالهم إلى منازلهم التي حول المدينة ،
وأما من كانت منازله حول جدة ومكة فقد عادوا بالحجاج ، وقد أرسلت الحكومة
بواخرها إلى ينبع ونقلت الحجاج على حسابها بزعمها ، مع أنها كانت أخذت رسم
الجمل (8) جنيهاتٍ ، وزادت رسم الجمال إلى مكة مجيديًّا ، ولما رجعت
القوافل بهم خرج وقابلهم من الزاهر والشهدا راكبًا حصانه ، وقد سبقه بساعتين
محسن راكبًا السيارة ، فلما سمع الجمالة صوت السيارة أيقنوا أنه يريد أذاهم؛
فقطعوا أربطة الأحمال ، وقلبوا الشقادف بمن فيها ، فمنهم من جرح ومنهم من كسرت
يده أو رجله ، والقليل منهم سلموا ودخلوا مكة على حالة مبكية.
هذا قليل من كثير من المظالم الواقعة على الحجاج والأهالي.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: أحمد بن تيمية
إبطال وحدة الوجود والرد على القائلين بها
لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية
رضي الله عنه
بسم الله الرحمن الرحيم
سُئل شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية -رضي الله تعالى عنه-
عن كراس وجد بخط بعض الثقات ، قد ذكر فيها كلام جماعة من الناس فمما فيه:
(قال) بعض السلف: إن الله تعالى لطف ذاته فسماها حقًّا، وكثفها فسماها
خلقًا. قال الشيخ نجم الدين بن إسرائيل: إن الله ظهر في الأشياء حقيقة واحتجب
بها مجازًا، فمن كان من أهل الحق والجمع شهدها مظاهر ومجالي، ومن كان
من أهل المجاز والفرق شهدها ستورًا وحُجُبًا.
(قال) وقال في قصيدة له:
لقد حق لي رفض الوجود وأهله
…
وقد علقت كفاي جمعًا بموجدي
ثم بعد مدة غير البيت بقوله: لقد حق لي عشق الوجود وأهله.
فسألته عن ذلك فقال: مقام البداية أن يرى الأكوان حجبًا فيرفضها، ثم يراها
مظاهر ومجالي فيحق له العشق لها، كما قال بعضهم:
أُقَبِّلُ أرضًا سار فيها جِمالها
…
فكيف بدار دار فيها جَمالها
(قال) : وقال ابن عربي عقيب إنشاد بيتي أبي نواس
رق الزجاج وراقت الخمر
…
فتشاكلا فتشابه الأمر
فكأنما خمر ولا قدح
…
وكأنما قدح ولا خمر
لبس صورة العالم فظاهره خلقه، وباطنه حقه. وقال بعض السلف: عين
ما ترى، ذات لا ترى، وذات لا ترى، عين ما ترى، الله فقط والكثرة وهم. قال
الشيخ قطب الدين بن سبعين: رَبٌّ مالك، وعبد هالك، وأنتم ذلك، الله فقط
والكثرة وَهْمٌ.
للشيخ محيي الدين بن عربي
يا صورة أنس سرها معنائي
…
ما خلقت للأمر ترى لولائي
شئناك فأنشأناك خلقًا بشرًا
…
تشهدنا في أكمل الأشياء
وطلب بعض أولاد المشايخ للحر ما يرى من والده الحج [1] فقال له الشيخ:
طف يا بني ببيت ما فارقه الله طرفة عين
(وقال) قيل عن رابعة: إنها حجت فقالت: هذا الصنم المعبود في الأرض
وإنه ما ولجه الله ولا خلا منه. وفيه للحلاج:
سبحان من أظهر ناسوته
…
سر سناء لاهوته الثاقب
ثم بدا مستترًا ظاهرًا
…
في صورة الآكل والشارب
قال: وله:
عقد الخلائق في الإله عقائدًا
…
وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه
وله أيضًا:
بيني وبينك إنيٌّ تزاحمني
…
فارفع بحقك إني من البين
(قال) : وقال الشيخ شهاب الدين السهروردي الحلبي المقتول: بهذه البقية [2]
التي طلب الحلاج رفعها تصرف الأغيار في دمه. وكذلك قال السلف: الحلاج
نصف رجل ، وذلك أنه لم ترفع له الآنية بالمعنى ، فرفعت له صورة. قالوا لمحيي
الدين بن العربي:
والله ما هي إلا حيرة ظهرت
…
وبي حلفت وإن المقسم الله
وقال فيه: المنقول عن عيسى عليه السلام أنه قال: إن الله تبارك وتعالى
اشتاق أن يرى ذاته المقدسة ، فخلق من نوره آدم عليه السلام وجعله كالمرآة
ينظر إلى ذاته المقدسة فيها، وإني أنا ذلك النور وآدم المرآة. قال ابن الفارض في
قصيدته (نظم السلوك) :
وشاهد إذا استجليت نفسك من ترى
…
بغير مراء في المرآة الصقيلة
أغيرك فيها لاح أم أنت ناظر
…
إليك بها عند انعكاس الأشعة
(قال) وقال ابن إسرائيل: الأمر أمران. أمر بواسطة وأمر بغير واسطة،
فالأمر الذي بالوسائط قبله من شاء الله ورده من شاء الله تعالى، والأمر بغير واسطة
لا يمكن خلافه، وهو قوله تعالى:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (يس: 82) فقال له فقير: إن الله تعالى قال لآدم بلا واسطة: لا تقرب
الشجرة فقرب وأكل. فقال: صدقت ، وذلك أن آدم إنسان كامل. وكذلك قال شيخنا
علي الحريري: آدم صفي الله تعالى، كان توحيده ظاهرًا وباطنًا ، فقال: فكان قوله
تعالى: (لا تأكل) ظاهرًا، وكان أمره:(كل) باطنًا، فأكل، فكذلك قوله
تعالى. وإبليس كان توحيده ظاهرًا، فأمر بالسجود لآدم فرآه غيرًا ، فلم يسجد فغير
الله عليه وقال: {اخْرُجْ مِنْهَا} (الأعراف: 18) الآية.
(قال) وقال شخص لسيدي حسن: يا سيدي إذا كان الله يقول لنبيه:
{لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} (آل عمران: 128) أيش نكون نحن؟ فقال سيدي:
ليس الأمر كما تظن، قوله:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} (آل عمران: 128)
أيش غير الإثبات للنبي صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ
وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (الأنفال: 17) ، {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ
اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِم} (الفتح: 10) .
وفيه لأوحد الدين الكرماني:
ما غبت عن القلب ولا عن عيني
…
ما بينكم وبيننا من بين
غيره:
لا تحسب بالصلاة والصوم تنال
…
قربًا ودنوًّا من جمال وجلال
فارق ظلم الطبع تكن متحدًا
…
بالله وإلا كل دعواك محال
غيره للحلاج:
إذا بلغ الصب الكمال من الهوى
…
وغاب عن المذكور في سطوة الذكر
يشاهد حقًّا حين يشهده الهوى
…
بأن صلاة العارفين من الكفر
للشيخ نجم الدين بن إسرائيل:
الكون يناديك أما تسمعني
…
من ألف أشتاتي ومن فرقني
انظر لتراني منظرًا معتبرًا
…
ما فيَّ سوى وجود من أوجدني
وله:
ذرات وجود هي للحق شهود أن ليس لموجود سوى الخلق وجود
والكون وإن تكثرت عدته
…
منه إلى علاه يبدو ويعود
وله:
برئت إليك من قولي وفعلي
…
ومن ذاتي براءة مستقيل
وما أنا في طراز الكون شيء لأني مثل ظل المستحيل
للعفيف التلمساني:
أحن إليه وهو قلبي وهل يُرَى
…
سواي أخو وجد يحنّ لقلبه
ويحجب طرفي عنه إذ هو ناظري
…
وما بعده إلا لإفراط قربه
قال بعض السلف: التوحيد لا لسان له، والألسنة كلها لسانه.
(وفيه) لا يعرف التوحيد إلا الواحد، ولا تصح العبارة عن التوحيد، وذلك
أنه لا يعبر عنه إلا بغير، ومن أثبت غيرًا فلا توحيد له.
(وفيه) سمعت من الشيخ محمد بن بشر النواوي أنه ورد سيدنا الشيخ علي
الحريري إلى جامع نوى، قال الشيخ محمد: فجئت فقبلت الأرض بين يديه
وجلست ، فقال: يا بني وقفت مدة مع المحبة فوجدتها غير المقصود؛ لأن المحبة لا
تكون إلا من غير لغير وغير ما ثم، ثم وقفت مدة مع التوحيد فوجدته كذلك؛ لأن
التوحيد لا يكون إلا من عبد لرب، لو أنصف الناس ما رأوا عبدًا ولا معبودًا.
(وفيه) سمعت من الشيخ نجم الدين بن إسرائيل مما أسرَّ إليَّ أنه سمع من
شيخنا الشيخ علي الحريري في العام الذي توفي فيه ، قال: يا نجم رأيت لهاتي
الفوقانية فوق السموات ، وحنكي تحت الأرضين، ونطق لساني بلفظة لو سمعت
مني؛ ما وصل إلى الأرض من دمي قطرة. فلما كان بعد ذلك بمدة ، قال شخص في
حضرة سيدي الشيخ حسن بن الحريري: يا سيدي حسن! ما خلق الله أقل عقلاً
ممن ادعى أنه إله مثل فرعون ونمرود وأمثالها. فقلت أنا: هذه المقالة ما يقولها إلا
أجهل خلق الله ، أو أعرف خلق الله. فقال: صدقت وذلك أنه سمعت من جدك
يقول: رأيت كذا وكذا ، فذكر ما روى نجم الدين عن الشيخ.
(وفيه) قال بعض السلف: من كان عين الحجاب على نفسه، فلا حاجب ولا
محجوب.
(والمطلوب من السادة العلماء) أن يبينوا لنا هذه الأقوال ، وهل هي حق
أو باطل؟ وما يعرف به معناها، وما يبين أنها حق أو باطل ، وهل الواجب
إنكارها؟ أو إقرارها؟ أو التسليم لمن قالها؟ وهل لها وجه سائغ؟ وما حكم من
اعتقد معناها؟ إما مع المعرفة بحقيقتها، وإما مع التأويل المجمل لمن قالها ،
والمتكلمون أرادوا لها معنًى صحيحًا يوافق العقل والنقل ، ويمكن تأويل ما يشكل
منها وحملها على ذلك المعنى؟ وهل الواجب بيان معناها وكشف مغزاها، إذا كان
هناك ناس يؤمنون بها ولا يعرفون حقيقتها، أم ينبغي السكوت عن ذلك ، وترك
الناس يعظمونها ويؤمنون بها مع عدم العلم بمعناها؟
(فأجاب شيخ الإسلام) أبو العباس تقي الدين أحمد ابن تيمية، قدس الله
روحه ونور ضريحه:
الحمد لله رب العالمين. هذه الأقوال المذكورة تشتمل على أصلين باطلين
مخالفين لدين المسلمين واليهود والنصارى مخالفتها للمعقول والمنقول:
(أحدهما) الحلول والاتحاد وما يقارب ذلك؛ كالقول بوحدة الوجود، كالذين
يقولون: إن الوجود الواجب للخالق هو الوجود الممكن للمخلوق، كما يقول ذلك
أهل الوحدة كابن عربي وصاحبه القونوي وابن سبعين وابن الفارض صاحب
القصيدة التائية (نظم السلوك) وعامر البوصيري السيواسي الذي له قصيدة تناظر
قصيدة ابن الفارض، والتلمساني الذي شرح مواقف النغري [3] وله شرح الأسماء
الحسنى على طريقة هؤلاء ، وسعيد الفرغاني الذي شرح قصيدة ابن الفارض
والششتري صاحب الأرحال الذي هو تلميذ ابن سبعين، وعبد الله البلباني، وابن أبي
منصور المصري صاحب (فك الأزرار، عن أعناق الأسرار) وأمثالهم.
ثم من هؤلاء من يفرق بين الوجود والثبوت كما يقوله ابن عربي ، ويزعم أن
الأعيان ثابتة في العدم غنية عن الله في أنفسها، ووجود الحق هو وجودها، والخالق
مفتقر إلى الأعيان في ظهور وجودها ، وهي مفتقرة إليه في حصول وجودها الذي هو
نفس وجوده، وقوله مركب من قول من قال: المعدوم شيء ، وقول من يقول:
وجود المخلوق هو وجود الخالق. ويقول: فالوجود المخلوق هو الوجود الخالق،
والوجود الخالق. هو الوجود المخلوق، كما هو مبسوط في غير هذا الموضع.
وفيهم من يفرق بين الإطلاق والتعيين كما يقوله القونوي ونحوه ، فيقولون:
إن الواجب هو الموجود المطلق لا بشرط. وهذا لا يوجد مطلقًا إلا في الأذهان، فما
هو كلي في الأذهان لا يكون في الأعيان إلا معينًا، وإن قيل: إن المطلق جزء من
المعنى. لزم أن يكون وجود الخالق جزءًا من وجود المخلوقات، والجزء لا يبدع
الجميع ويخلقه، فلا يكون الخالق موجودًا.
ومن قال: إن الباري هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق. كما يقوله ابن سينا
وأتباعه ، فقوله أشد فسادًا؛ فإن المطلق بشرط الإطلاق لا يكون إلا في الأذهان لا
الأعيان، فقول هؤلاء بموافقة من هؤلاء الذين يلزمهم التعطيل - شر من قول الذين
يشبهون أهل الحلول.
وآخرون يجعلون الوجود الواجب والوجود الممكن بمنزلة المادة والصورة
يقولها [4] المتفلسفة أو قريب من ذلك كما يقوله ابن سبعين وأمثاله.
وهؤلاء أقوالهم فيها تناقض وفساد، وهي لا تخرج عن وحدة الوجود أو
الحلول أو الاتحاد ، وهم يقولون بالحلول المطلق والوحدة المطلقة والاتحاد المطلق،
بخلاف من يقول بالمعنى: كالنصارى والغالية من الشيعة الذين يقولون: بإلهية
علي أو الحاكم أو الحلاج أو يونس القبني أو غير هؤلاء ممن ادعيت فيه الإلهية؛
فإن هؤلاء قد يقولون بالحلول المقيد الخاص، وأولئك يقولون بالإطلاق والتعميم،
ولهذا يقولون: النصارى إنما كان خطؤهم للتخصيص، وكذلك يقولون عن
المشركين عباد الأصنام: إنما كان خطؤهم؛ لأنهم اقتصروا على عبادة بعض
المظاهر دون بعض. وهم يجوزون الشرك وعبادة الأصنام مطلقًا على وجه
الإطلاق والعموم.
ولا ريب أن في قول هؤلاء من الكفر والضلال ما هو أعظم من اليهود
والنصارى، وهذا المذهب كثير في كثير من المتأخرين ، وكان طوائف من الجهمية
يقولونه. وكلام ابن عربي في (فصوص الحكم) وغيره [5] ، وكلام ابن سبعين
وصاحبه الششتري، وقصيدة ابن الفارض (نظم السلوك) ، وقصيدة عامر
البصري، وكلام العفيف التلمساني وعبد الله البلبالي والصدر القونوي، وكثير من
شعر ابن إسرائيل وما ينقل عن شيخه الحريري، وكذلك يوجد نحو منه في كلام
كثير من الناس غير هؤلاء؛ هو مبني على هذا المذهب مذهب الحلول والاتحاد
ووحدة الوجود، وكثير من أهل السلوك الذين لا يعتقدون هذا المذهب يسمعون شعر
ابن الفارض وغيره ، فلا يعرفون أن مقصوده هذا المذهب، فإن هذا الباب وقع فيه
من الاشتباه والضلال، ما حير كثيرًا من الرجال.
وأصل ضلال هؤلاء أنهم لم يعرفوا مباينة الله سبحانه للمخلوقات وعلوه عليها،
وعلموا أنه موجود، فظنوا أن وجوده لا يخرج عن وجودها، بمنزلة من رأى شعاع
الشمس نفسها.
ولما ظهرت الجهمية المنكرة لمباينة الله وعلوه على خلقه ، افترق الناس في هذا
الباب على أربعة أقوال: فالسلف والأئمة يقولون: إن الله فوق سماواته على عرشه
بائن من خلقه [6] كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة. وكما علم
العلو والمباينة بالمعقول الصريح الموافق للمنقول الصحيح، وكما فطر الله على
ذلك خلقه في إقرارهم به وقصدهم إياه سبحانه وتعالى.
والقول الثاني: قول معطلة الجهمية ونقلتهم وهم الذين يقولون: لا داخل العالم
ولا خارجه، ولا مباين له، ولا محايث له. فينفون الوصفين المتقابلين اللذين لا
يخلو موجود عن أحدهما ، كما يقول ذلك أكثر المعتزلة ومن وافقهم من غيرهم
والقول الثالث: قول حلولية الجهمية الذين يقولون: إنه بذاته في كل مكان
كما تقول ذلك النجارية. أتباع حسين النجار وغيرهم من الجهمية ، وهؤلاء القائلون
بالحلول والاتحاد من جنس هؤلاء ، فإن الحلول أغلب على عباد الجهمية وصوفيتهم
وعامتهم، والنفي والتعطيل أغلب على نظارهم ومتكلميهم كما قيل: متكلمة الجهمية
لا يعبدون شيئًا، ومتصوفة الجهمية يعبدون كل شيء، وذلك لأن العبادة تتضمن
القصد والطلب والإرادة والمحبة ، وهذا لا يتعلق بمعدوم. فإن القلب يتطلب
موجودًا ، فإذا لم يطلب ما فوق العالم طلب ما هو فيه.
وأما الكلام والعلم والنظر فيتعلق بموجود ومعدوم ، فإذا كان أهل الكلام
والنظر يصفون الرب بصفات السلب والنفي التي لا يوصف بها إلا المعدوم ، لم
يكن مجرد العلم والكلام ينافي عدم المعلوم المذكور، بخلاف القصد والإرادة والعبادة
فإنه ينافي عدم المعبود ، ولهذا تجد الواحد من هؤلاء عند نظره وبحثه ، يميل إلى
النفي، وعند عبادته وتصوفه يميل إلى الحلول. وإذا قيل: هذا ينافي ذلك. قال:
ذاك مقتضى عقلي ونظري، وهذا مقتضى ذوقي ومعرفتي. ومعلوم أن الذوق والوجد
إن لم يكن موافقًا للعقل والنظر، وإلا لزم فسادهما أو فساد أحدهما.
والقول الرابع: قول من يقول: إن الله بذاته فوق العالم، وهو بذاته في كل
مكان ، وهذا قول طوائف من أهل الكلام والتصوف؛ كأبي معاذ وأمثاله ، وقد ذكر
الأشعري في (المقالات) هذا عن طوائف ، ويوجد في كلام السالمية كأبي طالب
المكي وأتباعه مثل أبي الحكم بن برجان وأمثاله، ما يشير إلى نحو من هذا ، كما
يوجد في كلامهم ما يناقص هذا. وفي الجملة: فالقول بالحلول أو ما يناسبه وقع فيه
كثير من مستأخري الصوفية. ولهذا كان أئمة القوم يحذرون منه، كما في قول الجنيد
لما سئل عن التوحيد فقال: التوحيد إفراد المحدث عن القدم. فبين أن التوحيد أن تميز
بين القديم والمحدث. وقال: أنكر عليه ذلك ابن عربي صاحب الفصوص وادعى أن
الجنيد أمثاله ماتوا وما عرفوا التوحيد، لما أثبتوا الفرق بين العبد والرب بناء على
دعواه أن التوحيد ليس فيه فرق بين الرب والعبد، وزعم أنه لا يميز بين القديم
والمحدث إلا من يكون ليس بقديم ولا محدث. وهذا جهل فإن المعرفة بأن هذا ليس
ذاك، والتمييز بين هذا وذاك، لا يقتضي أن يكون العارف المميز بين شيئين ليس هو
أحد الشيئين ، بل الإنسان يعلم أنه ليس هو ذاك الإنسان الآخر ، مع أنه أحدهما
فكيف لا يعلم أنه غير ربه وإن كان هو أحدهما؟
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
كذا والعبارة غير ظاهرة فلعلها محرّفة.
(2)
لعلها الآنية.
(3)
هو الشيخ محمد بن عبد الجبار بن الحسن النغري الصوفي المتوفى سنة 354 ، والتلمساني شارحه: عفيف الدين سليمان بن علي الصوفي الشاعر صاحب الديوان المشهور توفي سنة 690.
(4)
لعل أصله: التي يقولها إلخ.
(5)
قوله: وكلام ابن عربي مبتدأ خبره مع ما عطف عليه قوله بعد: وهو مبني على هذا المذهب.
(6)
هذه الكلمة المأثورة بالروايات الصحيحة المسندة إلى أئمة السلف قد جمعت في صفات الله تعالى بين قبول نصوص الكتاب والسنة وبين التنزيه المطلق الذي أراده الجهمية والمعتزلة وبعض نظار الأشعرية بتأويل النصوص بالتحكم والتكلف المؤدي إلى تعطيلها وجعلها كاللغو حتى لا يذكرونها في عقائدهم ويسمون من يذكرها على إطلاقها مشبهًا، فمباينة الله تعالى لخلقه أبلغ ما يقال في تنزيهه عن مشابهتهم في شأن ما من شؤون الربوبية والألوهية، أو مشابهته لهم في شأن ما من شؤون المخلوقين، فعلوّه تعالى على خلقه واستواؤه على عرشه فوق جميع سماواته لا يقتضي مع ذكر من المباينة أن يكون محصورًا أو محدودًا أو متحيزًا، إنما علوّه سبحانه علوّ مباينة لها لا كعلوّ بعضها على بعض، فإن هذا أمر إضافي لا حقيقة له في نفسه، يعترف بهذا جميع الفلاسفة وعلماء المعقول في كل زمان.
الكاتب: حسني عبد الهادي
من الخرافات إلى الحقيقة [*]
(10)
إن الأئمة في نظر طائفة (الإمامية) يأتون على هذا الترتيب:
(1)
سيدنا علي.
(2)
الحسن.
(3)
الحسين.
(4)
علي بن العابدين.
(5)
محمد الباقر بن زين العابدين.
(6)
جعفر الصادق بن محمد الباقر.
(7)
موسى الكاظم بن جعفر الصادق.
(8)
علي الرضا بن موسى.
(9)
محمد بن علي النقي.
(10)
علي بن النقي.
(11)
حسن بن علي الزكي.
(12)
محمد بن حسن العسكري.
يعتقد الإماميون أن الإمام الثاني عشر وهو محمد بن حسن العسكري حي إلى
اليوم ، (وهو الإمام المهدي المنتظر عندهم) .
ومن مطالعة مؤلفاتهم يرى الإنسان عقائد غربية مثل قولهم: غيبة صغرى،
وغيبة كبرى.
الغيبة الصغرى: يزعمون أنه كان في عام 266 هجرية في زمان المعتمد
العباسي مناسبات وعلائق بين الإمام وصلحاء الأمة. وكان بينهما سفراء ووكلاء
ودام هذا 73 سنة.
الغيبة الكبرى: ابتدأت في خلافة الراضي بن المقتدر، وانقطعت بعد ذلك
المناسبات بين الأئمة والأمة ، وكان أول وكيل للإمام عند الخلفاء (عثمان بن سعيد
العمري الأسدي) ، ثم انتقلت هذه السفارة بأمر الإمام إلى ابنه أبي جعفر، وظل هذا
وكيلاً عن الإمام خمسين سنة، ثم انتقلت إلى أبي القاسم حسين بن روح أبي بحر
النوبختي ، وبوفاته انتقلت وكالة الإمام إلى أبي الحسن علي بن محمد السميري ،
وعندما مرض هذا مرض الموت سألته الشيعة: لمن يجب توجيه الوكالة؟ فأعطاهم
مكتوبًا زعم أنه أخذه من الإمام المخفي هذه صورته: (بسم الله الرحمن الرحيم.
يا علي بن محمد السميري، عظم الله أجر إخوانك فيك، فأنت ميت، ما بيني وبينك
ستة أيام ، فاجمع أمرك ولا تعرض إلى أحد فيقوم مقامك ، وبعد وفاتك قد وقعت
الغيبة التامة، فلا ظهور بعد إلا بإذن الله تعالى ذكره، وذلك بعد طول الأمد، وقسوة
القلوب، وامتلاء الأرض جورًا، وسيأتي من شيعتي من يدعي المشاهدة. ومن يدعي
المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة، فهو كذاب مفتر فلا حول ولا قوة إلا بالله
العلي العظيم) .
وبهذا المكتوب يدعي الإماميون أن الغيبة الصغرى قد انتهت، وأن الإمام
اختفى، وأن الغيبة الكبرى قد ابتدأت.
إن هذه العقائد ليست من الإسلامية في شيء، وهي إيرانية بحتة.
إن الإمام الثاني عشر توفي عام 260 في زمان الخليفة العباسي المعتمد ، وما
رآه هؤلاء الأكارم من الأذى حقيقة يحرق الفؤاد، إن والد حسن جلب بأمر الخليفة
المتوكل من المدينة إلى سر من رأى ، وحبس هناك وظل في السجن حتى مات،
وهكذا عومل حسن، وحينما حبس الإمام حسن خرج ابنه البالغ من العمر خمس
سنين؛ ليفتش على أبيه ، ثم دخل في مغارة أو - سرداب - ولم يخرج منها.
وظل الإمامية يذهبون مدة طويلة يوميًّا لباب المغارة ينتظرون خروج الإمام
منها، كما ذكر ابن خلدون
إن الإمامية لم يكتفوا بتصديق الأوهام وإدخالها بين قواعد الدين، بل اخترعوا
أحاديث ما لها أصل ، وقدموها للعوام كصحيحة تأمينًا لمنافعهم وتهويشًا لبساطة الدين،
الأحاديث التي تبحث عن فضائل الطعام ، والتي قيل فيها: إن كذا وكذا من طعام
أهل الجنة، وأمثال ذلك من الخرافات جميعها من تلفيقات الإماميين. [1]
إن هذه الأحاديث الموضوعة تجاوزت الحد ، وأضرت بالمسلمين أضرارًا
اقتصادية أيضًا. مثلاً: ماذا تظن بأصل الاستمداد من الأموات؟ وبجمع الإعانات
لهم؟ رجل كسلان لا يقدر أن يحسن عملاً ، يرى في المنام قبرًا لا يعلم أحد ما في
داخله [2] فيتخذه ذريعة للمعيشة بدون تعب، يعلق هناك قنديلاً، ويرفع على أطرافه
حائطًا [3] ثم يكتب لوحًا بأن زيارته تشفي الأمراض وتقضي الديون ، ثم يضع
جملة توافق هواه ويسميها حديثًا. ويكتبها بخط جلي، ويعلقها في محل مرتفع؛
عندئذ يصدقه البله ، ويهرعون للزيارة وللإعانة ولتقديم النذور!!
فهذا الحال أضر بالمسلمين أضرارًا عظيمة أولها: مخالفة حكام الدين ،
وثانيها: إغراء الناس بالمطل والاحتيال.
وثالثها: تعطيل قسم عظيم من الثروة العمومية.
ورابعها: أنه يسوق الناس للأوهام ويبعدهم عن الجزم بأن {لَيْسَ لِلإنْسَانِ
إِلَاّ مَا سَعَى} (النجم: 39) .
فالعمدة في الرزق الكسب من طريق الأسباب، لا ما أعطاه الأموات. أما آن
الأوان أيها المسلمون لنبذ هذه الخرافات؟ أليس قوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ
خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ يَرَهُ} (الزلزلة: 7-8) أبلغ من
جميع هذه الترهات؟
***
فرقة الكاملية
من الشيعة من غالى وزعم أن كل من لم يبايع عليًّا رضي الله عنه
عقيب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فهو كافر ، حتى إن عليًّا نفسه لم يسلم من
اتهامهم، منهم الكاملية رجل اسمه أبو كامل كان يقول بالتناسخ، وهذه خلاصة
تعاليمه: (الإمامة نور تنتقل من شخص إلى آخر ، ويتجلى هذا النور في شخص
بشكل النبوة، وفي آخر بشكل الإمامة ، وفي بعض الأحايين ينقلب نور الإمامة إلى
نور النبوة) هذه أصول خرافاته ، يراها الأوربي ويظن بنا الظنون [4] .
***
فرقة البيانية
هؤلاء يقولون: بتجسد الله سبحانه وتعالى
رئيسهم رجل اسمه (بيان بن سمعان التميمي)، وهذه خلاصة مذهبه: إن الله
بصورة الإنسان ، ولا أحد يبقى غيره [5] ، وإن روحه تجلت أول الأمر في علي بن
أبي طالب ، ثم انتقلت إلي ابنه محمد ابن الحنفية ، ثم إلي أبي هاشم، وأخيرًا إلي
بيان بن سمعان؛ أي: إليه نفسه. (بيان) هذا كان يزعم اتحاد الإله بشخص
علي. عجبًا من أين أتيت هذه الخرافات إلى ديننا الحنيف؟ أتت من إيران واليونان
ومن النصارى؛ لأن زعم بيان بنصف ألوهية علي هو عين اعتقاد الإيرانيين
في (ميترا) والنصارى في عيسى.
***
فرقة العليائية [6]
أسسها علياء بن ذراع الأسدي ، وكان هذا يزعم بأن علياء هو الله ، وكان
يزعم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم بعث من قبل علي.
***
فرقة المغيرية
رئيسها المغيرة بن سعيد العجلي ، كان يبالغ أكثر من بيان بما يبين شكله
تعالى وحدوده ، وهذه نظريته: إن الله إنسان من نور وعلى رأسه تاج نوراني ،
وعندما أراد أن يخلق البشر تكلم باسمه الأعظم. وعندما بلغه عمل الناس السيئ
غضب وعرق ، وحصل من عرقه بحران: أحدهما مالح، والآخر حلو ، وكان البحر
الأول مظلمًا، والثاني نورانيًّا ، ثم نظر للبحر النوراني فرأي ظله، فأخذ منه شيئًا
وخلق الشمس والقمر [7]، ثم قال: لا يجوز أن يشاركني في الألوهية أحد. وأعدم باقي
الظل ، ثم خلق المؤمنين من البحر الحلو، والكافرين من البحر المالح. اهـ
لا أشك في أن دماغ الإنسان يجمد عندما يتصور أن أوربيًّا يقرأ هذه الترهات
باسم طائفة إسلامية ، وأظن أن القرد يفكر أحسن من ذلك.
وهذه النظرية أيضًا إيرانية؛ لأن الإيرانيين كانوا يعتقدون مثل ذلك. وهو
وصف الله بما كان يصف الفرس (هرمز) معبودهم، ولقد وصف البحار. إنما كان
الفرس يسمونه (آهريمان) .
كان الإيرانيون يعتقدون بأن خالق كل شيء هو (هرمز) ، ثم قال هرمز
لزرادشت: بلغ الناس أن كل شيء يلمع على وجه الأرض هو مقتبس من نوري.
ولا في الكون أبهى من ذلك النور ، خلقت الجنة والملائكة وكل شيء حسن من هذا
النور ، وخلقت جهنم وجميع الشرور من بحر الظلمة. فيظهر أن المغيرة أراد أن
يقلد (هرمز) ولكنه لم يحسن التقليد أيضًا.
***
فرقة المنصورية
مؤسسها أبو منصور العجلي ، ظهر في زمان عبد الملك الأموي ، وادعى
الإمامة ، فاجتمع حوله خلق كثير ، وشغل الأمة وقتًا بما لا يفيد ، وهذه نحلته قال:
صعدت إلى السماء ورأيت الله ، ووضع يده على رأسي ، وقال لي: انزل إلى
الأرض ، وبلغ الناس أوامري.
وهذه خرافة مأخوذة من الكلدانية والمصرية ، ولكنها صبغت بصبغة إسلامية،
يا للأسف.
***
فرقة الجناحية
رئيسها عبد الله بن معاوية ، زعم أن روح الله انتقلت إلى الأنبياء ، ثم إلى
الأئمة، ثم حلل جميع المحرمات. وقسم نظريته الأول مأخوذ من عقيدة قدماء
المصريين بالتناسخ ، وقسم نظريته الثاني أخذه من نظرية (مزدك) الإيراني.
***
فرقة الخطابية
أسسها أبو الخطاب محمد ابن زينب الأسدي ، هذا كان يقول بنبوة الأئمة
وبألوهيتهم. وكان يدعي بأنه أفضل من علي نفسه.
***
فرقة الهشامية
مؤسسها هشام بن سالم الجواليقي ، ونظرية هذه الفرقة: لله جسد طوله
وعرضه وعمقه متساوية، وهو سبعة أشبار. يشبه الأجسام وجامع للأوصاف
الحسية، وهو جالس على العرش بالتماس ، لا يعرف الأشياء إلا بعد ظهورها، وقبل
ظهورها لا يعرف عنها شيئًا ، هذه نظرية هشام بن الحكم. وأما نظرية هشام بن
سالم فهي:
(زعمه) أن الله بصورة الإنسان، وله يد ورجل وأنف وأذن وعين وفم،
ونصفه الأعلى مجوف ، ولكنه ليس لحمًا ودمًا. إن هذه النظريات التي تضحك القرود
كانت قصدية لإشغال المسلمين عن الأشياء النافعة ، ولقد نالوا ما يبغون وا أسفاه! ! !
***
فرقة اليونسية
مؤسسها يونس بن عبد الرحمن القمي ، زعم أن الله جالس على العرش
والملائكة تجره من مكان إلى آخر ، ثم يقول: مع أن الملائكة تجر عرش الله فهو
أقوى منهم كلهم.
***
فرقة المفوضة
يزعم هؤلاء أن الله بعد أن خلق محمدًا صلى الله عليه وسلم. فوض إليه خلق
كل شيء، فالخلاق هو محمد. وبعضهم ينسب خلقه العالم إلى علي.
إن هذا ليس من الإسلام بشيء، بل هو نصرانية بثوب إسلامي.
***
فرقة المشبهة
أشهر أركان هذه الفرقة أحمد الهيجمي ، زعم هذا بأن الله جسم يلامس
ويصافح ، وحتى يعانق من يريد من أهل الدنيا.
ومنهم عبد الله بن محمد بن كرام أسس شعبة لهذه الفرقة وسماها (المشبهة
الكرامية) ، وقال: إن العرش هو قطر الألوهية.
أرأيت أيها القارئ المحترم ماذا كان يشتغل أجدادنا؟ أتظن أن هناك سببًا
أقوى مما ذكر أدى لتأخرنا وضعفنا؟ أتظن أن هناك سببًا لتشوش أفكارنا ، وتردد
أعمالنا غير هذه النظريات المخلة المختلة.
لا تفل أيها القارئ اللبيب: هذا شيء مضى ، وهو من بقايا القرون القديمة.
إن آثاره لحد اليوم حاكمة علينا. لماذا يقتل الأتراك والزيديين في اليمن؟ لماذا
اتفق الإدريسي مع النصارى؟ لماذا يقتل الأتراك بالدروز؟ لماذا يشتغل المسلمون
حتى اليوم في ترهات كهذه، والأوربي يشتغل بالبخار والحديد؟ كل هذا لأن
الإسلامية أضاعت شيئًا مهمًّا من نبالتها الأصلية ، وأصبحت أعجوبة ممزوجة
بالخرافات. والأمر من كل هذا أن العوام أصبحوا خاضعين للخرافات أكثر من
الحقائق ، وكل من حاول إرجاع المسلمين إلى دينهم الصافي يحكم عليه بضعف
الاعتقاد! ! وهؤلاء المساكين لا يدرون أنهم يدينون بخرافات اليونان وإيران.
ثم إن لمبشري النصارى تأثيرًا عظيمًا في إكمال ما غاب عن ذهن مؤسس
الفرق المبحوث عنها ، أولئك كانوا يبتدعون بدعات جديدة ، وهؤلاء يأتون من
طريق منحنٍ أهم ما يرمون إليه التشكيك بأمر الدين ، وأغرب أمرهم أنهم فيما
يريدون إقناع الذي يجدونه ساذجًا بأمر ما ، يتكلمون على الأديان كلها ، ويجرحون
قواعد الإسلامية والنصرانية معًا؛ ليحسن السامع الظن بهم وينالون مأربهم.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) تابع لم سبق من الكتاب المترجم عن التركية (راجع ص 388 م 24) .
(1)
هذا من تحامل المؤلف ، فوضاع الأحاديث من غيرهم كثيرون.
(2)
قد يكون ما فيه حمار أو كلب ، وقد يكون خاليًا ، ولذلك وقائع معروفة في بلاد مصر وغيرها.
(3)
نسي المؤلف بناء القبة فوقه.
(4)
هذه الفرقة وأمثالها من الغلاة ليسوا من فرق المسلمين ، وقد انقرض أكثرهم.
(5)
وقع غلط في اسم صاحب هذه النحلة ونسبته فهو بيان النميمي بباء فياء لا (بنان) بالنون ، ومن كما كان في الأصل وهو القائلين بالتناسخ ، وأن الرب رجل من نور يفنى فلا يبقى إلا وجهه.
(6)
لا ذكر شيئًا عن هذه الفرقة.
(7)
وفي كتاب الفرق بين الفرق أن ظله طار ، فانتزع منه عينيه وخلق منهما الشمس والقمر ، وأفنى باقيه.
الكاتب: محمد رشيد رضا
المسألة العربية في طور جديد
دخلت المسألة العربية في طور جديد ، بخروج حكومة نجد من عزلتها،
وتعرفها إلى العالم الإسلامي والشعوب العربية، ومد يدها القوية إلى مساعدة البلاد
العربية على الاستقلال المطلق ، الذي عبثت به خيانة أمراء الحجاز، والإلقاء
بدلوها بين دلاء الشعوب الإسلامية في مسألة الخلافة، وقد صدر بذلك أول بلاغ
عامّ من عاصمة نجد بإمضاء نجل سلطانها، أرسل إلى أشهر الصحف في العالم
الإسلامي في 20 رجب سنة 1342 وهذا نصه:
للحقيقة وللتاريخ
بعد العنوان:
نرجو من جنابكم أن تفتحوا صدر جريدتكم للكلمة التالية؛ خدمة للتاريخ.
نشرت جريدة المقطم بتاريخ 21جمادى الثانية 1342 - 27 يناير 1924
مقالاً بعنوان: حديث (ملك الحجاز) ، وقد اطّلعنا في بعض الجرائد السورية
والعراقية على أحاديث وتصريحات تكاد تتفق مع هذا الحديث. إن هذه الأحاديث
قد تضمنت أشياء عن سلطان نجد ، وموقفه في القضية العربية والاتحاد العربي
تخالف الحقيقة والتاريخ ، وإننا لنأسف أن يتجرأ المسؤلون على الاختلاق على
الأحياء.
لقد سعى سلطان نجد في الحرب العالمية وبعد الحرب العالمية لبناء الوحدة
العربية ، فأرسل الكتب العديدة والرسل لابن الرشيد وملك الحجاز وأمير عسير
والكويت ، ولكن ملك الحجاز - من بين أمراء العرب - قابل الدعوة بالاستهزاء ،
بل سعى لنقض بنيانها بما كان يسعره من نيران الفتن والدسائس في عسير وغيرها ،
وكتبه المرسلة منه إلى آل عائض والرشيد محفوظة لدينا. وماذا يقولون في الكتب
التي أرسلها سلطان نجد مع مساعد بن سويلم إلى ملك الحجاز وأولاده؟ تلك
الكتب نشرت في الصحف في حينها ، والتي نشرت جريدة المقطم لا تبطن تلك
الكتب بما تنطوي عليه جوانح سلطان نجد وميله الشريف إلى التصافح مع جيرانه
والاتحاد معهم ، هل علموا أن ملك الحجاز لم يسمح لأولاده بإجابة سلطان نجد
وهو (أي: ملك الحجاز) قد تخطى حدود اللياقة ، بأن جعل جوابه لآل السعود
كافة، لا للجالس على عرش نجد؟ هل هذه الأعمال مما تقرب زمن الاتحاد العربي؟
وهل بمثل هذه السياسة تجتذب قلوب أمراء العرب؟
يصرح ملك الحجاز أنه خاطب سلطان نجد بأنه مستعد للتنازل عن عرشه،
وتسليم زمام الأمر لمن يستطع أن يقود العرب إلى طريق النجاة والسلامة، وهذا
أمر لا أساس له بالمرة ، بل الواقع يخالفه تمام المخالفة. نعم إن ملك الحجاز قد
صرح أمام بعض الجماهير بمثل هذه التصريحات للتمويه على البسطاء. إن ملك
الحجاز يحاول أن يتولى الزعامة غير المقيدة في جزيرة العرب كلها؛ ليستذل
أمراء العرب ويقتطع بلادهم ، ويتدخل في شؤونهم الداخلية، وهذا ما لا يمكن أن
يوافقه عليه أحد، وإن مكاتبات ملك الحجاز إلى أهل القصيم، وحثهم على نقض
ولائهم لسلطانهم لدليل بين على ما يخفيه وينويه لسلطان نجد وبلاده.
إن تحت يدنا من الكتب والرسائل التي وجدت في تربة وخرمة وعسير ما
يفيد أن ملك الحجاز وولده عبد الله لا يسعون إلا لشهواتهم ومصالحهم ، ولو أدى
ذلك إلى هدم بناء العرب، ولكننا نمسك عن نشرها الآن، فإن سمح لنا ملك الحجاز
بنشرها نشرناها. وهنالك يعلم العالم الإسلامي والعربي تلك الجنايات والدسائس
التي يقوم بها أولئك القوم الذين اتخذوا الصياح ، وقلب الحقائق ديدنًا لهم ،
وسيعلمون أي الفريقين يجني على أمته العربية ووحدتها، وأيهم سبب هذا الانقسام،
وألقى النفرة بين الأمراء ، وأشعل نيران الفتن والحروب بينهم. نعم سيعلمون أن
سلطان نجد لم يكن في جميع مواقفه إلا مدافعًا عن نفسه وبلاده وشرفه، وأنه كان
ولا يزال راغبًا من صميم فؤاده في إنشاء الوحدة العربية على أساس يجعل للعرب
قوة ومكانة تليق بتاريخهم المجيد.
20 رجب 1342
…
... (فيصل بن عبد العزيز بن سعود)
(المنار)
نشر هذا البلاغ في جرائد مصر وسورية وسائر الأقطار العربية والأعجمية ،
ولم ننشره في الوقت الذي نشرته فيه اكتفاءً بها ، وكان له تأثير حسن وعلقت
عليه الجرائد الحرة تعليقًا مقرونًا بالتفاؤل والرجاء في دخول قوة نجد في السياسة
العربية العامة. وإننا ننشر هنا تعليق جريدة (اتحاد الإسلام) التي تصدر في
طهران عاصمة الدولة الإيرانية لقلة اطلاع الناس عليها ، فإنها صحيفة جديدة
تنطق بلسان محبي الجامعة الإسلامية، وهذا نص تعليقها على البلاغ عقب نشرها
له:
رأي لمسلمي إيران في ثالوث الحجاز وصاحب نجد:
هذا المكتوب يعرب عن دسائس ملك الحجاز لأمراء العرب ، وسعيه بتفريق
الكلمة العربية، وما هي بأول قارورة كسرت في الإسلام، ولا تلك بأول جناية هذا
الإنسان الشرير على أمته، فإن كل ما يعرفه المسلمون عن ملك الحجاز دسائس
وحيل وجنايات يقفو بعضها بعضًا.
بنى عرشًا موهومًا لملكيته ، وإنما أقام بنيانه على أساس الخداع والنفاق وشق
عصا الطاعة ، حتى أسال إلى جوانبه أنهارًا من دماء المسلمين الذين كانوا
مرابطين في الثغور لحفظ الحرمين من عادية أعداء الإسلام. ولم يزل يدس هو
وأولاده الدسائس للمسلمين، لا يرعون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة. كل ذلك في منفعة
الإنكليز ، وغاية ما يقنعهم من دنياهم وآخرتهم أن يقال لأحدهم: ملك الحجاز،
وآخر: ملك العراق. والثالث: ملك الأردن، وإن لم يكن لهذه الألفاظ معنى ولا
مصداق، إذ لا حكم ولا أمر ولا نهي ولا حول لهم ولا قوة ، وليس لأحدهم من
السلطان مقدار ما لأحد صغار مأموري الإنكليز الذين يسعى ملك الحجاز وأولاده في
تثبيت سلطانهم على المسلمين، وإحكام طوق العبودية لهم في رقاب المؤمنين.
كل ذلك ليقال لأحدهم ملك ، وهذه اللفظة أصبحت في البلاد التي يوجد فيها
هؤلاء الأشرار مرادفة للفظ خادم الإنكليز.
ويكفي من دسائس الإنكليز ما عمله فيصل ابن ملك الحجاز (! !) في
العراق، فإنه بايع رئيس العراقيين آية الله الخالصي على أن يسعى فى سبيل استقلال
العراق وقطع نفوذ الإنكليز ، فإذا لم يستطع مضى من حيث أتي، وبايعه العراقيون
على ذلك ، وما تمت له البيعة حتى نكثها ، وأخذ يسعى لهدم استقلال العراق
وتثبيت نفوذ الإنكليز فيه بنفي العراقيين وحبسهم ، وقتلهم بأيدي الإنكليز، حتى إنه
مد يد العدوان إلى آية الله الخالصي نفسه ، ونفاه من العراق إلى الحجاز ، ولولا
جميل مساعي الدولة الإيرانية لبقي فيه منفيًّا إلى الآن، ولكنها اتخذت جميع
الوسائل لمجيئه إلى إيران ، وهو فيها الآن لا يسمح له بالرجوع إلى العراق لماذا؟
لأنه يطالب باستقلال العراق، وفيصل يسعى ضده، وكفى من دسائسه أن الإنكليز
يسعون لقتل المسلمين ، ونهب أموالهم وهتك أعراضهم بيد الآشوريين ، وفيصل
ساعدهم القوي في ذلك تثبيتًا للمعاهدة العراقية الإنكليزية. وهذه حادثة كركوك
الأخيرة ، تذيب قلب كل مسلم يسمع أن الآشوريين الذين أمدهم الإنكليز بالسلاح
خربوا المدينة بقتل رجالها ، ونهب أموالها حتى إنهم كانوا يهجمون على الحمامات
فيبقرون بطون نساء المسلمات فيها ، وما كان من فيصل إلا أنه عاون الآشوريين
لما هاجت القبائل لرد عاديتهم؛ إرضاءً لساداته الإنكليز.
يشكو آل السعود من دسائس ملك الحجاز في العسير، ونحن نعلم من جناياتهم
أكثر من ذلك، والمسلمون قاطبة يعلمون أن ألد أعدائهم أبو جهل القرن الرابع عشر
وأولاده، ولكن هذه حقيقة يجب أن يعلمها آل السعود وكل مسلم، وهي أن ملك
الحجاز وأولاده آلة صماء بيد الإنكليز، وكل ما رآه العالم العربي والإسلامي من
دسائسهم ما كان إلا أمرًا وتدبيرًا من الإنكليز أجروه على أيدي هؤلاء الأجلاف ،
فإذا أراد آل السعود التخلص من تلك الدسائس فعليهم أن ينضموا إلى غير الإنكليز؛
ليستطيعوا تشكيل وحدة عربية وإنهاض المسلمين في جزيرة العرب.
وربما يجيب آل السعود بأنهم يتقاضون من الإنكليز في كل سنة ستين ألف
ليرة ، ولا يمكنهم صرف النظر عنها. فحينئذ نقول لهم: إن هذا المبلغ يعطى لإبادة
العرب، وهو ثمن بخس إزاء تلك البضاعة الثمينة، ولا يخدعن آل السعود بذلك فإن
الإنكليز يجرون على أساس التفريق في سياستهم ، فإذا أعطوا شيئًا من المال إلى
آل السعود فما ذلك إلا تغرير وخداع يتظاهرون بسببه بصداقتهم لهم ، ومن جهة
أخرى يغرون بهم مسيلمة الحجاز وأولاده، وهكذا يصنعون في جميع العالم: يمدون
كل متخاصمين؛ ليطول الخصام ويدوم الدمار حتى يفنى الفريقان. هذه مدنية
الإنكليز فلماذا ينخدع لها ملوك الشرق؟ [1]
إن ملك الحجاز وأولاده قد تمحضوا لعبودية الإنكليز ، فلا يتوقعن ملوك نجد
إصلاحهم؛ إذ قد استحوذ عليهم الشيطان (الإنكليز) فأنساهم ذكر الله ، وإن
المسلمين في شرق الأرض وغربها قد علموا خيانتهم ، فلا تؤثر تصريحاتهم على
المسلمين إلا زيادة نفرة وسوء ظن ، فلا يهتم بتصريحات أولئك الدجالين ملوك نجد.
ولكن إذا أراد آل السعود قيادة العرب فعليهم أن يقاطعوا الإنكليز، ويتخذوا
سياسة العطف والحنان تجاه العرب كافة ، ويحذروا كل الحذر من التعصب الديني
تجاه طوائف المسلمين ، فإن ذلك أقوى باعث على ابتعاد المسلمين عن ملوك نجد.
وجه ملك نجد حملة إلى العراق سنة 1440 هجرية بقيادة فيصل الدويش [2]
ولو أنه كان استعمل العطف والحنان ، وترك لجميع طوائف المسلمين حريتهم
الدينية لما عاقه عائق عن الاستيلاء على العراق ، ولأعانه على ذلك شدة نفرة
العراقيين من الإنكليز وخادمهم فيصل ابن ملك الحجاز، ولكن فيصل الدويش
استعمل من القوة والشدة إزاء قبيلة البدور على ضفاف الفرات ما أجبرالعراقيين
كافة على المقاومة التي تمت بنفع الإنكليز وفيصل، وضرر عامة المسلمين ، فعلى
آل السعود أن يبدلوا تلك السياسة بسياسية البنى (كذا ولعلها اللين) والعطف التي
كانت شعار أئمة المسلمين، ونحن نؤكد لهم أنهم يستطيعون أن يقودوا العرب كافة ،
فإنهم نافرون من سياسة ملك الحجاز وخداعه.
بقيت لنا كلمة نوجهها إلى بعض البلاد العربية التي نسمع عن بعض أهلها
أنهم بايعوا مسيلمة الحجاز بالخلافة، ونحن نعلم أن بعض السوريين لشدة حنقهم
على الفرنساويين يريدون الانتقام منهم لبيعة خادم الإنكليز ، ولكن ذلك لا يبرر هذه
البيعة التعسة ، فإن عداوة الفرنساويين لا توجب أن يقدم المسلمون على إهانة
مقدساتهم ومحو ديانتهم ببيعة ضليل خان المسلمين ، وجنى على العرب جنايات
سياسية ، ولم يكفه ذلك حتى أقدم على جنايات دينية باسم الخلافة، فكأنه آلى على
نفسه أن لا يبقي للمسلمين دينًا ولا وطنًا إلا امتلك الإنكليز زمامه ، أيرى السوريون
أن عملهم هذا كان انتقامًا من الفرنساويين؟ كلا! فإنه انتقام من المسلمين قبل
الفرنساويين.
صح الله عقول الشبيبة السورية وبصَّرها بواجبها الديني والوطني.
(انتهى من عدد اتحاد الإسلام الرابع الذي صدر في طهران في ذي القعدة
سنة 1343) .
***
بلاغ آخر
من عاصمة نجد إلى العالم الإسلامي والشعب العربي
{رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} (الأعراف:89) .
منذ بضع سنين قام نفر من إخواننا يطالبون باستقلال العرب ، وينادون
بوجوب اتحاد أمراء العرب، فشكرنا سعيهم، وحمدنا عملهم، وسألنا الله أن يحسن
قصدهم ويرشدهم إلى خير العرب. عرضنا عليهم مساعدتنا على أن نضع حدًّا
لمطامع الأجانب ومقدار مداخلتهم في بلاد العرب ، فأبوا إلا أن ينفردوا بهذا العمل
الخطير، ويأخذوا على عاتقهم مسؤوليته ، ويحوزوا هم وحدهم فخر تحرير بلاد
العرب، فقلنا: أنجح الله استقلال العرب أيًّا كان المحرر والمنقذ، ولكن ما كاد
السيف يوضع في غمده حتى رأينا الاستقلال والتحرير وصاية وانتدابًا ، وحتى
رأينا شباب العرب وأحرارهم يقادون إلى السجون ، ويجلون عن بلادهم ويمنعون
من الإقامة في ديارهم، فهل الاستقلال أن يصبح العرب غرباء في بلادهم ومرافق
الحياة في يد غيرهم؟ ولولا أن الحجاز يمس شعور المسلمين احتلاله - لرأينا
الانتداب قد ضرب عليه.
ظننا أن القوم بعد هذه الكوارث يفيقون من نومهم، ويثوبون إلى رشدهم،
فيعتصمون بحبل الله المتين ، ويستعينون بإخوانهم لإنقاذ البلاد العربية وتحريرها
من كل مغتصب، ولكن القوم ما زالوا في طغياتهم يعمهون، ما حرك شعورهم
احتلال بلاد العرب، وما آلم نفوسهم ما يعانيه إخوانهم العرب، ولكن استولى
عليهم الهلع، وفقدوا الراحة حينما رأوا جارتهم نجد قوية مستقلة لم تنفذ إليها مطامع
المستعمرين ، فقاموا يناوئونها، ويكدرون صفو راحتها، فهل هذا هو التحرير؟
وهل تعد هذه الأعمال من وسائل الاستقلال؟
أيها الشعب العربي الكريم:
إن نجدًا قد حافظت على استقلالها في جاهليتها وإسلامها، ولم يدنس أرضها
قدم أجنبي مغتصب، وستبقى محافظة على حقها إن شاء الله ما بقي في شعبها عرق
ينبض.
إن نجدًا تمد يدها لكل من يريد خير العرب ، ويسعى لاستقلال العرب. وتساعد
كل من ينهض لتحرير العرب واتحاد العرب.
إن نجدًا ترحب بكل عربي أبي، وتعد أرضها وطنًا لكل عربي: سوري أو
عراقي أو حجازي أو مصري إن نجدًا لا تطمع في امتلاك أرض خارجة عن
حدودها الطبيعية، ولكنها لا تقبل إلا أن تستقل عن بلاد العرب كلها استقلالاً
صحيحًا لا يكون لغير أبنائها سلطان عليها.
الخلافة:
ليست الخلافة من الوظائف الروحية التي يقصد بها مجرد التبرك ، ولكنها
وظيفة سامية لجميع المسلمين حق النظر فيها ، فليس لجماعة أو شعب حق البت
فيها بدون أخذ رأي باقي الشعوب الأخرى، ولذلك أنكرنا على الحسين بن علي
عجلته والحط من شأنها بقبوله هذا المنصب الذي لا يليق له، والذي حق البت فيه
راجع إلى جميع الشعوب الإسلامية.
إن أهل نجد يوافقون إخوانهم أهل مصر والهند في وجوب عرض هذه
المسألة على مؤتمر يمثل الشعوب الإسلامية تمثيلاً صحيحًا، وهنالك يسند هذا
المنصب إلى الكفء الذي يستطيع أن يصون حقوق المسلمين ، ويبعث فيهم روح
الحياة والنشاط، ويربطهم برباط الأخوة الذي كاد ينحل. وهنا لا يسعني إلا أن
أشكر إخواننا مسلمي الهند الحاملين علم الجهاد لاستقلال جزيرة العرب وحفظ
الخلافة من عبث العابثين {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً
إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ} (آل عمران: 8) .
…
فيصل بن عبد العزيز السعود
…
...
…
...
…
... الرياض 28 شوال سنة 1342
***
مؤتمر الشورى
بشأن الحجاز في عاصمة نجد
(ورد في كتاب الرياض إلى البحرين، وأرسل منها إلى جريدة الأخبار بمصر)
في أول شهر القعدة سنة 1342 اجتمع في قصر الإمام عبد الرحمن والد
سلطان نجد جمع من العلماء والأعيان ورؤساء الأجناد، فمن العلماء: الشيخ سعد
الدين عتيق، والشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ سليمان بن سحمان، والشيخ
عبد العزيز بن عبد اللطيف، والشيخ صالح بن عبد العزيز، والشيخ عبد الله بن حسن، ومن رؤساء الأجناد والأمراء: سلطان بن مجاد بن حميد زعيم برقا من
عتيبة، وأمير هجرة غطفط [3] ، وعبد الرحمن بن ربيعان أمير هجرة الداهنة [4]
ورئيس الروقة من عتيبة ، وفيصل الدويش أمير الأرطاوية ورئيس مطير، وحزام ابن هزاع بن عمر، وفيصل بن حشر، ومعيطي بن عبود، وهذال بن سعيدان
رؤساء قبائل قحطان، وحجاب بن نهيث، وهندي الذويبي، وعبد المحسن العزم،
وعبد العزيز بن مضيان رؤساء حرب ، وقد حضر الاجتماع غيرهم ممن لم نقف
على أسمائهم.
افتتح الاجتماع الإمام عبد الرحمن موجهًا كلامه إلى العلماء والإخوان فقال:
لقد جاءتني كتب عديدة من الإخوان يطلبون الغزو والحج ، وهذه الكتب قد أرسلتها
في حينها إلى ولدنا عبد العزيز حفظه الله، وها هو اليوم أمامكم، فاسألوه عن كل ما
يبدو لكم.
السلطان عبد العزيز: إن جميع ما كتبتموه قد وصل إلي، وإن شكاياتكم كلها
من تعدي بعض المتعدين قد أحطت بها علمًا، وإني لم أحل دون غرضكم من الغزو
إلا حقنًا لدمائكم ودماء الأمة العربية العزيزة، على أن كل شيء له نهاية، والصبر له
حد لا يتجاوزه، والأمور مرهونة بأوقاتها، والفرص لا تهيأ في كل وقت.
سلطان بن مجاد: أيها الإمام، إننا نريد الحج لا محالة، ولا نستطيع أن نصبر
على ترك ركن من أركان الإسلام مع قدرتنا عليه. إن مكة ليست ملكًا لأحد ولا
يحق لأحد أن يمنع مسلمًا أو يصد مؤمنًا عن أداء فريضة الحج. إننا نريد أن نحج،
فإن منعنا شريف مكة؛ دخلنا مكة بالقوة ، وإن لم يصدنا عن سبيل الله ، أو يلحق
بنا أذًى فنحن نحج ولا شأن لنا به، وإذا كنتم ترون من المصلحة تأخير فريضة
الحج فلابد من غزو الحجاز ، وتخليص البيت من سيطرة طاغية مكة الذي أرهق
العباد ، وضرب من المكوس والرسوم على قاصدي بيته ما تبرأ منه الشريعة
الطاهرة.
السلطان عبد العزيز: إن مسألة الحج هي من أهم المسائل التي يرجع الفضل
فيها إلى علمائنا - حفظهم الله - وهاهم حاضرون فليتكلموا ، ونحن نتبع خطاهم.
الشيخ سعد بن عتيق: إن الحج من أركان الإسلام، ومسلمو نجد والحمد الله
يستطيعون أن يؤدوا هذا الركن على الوجه الأتم بالرضا أو القوة ، ولكن من
الأصول الشرعية النظر إلى المصالح أو المفاسد ، فالأمرالذي قد يؤدى إلى ضرر
أو مفسدة، يدفع فهل هنالك من مفسدة أو مضرة قد تنتج من الترخيص لمسلمي نجد
بالذهاب إلى بيت الله؟ ذلك ما نريد أن نقف عليه من الواقفين على السياسة.
السلطان عبد العزيز: أيها العلماء والإخوان لقد سعيت من مدة طويلة في
بسط السلام والأمان داخل الجزيرة ، فنحن لا نود أن نحارب من يسالمنا، ولا نمتنع
عن مصافاة من يصافينا ، لقد أحببت أن نعيش مع أشراف الحجاز كما يعيش
الجيران على المودة والمحبة ، ولكن شريف مكة كما تعلمون يسعى دائمًا لبث
الدسائس وإلقاء بذور الخلاف بين عشائرنا، ولكنه كان دائمًا يبوء بالخسران، والله
لا يترك الحق يصرعه الباطل. إن شريف مكة قد ورث من أسلافه بغضكم فهو لا
يفتأ يطعن في طريقكم السوي وسيرتكم المحمدية، ولا يألو جهدًا في الافتراء علينا
والطعن على علمائنا ، ولكن أهل الحق لا يضرهم من ناوأهم، ولينصرنهم الله ما
نصروا دينه، وظاهروا شريعته.
إن شريف مكة لم يكفه ادعاؤه الزعامة على العرب مع أنه أضعفهم، بل قام
يلقب نفسه بإمارة المؤمنين ، مع أنه يعلم أن الأقطار الإسلامية كلها تبغضه، وأن
علماءكم قد أرسلوا التلغرافات إلى مصر والهند ، ينكرون عليه هذه الدعوى التي لا
نراه كُفُؤًا لها، ولابد من وضع حد لأكاذيبه وإفساداته.
أما الحج هذه السنة فلا أراه من مصلحتكم. أنا لا أقبل أن تحجوا وبكم شيء
من الضعف أو يلحق بكم نوع من الأذى والضرر ، وإني على يقين أن أخذ مكة
والمدينة لا يحتاج إلى أكبر مجهود ، ولكن مكة ليست لنا وحدنا بل هي للمسلمين
كافة، وما دمنا لم نضع خطة بالاشتراك مع المسلمين ، فأنا لا أجيز لكم الاستيلاء
على إحدى المدن المقدسة.
إن شريف مكة قد لا يمنعكم من الدخول إلى مكة ، ولكن الرجل لا يعدم
وسائل الشر، فقد يدس من يتحرش بكم؛ لتحدث فتنة في مكة في موسم الحج وفيه
المسلمون من كل جنس ، وإني أكاد أجزم أن هذه خير فرصة له؛ ليهيج علينا العالم
الإسلامي الذي أخذ يفهمنا ويقترب منا ونقترب منه، واعلموا أن الأمر لا يطول،
فاصبروا إن الله مع الصابرين.
عندئذ قال العلماء بصوت واحد: إنه لا حرج عليكم من تأخير الفريضة هذا
العام، مادام أن أداءها قد يؤدي إلى فتنة في بلد الله الحرام.
فيصل الدويش: لقد وردت إلي كتب كثيرة من عشائر مطير الفارة في
العراق، تطلب العفو والأمان؛ لترجع إلى أماكنها.
أحد العلماء: إن هؤلاء الأشقياء قد خرجوا على ولي أمرهم، وعاثوا في
الأرض فسادًا، ولكن بما أنهم قد ندموا على فعلتهم، وثابوا إلى رشدهم، فالعفو
خير، وما قتل الأحرار كالعفو عنهم ، ولكن أرى أن الواجب يقضي بأنهم يردون ما
نهبوا وما سلبوا إلى أهله.
رؤساء عتيبة: إذا كان الحجاز معاديًا لنا ، ولا يبتغي إلا إلحاق الأذى بنا، فلم
لا تبيحوا لنا غزو عشائره التي لا تزال خاضعة.
سلطان نجد والعلماء: إن هذه أشهر حرم ، اتركوا الغزو فيها حتى تمضي.
فإذا مضت فلابد من النظر إلى ما فيه المصلحة.
ثم انفض الاجتماع وسافر كل زعيم إلى هجرته؛ ليخبر قومه بما وقع من
البحث ، وما حدث من النتائج في المفاوضة اهـ.
تأثير صوت نجد في العالم الإسلامي ولا سيما الهند:
لقد كان الخطابان اللذان وجههما نجل سلطان نجد إلى العرب والعالم الإسلامي
كالرياح التي تهب قبل المطر بشرى بين يدي رحمة الرب الرحيم، ثم كان قرار
مؤتمر الشورى - هذا - كالسحاب الثقال ذات الرعد والبرق، فما عتم الغيث أن
انبعق، والغوث أن اتسق.
سُرَّ أهل الرأي والبصيرة من الشعب العربي وسائر الشعوب الإسلامية بهذا
الطور الجديد لإنقاذ جزيرة العرب ومشاعر الإسلام من طاغوت الحجاز وأوليائه
الأجانب، وقد رجعنا صدى جريدة اتحاد الإسلام الإيرانية لصوت نجد الأول، فألق
السمع لصدى صوت جمعية الخلافة في الهند للأول والآخر:
كتاب جمعية الخلافة إلى سلطان نجد
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين:
وبعد، إن مسلمي الهند، وأمراءهم وعلماءهم وتجارهم وجميع طبقاتهم قد راقبوا
عن كثب مجرى أموركم وأقوالكم الصادرة من فؤادكم ، فتحقق لديهم أن في قلب شبه
جزيرة العرب ملة إسلامية، وشهامة قحطانية، ونهضة عربية، ولا سيما عندما
انضممتم إلى الوحدة العربية، وجاهرتم بحمايتها، وأنكم ساعون لنصرتها.
وكذلك أبت غيرتكم الإسلامية، وصفاتكم العبقرية، أن تروا الجامعة
الإسلامية لا قيادة لها وتجنحوا للسكون! ! فتقدمتم إلى العالم الإسلامي معلنين
ومصرحين أنكم مع العلماء لتأييد الشرع منضمون، وفي المؤتمر الإسلامي العتيد
داخلون ، ولحماية الخلافة مع ملوك الإسلام وأمرائهم وقوادهم مدفعون.
فلا يسع علماء الهند إلا أن يرفعوا أيديهم إلى قبلة الدعاء في السماء داعين
المولى عز وجل أن يكلل أعمالكم بالنجاح، ويلهم بكم الإسلام والعرب سبل الفلاح،
إنه مجيب الدعاء.
كيف لا وقد زاد فرح وحبور مسلمي الهند عندما تحققوا إخلاصكم وبطولتكم
لإحياء الجامعتين العربية والإسلامية. وها إن مسلمي الهند يعلقون الآمال الطوال
على غيرتكم وفطنتكم في تشييد بناء للاتحاد العربي؛ لتستطيعوا أن تقفوا بوجه كل
أجنبي يقصد شبه جزيرتكم.
أمدكم الله بنصره، وحرسكم بعنايته، وجعلكم الله مصباحًا لإنقاذ إخوانكم
العرب من الذل والعار، اللذين دهماهم وخيما على بلادهم بجهل الحسين بن علي
وأولاه ضروب السياسة {سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي
مَتِينٌ} (الأعراف: 182-183)
قرأنا خطابكم في صحيفة الأخبار الغراء الصادرة في 6 محرم سنة 1343 الذي
ألقيتموه في ذي القعدة في مؤتمر رياض عاصمتكم فألفينا خطابكم مملوءًا حكمة
وأخلاقًا وسياسة، قل أن توجد هذه المقدرة بأمثالكم.
ولقد طلب القواد منكم أن تغزوا مكة وتستخلصوها من الحسين ، فأبيتم أن
تحتلوا بلدًا مقدسًا قبل الاتفاق على احتلاله مع جميع المسلمين، واعتبرتم أن البلاد
المقدسة للمسلمين عامة ، ولا تجرون عملاً قبل مشاورتهم في الأمر، فهذا برهان
صادق على اتباعكم سبيل الشريعة السمحة، بنفس مرضية، ودمقراطية إسلامية.
والهند ترى التريث ضروريًّا ريثما يرد الحسين على الجواب الذي أرسلته
إليه قبل تاريخه بعشرة أيام، فإذا انقاد للانضمام إلى الحلف العربي ، ووقع معكم
ومع جيرانه محالفات دفاعية هجومية ضد كل عدو أجنبي، فلا حاجة لسفك الدماء
ولا ضرورة تسيغ احتلال بلاده، كما قال الله تعالى:{وَكَفَى اللَّهُ المُؤْمِنِينَ القِتَالَ} (الأحزاب: 25) .
وعسى الله أن يهديه إلى الطريق القويم بعد أن خانه حلفاؤه، وتسلط على
الممالك العربية أهل وداده. إنا لله وإنا إليه راجعون.
وإذا رفض الحسين اقتراحاتنا جميعها، فنرى مهاجمته واحتلال بلاده
لازمين، كي يستطاع أن توحد كلمة العرب في شبه جزيرتهم ، ويكون الحلف العربي
متينًا وشوكة الجامعة الإسلامية قوية. هذا (أي: الهجوم عليه) لا نجيزه حتى
يصلنا الجواب منه. أو يذهب خمسة عشر يومًا عن ميعاد ورود الجواب؛ لأن الحق
قال في كتابه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (الإسراء: 15) .
ومسلمو الهند يسرهم أن تنظم حكومة نجد إدارتها وداخليتها، وترسل سفراءها
إلى جميع الدول ، وتعرض عليهم استقلالها، فيعترفون لها به وتنتظم مع التوازن
الدولي الجديد ، وتوقع المحالفات الحبية الدفاعية معهم.
ولقد استبشر مسلمو الهند بالنجاح عندما فتح سلطان نجد أبواب بلاده إلى
أحرار سورية والعراق وفلسطين، ولا جرم أن هؤلاء واقفون على سبيل الحضارة
والتمدن الحديث وأفكارهم ثاقبة ، فسوف تستفيد الأمة النجدية الفتاة منهم فوائد كبيرة ،
تكون إن شاء الله سببًا لرفاهية مجدها ورفع شأنها إلى صفوف الدول الحية.
وإن مسلمي الهند يقترحون على دولتكم أن تجلبوا للرياض معامل للأسلحة من
بلاد العرب، وأن ترسلوا بعثات علمية من الطلبة النجديين إلى بلاد الغرب
يتعلمون كيف تصنع المخترعات الحديثة والآلات الحربية ، والمواد الكيماوية،
ويأمل مسلمو الهند أن يوقع سلطان نجد محالفات حربية دفاعية هجومية مع الإمام
يحيى والإدريسي وباقي أمراء الجزيرة، وأن يعرض علينا شروط الاتفاقيات؛
لتطمئن قلوبنا، ويهدأ روعنا على آخر قوات عربية إسلامية مستقلة مسلحة بقيت
لحماية العرب، والانضمام مع الأتراك والأفغان وإيران وباقي ملوك وأمراء
الإسلام المسلحين لحماية الإسلام، وفق الله العاملين ، وإن الله لا يضيع أجر من
أحسن عملاً.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
المنار: إن سلطان نجد قد رفض الإعانة التي كان يقدمها الإنكليز له ثمنًا لترك العراق وشأنه ، وذلك من خريف السنة الماضية 1923، فليقر إخواننا الغيورون في إيران وغيرها عينًا ، ولولا ذلك لما تصدوا الآن لتدمير عرش حسين الصوري.
(2)
كان سبب تلك الحملة دسائس الحجازيين وعدوانهم، كما علم بعد، ونشر في الجرائد.
(3)
المنار: إن الذين يتدينون من الأعراب بدعوة النجديين يلقنون شرائع الإسلام أولاً ، ثم يحملون على تعلم القراءة والكتابة، وعلى ترك البداوة بالهجرة من البادية إلى المدن والقرى؛ عملاً بسنة صدر الإسلام ، ويسمون كل قبيلة أو جماعة وحيث يقيم: هجرة وقد يكون كله أم بعضه من بنائها.
(4)
لعلها محرفة عن الدهناء.
الكاتب: محمد رشيد رضا
مبايعة الحجاز لحسين بالخلافة
كان هذا الفصل وما بعده من أخبار خلافة حسين المكي التي حققنا أنها
(وضعت سقطًا لم يستهل، ومضغة لم تكتمل) قد جمعت منذ ثلاثة أشهر وضاق
عنها الجزء الماضي ، وجمع معها مواد أخرى في موضوعها ، ولكن تأخر هذا
الجزء وسبقته الحوادث ، فأخرنا تاريخه حتى ظهرت طلائع إنقاذ الحجاز والعرب
من هذا الطاغوت الذي سمى نفسه (المنقذ) بسيف الحق الذي سلّه الله في نجد،
فوجب أن نختصر ما كنا جمعناه، ونكتفي منه بالوثائق التاريخية للاعتبار بها دون
استقصاء فنقول:
صدر العدد 769 من جريدة القبلة المؤرخ في 30 رجب سنة 1342 (6
مارس سنة 1924) مزينًا بذرور الذهب؛ لأنه خص بخبر المبايعة بالخلافة وما
يتعلق بها، وافتتح بمقالة في (الخلافة والعرب) - وما العرب عندها إلا حسين
فبعد التنويه بثورته الشؤمى، وأعماله القبحى، قال الكاتب المستأجر فيها ما نصه:
(وعند قيام جلالته بالنهضة بايعه أهل الحل والعقد في الحجاز ، كما بايعه
بذلك أهل سورية (بما فيها فلسطين) قبل النهضة وبعدها، وكذلك أهل العراق
ووفود اليمن وغيرها من الأقطار العربية بيعة مستكملة لشرائطها الشرعية ، ولا
تزال وثائقها بين أيدينا) .
ثم قال: إنه هو لم يقبل تلك البيعة في حينها (تحاشيا عن التشويش
والاضطراب في هذه المسألة الإسلامية الكبرى تاركًا أمر البت فيها إلى الرأي
العام الإسلامي)
(ولكن مع الأسف) إن العالم الإسلامي ترك هذه المهمة الخطيرة هدفًا
للتلاعب ، حتى وصل بها الأمر إلى الحد الفظيع الذي أنبأتنا به البرقيات المنشورة
في غير هذا المكان في هذا العدد (يعني ما فعله الترك) وقد ذكرنا برقياتها هذه وهي
من عمان في الجزء الماضي ، ومنها أن جريدة المقطم سبقت إلى ترشيح حسين
للخلافة ، ومن البرقيات التي لم تنشر برقية حسين لرئيس حكومة مكة بأن من
امتنع من البيعة يقتل رميًا بالرصاص. فمبايعة الحجاز وقعت بالإكراه خلافًا لما
ذكرته قبلة الدعاية الحسينية المزورة إلا في تعليلها المبايعة بعمل حكومة أنقرة؛ إذ
قالت:
إن هذا سبب هبوب الشعب السوري للمبايعة ، وإن هذه الأنباء لما وصلت
إلى العاصمة (مكة) هب أهلها للمبايعة وإقامة الزينات والاحتفالات. ثم قالت:
ومما تقدم يتضح أن مبايعة الأمة العربية لصاحب الجلالة الهاشمية بالخلافة
ليست بالأمر الجديد ، وإنما كانت تأكيدًا للبيعة السابقة.
ثم زعم الكاتب وهو محرر الجريدة المستأجر، الموظف لخليفته المزور، أنه
صار مكلفًا شرعًا بقبول هذه البيعة، فهو يرى أن تسمية خليفة تركي كان مانعًا
شرعًا من هذا القبول. وكأنه نسي ما كتبه مولاه في قبلته نفسها من إثبات كفر
الدولة العثمانية ، وبطلان خلافتها القديمة في الأزمنة التي بايع خلفاءها هو وأسلافه
من قبله فيها، ثم صرح مرارًا بموت الخلافة، وجهل أن حكمه بوجوب قبول
البيعة الثانية دون الأولى - يتضمن جهل الأمة العربية التي زعم أنها بايعته بأن تلك
البيعة كانت باطلة لا يجوز قبولها ، أو فسقه هو بترك القبول الذي يترتب عليه
تعطيل أحكام الشرع ، ولا غرو فكل من المبايعين والمبايع صدق عليهم الحديث
النبوي الحكيم: (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور) متفق عليه من حديث
أسماء بنت الصديق. وعند مسلم عن عائشة أيضًا - رضي الله عن أبيهما وعنهما -
وذلك أن كلاًّ منهما مفتات على الشعوب الإسلامية كلها بما ليس له فيه حق بنفسه،
ولا بالشرع، كما بيناه في الفتوى التي أقمنا فيها الدلائل على بطلان هذه البيعة،
وعلى كونها لم يقصد بها معنى الخلافة الشرعية لتعذره.
ثم إن جريدة القبلة ذكرت بعد تلك المقولة ما كان من الاحتفال في مكة
بالمبايعة العامة والخاصة - تعني مبايعة أسرة حسين وعشيرته الشرفاء ورجال
حكومته، ومبايعة العامة - وإننا ننقل عنها نص الخطاب الذي نمقوه، وتلاه على
الناس قاضي القضاة ورئيس حكومة مكة، حفظًا لهذه الوثائق التاريخية، وتذكيرًا
بما فيها من العبرة، وهو:
***
الخطاب الذي أعلنت به المبايعة بمكة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، الحمد لله الذي
وفق أهل الحَلّ والعقد والتدبير، لتنصيب إمام يقوم بمصالح أفراد المسلمين الكبير
منهم والصغير، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المرسل رحمة وبشيرًا ونذيرًا
والقائل إرشادًا لأمته: (أمِّروا عليكم أميرًا) وعلى آله وأصحابنا وسلم تسليمًا كثيرًا.
وبعد، فبناءً على انحلال الإمامة الكبرى منذ زمن بعيد ، وقد نص الشارع صلى الله
عليه وسلم على تنصيب المسلمين إمامًا لهم بقوله: (أمِّروا عليكم أميرًا) ذاك أمير
أمَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله صلى الله عليه وسلم: (من مات ولم
يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية) ونص العلماء على أنه لا بد شرعًا للمسلمين
من إمام يقوم بتنفيذ أحكامهم وإقامة حدودهم ، وسد ثغورهم وتجهيز جيوشهم ،
وحماية بيضتهم وقطع مادة شرور المتغلبة والمتلصصة ، وقطاع الطريق وإقامة
الجمع والأعياد ، وأخذ العشور والزكاة وقطع المنازعات ، وقبول الشهادات وتزويج
الصغار الذين لا أولياء لهم ، وقسمة الغنائم لوجهين:
(الوجه الأول) :
أنه تواتر إجماع المسلمين في الصدر الأول بعد وفاة النبي صلى الله عليه
وسلم على امتناع خلو الوقت عن خليفة وإمام، حتى قال أبو بكر الصديق في خطبته
حين وفاته عليه الصلاة والسلام: (ألا إن محمدًا قد مات، ولا بد لهذا الدين من يقوم
به) فبادر الكل إلى قوله وتركوا له أهم الأشياء، وهو دفن رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، ولم يقل أحد من الصحابة: لا حاجة إلى ذلك؛ بل اتفقوا عليه واستمر الناس
بعدهم على ذلك.
(الوجه الثاني) :
أن في تنصيب الإمام دفع ضرر مظنون ، ودفع الضرر المظنون واجب على
العباد إذا قدروا عليه إجماعًا، لما نعلمه علمًا ضروريًّا أن مقصود الشارع فيما شرع
من المعاملات والمناكحات ، والجهاد والحدود والمقاصات وإظهار شعار الشرع في
الأعياد والجمعيات - إنما هو مصالح عائدة إلى الخلق معاشًا ومعادًا ، وذلك المقصود
لا يتم إلا بإمام يكون من قبل الشرع ، يرجعون إليه فيما يعن لهم فتنصيب الإمام من
أتم مصالح المسلمين ، وأعظم مقاصد الدين فحكمه الإيجاب السمعي ، وقد يتمسك
على وجوبه بقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء:
59)
وحيث إن شروط الإمامة الكبرى قد توفرت في جلالة مليكنا ومنقذنا ملك
العرب المعظم صاحب الجلالة الهاشمية الشريف حسين بن علي - تعينت مبايعته،
فبايعناه بالخلافة سنة خمس وثلاثين بعد الثلاثمائة والألف ، على أن يعمل فينا
بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وفي يومنا هذا التاسع والعشرين من
شهر رجب الحرام من عامنا الحالي اقتضى الحال تأييد تلك البيعة وإعلانها للعموم؛
فأكدناها اليوم.
وحيث إنه غائب في هذا الوقت ، ومولانا حجة الإسلام قاضي القضاة ومفتي
السادة الحنفية ونائب رئيس وكلاء الحكومة العربية الهاشمية مفوض عام من قبل
جلالته مدة غيابه في الأمور الشرعية والإدارية ، بايعه الرؤساء من الأشراف
والسادة والعلماء والأعيان من أهل الرأي والتدبير من عموم أهالي الحجاز،
والمجاورين والوافدين على اختلاف طبقاتهم بالخلافة العظمى قائلين: نبايعك نيابة
عن أمير المؤمنين وخليفة رسول رب العالمين سيدنا الشريف حسين بن علي بن
محمد بن عبد المعين بن عون ، على أن يعمل فينا بكتاب الله تعالى وسنة رسوله
صلى الله عليه وسلم ، ونقسم لك بالله العظيم على طاعته ورضاه والانقياد له في
السر والعلانية ، وله علينا في ذلك عهد الله وميثاقه ما أقام الدين ، واجتهد فيما فيه
صلاح حال المسلمين {فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُث ُعَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ
فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} (الفتح: 10) فقبل مولانا الموصى إليه هذه البيعة لجلالته
وللإعلام بذلك صار تحريره اهـ؛ بنصه ويليه دعاء له بالظفر والفتح والنصر
ومحق سيفه رقاب الطائفة الباغية الكافرة اهـ؛ فيا للفضيحة والخجل!
(المنار)
كنا عازمين على إحصاء كل ما في هذا الكتاب من مواضع النقد، وإذ كان
حسين قد عجز عن إحياء سقط خلافته بالدعاية كما توهم ، وعن تحنيطه إبقاءً
لصورته، وإذ تفسخ وقرب دفنه - نكتفي بالإشارة إلى بعض المسائل المهمة:
فأما دعوى مبايعته بالخلافة سنة 1335 فإن نص تلك المبايعة الذي نشر في جريدة
القبلة كان بالملك على العرب لا بالخلافة. وأما دعوى أهليتهم للمبايعة فباطلة، فإنهم
عاجزون مستعبدون له ولعبيده، لا حل ولا عقد لهم في بلدهم، فضلاً عن بلاد العرب
كلهم الذين سخروا بمبايعتهم - فضلاً عن العالم الإسلامي كله الذي حقره لقبوله هذه
المبايعة - وقد بينا في فتوى الجزء الرابع بطلان هذه الدعوى ، ودعوى استجماعه
لشروط الخلافة ، ومن المضحكات أن ذكروا فيها حماية الممالك الإسلامية وهو
عاجز إلا عن ظلمهم. وقد قرب عهد إسقاط البيعتين وطرده من الحرمين الشريفين.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
منشور الخلافة
كتب الملك حسين منشورًا أذاعه على أثر المبايعة الخادعة الباطلة التي مثلت
في شونة شرق الأردن ونشر في بعض الجرائد وهذا نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحسين بن علي
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ
المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (الفاتحة: 2-7) والصلاة والسلام على سيدنا
محمد عبده ورسوله أفضل الصلاة والتسليم، وعلى آله وصحبه وكافة أنبيائه ورسله
صلاة الله وسلامه عليهم أجمعين.
أما بعد فإني أسأله الرأفة والرحمة بعباده ، والهداية والتوفيق لهم، وأن يجعلنا
هادين مهتدين غير ضالين ولا مضلين ، فإنه هو البر الرحيم والمنان الكريم ، ثم
إنه لما كانت الإمامة الكبرى والخلافة العظمى نظام عقد الأمة وسند قوام الملة، وكان
أمر صيرورتها وكيفيتها ، وما جرى فيها مدونًا ومنقولاً عمن تلقينا عنهم ديننا القويم ،
وكان كل ما جرى من بعد عهدهم السعيد في كيفية حقوقها وصلاحيتها وسائر
معاملاتها إلى يومنا هذا موضحًا في تواريخ العالم الإسلامي وسيره المعتبر؛ فإقدام
حكومة أنقرة بما أقدمت عليه على ذلك المقام المكرم كيفما كان شكله ، جعل أولي
الرأي والحل والعقد من علماء الدين المبين في الحرمين الشريفين والمسجد
الأقصى، وما جاورها من البلدان والأمصار يفاجئوننا ويلزموننا ببيعتهم بالإمامة
الكبرى والخلافة العظمى حرصًا على إقامة شعائر الدين وصيانة الشرع؛ لعدم
جواز بقاء المسلمين أكثر من ثلاثة أيام بلا إمام ، كما يفهم صراحة من توصية
الفاروق الأكرم رضي الله عنه لأهل شورى البيعة بعده كيفما كانت صيغة تلك
الإمامة وأشكالها إلى الآن وعليه.
ولما كانت المملكة الهاشمية والقطعة المباركة الحجازية مهد الإسلام ومحل
ظهوره ومطلع نوره ، وكانت مصونة بعنايته تعالى من كل شائبة في حالتيها السابقة
والحاضرة ، ولا سيما العمل فيها بأحكام كتاب الله وسنة رسوله بجميع خصوصياته
وعمومياته ، وانطباق حكم البيعة المشروعة من المبايع والبايع له انطباقًا لا يتصور
حصوله في أي مملكة أخرى في الوقت الحاضر - كان حقًّا علينا إجابة ذلك
الطلب الديني المشروع بعد الاتكال على الله سبحانه واستمداد روحانية نبيه صلى الله
عليه وسلم؛ لذلك قبلنا البيعة متوكلين عليه عز وجل ، مستمدين منه الغوث والعون
والتوفيق لما يحبه ويرضاه ، وإننا نرجوه سبحانه وتعالى أن يكون هذا الأمر الذي
قضى به في حكمته الأزلية وقدرته الصمدانية ، وأظهر حكمة قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ
لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) مضاعفًا لنا باتباع
مسالك السلف الصالح.
نعم إنا لم نتعرض البحث في شؤون ذلك المقام الجليل إبان نهضتنا ، لا بل
إلى قبيل جرأة أنقرة على كرامته، كيفما كانت وضعيته، وذلك حذرًا من توسع شُقّة
الاختلاف؛ لئلا يتخذه أعداء الإسلام وسيلة للتعريض بمكانته ولا نكلف سوانا بما لا
يراه، عملاً بقوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى
سَبِيلاً} (الإسراء: 84)[1] ومع هذا فهو المسؤول أن يجعل هذه البيعة ألفة
للمسلمين تضم قاصيهم ودانيهم ، وتسوقهم إلى حسن التآلف مع مجاوريهم من أبناء
دينهم وسكان بلدانهم من أهل الكتب السماوية ، وسائر مواطنيهم بما ألقته إليهم
الشريعة الإسلامية ، وتطبيق ما فرض في أمر:(لهم ما لنا وعليهم ما علينا) ، وكل
ما أوجبه عليهم الشرع الشريف من الرفق بالبشرية، وخدمة الإنسانية، وتجنب
الشرور، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، مؤملين منهم حسن القيام بكل ما هو
في معنى هذا، مما أوجبه الله عليهم فردًا فردًا وجماعة جماعة،وبالأخص العلماء
الأعلام في أقطار الإسلام كافة. حرره في 5 شعبان سنة 1342 هجرية.
(المنار)
هذا كل ما في المنشور من موضوع الخلافة ، وعبارته مفهومة في الجملة،
قليلة اللحن والغلط بالنسبة لكل ما اطلعنا عليه من كلام هذا الرجل ، ولعله أملاه
على أحد فحسن عبارته في الجملة ، وإلا فهي سخيفة ضعيفة في نفسها، وإنما هي
كثيرة عليه هو ، وغرضنا من نقل هذا المنشور في المنار التعليق عليه بما هو
حجة على المبايع والمبايعين له ، نوجز فيه؛ لأن أصل سقوط هذه الدعوى بالفعل
صار قريبًا:
(1)
اعتراف حسين بأن سبب بيعته (إقدام حكومة أنقرة بما أقدمت عليه
على ذلك المقام الكريم) أي: الخلافة - دع سخافة عبارته (بما وعليه وعلى) -
وراجع عبارة جريدة (القبلة) تجده مكذبًا لهذه الدعوى ومصدقًا لقولنا السابق المكرر:
إن هذه المبايعة ليست شيئًا جديدًا. فما بايعه أخيرًا في الشونة إلا بعض من بايعه
أولاً، فإن كانت البيعة الأولى صحيحة، قامت بها عليه الحجة - قبلها أو لم يقبلها
بأنه غير أهل لها وعاجز عن القيام بأقل شؤونها ، إذ لم يعمل شيئًا مما توجبه
عليه. وإعادتها حجة إلزامية على المبايعين بما أسندوه إليه من الأهلية مع ظهور
بطلانها بالفعل كما هو ظاهر ، وبأدلة الشرع التي بيناها في فتوى الجزء الرابع وإن
كانت غير صحيحة، فماذا صححها الآن؟
(2)
قوله في توجيه صحة البيعة الجديدة: إنها الحرص على إقامة شعائر
الدين وصيانة الشرع؛ لعدم جواز بقاء المسلمين أكثر من ثلاثة أيام بلا إمام.
ننتقد هذا التوجيه:
(أولاً) بأن فيه اعترافًا بصحة خلافة عبد المجيد أفندي العثماني، وأنه كان
يقيم الشعائر ويصون الشرع، وهو كذب في نفسه ، فإن عبد المجيد أفندي لم يكن له
من الأمر شيء ، وكانت حكومة أنقرة تعبث بالشرع قبل تسميته خليفة بلا سلطة
ولا عمل، وفي أثنائها وبعدها.
(وثانيًا) بأن حسينًا كان يقول: إن هذه الخلافة باطلة. وأشار إلى ذلك هنا
بقوله: (كيفما كان شكله) واحترس واضعو خطاب المبايعة بمكة بمثله أيضًا.
(وثالثًا) بأن مبايعي علماء المسجد الأقصى ومن تبعهم من أهل سورية هم
الذين كانوا يرون صحة تلك الخلافة ، وبنوا المبايعة عليها. فهذا الاختلاف بينهم
وبين خليفتهم وأهل الحرم المكي معه ، يقتضي جهل أحد الفريقين بالخلافة
الصحيحة وغير الصحيحة وعدم أهليته للمبايعة وبطلانها من قبله ، ولما كان قبول
حسين لمبايعة الفريق الأول مبنيًّا على ركن الإيجاب الفاسد؛ تعين أن يكون عقد
البيعة فاسدًا بفساد ركن الإيجاب بالذات ، وركن القبول بالتبع ، وهذا دليل إلزامي،
وإلا فقد بيّنا بالأدلة التحقيقية بطلان الركنين معًا.
(3)
زعمه أنه أحق الناس بأن يبايع ، وأن الذين بايعوه أحق المسلمين بأن
يبايعوا ، وأنهم أهل الحل والعقد في الإسلام ، وهو ما كررنا فساده وبطلانه بالأدلة
الحقيقية والإلزامية ، ومنها عجزه عن القيام بأحكام الخلافة فيهم وفي غيرهم ،
وعجزهم عن تأييده ونصره ، وقد وقع ما يظهر صدقنا فيهما؛ بزحف النجديين لإنقاذ
الحجاز من هذه الخلافة الكاذبة الخاطئة ، دع ما ظهر أولاً من مخالفة العالم
الإسلامي كله لهم.
(4)
قوله: إننا لم نتعرض البحث (كذا) في شؤون ذلك المقام الجليل.
إلى آخره.. ونكتفي فيه بتعليقنا هنا على عدد (2) وعلى ما سبق في خطاب بيعة
مكة.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
في الأصل (فربك) وهو غلط لا يجوز لنا إبقاؤه على أصله.
الكاتب: محمد رشيد رضا
منشور العودة
الذي أذاعه حسين المكي قبل عودته من شرق الأردن
إن هذا الرجل لم يحذق شيئًا من أمور سياسة العالم إلا الدعاية لنفسه بالخداع
وقول الزور والوعود التي تكذّبها الأعمال والأيام ، وقد نشر منشورًا سمّاه منشور
العودة، وعد فيه بتأليف (مجلس شورى للخلافة) ، ولن يكون إلا آلة لدعايته
وأهوائه كمجلس وكلائه ، وقد استشهد فيه بحديثين يدلان على جهله بأشهر ما يدور
على ألسنة العوام من الأحاديث النبوية ، فكيف يكون نائبًا عن الرسول صلى الله
عليه وسلم، وهو أجهل من أكثر العوام بسنته؟!
(الحديث الأول) :
ما أورده بهذا للفظ: (لا يتم إيمان أحدكم حتى يتمنى لأخيه ما يتمنى لنفسه) ،
ولفظ الحديث في الصحيحين وغيرهما عن أنس مرفوعًا: (لا يؤمن أحدكم حتى
يحب لأخيه ما يحب لنفسه) ،والحب فوق التمني، فقد يتمنى الإنسان الخير لمن لا
يحبه ولا يبغضه.
(الثاني) :
(لا يزال العبد مع مولاه ما زال في خدمة أخيه المسلم) وهذا مما يدور على
ألسنة العوام بلفظ (كان الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه) ، ولم أسمعه
من أحد بلفظ منتحل الخلافة ، وهو لا يوجد في الصحاح ولا السنن ولا المسانيد ،
بل ورد ما في معناه في بعض الكتب التي تعنى بجمع الروايات الشاذة والواهية ،
وكذا الموضوع في الترغيب والترهيب، فقد روى ابن أبي الدنيا في قضاء الحوائج،
والخرائطي في مكارم الأخلاق عن أنس: (من أعان مسلمًا كان الله في عون أخيه ،
ومن فك عن أخيه حلقة، فك الله عنه حلقة يوم القيامة) ، والمراد بالحلقة: الرق.
وحسين بن علي يسترق الأحرار والحرائر ، ويأذن ببيعهم وبيعهن في حرم الله
تعالى ، وقد غضب على بعض التكرور؛ لرغبتهم في التطوع للحرب مع الدولة حين
أمرته هو بالدعوة إلى ذلك عند إعلان الحرب الأخيرة. فجازاهم على ذلك من
حيث يظنون أنهم أطاعوه؛ بأن أمر بخطف أولادهم وبيعهم ، فنفذ أمره أحد الشرفاء
الأشقياء مثله ، ولو شئنا لذكرنا اسمه وكنيته.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
التبرع بنُسخٍ من المنار
ومن شهد له من الكبار
سنَّ بعض الأدباء سُنَّة حسنة في نشر العلم والأدب والسياسة ، هي إهداء ما
يعتقد نفعه من المجلات والجرائد لبعض أصدقائه ، أو بعض طلاب العلم من
أولادهم أو لمن يحب لهم ذلك ولو من غيرهم ، وطالما رأينا في الجرائد العربية
السورية التي تصدر في أقطار أمريكا أسماء كثيرة من هؤلاء المتبرعين.
وإننا نعلم أن كثيرًا من الناس يعتقدون أن المنار أنفع الصحف وأهداها، وكان
شيخنا الأستاذ الإمام في مقدمة هؤلاء ، ويرى القرَّاء كلمة له فيه ننشرها في ديباجة
الغلاف من كل جزء ، وكان يرى هذا من كبار الرجال الذين توفاهم تعالى إلى
رحمته كثيرون نذكر بعض المصريين منهم:
فمن الوزراء: شيخهم الأكبر مصطفى رياض باشا ، وهو أول من تبرع
بالاشتراك بخمس عشرة نسخة ، كنا نوزعها على بعض طلبة الأزهر، فرحمه الله
وأجزل ثوابه.
ومنهم الوزير الكبير إبراهيم فؤاد باشا المناسترلي الذي كان وزير الحقانية ،
صرح لي ولغيري أن المنار ضروري للنهضة الإسلامية التي تجمع بين هداية
الدين والرقي المدني، وتؤلف بينهما ، وقد فكر كثيرًا في تعميم نشره، واستشار يومئذ
في ذلك أحمد فتحي زغلول باشا - وكان يومئذ رئيس محكمة مصرالأهلية
ولقبه بك - قالا: إن الإعانة الشخصية لا تستمر، وصاحب المنار الأبي لا يقبلها ،
كانا يعلمان مني ذلك ، وكان رياض باشا أول من عرضها علي واعتذرت عن قبولها ،
ثم قال الوزير لفتحي: فكر لي في طريقة لإعانة ثابتة يقبلها صاحب
المنار، بشرط أن يجعل بدل اشتراكه قليلاً ، بحيث يسهل على طلاب الأزهر
وتلاميذ المدارس وغيرهم من الفقراء الاشتراك فيه ، فإن هذا أنفع من الاشتراك في
مئات أو ألوف من النسخ ربما تعطى لمن لعله لا يقرؤها. أخبرني فتحي -
رحمه الله بهذا ، ومما أعترف به من ضرر الزهد الذي طبعت نفسي عليه قراءة
إحياء العلوم وغيره من كتب التصوف ، أن كان من تأثيره أنني لم أراجع أحدًا من
الرجلين في هذه المسألة على ما فيها من نشر تعاليم الإصلاح الذي أريده؛ ومات
إبراهيم فؤاد باشا قبل أن يضع له الخطة أحمد فتحي باشا - رحمهما الله تعالى - ولم
أندم على هذا التفريط إلا بعد موت الوزير بسنين، أثابه الله على حسن نيته.
ومنهم محمود سامي باشا البارودي الأديب الشاعر الأكبر والذي كان رئيس
الوزارة في عهد الثورة العرابية؛ وقد بلغ من ولوعه به أن كان يرسل إلى المطبعة
من يطلب له ما طبع منه ، فيقرأ كراسة بعد أخرى، وكان يترجم بعض الموضوعات
لصديق له من الإنكليز ، وقد نقل لي عن هذا الإنكليزي أنه قال: إن المسلمين غير
مستعدين لهذه التعاليم والمبادئ الآن ، ولكنهم سيعيدون طبع المنار بعد خمسين سنة ،
ويعملون به. وقد قال مثل هذه الكلمة من الأحياء: سليمان أفندي البستاني العالم
السوري والوزير العثماني المشهور ، فكان من توارد الخواطر.
ومن حملة الأقلام ورجال الصحافة الشيخ علي يوسف صاحب جريدة المؤيد
قال لي: إن المنار شيء غير اعتيادي، ولا نعرف أحدًا غيرك يقدر على القيام به ،
وأن المسلمين في أشد الحاجة إليه، ومن الضروري أن يوجد في كل بيت من
بيوتهم ، ولكن كثرة تنويهه بالشيخ محمد عبده بالإطراء والتفضيل يوجد له أعداء
كثيرين أصحاب نفوذ وتأثير يصدون الناس عنه ، والشيخ جدير بما يقول المنار
ولكنه في غنًى عنه إلخ ، وقد أجبته بأن تنويه المنار بالشيخ يراد به ترشيحه لزعامة
الإصلاح في العالم الإسلامي، ولا نعرف أحدًا جديرًا بهذه الزعامة سواه ، وهي
عندي أهم من كثرة المشتركين في المنار فقال: لا أنكر أن هذا غرض صحيح ، ولا
أن الشيخ أهل له. فعلمت بإقراره هذا أنه لم يكن في قوله يقصد التفريق بيني
وبين الأستاذ الإمام؛ لأجل الخديوي الذي تقرب إليه كثيرون بالسعي لهذا التفريق.
ومنهم بطرس باشا غالي الوزير المشهور.
وممن وافق الشيخ عليًّا من حملة الأقلام من الأحياء في قوله: يجب أن يكون
المنار في بيت كل مسلم - داود بك بركات رئيس تحرير الأهرام فقد قال لي مرة: لو
كان المسلمون يعرفون مصلحتهم - أو ما هذا معناه - لدخل المنار كل بيت من
بيوتهم. وكان هذا من توارد الخواطر ولا أذكر أي الرجلين سبق إلى هذه الكلمة ،
وأنا لم أذكر له كلمة الشيخ على يوسف ، ولم أكتبها إلا في ترجمته بعد وفاته.
ومن كبار العلماء إمام اللغة في هذا العصر الشيخ محمد محمود الشنقيطي كما
يعلم من تقريظه له الذي نشر في المجلد الثاني منه (ص 349 م 2) ولقب صاحبه
بمفتي الآفاق ، على رغم أنف كل ذي حسد ونفاق ، كتب ذلك بخطه على نسخة
رحلته (الحماسة السنية
…
) حين أهداها إليّ.
ومن رجال القانون وعلماء الاجتماع عمر بك لطفي الواضع الأول لمشروع
النقابات في مصر ، كلمني في هذا الموضوع مرارًا ، ومما انفرد به لومه إياي على
العزلة أو قلة المخالطة التي تقرب منها ، وقال: إن المنار لا يكفي لتعميم هذه
الأفكار ، فيجب أن تتعرف إلى جميع الطبقات المتعلمة ، ولذلك وسيلتان: الخطابة
والمحافل الماسونية. ولكنني لم أعمل بنصيحته إلا في إلقاء بعض الخطب في
بعض الجمعيات الأدبية الدينية. وأما الأحياء فحسبي أن يكون رجل العصر بمصر
صاحب الرياستين: ريايسة الأمة ورياسة الحكومة سعد باشا زغلول وفقه الله تعالى
وأيده موافقًا لخطة المنار في الإصلاح الديني ، وقد سمعت منه مرارًا أن ارتقاء
المسلمين المدني متوقف على هذا الإصلاح ، كما أن أوربة لم يمكنها النهوض من
الانحطاط الذي كانت مرتكسة فيه إلا بعد إصلاح ديني ، وهذا الرأي كان أول من
بثه في مصر وغيرها السيد جمال الدين الأفغاني، وقد عرضت على سمعه في الربيع
الماضي خبر تأليف جمعية للإصلاح الديني والمدني في الحجاز ، وجعله قطر
سلم وحياد ، فكان مما قاله: ولم لا تجعلون هذا الإصلاح في مصر؟ أليست هي
محتاجة للإصلاح الديني أيضًا؟
وقد كان هو أول من أمر باشتراك وزارة المعارف بنسخ من المنار لمدارسها
في عهد توليه لوزارتها ، وكانت الوزارة قبله تشترك في جميع المجلات المشهورة
بمصر من دونها؛ لكراهة الإنكليز كل إصلاح للمسلمين ، ولذلك منعوا المنار من
السودان من قبل الحرب بسنين بدسائس المبشرين.
وإنا لنرجو من دولته نظرة أخرى إلى المنار عند سنوح الفرصة ، ولم
نعرض عليه طلبنا مكتوبًا ولا شفويًّا به ، كما أننا لم نعرض مثل ذلك في عهد
وزارته للمعارف.
ذكرنا بتاريخ المنار وآراء الكبار في تعميم نشره ما كتبه إلينا وكيله في
بيروت من تبرع تاجر من خيار وأكارم وجهائها أنيس أفندي الشيخ بخمس نسخ
توزع من قبله على بعض الخطباء والواعظين فيها، فجزاه الله تعالى خيرًا ، وجعله
قدوة صالحة وذكرى نافعة لمحبي العلم والإصلاح.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الشيخ سالم أبو حاجب
سبحان الحي الذي لا يموت، إننا قبل أن نفرغ من ترجمة عالم العراق وإمام
الشرق في تلك الآفاق السيد محمود شكري الألوسي، إلا ونعى بريد المغرب الإسلامي
علامة الديار التونسية ، وإمام البلاد المغربية شيخ الشيوخ مفتي المالكية ، العلامة
المستقل الأديب العاقل الشيخ سالم أبو حاجب - تغمده الله برحمته - وقد كان بين
عالم الشرق والغرب تشابهًا عظيمًا ، وكان من حسن حظنا أن وجدنا صديقًا لنا من
تلاميذ كلاًّ منهما ، يكتب لنا ترجمتهما ، وقد شاء الله تعالى أن يتأخر صدور هذا
الجزء من المنار حتى ننشر فيه ترجمة علامة جامع الزيتونة الأكبر بقلم الأستاذ
الفاضل الشيخ محمد الخضر نزيل القاهرة، وقد ألقاها في حفلة جامعة في الجامع
الأزهر وهذا نصها:
***
تأبين رئيس العلماء في الديار التونسية
أقام طلاب العلم من جاليات شمال أفريقيا حفلة بالجامع الأزهر مساء يوم
الإثنين الحادي عشر من الشهر الجاري حفلة؛ لتأبين المأسوف عليه الأستاذ الكبير
الشيخ سالم أبي حاجب مفتي الديار التونسية.
افتتحت الحفلة بقراءة آيات من الذكر الحكيم ، ثم قام محرر هذا المقال وألقى
خطبة في نشأة الفقيد ومواهبه السامية ، وعلمه الغزير وهذه خلاصتها:
نعت إلينا (هافس) والصحف التونسية فضيلة أستاذنا الشيخ سالم أبى حاجب
واسطة عقد العلماء ورئيس المحكمة الشرعية المالكية بالديار التونسية ، فكان نعيه
لدى العارفين بمقامه الأسنى كقبس من نار تذوب له القلوب لوعة ، وتتساقط له
العبرات أسفًا.
كان الفقيد رحمه الله آية من آيات العبقرية ، وأحد العلماء الذين لا تجود
بهم يد الأيام إلا في أوقات معدودة ، فلا جرم أن أنثر على بساط هذا الاحتفال
الجامع شذرًا من آثار حياته الزاهرة؛ خدمة للعلم والأدب والتاريخ ، وإن في سيرة
العظماء من الرجال لعبرة لأولي الألباب.
ولد الفقيد حوالي سنة 1244 بقرية من قرى الساحل تسمى (بنبله) ، ثم
ارتحل منها عندما بلغ سن التعليم إلى حاضرة تونس؛ لتلقي العلم بجامع الزيتونة
الأعظم ، ولم يلبث أن سطع بين جدران ذلك المعهد شعاع ألمعيته ونبوغه،
وصلاحيته في أندية العلم والأدب ، ولا سيما إذ كانت له في صناعة القريض براعة
فائقة ، وفي نقده الشعر ذوق لا يقل عن ذوق العربي الصميم.
ترقى الفقيد في مدارج العلم حتى تقلد وظيفة التدريس بالمعهد الزيتوني ،
درس من علوم الشريعة والعربية كتبًا عالية مثل: شرح العضد على مختصر ابن
الحاجب، وشرح القسطلاني على صحيح الإمام البخاري، والشرح المطول للسعد
التفتازاني ، وكان يجلس لدرس هذه الكتب وغيرها على منصة التحقيق، ويخوض
عبابها بنظر مستقل ، وينطق فيها بلهجة مجتهد نحرير ، فلا ينتهي من تقرير
موضوع إلا بعد أن يعقد لما يجري فيه من الخلاف محاكمة يدخل إلى القول الفصل
فيها من باب الحرية والإنصاف.
ولما وضع في فطرته من حب البحث والغوص في أغوار المسائل ، كان
يتلقى أسئلة التلاميذ في الدرس بصدر رحب ، وكثيرًا ما يغمر الباحث النجيب
بعبارات الثناء؛ تشجيعًا له على البحث ، وأخذًا بيده إلى أن يسير مع أصحاب
الآراء المؤلفين على مقتضى حكمة من يقول: (هم رجال ونحن رجال) .
ولعلمه الراسخ وعبقريته البارزة كان بعض أقرانه مثل الأستاذ الشيخ مصطفى
رضوان يقرر في درسه عازيًا شيئًا من الأفهام التي انفرد بتحقيقها ، وكثيرًا ما يورد
الفقيد في مجالسه أو دروسه في صدد الاستشهاد على بعض المعاني اللغوية عبارة
القاموس بنصها ، حتى ظن كثير من أهل العلم أنه يحفظه على ظهر قلب ، وأغلب
مسائل الشرح المطول، والمغني لابن هشام، وشرح السيد علي مفتاح، وشرح
الدماميني على التسهيل تجري على طرف لسانه مهما تدعو الحاجة إلى الاستشهاد
بشيء منها.
ولم يكن الأستاذ ممن يسارع إلى الاعتقاد بصدق من يخرج في زي المجذوبين ،
أو يدعي أنه من أرباب الولاية والكرامة ، وظهر منه هذا الخلق في مجلس بعض
رجال الدولة، فقال له: اعتقد ولا تنتقد. فقال الأستاذ: ليس الاعتقاد مما تعتنقه
النفس بمجرد الاختيار ، وإنما هو من قبيل العلم الذي لا يرتسم فيها إلا بمؤثر من
حجة وبرهان ، وكان يحارب الخرافات والآراء السخيفة والأقوال المسندة إلى
الشريعة بمجرد الدعوى أو بأحاديث غير ثابتة ، وكان يبدي رأيه بكل صراحة، وإن
صادم المعروف بين شيوخ عصره؛ كإنكاره لوجود جبل قاف، ومشاهدة
الجن بعين الباصرة ، ويرى أن ما يزعم من ذلك إنما هو من قبيل تأثير
الخيال.
أحرز الفقيد بين رجال الدولة مكانة إكبار وإجلال ، وانتظم له هذا الإقبال؛ إذ
كان من أولي النظر الواسع في شؤون الاجتماع ، وما تقتضيه المدنية الراقية وكذلك
كانت دروسه في علوم الشريعة مملوءة بالبحث عن أسرارها من حيث المطابقة لما
تستدعيه مصالح الشعوب ، ومن هذا الوجه كان للأستاذ حياتان: علمية، وسياسية،
فاتخذه الوزير خير الدين باشا من مساعديه في تنظيم التعليم وإصلاح الإدارة قبل
الاحتلال ، وتقلد وظيفة العمل بإدارة المال مضافة إلى وظيفة التدريس بجامع
الزيتونة.
سافر الأستاذ إلى إيطاليا مبعوثًا من طرف الحكومة التونسية قبل الاحتلال؛
لينوب عنها في قضية أقامتها على ورثة أحد قابضي أموالها المدعو (نسيم) ، وأقام
هنالك زمنًا واسعًا التقى في خلاله بكثير من علمائها ، ودارت بينه وبينهم محاورات
علمية ، وكانوا يلقون عليه أسئلة فيما يشكل عليهم من بعض الأحكام الإسلامية ،
فيذهب في الجواب عنها إلى طريق النظر الفسلفي حتى تقع أجوبته لديهم موقع
القبول والتسليم ، وكان الأستاذ يقول: إن هذه الرحلة مجموعة عنده في كتاب ،
وقص علينا أنه دخل إلى بعض المكاتب الحاوية لكتب عربية ، فتناول كتابًا منها ،
فكان أول جملة وقع عليها بصره: (كان العرب إذا خطبهم لاعب الشطرنج منعوه ،
وقالوا: إنه ضرة ثانية) وفي هذه الرحلة بعث الأستاذ بصورة فتوغرافية إلى
الوزير محمد البكوش وكتب عليها من نظمه.
لما شكت شحط النوى روحي التي
…
أبقيتها عند الأحبة بالوطن
أرسلت تمثالي لها بوًّا عسى
…
تسلو فلا تبغي التحاقًا بالبدن
وسافر الفقيد رفيقًا للوزير خير الدين باشا إلى الآستانة وامتدح السلطان
العثماني بقصيدة ، فأمر بمكافأته عليها بوسام فأبى وقال للمرسل من جانب
السلطان: إن حمل الوسام مما لا يرغب فيه أهل العلم ببلدنا ، بل يرونه بحكم العادة
مزريًا بمقامهم. وكان يلقي في شهر رمضان من كل سنة درسًا من صحيح البخاري
(بجامع سبحان الله) ودرسًا من كتاب الموطأ في المدرسة المنتصرية ، ويشهدهما
صاحب المملكة التونسية سمو الباي وكبير الوزراء في مجمع حافل من أعيان
العلماء ، وتجري فيهما مباحثات من أقران الأستاذ أو نجباء تلاميذه ، وقد يورد
بعض الأبحاث الأمير نفسه متى كان من رجال العلم ، مثل المغفور له الناصر باي ،
وهذه الدروس التي كان يلقيها الفقيد بعناية لا تزال محفوظة؛ إذ كان يحررها
كتابة قبل يومها المشهود.
واشتهر بالفلسفة في العلوم الإسلامية ، فكان مورد المستشرقين ومن تشتد
عنايتهم للاطلاع على حقائق الإسلام من فرنسيين وغيرهم ، فيجاذبهم أطراف
المحاورة بنفس مطمئنة وأدب جميل.
وكان يقوم بالخطابة والإمامة بالجامع المعروف بجامع سبحان الله ، ويلقي
خطبًا يراعي في إنشائها ما تستدعيه حال الزمان والمكان ، ومما ابتكره في الخطابة
أنه كان يعتمد إلى ما يرد في الخطبة من حديث أو آية يسبق إلى ظنه أنه بعيد
المأخذ من أفهام السامعين ، فيشرحه بعبارات يصوغها على طريقة بيانه في
التدريس ، وقد ظهر قسم من هذه الخطب مطبوعًا في تونس منذ ثلاث عشرة سنة.
وكان يشد أزر القائمين على بعض الأعمال الإصلاحية ، وكان النشء
الناهض يلتف حوله؛ ولهذا انتخبوه للخطابة في حفلة افتتاح المدرسة الخلدونية التي
تعد شعبة من جامع الزيتونة لدراسة العلوم الرياضية والطبيعية والتاريخ ، وأذكر
أني كنت أنشأت مجلة علمية أدبية تسمى (السعادة) فتحركت بعض النفوس الخاملة
لكتم أنفاسها ، فقال لي الأستاذ حال انصرافنا من درس صحيح البخاري: لا تعبأ
بما يلقيه هؤلاء في سبيل عملك وتأس بالنبي عليه الصلاة والسلام؛ إذ قال له ورقة
بن نوفل: لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي.
وكان للفقيد عاطفة أدبية تسمو به إلى الاحتفاء بالعلماء الوافدين على الحضارة
وبذل المستطاع في مجاملتهم. زار فيلسوف الإسلام الأستاذ الشيخ محمد عبده البلاد
التونسية سنة 1321 ، ونزل ضيفًًًا مكرمًا في بيت حضرة السيد خليل أبي حاجب
نجل الفقيد، وهو اليوم وكيل وزير الداخلية بتونس ، فعرف الفقيد فضل الأستاذ
الشيخ محمد عبده ، وكان يقضي جل أوقاته في مؤانسته ومذاكرته العلمية أو الأدبية
أو الإصلاحية.
وورد عالم الجريد الشيخ إبراهيم أبو علاق الحاضرة وأتى درس الفقيد بجامع
الزيتونة ، ولم تنعقد صلة التعارف بينهم بعد ، فأخذ يناقش الأستاذ في المبحث الذي
كان بصدد تقريره ، ولما طال أمد المناقشة ووقع في ظن الفقيد أن ليس الغرض
منها طلب الحقيقة ، بدرت منه كلمة كبرت على مسمع الشيخ أبي علاق فانصرف
عن الدرس وقال:
تقاصرت مذ أبدى التطاول سالم
…
وسالمت والقاصي المكان يسالم
ولما وصل نبأ هذا البيت إلى مجلس الفقيد نهض في الحال للقاء الشيخ أبي
علاق فاسترضاه ، وخطب مودته ودامت بينهما الصداقة المحكمة.
وتحلّى الفقيد بآداب راقية مثل: التواضع والحلم والصراحة فازداد شرفًا على
شرف العبقرية ، وانجذبت له القلوب بعاطفة المحبة بعد امتلائها بمهابته وإجلاله
حتى إذا حضر مجتمعًا خاصًّا أو عامًّا أمسك بعنان المجلس ، وأخذ ينشر على أسماع
الحاضرين من غرائب المسائل ولطائف الأدب ما يخيل إليهم أنهم في جنة عالية لا
تسمع فيها لاغية ، وكنا نرى أهل العلم والأدب يقصدون في الاحتفالات الجامعة إلى
أن تكون مجالسهم بمقربة من مجلس الفقيد ، حرصًا على اقتباس أدب مؤنس، أو
اقتناص علم غريب.
وانفرد بين علماء جامع الزيتونة بأنه كان يتزيى في لباسه بزي علماء الشرق؛
أي: يلبس القفطان والجبة المفتوحة من أمام ، ويضع عليهم البرنس ، ولم يكن يلتزم
تقاليد أهل العلم وذوي المناصب الشرعية في بلاده ، حتى إنه كان يلبس الجزمة
أيام لبس أهل العلم لها شيئًا نكرًا ، ويتجول في بعض المتنزهات العامة راجلاً،
وغيره من ذوي المناصب العالية لا يغشونها إلا مرورًا في عرباتهم.
وكانت له عند افتتاح الكلام عقدة خفيفة لذيذة على السمع ، حتى إذا انطلق
لسانه في التقرير، سمعت العربية الفصحى ولهجة تتسوغها الأسماع بارتياح
وإعجاب.
ومن المعروف عن الأستاذ أنه كان يطمح إلى طول الحياة ، ويمثل حركة
الساعة الميقاتية بحسيس الأرضة في أكلها من عمر الإنسان ، وينقل عنه في تعليل
عدم حمله للساعة ، أنه يكره أن يسمع أو يرى آلة تذكره كيف تنقضي حياته
العزيزة شيئًا فشيئًا.
هذا ما أجده في الذاكرة من مآثر حياة الأستاذ الذي فارقته - وبودي لا أفارقه -
برحلتي إلى بلاد الشرق سنة 1331 - وقد ناهز التسعين من عمره اهـ.
***
علاوة
حكى الأستاذ أن أحد الباشاوات من قواد الجند بالآستانة دعاه إلى منزله في
طائفة من أهل العلم ، ومما دار بينهم في المذاكرة أن صاحب المنزل سأله عن حكم
تعلم الجغرافية فقال له: إن تعلمها من فروض الكفاية. قال الأستاذ: فالتفت ذلك
الباشا إلى أحد الفقهاء بالمجلس وقال له: لماذا كنت تقول لي أن تعلمها حرام؟
فأقبل ذلك الفقيه على الأستاذ وقال له: ما دليلك على ما تقول من أن تعلم الجغرافية
من الواجبات؟ قال: فلم أرد أن أطيل الحديث في الاستدلال بمثل قوله تعالى:
{وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال: 60) واخترت أن أورد كلمة أقرب
إلى فهم السائل فقلت موجهًا الخطاب لصاحب المنزل: إذا صدرت إرادة السلطان
يأمرك أن تسير بقسم من الجيش إلى بعض بلاد العدو ، وكنت تجهل المسألة التي بينك وبين ذلك البلد، ثم لم تكن على خبرة مما يوجد في تلك النواحي
من ضروريات حياة الجند وما لا يوجد ، فإنك بلا ريب تذهب على غير هدى ولا
تأمن أن يقع الجيش في تهلكة ، فوقع الجواب من نفس الباشا موقع الارتياح
والقبول.
وفيما حكى الأستاذ من هذه المحاورات أن أحد المستشرقين سأله عن الوجه
في إباحة الإسلام تزوج المسلم بالكتابية من مسيحية أو إسرائيلية ، ومنعه المسلمة
من أن تتزوج مسيحيًّا أو إسرائيليًّا ، وقال السائل: ما هذا الحكم إلا ضرب من
التعصب في الدين ، فأجابه الأستاذ: بأنه حكم قائم على حكمة عمرانية بالغة ، وهي
أن النكاح يقصد به التعاون على مرافق الحياة ، وهذا الغرض لا يتحقق إلا مع
التآلف وانتظام حلة للمعاشرة ، ومن المعروف أن المسلم يؤمن بالرسول الذي تؤمن
به الكتابية ، ويعتقد بصحة دينها في الجملة ، فلا يتوقع أن يصدر منه ما يجرح
إحساسها ، ويكدر صفو المعاشرة بينهما ووأما الكتابي غير المسلم فإنه لعدم إيمانه
بصحة الإسلام وصدق الرسول الذي جاء بشريعته قد يؤذي المسلمة بما يقذفه من
كلمات ، يطعن بها في أصل دينها أو ينال بها من كرامة الرسول الذي تعتنق
شريعته.
وحكى لنا الفقيد أن الأستاذ الشيخ محمد عبده تكلم عن ضرورة الاجتهاد فقلت
حكام الشرعية حتى قال: ينبغي إهمال كتب الفقهاء وإتلافها بالإحراق ، قال في
الآلة: لا بأس بإبقائها والاستعانة بها؛ لأنها لا تخلو من فوائد، فقال لي: فلتبق.
_________
الكاتب: أحمد بن تيمية
إبطال وحدة الوجود والرد على القائلين بها
لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية
رضي الله عنه
الأصل الثاني
الاحتجاج بالقدر على المعاصي على المأمور [1] وفعل المحظور، فإن القدر
يجب الإيمان به، ولا يجوز الاحتجاج به على مخالفة أمر الله ونهيه ووعده ووعيده.
والناس الذين ضلوا في القدر ثلاثة أصناف: (قوم) آمنوا بالأمر والنهي
والوعد والوعيد، وكذبوا بالقدر وزعموا أن من الحوادث ما لا يخلقه الله، كالمعتزلة
ونحوهم.
(وقوم) آمنوا بالقضاء والقدر ، ووافقوا أهل السنة والجماعة على أنه ما
شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، لكن
عارضوا بهذا الأمر والنهي، وسموا هذا حقيقة، وجعلوا ذلك معارضًا للشريعة،
وفيهم من يقول: إن مشاهدة القدر تنفي الملام والعقاب، وأن العارف يستوي عنده
هذا وهذا. وهم في ذلك متناقضون مخالفون للشرع والعقل والذوق والوجد ، فإنهم
لا يسوون بين من أحسن إليهم وبين من ظلمهم، ولا يسوون بين العالم والجاهل
والقادر والعاجز، ولا بين الطيب والخبيث ولا بين العادل والظالم، بل يفرقون
بينهما [2] ، ويفرقون أيضًا بموجب أهوائهم وأغراضهم لا بموجب الأمر والنهي، فلا
يقفون لا مع القدر ولا مع الأمر ، بل كما قال بعض العلماء: أنت عند الطاعة
قدري، وعند المعصية جبري. أي مذهب وافق مذهبك [3] تمذهبت به فلا يوجد
أحد بالفلك (؟) في ترك الواجب وفعل المحرم إلا وهو متناقض لا يجعله حجة في
مخالفة هواه ، بل يعادي من آذاه وإن كان محقًّا ، ويحب من وافقه على غرضه وإن
كان عدوًّا لله، فيكون حبه وبغضه وموالاته ومعاداته بحسب هواه وغرضه وذوق
نفسه ووجده، لا بحسب أمر الله ونهيه ومحبته وبغضه وولايته وعداوته؛ إذ لا
يمكنه أن يجعل القدر حجة لكل أحد، فإن ذلك مستلزم للفساد الذي لا صلاح معه ،
وللشر الذي لا خير فيه؛ إذ لو جاز أن يحتج كل أحد بالقدر لما عوقب معتدٍ، ولا
اقتص من باغٍ ، ولا أخذ لمظلوم من ظالم، ولفعل كل أحد ما يشتهيه من غير
معارض يعارضه فيه.
وهذا فيه من الفساد، ما لا يعلمه إلا رب العباد ، فمن المعلوم بالضرورة أن
الأفعال تنقسم إلى ما ينفع العباد وما يضرهم ، والله قد بعث رسوله صلى الله عليه
وسلم يأمر المؤمنين بالمعروف وينهاهم عن المنكر ، ويحل لهم الطيبات ويحرم
عليهم الخبائث، فمن لم يتبع شرع الله ودينه؛ اتبع ضده من البدع والأهواء، وكان
احتجاجه بالقدر من الجدل بالباطل؛ ليدحض به الحق، لا من باب الاعتماد
عليه [4] ، لزمه أن يجعل كل من جرت عليه المقادير، من أهل المعاذير.
(وإن قال) : أنا أعذر بالقدر من شهده ، وعلم أن الله خالق فعله ومحركه لا
من غاب عن المشهود ، أو كان من أهل الجحود. (قيل) : فيقال لك: وشهود هذا
وجحود هذا من القدر ، فالقدر متناول لشهود هذا وجحود هذا ، فإن كان موجبًا
للفرق مع شمول القدر لهما، وهذا رجوع إلى الفرق، واعتصام بالأمر والنهي،
وحينئذ فقد نقضت أصلك وتناقضت فيه ، وهذا لازم لكل من معك فيه ، ثم مع فساد
هذا الأصل وتناقضه؛ فهو قول باطل وبدعة مضلة.
فمن جعل الإيمان بالقدر وشهوده عذرًا في ترك الواجبات وفعل المحظورات [5]
بل الإيمان بالقدر حسنة من الحسنات، وهذه لا تنهض بدفع جميع السيئات،
فلو أشرك مشرك بالله ، وكذب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ناظرًا إلى أن
ذلك مقدر عليه، لم يكن ذلك غافرًا لتكذيبه، ولا مانعًا من تعذيبه، فإن الله لا يغفر
أن يشرك به سواء كان المشرك مقرًّا بالقدر وناظرًا إليه، أو مكذبًا به أو غافلاً عنه،
بل قد قال إبليس: {بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (الحجر: 39) فأصر واحتج بالقدر، فكان ذلك زيادة في كفره، وسببًا لمزيد عذابه ،
وأما آدم عليه السلام فإنه قال: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا
لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ} (الأعراف: 23) قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ
كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (البقرة: 37) ، فمن استغفر وتاب
كان آدميًّا سعيدًا ، ومن أصر واحتج بالقدر كان إبليسًا شقيًّا ، وقد قال تعالى لإبليس:
{لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} (ص: 85) .
وهذا الموضع ضل فيه كثير من الخائضين في الحقائق، فإنهم يسلكون أنواعًا
من الحقائق التي يجدونها ويذوقونها، ويحتجون بالقدر فيما خالفوا فيه الأمر،
فيضاهون المشركين الذين كانوا يبتدعون دينًا لم يشرعه الله ، ويحتجون بالقدر على
مخالفة أمر الله.
(والصنف الثالث) : من الضالين في القدر، من خاصم الرب في جمعه بين
القضاء والقدر والأمر والنهي، كما يذكر ذلك على لسان إبليس، وهؤلاء خصماء
الله وأعداؤه ، وأما أهل الإيمان فيؤمنون بالقضاء والقدر والأمر والنهي، ويفعلون
المأمور ، ويتركون المحظور ، ويصبرون على المقدور ، كما قال تعالى: {مَن
يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ} (يوسف: 90) فالتقوى تتناول
فعل المأمور ، وترك المحظور ، والصبر يتضمن الصبر على المقدور ، وهؤلاء إذا
أصابتهم مصيبة في الأرض أو في أنفسهم ، علموا أن ذلك في كتاب ، وأن ما
أصابهم لم يكن ليخطئهم ، وما أخطأهم لم يكن ليصيبهم ، فسلموا الأمر لله، وصبروا
على ما ابتلاهم به ، وأما إذا جاء أمر الله فإنهم يسارعون في الخيرات، ويسابقون
إلى الطاعات، ويدعون ربهم رغبًا ورهبًا، ويجتنبون محارمه، ويحفظون حدوده،
ويستغفرون الله، ويتوبون إليه من تقصيرهم فيما أمر وتعديهم لحدوده؛ علمًا منهم
بأن التوبة فرض على العبد دائمًا ، واقتداءً بنبيهم حيث يقول في الحديث الصحيح:
(أيها الناس، توبوا إلى ربكم، فوالذي نفسي بيده إني لأستغفر الله وأتوب إليه أكثر
من سبعين مرة) وآخر سورة نزلت عليه {إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ *
وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ
تَوَّاباً} (النصر: 1 - 3) .
وإذا عرف هذان الأصلان فعليهما يبنى جواب ما في هذا السؤال من الكلمات،
ويعرف ما دخل في هذه الأمور من الضلالات.
بدء الجواب عن كلمات أهل الوحدة:
فقول القائل: (إن الله لطف ذاته فسماها حقًّا، وكثفها فسماها خلقًا) هو من
أقوال أهل الوحدة والحلول والاتحاد؛ وهو باطل، فإن اللطيف إن كان هو الكثيف
فالحق هو الخلق ولا تلطيف ولا تكثيف ، وإن كان اللطيف غير الكثيف، فقد ثبت
الفرق بين الحق والخلق، وهذا هو الحق ، وحينئذ فالحق لا يكون خلقًا، فلا يتصور
أن ذات الحق يكون خلقًا بوجه من الوجود ، كما أن ذات المخلوق لا تكون ذات
الخالق بوجه من الوجوه.
وكذلك قول الآخر: ظهر فيها حقيقة ، واحتجب عنها مجازًا ، فإنه إن كان
الظاهر غير المظاهر، فقد ثبت الفرق بين الرب والعبد، وإن لم يكن أحدهما غير
الآخر، فلا يتصور ظهور واحتجاب.
ثم قوله: (فمن كان من أهل الحق شهدها مظاهر ومجالي، ومن كان من أهل
الفرق شهدها ستورًا وحجبًا) كلام ينقض بعضه بعضًا ، فإنه إن كان الوجود واحدًا لم
يكن أحد الشاهدين عين الآخر ، ولم يكن الشاهد عين المشهود ، ولهذا قال بعض
شيوخ هؤلاء: من قال: إن في الكون سوى الله. فقد كذب. فقال له آخر: فمن الذي
يكذب؟ فأفحمه؛ وهذا لأنه إذا لم يكن موجود سوى الواجب بنفسه كان (هو)
الذي يكذب ويظلم ويأكل ويشرب ، وهكذا يصرح به أئمة هؤلاء كما يقول صاحب
الفصوص وغيره: إنه موصوف بجميع صفات الذم، وأنه هو الذي يمرض
ويضرب ، وتصيبه الآفات ويوصف بالمصائب والنقائص، كما إنه هو الذي
يوصف بنعوت المدح والذم. قال: فالعلي لنفسه هو الذي يكون له جميع الصفات
الثبوتية والسلبية ، سواء كانت محمودة عقلاً وعرفًا وشرعًا أو مذمومة عقلاً وعرفًا
وشرعًا ، وليس ذلك إلا لمسمى الله خاصة. وقال: ألا ترى الحق يظهر بصفات
المحدثات ، وقد أخبر بذلك عن نفسه وبصفات النقص وبصفات الذم؟ ألا ترى
المخلوق يظهر بصفات الخالق، فكلها حق له كما أن صفات المخلوق حق للخالق.
وقول القائل:
لقد حق لي عشق الوجود وأهله
…
يقتضي أن يعشق إبليس وفرعون وهامان وكل كافر، ويعشق الكلاب
والخنازير والبول والعذرة وكل خبيث، مع أنه باطل شرعًا وعقلاً ، فهو كاذب في
ذلك متناقض فيه، فإنه لو آذاه مؤذٍ وآلمه ألمًا شديدًا لا يغضب - محرم شرعًا.
وما ذكر عن بعضهم من قوله: (عين ما ترى ذات لا ترى، وذات لا ترى
عين ما ترى) هو من كلام ابن سبعين، وهو من أكابر أهل الإلحاد، أهل الشرك
والسحر والاتحاد، وكان من أفاضلهم وأذكيائهم وأخبرهم بالفلسفة وتصوف
المتفلسفة.
وقول ابن عربي: ظاهره خلقه، وباطنه حقه. هو قول أهل الحلول، وهو
متناقض في ذلك ، فإنه يقول بالوحدة، فلا يكون هناك موجودان أحدهما باطن والآخر
ظاهر ، والتفريق بين الوجود والعين - تفريق لا حقيقة له ، بل هو من أقوال أهل
الكذب والمين.
وقول ابن سبعين: (ربٌّ هالك، وعبد مالك، وأنتم ذلك، الله فقط والكثرة
وهم) موافق لأصله الفاسد في أن وجود المخلوق وجود الخالق، ولهذا قال: وأنتم
ذلك، وكذلك قال: الله فقط والكثرة وهم. فإنه على قوله لا موجود إلا الله؛ ولهذا
كان يقول هو وأصحابه في ذكرهم: ليس إلا الله. بدل قول المسلمين: لا إله إلا الله،
وكان يسميهم الشيخ قطب الدين بن القسطلاني الليسية، ويقول: احذروا هؤلاء
الليسية. ولهذا قال: الكثرة وهم. وهذا تناقض، فإن قوله: وهم. يقتضي متوهمًا ،
فإن كان المتوهم هو الوهم ، فيكون الله هو الوهم ، وإن كان المتوهم هو غير الوهم
فقد تعدد الوجود ، وكذلك: إن كان المتوهم هو الله ، فقد وصف الله بالوهم الباطل،
وهذا مع أنه كفر فإنه يناقض قوله: الوجود واحد. وإن كان المتوهم غيره فقد أثبت
غير الله وهذا يناقض أصله ، ثم متى أثبت غيرًا لزمت الكثرة، فلا تكون الكثرة
وهمًا بل تكون حقًّا.
والبيتان المذكوران عن ابن عربي مع تناقضهما مبنيان على هذا الأصل فإن
قوله:
يا صورة إنس سرها معنائي
…
خطاب على لسان الحق يقول لصورة الإنسان: (يا صورة إنس سرها
معنائي) ؛ أي هي الصورة وأنا معناها. وهذا يقتضي أن المعنى غير
الصورة ، وهو يقتضي التعدد والتفريق بين المعنى والصورة ، فإن كان وجود
المعنى هو وجود الصورة - كما يصرح به - فلا تعدد ، وإن كان وجود هذا غير
وجود هذا تناقض. وقوله:
ما خلقك للأمر ترى لولائي
…
كلام مجمل يمكن أن يراد به معنى صحيح؛ أي: لولا الخالق لما وجد
المكلفون، ولا خلق لأمر الله ، لكن قد عرف أنه لا يقول بهذا. فإن مراده الوحدة
والحلول والاتحاد؛ ولهذا قال:
شئناك فأنشأناك خلقًا بشرًا
…
كي تشهدنا في أكمل الأشياء
فبين أن العبيد يشهدونه في أكمل الأشياء وهي الصورة الإنسانية ، وهذا يشير
إلى الحلول وهو حلول الحق في الخلق ، لكنه متناقض في كلامه ، فإنه لا
يرضى بالحلول ولا يثبت موجودين حل أحدهما في الآخر، بل عنده وجود الحال
هو عين وجود المحل ، لكنه يقول بالحلول بين الثبوت والوجود ، فوجود الحق
حل في ثبوت الممكنات، وثبوتها حل في وجوده. وهذا الكلام لا حقيقة له في
نفس الأمر، فإنه لا فرق بين هذا وهذا ، لكنه هو مذهب المتناقض في نفسه.
وأما الرجل الذي طلب من والده الحج ، فأمره أن يطوف بنفس الأب ، فقال:
طف ببيت ما فارقه الله طرفة عين قط. فهذا كفر بإجماع المسلمين ، فإن الطواف
بالبيت العتيق مما أمر الله به ورسوله ، وأما الطواف بالأنبياء والصالحين، فحرام
بإجماع المسلمين. ومن اعتقد ذلك دينًا فهو كافر سواء طاف ببدنه أو بقبره،
وقوله: ما فارقه الله طرفة عين قط. إن أراد به الحلول المطلق العام ، فهو مع
بطلانه متناقض ، فإنه حينئذ لا فرق بين الطائف والمطوف به ، فلم يكن طواف هذا
بهذا أولى من العكس ، بل هذا يستلزم أنه يطاف بالكلاب والخنازير والكفار
والنجاسات والأقذار وكل خبيث وكل ملعون؛ لأن الحلول والاتحاد العام يتناول هذا
كله ، وقد قال مرة شيخهم الشيرازي لشيخه التلمساني وقد مر بكلب أجرب ميت: هذا
أيضًا من ذات الله. فقال: وثم خارج عنه؟ ومر التلمساني ومعه شخص فاجتاز
بكلب فركضه الآخر برجله ، فقال: لا تركضه فإنه منه.
وهذا مع أنه من أعظم الكفر والكذب الباطل في العقل والدين فإنه متناقض ،
فإن الراكض والمركوض واحد، وكذلك الناهي والمنهي، فليس شيء من ذلك بأولى
بالأمر والنهي من شيء، ولا يعقل مع الوحدة تعدد. وإذا قيل: مظاهر
ومجالي. قيل: إن كان لها وجود غير وجود الظاهر المتجلي، فقد ثبت التعدد
وبطلت الوحدة ، وإن كان وجود هذا هو وجود هذا ، لم يبق بين الظاهر والمظهر
والمتجلي فيه [6] فرق، وإن أراد بقوله: ما فارقه الله طرفة عين الحلول الخاص
كما تقول النصارى في المسيح - لزمه أن يكون هذا الحلول ثابتًا له من حين خلق
كما تقوله النصارى في المسيح ، فلا يكون ذلك حاصلاً له بمعرفته وعبادته وتحقيقه
وعرفانه ، وحينئذ فلا يكون فرق بينه وبين غيره من الآدميين ، فلماذا يكون الحلول
ثابتًا له دون غيره؟ وهذا شر من قول النصارى ، فإن النصارى ادعوا ذلك في
المسيح لكونه خلق من غير أب، والشيوخ لم يفضلوا في نفس التخليق ، وإنما
فضلوا بالعبادة والمعرفة والتحقيق والتوحيد ، وهذا أمر حصل لهم بعد أن لم يكن ،
فإذا كان هذا هو سبب الحلول، وجب أن يكون الحلول فيهم حادثًا لا مقارنًا لخلقهم ،
وحينئذ فقولهم: إن الرب ما فارق أبدانهم أو قلوبهم طرفة عين قط. كلام باطل كيفما
قدر.
وأما ما ذكر عن رابعة من قولها عن البيت: (إنه الصنم المعبود في الأرض) ،
فهو كذب على رابعة، ولو قال هذا من قاله - لكان كافرًا يستتاب، فإن تاب، وإلا
قتل. وهو كذب، فإن البيت لا يعبده المسلمون، ولكن يعبدون رب البيت بالطواف
به والصلاة إليه، وكذلك ما نقل من قولها:(والله ما ولجه الله ولا خلا منه)
كلام باطل عليها. وعلى مذهب الحلولية لا فرق بين ذاك البيت وغيره في هذا
المعنى؛ فلأي مزية يطاف به ويصلى إليه ويحج دون غيره من البيوت؟
(وقول القائل) : (ما ولج الله فيه) ، كلام صحيح، وأما قوله: (ما خلا
منه) ، فإن أراد أن ذاته حالة فيه أو ما يشبه هذا المعنى - فهو باطل وهو مناقض
لقوله: ما ولج فيه. وإن أراد به أن الاتحاد ملازم له ، لم يتجدد له ولوج،
ولم يزل غير حال فيه ، فهذا مع أنه كفر وباطل يوجب أن لا يكون للبيت مزية
على غيره من البيوت؛ إذ الموجودات كلها عندهم كذلك.
وأما البيتان المنسوبان إلى الحلاج:
سبحان من أظهر ناسوته
…
سر سنا لاهوته الثاقب
حتى بدا في خلقه ظاهرًا
…
في صورة الآكل الشارب
فهذه قد تعين بها الحلول الخاص كما تقوله النصارى في المسيح ، وكان أبو
عبد الله بن خفيف الشيرازي قبل أن يطلع على حقيقة أمر الحلاج يذب عنه ، فلما
أنشد هذين البيتين ، قال: لعن الله من قال هذا. وقوله:
عقد الخلائق في الإله عقائدًا
…
وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه
فهذا البيت يعرف لابن عربي ، فإن كان قد سبقه إليه الحلاج ، وقد تمثل هو به
فأضافته إلى الحلاج صحيحة ، وهو كلام متناقض فإن الجمع بين النقيضين في
الاعتقاد في غاية الفساد ، والقضيتان المتناقضتان بالسلب والإيجاب على وجه يلزم
من صدق إحداهما كذب الأخرى لا يمكن الجمع بينهما ، وهؤلاء يزعمون أنه يثبت
عندهم في الكشف ما يناقض صريح العقل ، وأنهم يقولون: بالجمع بين النقيضين
وبين الضدين ، وأن من سلك طريقهم يقول بمخالفة المعقول والمنقول.
ولا ريب أن هذا من أفسد ما ذهب إليه أهل السفسطة، ومعلوم أن الأنبياء
عليهم السلام أعظم من الأولياء ، والأنبياء جاؤوا بما تعجز العقول عن معرفته ،
ولم يجيؤوا بما تعلم العقول بطلانه ، فهم يخبرون بمحارات العقول، لا بمحالات
العقول، وهؤلاء الملاحدة يدعون أن محالات العقول صحيحة، وأن الجمع بين
النقيضين صحيح، وأن ما خالف صريح المعقول وصحيح المنقول صحيح ، ولا
ريب أنهم أصحاب خيال وأوهام ، يتخيلون في نفوسهم أمورًا يتخيلونها ويتوهمونها
فيظنونها ثابتة في الخارج ، وإنما هي من خيالاتهم والخيال الباطل يتصور فيه ما
لا حقيقة له، ولهذا يقولون: أرض الحقيقة هي أرض الخيال. كما يقول ذلك ابن
عربي وغيره ، ولهذا يحكون حكاية ذكرها سعيد الفرغاني شارح قصيدة ابن
الفارض وكان من شيوخهم. وأما قوله:
بيني وبينك إنيٌّ تزاحمني
…
فارفع بحقك إني من البين
فإن هذا الكلام يفسر بمعانٍ ثلاثة: يقوله الزنديق، ويقوله الصديق، فالأول
مراده به: رفع ثبوت إنيته ، حتى يقال: إن وجوده هو وجود الحق ، وإنيته هي
إنية الحق، فلا يقال: إنه غير الله ولا سوى. ولهذا قال سلف هؤلاء الملاحدة: إن
الحلاج نصف رجل؛ وذلك أنه لم ترفع له الإنية بالمعنى فرفعت له صورة، فقيل:
وهذا القول مع ما فيه من الكفر والإلحاد فهو متناقض ينقض بعضه بعضًا ، فإن
قوله: (بيني وبينك إني تزاحمني) خطاب لغيره، وإثبات إنية بينه وبين ربه ،
وهذه إثبات أمور ثلاثة ، وكذلك يقول:(فارفع بحقك إني من البين) طلب من
غيره أن يرفع إنيته ، وهذا إثبات لأمور ثلاثة.
وهذا المعنى الباطل هو الفناء الفاسد ، وهو الفناء عن وجود السوى ، فإن هذا
فيه طلب رفع الإنية وهو طلب الفناء، والفناء ثلاثة أقسام: فناء عن وجود السوى،
وفناء عن شهود السوى ، وفناء عن عبادة السوى ، فالأول هو فناء أهل الوحدة
الملاحدة، كما فسروا به كلام الحلاج ، وهو أن يجعل الوجود وجودًا واحدًا، وأما
الثاني - وهو الفناء عن شهود السوى - فهذا هو الذي يعرض لكثير من السالكين
كما يحكى عن أبي يزيد وأمثاله، وهو مقام الاصطلام ، وهو أن يغيب بموجوده عن
وجوده، وبمعبوده عن عبادته، وبمشهوده عن شهادته، وبمذكوره عن ذكره، فيظن
من لم يكن، ويبقى من لم يزل، وهذا كما يحكى أن رجلاً كان يحب آخر ، فألقى
المحبوب نفسه في الماء ، فألقى المحب نفسه خلفه ، فقال: أنا وقعت فلم وقعت
أنت؟ فقال: غبت بك عني، فظننت أنك أني. فهذا حال من عجز عن شيء من
المخلوقات ، إذا شهد قلبه وجود الخالق ، وهو أمر يعرض لطائفة من السالكين ،
ومن الناس من يجعل هذا من السلوك ، ومنهم من يجعله غاية السلوك حتى يجعلوا
الغاية هو الفناء في توحيد الربوبية، فلا يفرقون بين المأمور والمحظور والمحبوب
والمكروه، وهذا غلط عظيم غلطوا فيه بشهود القدر وأحكام الربوبية عن شهود
الشرع والأمر والنهي وعبادة الله وحده وطاعة رسوله ، فمن طلب رفع إنيته بهذا
الاعتبار ، لم يكن محمودًا على هذا، ولكن قد يكون معذورًا.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
لعله: أي ترك المأمور.
(2)
لعل الأصل: بل يفرقون بينهما بالطبع والعقل أو ما هو بمعنى هذا بدليل ما بعده.
(3)
لعله هواك أو غرضك.
(4)
الظاهر أن يقال: ولزمه، كقوله: وكان احتجاجه عطفًا على قوله: اتبع ضده، الذي هو جواب فمن لم يتبع شرع الله ودينه، ولو قال: واتبع ضده، عطفًا على قوله: لم يتبع، لكان قوله: لزمه إلخ هو جواب الشرط، ولم يصح عطفه.
(5)
سقط من هنا جواب: فمن جعل، والمعنى من جعل الإيمان بالقدر عذرًا لمن عصى الله وأشرك به لزمه كون هذا الإيمان منكرًا من المنكرات وضلالة من الضلالات، وليس الأمر كذلك بل الإيمان بالقدر حسنة من الحسنات إلخ.
(6)
لعل أصله: والمجلي والمتجلي فيه.
الكاتب: محمد رشيد رضا
مؤتمر الخلافة [*]
] وأتمروا بينكم بمعروف [[**]
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله {وَعَدَ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ * وَلَيُبِدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} (النور: 55) .
والصلاة والسلام على سيدنا محمد الهادي إلى الصراط المستقيم ، وعلى آله
وأصحابه والتابعين له بإحسان.
كان للمسلمين ملك عظيم امتد يمينًا وشمالاً ، فبسط جناحيه على المشرق
والمغرب ، فأظلتا أعظم ممالك العمران ما بين الطرف الغربي من أوربة وحدود
الصين في الشرق الأقصى ، وما بين المحيط الجنوبي إلى أحشاء أوربة في الشمال ،
وكان لهم في هذا الملك العظيم من الدول العزيزة والسلطان الكبير ، ما فصلت
أخباره في الأسفار الكثيرة من خزائن التاريخ.
كانوا كلما سقطت دولة من دولهم بخروج أمرائهم وسلاطينهم عن هداية
الشرع بالعدل ، وسنن الله المطردة في العمران ، خلفتها دولة أخرى أعز منها شأنًا
وأقوى سلطانًا.
كانوا أمة واحدة تدبر أمورها دولة واحدة ، ثم تعددت فيها الدول وهي أمة
واحدة؛ لأنها كانت لا تزال تحيا بروح الإسلام الذي ساوى بين الشعوب والأقوام ،
وجعل التفاضل بين الناس بالعلم والعمل دون القومية والنسب ، حتى كان مثل
البخاري وأبى حنيفة من سلائل الفرس معدودين من أكبر أئمة السنة والفقه ، ومثل
نور الدين الشهيد وصلاح الدين الأيوبي من سلائل الترك والكرد مفضلين على
كثير من خلفاء قريش في الحكم.
ومن طرائف شهادة التاريخ على هذا ما ذكره ابن جبير الأندلسي في رحلته
واصفًا خطبة الجمعة في الحرم المكي الشريف سنة 579 قال: ثم دعا - الخطيب-
للخليفة العباسي أبي العباس أحمد الناصر ثم لأمير مكة مكثر بن عيسى بن فليتة
ابن قاسم بن محمد بن جعفر بن أبى هاشم الحسني ، ثم لصلاح الدين أبى المظفر
يوسف بن أيوب، ولولي عهده أخيه أبى بكر بن أيوب ، وعند ذكر صلاح الدين
بالدعاء تخفق الألسنة بالتأمين عليه من كل مكان.
وإذا أحب الله يومًا عبده
…
ألقى عليه محبة للناس
وحق ذلك عليهم لما يبذله من جميل الاعتناء بهم ، وحسن النظر لهم ، ولما
رفعه من وظائف المكوس عنهم ، وفي هذا التاريخ علمنا بأن كتابه وصل إلى
الأمير مكثر ، وأهم فصوله التوصية بالحاج، والتأكيد في مبرتهم ، وتأنيسهم، ورفع
أيدي الاعتداء عنهم ، والإيعاز في ذلك إلى الخدام والأتباع والأوزاع ، وقال:
إنما نحن وأنت متقلبون في بركة الحاج ، فتأمل هذا المنزع الشريف والمقصد
الكريم إلى آخر ما قال.
والعبرة فيه ظهور تفضيل حجاج الشعوب الإسلامية كلها مع أهل الحرم
للسلطان الكردي ، على الخليفة القرشي والأمير العلوي ، وذكر في غير هذا
الموضع من الرحلة أن أمير مكة كان من أشد هؤلاء الأمراء في الإلحاد بالظلم في
حرم الله تعالى ، وأنه انتزع مفتاح بيت الله من وارثه زعيم الشيبيين محمد بن
إسماعيل ، وأمر بالقبض عليه وانتهاب منزله ، وصرفه عن حجابة البيت الحرام،
طهره الله تعالى ، قال: والحال يشبه بعضها بعضًا (وإن الظالمين بعضهم أولياء
بعض) ، وإلى الله المشتكى من فساد ظهر حتى في أشرف بقاع الأرض ، وهو
حسبنا ونعم الوكيل. اهـ.
وأعظم مما ذكره ابن جبير رحمه الله في الاعتبار أن الظلم والفساد في
الحرم تسلسل في هؤلاء الأمراء المكيين ، الذين يفضلون أنفسهم بنسبهم على جميع
الصالحين والمصلحين ، إلى أن بلغ أشده في هذه السنين من المتغلب الذي ادعى
حق الملك على جميع العرب ، والخلافة على جميع المسلمين وصرحت جريدته بأنه
نال هذا بالرغم من أهل السموات والأرض أجمعين ، فأخرجه الله تعالى منها
مذؤومًا مدحورًا ، مأفونًا مثبورًا ، منبوذًا مهجورًا {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا
خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} (البقرة: 66)
ما فعل الله تعالى بذلك الملك العظيم؟ وماذا بقي منه لأكثر من ثلاثمائة مليون
من المسلمين؟ وكيف وجد من ضعف ، ثم كان من بعد ضعف قوة ، ثم ذهبت تلك
الدول والشعوب شذر مذر ، وصارت عبرة لمن اعتبر؟ وهل يرجى أن يعود
الإسلام كما بدا؟ وكيف السبيل إلى ذلك؟ وكيف فرقوا في الدين فكانوا شيعًا والملة
واحدة ، وتفرقوا في الأجناس والأقوام، والأوطان والأمة واحدة؟
لقد نزل ما نزل بالمسلمين وهم غافلون ، وأتاهم بأس الله بياتًا وهم نائمون ،
وضحًى وهم يلعبون ، فضرب الله على آذانهم في كهف الجهل بضعة قرون ، ثم
تأذن الله تعالى ببعثهم من رقادهم ، وهداهم إلى التفكر في حالهم وحال آبائهم
الأولين ، وخلفائهم الراشدين ، وملوكهم الفاتحين ، فاختلفوا في أسباب ما كان من
قوة وضعف وعز وذل ، بما رسخ في شعوبهم من الجهل ، وما طرأ عليها من البدع،
وما سرى إليها من نعرة الجنسية ، وعصبية الجاهلية ، وما تغلغل فيها من الدسائس
الأجنبية ، والتعاليم المادية الإلحادية ، فذهب أهل البصيرة منهم إلى أن ترك هداية
الدين الأولى ، والابتداع والتفرق فيه هو الذي أضاع ملكهم ، وذهب بمدنيتهم؛ لأن
هذه الهداية كانت هي السبب لهما ، وما حصل بسبب زال بزواله.
وزعم آخرون أن الأخذ بالدين هو سبب هذا الضعف ، والجهل بشبهة
اشتراك جميع شعوب المسلمين فيه ، وليس بينهم جامعة مشتركة يعلل بها إلا
الدين ، وفاتهم أن الجهل بحقيقته والابتداع فيه ، والإعراض عن هدايته الأولى
علة فاشية في جميع تلك الشعوب أيضًا ، فهؤلاء يقولون: لا يمكن أن نسترجع
مجدنا ، ونجدد ملكنا إلا بنبذ الدين ظهريًّا كما فعل الفرنسيس ومن تبعهم من الإفرنج ،
واستبدال الرابطة القومية والعصبية الوطنية بالجامعة الإسلامية.
وأولئك يقولون: إننا لا ننال ذلك إلا بما ناله سلفنا ، وإن الإفرنج لم ينجحوا
في دنياهم إلا بعد الإصلاح الديني ، لا بعد نبذ هداية الدين ظهريًّا ، وأنهم لا يزالون
يبذلون الملايين من الجنيهات في تعليمه ونشره.
ومن فروع هذا الخلاف قول متفرنجة الترك: إن منصب الخلافة وشكل
الحكومة الإسلامية علة العلل؛ لضعفهم وزوال سلطنتهم العظيمة. ورد بعض
العارفين عليهم: إن الإسلام هو الذي كان علة تأسيس تلك السلطنة العظيمة ، وإن
الخروج عن هدايته هو الذي كان علة ضعفها وزوالها ، وإن منصب الخلافة لم يكن
عندهم إلا لقبًا من ألقاب الفخر والشرف ، على أنه كان قوة معنوية لهم ، وإن لم
يترتب عليه عمل.
وبين هذين الفريقين السواد الأعظم من الجامدين على ما ألفوا من حق وباطل
وما تقلدوا من سنة وبدعة ، ينظرون إلى كل منهما بمنظار واحد ، فمنهم من يرمي
الفريقين بالكفر والإلحاد ، وأقلهم جمودًا من ينبذ طلاب الإصلاح بلقب الابتداع ،
ولم يبق للمسلمين رياسة عامة محترمة ، يرد إليها هذا النزاع؛ لتفصل فيه فصلاً
معقولاً ، يرجى أن يكون مقبولاً ، مهتدية بقوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ
فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً
* أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن
يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالاً
بَعِيدًا} (النساء: 59-60) ، فلا يتكلم باسم الإسلام من ليس منه ، ولا يعطى فيه
حق الحل والعقد.
قد ظهر في المسلمين مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من
قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع ، حتى لو دخلوا في جحر ضب لتبعتموهم. قالوا
يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟) رواه الشيخان في الصحيحين
وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: اتبعوا سننهم في البدع،
حتى انتهت ببعضهم إلى المروق من الإسلام نفاقًا ثم جهارًا ، ثم إلى محاربته
بدعوى إصلاح حكومته أو إصلاح أهله ، وقد شرع الترك في تأسيس حكومة غير
دينية في بلادهم.
إن هذه الفوضى الدينية في العالم الإسلامي قد حيرت الباحثين في طرق
الإصلاح الديني والمدني ، حتى كتب بعض الباحثين من كتاب المصريين بأنه قد
ثبت عنده بعد التروي في السنين الطوال ، أن المسلمين لن يرجعوا إلى دينهم ثانية
إلا بعد أن يتركوه تركًا تامًّا ، ثم هم يعيدون النظر فيه ، سالكين منهاجًا غير المناهج
المسلوكة منذ قرون في تلقينه ودرسه ، وإنه لرأي بمعزل من الصواب ، رجحه في
نظره فشل دعاة التجديد والإصلاح ، وفشو الفسوق والإلحاد ، وسبق الملاحدة إلى
المناصب الدولية ، وفوزهم في أعمال العمران ، ونجاحهم في جذب النابتة. وشر
من ذلك كله سكوت زعماء الجمود عنهم ، ونضالهم لدعاة الإصلاح من دونهم ،
ونحن على علمنا بهذا نفند رأي هذا الباحث نقضًا ومناقضة ومعارضة، وإننا نبحث
في هذه المسألة من زهاء ثلث قرن كتابة وخطابة ومناظرة ومراسلة بيننا وبين
المفكرين في مشارق البلاد الإسلامية ومغاربها ، مع السياحة في أهم أقطارها ،
فكانت ثمرة البحث أن الطريقة المثلى للإصلاح دونها موانع فلم تسلك ، والرجاء أن
يكون قد زال الآن ما دونها من العواثير والعقاب ، وفتح ما كان مغلقًا أمامها من
الأبواب.
ما هذه الطريقة المثلى؟ قيل لموقظ الشرق وحكيم الإسلام: إن علل ضعف
المسلمين كثيرة ، فهل لهذه العلل من علة ترجع كلها إليها ، فتوجه جهود الإصلاح
لإزالتها ، فيصلح كل شيء بالتبع لها؛ إذ يكون مكانها كمكان القلب من الجسد ، إذا
صلح صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد كله ، كما ورد في التمثيل النبوي؟ قال:
نعم ، إن الأمر الذي يجب على المسلمين أن يوجهوا جهودهم إلى إيجاده ، هو
(السلك) ، انقطع السلك الذي كان نظام وحدتهم الدينية والدنيوية ، فانتثر الحب
ولن ينتظم إلا بالسلك.
ونقول نحن في بيان مراد ذلك الحكيم: إنما كان السلك الأول نظام الخلافة
المؤيدة في الباطن بوازع الدين ، وفي الخارج بتأييد أهل الحل والعقد من المسلمين.
قام الخلفاء الراشدون بها حق القيام ، ثم صدعت بعصبية القومية الجاهلية ، فعصبية
التشيع المذهبية ، فضعف الوازع الديني المؤيد لها في الباطن رويدًا رويدًا،
وانحصر الحل والعقد في عصبية المتغلب شيئًا فشيئًا ، فتمزق بذلك شمل المسلمين
وصار أمرهم كالكرة بين صوالجة المتغلبين ، وصارت الأمة أممًا متعادية ، والدولة
دولاً متقاتلة ، وسبب هذه المصائب كلها عدم وضع نظام للحكم ، يكون السلطان فيه
لمن تختارهم الأمة للحل والعقد من غير قيد ولا حصر إلا في حدود الشرع.
شرع الإسلام مبني على جعل أمر المسلمين شورى بينهم ، وكل ما ليس فيه
نص قطعي مفوضًا إلى اجتهاد أولي الأمرمنهم ، وقد أمر الله تعالى رسوله صلى الله
عليه وسلم باستشارتهم في الأمر ، وقيد الطاعة في مبايعته بقوله: {وَلَا يَعْصِينَكَ
فِي مَعْرُوفٍ} (الممتحنة: 12) حتى لا يتجرأ أحد من أمراء المسلمين على
دعوى الاستغناء عن المشاورة ، ولا على دعوى وجوب الطاعة المطلقة ، وقد
جرى خلفاؤه الراشدون على هديه في ذلك ، فقال الخليفة الأول في خطبته الأولى
على منبره عقب المبايعة مخاطبًا لجماعة المسلمين: فإذا استقمت فأعينوني ، وإذا
زغت فقوموني ، وتبعه الخليفة الثاني بقوله: من رأى منكم في عوجًا فليقومه.
وقال الخليفة الثالث على المنبر أيضًا: أمري لأمركم تبع. وقد جروا كلهم على ذلك
بالعمل ، ينفذون نصوص الكتاب وما ثبت في السنة ، ويشاورون أهل العلم والرأي
في جميع الأمور الاجتهادية.
وهذا معنى ما ورد من الأحاديث الصحيحة في التزام الجماعة ، وكون من شذ
عنها في النار ، وهو ما عبر عنه بعض كبار العلماء بحق الأمة؛ أي: سلطة الأمة
وعللوه بأنها هي التي ورد الحديث بأنها لا تجتمع على ضلالة ، وإنما يمثل الأمة
في المسائل العلمية أئمتها المجتهدون ، وفي سياستها وإدارتها أهل الحل والعقد منهم،
ومن سائر رجالها الموثوق بكفايتهم في المصالح الدنيوية ، ولا سيما الحربية التي
صارت في هذا الزمان تتوقف على فنون كثيرة ، قال الحافظ ابن حجر في الكلام
على مبايعة عثمان من شرحه للبخاري: والذي يظهر من سيرة عمر في أمرائه
الذين كان يؤمرهم في البلاد ، أنه كان لا يراعي الأفضل في الدين فقط ، بل يضم
إليه مزيد المعرفة بالسياسة مع اجتناب ما يخالف الشرع ، فلأجل ذلك استخلف
(أي: أمر) معاوية والمغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص مع وجود من هو أفضل
منهم في أمر الدين والعلم: كأبي الدرداء في الشام وابن مسعود في الكوفة. اهـ.
ومن أقوال كبار العلماء في سلطة الأمة ، وكون الرأي لها في نصب الإمام
وعزله ، قول الإمام الرازي في تعريف الخلافة: هي رياسة عامة في الدين والدنيا
لشخص واحد من الأشخاص. وقال في القيد الذي زاده في التعريف على غيره:
هو احتراز عن كل الأمة إذا عزلوا الإمام لفسقه. قال السعد التفتازاني في شرح
المقاصد بعد ذكر هذا القيد وتعليله: وكأنه أراد بكل الأمة أهل الحل والعقد ،
واعتبر رياستهم على من عداهم ، أو على كل من آحاد الأمة. اهـ.
وأراد السعد بهذا التوجيه إزالة إشكال من عساه يقول: إذا كانت الرياسة
للأمة فمن المرؤوس؟
وجملة القول أن الإسلام قد بين أصول حكومة الشورى ، وإنما قصر
المسلمون في عدم وضع نظام يكفل تنفيذ أحكامها بالعمل ، ويكفل سلطة أهل الحل
والعقد الممثلين للأمة في كل زمان بحسبه ، وحكمة عدم وضع الشرع لهذا النظام
أنه يختلف باختلاف الزمان والمكان وأحوال الاجتماع ، ولذلك فوضه إلى الأمة ،
وقد كان استبداد الذين جعلوا الخلافة ملكًا يورث مانعًا من ذلك إلى آخر عهد آل
عثمان ، حتى لم يكن أحد يتجرأ على الدعوة إلى تقييد سلطتهم ، ولو في غير
بلادهم التي تنفذ فيها أحكامهم ، ولم ننس ما كان مسلمو مصر والهند يرمون به كل
من كان يشكو من ظلم عبد الحميد المستبد ، ثم من استبداد الاتحاديين ، ثم ما كان
من شأنهم في الغلو في إطراء الكماليين ، ثم في الإنحاء عليهم والتشهير بهم.
لهذا رجونا أن تكون الموانع دون سلوك الطريقة المثلى للإصلاح الإسلامي قد
زالت ، فأصبح ميسرًا ما كان متعذرًا ، وفتح من الأبواب له ما كان مغلقًا ، وما ذلك
إلا بإلغاء الترك للخلافة التركية الصورية التي لم تكن تعمل للإسلام ، ولا تدع أحدًا
يعمل له.
فالمطلوب الآن إيجاد السلك ووضع النظام ، وأن يكون بالتشاور بين العلماء
المسلمين الدينيين والسياسيين ، والإداريين والعسكريين ، والماليين والحاذقين لسائر
الفنون ، التي عليها مدار العمران وعزة الأمم وكرامتها ، ولا يكون هذا إلا بعقد
مؤتمر إسلامي عام ، وهو ما كنا ندندن حوله منذ أنشأنا المنار ، واقترحنا في ذلك
الوقت مرارًا أن يكون في ظل بيت الله الحرام توجيهًا للقلوب وتحريكًا للعقول ،
على أن الموانع كانت على أشدها ، وآمال المسلمين محصورة في الآستانة وحدها ،
ولذلك اقترح بعض الكتاب يومئذ أن يكون المؤتمر فيها ، كما اقترح ذلك بعضهم
بعد زوال الدولة العثمانية وما حل بخلافتها؛ لأن ما رسخ في العقول والقلوب
بتوالي القرون لا يزول في أشهر قليلة ، ولا في سنين معدودة.
قد كان ما كتبناه نحن وغيرنا في هذا الموضوع تمهيدًا وإعدادًا للأمة ، ولا
تقوم الأمم بعمل مفيد إلا بعد تمام الاستعداد للنهوض به ، ورجحان المقتضي له على
المانع منه ، وهذا ما نرجو أن نكون قد وصلنا إليه أو أوشكنا ، أما المانع فقد زال ،
وأما المتقتضي فلا مراء فيه ، وبقي استعداد الأمة ، هل تم أم لا؟ وهو ما يظهره
عقد المؤتمر.
كانت الخلافة العثمانية هي المانع الأكبر ، ولا سيما بعد أن عجز السلطان
عبد الحميد عما حاوله من تجديد نفوذ الخلافة ونشره ، واستحوذت عليه الوسوسة
واتهام كل طالب للإصلاح ، حتى السيد جمال الدين الأفغاني ، الذي كان المبتكر
لهذه الفكرة والمقنع لكثير من مجتهدي الشيعة بتأييدها ، فلما أنزل الكماليون بها
القارعة الأولى ، كان من حرص أكثر المسلمين عليها أن رضوا ببقاء اسمها الخلافة
مجردة من كل معاني الرياسة والحكم ، فلما قرعت أسماعهم الصاخة الكبرى بإلغاء
الاسم وطرد المسمى من الآستانة ، ورأوا طاغوت الحجاز قد تنحلها لنفسه - فزعوا
وأعولوا ، ثم تفكروا وتدبروا ، فهتف بهم الهاتف الإلهامي الإلهي أن توبوا إلى ربكم
وتوبوا إلى رشدكم ، واجعلوا الأمر شورى بينكم ، كما أرشدكم كتاب الله المنزل ،
ومضت به سنة نبيه المرسل ، وسعد به السلف الأول ، فتجاوبت الأصوات من كل
مكان: لا بد من عقد مؤتمر إسلامي عام. اتفقت الشعوب الإسلامية على وجوب
عقد المؤتمر ، وكثرة الدعاة إليه ، واختلفوا في الزمان والمكان اللذين يعقد فيهما ،
حتى إذا ارتفع صوت كبار علماء مصر بالتصدي للدعوة إليه ، وضربوا الموعد
المعروف له ، ثم صاروا يدعون أهل الرأي والأخصاء في الفنون المختلفة إلى
الانضواء إليهم ، والاشتراك في إدارة العمل معهم ، خفتت دون صوتهم الأصوات،
وكان أقواها صوت دعي الخلافة في الحجاز ، سل الله تعالى عليه سيف سلطان نجد ،
فأخرجه مهزومًا مذمومًا من تلك الأرض ، وذلك يضمن لنا اشتراك الحرمين
الشريفين في مؤتمر مصر بالتبع؛ لاشتراك نجد فيه كما تقرر من قبل.
فهذا أول مؤتمر إسلامي عام يشترك فيه علماء الدين والدنيا من أكبر الشعوب
الإسلامية ، وأوسعها علمًا وثروة ، وأشدها بأسًا وقوة ، والمطلوب الأول منه وضع
نظام للإمامة العظمى ، يدخل في بابين:
(أحدهما) قواعد حكومة إسلامية مدنية ، يظهر بها علو التشريع الإسلام على
جميع ما اشترعه البشر في العدل والمساواة ، والجمع بين السياسة والفضيلة التي خلا
منها اشتراع القوانين المادية.
(وثانيهما) قواعد للتربية والتعليم الجامعين بين هداية الدين ومصالح الدنيا ،
وتوثيق راوبط الأخوة الدينية والتكافل الروحي ، والتعاون الاقتصادي بين المسلمين
على اختلاف شعوبهم ومذاهبهم ، وتعدد حكوماتهم ، ويدخل في هذا إحياء دعوة الدين
والدفاع عنه مع اتقاء السياسة من كل وجه ، والحث على الاشتراك مع جميع
الشعوب في خدمة الإنسانية العامة ، وترقية الآداب والحضارة في جميع الأمم.
وأما المطلوب الثاني: فهو اختيار خليفة وإمام للمسلمين ، ينقذ القسم الأول من
هذا النظام في البلاد الخاضعة لحكمه ، خاصة مع مراعاة حقوق جميع أصناف
سكانها (وصدر الشرع الواسع لا يضيق بشيء من ذلك) ، ويشرف على تنفيذ
القسم الثاني مستعينًا بديوان يشترك فيه أعضاء من جميع الشعوب الإسلامية.
ونحن نجتهد في أن لا نجعل لأحد حجة علينا بتدخل سياسي سري ، ولا
جهري في مسلمي البلاد الأخرى ، ولا حجة علينا في ارتباطنا الديني والأدبي مع
أولئك المسلمين ، بأن يكون هذا الارتباط نحوًا مما تأتيه جمعياتهم الدينية في بلادنا
وبلاد غيرنا من الأجانب عنهم، كجمعيات الدعاة المبشرين ، وجمعية الشبان
المسيحيين وغيرهما ، وهذا النظام أكبر قوة ذاتية لنا ، نتقي بها استمرار هذا الخلل
والضعف فينا.
إن فائدة النظام الذي نقترحه على المؤتمر في المقصد الديني الأدبي ، أكبر
منه في المطلب السياسي ، فإن سلطان الخليفة السياسي خاص ببعض المسلمين ،
وسلطانه الديني الأدبي عام لهم ، وأكبر فوائد تلافي الفوضى في التعليم الديني ،
ورد عادية البدع ، وكبح جماح الأفكار المادية المولدة للزندقة والإلحاد ولنزغات
البلشفية ، وغيرها من الفتن التي أثارتها طبيعة الاجتماع ، وهذه خدمة للبشر من
جميع الملل والنحل.
فلهذه الغاية الفضلى ندعو أهل الرأي والغيرة والبصيرة ، من زعماء جميع
الشعوب الإسلامية إلى اغتنام فرصة إمكان عقد مؤتمر إسلامي عام في أرقى بلاد
الإسلام ، فهي فرصة لم يسمح قبل بمثلها الزمان ، ونسأله تعالى التوفيق في البدء
والختام.
_________
(*) رغب إلينا السكرتير العام للجنة مؤتمر الخلافة أن نكتب مقالة في موضوعه ، ووجه الحاجة إليه؛ لتنشر في صدر الجزء الأول من مجلة المؤتمر التي تصدر في هذا الشهر ، فكتبنا هذه المقالة، ثم رأينا أن ننقلها في مجلتنا؛ ليطلع قراؤنا عليها وهي هذه.
(**)(الطلاق: 6) .
الكاتب: جمال الدين الأفغاني
المقالات الجمالية
ننشر تحت هذا العنوان ما جمعناه من مقالات موقظ الشرق وحكيم الإسلام
السيد جمال الدين الأفغاني الحسيني حفظًا لها من الضياع.
الشرق والشرقيون
نشرها السيد في جريدة (أبو نظارة زرقاء) التي كانت تصدر بباريس أيام
وجوده فيها سنة 1300 (1883) ، وهي مصدرة بمقدمة حكيمة في العقل والنفس
والأخلاق ، التي هي يتفاضل بها البشر أفرادًا وجماعات ، ويعلو بعض الأمم بعضًا
في ارتقاء الحضارة ، ويتسابقون في جلبة السعادة السيادة ، ويلبها المقصد في
شعبتين: إحدهما: بيان ما كان للشرقيين من حظ ارتقاء العقل في العلم والبصيرة ،
وارتقاء النفس في الأخلاق العالية ، ثم ما انتهى إليه حالهم من إهمال النعمتين
والتدهور عن القمتين ، والشعبة الثانية في الشواهد التاريخية على ذلك بما كان من
إضاعتهم لممالكهم ، وتخريب بيوتهم بأيديهم ، قال رحمه الله:
(المقدمة)
الإنسان إنسان بعقله وبنفسه ، ولولا العقل والنفس لكان الإنسان أخس جميع
الحيوانات وأشقاها؛ لأنه في حياته أضيق مسلكًا ، وأصعب مجازًا ، وأوعر طريقًا
منها، قد حفت به المكاره ، وأحاطت به المشاق ، واكتنفت به الآلام ، لا يمكنه أن
يقوم بمعاشه وهو منعزل عن أبناء نوعه ، لا يطيق الحر ولا يتحمل ألم البرد ، ولا
يقدر على الذود عن نفسه ، وليس له من الآلات الطبيعية ما يثقف به معيشته ، وهو
محتاج في ضروريات حياته ، ومفتقر في الكمال فيها إلى الصناعة ، ولا يمكن
الحصول عليها إلا بإجالة الفكرة ، والتعاون بمن يشاركه في العقل من النوع
البشري.
والعقل أن تستنبط المسببات من أسبابها ، ويستدل بالعلل على معلولاتها ،
وينتقل من الملزومات إلى لوازمها ، وتستكشف الآثار حين ملاحظة مؤثراتها ،
وتعرف العواقب ضارها ونافعها ، وتقدر الأفعال بمقاديرها على حسب ما يمكن أن
يطرأ عليها من الفوائد والخسائر في عاجلها وآجلها ، ويتميز الحق من الباطل في
الأعمال الإنسانية نظرًا إلى عواقبها.
العقل (أي: بهذا المعنى) هو الهادي إلى مهيع السعادة ، ومنهج الأمن
والراحة ، لا يضل من استرشده ، ولا يغوي من استهداه ، ولا يحوم الشقاء حول
من ركن إليه ، ولا يعثر في المداحض من اعتمد عليه ، ولا يلتبس الحق بالباطل
على من استنار بنوره ، وإن الخير به، وليس الشر إلا بالحيدان عن صراطه القويم،
من فقده فاتته السعادة لا محالة ، ولو أخرجت له الأرض أفلاذها ، وأسبغت عليه
الدنيا نعيمها ، وإن الأمم ما سادت إلا بهدايته ، وما ذلت بعد رفيع مقامها وعظم
منزلتها إلا بعد أن عرضت عن خالص نصحه ، وتوغلت في بيداء غوايتها ،
واستعملته في مسالك ضلالتها ، واستخدمته لقضاء أوطار طبائعها الخسيسة ، التي
تجلب عليها الشنار ، وتوجب المعرة والصغار.
والنفس هي منشأ أخلاق كريمة ، وأوصاف عقلية ، هي قوام الاجتماعات
المدنية والمنزلية ، وأساس التعادل ، وميزان التكافؤ في الموازنات ، ومقياس
التوافق في المعاونات ، ولا يمكن التآلف بين القوى المتفرقة لاقتناء ما تقوم به
حياة الإنسان إلا بها ، ولا تلتئم أهوية النفوس المختلفة؛ لاكتساب ضروريات
معاشها إلا بسببها ، وهي التي تجعل الأفراد الإنسانية مع تضاد طبائعها بمنزلة
شخص واحد ، يسعى بأعضائه المتخالفة في أشكالها ، وجوارحه المتباينة في هيئاتها
إلى مقصد واحد ، لا يمكن الوصول إليه إلا باستعمالها بحركات ، قد اختلفت مع
وحدة جهتها أوضاعها ، وسيادة الأمم الغابرة والحاضرة ، هي من أخص نتائجها،
لأنها لا يمكن حصولها إلا باتفاق كلمة آحادها ، واجتماع آراء أفرادها ، ولا تتفق
الكلمة ولا تجتمع الآراء إلا بالتكافؤ في المساعي ، والتوازن في تحمل المشاق،
والاشتراك في المنافع ، والمساواة في الحقوق ، والتعادل في التمتع بثمرات الأعمال
بلا تفاضل ولا استئثار.
وكل هذه في وجودها وبقائها تحتاج إلى الأخلاق الكريمة والأوصاف
العقلية التي يعرف الإنسان حقه ، ويقف عنده ، ولا تشتت أمة ، ولا اضمحلت
سلطة ، ولا تفرقت جمعية إلا بفساد أخلاقها ، وتطرق الخلل في سجاياها؛ لأنها
بفسادها وتطرق الخلل فيها ، توجب تخالف الأيدي ، وتباعد الأهواء وتضارب
الآراء ، وتباين الأفكار ، فيستحيل حينئذ الاجتماع ويمتنع الاتفاق.
وإذا أمعن البصير في حقيقة الأخلاق الرذيلة يعلم أنها بذاتها تبعث على التفرق
والاختلاف ، وتمنع من الاجتماع والائتلاف ، وما ينشأ عن ذات الشيء لا يمكن
زواله ما دامت ذاته باقية ، فإذا تمكنت الأخلاق الرذيلة من أمة ، فلا يرجى لها
نجاح ، ولا يحصل لها فلاح ، ما لم تسع في تعديلها ، وتدأب في تقويمها.
ويمكن أن يقال: إن بين كمال العقل وطهارة النفس وتخلقها بالأخلاق الفاضلة
تلازمًا؛ لأن العقل إذا بلغ كماله يقهر الطبيعة ، فحينئذ تسلم النفس من سوراتها ،
وتخلص عن عكر قذفاتها ، فتنقاد للعقل مستسلمة له خاضعة لحكمه ، ويستعملها
العقل على نهج الحق والعدل ، وليست الأخلاق الفاضلة إلا أن تزن النفس أعمالها
بميزان العدل ، ولا تحيد في هواها عن صراط الحق.
الشعبة الأولى من المقصد في أسباب انحطاط الشرق:
وبعد هذه المقدمة يمكن لنا أن نقول: إن الشرق بعد ما كان له من الجاه
الرفيع ، والمقام المنيع ، والسلطنة العظيمة ، وبسطة الملك ، وعظم الشوكة ،
وكثرة الصنائع والبدائع ، ووفور الأمتعة والبضائع ، ورواج سوق التجارة ، وذيوع
العلوم والمعارف ، وشيوع الآداب والفنون؛ ما هبط عن جليل مرتبته ، وما سقط
عن رفيع منزلته ، ولا استولى الفقر والفاقة على ساكنيه ، ولا غلب الذل والاستكانة
على عامريه ، ولا تسلطت عليه الأجانب ، ولا استعبدت أهله الأباعد إلا لإعراض
الشرقيين عن الاستنارة بنور عقولهم ، وتطرق الفساد في أخلاقهم.
فإنك تراهم في سيرهم كالبهائم ، لا يتدبرون أمرًا ، ولا يتقون في أفعالهم
شرًّا ، ولا يكدون لجلب النافع ، ولا يجتنبون عن الضار [1] ، طرأ على عقولهم
السبات ، ووقفت أفكارهم عن الجولان في إصلاح شؤونهم ، وعميت بصائرهم عن
إدراك النوازل التي أحاطت بهم ، يقتحمون المهالك ، ويمشون المداحض [2] ،
ويسرعون في ظلمات أهوية نفوسهم التي نشأت عن أوهامهم المضلة ، ويتبعون
في مسالكهم ظنونًا قادهم إليها فساد طبائعهم ، لا يحسون المصائب قبل أن تمس
أجسادهم ، وينسونها كالبهيمة بعد زوال آلامها ، واندمال جراحها.
ولا يشعرون؛ لاستيلاء الغباوة على عقولهم ، واكفهرار ظلمات غشاوة
الجهل على بصائرهم ، باللذائذ التي خص الإنسان بها من حب الفخار في طلب
المجد والعز ، وابتغاء حسن الصيت ، وبقاء الذكر، بل لاستيلاء الغفلة على
عقولهم يحسبون أن يومهم دهرهم ، والتقمقم كالسارحة [3] شأنهم ، لا يدرون
عواقبهم ، ولا يدركون مآل أمرهم ، ولا يتداركون ما فاتهم ، ولا يحذرون ما
يتربصهم [4] من أمامهم ومن خلفهم ، ولا يفقهون ما أمكن لهم الدهر من الشدائد
والمصاعب ، ولذا تراهم قد رئموا الذل ، وألفوا الصغار وأنسوا الهوان ، وانقادوا
للعبودية ، ونسوا ما كان لهم من المجد المؤثل ، والمقام الأمثل.
وبعد انحدارهم عن ذروة العقل الذي لا كرامة للإنسان إلا به ، غلبت عليهم
الخسة والنذالة ، ورانت على قلبهم القسوة والجفاء ، وتمكن من نفوسهم الظلم
والجور ، واستولى عليهم العجب ، لا عن جاه يدعو إليه ، ولا عن فضيلة تبعث
عليه ، وتظاهروا مع الذل المتمكن من قلوبهم بالكبر والعظمة ، وفشا بينهم
الشقاق والنفاق ، وتلبسوا بالغدر والخيانة ، واستشعروا الحسد والنميمة ، وتسربلوا
بالحرص والشره ، وتجاهروا بالوقاحة والشراسة ، واتسموا بالخشية والجبانة ،
وانهمكوا في الشهوات الدنية ، وخاضوا في اللذات البدنية ، وتخلقوا بالأخلاق
البهيمية ، متوسدين الكسالة والفشل ، واتصفوا بصفات الحيوانات الضارية ،
يفترس قويهم ضعيفهم ، ويستعبد عزيزهم ذليلهم ، يخونون أوطانهم ، ويظلمون
جارهم ، ويستلبون أموال ضعفائهم ، ويخوسون بعهدهم [5] ، ويسعون في خراب
بلادهم ، ويمكنون الأجانب ديارهم ، لا يحمون ذمارًا ، ولا يخشون عارًا ، عالمهم
جاهل ، وأميرهم ظالم ، وقاضيهم خائن ، ليس لهم هادٍ فيرشدهم إلى سبيل نجاتهم،
ولا زاجر فيكفون عن التمادي في غيهم ، ولا وازع يقدع الجائرين عن نهش عظام
فقرائهم ، وصاروا جميعًا بسخافة عقولهم ، وفساد أخلاقهم ، عرضة للهلاك.
(لها بقية وهي الشواهد التاريخية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
اجتنب يتعدى بنفسه قال تعالى: [وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ](الشورى: 37) الآية.
(2)
أي: فيها وهي جمع مدحض ، حيث تدحض الرِّجْل: أي تزل.
(3)
السارحة: البهيمة التي تسرح للمرعي ، والتقمقم: أخذ الشاة ما على وجه الأرض بمقتمها وأكله ، وكذلك تتبع الإنسان ما على المائدة وأكله كله.
(4)
تربصه الأمر انتظره وتربصه به: توقع نزوله به ، ومنه:[نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المَنُونِ]
(الطور: 30) .
(5)
خاس يخيس خيسًا: كذب ، وخاس بالعهد خيسًا ، وخيسانًا: غدر ونكث.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الطور الجديد للمسألة العربية
ذكرنا في الجزء السادس الذي قبل هذا أن المسألة العربية دخلت في طور جديد
بخروج سلطان نجد من عزلته السياسية ، وتصديه لإنقاذ الحجاز من حسين بن علي
مفرق الجماعات ، ومثار الفتن ، وموبق الأمة العربية؛ بإدخاله النفوذ بل السلطان
الأجنبي في جزيرة العرب ، فقد زحفت الجيوش النجدية بالفعل على الحجاز ،
وسبقتهم العشائر الحجازية التي تدينت بدعوة نجد إلى الطائف ، وبعد مقاومة شديدة
من حاميتها الحجازية وهي أكبر قوة للملك حسين ، احتلوا الطائف عنوة ، وانهزم
القائد العام للجيش الحجازي وهو الأمير علي ولي العهد لوالده فتحصن في موقع
منيع يقال له: الهَدَى بفتح الهاء ، فزحف عليه الإخوان ، فأخذوه عنوة، وولى الأمير
مدبرًا إلى موقع آخر على طريق عرفات يقال له: (كرى) ، فزحفوا عليه
فانهزم إلى مكة، فوقف الإخوان؛ لأن السلطان عبد العزيز آل سعود لم يأذن لهم
بدخول مكة فاتحين. وفي أثناء ذلك طفق الملك حسين يمطر عالم الشرق وعالم
الغرب برقيات من الطعن في الوهابيين؛ ليهيج عليهم مسلمي الأرض ودول
أوربة فرأينا من الواجب علينا ، أن نبادر إلى كتابة مقالات في الحقائق المتعلقة
بهذه المسألة ، ونشرها في جريدة الأهرام اليومية الواسعة الانتشار ، ثم اقترح
علينا أن ننشر هذه المقالات في المنار تباعًا وها هي ذي:
***
الوهابيون والحجاز
(1)
لو حدثت إغارة الوهابيين على الحجاز في عهد الدولة العثمانية؛ لقامت قيامة
العالم الإسلامي ، ولرأيت الجرائد العربية في الشرق والغرب ، والجرائد التركية
والهندية والفارسية والتتارية والملاوية تشن عليهم غارة التضليل والتكفير ، وتجمع
الإعانات المالية؛ لقتالهم بالقناطير ، ذلك لما كان لجماهير الشعوب الإسلامية من
حسن الظن وقوة الرجاء بالدولة ، ومن سوء الظن بالوهابيين ، أما وقد حدثت في
هذا العهد، فإننا نرى ضلع الرأي الإسلامي العام مع الوهابيين؛ لأن ما كان خفيًّا من
قوة دينهم ، واعتصامهم بالسنة ، ورفضهم للبدع ، وكراهتهم للسلطة أو النفوذ
الأجنبي قد ظهر لخواص المسلمين ، وبدأ يظهر لعوامهم ، ولأن جميع الشعوب
الإسلامية تمقت هذا الرجل الذي تولى أعداء الإسلام في الحرب والسلم ، فنصرهم
على المسلمين ، واعتمد عليهم في طمعه في خلافة الإسلام ، وملك العرب تحت
ظلهم وحمايتهم ، فبمساعدته ومساعدة أولاده استولوا على البلاد العربية ، التي هي
مهد حضارة الإسلام من حدود مصر إلى خليج فارس ، ويحاولون جعل ما بقي
للعرب من عقر دارهم في جزيرتهم المقدسة تحت ظل تلك الدولة ، التي جعلته ملكًا
مستبدًّا في الحجاز؛ ليهون على أهله وضعه تحت سيادتهم مباشرة في يوم من الأيام ،
وسمت أحد أولاده ملك العراق ، وآخر منهم أمير الشرق العربي أو أمير شرق
الأردن ، ويطمع أن تسميه ملك فلسطين ليخضع لها مسلميها، كما أمنها تعدي
الأعراب المجاورين لها.
فقد ظهر لجميع شعوب العالم الإسلامي أن هذا الرجل وأولاده هم شر نكبة
نكب بها الإسلام في هذا العصر ، فصارت تتمنى زوال سلطته عن مهد الإسلام ،
وترى أنه لا يرجى لذلك غير هؤلاء النجديين البواسل ، الذين صارحهم هو بالعداوة
والأذى بما جدد من دعاية سلفه الطالح من الطعن في دينهم ورميهم بالكفر ، وادعائه
أن الإسلام يوجب عليه قتالهم ، والمصلحة العربية توجب عليه إخضاعهم لسطانه ،
وجعلهم تابعين لملكه ، ومنعهم من أداء فريضة الحج - على ما عرف عنهم من إباء
الضيم ، وعدم الصبر على انتهاك حرمات الله - إلى تحكمه ما شاء في إقامة ركن
الدين الاجتماعي العام في بيت الله ، وظلم من شاء فيه بالضرائب المختلفة ، وظلم
أهله في كل شيء ، فهذه أسباب الرجاء في النجديين بالإجمال [1] ، لا حب التوسع
في السلطان ، والتبسط في الملك الذي يرميهم به هو ودعاته وجرائده من باب
(رمتني بدائها وانسلت) ، ونحمد الله تعالى أن هؤلاء الدعاة قلوا ، وقلت الجرائد
التي تنشر لهم إفكهم وبهتانهم.
ولكن بقي من الناس من يسيئون الظن بالوهابية ، ويظنون أنهم أصحاب
مذهب مبتدع في الإسلام ، وذلك بتأثير الدعاية المنتشرة منذ قرن وربع قرن في
الطعن فيهم؛ وبتأثير انتشار البدع واشتهارها حتى صار بها المعروف منكرًا
والمنكر معروفًا ، فالآخذون بهذه البدع يعدون كل منكر لها وهابيًّا ، ويضيفون إلى
ذلك ما حفظوه من البهتان الذي جدده الملك حسين في جريدته القبلة من رميهم
بتكفير من عداهم من المسلمين ، وإنكار شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ، وتحريم
الصلاة عليه ، وزيارة قبره كسائر القبور ، بل تجرأ المكي وأمثاله على رميهم
بالطعن في شخصه الأكمل ، وتفضيل العصا عليه برأه الله تعالى ، ولعن كل
مجترئ على مقامه الشريف.
هذه البهائت كان يبهتهم بها أمير مكة وأعوانه في أوائل القرن الثالث عشر
للهجرة عند ظهور أمرهم؛ لتنفير المسلمين منهم ، ولما استولوا على مكة المكرمة
سنة 1218 بقيادة الأمير سعود ، جمعوا علماءها وفي مقدمتهم: مفتي الحنفية ،
ومفتي المالكية ، وبينوا لهم مذهبهم ، وخطتهم في تجديد دعوة الإسلام ، فوافقوهم
عليها ، وذكروا لهم ما كان أذيع من الطعن الذي أشرنا إليه آنفًا فتعجبوا وتبرؤوا منه.
إننا لم نر أحدًا من البهاتين الذين يطعنون فيهم ينقل شيئًا من كتبهم ، ونحن
في بياننا للحقيقة ننقل من كتبهم ومن كتب غيرهم ، ولا نقول شيئًا من عندنا بغير
دليل.
بيان الوهابية لمذهبهم:
جاء في رسالة للشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب المجدد صاحب
الدعوة ، وصف فيها دخول جماعتهم مكة مع الأمير سعود سنة 1218 ، ومناظرتهم
للعلماء فيها ، وإعطاءهم رسائل والده الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، وكان مع
علماء مكة الذين حضروا مجالسه حسين الأبريقي الحضرمي ثم الحياني ، وكان
يسأل عن أصل هذه الدعوة. قال الشيخ عبد الله ما نصه:
(فأجبناه بأن مذهبنا في الأصول مذهب أهل السنة والجماعة ، وطريقنا
طريقة السلف التي هي الطريق الأسلم والأعلم والأحكم ، خلافاً لمن قال: طريقة
الخلف أعلم. وهي أننا نقر آيات الصفات وأحاديثها على ظاهرها ، ونكل علمها
إلى الله مع اعتقاد حقائقها ، فإن مالكًا وهو من أجل علماء السلف لما سئل عن
الاستواء في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) قال:
الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة.
ثم قال: (ونحن أيضًا في الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل ، ولا
ننكر على من قلد أحد الأئمة الأربعة دون غيرهم) إلخ (ص 44 من كتاب الهدية
السنية والتحفة النجدية) .
ثم قال: (وأما ما يكذب علينا سترًا للحق ، وتلبيسًا على الخلق بأنا نفسر
القرآن برأينا ، ونأخذ من الأحاديث ما وافق أهواءنا ، من دون مراجعة شرح ، ولا
تعويل على شيخ ، وأنا نضع من رتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقولنا:
النبي رمة في قبره ، وعصا أحدنا أنفع لنا منه ، وليس له شفاعة ، وأن زيارته غير
مندوبة ، وأنه كان لا يعرف معنى لا إله إلا الله حتى نزل عليه: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ
إِلَاّ اللَّهُ} (محمد: 19) مع كون الآية مدنية وأنا لا نعتمد على أقوال العلماء، فنتلف
مؤلفات أهل المذاهب ، لكون فيها الحق والباطل، وأنا نكفر الناس على الإطلاق ،
أهل زماننا ومن بعد الستمائة إلا من هو على ما نحن عليه، ومن فروع ذلك أنا لا نقبل بيعة أحد إلا بعد التقرير عليه أنه كان مشركًا ، وأن أبويه ماتا على الشرك
بالله ، وأننا ننهى عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، ونحرم زيارة القبور
المشروعة مطلقًا؛ وأن من دان بما نحن عليه سقطت عنه جميع التبعات حتى
الديون؛ وأنا لا نرى حق أهل البيت رضوان الله عليهم) إلخ.
ثم قال: (فجميع هذه الخرافات (أي: التقولات) وأشباهها لما استفهمنا عنها
من ذكر أولاً؛ كان جوابنا في كل مسألة من ذلك: (سبحانك هذا بهتان عظيم) فمن
روى عنا شيئًا من ذلك أو نسبه إلينا ، فقد كذب علينا وافترى ، ومن شاهد حالنا ،
وحضر مجالسنا ، وتحقق ما عندنا ، علم قطعيًّا أن جميع ذلك وضعه علينا وافتراه
أعداء الدين ، وإخوان الشياطين ، تنفيرًا للناس عن الإذعان بإخلاص التوحيد لله
تعالى بالعبادة ، وترك أنواع الشرك الذي نص الله عليه ، بأن الله لا يغفره ويغفر ما
دون ذلك لمن يشاء) إلخ (ص 46 من الهدية) .
ثم قال: (والذي نعتقده أن رتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أعلى مراتب
المخلوقين على الإطلاق ، وأنه حي في قبره حياة برزخية ، أبلغ من حياة الشهداء
المنصوص عليه في التنزيل؛ إذ هو أفضل منهم بلا ريب ، وأنه يسمع سلام المسلم
عليه ، وتسن زيارته ، إلا أنه لا يشد الرحل إلا لزيارة المسجد والصلاة فيه. وإذا
قصد مع ذلك الزيارة فلا بأس ، ومن أنفق نفيس أوقاته بالاشتغال بالصلاة عليه
عليه الصلاة والسلام الواردة عنه - فقد فاز بسعادة الدارين ، وكفي همه وغمه كما
جاء في الحديث عنه ، ولا ننكر كرامات الأولياء ، ونعترف لهم بالحق ، وأنهم على
هدى من ربهم متى ساروا على الطريقة الشرعية ، والقوانين المرعية ، إلا أنهم لا
يستحقون شيئًا من أنواع العبادات لا في الحياة ولا في الممات) إلخ ما فصل به
ذلك الإجمال من إنكار ما بهتوا به ، فمن شاء التفصيل فليطالع (الهدية السنية
والتحفة الوهابية النجدية) ، وهي توزع في مكتبة المنار بغير ثمن.
وقد كنت لدى الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر في أوائل الشهر الماضي ،
فذكرت الوهابية ، وسبب الطعن فيهم ، وكان من حاضري المجلس الأستاذ الشيخ
عبد المجيد اللبان، والأستاذ الشيخ محمد شاكر، والأستاذ الشيخ أحمد هارون،
والأستاذ الشيخ الظواهري وغيرهم ، فبينت لهم تاريخ المسألة ، ومن كتب فيها
على بينة من المؤرخين عند استيلاء الأمير سعود على الحجاز ، ثم ذهب أحد سعاة
سكرتارية الأزهر إلى مكتبة المنار ، فجاء بعشرات النسخ من الهدية السنية ،
ووزعت عليهم ، وقرأ الأستاذ الأكبر ما نقلناه هنا ، وما فصل فيها مما لم ننقله ،
واعترف بأنه مذهب أهل السنة والجماعة ، إلا أنه قال: إن حديث: (لا تُشَدّ
الرِحال إلا إلى ثلاثةِ مساجد: مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى) قد أوّله
العلماء. قلت: وهم قد أخذوا بظاهره تبعًا لبعض المحققين من علمائهم - أعني
الحنابلة - وأزيد أن بعض الشافعية والمالكية حرم شد الرحال؛ لزيارة قبور
الصالحين؛ كالإمام الجويني والد إمام الحرمين ، واختاره القاضي عياض في
شرحه لصحيح مسلم ، كما نقله عنه النووي، فأخذ الوهابية بذلك لهم سلف فيه ،
وليسوا أول من قال به.
شهادة التاريخ للوهابية:
نكتفي هنا بشهادتين عادلتين لمؤرخين كبيرين نقلا عن العدول المعاصرين
لظهور الوهابية ، واستيلاء أمير نجد بقوتهم على الحجاز.
الشهادة الأولى: قال المؤرخ الشيخ عبد الرحمن الجبرتي الأزهري في أول
حوادث سنة 1227 من تاريخه نقلاً عن بعض أكابر رجال جيش محمد علي باشا
الذين قاتلوا الوهابية في الحجاز ما نصه:
(ولقد قال لي بعض أكابرهم من الذين يدعون الصلاح والتورع: أين لنا
بالنصر وأكثر عساكرنا على غير الملة ، وفيهم من لا يتدين بدين ، ولا ينتحل
مذهبًا ، وصحبتنا صناديق المسكرات ، ولا يسمع في عرضينا أذان ، ولا تقام فيه
فريضة ، ولا يخطر في بالهم ولا خاطرهم شعائر الدين ، والقوم - يعني: الوهابية - إذا دخل الوقت، أذن المؤذنون وينتظمون صفوفًا خلف إمام واحد بخشوع
وخضوع ، وإذا حان وقت الصلاة والحرب قائم أذن المؤذنون وصلوا صلاة
الخوف ، فتتقدم طائفة الحرب ، وتتأخر الأخرى للصلاة ، وعسكرنا يتعجبون من
ذلك؛ لأنهم لم يسمعوا به فضلاً عن رؤيته ، وينادون في معسكرهم: هلموا إلى
حرب المشركين المحلقين الذقون ، والمستبيحين الزنا واللواط ، الشاربين الخمور ،
التاركين للصلاة ، الآكلين الربا ، والقاتلين الأنفس ، المستحلين المحرمات ، وكشفوا
عن كثير من قتلى العسكر ، فوجدوهم غير مختونين) اهـ (ص 140 ج 4
من الطبعة الأميرية) وفيه من فظائع العسكر وفواحشه ، ما لا حاجة إلى ذكره.
ومن المعلوم أن جيش محمد علي كان أخلاطًا من شعوب وملل شتى ، ولم
يكن مؤلفًا باعتبار أنه جيش إسلامي يقيم شعائر الإسلام ، ويحافظ على فرائضه ،
ويراعي أحكامه في القتال وغيره ، بل لم يكن جيش الدولة العثمانية المنظم كذلك ،
وهي التي كانت توصف بأنها دولة الخلافة ، وأما ظن ناقل الخبر للجبرتي أنهم لا
ينصرون ، وحالتهم ما ذكر؛ فسببه أنه يعتقد أن الفسق بمنع النصر ، وليس كذلك ،
فإن من استوفى أسباب النصر من كثرة العسكر ، ونظامه وعدته ، ينتصر على من
ليس كذلك.
(الشهادة الثانية) ما جاء في كتاب (الاستقصا لأخبار دول المغرب
الأقصى) .
للعلامة الشيخ أحمد الناصري السلاوي. فإنه ذكر في الجزء الرابع منه خبر
وصول كتاب صاحب الحجاز عبد الله بن سعود الوهابي إلى فاس ، وخلاصة
وجيزة عن أصل الوهابية ، لا تخلو من غلط ، ثم ذكر أن سلطان فارس أرسل
جواب ذلك الكتاب مع ولده ، الذي سافر مع بعض العلماء إلى الحجاز ، وهذا نص
خبره (ص 145 من الجزء الرابع المطبوع بمصر) قال:
حج المولى أبي إسحق إبراهيم ابن السلطان المولى سليمان رحمه الله.
وفي هذه السنة - أعني سنة ست وعشرين ومائتين وألف - وجه السلطان
المولى سليمان رحمه الله ولده الأستاذ الأفضل المولى أبا إسحق إبراهيم بن
سليمان إلى الحجاز؛ لأداء فريضة الحج مع الركب النبوي الذى جرت العادة
بخروجه من فاس على هيئة بديعة من الاحتفال، وإبراز الأخبية لظاهر البلد ، وقرع
الطبول ، وإظهار الزينة ، وكانت الملوك تعتني بذلك ، وتختار له أصناف الناس
من العلماء والأعيان والتجار ، والقاضي وشيخ الركب وغير ذلك مما يضاهي ركب
مصر والشام وغيرهما ، فوجه السلطان ولده المذكور في جماعة من علماء العرب
وأعيانه ، مثل الفقيه العلامة القاضي أبي الفضل العباس بن كيران، والفقيه الشريف
البركة المولى الأمين ابن جعفر الحسني الرتبي ، والفقيه العلامة الشهير أبي
عبد الله محمد العربي الساحلي وغيرهم من علماء المغرب وشيوخه ، فوصلوا إلى
الحجاز ، وقضوا المناسك ، وزاروا الروضة المشرفة ، على حين تعذر ذلك، وعدم
استيفائه على ما ينبغي؛ لاشتداد شوكة الوهابيين يومئذ ، ومضايقتهم لحجاج الآفاق
في أمور حجهم وزيارتهم إلا على مقتضى مذهبهم.
حكى صاحب الجيش أن المولى إبراهيم ذهب إلى الحج واستصحب معه
جواب السلطان ، فكان سببًا لتسهيل الأمر عليهم ، وعلى كل من تعلق بهم من
الحجاج شرقًا وغربًا حتى قضوا مناسكهم وزيارتهم على الأمن والأمان والبر
والإحسان ، قال: حدثنا جماعة وافرة ممن حج مع المولى إبراهيم في تلك السنة
أنهم ما رأوا من ذلك السلطان - يعني ابن سعود - ما يخالف ما عرفوه من ظاهر
الشريعة ، وإنما شاهدوا منه ومن أتباعه ما به الاستقامة والقيام بشعائر الإسلام من
صلاة وطهارة وصيام ، ونهي عن المنكر الحرام، وتنقية الحرمين الشريفين من
القاذورات والآثام التي كانت تفعل بهما جهارًا من غير نكير ، وذكروا أن حاله
كحال آحاد الناس لا يتميز عن غيره بزي ولا مركوب ولا لباس ، وأنه لما
اجتمع بالشريف المولى إبراهيم أظهر له التعظيم الواجب لأهل البيت الكريم ،
وجلس معه كجلوس أحد أصحابه وحاشيته. وكان الذي تولى الكلام معه هو الفقيه
القاضي أبو إسحاق إبراهيم الزداغي ، فكان من جملة ما قاله ابن سعود لهم:
إن الناس يزعمون أننا مخالفون للسنة المحمدية ، فأي شيء رأيتمونا خالفنا
من السنة؟ وأي شيء سمعتموه عنا قبل اجتماعكم بنا؟ فقال له القاضي: بلغنا أنكم
تقولون بالاستواء الذاتي المستلزم لجسمية المستوي. فقال لهم: معاذ الله! إنما
نقول كما قال مالك: الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والسؤال عنه بدعة ، فهل
في هذا من مخالفة؟ قالوا: لا، وبمثل هذا نقول نحن أيضًا. ثم قال له القاضي:
وبلغنا عنكم أنكم تقولون بعدم حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، وحياة إخوانه من
الأنبياء علهم الصلاة والسلام في قبورهم. فلما سمع ذكر النبي صلى الله عليه وسلم
ارتعد ، ورفع صوته بالصلاة عليه ، وقال: معاذ الله! إنما نقول: إنه صلى الله عليه
وسلم حي في قبره ، وكذا غيره من الأنبياء حياة فوق حياة الشهداء ، ثم قال له
القاضي: وبلغنا أنكم تمنعون من زيارته صلى الله عليه وسلم وزيارة سائر الأموات
مع ثبوتها في الصحاح التي لا يمكن إنكارها ، فقال: معاذ الله أن ننكر ما ثبت في
شرعنا ، وهل منعناكم أنتم لما عرفنا أنكم تعرفون كيفيتها وآدابها؟ وإنما نمنع منها
العامة الذين يشركون العبودية بالألوهية ، ويطلبون من الأموات أن تقضي لهم
أغراضهم التي لا تقضيها إلا الربوبية.
وإنما سبيل الزيارة الاعتبار بحال الموتى ، وتذكر مصير الزائر إلى ما صار
إليه المزور ، ثم يدعو له بالمغفرة ، ويستشفع به إلى الله تعالى ، ويسأل الله المنفرد
بالإعطاء والمنع بجاه ذلك الميت ، إن كان ممن يليق أن يستشفع به. هذا قول إمامنا
أحمد بن حنبل رضي الله عنه ولما كان العوام في غاية البعد عن إدراك هذا
المعنى منعناهم؛ سدًّا للذريعة ، فأي مخالفة في هذا القدر اهـ. ثم قال صاحب
الجيش: هذا ما حدث به أولئك المذكورون سمعنا ذلك من بعضهم جماعة ، ثم سألنا
الباقي أفرادًا فاتفق خبرهم على ذلك اهـ.
وذكر المؤلف بعد هذا الخبر بحثًا في زيارة القبور ، رجح فيه القول بمنع
زيارة الأولياء؛ سدًّا للذريعة مع بيان العلة وإشهارها بين الناس ، وذكر أن سلطان
المغرب المولى سليمان رحمه الله كان يرى هذا ، وألف فيه رسالته المشهورة ،
وأن الشيخ الفقيه الصوفي أبا العباس التيجاني كان يرى هذا ، ونهى أصحابه عن
زيارة الأولياء اهـ ملخصًا.
والشيخ أحمد التيجاني المذكور ، قد انتشرت طريقته في جميع بلاد المغرب
الأقصى والأدنى ، حتى إن أتباعه يعدون بالملايين إلى هذا العهد.
وما نقله من كلام الأمير الوهابي في مسألة الاستشفاع معزوًّا إلى الإمام أحمد ،
يظهر أنه لم ينقل بحروفه ، فإن الإمام أحمد رضي الله عنه لا يعرف عنه
ولا عن علماء الوهابية. مثل هذا القول فيما نعلم والله أعلم.
وسنبين في مقال آخر أن المتغلب على الحجاز اليوم هو الذي يكفر المسلمين
الذين يعاديهم ويعادونه ، فقد كفر الترك والمصريين كما كفر الوهابية ، ونبين أن ما
فعله النجديون من الزحف؛ لإنقاذ الحجاز من بغيه هو من فروض الكفاية على الأمة
الإسلامية ، قد قاموا به ، فإذا ظفروا ارتفع الإثم عن جميع المسلمين ، وإلا وجب
ذلك على غيرهم.
***
المقالة الثانية
في الأسباب العامة لزحف الوهابيين على الحجاز
تمهيد: طريقتنا في الكتابة:
إننا نكتب ما نكتب في هذا الموضوع لبيان الحق وأداء النصح الواجب للأمة
الإسلامية وللشعب العربي ، وقد عاهدنا الله تعالى على أن لا نؤثر على الحق
والنصح شيئًا ، وأنه إذا ظهر لنا أننا أخطأنا في شيء ، فإننا نرجع عنه ، ونعلن
ذلك إعلانًا.
فما كان في كلامنا من خبر ، فإننا مستعدون لإثباته بالنقل عن المصادر التي
لا نزاع فيها ، وأكثرها رسمية حقيقة أو حكمًا ، (وهذا ما يسميه كتاب هذا العصر
شبيهًا الرسمي) كأقوال جريدة القبلة التي لا تعزوها إلى الملك حسين ولا إلى
حكومته (التي هي هو) .
وما كان من حكم شرعي، فإننا تذكر بالدليل ، ونعرضه على علماء الإسلام في
العالم كله ، فإن كتب إلينا أو كلمنا أحد منهم بما يقنعنا بأننا أخطأنا في شيء منه ،
فإننا نرجع إلى الحق ، ونعلن ذلك لمن اطلع على كلامنا حيث اطلع عليه ، وإلا بينا
له خطأه بالدليل ، مع التزام الأدب الذي نطالبه به ، ونعرض كلامنا وكلامه على
الجمهور.
وما كان من رأي؛ فإننا لا نأبى مناقشة أهل الرأي فيه على شرطنا فيما قبله ،
ومنه: أن يرسل الرد إلينا ، أو إلى الصحيفة التي تنشر فيها كلامنا ، ولسنا نكلف أن
نطلع على جميع الجرائد ، وما عساه يوجد في بعضها من نقد أو طعن فنرد عليه ،
ولا أن نرد على من يخرج عن شروط المناظرة وآدابها ، وإنما نرد على من ينكر
بالدليل صدق خبر من أخبارنا ، أو صحة دليل من أدلتنا ، أو بطلان رأي من آرائنا؛
لأننا نتحرى الحق والصواب في هذه الثلاثة ، وندور معه إن شاء الله تعالى
حيث دار.
إننا أفتينا ببطلان بيعة حسين بن علي بالخلافة ، وسردنا الدلائل الشرعية
على ذلك ، ونشرت الفتوى في مجلتنا المنار ، وفي جريدتي الأهرام والمحروسة ،
وبينا في هذه الفتوى ، وفي مقالات أخرى في المنار أن هذه البيعة على بطلانها
تضر الأمة العربية ، وتزيد الشقاق بين شعوبها وحكوماتها ، فصدقت الحوادث رأينا،
ولم يرد عليه أحد فيما نعلم ، وإننا بينا حقيقة حال خصومه النجديين في مذهبهم
بالنقل من كتبهم ومن كتب التاريخ المشهورة ، ولم نذكر من عندنا كلمة واحدة ،
ولن يستطيع أحد أن ينكر كلمة من نقلنا.
وقد بينا مواضعه حتى ذكرنا أعداد الصفحات والأجزاء التي نقلنا
عنها؛ لذلك وقع أحسن موقع من أنفس الناس الذين قرؤوا مقالنا الأخير الذي نشرناه
في جريدة الأهرام ، واستزادونا من الكتابة في هذا الموضوع ، وكثر طلاب (التحفة
السنية والهدية الوهابية) من القاهرة ومن جميع أرجاء القطر المصري ،
ومما جاوره، حتى صار جل عمل مكتبة المنار منذ نشرت المقالة توزيع هذه
الرسالة ، فكان هذا سببًا لمعرفة الألوف الكثيرة من الناس، ما كانوا يجهلون من
حقيقة أهل هذا القطر الإسلامي ، الذين هم أشد مسلمي هذا العصر حرصًا على السنة السنية ، وعناية بالاعتصام بعروتها الوثقى ، وكان أمرهم مجهولاً عند
الأكثرين.
بل كانوا يوصفون بضد ما هم عليه بما يذيعه حسين بن علي وأعوانه من
الطعن في دينهم تبعًا لما أذاعه سلفه في إمارة الحجاز ، ومقلدوهم من مدة قرن وربع
قرن حين فتحوا الحجاز للمرة الأولى ، حتى كتب أخيرًا بعض من لا قيمة للحق
والصدق عندهم مقالات في بعض الجرائد كلها زور وبهتان ، هبط الافتراء ببعضهم
فيها إلى رميهم بأنهم يسعون لإبطال دين الإسلام ، تميهدًا لنشر دعوة المبشرين
(دعاة النصرانية) ، فكانت هذه فرية عجز عن مثلها الشيطان الرجيم ، ولم تخطر
(ببال منقذ العرب والمسلمين) .
وإننا في هذا المقال وما بعده نبين للناس كافة ، ولأهل الغيرة الإسلامية
والجامعة العربية خاصة ، أسباب زحف النجديين لإنقاذ الحجاز من هذا المتغلب
عليه المستبد فيه ، الظالم لأهله ، ولمن يحجونه من سائر المسلمين. وسيعلمون مما
نورده من الحقائق الجلية ، والشواهد الرسمية وشبه الرسمية أن سلطان نجد لم يفعل
هذا طمعًا في توسيع ملكه ، ولا لمجرد المحافظة على حقه ، بل خدمة للملة
الإسلامية والأمة العربية ، وإن كان الأمر الثاني وحده يوجب عليه ذلك شرعًا
وعرفًا. ونبدأ بذكر الأسباب العامة فنذكرها بالإيجاز؛ لأنها صارت مشهورة، إلا أنه
يقل من يحفظها كلها ، ويستحضر ذكرها ، ثم من يخلص في بيان ذلك للناس ، ولهذا
نرى ما يتعجب منه من الخبط والخلط والباطل في مقالات بعض الكتاب ، حتى من
تصدى لتمحيص أمثال هذه المسائل خاصة.
***
الأسباب العامة
لزحف النجديين على الحجاز
(السبب الأول) :
ما هو معلوم بالتواتر القطعي وبالوثائق الرسمية ، من موالاة شريف مكة
حسين بن علي وأولاده للدولة البريطانية وحلفائها في الحرب الأخيرة ، ونصرهم
إياهن على الدولة العثمانية في فتح البلاد العربية ، وأنه كان يهنئ الدولة
البريطانية كلما فتحت مدينة من أمصار الإسلام وعواصم الحضارة العربية؛
كالقدس الشريف ، وبغداد ، ودمشق ، ثم اقتسموا هذه البلاد فأعطوه ولاية الحجاز ،
وأخذوا هم ولايات العراق وسورية والقدس الشريف ، حتى إنهم اقتسموا سكة
الحديد الحجازية أيضًا التي هي وقف إسلامي أنشئ لتسهيل إقامة ركن إسلامي.
فأما تولي المسلم لغير المسلمين في القتال ، وفتح بلاد المسلمين فحكمه الديني
معلوم بنص القرآن المجيد وكتب الشريعة ، وحسبنا منه قوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّهُم
مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ} (المائدة: 51) ، وأما عاقبته في
الأمة العربية؛ فهي استيلاء الأجانب على مهد حضارتها وعمرانها ، وأخصب
أقطارها ، وأعظم موارد ثروتها ، وجعل ما بقي لها من جزيرتها المقدسة محاطًا به
من البر كالبحر ، ومهددًا بفقدان استقلاله في كل وقت، والتهديد شامل للحرمين
الشريفين بالتبع لثالثهما ، وهو المسجد الأقصى، حتى لا يبقى لهما استقلال في دين
ولا دولة.
(فإن قيل) : إن هذا الرجل وأولاده يدعون بأنهم ما فعلوا هذا إلا لإنقاذ
البلاد العربية واستقلال العرب (قلنا) : إننا نحن نبين الحق الواقع، لا إفك
السياسة ومعالطاتها ، وكذبها ومكابرتها ، وإلا فإن الإنكليز قالوا ولا يزالون
يقولون مثل هذا القول من احتلالهم لمصر ، وفي إكراه وزير من وزرائها على
تسميته إياهم شركاء لمصر في بلاد السودان ، وفي زعمهم الآن أن السودان يجب أن
يكون في أيديهم وحدهم؛ لأن لهم مصالح فيه ، ولإتمام سعادة السودانيين.
(فإن قيل) : إن ثورة الشريف التي يسميها النهضة إنما بنيت على القصد
الصحيح المذكور ، ثم ظهر له أن حلفاء خدعوه ، وأخلفوا وعده ، ونكثوا عهده ،
ولا عجب فقد خدعوا رئيس أعظم دولة في العالم كما خدعوه ، وهو رئيس دولة
الولايات المتحدة في أميركا (قلنا) : إن هذا باطل كالذي قبله، كما يعلم من
الأسباب الآتية ، وربما كان من أسباب إرجاء ابن سعود الزحف على الحجاز إلى
الآن؛ لأجل استعراف نتيجة هذه الأقوال.
(السبب الثاني) :
إن الشريف حسينًا وأولاده لا يزالون مصرين على موالاة حلفائهم الأجانب ،
ومودتهم ومساعدتهم على تثبيت أقدامهم في البلاد العربية ، مع ادعائه هو دون
أولاده بأنهم خدعوه وغشوه؛ لأنه أشدهم رياءً وخداعًا وإفكًا ، ولذلك يناقض نفسه ،
ويبطل بعض كلامه بعضًا ، وها نحن أولاء قد قرأنا في عدد جريدة القبلة 810
الذي صدر في عشرة المحرم فاتحة هذا العام 1343 تصريحًا رسميًّا له بالثبات
على مودتهم في منشور باسمه سماه (منشور عيد البيعة الأولى) وما أكثر أعياده
بمصائب العرب والإسلام! !
فقد قال فيه ما نصه:
(وإنا لا نزال ساعين لتأييد المودة وتأكيد الروابط بيننا وبين حلفائنا العظام)
فما هذا التأييد والتأكيد إن كان صادقًا في قوله: إنه مخدوع ، منكوث العهد ،
مكذوب الوعد؟
ولماذا يصر على السعي لعقد المعاهدات معهم ، والنبي الذي يدعي هو وحكومته
اتباعه له دون المسلمين كافة والوهابيين خاصة يقول: (لا يلدغ المؤمن من جحر
مرتين) رواه البخاري ومسلم ، وغيرهما. دع ما ورد في أمثال هذه الموادة
والمعاهدات في سورتي الممتحنة والتوبة ، مما ينافي الإسلام نفسه.
(السبب الثالث) :
إن ما يسميه النهضة قد بني على أساس الحماية البريطانية للمملكة العربية ،
التي طلب من الإنكليز أن يؤسسوها له ، كما فضحها ولده الشريف فيصل في
دمشق الشام ، بنشره نص مقرراتها الرسمي في جريدة المفيد ، ثم نقلتها الصحف
الكثيرة في المشرق والغرب ، وهذا نص المادة الثانية منها بحروفه ، كما كتبها
حسين بن علي بيده الأثيمة الخاطئة.
(2)
تتعهد بريطانية العظمى بالمحافظة على هذه الحكومة وصيانتها من أي
مداخلة كانت، بأي صورة كانت في داخليتها ، وسلامة حدودها البرية والبحرية من
أي تعد بأي شكل يكون ، حتى ولو وقع قيام داخلي من دسائس الأعداء أو من حسد
بعض الأمراء إلخ.
ولكن الإنكليز لما لم يسمحوا له بغير الحجاز من البلاد العربية التي طلب أن
يكون ملكها تحت حمايتهم ، لم يكن من مصلحتهم أن يقبلوا رسميًّا جعل الحجاز
تحت حمايتهم ، وهو لا يزال مصرًّا على هذه المقررات ، ويعد من أعظم النعم
عليه أن يكون موظفًا بريطانيًّا في الحجاز كبعض النواب والرجوات في بعض
الولايات الهندية ، التي تسمى مستقلة في بطن الحِضْجَر الواسع [2] .
ومن الدلالة على ذلك أنه طلب مرارًا من الدولة البريطانية إقالته من ملك
الحجاز ، وتنصيب غيره بدلاً منه ، وأرسل مرة إلى مدير جريدة التيمس برقية إليه
رغب إليه فيها أن يتوسل لدى حكومته؛ لقبول استقالته ، وهذا نص البرقية منقولاً
عن العدد 553 من (جريدة القبلة) :
المدير العمومي لصحفية التيمس
(اطلعت على عددكم المشتمل الرد والقدح باتحاد العرب ، والتزامكم أحد
أمرائهم ، ولزيادة إقناع حكومة جلالة الملك ، وإيضاح الحقيقة لعموم الشعب النجيب
البريطاني ، أكرر بهذا طلبي بواسطتكم من حكومة جلالته تأكيد تعيين الأمير
المذكور أو من تراه ليستلم البلاد) إلخ. والمراد بالأمير المشار إليه: سلطان نجد؛
إذ كانت جريدة التيمس مدحته بمقال لها.
وكان قد أرسل إلى نائب ملك الإنجليز بمصر كتابًا في 20ذي القعدة سنة
1336 ، نشره في جريدته القبلة مرارًا؛ لاعتقاده أنه من معجزات السياسة أو
الكياسة والبلاغة ، استغاث فيه الدولة البريطانية أن لا تعدل مقررات نهضته المبنية
على الحماية ، ولا تعرض الانفاق معه على مؤتمر الصلح ، قال فيه ما نصه السقيم:
(فإن كان ولا بد من التعديل فلا لي سوى الاعتزال والانسحاب ، ولا أشتبه
في مجد بريطانيا أن يتلقى هذا منا ، إلا أنه أمر يتعلق بالحياة لا لقصد عرضي ،
ولا لفكر غرضي ، وأنها لا ترتاب في أني وأولادي أصدقاؤها الذين لا تغيرهم
الطوارئ والأيام ، ثم تعينوا البلاد التي تستحسن إقامتنا فيها بالسفر إليها في أول
فرصة) .
ثم أجاب عن تعليق أمر مطالبه بالمؤتمر وختم كلامه بقوله:
(ولو قرر المؤتمر المذكور أضعاف مقرراتنا ، وكان ذلك من غير وساطتكم
وقبلناها ، فنكن (؟) مطرودين من رحمة الباري - جل شأنه - الرقيب على قولي
هذا) اهـ بحروفه من العدد 391 من جريدته القبلة ، الذي صدر في 23
رمضان سنة 1338 ، ومنه يعلم أن الدولة البريطانية عنده كالمعبود ، فلا يعاملها
معاملة مبنية على المصلحة فقط.
(السبب الرابع) :
رضاه باستخدام الدولة البريطانية لأولاده في العراق وشرق الأردن؛ لتخدير
أعصاب بدو البلاد وحضرها ، وحملهم على الرضاء بما يؤسس فيها من حظائر
الطيارات الحربية ، وتعبيد الطرق في قلب الجزيرة للسيارات والدبابات ، ومد
سكك الحديد العسكرية والتجارية؛ لتمكين سلطانها فيها ، فإن العرب إذ قاوموها
قبل ذلك فالراجح أنها تضطر إلى ترك بلادهم لهم؛ لئلا تضطرها المقاومة العملية
إلى بذل ألوف الملايين من المال ومئات الألوف من الرجال ، وذلك ما لا يأذن لها
به برلمانها ، ولا تسكت عليه أمتها في هذا الوقت التي أرهقتها فيه الضرائب وإذا
هي تم لها بنفوذ هؤلاء الحجازيين ما شرعت فيه من ذلك ، فرسخت أقدامها ،
واستقرت قوتها ، فلن تخرج من البلاد ولن ترضى إلا الاستيلاء على سائر جزيرة
العرب؛ للمحافظة على ما تسميه مصالحها وطرق تجارتها ، وعلى ما تدعيه من
إسعاد البلاد وأهلها ، كما تقول في مسألة السودان. وهي عبرة للمخدوعين بهؤلاء
الحجازيين ، إن كانوا غير خائنين لأمتهم وبلادهم ولا جاهلين لمصلحتها ككثير من
البدو.
(السبب الخامس) :
جعل حرم الله تعالى الأمين مركز ملك حربي ، يحالف ملكه بعض الملوك
الأجانب غير المسلمين ، ويجعل لهم حقوقًا في الحرمين الشريفين غير مسألة
الحماية التي تقدم ذكرها ، ويعادي آخرين، ولا يجوز أن يجعل الحجاز مركزًا حربيًّا؛
أي عرضة للحرب؛ لأن ذلك قد يؤدي إلى منع الحج الذي هو ركن الإسلام
الاجتماعي العام الجامع للشعوب الإسلامية كلها ، وإنما مصلحة المسلمين عامة ،
وأهل الحجاز وجيرانهم خاصة - جعل الحجاز قطر حياد وسلام، والسعي لاعتراف
جميع الدول بذلك ، ولو فعل السيد حسين المكي ذلك، لاستغنى به عن معاداة جيرانه
من العرب ، والاستعداد لقتالهم، ولاستغنى عما هو شر من ذلك ، وهو إهانة نفسه
وبيته وأمته وملته ، وحرم الله وحرم رسوله بالالتجاء إلى حماية دولة غير مسلمة له
ولهما.
(السبب السادس) :
أنه سمى نفسه ملك العرب وملك البلاد العربية ، وحمله غروره بنفسه على
السعي لإقناع أمراء جزيرة العرب المستقلين بالاعتراف له بذلك، فسخروا من سعيه؛
لسوء سياسته ، وبناء ملكه على الحماية الأجنبية ، وضعفه ، وفساد إدارته ،
واعتقاد كل منهم واعتقاد رعيته وسائر العارفين بحالهم أنهم أحق بالملك منه ، ولكنه
لم يرجع عن دعواه ، بل أصر على ذلك ، وحاول التوصل إليه بقوة الأجانب الذين
جعلوا أحد أولاده ملكًا والآخر أميرًا مرشحًا للملك في دائرة إمبراطوريتهم المرنة ،
فهو قد اتخذ جميع أمراء الجزيرة المحيطين بالحجاز أعداءً له ، وحسبنا شاهدين
على هذا: ما صرح به لرئيس مؤتمر الجزيرة الذي أسسه؛ لبث دعايته وتمهيد
السبيل له؛ وما جرى في مؤتمر الكويت من الامتناع من الاتفاق الودي مع حكومة
نجد ، وإننا ننقل بعض كلامه في الشاهد الأول ، ونرجئ الثاني إلى بيان الأسباب
الخاصة لزحف النجديين على الحجاز:
نشرت جريدة القبلة في العدد 737 الذي صدر بمكة في 6 ربيع الآخر سنة
1342 بيانًا عامًّا من اللجنة التنفيذية لمؤتمر الجزيرة بإمضاء رئيسها محمد بن
علوي ، ذكر فيه ما صرح له به الملك حسين من تفسير الوحدة العربية التي يطلبها ،
وهو أنه رسمها على الأساس الآتي:
(وهو وحدة البلاد العربية واستقلالها ، بحيث تكون خارجيتها وعسكريتها
وسياستها العامة واحدة ، أما داخليتها فالإمارات العربية المعروفة بجزيرة العرب
تكون على ما كانت عليه قبل الحرب ، وأن كل أمير في أي إمارة من هذه الإمارات
الموروثة لهم من آبائهم وأجدادهم يستقل بداخليته صمن الحدود التي كانت عليها
إمارته قبل الحرب ، بشرط أن يرتبط مع المجموع الذي كل من خرج عنه منهم ،
أو شذ بالخروج عن الجامعة العربية يحكم عليه المجموع بمقتضى قوله تعالى:
{فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّه} (الحجرات: 9)
(وأما ما كان خارجًا عن حدود تلك الإمارات سواء كانت تلك الإمارات
قائمة بذاتها ضمن حدودها ، أو طرأ عليها الاغتصاب؛ كعسير قبل الحرب وابن
رشيد بعد الهدنة ، فلا بد من عودتهم إلى ما كانوا عله؛ كعودة الإمام يحيى إلى
صنعاء) .
ثم قال: (ولذلك فهذه هي الخطة التي عليها نحيا ، وعليها نموت ، وعليها
نبعث إن شاء الله من الآمنين؛ لذا فلا بد من إعادة آل رشيد وآل عايض إلى
إماراتهم وحدودهم وقبائلهم التي كانوا عليها وإعادة كل أمير من أمراء الجزيرة إلى
ما كان عليه قبل الحرب) إلى أن قال: (هذا الذي أدين الله عليه ، ولو لم تبق
إلا ذاتي وحياتي لأنفقتها في هذا السبيل) .
فهذا نص صريح من الملك حسين الذي سمى نفسه (ملك العرب وجميع
البلاد العربية) بمعاداة جميع أمراء جزيرة العرب ، وجعلهم معه في حالة حرب؛
لأنه يدين الله تعالى بسلب كل واحد منهم بعض البلاد التي في يده ، ويجعلهم تابعين
في السياسة الخارجية والحربية والإدارة العامة لملك العرب؛ أي: له.
أذاع عنه هذا في جريدة القبلة رئيس مؤتمر الجزيرة المستخدم عنده لهذا ،
وهو الذي يرسل البرقيات إلى العالم الآن في الافتراء على النجديين؛ لينفر العالم
منهم.
(السبب السابع) :
إلحاده بظلم أهل الحرم ، وإرهاقهم العسر من أمرهم بضرب المكوس الباهظة
على كل ما يرد إلى البلاد من الأقوات وغيرها ، وباحتكاره القوت الضروري وهو
الخبز بإبطاله جميع الأفران العامة الخاصة ، وإنشائه أفرانًا يكره الناس على الشراء
منها بالثمن الذي لا يمكن أن يزاحمه فيه أحد مع عدم المبالاة بقول النبي صلى الله
عليه وسلم: (احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه) رواه البخاري في تاريخه ،
وأبو داود في سننه ، وأكثر رواة التفسير المأثور من حديث يعلى بن أمية (رضي
الله عنه) ، وفي معناه روايات أخرى عن عمر وابن عمر رضي الله عنهما
مرفوعة وموقوفة ، وبغير ذلك من اغتصاب أوقاف الأشراف والأوقاف الأهلية في
المدينة المنورة وبالحبس والتنكيل والتعذيب وقطع الأطراف والقتل بغير حق يجيزه
الشرع ، ولا نطيل هنا في هذا ، وقد بيناه بالتفصيل في مجلة المنار ، ولدينا مزيد
وهو معروف عند أهل نجد.
(السبب الثامن) :
تحكمه بهواه في أمر فريضة الحج ، فهو يمنع منها من اتخذهم أعداءً له؛
كأهل نجد ، ويضرب على سائر الحجاج المكوس غير المشروعة باسم جوازات
السفر، ورسوم الصحة ، وغير ذلك مما أذاعه حجاج الآفاق في جميع الأقطار ،
وشرحناه بالتفصيل في مجلة المنار.
(السبب التاسع) :
نشره في جريدة القبلة أنه لا يوجد في العالم حكومة إسلامية تقيم الحدود
وتلتزم أحكام الشرع غير حكومته ، وتكفيره للترك والمصريين والنجديين ، وسنذكر
بعض الشواهد على هذا في المقال التالي.
(العاشر) :
ادعاؤه مع كل ذلك الخلافة الإسلامية الذي يقتضي أن كل من يخالفه ، ولا
يخضع لحكومته من الشعوب والحكومات الإسلامية من الخوارج البغاة الذين يجب
عليه وعلى سائر المسلمين قتالهم ، وقد ذكرنا آنفًا رأيه في إمارات جزيرة العرب
المجاورة للحجاز ، وتصريحه قبل إظهار دعوى الخلافة ، والدعوة العامة إلى
مبايعته بها بأنه يدين الله تعالى بجعلها تابعة لملك واحد ، وبعزمه الثابت على تنفيذ
ذلك بالقوة. فكيف يكون شأنه بعد هذه الدعوى؟ ومقتضاها عنده أنه يجب على أهل
هذه البلاد كسائر المسلمين أن يكونوا تابعين له خاضعين لحكمه.
فهذه الأسباب العامة توجب على من قدر من أمراء المسلمين أن ينقذوا الحجاز
من سلطة هذا المدعي المغرور كما فصلناه من قبل في المنار ، وسنجمل القول فيه
في المقال التالي الذي نبين فيه الأسباب الخاصة التي حملت أهل نجد على القيام
بهذا الفرض الكفائي ، وسبب تأنيهم في ذلك وهو الاحترام للحرم الشريف.
_________
(1)
وسيأتي بيانها بالتفصيل في المقالتين الثانية والثالثة.
(2)
الحضجر - بكسر فسكون ففتح -: العظيم البطن الواسعة ، وسميت به الضبع.
الكاتب: محمد رشيد رضا
بطل العرب والإسلام وأندلسهما الثانية
يعلم قراء المنار مما كتبت فيه بشأن انتصار إخواننا الترك على اليونان في
الحرب، وعلى الإنكليز في السياسة بعض ما كنت عليه من الغبطة والسرور ،
وإنما هو بعض ما كان في قلبي ، ويعلمون أنني نوهت بقواد الترك وزعمائهم ،
وفضلتهم على جميع من تصدى لزعامة العرب في هذا العصر ، ولا سيما الشيخ
حسين بن علي المكي وأولاده ولا سيما فيصل وعبد الله الذين جاهرت بجهادهم في
المنار وغيره من الصحف منذ ألغيت المراقبة على الصحف في مصر.
ولكنني على ما كان من إعجابي ببسالة مصطفى كمال باشا زعيم هذه النجدة ،
وقائد هذه الغزوة ، لم أره مستحقًّا للقب بطل الإسلام الذي منحه إياه بعض الصحف
الإسلامية بمصر وغيرها ، ثم ندموا ووصفوه بعداوة الإسلام ، بل كان هذا مما
أنكرته على أشهر المنوهين به من كبار كتاب الصحف ، لكن قولاً لا كتابة؛ لأنني
كنت أعلم علمًا إجماليًّا أنه قائم بالعصبية التركية ، ولها يعمل لا للإسلام ، ثم صار
هذا الإجمال علمًا تفصيليًّا عندي قبل جماهير المسلمين وغيرهم.
وأما محمد عبد الكريم القائد العربي لجيش الريف المغربي ممزق الزحوف
الأسبانية ، وهازمها ، وقاتل قوادها ، ومذل دولتها. فإنني أحليه بلقب بطل العرب
والإسلام بحق ، بل نقول: إن ما اطلعنا عليه من بلائه وهو أقله يثبت أنه قد فضل
جميع قواد الدول وزعماء الأمم في نهضاتها الحربية والإدارية لا مصطفى كمال
باشا وحده ، وحسبنا في امتيازه على هذا مقال الكاتب السياسي الشهير صديقنا
الأمير شكيب أرسلان ، الذي نشرناه في الجزء التاسع (م 24) ، وهو أول من
أطلق عليه لقب بطل الإسلام من كبار كتاب السياسة المسلمين.
فأما كونه بطلاً في نفسه فقد ثبت بعمله الذي أعجب به العالم كله ، ونوهت به
صحف الشرق والغرب لجميع الأمم والملل ، ولما يوفه أحد ما استحقه من الثناء
فيما نعلم ، وأما كونه بطلاً للإسلام؛ فلأنه قائد مسلم نهض بطائفة من المسلمين
لإنقاذ بلاد إسلامية من استعباد شعب متعصب ، استأصل بتعصبه الديني مسلمي
الأندلس بالسيف والنار ، حتى لم يبق منهم فى تلك البلاد التي جعلوها أرقى بلاد
العالم كله عمرانًا ، وحضارة - ديارًا ، ولا نافخ نار ، بل كل من لم يتنصر منهم ،
ولم يغادر البلاد ناجيًا بنفسه - قتل شر قتلة.
وأما كونه بطلاً للعرب؛ فلأنه هو وقومه المجاهدون في سبيل الله لحفظ
حريتهم ودينهم ووطنهم من العرب لغة ودينًا وأدبًا ، وإن كان بعضهم ليس منهم
نسبًا ، ولأن سلفهم من مسلمي الأندلس الذين ثاروا لهم كانوا من صمم العرب،
على أنهم لم يقصدوا الثأر ، وإنما جهادهم دفاع عن النفس ، وقد أيدهم الله تعالى
بالنصر بمثل ما أيد سلفهم بقيادة كبار أبطالهم من قبل.
فإن كان تأثير عمل محمد عبد الكريم في العالم الإسلامي أقل من تأثير عمل
مصطفى كمال باشا ورجاله ، فليس لأنه دونه؛ بل لأن الدولة العثمانية التي كانت
مشرفة على الزوال أعظم شأنًا في قلوب جميع الشعوب الإسلامية وغير الإسلامية
من أهل ريف مراكش ، وبقاء الترك دولة حربية مستقلة في عقر ديارهم يعد بمنزلة
الحصن العائق دون سهولة استيلاء الأجانب على الممالك المجاورة لها ، حتى بعد
انسلاخ حكومتها الحاضرة من الجامعة الإسلامية ، الذي لم يكن يخطر لأحد من تلك
الشعوب ببال إلا بعض الضباط والمتمرسين بالسياسة من العرب الذين كانوا
عثمانيين.
ولكننا نعجب أشد العجب أن نرى البلاد العربية ، ولا سيما دعاة النهضة
الجنسية فيها لم يقدروا عمل هذا الزعيم قدره ، ولم يشدوا أزره وهم يرون كبرى
دول الاستعمار الثلاث المتعدية على جميع بلادهم مجمعة على التشاؤم من انتصار
حكومة الريف بتدبيره ، وخائفة أن يكون سببًا لتحرير سائر الأقطار الإسلامية
الأفريقية من رقهن ، وأن يمتد شعور المسلمين برجاء الحرية والاستقلال من
المغرب الإسلامي إلى المشرق؛ فيعرف أهله طريق الاستقلال المعبد فيسلكوه ،
وأن يعود للإسلام سلطانه الأول بحياة هذا الرجاء في جميع شعوبه المستعبدة ،
فطفق رجال السياسة فيهم يتناجون؛ لإجماع أمرهم على إحباط عمل الزعيم العظيم،
وإيقاف سريان هذا النصر عند الحد الذي تتفق مصالحهن عليه؛ فأين هذا من
مساعدة كل من فرنسة وإيطالية لمصطفى كمال باشا وقومه ، واضطرار الشعب
البريطاني حكومته إلى الإمساك عن مساعدة اليونان على قتاله؟
إننا لا ننكر أن الشعوب الإسلامية مرتاحة لعمل قائد الريف العظيم
ومسرورة ، بقدر ألمها من سلب الأجانب لاستقلال أمتها ونسخ شريعتها ، ولكن
ساسة دول الاستعمار يعلمون من تأثير حياة الأمم ، ومن سريانها ودبيبها من شعب
إلى آخر ، ولا سيما إذا كان لها وحدة جامعة ، وتاريخ مشترك ، تفتخر بسلفه كالأمة
الإسلامية التي أدمجت فيها أقوى مقومات الأمم ومشخصاتها ، فهم لعلمهم هذا
يحسبون لحياة الشعوب ما ليس في حسبانها ، ثم يبالغون فيها على سبيل الاحتياط،
فيرجحون الشائل من ميزاتها ولو وصلت الحياة الملية في تونس والجزائر أو في
طرابلس الغرب أو فيما يعد فوقها على تفاوتها كمصر والهند إلى المستوى الذي
تخافه فرنسة وإيطالية وإنكلترة - لرأينا الإعانات المالية ، والبعثات الطبية ، مرسلة
تترى من هذه البلاد كلها إلى ريف مراكش ، بل لرأينا المتطوعين يهاجرون إليه
أرسالاً نافرين خفافًا وثقالاً ، ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً ، لكننا لم نر شيئًا من هذا ولا
ذاك ولم نسمع في الدعوة إلى أهون المساعدة صوتًا عاليًا يُسْمَعُ فيلبى ، وإنما سمعنا
نأمة خافتة بمصر ، ونبأة فوقها من الهند ، ولم نر عملاً يذكر ولا سعيًا يشكر.
أين كبار العلماء؟ أين سراة الأمراء؟ أين الأسخياء؟ أين الكتاب والشعراء؟
أين الجمعيات الخيرية؟ أين الأحزاب السياسية؟ بل أين جمعية الهلال الأحمر
المصرية؟ ولا أنادي أختها التركية، فإن الترك في الشعوب الإسلامية كعلماء الدين
في كل شعب ، قد اعتادوا أن يأخذوا، وما اعتادوا أن يعطوا، وهذا قبل وقوعهم
تحت أحكام دولة قررت بترهم من جسم الجامعة الإسلامية ، فكيف يكون حالهم بعد
ذلك؟
كلمت بعض أعضاء جمعية الهلال الأحمر المصرية منذ سنتين في مسألة
الريف هذه ، وما يجب على جمعيتهم من مساعدة هؤلاء الريفيين المنقطعين عن
جميع الأمم والشعوب ، وليس عندهم من الأطباء والأدوية والآلات الجراحية ولا من
الممرضين والمضمدين من يأسو جروحهم ، ويطهر قروحهم ، ويداوي مرضاهم ،
فإن جمعيات الصليب الأحمر لا تعطف على قوم من المسلمين ، يدافعون عن أنفسهم
بقتال دولة من دول النصرانية ، تريد استعبادهم واستعمار بلادهم، وقد سعى مسلم
أفريقي لدى عبد المجيد أفندي الذي سمي خليفة المسلمين ، بأن تؤلف في الآستانة
لجنة تحت رعايته لجمع التبرعات لذلك، فارتاح لهذا الاقتراح ، ولكن حكومته
زعمت أن جمعية الهلال الأحمر التركية أولى بهذا العمل ، وستقوم بهذا الواجب ،
ولم يقم به أحد ، ولن يقوم هنالك أحد؛ لأن الحكومة لا تريد ذلك. بماذا أجاب عضو
جمعية مصر؟ قال: إن القانون الجديد لجمعيتنا قد حظر عليها إنفاق شيء مما في
صندوقها ، فلا سبيل إلى بذل شيء إلا مما يدخل في الصندوق بعد تقرير هذا
القانون ، ولما يدخله شيء. قلت: وما المانع من أن تتولى الجمعية دعوة أهل البر
والإحسان إلى التبرع لها بما تؤدي به هذا الواجب؟ وهل لك أن تقترح عليها ذلك؟
قال: نعم ولكن بعد عودة صاحب الدولة الأمير يوسف كمال رئيسها من سفره.
لا شك عندي في صدق العضو الكريم في استحسانه للاقتراح ، وقبوله بالغبطة
والارتياح ، لكن الأمير عاد من سفره ، ثم سافر ، ثم عاد ، ولم يظهر للجمعية عمل
فعسى أن تتولى (جمعية الرابطة الشرقية) السعي إلى هذه المبرة الإنسانية لدى
جمعية الهلال الأحمر المصرية ولدى الشعب المصري وسائر الشعوب الشرقية ،
وسأقترح ذلك عليها إن شاء الله تعالى في أول اجتماع تعقده ، وأعد هذه الكلمة
تمهيدًا له.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: أحمد بن تيمية
إبطال وحدة الوجود والرد على القائلين بها
لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية
رضي الله عنه
وأما النوع الثالث وهو الفناء عن عبادة السوى فهذا حال النبيين وأتباعهم ،
وهو أن يفنى بعبادة الله عن عبادة ما سواه، وبحبه عن حب ما سواه، وبخشيته
عن خشية ما سواه ، وبالتوكل عليه عن التوكل على ما سواه ، فهذا تحقيق توحيد
الله وحده لا شريك له وهو الحنيفية ملة إبراهيم ، ويدخل في هذا أن يفنى عن اتباع
هواه بطاعة الله فلا يحب إلا لله، ولا يبغض إلا لله، ولا يعطي إلا لله، ولا يمنع
إلا لله، فهذا هو الفناء الديني الشرعي الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه.
ومن قال: (فارفع بحقك إنيي من البين) بمعنى أن يرفع هوى نفسه ، فلا
يتبع هواه ، ولا يتوكل على نفسه وحوله وقوته ، بل يكون عمله لله لا لهواه ،
وعمله بالله وبقوته لا بحوله وقوته ، كما قال تعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) فهذا حق محمود. وهذا كما يُحكى عن أبي يزيد أنه قال: رأيت
رب العزة في المنام فقلت: خدايي [1] كيف الطريق إليك؟ قال: اترك نفسك
وتعال: أي اترك اتباع هواك والاعتماد على نفسك ، فيكون عملك لله ، واستعانتك
بالله ، كما قال:{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} (هود: 123) .
والقول المحكي عن ابن عربي: (وبي حلفت وأن المقسم الله) هو أيضًا من
إلحادهم وإفكهم: جعل نفسه حالفة بنفسه، وجعل الحالف هو الله فهو الحالف
والمحلوف به كما يقولون: أرسل من نفسه إلى نفسه رسولاً بنفسه فهو المرسل
والمرسل إليه والرسول ، وكما قال ابن الفارض في قصيدته نظم السلوك:
لها صلواتي بالمقام أقيمها
…
وأشهد فيها أنها لي صلت
كلانا مصلٍّ واحد ساجد إلى
…
حقيقته بالجمع في كل سجدة
وما كان بي صلى سواي ولم تكن
…
صلاتي لغيري في أدا كل ركعة
إلى أن قال:
وما زالت إياها وإياي لم تزل
…
ولا فرق بل ذاتي لذاتي حنَّت
وقد رفعت تاء المخاطب بيننا
…
وفي رفعها عن فرقة الفرق رِفْعَتِي
فإن دعيت كنت المجيب وإن أكن
…
منادى أجابت من دعاني ولبت
وأما المنقول عن عيسى بن مريم - صلوات الله عليه - فهو كذب عليه ،
وهو كلام ملحد كاذب وضعه على المسيح وهذا لم ينقله عنه مسلم ولا نصراني،
فإنه لا يوافق قول النصارى قوله ، إن الله اشتاق أن يرى ذاته المقدسة ، فخلق من
نوره آدم ، وجعله كالمرآة ينظر إلى ذاته المقدسة فيها ، وإني أنا ذلك النور وآدم
المرآة ، فهذا الكلام مع ما فيه من الكفر والإلحاد متناقض ، وذلك أن الله سبحانه
يرى نفسه كما يسمع كلام نفسه، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عبد
مخلوق لله قال لأصحابه: (إني أراكم من ورائي كما أراكم من بين يدي) فإذا كان
المخلوق قد يرى ما خلفه وهو أبلغ من رؤية نفسه ، فالخالق تعالى كيف لا يرى
نفسه؟ وأيضًا فإن شوقه إلى رؤية نفسه حتى خلق آدم يقتضي أنه لم يكن في
الأزل يرى نفسه حتى خلق آدم، ثم ذلك الشوق كان قديمًا كان ينبغي أن يفعل ذلك
في الأزل ، وإن كان محدثًا فلا بد من سبب يقتضي حدوثه، مع أنه قد يقال:
الشوق أيضًا صفة نقص ولهذا لم يثبت ذلك في حق الله تعالى ، وقد روي (طال
شوق الأبرار إلى لقائي وأنا إلى لقائهم أشوق) وهو حديث ضعيف.
وقوله: خلق من نوره آدم ، وجعله كالمرآة ، وأنا ذلك النور ، وآدم هو المرآة ،
يقتضي أن يكون آدم مخلوقًا من المسيح ، والمسيح خلق من مريم ، ومريم من
ذرية آدم ، فكيف يكون آدم مخلوقًا من ذريته؟ وإن قيل: المسيح هو نور الله ،
فهذا القول وإن كان من جنس قول النصارى فهو شر من قول النصارى، فإن
النصارى يقولون: إن المسيح هو الناسوت واللاهوت الذي هو الكلمة هي جوهر
الابن، وهم يقولون: الاتحاد اتحاد اللاهوت والناسوت متجدد حين خلق بدن
المسيح، لا يقولون: إن آدم خلق من المسيح؛ إذ المسيح عندهم أسم اللاهوت
والناسوت جميعًا ، وذلك يمتنع أن يخلق منه أدم، وأيضًا فهم لا يقولون: إن آدم
خلق من لاهوت المسيح.
وأيضًا فقول القائل: إن آدم خلق من نور الله الذي هو المسيح ، إن أراد به
نوره الذي هو صفة لله فذاك ليس هو المسيح الذي هو قائم بنفسه؛ إذ يمتنع أن
يكون القائم بنفسه صفة لغيره، وإن أراد بنوره ما هو نور منفصل عنه فمعلوم أن
المسيح لم يكن شيئًا موجودًا منفصلاً قبل خلق آدم ، فامتنع على كل تقدير أن يكون
آدم مخلوقًا من نور الله الذي هو المسيح، وأيضًا فإذا كان آدم كالمرآة وهو ينظر
إلى ذاته المقدسة فيها ، لزم أن يكون الظاهر في آدم هو مثال ذاته لا أن آدم هو
ذاته ولا مثال ذاته ولا كذاته، وحينئذ فإن كان المراد بذلك: أن آدم يعرف الله
تعالى ، فيرى مثال ذاته العلمي في آدم؛ فالرب تعالى يعرف نفسه ، فكأن المثال
العلمي إذا أمكن رؤيته كانت رؤيته للعلم المطابق له القائم بذاته أولى من رؤيته للعلم
القائم بآدم، وإن كان المراد أن آدام سأل الله فلا يكون آدم هو المرآة؛ بل يكون هو
كالمثال الذي في المرآة.
وأيضًا فتخصيص المسيح بكونه ذلك النور، هو قول النصارى الذين
يخصونه بأنه الله، وهؤلاء الاتحادية ضموا إلى قول النصارى قولهم بعموم الاتحاد
حيث جعلوا في غير المسيح من جنس ما تقوله النصارى في المسيح.
وأما قول ابن الفارض:
وشاهد إذا استجليت ذاتك من ترى
…
بغير مراء في المرآة الصقيلة
أغيرك فيها لاح أم أنت ناظر
…
إليك بها عند انعكاس الأشعة
فهذا تمثيل فاسد ، وذلك أن الناظر في المرآة مثال نفسه فيرى نفسه ، وكذا
المرآة لا يرى نفسه بلا واسطة ، فقولهم: بوجود باطل وبتقدير صحته ليس هذا
مطابقًا له ، وأيضا فهؤلاء يقولون بعموم الوحدة والاتحاد والحلول في كل شيء
فتخصيصهم بعد هذا آدم أو المسيح يناقض قولهم بالعموم ، وإنما يخص المسيح
ونحوه من يقول بالاتحاد الخاص؛ كالنصارى ، والغالية من الشيعة ، وجهال النّسّاك
ونحوهم، وأيضًا فلو قدر أن الإنسان يرى نفسه في المرآة فالمرآة خارجة عن نفسه
فرأى نفسه أو مثال نفسه في غيره ، والكون عندهم ليس فيه غير ولا سوى ، فليس
هناك مظهر مغاير للظاهر ولا مرآة مغايرة للرائي.
وهم يقولون: إن الكون مظاهر الحق (فإن قالوا) : المظاهر غير الظاهر
لزم التعدد وبطلت الوحدة، وإن قالوا: المظاهر هي الظاهر لم يكن قد ظهر شيء
في شيء ، ولا تجلى شيء في شيء ، ولا ظهر شيء لشيء ، وكان قوله:
وشاهد إذا استجليت نفسك أن ترى 000 كلامًا متناقضًا؛ لأن هنا مخاطِبًا ومخاطَبًا ،
ومرآة تستجلى فيها الذات فهذه ثلاثة أعيان ، فإن كان الوجود واحدًا بالعين بطل
هذا الكلام ، وكل كلمة يقولونها تنقض أصلهم.
***
فصل
وأما ما ذكره من قول ابن إسرائيل: الأمر أمران: أمر بواسطة ، وأمر بغير
واسطة إلى آخره؛ فمضمونه أن الأمر الذي بواسطة هو الأمر الشرعي الديني
والذي بلا واسطة هو الأمر القدري الكوني ، وجعله أحد الأمرين بواسطة والآخر
بغير واسطة كلام باطل ، فإن الأمر الديني يكون بواسطة وبغير واسطة ، فإن الله
كلم موسى وأمره بلا واسطة ، وكذلك كلم محمد صلى الله عليه وسلم وأمره ليلة
المعراج ، وكذلك كلم آدم وأمره بلا واسطة ، وهي أوامر دينية شرعية ، وأما الأمر
الكوني فقول القائل: إنه لا بواسطة خطأ؛ بل الله تعالى خلق الأشياء بعضها
ببعض ، وأمر التكوين ليس هو خطابًا يسمعه المكون المخلوق ، فإن هذا ممتنع ،
ولهذا قيل: إن كان هذا خطابًا له بعد وجوده لم يكن قد كون (به) بل كان قد
كون قبل الخطاب وإن كان خطابًا له قبل وجوده فخطاب المعدوم ممتنع. وقد قيل
في جواب هذا: إنه خطاب لمعلوم لحضوره في العلم وإن كان معدومًا في العين.
وأما ما ذكره الفقير فهو سؤال وارد بلا ريب ، وأما ما ذكره عن شيخه من أن
آدم كان توحيده ظاهرًا وباطنًا ، فكان قوله (لا تقرب) ظاهرًا ، وكان أمره (بكل)
باطنًا، (فيقال) : إن أريد بكونه قال: كُلّ باطنًا أنه أمره بذلك في الباطن أمر
تشريع أو دين فهذا كذب وكفر ، وإن كان أراد أنه خلق ذلك وقدره وكونه فهذا قدر
مشترك بين آدم وبين سائر المخلوقات فإنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن
فيكون ، فكل ما كان من المكونات فهو داخل في هذا الأمر ، وأكل آدم من الشجرة
وغير ذلك من الحوادث داخلة تحت هذا كدخول آدم ، فنفس أكل آدم هو الداخل
تحت هذا الأمر كما دخل آدم. وقول القائل: إنه قال لآدم في الباطن: كل مثل
قوله إنه قال للكافر اكفر وللفاسق افسق، والله لا يأمر بالفحشاء، ولا يحب الفساد،
ولا يرضى لعباده الكفر ، ولا يوجد منه خطاب باطن ولا ظاهر للكفار والفساق
والعصاة بفعل الكفر والفسوق والعصيان، وإن كان ذلك واقعًا بمشيئته وقدرته
وخلقه وأمره الكوني، فالأمر الكوني ليس هو أمرًا للعبد أن يفعل ذلك الأمر؛ بل هو
أمر تكوين لذلك الفعل في العبد ، أو أمر تكوين لكون العبد على ذلك الحال ، فهو
سبحانه هو الذي خلق الإنسان هلوعًا {إذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الخَيْرُ
مَنُوعاً} (المعارج: 20-21) وهو الذي جعل المسلمين مسلمين كما قال الخليل:
{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} (البقرة: 128) فهو
سبحانه جعل العباد على الأحوال التي خلقهم عليها وأمره لهم بذلك أمر تكوين بمعنى
أنه قال لهم: كونوا كذلك فيكونون كذلك ، كما لو قال للجماد: كن فيكون ، فأمر
التكوين لا فرق فيه بين الجماد والحيوان ، وهو لا يفتقر إلى علم المأمور ولا
إرادته ولا قدرته ، لكن العبد قد يعلم ما جرى به القدر في أحواله كما يعلم ما جرى
به القدر في أحوال غيره، وليس في ذلك علم منه بأن الله أمره في الباطن بخلاف
ما أمره به في الظاهر، بل أمره بالطاعة باطنًا وظاهرًا، ونهاه عن المعصية باطنًا
وظاهرًا، وقدر ما يكون فيه من طاعة ومعصية باطنًا وظاهرًا، وخلق العبد وجميع
أعماله باطنًا وظاهرًا، وكون ذلك بقوله:(كن باطنًا وظاهرًا) .
وليس في القدر حجة لابن آدم ولا عذر ، بل القدر يُؤْمَن به ولا يُحتج به،
والمحتج بالقدر فاسد العقل والدين متناقض، فإن القدر إن كان حجة وعذرًا لزم
أن لا يلام أحد ولا يعاقب ولا يقتص منه ، وحينئذ فهذا المحتج بالقدر يلزمه إذا ظلم
في نفسه وماله وعرضه وحرمته أن لا ينتصر من الظالم ، ولا يغضب عليه
ولا يذمه ، وهذا أمر ممتنع في الطبيعة لا يمكن أحدًا أن يفعله ، فهو ممتنع طبعًا
محرم شرعًا.
ولو كان القدر حجة وعذرًا لم يكن إبليس ملومًا معاقبًا ، ولا فرعون وقوم نوح
وعاد وثمود وغيرهم من الكفار ، ولا كان جهاد الكفار جائزًا ، ولا إقامة الحدود
جائزًا لا قطع السارق ، ولا جلد الزاني ولا رجمه ، ولا قتل القاتل ، ولا عقوبة
معتد بوجه من الوجوه. ولما كان الاحتجاج بالقدر باطلاً في فطر الخلق وعقولهم لم
تذهب إليه أمة من الأمم ، ولا هو مذهب أحد من العقلاء الذين يطردون قولهم ،
فإنه لا يستقيم عليه مصلحة أحد لا في دنياه ولا آخرته ، ولا يمكن اثنان أن يتعاشرا
ساعة واحدة إن لم يكن أحدهما ملتزمًا مع الآخر نوعًا من الشرع، فالشرع نور الله
في أرضه وعدله بين عباده ، لكن الشرائع تتنوع ، فتارة تكون منزلة من عند الله
كما جاءت به الرسل ، وتارة لا تكون كذلك ، ثم المنزلة تارة تبدل وتغير كما غير
أهل الكتاب شرائعهم ، وتارة لا تغير ولاتبدل، وتارة يدخل النسخ في بعضها ،
وتارة لا يدخل.
أما القدر فإنه لا يحتج به أحد إلا عند اتباع هواه ، فإذا فعل فعلاً بمجرد هواه
وذوقه ووجده من غير أن يكون له علم بحسن الفعل ومصلحته ، استند إلى القدر
كما قال المشركون: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ} (الأنعام: 148) قال الله تعالى: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ
هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَاّ تَخْرُصُونَ * قُلْ
فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (الأنعام: 148-149) فبين أنهم
ليس عندهم علم بما كانوا عليه من الدين ، وإنما يتبعون الظن، والقوم لم يكونوا
ممن يسوغ لكل أحد الاحتجاج بالقدر ، فإنه لو خرب أحد الكعبة أو شتم إبراهيم
الخليل أو طعن في دينهم لعادوه وآذوه ، كيف وقد عادوا النبي صلى الله عليه وسلم
على ما جاء به من الدين ، وما فعله هو أيضًا من المقدور؟ فلو كان الاحتجاج
بالقدر حجة لكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فإن كان كل ما يحدث في
الوجود فهو مقدر، فالمحق والمبطل يشتركان في الاحتجاج بالقدر؛ إن ، كان
الاحتجاج به صحيحًا ، ولكن كانوا يعتمدون على ما يعتقدونه من جنس دينهم ، وهم
في ذلك يتبعون الظن ليس لهم به علم بل هم يخرصون.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
خدا - بضم الخاء اسم الجلالة بالفارسية ، وأضافه إلى ياء المتكلم أي إلهي.
الكاتب: جمال الدين الأفغاني
المقالات الجمالية
(2)
الشرق والشرقيون
(الشعبة الثانية من المقصد)
في الشواهد التاريخية، على إضاعة الممالك الشرقية
تأمل فيما أقص عليك من أعمال الشرقيين من قبل ، حتى تعلم أنهم هم الذين
بحيدانهم عن سنة العقل قد أوقعوا أنفسهم في الذل الدائم، وجلبوا بعدم تدبرهم في
عواقب أمورهم الخراب والدمار إلى بلادهم، وأضعفوا بسوء سياستهم سلطنتهم
القوية، ومكنوا أعداءهم من بلادهم جهلاً منهم بنتائج أعمالهم ، وهاهو ذا:
إن العثمانيين قد اتفقوا مع الروس على مقاسمة البلاد الإيرانية حينما تغلّب
الأفغانيون على أصفهان أيام (شاه سلطان حسين) ، ولو نظروا بمنظار التدبر إلى
الأمة الروسية وما لها من علاقات مع اليونانيين والرمانيين والسربيين والبلغاريين
وغيرهم من رعايا السلطنة العثمانية وما يمكنها أن تحوزه في مستقبل أمرها من
القوة والبسطة لَمَا اختلجت ببالهم محالفتها، ولا خطرت في أذهانهم مؤامرتها؛
بل كانوا يسعون في قلع أسها قبل استحكامه، وقطع شجرتها قبل أن تشج عروقها.
وإنهم جاهروا الإيرانيين بالحرب من طريق بايزيد إذ كان عباس مرزأ
بجيوشه يقاومون الروسية ويدافعونها عن بلادهم، فوهنت قوتهم، وضعفت
مريرتهم، واستملك الروس بسبب هذا الاقتحام أكثر بلاد أذربيجان، ولو استشار
العثمانيون عقولهم وقتئذٍ لأشارت عليهم بأن ضعف الإيرانيين وقوة الروس هما
معًا علة تزعزع أركان السلطنة التركية، ولكنهم اتبعوا خطرات أنفسهم، وزينت
لهم أوهامهم، وظنوا أنهم يحسنون صنعًا، فأسرعوا في هلاك أنفسهم وهم لا
يشعرون، وكان عليهم - اهتداء بنور العقل، وسلوكًا في مسلك السياسة الحقة [1]- أن
يلاحظوا الجامعة القوية التي بينهم وبين السلطنة الإيرانية، فيتفقوا معها على كَبْحِ
شَرَه الروسية وإضعاف قوتها، أمنًا من غوائلها، وحذرًا من آفات مطامعها.
وإنهم أي العثمانيين جبهوا سفير (تيبوسلطان) سلطان (ميسور) بالرد حين
عرض عليهم من طرف سيده استبدال البصرة ببعض البلاد الهندية [2] التي كانت
في حوزته، وامتعضوا من هذا الطلب ، وردوا السفير خائبًا وكان غرض
(تيبوسلطان) من طلبه هذا أن يكسر سورة الإنجليز ببسط السلطة العثمانية في الهند
وتمكينها منها.
وذهل العثمانيون تهاونًا منهم عن العلاقات التامة التي بينهم وبين
الهنديين ، وأن سلطنتهم لو امتدت إلى تلك الممالك لدخل جميع حكامها بلا
معارضة تحت لوائهم ، وقدروا حينئذ على قدع الحكومة الإنجليزية عن تطاولاتها في
الهند، وسدوا عليها طرق فتوحاتها في المشرق، وما شعروا تساهلاً في السياسة ،
وتغافلاً عن منهج العقل أن بسطة الحكومة الإنجليزية في آسيا توجب تحكمها في
بلادهم ، وطمعها في الاستيلاء عليها ، كما وقع الآن حتى مكنوا عساكرها مدة
طويلة من شق الأراضي المصرية ذاهبة إلى أقاصي المشرق للتغلب عليها.
وإن شاه إيران (فتح علي شاه) إرضاء للإنجليز هدّد الأفغانيين بالحرب ،
وقتما أرادوا أن يزحفوا على الهند؛ لانتزاعها من أيدي الإنجليز ، ولو استنار
الإيرانيون وقتئذ بنور عقولهم؛ لانكشف لهم أن قوة الإنجليز بالهند إذلال لهم وخطر
على بلادهم، ولعلموا أنهم والأفغانيين غُصْنا شجرة الإيران [3] وقد تشعبوا من
أصل واحد ونشئوا في أرض واحدة، تجمعهم وحدة الجنسية، وتؤلفهم الأخوة
الحقيقية، وأنهم متساهمون في العز والشرف، ومتشاركون في الذل والهون، وما
فرقت كلمتهم إلا أوهام واهية ، نشأت عن الظنون الدينية ، وليست منها في شيء ،
ولو راجع كُلٌّ عَقْلَه لرأى وجوب اتفاقهم تحت الوحدة استرجاعًا لمجدهم السابق،
وتداركًا لما فاتهم بسبب الشقاق من الشرف والفخار ، وعلو الكلمة بين الأمم.
وإن الأمير (دوست محمد خان) أمير الأفغان قد جعل بلاده - تعاميًا منه -
عرضة لهجمات الإنجليز ، فإنه بعد المحالفة مع (ربخت سنكت)[4] ومعاهدته
على مقاومة الإنجليز ، قد تركه اغترارًا بالمواعيد الإنجليزية في ميدان الحرب
وحيدًا ، وتقهقر بعساكره فانهزمت جيوش رنجت ، وتغلب الإنجليز على جميع
أراضي البنجاب المتاخمة للأفغان، ولو استهدى الأمير (دوست محمد خان) إذ
ذاك عقله وسلك في سياسته سلوك بصيرٍ يتدبر نتائج أفعاله قبل أن يتسرع فيها؛
لتحقق لديه أن صيانة بلاده من هجمات الإنجليز إنما يكون ببقاء الحكومة البنجابية
حريزة ، حتى تكون سدًّا مانعًا بين أفغانستان وبين الحكومة الإنجليزية ، فكان يدافع
عنها كما كان يدافع عن حكومته.
وإن نواب البنجاله ونواب (الكرناتكر) قد مهدوا للإنجليز سبل دخولهم في
الأراضي الهندية ، وإن نواب (لكنهو) أيد مقاصدهم في إذلال السلطنة التيمورية
وأن نواب (دكن) قد أعانهم على إبادة حكومة (تيبوسلطان) وإدلال راجة (بروده)
وقهر الذين قاموا سنة 1857؛ لإنقاذ بلادهم ، ودفع شر المتغلبين عليها من
الإنجليز [5] ، وكل هؤلاء جهلاً منهم بمنافعهم وعمى عن نتائج أفعالهم المضرة
مكنوا الحكومة الإنجليزية ثقة بمواعيدها مِن الأراضي الهندية، وجعلوا على أعناقهم
نير العبودية، وما عقلوا أن قوام كل بالآخر، وأن بقاءه قد نيط ببقائه، وأن كلا
للآخر بمنزلة العضو من الجسد ، فإذا تمكن الداء من عضو سرى في الجميع ،
ولزم منه انحلال البدن كله، والآن نرى الحكومة الإنجليزية بعد استعبادهم ، وسلب
أموالهم ، ونزع أيديهم عن الملك تعارضهم في ديانتهم ، وتزاحمهم في تجارتهم،
وتعاقبهم على نياتهم ، وتعاقبهم على أعمال آبائهم [6] .
وإن أهل بخارى فرحوا بتسلط الروسية على قوقند - والتركمان تبجحوا بغلبتها
على بخارى - والأفغان والفرس قد سروا من استيلائها على التركمان ، وكل هذا
غفلة منهم عن المضار التي تنشأ عن قوة الروسية وبسطة سلطتها في تلك الأراضي،
وقد ألقاهم جهلهم بمصالح أنفسهم وإغضاؤهم عن الاستنارة بنور عقولهم في
التهلكة، وأشرفوا كلهم بغرورهم على الزوال والاضمحلال.
وإن مدحت باشا وأعوانه لو نظروا ببصيرتهم إلى أركان سلطنتهم المتداعية
إلى السقوط، وشعروا بهداية عقولهم أن دعائم حكومتهم كادت أن تنهد بما أَلَمَّ بها
من المصائب، وعلموا بتدبرهم أنّ البلايا تترصدهم من جوانبهم لما تقحموا غرورًا
وضلالة في خلع عبد العزيز ، وقتله وقتما تترقب الأعداء سقطاتهم، وتغتنم هفواتهم،
ولكنهم اعتمادًا على واهي آرائهم، واغترارًا بدسائس الحكومة الإنجليزية قد
جلبوا الهلاك والاضمحلال على أمتهم ويظنون أنهم هم المصلحون.
وإن إسماعيل باشا حبًّا بالاستقلال ، وعمى عن نتائج أفعاله السيئة ، التي
نشأت عن حرصه على اسم الملك قد ألقم الإفرنج جميع أموال مصر ، وما استدانه
من صرافي الأوربا (؟) بالأرباح الباهظة، ثم سعى الإفرنج في خلعه عن الملك
ونفيه عن الديار المصرية؛ إرادة استملاكها ووضع اليد عليها ، ولو تَرَوَّى في حالة
الشرقيين ، وتأمل فيما أصابهم من الذل والصغار؛ لأجل تفرق كلمتهم لازداد
خضوعًا لسلطانه ، وسعى صيانة لنفسه في تشييد مباني سلطنته ونزع من قلبه حب
الاستقلال، وعلم أن الذين لا يَفْتُرُون عن السعي في فتح الممالك لا يمكن أن
يساعدوه في مقاصده ، وأن وزراء توفيق باشا جهلاً بمقدار أنفسهم، وعجبًا بآرائهم
الفاسدة ، واتباعًا لأوهامهم الباطلة قد جلبوا الإنجليز بغاية جهدهم إلى القطر
المصريّ وملّكوهم إياه، وهم يظنون أنهم يستظهرون بهم على أعداء الخديوي، فلو
تدبروا في سياسة الحكومة الإنجليزية ورأوا أطماعها في أرض مصر ، لَمَا جلبوا
هذه المصيبة على أنفسهم وعلى خديويهم وعلى سلطانهم ، ولما ألقوا أنفسهم في فم
الأسد خوفًا من وعوعة الكلب.
***
فقد ظهر من كل ما ذكرته من سير الشرقيين قدحًا في معاملاتهم أنهم ما سلكوا
في سياستهم سبيل الرشد والهدى، وما استفادوا من عقولهم شيئًا، ولا تدبروا في
عواقب أفعالهم ونتائج أعمالهم، ولا نظروا بنور البصيرة في حالهم ومآلهم، بل
تاهوا جهلاً منهم بمنافعهم في بيداء الغواية، وحادوا عمى عن غاية مسيرهم في تيه
الضلالة ، حتى خرّبوا بأيدهم ديارهم، وأبادوا بسوء تصرفهم بلادهم، ومكنوا
الأجانب بمساعيهم الفاسدة من رقابهم. وكان الواجب علي أحفادهم الذين احترقوا
بنارهم، وتدنسوا بعارهم أن يعتبروا بالمصائب التي جلبتها عليهم غفلات أسلافهم
وأن يتقو البليات التي قادتها الغباوة إلى آبائهم، وأن يسعوا في جمع الكلمة، وأن
يتحذروا عن الشتات والتفرقة وضواء، يجتنبوا اراض الشخصية، ويعرضوا عن
دواعي الخطوات الوهمية، ويتنحوا عن مضال الاستبداد والاستئثار.
ولكن تراهم لسبات عقولهم يقتفون آثارهم، ويتبعون أغلاطهم، معرضين عن
العقل وإرشاده، جاحدين للحق وآياته، ارتفعت عنهم الأمانة، وفشت بينهم الخيانة،
وانقطعت بينهم عرى الوداد، وانحلت عقدة الجنسية، كُلُّ ينظر إلى نفسه ويسعى
لمنفعة شخصه، جهلاً منه أن سعادته منبثة في جميع آحاد الأمة ، ولا يمكنه أن
يفوز بها إلا بسعادة الكل، ولذلك قد صاروا فقراء لا يملكون شيئًا، حائرين في
معاشهم، ضالين عن رشدهم في مبدئهم ومعادهم، وكاد أن يُقضى عليهم بذل أبديّ
وموت دائميّ، بتلاشي جنسيتهم، وتناثر جمعيتهم.
ومع كل هذا ما فاتهم أوان التدارك، ولا ضاق عليهم زمان التلافي، ولا
أوصدت عليهم الأبواب، ولا انقطعت دونهم الأسباب، ولكن قد تمكن منهم القنوط
وغلب عليهم اليأس، وفترت هممهم، وضعفت عزائمهم، واستكت آذانهم عن
استماع النصائح، وعميت أبصارهم عن رؤية الحق، وقَسَتْ قلوبهم عن الإذعان
له، فتراهم امتدادًا في غيّهم ، يريقون دماء هدايتهم ويتّبعون آراء غواتهم، فلا حول
ولا قوة إلا بالله اهـ.
***
(المنار)
إنّ أمةً وُجِدَ فيها مثل هذا الحكيم الاجتماعي السياسي، وانتشرت في بلادها
أمثال هذه الحقائق الرائعة، والنذر الصادعة، لَجديرة بأن تتبين الرشد من الغي،
وتميز بين الحق والباطل، وتزيل بين الضار والنافع، فتجمع كلمتها، وتستعيد
سيادتها، ولكن الفساد الذي أطال الحكيم في وصفه بهذه المقالة قد تجاوز الحدّ الذي
تعقل فيه النذر، وتؤثر النصائح، فقد ازدادت الشعوب الشرقية الإسلامية التي وجه
إليها الخطاب تعاديًا وتدابرًا، حتى سقطت الدولة الثمانية بجهالة رجالها وضلالهم
وفساد عقائدهم وأخلاقهم، ولكن لم يفعل أحد في القديم ولا في الحديث شرًّا مما فعله
أمير مكة الشريف حسين وأولاده ، فقد تجاوز جهلهم وفساد عقولهم وأنفسهم كل حد؛
بأن أحدثوا ثورة عربية؛ لمساعدة الدولة البريطانية وأحلافها على إسقاط الدولة
العثمانية ، واستبعاد الشعوب العربية بإغراء هذه الدولة التي بيّن لنا السيد الحكيم
بعض أفعالها في ثل عروش الدولة الشرقية، وأساليبها في الطرق الاستعمارية،
وخداعها للملوك والأمراء بالوعود الكاذبة ، والعهود الغارّة، ما لا يدع مجالاً لثقة
أبلد البلداء بها، وقد استولى الإنكليز وأحلافهم من الفرنسيس على سائر البلاد
العربية العامرة، ذات الغلات الوافرة، من حدود مصر إلى خليج فارس، ولا
يزالون هؤلاء الخونة المتحلون بلقب الشرفاء ، يوطدون سلطة الاحتلال في تراث
سلطنتي العرب الكبريين - سورية والعراق - ويمكنونها من الإحاطة بالحجاز
ونجد، حتى لا يبقى للأمة العربية ملجأ مستقل في هذه الأرض.
وأغرب من هذا وأعجب أنه لا يزال لهؤلاء الأفراد حسين بن علي وأولاده
أنصار وأولياء في فلسطين وسورية والعراق بعضهم من الخونة المأجورين،
وبعضهم من الأغرار المأفونين، وسيسجل عليهم التاريخ اللعنة إلى يوم الدين.
****
التشريع الإسلامي ومؤتمر الخلافة [*]
48) {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (الجاثية: 18) .
الإسلام هداية روحية غايتها سعادة الدنيا والآخرة، وبدايتها ترقية العقل
بالعقائد الصحيحة السليمة من نزعات الشرك وأوهام الخرافات، وتزكية النفس
بالعبادات المشروعة ، التي تعرج بها إلى مناجاة الرب تبارك وتعالى كفاحًا بدون
واسطةِ وزراءَ ولا حجاب ، وبالآداب العالية ومكارم الأخلاق، التي تهنأ بها
المعيشة الشخصية والمنزلية ، وترتقي شؤون الحضارة والاجتماع، حتى تعم
الأخوة جميع طبقات البشر من جميع الشعوب والأجناس، وهو مع ذلك نظام مدني
سياسي يساوي بالعدل بين جميع الأفراد وجميع الطبقات من جميع الملل والنَّحل،
ويقرن الإحسان بالعدل، حتى في ذبح الحيوان للأكل، وينهي عن الفحشاء والمنكر
والبغي، وقد أبطل السيطرة الشخصية التي كانت للملوك على الأجساد، والهيمنة
الروحانية التي كانت للكهان على العقول والأرواح، وجعل السلطان في الحقوق
بأنواعها للشريعة العادلة المستمدة من الوحي، أو المستنبطة باجتهاد جماعة أولي
الأمر، وتشاور أهل الحل والعقد، وقيد طاعة الأئمة والأمراء بالمعروف، وأرشد
بالورع الشخصي إلى استفتاء القلب، وتحكيم الضمير فيما يشتبه من الأمر.
فالإسلام هو دين الحرية الكاملة برفعه ما كان من استرقاق الملوك والرؤساء
للبشر في أمور دينهم ودنياهم، والسيطرة عليهم في تصرفاتهم البدنية، وأفكارهم
العقلية، وعباداتهم الاعتقادية، وإبطاله تمييز بعض الشعوب وبعض الطبقات من
الشعب الواحد على البعض الآخر، وبتسويته بين الملوك والأمراء، والأغنياء
والفقراء، والرؤساء الدينيين والدنيويين في جميع الحقوق الشرعية المتعلقة
بالدماء والأموال والأعراض، بحيث يقتص من القوي للضعيف، ومن الكبير
للصغير كما أمر الخليفة الثاني الفاتح الأعظم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى
عنه الرجل الفزاريّ من ضعفاء السوقة بأنْ يلطم جبلة بن الأيهم ملك غسّان بما
لطمه، إلا أن يرضيه فيعفو عنه، وكما عزّر عمرو بن العاص فاتح مصر بضرب
ولده لغلام قبطي. وأمر بأن يضربه القبطي كما ضربه، وقال في ذلك كلمته
الحكيمة التي يفاخر المسلمون بها جميع أهل الملل، ويفاخر العرب بها جميع
الشعوب والأمم، وهي:(يا عمرو منذ كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا)
هذا ما قاله أمير المؤمنين لقائده فاتح مصر وعامله عليها.
وليس ما ذكرته من المثل عن عمر إلا تنفيذًا لتشريع القرآن المجيد الذي جعل
العدل عامًّا، والقيام بالقسط أمرًا واجبًا، لا يحابى فيه قريب على بعيد، ولا وليٌّ
على بغيض، ولا غني على فقير، كما هو منصوص في الآية134 من سورة النساء ،
والآية التاسعة من سورة المائدة، بالصيغ العامة المطلقة التي يدخل فيها المؤمن
والكافر، والبر والفاجر ، وثَمَّ آيات خاصة بغير المسلمين كقوله تعالى في قضية
لليهود: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (المائدة:
42) .
وأَبْلَغُ مِن هذا ما ورد في قضية بين مسلم ويهودي ، كان المسلم فيها مذنبًا
واليهودي بريئًا ، فنورد أخصر ما قيل فيها من تفسير (الجلالين) لسورة النساء
قال الجلال: وسرق طعمة من أبيرق درعًا ، وخبأها عند يهودي ، فرماه طعمة بها
وحلف أنه ما سرقها فسأل قومه النبي صلى الله عليه وسلم أن يجادل عنه ويبرئه
فنزل {إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُن
لِّلْخَائِنِينَ خَصِيماً * وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً * وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ
يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً * يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا
يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ القَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ
مُحِيطاً * هَا أَنتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ
القِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} (النساء: 105-109) هذا في تهديد قوم طعمة
السارق المُتَّهِم لليهودي ، إذ كذبوا على النبي صلى الله عليه وسلم حتى صدقهم وَهمَّ
بالجدال عن صاحبهم ، لولا وحي الله تعالى له ببيان الحقيقة. ثم قال الله تعالي
لرسوله: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا
يُضِلُّونَ إِلَاّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ
مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} (النساء: 113)
بعد هذا التمهيد أقول: إن أصول التشريع الإسلامي هي أرقى تشريع لم
يسبق بمثله. أفليس من أكبر البلاء وأعظم الخطوب في الإسلام أن تجهل بعض
الحكومات الإسلامية هذه المزاية فيه ، بل تعيبه بأنه عثرة في طريق الحضارة
والقوة، وتبيح لنفسها أن تنبذه ظِهْريًّا بتدريج بطيء أو سريع ، وتستبدل به تشريعًا
دونه في نفسه، ودونه في موافقته لصالح الأمة التي كان له أعظم التأثير في
تكوينها، ودونه تأثيرًا فيها ترجو من تجديد حضارتها، ودونه فيما يجب أن تتوخاه
من حسن الاتصال بالأمم المرتقية في علومها ونظمها، بله الاتصال والمودة مع
الشعوب التي تدين لله تعالى بأصول هذه الشريعة وفروعها.
أليست الأمم وليدة التاريخ وربيبته؟ أليس التشريع من مقوماتها التي تفصل
بينها وبين غيرها؛ كالفصول الطبيعية التي تفصل في عرف علماء المنطق بين
أنواع الجنس الواحد؛ كالحيوان والنبات؟
كثر بحث دعاة التجديد في الشعوب الإسلامية في هذه المسألة ، وكثر إلقاء
التبعة فيها على علماء الشرع ورميهم بالجمود.
وربما يدور البحث في مؤتمر الخلافة، هذا في مسألة المذاهب والآراء في
التشريع وهي ثلاثة: رأي الملاحدة الذين يرون أن التزام الشريعة الإسلامية تدينًا
مانع من تأليف دولة قوية في أمة ذات حضارة راقية ، ورأي الذين يرون وجوب
التزام تقليد أحد المذاهب المتبعة كما هو مدوّن في الكتب المتداولة مهما يكن تأثيره
في الأمة والدولة، وأنه لا يجوز استحداث شيء من العلم والفنون والأعمال إلا إذا
دلّت على جوازه ، ورأي الحزب الوسط الجامع بين معرفة أحكام الشرع وحكمه
وأسراره وبين شؤون العصر، وقد فاز حزب مصطفى كمال باشا من أهل الرأي
الأول في الحكومة التركية الجديدة بعد تمهيد طويل سبقه إليه الاتحاديون وغيرهم
من ملاحدة الترك، واشتدّ النزاع بين الحكومتين الإيرانية والأفغانية ، وبين
أصحاب الرأي الثاني فيهما المعارضين لكل إصلاح مدني جديد لم يعهد من قبل،
حتى اضطرت الحكومة الأفغانية إلى قمع ثورات المعارضة منهم بالقتال، وذكرت
البرقيات والجرائد أن مثيري الناس على الأمير هم العلماء، ولا غَرْوَ فمن سنن الله
في الأمم أن المتشدّدين في المحافظة على القديم المألوف ينكرون كل محدث وإن
كان معروفًا، ويسكتون على القديم وإنْ كان منكرًا، وضدهم الغلاة في طلب
التجديد ، فهم يحبذون كل جديد وإنْ كان قبيحًا، ويقبّحون كل قديم وان كان حسنًا.
والحق والصواب أن في كل من القديم والجديد من المنافع والمضار ما يحكم
فيه بحسب وصفه، لا بحسب جدته وقدمه، والجديرون بصحة الحكم في ذلك هم
الذين عالجوا الأمرين من أهل العلم والبصيرة والاعتدال في الرأي، ويقل أن يوجد
في علماء الأفغان الدينيين أمثال هؤلاء ، الذين يعرفون اضطرار حكومتهم إلى الأخذ
بالنظم العصرية التي بها حفظ بلادهم ، ويعلمون أنه لا بد لهم من توسيع ثروة
بلادهم بالطرق الزراعية الجديدة، ومِن الأخذ بأسباب الصناعات الحديثة ، وإن كل
ذلك يتوقف على العلوم الكونية ، التي يُعْرَف بها ما أودعه الله في الماء والهواء
والكهرباء وغيرها من الخواص والمنافع والفنون التي يتوقف عليها صنع الآلات
التي تستخرج بها تلك المنافع ، ولو عرفوا هذا كله لعرفوا أن هذه العلوم والفنون
والصناعات التي أدخلتها حكومة أميرهم في بلادهم هي من فروض الكفاية شرعًا.
وأما فقهاء الترك ومصر وتونس وأمثالهم فيعلمون هذا علمًا قطعيًّا؛ لأن
المشاهدة أثبتت لهم من الضروريات ، ولكن هنالك أمورًا أخرى شعرت حكوماتهم
بالحاجة إليها قبلهم، ولا تزال خفية على أكثرهم، وهي ما يتعلق بالتشريع، فقد
تجددت للناس أقضية كثيرة بما حدث من النظام المالي والمعاملات المدنية:
كالشركات ، والمصارف المالية ، والمعاملات الأجنبية ، والمعاهدات الدولية من
سياسية وتجارية وغيرها. اشتدت حاجة هذه الحكومات إلى وضع أحكام لهذه
الأمور ، حتى وصلت إلى حد الضرورة، فلّما لم تجدها عند فقهائها لم تجد بُدًّا من
اقتباسها من بعض الحكومات الأوربية ، واستتبع الضروري منها ما ليس بضروري
حتى تحول التشريع عن القواعد والأصول الإسلامية.
وغرضنا من بيان هذا أنه قد يكون من مندوبي الشعوب الإسلامية في هذا
المؤتمر من يرى أن يكون الخليفة الذي يختارونه حاكمًا بالشرع المدون في كتب
الفقه: كمندوبي جزيرة العرب وأمثالهم، وقد يكون منهم مَن يرى أن يكون مدنيًّا
يجاري في حكومته أرقى حكومات العصر في العلوم والفنون والحضارة والقوة
كمندوبي الهند وشمال أفريقية، ولا سبيل للجمع بين الأمرين، وجعل نظام الخلافة
مُتَّفقًا عليه من الفريقين، إلا بإظهار الشرع الإسلامي بقسميه التنزيلي والاجتهادي
في أسلوب من البيان، يعلم به موافقته لحال هذا الزمان في كل مكان.
ولا يوجد قطر إسلامي أجدر بهذا العمل من القطر المصري، فإنه عمل لا يَتِمُّ
إلا بالتعاون بين الراسخين في العلوم الشرعية ومذهب المجتهدين فيها وبين
المطّلعين على قوانين أمم الحضارة ونظمها وعلومها وفنونها ، فمصر أهل للقيام
بهذا الأمر العظيم وحدها، فكيف إذا وفد عليها من علماء سائر الأقطار وزعمائها
من يكونون أفضل الأعوان لها؟ ألم تر أن كبار علماء الشرع فيها هم الذين
اضطلعوا بالدعوة إلى مؤتمر الخلافة ، وتولوا الدعوة إليه، ورأوا أن يشاركهم في
إدارة العمل بعض علماء القوانين العامة والطب والسياسة وغيرهم؟ وما كان أحد
ينتظر هذا من الصنف الذي كانت تلقى على عاتقه تبعة نبذ الشريعة، وقد كان
علماء الترك أجدر منهم بالسبق إلى هذا الأمر بما كان لهم من النفوذ الرسمي في
دائرة المشيخة الإسلامية مع النفوذ الروحي في الأمة، وهم سياج الدولة التي كانت
تمثل الخلافة.
فيالها من فرصة سنحت للأمة الإسلامية ما سمحت بمثلها العصور الخالية،
فحيا الله مصر وعلماء مصر وجميع رجال الإصلاح في مصر، فقد كانوا بهذا
العمل أمة وسطًا بين أهل التفريط والإفراط في أم المصالح الإسلامية ، كما كان
بلدهم وسطًا بين الأقطار الإسلامية، وسيقرب هذا المؤتمر بين المخلصين من
الواقفين على الطرفين فيجذبهم إلى الوسط، ويزيل شبهات علماء الأفغان وأمثالهم
ما يظنون من التعارض بين الشرع والفنون ، التي يتوقف عليها نظام القوة وثروة
الأمة وتعزيز الدولة، كما أنها ستدحض شبهات الذين يظنون أن الشرع الإسلامي
يحول دون ارتقاء الأمم إلى أرقى معارج القوة والعزة وأوج الحضارة، ففي أي
مكان يرجى مثل هذا كما يرجى في مصر؟ أفي الآستانة التي ألغت حكومتها
الخلافة ، وتبرأت من اسمها ومسماها؟ أم في مكة المكرمة وهي في اضطراب
حزبي بين حكومتين ، ولم يكن في أهلها منذ قرون من يَصْلُح لِمَا ذكرنا في هذا
المقال من أعمال المؤتمر ، وهو بعض وظائفه التي ستبين في هذه المجلة.
****
الوهابيون والحجاز
(3)
بيّنا في المقالة الثانية جُلَّ الأسباب العامة لإنقاذ الحجاز من السيد حسين
المكي المستبد فيه التي يعدها السلطان عبد العزيز بن سعود موجبة شرعًا للقيام بهذا
العمل لمن قدر عليه مثله، وإذا كنا نكتب أمثال هذه المقالات في فترات قصيرة ،
نختلسها من شواغلنا الكثيرة اختلاسًا ، نسينا أن نذكر في تلك الأسباب عجز
المتغلب على الحجاز عن حفظ الأمن بين الحرمين الشريفين ، ونكثه للعهود التي
عاهد أعرابها عليها حين دعاها إلى الثورة والخروج على الدولة العثمانية ، وهو أن
يعطيهم في كل سنة ضعفي ما كان مرتبًا لهم من الأموال التي كانت ترسلها الدولة
إلى الحجاز لإعانة أهله ، فكان يعطيهم في سني الثورة ، ثم منعهم بعدها كما منع
أكثر المستحقين للإعانات التي ترسل من مصر؛ فاضطروا إلى منع الناس من
زيارة حرم الرسول صلى الله عليه وسلم إلا من يؤدي لهم ما فرضوه بدلاً مما كانوا
يأخذونه ، كما فصلناه في المنار.
***
الأسباب الخاصة بنجد لزحف أهلها على الحجاز
ونبين الآن ما نتذكره من الأسباب الخاصة بالنجديين ، وهي ترجع إلى
غرض واحد هو إزالة استقلال سلطنة نجد ، وجعلها تابعة لما يسميه الممالك العربية
الهاشمية، والأسباب التي نذكرها حجج ناهضة تدل على ذلك وهي:
(1)
إننا عقب انكسار الدولة العثمانية في الحرب البلقانية ، وضعنا مع
بعض أهل الغيرة العربية والإسلامية خطة لوقاية بلاد العرب من استيلاء الأجانب
عليها ، ومنها جمع كلمة أمراء العرب ، ووضع اتحاد حلفي بينهم؛ لإزالة العدوان،
والتعاون على حفظ البلاد العربية وصيانتها من تعدي الأجانب، والفصل في
المنازعات الداخلية بين أولئك الأمراء ومَن دونهم من القبائل بالتحكيم
…
وقد تولى كاتب هذه المقالات تبليغ أمراء اليمن ونجد وعسير ذلك ، فجاء
منهم مكتوبات بالاستحسان وطلب التفصيل وطرق التنفيذ000 وعهد إلى شريف
عبد الله أن يبلغ ذلك والده حسينًا إذا كان يرجح قبوله له ، ولما وقعت الحرب
الكبرى ، ودخلت الدولة العثمانية في حلفي دول أوربا الكبرى ، وشرعت الدولة
البريطانية تخادع جميع أمراء العرب وزعمائهم؛ لتستخدمهم وتستعين بهم على
الدولة ، ثم على أنفسهم لتكافئهم على ذلك بسلب استقلالهم ، اشتدت الحاجة إلى
تحالفهم واتفاقهم على صيانة البلاد العربية ، والاحتياط لحفظ استقلالها إذا قهرت
الدولة العمانية وانكسرت مع أحلافها، ولما انخدع أمير مكة هذا للرقية البريطانية
بسوء سريرته وجهله بشؤون السياسة صارت الحاجة إلى ذلك أشد، وقد أخبرني
ولده السيد عبد الله أنه ذكر له اقتراحي ، ولكن وقعت الحرب عقب ذلك ، فشغلتهم
الثورة عن إعادة القول فيه، أخبرني بهذا في مكة المكرمة بعد إتمامنا مناسك الحج ،
ورغّب إليَّ أن أكلم والده فيه ، فكلمته وذكرت له شيئًا من خداع السياسة ، وكون
الاستفادة منها منوطة بالقوة 000 ولما صرحت له بالمسألة اعتذر عنها بأنه إذا
خاطب جيرانه بذلك يظنون أنه عاجز عن مقاومة الترك ويريد مساعدتهم ، وأن
الرأي أن يرجئ ذلك إلى أن يستولي على المدينة ، ويخرج الترك من الحجاز كله،
فقلت له: لا نكلفكم مخاطبة أحد منهم ، بل نحن نتولّى ذلك ، ونرجو النجاح فيه،
وإنما نرجو أن نكون على بيّنة من رأيه فيه ، وثقة من رضاه وقبوله للاشتراك فيه
إذا أقنعنا سائر الأمراء
…
فلم يقبل، حتى إنني قلت له: إنني أضمن لكم قبول
صاحب نجد وإذا احتيج إلى ذهابي إليه بنفسي فإنني أفعل، فلم يقبل، ثم قال أمام
بعض بطانته أو حاشيته: من هؤلاء الكلاب حتى أتفق معهم؟ اليوم يوجد في الدنيا
رجل يقال له ابن سعود وغدًا لا يوجد في الدنيا ابن سعود
…
(2)
إن أول عمل عمله بعد الاستيلاء علي المدينة المنورة عقب خروج
الترك منها بعد هدنة الحرب - وقد عجز عن أخذها منهم بالقوة - أنه جمع كل ما
كان يقاتل به الترك هنالك من الجند النظامي واليدوي مجهزًا بأحدث الأسلحة ، ولا
سيما المدافع والرشاشات وقنابل اليد ، ووجههم بقيادة ولده السيد عبد الله إلى الشرق؛
لاسترداد الخرمة وتربة فالزحف على نجد، وكانت تلك أعظم قوة حربية اجتمعت
لهم في الحجاز ، يدير حركتها زهاء مائة ضابط عربي جلهم من ضباط العراق
البارعين، ولما وصلوا إلى الخرمة باغتوا أهلها وهم في صلاة الفجر ، ففتكوا بهم
وهم يصلون شر فتكة
…
فاستنجد الشريف خالد عامل الخرمة الإخوان
(الوهابيين) فزحفوا على ذلك الجيش المنظم، فكانوا قضاء الله المبرم، اصطلموا
الجيش وغنموا سلاحه وكراعه وذخيرته ، وقتلوا أكثر من ثمانين ضابطًا هم خيار
ضباطه وفر الشريف عبد الله منهزمًا بزي الإخوان مقلدًا لهم في كلامه.
(3)
إن السيد حسينًا لم يقترح على الإنكليز في (مقررات النهضة) أن
يؤسسوا المملكة العربية ، ويتولوا حمايتها وصيانتها (من الداخل والخارج) إلا لِمَا
في قلبه من العداوة لابن سعود والخوف منه، وهو هو الذي يعنيه بقوله في مادة
الحماية الذي ذكرناه في المقالة الثانية (أو حسد بعض الأمراء) فابن سعود أولى
الناس بثل هذا العرش المبني على جعل الحرمين تحت حماية غير المسلمين خوفًا
منه، وها نحن أولاء نقرأ في جميع الصحف ما جاء في البرقيات من (لندن) من
استغاثة الشيخ حسين هذا بالدولة البريطانية ومطالبتها بإنقاذ الحجاز من الوهابية،
فالإنكليز يتنصلون من الاعتراف أمام العالم الإسلامي بحمايتهم للحجاز؛ لما يعلمون
من كراهة المسلمين لذلك ، وعدّه اعتداءً عليهم في دينهم وهو لا يستحي من الجهر
بمطالبتهم بذلك ومكافأتهم عليه بتوقيع (المعاهدة البريطانية العربية) على علاتها،
وإنْ كرِهَ أصدقاؤه من أهل فلسطين تضمنها لاعترافه بالانتداب البريطاني ووطن
اليهود القومي في بلادهم، وكره جميع المسلمين ما جعل للإنكليز فيها من الحقوق
في الحجاز وفي معاملة الحجاج! ومتى كان يبالي بالمسلمين أو غير المسلمين إذا
رضي عنه الإنكليز؟ ولكن مِن مصلحتهم الآن أنْ لا يرضوا عنه ولا ينصروه ،
وهم أعرق الناس في بناء سياستهم على المصالح لا كما يصفهم بأنهم يعملون
بمقتضى (الحسيات) بالمعنى الذي يفهمه هو.
(4)
إن هذا الرجل قد شرع منذ سمى (نفسه) ملك العرب وصاحب
الممالك العربية ، وبايعه مستضعفو مكة وجدة في الجهر بالملك وفي السر بالخلافة
الإسلامية (كما قالوا أخيرًا عند تجديد البيعة) ؛ شرع يطعن في دين الوهابية
وعقائدهم ، ويرميهم بالكفر وتكفير المسلمين تمهيدًا لقتالهم وأخذ بلادهم ، ولم يكتف
في ذلك بما نشره في جريدته (القبلة) بلسانها؛ بل صرح بذلك مرارًا في مقالاته
ومنشوراته الرسمية؛ كالمنشور الرسمي الذي نشره في العدد 202 المؤرخ في 24
شوال سنة 1336 ، والمنشور الرسمي الذي أصدره في غرة ربيع الأول سنة
1337 ، والمنشور الرسمي الذي نشره في عدد 8 جمادى الأولى سنة 1337.
وقد صرح في المنشور الثاني بعزمه على محو بدعة الوهابية (خدمة للدين
وتنزيهًا له مما في هذا الزيغ والضلال ، وسلامة البلاد من سيئاته) وذكر في الثالث
أنه معهم في موقف دفاع ثم قال: (فنحن نحرر منشورنا هذا علاوة على ما سبق؛
ليعلم القاصي والداني أنه متى تحقق لدينا عدم نجاح خطة الدفاع أمام مبادئهم فلا بد
للسلطان من قتالهم بكل موجوديته) .
وهذان النصان الرسميان إنذار بأنه يرى وجوب قتالهم؛ لأجل دينهم وإكراههم
على ترك عقائدهم وما يدينون الله به ، وأنه هو سلطان المسلمين ، ويفعل هذا
أصالة ونيابة عنهم، فإذا كان صرح بهذا والدولة العربية التي اقترح على العظمة
البريطانية تأسيسها له وهم من الأوهام ، والخلافة التي رضيها له ملك الإنكليز حلم
من الأحلام ، فماذا عسى أن يفعل بهؤلاء النجديين إذا استقر ملك أولاده في العراق
والشام، ورضي الإنكليز بأن يؤلف بهم الوحدة العربية وقد سبق فادعى لنفسه الخلافة
الإسلامية؟ اللهم الطف بعبادك وارحمهم برحمتك، وأنقذ من هذا الطاغوت أهل
حرمك، ولا تسلطه على أحد من خلقك (كتبت هذه المقالة قبل وصول خبر خلعه
ولكن تأخر نشرها) [**]
قلنا في مقال سابق: إن رميه الوهابيين بالمروق من الدين، واستحلال دماء
المسلمين، قد اتبع فيه سلفه الطالح عند ظهور أمرهم في فجر القرن الثالث عشر
للهجرة، ونذكر هنا ما فاتنا هنالك من شهادة التاريخ على ذلك؛ لاتحاد العلة
والمعلوم في فساد الأول والآخر، ولأنها من الشواهد على ما قيل: من (أن التاريخ
يعيد نفسه) :
قال المرحوم محمود فهمي باشا المهندس المصري في الجزء الأول من
تاريخه (البحر الزاخر) في سياق الكلام على الوهابية:
(ومن بعد مدة استمرت في محاربات شديدة، ووقائع عتيدة، دخل جميع
بلاد العرب في العقائد الوهابية، أي العقائد الإصلاحية للديانة الإسلامية، وصارت
نجد أيضًا في حالة سياسية مدنية جديدة، وبدل أن كانت جهاتها منقسمة إلى عدة
عشائر وشعوب صغيرة منفصلة عن بعضها [7] ومستمرة في حروب وكروب بين
بعضها [8] صارت مقر دولة قوية، وسلطنة سياسية، مثال سلطنة الخلفاء القدماء
ولرئيس هذه الدولة السلطة في الأعمال الدينية والدنيوية.
و (مع ما كان عليه الوهابيون من الحروب والمبارزات في بلاد العرب لم
يَعْتَدُوا على حقوق الحكومتين المجاورتين لهم وهما حكومة بغداد والحجاز، وكانت
قوافل الحجاج تمر من وسط أراضيهم من غير أن يحصل لأي قافلة ضرر أو
انزعاج، وكانوا في أحوال أخوية ودية مع الشريف سرور شريف مكة. وفي سنة
1781 بعد الميلاد استحصلوا على رخصة منه في أداء حجهم وطوافهم بالكعبة،
فتولد من زيادة قوتهم ونفوذ شوكتهم اشتعال نار الحسد في قلب الشريف غالب، وفي
ظرف بضع سنين من تقلده الحكومة وتوظفه شريف مكة [9] بعد الشريف سرور ،
أعلن حربًا على الوهابية ، وكانت طرائق هذا الحرب مثل طرائق حرب البدو
متقطعًا بهدنات صغيرة قصيرة المدة ، ولما انتظمت مخابرات الشريف غالب مع
الدولة التركية العثمانية لم يهمل أدنى طريقة يمكنه أجراؤها في تمكين الدولة
العثمانية من دخول عساكرها في بلاد العرب؛ لأجل الوقوع بالوهابيين [10] إلا
وأجراها وأثبت [11] أنهم من الملحدين الكافرين ، وأن معاملتهم في قوافل الحجاج
التركية من أقبح الأعمال الفاسدة المضرة بالدين اهـ. المراد منه هنا بحروفه على
ما فيه من غلط لغوي (راجع ص 173 و174 منه)
ثم قد أعقب هذا الافتراء والإفساد أن أمرت الدولة العثمانية حكومة بغداد بقتال
الوهابيين ففعلت ، فلما اشتغل الوهابيون بقتال الدولة ودخلوا العراق ، زحف
الشريف غالب على نجد واستولى على قرية فيها ، فكان هذا هو السبب لزحف
الوهابيين على الحجاز وفتحه. والآن يريد خلفه حسين أن يهيج عليهم العالم
الإسلامي كله والعالم الأوربي أيضًا ، بما يرسله من البرقيات التي يلفقها بأسماء
مجهولة لحجاج رعايا الدول الأوربية، أو معروفة كلجنة مؤتمر الجزيرة التي ألفها
بمكة للفساد والإفساد في البلاد العربية، فهو الذي كتب تلك البرقيات ، وهو الذي
أرسلها إلى البلاد والأقطار والصحف ووكلاء الدول وجمعية الأمم [***] ، من غير
أن يُكَلَّفَ أحدٌ منها قرشًا من أجورها، ومن غرائب غفلات البشر أن وجد منهم من
يصدق ما قيل فيها من اتهام الوهابيين بارتكاب الفظائع التي لا يستبيحون شيئًا
منها، وحسبهم أنها شهادة ممن عرف بالكذب على عدوه ، وأقرب ما اشتهر من
كذبه في جريدته (القبلة) ، ومن كذبه في منشوراته الرسمية ادعاه مبايعة العالم
الإسلامي له بالخلافة حتى مدن مصر المشهورة.
(5)
شن الغارات عليهم وبدأ بقتالهم عند كل فرصة سنحت له، وأكبر
هذه الغارات زحف ولده عبد الله بأكبر قوة اجتمعت له بعد إخلاء الترك للمدينة
المنورة ، عقب هدنة الحرب العامة وهي التي ذكرناها في السبب الرابع آنفًا ،
وأوسطها زحفه على منطقة عسير في إثر وفاة السيد محمد علي الإدريسي الذي كان
قد تخلى عنها لسلطان نجد، وفي إثر تنكيل الوهابية بحملته ، هنالك وقعت حادثة
حجاج اليمن الذين اعتقد الوهابيون أنهم نجدة منه ، فأطلقوا عليهم الرصاص، وبعد
أن عرف الأمر اعتذرالسلطان عبد العزيز للإمام يحيى عن هذا الخطأ ، واتفقا على
حفظ المودة بينهما بتعويض مقبول معقول، ولكن حسينًا كان أمطر العالم كله
برقيات في التشنيع على الوهابيين.
وآخر هذه الغارات حملة ولي عهد حسين الأمير علي على الوهابيين بالقرب
من خيبر ، وقد مهد لذلك بخدعة هو بارع بأمثالها.
ذلك بأن أعلن عقب زيارته لشرق الأردن في أواخر العام الماضي بأنه قد عفا
عن المسجونين والمعتدين ، وأباح المرور والدخول في المدينة المنورة وسائر
الممالك الهاشمية! ! وأنه لا حرج على النجديين في التجارة في بلاد الحجاز، ولما
تبعه نجله وولي عهده السيد علي أمير المدينة المنورة [12] إلى شرق الأردن أمره
بتأليف حملة؛ لغزو عرب ابن سعود المخيمين بالقرب من خيبر إذ يكونون وادعين
هنالك، مغترين بذلك التأمين العام والعفو الشامل، فألفها من ستمائة هجان
وأربعمائة فارس بقيادة الشريف جعفر بن سلطان ففتكت بالإخوان المتفرقين في
الأطراف ، وسلبت أموالهم ومواشيهم ، وهمت بالرجوع ، ولكن نبأها كان وصل
إلى الإخوان الذين في جهة خيبر، فأتبعوها وفتكوا بها فتكة لم يسلم منها إلا أفراد من
فارة الهزيمة ، واسترجعوا جميع ما أخذت ووصل قائد الحملة الشريف جعفر إلى
المدينة المنورة مضرجًا بدمه ، فكان من سوء تأثير هذه الحملة أن زالت بقية الثقة
بأقوال (ملك جميع البلاد العربية) على ما أضيف إليه من لقب (الخلافة الإسلامية)
وانقطعت سبل التجارة بين نجد والمدينة المنورة ، كما انقطعت مع مكة قبلها ،
وكان ذلك سببًا لشدة غلاء اللحم والسمن في الحجاز كله.
على أن الأمير عليًّا أذاع في جرائد سورية وفلسطين وغيرهما وجريدتهم قبلة
الكذب أن بعض الوهابيين حاولوا الاعتداء على سكة الحديد الحجازية ، فأدبتهم
الجنود الهاشمية، أو ما هذا معناه. هذا ملخص ما كتبه إلينا بعض رجالهم بل
ضباطهم.
(6)
بث حسين الدسائس وإغراؤه للعداوة والفتن بين نجد والبلاد المجاورة
لها ، منذ اعتقد أن الحجاز صار ملكًا له ، وأنه سيكون في خاتمة الحرب ملكًا على
جميع البلاد العربية ، بما كان يكتبه إلى ابن الرشيد وآل عايض وغيرهم، وهذا
أمر قد أذاعته حكومة نجد في البلاغ الذي نشره الأمير فيصل نجل سلطان نجد في
جرائد مصر وغيرها المؤرخ في 20 رجب سنة 1342 وقد جاء فيه ما نصه:
(إن تحت يدنا من الكتب والرسائل التي وجدت في تربة والخرمة وعسير ما
يفيد أن ملك الحجاز وولده عبد الله لا يسعون إلا لشهواتهم ومصالحهم ، ولو أدى ذلك إلى هدم بناء العرب ، ولكننا نمسك عن نشرها الآن ، فإن سمح لنا ملك الحجاز
بنشرها نشرناها ، وهنالك يعلم العالم الإسلامي والعربي تلك الجنايات والدسائس)
إلخ.
(7)
ما ذكر في هذا البلاغ النجدي الرسمي من بث حسين الدسائس في
بريدة من بلاد نجد ، وإغرائها بالخروج على حكومتها.
(8)
إنه كان سببًا في فشل مؤتمر الكويت؛ إذ اشترط في الاتفاق مع ابن
سعود تركه لبعض بلاده كما هو مشهور [****] .
فعلم من هذه الأسباب أنها تفصيل لخطة حسين فيما سماه الوحدة العربية التي
ذكرنا نص عبارته الرسمية فيها في المقالة السابقة ، وهي واضحة في أنه لا يقر له
قرار حتى يزيل سلطنة نجد من الوجود ، ويجعل بلادها تابعة له ، وهذا كافٍ في
عُرْفِ كل دولة وكل حكومة في العالم لمقابلته بالمثل، ولكن السلطان ابن سعود لم
يحفل يومًا ما بعداوة شريف مكة؛ لعلمه بضعفه وعجزه، أن ينال منه منالاً ، وقد
صرح تصريحًا رسميًّا بأنه إنما ينقذ الحجاز من ظلمه وبغيه؛ لأجل المصلحتين
الإسلامية والعربية اللتين فصّلنا أسبابهما في المقالة السابقة ، وسنيين في المقال
التالي وجه الوجوب الشرعي لهذا الإنقاذ ممن سمى نفسه (المنقذ) ، ونبين أن هذا
خدمة جليلة للمصلحتين بالدليل والبرهان.
****
الوهابيون والحجاز
(4)
بينا في المقالة الثانية الأسباب العامة التي توجب إنقاذ الحجاز من طاغوت
مكة حسين بن علي على مَنْ قَدَرَ عليه من المسلمين كأهل نجد، وفي المقالة الثالثة
الأسباب الخاصة بأهل نجد أنفسهم، ونسينا أن نعد منها منعهم من التجارة في
الحجاز ، بل جاء بالعرض وهو الذي كان من أسباب شدة غلاء السمن واللحم في
مكة كما بيناه في المنار من قبل، وقلنا: إن هذه الأسباب الخاصة كافية في البعث
على القتال عند كل أمة ودولة، ولكن سلطان نجد لا يبالي بعداوة حسين له لبلاده،
ولا بمظاهرة أصحاب الألقاب الفخمة له من أولاده، الذين لم يستح كل واحد منهم
بإظهار الاحتقار له بمثل قولهم ليس ابن سعود إلا شيخ عشيرة أو قبيلة؛ وإنما هو
يرجح الواجب الشرعي والمصلحة العامة الإسلامية والعربية على المصلحة النجدية
الخاصة، ونحن نؤيد قولنا بالوثائق الرسمية حقيقة أو حكمًا كما أيدنا كل موضوع
مما بيناه في المقالات الثلاث.
نشرنا في المنار ثلاث وثائق صدرت من الرياض عاصمة آل سعود فيما بين
الحجاز ونجد من الخلاف ، سبقنا إلى نشرها كثير من جرائد مصر وغيرها من
البلاد الشرقية ولا سيما العربية:
(الأولى) : بلاغ بإمضاء الأمير فيصل نجل السلطان عبد العزيز آل سعود
عنوانه (للحقيقة والتاريخ) وجْهه إلى أشهر الصحف في العالم الإسلامي في 20
رجب سنة 1342 ، يتضمن سعي سلطان نجد في أثناء الحرب وبعدها لبناء الوحدة
العربية ، ومقابلة الملك حسين له بالاستهزاء ، وسعيه لنقض بنيانها بما كان يسعره
من نار الفتن والدسائس) إلخ ، وقد حدثنا من سمع من لسان السلطان عبد العزيز
آل سعود أن فيما كتبه إلى ملك الحجاز أن يكون هو (أي الملك حسين) رئيس
الوحدة العربية المقترحة 000 فهزئ به ولم يرد عليه، وفي هذا البلاغ إنذار للملك
حسين بنشر المكتوبات التي وجدت بإمضائه في تربة وعسير والقصيم في الحث
على الإفساد والفتن إذا هو مارى فيها
(الوثيقة الثانية) : بلاغ آخر منه (للعالم الإسلامي والشعب العربي) صدر
من الرياض في 28 شوال سنة 1342 افتتحه بأنه منذ بضع سنين قام نفر من
العرب يطالبون باستقلال شعبهم واتحاد أمرائه ، فحمدت حكومة نجد سعيهم (قال) :
(وعرضنا عليهم مساعدتنا على أن نضع حدًّا لمطامع الأجانب ومقدار مداخلتهم
في بلاد العرب ، فأبوا إلا أن ينفردوا بهذا العمل الخطير ، ويأخذوا على عاتقهم
مسئوليته ، ويحوزوا وحدهم فخر تحرير بلاد العرب؛ فقلنا: أنجح الله استقلال
العرب أيًّا كان المحرر والمنقذ ، ولكن ما كاد السيف يوضع في غمده حتى رأينا الاستقلال والتحرير وصاية وانتدابًا ، وحتى رأينا شباب العرب وأحرارهم
يقادون إلى السجون ويجلون عن بلادهم ، ويمنعون من الإقامة في ديارهم ، فهل
الاستقلال أن يصبح العرب غرباء في بلادهم ومرافق الحياة في يد غيرهم؟ ولولا
أن الحجاز يمس شعور المسلمين احتلاله لرأينا الانتداب قد ضرب عليه) .
ثم ذكر مناوأة هؤلاء الجناة على البلاد العربية لنجد جارتهم؛ لأنها (قوية
مستقلة ، لم تنفذ إليها مطامع المستعمرين) ثم قال:
(إنَّ نجدًا تمدُّ يدها لكل من يريد خير العرب ويسعى لاستقلال العرب ،
وتساعد كل من ينهض لتحرير العرب واتحاد العرب.
إن نجدًا ترحب بكل عربي أبي وتعد أرضها وطنًا لكل عربي سوري أو عراقي
أو حجازي أو مصري ، إن نجدًا لا تطمع في امتلاك أرض خارجة عن حدودها
الطبيعية ، ولكنها لا تقبل أن تستقل بلاد العرب كلها استقلالاً صحيحًا ، لا يكون
لغير أبنائها سلطان عليها) .
ثم ذكر مسألة الخلافة فنفى أن تكون وظيفته روحية للتبرك ، وأثبت أنها حق
لجميع المسلمين ليس لجامعة أو شعب حق البت فيها ، وأنهم لذلك أنكروا على
حسين بن علي (عجلته والحط من شأنها بقبوله هذا المنصب الذي لا يليق له) .
(وقال) : (إن أهل نجد يوافقون إخوانهم أهل مصر والهند في وجوب
عرض هذه المسألة على مؤتمر يمثل الشعوب الإسلامية تمثيلاً صحيحًا)
فهذه تصريحات قطعية في رأي حكومة نجد في استقلال البلاد العربية
استقلالاً صحيحًا مطلقًا من قيود الوصايا والانتداب ، التي جناها عليها بيت حسين
الحجازي ، ولا يزالون يخدمون حلفاءهم في تمكينها جهارًا ، ونصوص لا تحتمل
التأويل بأن أئمة نجد وحكامها يعدون جميع الشعوب الإسلامية إخوانًا لهم ، خلافا لما
يفتريه عليهم حسين بن علي وأجراؤه من عدم اعتراف النجدي لأحد بالإسلام غير
الوهابيين.
(الوثيقة الثالثة) ما صرح به السلطان عبد العزيز آل سعود نفسه في
مؤتمر الشورى ، الذي عُقِدَ في الرياض عاصمة نجد في أول شهر ذي القعدة
الماضي سنة 1342 ، فقد اجتمع هنالك كبار علماء البلاد وزعماؤها ، ورؤساء
الأجناد وقوادها في قصر الإمام عبد الرحمن الفيصل والد السلطان الذي حضر
مجلسهم، وكانوا قد كتبوا إلى والده الجليل برغبتهم في أداء ركن الإسلام - الحج -
والاستعداد لغزو ملك الحجاز وصدّ عدوانه ، فأخبرهم أنه أرسل مكتوباهم إلى ولده
السلطان في أوقاتها وقال لهم: اسألوه عنها.
فتكلم عنهم سلطان بن مجاد بن حميد زعيم برقا من عتيبة ، وأمير هجرة
غطفط قال:
أيها الإمام إننا نريد الحج لا محالة ، ولا نستطيع أن نصبر على ترك ركن
من أركان الإسلام مع قدرتنا عليه ، إن مكة ليست ملكًا لأحد ، ولا يحق لأحد أن
يمنع مسلمًا أو يصد مؤمنًا عن أداء فريضة الحج ، إننا نريد أن نحج فإن منعنا
شريف مكة دخلنا مكة بالقوة ، وإن لم يصدنا عن سبيل الله أو يلحق بنا أذى فنحن
نحج ولا شأن لنا به ، وإذا كنتم ترون من المصلحة تأخير فريضة الحج فلابد من
غزو الحجاز ، وتخليص البيت من سيطرة طاغية مكة الذي أرهق العباد ، وضرب
من المكوس والرسوم على قاصدي بيت الله الحرام ما تبرأ منه الشريعة الطاهرة) .
فأجاب السلطان بإحالة الحكم في مسألة الحج على العلماء ، فقرروا وجوب
أدائه بالرضا أو القوة إلا أن يكون في ذلك مفسدة راجحة ، وسألوه عن ذلك فشرح
لهم ما كان من سعيه للسلام والأمان في الجزيرة ، والعيش مع شرفاء مكة بالمحبة
والمودة ، وما كان من سعي الشريف حسين؛ لإلقاء الفتن بين النجديين إلى أن قال
ما نصه:
(السلطان عبد العزيز: أيها العلماء والإخوان لقد سعيت من مدة طويلة في
بسط السلام والأمان داخل الجزيرة ، فنحن لا نود أن نحارب من يسالمنا ، ولا
نمتنع عن من يصافينا ، لقد أحببت أن نعيش مع أشراف الحجاز كما يعيش
الجيران على المودة والمحبة ، ولكن شريف مكة كما تعلمون يسعى دائمًا
لبث الدسائس وإلقاء بذور الخلاف بين عشائرنا ، ولكنه كان دائمًا يبوء بالخسران ،
والله لا يترك الحق يصرعه الباطل ، إن شريف مكة قد ورث من أسلافه بغضكم ،
فهو لا يفتأ يطعن في طريقكم السوي وسيرتكم المحمدية ، ولا يألوا جهدًا في
الافتراء علينا والطعن على علمائنا ، ولكن أهل الحق لا يضرهم من ناوأهم ،
ولينصرنهم الله ما نصروا دينه وظاهروا شريعته) .
(إن شريف مكة لم يكفه ادعاؤه الزعامة على العرب مع أنه أضعفهم ، بل
قام يلقب نفسه بإمارة المؤمنين ، مع أنه يعلم أن الأقطار الإسلامية كلها تبغضه ،
وأن علماءكم قد أرسلوا التلغرافات إلى مصر والهند ، ينكرون عليه هذه الدعوى التي
لا نراه كفوًا لها ، ولابد من وضع حد لأكاذيبه وإفساداته) .
(وأما الحج هذه السنة فلا أراه من مصلحتكم ، أنا لا أقبل أن تحجوا وبكم
شيء من الضعف ، أو يلحق بكم نوع من الأذى والضرر ، وإني على يقين أن أخذ
مكة والمدينة لا يحتاج إلى أكبر مجهود ، ولكن مكة ليست لنا وحدنا بل هي
للمسلمين كافة ، وما دمنا لم نضع خطة بالاشتراك مع المسلمين ، فأنا لا أجيز لكم
الاستيلاء على إحدى المدن المقدسة) .
(إن شريف مكة قد لا يمنعكم من الدخول إلى مكة ، ولكن الرجل لا يعدم
وسائل الشر ، فقد يدس من يتحرش بكم؛ لتحدث فتنة في مكة في موسم الحج
وفيه المسلمون من كل جنس ، وإني أكاد أجزم أن هذه خير فرصة له؛ ليهيج علينا
العالم الإسلامي الذي أخذ يفهمنا ويقترب منا ونقترب منه ، واعلموا أن الأمر لا
يطول فاصبروا إن الله مع الصابرين) .
عندئذ قال العلماء بصوت واضح: إنه لا حرج عليكم من تأخير الفريضة هذا
العام ، مادام أن أدائها قد يؤدي إلى فتنة في بلد الله الحرام. اهـ
فهذا نص قطعي رسمي من سلطان نجد في مجلس الشورى العام لبلاده في
الحامل له على إنقاذ الحجاز من هذه الحكومة الطاغوتية القيصرية؛ المسماة
بالعربية الهاشمية ، لا تحتمل التأويل ولا الدعاية السياسية التي لا تعرف في تلك
البلاد ، ولو في غير ذلك المجلس الرسمي ، ولقد صبر سلطان نجد صبرًا لم يعهد
له نظير من قوي يُعْتَدَى عليه جميع أنواع الاعتداء الدينية والدنيوية ، من ضعف
عاجز يصول ويبغي سرًّا وجهرًا ، حتى يتجرأ على مطالبة هذا القوي في مؤتمر
الكويت بأن يترك لأمره جُلَّ مملكته - أعني إقليم الإحساء الذي استرده سلطان نجد
من الدولة العثمانية - وإمارة آل رشيد الذين ناصبوا بلاده العداء حتى انتزعوها من
والده بمساعدة الدولة ، ثم أدال الله له منه - وإمارة عسير التي استولى عليها
بالاتفاق الذي عقد بينه وبين المرحوم السيد الإدريسي؛ وتربة والخرمة المختلف
عليهما بين حدود الحجاز ونجد ، ورضي ابن مسعود باستفتاء أهلهما.
ملخص ما تقدم: إن سلطان نجد قد علم هو وأمته بعد التروي واستفتاء
العلماء أن إنقاذ الحرمين الشريفين من حسين بن علي واجب شرعًا ، ولو لم يكن
لذلك من موجب إلا منع أهل نجد من الحج لكفى ، فكيف إذا أضيف إلى ذلك سائر
ما أشرنا إليه فيما أجملناه في الأهرام ، وفصلناه في المنار من إلحاده بالظلم لأهل
الحرمين والحجاز ، وإدخاله للنفوذ الأجنبي للبلاد ، وخطره على الأمة العربية وما
بقي لها من البقعة الصغيرة المستقلة في جزيرتها ، وتكفيره للترك وللمصريين
كالنجديين ، ثم تنحله منصب الخلافة.
وفي تصريح السلطان عبد العزيز نص قطعي باعترافه هو وعلماء بلاده
بإسلام جميع الشعوب الإسلامية ، والرغبة في التعارف والتواد معها ، وبأن هؤلاء
الأمراء الحجازيين ورثوا عن سلفهم تكفير النجديين والطعن فيهم والتنفير منهم.
وقد استفتينا واستفتي غيرنا في شأن هذا الباغي (الملك حسين) في سنة
1341 ، فأتى بعض علماء الأزهر بأنه من البغاة المتغلبين الذين يجب قتالهم على
إمام المسلمين ، وكتبنا نحن فتوى مطولة نشرناها في المنار الذي صدر في ذي
الحجة من تلك السنة (ج8 م 24 ص 593 - ص 616) ، ونشرناها في جريدة
الأهرام أيضًا ، أجملنا فيها صفاته وجناياته التي يقتضي بعضها الردة إلا أن يوجد
ما يدفعها من شبهة ، وأقلها البغي والإلحاد والظلم في الحرم؛ إلى آخر ما لخصناه
في هذه المقالات ، ولكننا استدركنا على من جعل حكمه حكم البغاة متسائلين: أين
إمام المسلمين الأعظم الذي يجب عليه قتاله؟
ثم بينا أن إنقاذ الحرمين من بغيه وظلمه يجب على كل من يقدر عليه من
جماعات المسلمين وأمراءهم ، وأن أقدرهم على ذلك سلطان نجد ، وإمام اليمن ،
وذكرنا ما يقال في المانع المشترك لهما من ذلك، وهو الخوف أن يفضي إلى تدخل
الإنكليز في الحجاز؛ لأنه جعله تحت حمايتهم؛ وقد ثبت هذا بدعوته هو وخلفه
المخذول لهم ، واستنجادهما إياهم؛ لإرسال طيّاراتهم وغيرها ، لقتال سلطان نجد
وإرجاعه عن الحجاز؛ وذكرنا أنه لا يرجى من إمام اليمن أن ينقذ الحجاز؛ وما
كان يقول أكثر الناس في مثل مصر وسورية من سبب امتناع ابن مسعود عن
الاستيلاء على الحجاز ، وهو اصطناع الإنكليز له بالمال وتخويفهم إياه من تأليب
الحجاز والعراق وعرب فلسطين عليه إذا هو خالف رأيهم في ذلك ، وقولهم: إنهم
هم الذين صرفوه عن أخذ مكة بعد سحقه لأعظم قوة ساقها عليه الحجاز بقيادة الأمير
عبد الله في تربة؛ ومن المعلوم أن سبب هذه الآراء دعاية الحجازيين وأقوال
جرائدهم المأجورة.
ثم ذكرنا أقوال النجديين في سبب ذلك وهي ترجع إلى سببين (أحدهما) :
كراهة السلطان عبد العزيز آل سعود لسفك الدماء وحبه للسلم ، وأنه لذلك أخضع
آل الرشيد بالحصار الطويل في أشد أيام العسرة والغلاء. (وثانيهما) : تحرجه
وتأثمه من دخول مكة فاتحًا ، وقد صح في الحديث أن القتال فيها لا يحل لأحد ،
حتى قال بعض العلماء: إن أفراد الجناة الذين يثبت شرعًا وجوب قصاصهم يجب
أن يقتلوا خارج الحرم.
ثم ذكرنا أقوال الأئمة وكبار العلماء في مسألة القتل والقتال في الحرم ، وأن
الشريف حسينًا لم يبال بحرمة الحرم فقاتل الترك فيه ، ولا يزال يقتل كل من يزين
له هواه قتله ، ويسمي فعله حدًّا شرعيًّا ، وأنّ المخرج من ذلك سهل ، وهو كما قال
بعض العلماء: أنْ تحصر شقة الحرم وهي محدودة حتى يضطر المعتصم فيه إلى
التسليم؛ وقد فعل ذلك الوهابية عند الاستيلاء على الحجاز في فجر القرن
الثالث عشر للهجرة ، فحصروا الشريف غالبًا وأعوانه ، وقطعوا عنهم ماء عين
زبيدة ، حتى اضطروا إلى التسليم ، ودخل الوهابيون مكة محرمين.
وبذلك عللنا تأخرهم عن فتح مكة في هذه المرة على اختلاف أهواء الكتاب
وآرائهم في تعليله ، وإرجاف أجراء الوكالة العربية الهاشمية الملكية الإمامية الخلفية
[13]
بمصر في هذه الفرصة تارة بأنهم عادوا أدراجهم مخذولين ، وتارة بانتظارهم
للإشارة المطاعة أن ترد عليهم من لندن كانتظار الملك الخليفة حسين أولاً ، وانتظار
الملك علي النيابي الدستوري المدني ثانيًا.
وإنا لنعجب أن صدق هذه الفرية بعض المصريين العارفين بالشؤون العامة ،
وسيعلمون أن الإنكليز يعدون نجاح الوهابية أكبر الأخطار على مطامعهم في العرب
والإسلام.
كذلك سوغت لهم هذه الفرصة تكبير أمر هذا القتال ، بإيهام الناس أنه من
أعظم الحروب تسيل فيه الدماء أنهارًا في المعارك التي تشيب لهولها الولدان وتمثيل
الوهابية للناس في صور السباع الضارية والوحوش المفترسة ، تبقر البطون ،
وتدق الصدور ، وتمزق الأشلاء ، وتلغ في الدماء ، وما حجتهم على ذلك إلا البرقية
التي طيرها مسليمة الزمان حسين إلى جميع بقاع الأرض بإمضاء؛ بل أسماء
مجهولة من سكان مكة وحجاجها ، وأنفق الألوف عليها ، والحق الواقع أنه لم يكن
ثَمَّ إلا مناوشات ضئيلة مرتين أو ثلاثًا ، ولولا بعض اليمانيين وغيرهم في جيش
الحجاز لَمَا وقع شيء من ذلك يذكر؛ لأن أهل الحجاز مجمعون على مقت
الطاغوت المرهق الذي سمى نفسه المنقذ ، وما زالوا يدعون الله بإنقاذهم منه حتى
استجاب لهم.
وقد بنى على هذه الأراجيف الخاطئة الكاذبة الدعوة إلى استصراخ أمم الشرق
والغرب من جميع الملل والنحل ، إلى التعاون والسعي؛ لإنقاذ البشر من هذه
الكارثة التي تصغر دون وقائعها معركة (فردون) وغيرها من معارك حرب
المدنية العظمى ، وإنما الغرض من ذلك إبقاء حكم الطاغوت الأكبر في حرم الله
تعالى ، يرهق أهله ومن يرد إليه من الحجاج ظلمًا ، ويميت الألوف منهم ظمأً إلخ.
وقد انخدع بهذه الأراجيف مجلس الأمور الشرعية المحلية بفلسطين المسمى
بالمجلس الإسلامي الأعلى ، فطير البرقيات إلى ملوك المسلمين وجمعياتهم الدينية
وغيرها ، يستصرخهم للتعاون على إيقاف هذه الحرب حقنًا للدماء
…
وكذلك جمعية
الرابطة الشرقية التي رددت صدى هذا المجلس في جلسة لم تبلغني دعوتها إلا بعد
اجتماعها ، ولا شك في حسن نية المجلس والجمعية ، ولو صدقت أراجيف الحجاز
لكنت على رأي إخواني فيهما ، فأنا وكيل هذه الجمعية وأعضاء المجلس كلهم
محترمون عندي ، ورئسهم من خواص أصدقائي ومن أقرب الناس إلى رأيي.
قد طالت هذه المقالة ، وكنا نريد ختم هذه المقالات بها ، ولكن علمنا بعد كتابتها
وقبل نشرها أن الله تعالى قد قضى على الطاغوت الأكبر مثار الشقاق والنفاق حسين
ابن علي ، وأنقذ الحجاز منه ، فخرج من جدة مذؤومًا مدحورًا ولو بقي فيه ولو بعد
عزله لما أمنت شره ، وسينقذه قريبًا من ولده وولي عهده وخليفته الملك علي
المهزوم المدحور ، الذي لم يكد يسمى ملكًا للحجاز بعد انهزامه من الطائف أولاً
ومن الهدى ثانيًّا ومن كرى ثالثًا ، حتى أبرق إلى وكيل والده ناجي الأصيل بأن
يمضي المعاهدة البريطانية الحجازية المتضمنة لإقرار الإنكليز على السيادة على
البلاد المقدسة ، وتمليك رقبتها لليهود الصهيونيين ، وإعطاء البريطانيين من
الحقوق في الحجاز ما قامت قيامة العالم الإسلامي على والده من أجله.
وإن لنا كلمة ختامية فيما يجب على المسلمين للحجاز وأخرى في السياسة
البريطانية مع العرب في هذا الطور الجديد.
(للمقالات بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
خاس يخيس خيسًا كذب - وخاس بالعهد خيسًا وخيسانًا غدر ونكث.
(1)
الصواب أن يقال: الحق لأنه مصدر يوصف به المذكر والمؤنث ، والمفرد والجمع على سواء.
(2)
الصواب أن يقال: استبدال بعض البلاد الهندية بالبصرة: أي يأخذوها بدلاً من البصرة التي قاتلوا أهلها للاستيلاء عليها ، وأعانهم بعض العرب على بعض، فإن الباء تقرن بالمبدل منه {وَمَن يَتَبَدَّلِ الكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ} (البقرة: 108) الخ.
(3)
كان السيد رحمه الله على سعة مادته في اللغة العربية يعرف بعض الأعلام بلا مسوغ ، فيقول: الإيران الأوربة ، ويظهر ذلك في قلمه أحيانًا ككثير من الأعاجم.
(4)
ضبط تارة ربخت بفتح فكسر فسكون ، وأخرى رنجت بالنون والجيم، وضبط سنك بكسر السين المهملة وسكون النون.
(5)
يعنى: الذين قاموا بالثورة الهندية الكبرى المشهورة.
(6)
وأعجب من ذلك أنهم بعد اتساع دائرة العلم والعرفان فيهم ، وسعي عقلائهم إلى التعاون بين المختلفين في الملل والنحل منهم؛ لرفع نير العبودية عن أعناق الجميع ، تمكن الإنكليز بعد نجاح أولئك العماء من التفريق بينهم وإضرام نيران التعصب والشقاق الديني فيهم! ! فإلى متى إلى متى؟.
(*) نشرناها في الجزء الثاني من مجلة مؤتمر الخلافة بمصر.
(**) المنار: نشرت هذه المقالة في الأهرام في 8 ربيع الأول ، وكانت أخبار الحجاز قد جاءتنا بأنه استقال أو خلعه حزب تألف من كبراء أهل جدة ومن هاجر إليها من مكة ، ونصب ولي عهده عليا ملكًا دستوريا للحجاز وحده ، ثم تبين أن ذلك كان خداعا كما سنبينه بعد.
(7)
الصواب: منفصل بعضها عن بعض.
(8)
الصواب فيما بينها.
(9)
أي توليته إمارة الحجاز.
(10)
يقال: وقع بالعدو وأوقع به؛ أي: فتك به في القتال، وواقعه: قاتله.
(11)
أي أكدوا جزم كاذبًا.
(***) لما فتح الوهابيون الطائف ، أرسل الملك حسين برقية طويلة من مكة باسم بعض أهلها وألوف الحجاج من رعايا الأجانب فيها إلى قناصل الدول بجدة ، وإلى جمعية الأمم بسويسرة ، وعواصم أوربة وجرائدها ، وأشهر مدن الشرق والغرب وجرائدها ، يزعم فيها أن الوهابيين اقترفوا أعظم الفظائع والمنكرات ، ثم ظهر كذب البرقية من وجوه متعددة ، وأن الذين سبقوا إلى احتلال الطائف كانوا من عرب الحجاز التابعين لنجد لا من النجديين ، وأن النجديين لما وصلوا إلى الطائف انتظمت الأمور فيها كأنها لم تُصْلَ بنار حربٍ.
(12)
وهو الذي وردت البرقيات قبل نشر هذه المقالة بنصبه ملكًا على الحجاز ، وهو أعجز من والده عن إرادته وحفظ الأمن فيه.
(****) تواطأ ملك الحجاز حسين هو وابناه فيصل ملك العراق وعبد الله أمير شرق الأردن على أن يشترطا في اتفاقهما مع سلطان نجد على الحدود وغيرها الاتفاق على حدود الحجاز ومطالبه، وصرحوا بأن منها ترك سلطان نجد لبلاد حايل وللجوف وسكاكه من بلاده المتصلة بسورية ، وللخرمة وتربة من جهة الحجاز ، ولعسير؛ ولذلك فشل مؤتمر الصلح.
(13)
الخلفية بالتحريك: نسبة إلى كلمة الخليفة.
الكاتب: محمد رشيد رضا
المنار بين الروافض والنواصب
ذكرت رصيفتنا مجلة العرفان الشيعية الغرَّاء أن في جزائر جاوه نواصب
تنصرهم وتؤيدهم مجلة المنار- أو ما هذا معناه.
لا أجد سعة في الوقت أبحث فيها عن الجزء الذي ذُكِرَ فيه هذا المعنى ولا
حاجة إلى نقله بحروفه ، وكنت نسيته فذكرني به ما كتب إليَّ أخيرًا من تلك البلاد
من الانتقاد والعتاب على ما نشرت في المنار من الثناء على إمام اليمن وتعظيم شأن
اليمانيين في مباحث الخلافة مما عُدَّ دعاية له ، وتأييدًا لدعاة النزعة الشيعية في تلك
الجزائر وتقوية لضعفها؛ حتى قال بعضهم: إنا لا نلومكم على التعصب لنسبكم ،
ولا يعنينا من إمام اليمن كونه زيديًّا أو غير زيدي ، وإنما نبغي مصلحة المسلمين
والعرب ، وأهل اليمن ليسوا أهلاً للقيام بها.
أنا لا أذكر الآن هذا ولا ذاك للرد عليه ، فإن الجدال والمراء في المذاهب
ونصر بعض الأحزاب والشيع الدينية - وكذا السياسية - على بعض لم يأت في يوم
من الأيام بإقناع ، بل أتى بشرور كثيرة أفسدت على أهلها - ولاسيما المسلمين - منهم
دينهم ودنياهم؛ إذ خرجوا بها عن وحدة الدين العامة ، وصدق على مثيري فتنة
التفريق وأتباعهم قوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا
دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: 159) الآية؛ فظلوا يتعادون
ويشاق بعضهم بعضًا؛ لأجل منافع بعض الزعماء الذين يطلبون الملك أو الجاه بهذه
الوسيلة؛ ولما ضعفت العصبية الدينية والمذهبية بالتبع لأهلهما في بعض البلاد ،
انتقلوا منها إلى العصبية الجنسية والوطنية ، فحاربوا بها الدين نفسه ، وقد كان هذا
غرضًا مقصودًا بالذات لبعض اليهود ومجوس الفرس الذين أحدثوا بدعة التشيع
والأحزاب العدائية في الإسلام ، والذي يساوي بين الأجناس والأوطان والطبقات
والأفراد في جميع الأحكام ، وجعل التفاضل بالعلوم النافعة والأعمال الصالحة؛
لإصلاح الإنسانية العامة وإيجاد التآخي البشري ، ورفع مرتبة البشر عن عبادة
بعضهم لبعض بنصوص القرآن المحكمة؛ فنحن نحارب هذا التفرق والعداء ،
وندعو إلى الوحدة والاتفاق ، والشواهد على هذا في جميع مجلدات المنار كثيرة لا
يمكن لأحد أن يماري فيها مراءً ظاهرًا ، وأما مسألة دعوة التشيع في جزائر جاوه
فهاك نبأها وخطتنا فيها:
كنا ذكرنا في أجزاء من مجلدات المنار السابقة أنه حدث في تلك الجزائر
الشرقية الجنوبية دعوة تشيع بين الحضارمة وغيرهم من العرب ، أحدثت شقاقًا
جديدًا ، ولم ندر غرض الدعاة منها ، فقد كان جميع مسلمي تلك البلاد من عرب
وعجم يجلون السادة العلويين ويوقرونهم ، - والفريقان ينسبان إلى مذهب الإمام
الشافعي رضي الله عنه فصار لهم بها خصوم ينكرون عليهم؛ لا نواصب
يبغضون عليًّا - كرم الله وجه - وقد جاءتني رسائل كثيرة من الفريقين بعضها
مخطوط وبعضها مطبوع ، يطلبون مني نشرها في المنار ، وأسئلة يستفتونني بها
فيما شجر بينهم ، فكنت أهمل بعضها وأقف موقف المصلح فيما أنشر منها ، وما
أكاتب به أهلها ، وأحببت أن أقف على قصد الذين أحدثوا هذه الدعوة ماذا يريدون
منها؟ أهو ما عهد منذ القرون الأولى من فتنة الإمامة الدنيوية الظاهرة أو الإمامة
الدينية الباطنة معصومتين أو غير معصومتين؟ أم ثَمَّ قصد جديد يناسب هذا
العصر ، أم مجرد استعلاء السادة العلويين على غيرهم، وإن كانوا يفوقونهم في
علومهم وفضائلهم؟ بحثت وتساءلت فلم أقف على كنه الحقيقة كلها ، وكنت
اقترحت أن نترك هذه الدعاية الجدلية التي أرجح أنها ستنتهي بشر مما ظهر من
إنتاجها ضد ما يريد دعاتها ، وأن يستبدل بها دعوة إلى جمع رأس مال كبير؛
لإنشاء معاهد للتربية والتعليم خاصة بأولاد السادة العلويين في جميع الأقطار ،
يعلمون فيها التعليم العالي من ديني ودنيوي مع التربية الفضلى ليكونوا قدوة للناس
بحق ، وينهضوا بهذه الأمة النهضة التي تقتضيها حال العصر ، فيكون منهم
الأخصائيون في العلوم والفنون المختلفة ، والدفاع عن الإسلام وجمع كلمة المسلمين ،
وليستعينوا بها على كسب رزقهم من أشرف الطرق؛ فلم تلق نصيحتي سميعًا
مجيبًا ، وإن استحسنها بعضهم بالقول فقط ، وقد كنت بهذه الدعوة أَبَرُّ بسلالة
أجدادنا مما دعوا الناس إلى عبادة بعضهم والغلو القريب من العبادة في بعض ،
وإلى جعلهم خلفاء في الأرض؛ إذ كان واضعو تلك الدعوة من زنادقة اليهود
والمجوس أصدق أصدقائهم في الظاهر ، وأعدى أعدائهم وأعداء جدهم وقومه ودينه
في الباطن.
فأما اليهود من مبتدعي تلك الدعوة؛ كالسبائيين، فقد حملهم عليها حسدهم
للرسول صلى الله عليه وسلم ولقومه ، أن يكون منهم خاتم النبيين الذي بَشَّر به
موسى وغيره من أنبياء بني إسرائيل؛ ثم حقدهم على الرسول لنصر الله إياه على
يهود مدينته وما يقرب منها ، وعلى عمر بن الخطاب الخليفة الثاني؛ لإجلاء قومهم
عن جزيرة العرب كلها ، على أنهم رأوا بعد ذلك من عدل العرب في سورية ثم في
الأندلس وغيرهما ما أنساهم ذلك الحقد ، وجعلهم أنصارًا للمسلمين على النصارى
الظالمين لهم؛ إذ لم يروا بعد ذهاب ملكهم عدلاً وإحسانًا إلا من المسلمين ، وما
سبب مكانتهم في بعض دول أوربة الكبرى في القرون الأخيرة إلا انتصارهم
بالدهاء والكيد على الحكومات الدينية فيها وثل عروشها ، واستبدال حكومات مدنية
مادية بها ، لا يقدر أن يفوق اليهود أحد فيها ، وقد أعاد الإنكليز العداوة بينهم وبين
العرب في هذا العصر.
وأما المجوس من الفرس فأصروا على الكيد للعرب والإسلام ، حتى غلبهم
الإسلام على أمرهم ، ولم يبق للمجوسية شأن قوي في شيء من بلادهم ، وظهر أن
تعصبهم الظاهر للعلويين كان نفاقًا ومكرًا منهم ، فإنهم حوّلوا عصبيتهم عن
العلويين إلى العباسيين لمَّا وُجِدَ من طلاب الخلافة في هؤلاء مَن يعرف كيف
يسخر تلك العصبية ، ثم وجد في إيران ملك مستقل ، ولم يكن لأهل البيت فيه
شيء من السلطان والحكم على استقرار تعاليم الشيعة وصيرورتها مذهبًا دينيًّا ، بعد
أن كانت لديهم حزبًا خداعًا سياسيًّا ، بل فضلوا جعل الملك في سلالة من الأعاجم
الذين عادوا قومهم وقاتلوهم؛ لأجل التشيع على جعله في السلالة العلوية الفاطمية
المحمدية.
وكانت عاقبة ذلك الغلوّ في التعظيم لآل البيت صرفهم في الأكثر عن تحصيل
الفضائل الذاتية من التفوق في العلم والعرفان ، والأعمال الناهضة بالإسلام ،
وصارت الألوف الكثيرة منهم كَلاًّ عن الناس في رزقهم ، وأغرب من ذلك كله في
سيرتهم أن تناط إمارة الحجاز ببطن من بطونهم ، فتمر القرون ولا يظهر أحد من
أفرادهم يصح أن يسمى مصلحًا في علم ولا عمل ولا حكم؛ بل غلب عليهم الجهل
والظلم في أفضل بقاع الأرض - دع الفسق وأخباره - حتى انتهى الأمر في هذا ،
وكان لهم أسوأ الأثر العصر إلى هذا الرجل الظلاّم (حسين بن علي) الذي اعتمد
على أعدى أعداء الإسلام والعرب في تسمية نفسه ملكًا للعرب وخليفة للمسلمين ،
وكان هو وأولاده مساعدين لهم على فتح بلاد العرب ، وتمكين سلطانهم فيها ،
دع شدة ظلمه لأهل الحرمين وحجاج الآفاق كلها.
مع هذا كله يقوم فينا هؤلاء الدعاة؛ للاهتداء بحملة أوراق هذه الأنساب ،
وأنهم كسلفهم الأول قرناء الكتاب ، ثم يفتحوا علينا باب الطعن في أهل الصدر
الأول حتى الخلفاء الراشدين منهم، كأبي بكر وعمر الذي يفتخر بعدلهما وفضائلهما
جميع المنصفين من البشر ، فقد كان من الرسائل التي لم ننشرها رسالة طبعت في
ذي الحجة الحرام سنة 1339 ، حاول كاتبها العلوي العامي إيجاب أخذ الدين عن
العلويين وحدهم ، وأن من أخذه عن غيرهم فهو (ضال منافق كائنًا من كان) ،
فيا ضيعة دين يؤخذ عن مثل هذا العامي الجاهل الذي لا يحسن كتابة عبارة
عربية صحيحة؛ بل يا ضيعة دين وأمة يسمى فيها حسين بن علي المكي ملكًا
للعرب وخليفة للمسلمين ، وما جعله هو وأولاده ملوكًا إلا الإنجليز!
ومنها رسالة أخرى يهذي مرسلها الجاهل في مسألة غضب السيدة فاطمة
عليها السلام ، من أصدق البشر وأخلصهم في حبها وحب أبيها عليه أفضل الصلاة
والسلام صاحبه الأول الثابتة صحبته بنص القرآن ، وصديقه الأكبر في إقامة
الإسلام والإيمان أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه.
الجواب عن هذه المسألة ليس بالممتنع الذي تنبو عنه أسنة الألسنة وتكبو في
ميدان بيانه جياد الأقلام ، لو كان السائل عنه مُشْتَبَهًا عليه ، وكان ينشد الحق فيه
ليعتصم به ، فإذا كنا نأخذ بما صح عنه صلى الله عليه وسلم من مناقب السيدة
ومناقب الصديق معًا ، فلا يعز علينا أن نرفع التعارض بين كلامه عليه الصلاة
والسلام فيهما بما يصدق به بعضه بعضًا ، ونعذر كلاً منهما بما كان منه باعتقاده
واجتهاده ، وأما إذا كنا نقبل بعضه ونرد بعضًا بأهوائنا ، كما فعل أعداء الإسلام
المفرقون من قبلنا ، فالنتيجة اليوم تكون غير النتيجة بالأمس ، غلو يقابل بغلو ،
وردّ يقابل برد ، وتجديد شقاق قاتل لجميع المسلمين في إبان هذا الضعف ، وإحاطة
الأجانب بهم وبمهد دينهم من البر والبحر.
وقد استتبع الطعن في الصحابة الطعن في حَفَظَةِ السنة ورواتها ، ونقادها
وحملتها ، وهذا يستتبع الطعن في القرآن الذي تجرأ بعض غلاة الراوفض على
القول بتحريف كلمه عن مواضعه ، وبكتمان الخلفاء الراشدين وجمهور الصحابة -
بَرَّأهم الله تعالى - لبعض كلمه وآياته وسوره ، التي زعموا أنها نزلت في أهل
البيت عليهم السلام وفي ولاية علي - كرم الله وجهه - وإمامته ، وقد ألفوا في
ذلك كتابًا طبعوه في طهران ، وفيه من الأكاذيب على أئمة أهل البيت - برأهم الله
تعالى وطهرهم - ما يقتضي لو ثبت أنهم أشد الكفار طعنًا بدين جدهم وهدمًا له
(وحاش لله) ، ولقد كان زنادقة المجوس واليهود الواضعون لهذه الزندقة يقصدون
بما افتروه عليهم ، أن ينسب هدم الإسلام إليهم؛ بل إلى جعل خنقه بأيديهم ،
بإضلالهم لمن أضلوا منهم ، ولا سيما إن صح نسب العبيديين وغيرهم من أئمة
الإسماعيلية ، ولايزال بعض المخلصين من الشيعة غافلين عن ذلك ، ولا غَرْوَ فقد
اغتر مثل الشريف الرضي - رحمه الله تعالى - بالعبيديين ومدح خليفتهم.
نحن واقفون على هذا كله ، ولم نفتح بابًا للخوض فيه؛ لأننا نود رتق الفتوق
التي أحدثها في الإسلام أعداؤه من زنادقة الفرس الباطنية وغيرهم لا توسيعها ، فقد
آن لنا أن نطهر أمتنا من جراثيم الوباء الذي أفسد به مزاجها من قبلنا ، أو لم يكفنا
شبهات ملاحدة هذا العصر ، التي كان من تأثيرها دعوة بعض كبراء الترك إلى
ترك الإسلام ، ولو إلى عبادة الذئب الأبيض ، ودعوة بعض نابتة الفرس إلى
المجوسية الأولى؟ أوليس أولو العلم والبصيرة في الدين مَن بقية أهل البيت
النبوي الكريم أولى من غيرهم بالتجافي عن الغرور بأنفسهم ، والتلافي لما أفسد
المحب الغالي والمبغض القالي من أمرهم ، وبإصلاح ما أفسد التشيع الديني ، ثم
التعصب الجنسي من أمة جدهم؟ مهما تكن المذاهب والتشيع التي نشؤوا فيها؟ بلى
والله، هذا ما نعتقده ولا نقول ولا نكتب ولا نعمل إلا ما نعتقد أنه الحق وفيه الصلاح
والإصلاح ، من غير تحامل إلى طائفة ، ولا تحيز إلى فئة ، ولا تحرف لمذهب.
ونحن نصرح بالاجتهاد والاستقلال المطلق فيما وقع فيه الخلاف بين
المسلمين باختلاف الفهم وتعارض الأدلة ، وإن ما كان عليه جماعة المسلمين في
الصدر الأول من أمر الدين هو الحق ، وإنَّ إجماعهم فيه حجة ، وإن شذوذ بعض
الأفراد لا يُعْتَدّ به ، وإن الخطأ في الاجتهاد جائز على كل مجتهد وواقع في كل
مذهب ، فلا يعذر أحد بقطع أخوة الإسلام بنصر مذهب على آخر ، وندعو الجميع
إلى التحاب والتآخي الديني ، الذي تجمعهم فيه العقائد القطعية؛ كوحدانية الله تعالى
ورسالة خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم ، وكون جميع ما جاء به من القرآن،
وما تواتر عنه من الأحكام حق؛ كالأركان الخمسة ، وتحريم الفواحش ما ظهر منها
وما بطن ، وإلى أن يعذر بعضهم بعضًا فيما لا قَطْعَ فيه ولا إجماع عليه مما صح
من النقل عند بعضهم دون بعض ، وما اختلف فيه الاجتهاد والرأي ، فلا يجعلوه
سببًا للاختلاف والتفرق الذي يبغضه الله تعالى وتوعد عليه بأشد الوعيد ، بل يتحتم
أن يجعلوه كسائر المسائل العلمية من كونية ولغوية ، فذلك أحرى أن تجتمع عليه
كلمتهم ، وتتحقق به وحدتهم ، وذلك خير لهم في دنياهم وآخرتهم ، وكذلك كان
الصالحون من سلفهم.
على هذه الطريقة استقمنا ، ولذلك ندعو منذ أسسنا المنار ، جرينا في التفسير
والفتاوى الشرعية على الاستقلال المحض ، واجتناب التزام شيء من المذاهب
الكلامية والفقهية ، وفي المقالات والآراء الاجتماعية والسياسية على النصح
الخالص لجميع الفرق الإسلامية ، وهو ما حمده لنا المنصفون من أئمتها وزعمائها
في الأمور الدينية والدنيوية ، حتى الذين بينهم أشد الخلاف، كالشيعة ، والأباضية
أو أدناه وأهونه، كالسلفيين ، والخلفيين من السنية ، ولدينا مكتوبات من كبرائهم في
هذا لا يحسن نشرها الآن ، وفي تفسير هذا الجزء وما قبله نموذج لمشربنا هذا في
مسألة من أهم المسائل الاعتقادية التي لا يزال الخلاف فيها شديدًا بين المذاهب
الباقية من الطوائف الإسلامية الكبرى إلى الآن وهي ثلاث:
(الأولى السنية) :
ولها في الأصول ثلاثة فروع؛ السلفيون وهم أهل الحديث وهم ثلة في الهند
وقليل في غيرها ، والحنابلة ومنهم أهل نجد وأتباعهم في جزيرة العرب ،
والخلفيون وهم الأشاعرة ومنهم المالكية ، والشافعية ، والماتردية ، وهم الحنفية
والخلاف بين هذه الفروع لولا جمود بعض أفرادهم ، وتعصبهم لأقوال بعض
الشيوخ ، لم يكن بالذي يبقى فأكثره لفظي محض ، وباقيه ضرورة لا عقيدة؛
كالتأويل لدفع بعض الشبهات، وما زالت مساجدهم واحدة يقتدي فيها بعضهم ببعض ،
وما أحدث الحكام والأمراء المتأخرون من إقامة عدة جماعات في بعض المساجد ،
حتى المسجد الحرام في وقت واحد لمذاهب الفروع فهو جهل سببه المنافع الدنيوية ،
وهو بدعة مفرقة ظن الجاهلون أن منع الوهابية إياها من المسجد الحرام في هذه الأيام
من شذوذهم.
(الثانية الشيعة) :
وله فرعان كبيران معروفان وبما لهما من دولة وحكومة وهما: الزيدية
والإمامية ، وفروع صغيرة ليس لها تأثير كبير في معارضة ما نهتم به وندعو
إليه من جمع الكلمة ، وإزالة ما بقي من ضرر الخلاف والتفرقة.
(الثالثة الأباضية) :
وهم المعتدلون من فرق الخوارج ، بل رأيت بعض علمائهم يبرئهم منهم ،
ولهم حكومتان سلطانيتان اعتدت الدولة البريطانية على استقلالهما ، وانتحلت لنفسها
حمايتهما بالرغم منهما؛ أعني حكومة عمان في أقصى الشرق من جزيرة العرب ،
وحكومة زنجبار في الشرق من أفريقية ، وفي شمالها عدد كبير منهم له شأن في
طرابلس والجزائر.
أما المسيحية القاديانية فهي فرقة إسلامية مارقة؛ إذ هي تدّعي وقوع الوحي
لمؤسسها المسيح الدجال ولغيره من خلفائه المضلين ، وأما البهائية فقد خرجت عن
كونها من فرق المسلمين ، وصارت تصرح بدينها في بلاد الحرية.
نحن نسعى للتأليف بين جميع الطوائف الإسلامية ، ونتقي في سعينا كل ما
يخشى أن يحبطه من جدل أو مناقشة في مسائل الخلاف المذهبي بينها وبين
الأخرى ، أو في شؤون حكومتها أو أحزابها السياسية ، وإنما حملنا تلك الحملة
الشديدة على جمعية الاتحاد والترقي؛ لأنها تصدت لإضعاف الدين الإسلامي نفسه
أو هدمه ، ولجعل السيادة في الدولة العثمانية للجنس التركي أو التوراني وحده ،
وكانت الدولة دولتنا ، وسياسة هذه الجمعية فيها خطر على ديننا وعلى قومنا
(العرب) وعلى الدولة في جملتها ، وقد صرحنا بأنها ستقضي على هذه الدولة
وصح قولنا.
وذلك الباعث الذي دعانا إلى تلك الحملة هو الذي دعانا في هذا العهد إلى
حملة على سياسة الملك حسين وأولاده ، فهي أشد خطرًا على ديننا وقومنا العرب
كما بيّنا ذلك بالبراهين في مقالاتنا المثيرة في المنار وغيره ، وهم أفراد لا
يتجاوزون عدد أنامل اليد ، لا شعب ولا دولة ولا عشيرة ولا أئمة مذهب ولا
زعماء حزب ، وقد انفض من حولهم الحزب السياسي الذي كان يؤيدهم ، ولولا ما
بقي لهم من الجاه والسلطة الممنوحة لهم من وليتهم (العظمة البريطانية) ، ومن
المال المأخوذ منها أو المسلوب من الحجاج ، لما بقي أحد يذكرهم بكلمة ثناء ،
ونسأل الله تعالى أن يكفينا شرهم قبل أن يتم ما نتوقع من خطرهم ، وقد نصحنا لهم
وسعينا لإصلاح شأنهم حتى يئسنا منهم.
وكذلك نصحنا لإمام اليمن ولسلطان نجد ، ولم نبال بعذل من عذلنا في الأول
لأنه زيدي ، ولا في الثاني لأجل لقب وهابي ، ونصحنا أيضًا لسلطان مسقط السابق
وهو إباضي ، وننصح لخلفه السلطان تيمور إذا سنحت لنا الفرصة ، وليقل من شاء
ما شاء ولينبزني المتعصبون بما شاءوا من هذه الألقاب ، وسأكون بهذا الجمع ملقبًا
بها كلها ومجردًا منها كلها ، (وإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) ،
وإنما يدهن العلماء والكتاب للجماعات التي ينسبون إليها أو لغيرها من الأحزاب
والشيع والمذاهب ، إذا كانوا يعملون ابتغاء الجاه عندها أو المال منها ، وأحمد الله
تعالى أنني أعمل ابتغاء مرضاته ، وإن سخط من شاء من الجاهلين والجامدين
والمتعصبين قلّوا أو كثروا.
أعيد القول كما بدأته: بأنني مسلم سلفي لا أقلد عالمًا معينًا ، ولا أتعصب
لمجتهد معين ولا أعيبه ولا أعيب أتباعه ، ولا أدعي تأسيس مذهب جديد ، وإنما
أتكلم في المسائل الخلافية بالدليل والأدب مع الجميع اتباعًا لعلماء السلف ، كما يرى
القراء في مسألة رؤية الرب تعالى في التفسير ، وأرى من أكبر المفاسد الطعن في
طائفة من الطوائف ، أو مذهب من المذاهب ، أو شعب من الشعوب، وانتقاده ولو
بما فيه من المساوي والعيوب؛ لأن ذلك يغريه بشدة الاستمساك بما عيب به ،
والتعصب لما انتقد عليه ، وعداوة العائب ، وكل من ينسب إليهم من قومه أو أهل
مذهبه ، ففي كل قوم خير وشر ، وحق وباطل ، وخطأ وصواب ، وإذا كنا لا نقول
بعصمة فرد من أهل هذا الزمان ، فهل يمكن أن نقول بعصمة طائفة كبيرة؟ وإنما
المصلحة في النصح اتباع قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ
الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ
بِالْمُهْتَدِينَ} (النحل: 125) .
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
خطاب عام للمسلمين في شأن الحجاز
(5)
علاوة
(في ظلم الملك حسين وولي عهده الأمير علي في المدينة المنورة)
كتب إلينا ناقد خبير من سكان المدينة المنورة مقالاً طويلاً ذا فصول في ذلك ،
فرأينا من إتمام الموضوع أن نلخصه بما يأتي:
(1)
نهبهما للأوقاف الأهلية الخيرية:
لما استولى الشريف حسين على المدينة المنورة بعد هدنة الحرب ، كان أول
شيء فعله أن وضع يده على أوقافها حتى الموقوفة على سكان البلاد كوقف المغاربة ،
وهو يحتوي على نخيل وأراضي وبيوت ، وكذا وقف الهنود والبخاريين وغيرهم ،
فريع هذه الأوقاف يوضع الآن في الخزينة النبوية ، ومنها يرسل إلى خزينة
الشريف في مكة إلى يومنا هذا ، وسنذكر بعض الوقائع في مخاصمة بعض
مستحقي هذه الأوقاف للأمير علي والشكوى لوالده.
ولم يكفه هذا كله بل تسلط على الأوقاف الخيرية المحبوسة على الفقراء في
المدينة ، وأمر بتحويلها إلى الخزينة النبوية؛ لتصرف في شؤون الحرم مدعيًا أن
المستحقين ليسوا موجودين ، والله يعلم أن عدد الفقراء في المدينة المنورة أكثر من
سائر سكانها ، ولكن ليس المقصد ذلك ، بل هو استيلاء الخزينة على غلة هذه
الأوقاف ، واطلاعها على تفرعاتها وريعها ، وأن تجمعها وترسلها في صناديق مقفلة
إلى الملك بمكة ، وهذه العادة مستمرة إلى يومنا هذا.
(2)
نهبهما للحجرة النبوية:
ثم مد يده إلى الحجرة النبوية المعطرة فجردها من جميع ما بقي فيها ، بعد أن
أخذ الترك ما أخذوا من جواهرها وذخائرها ، وأخذ جميع الأمتعة التي تركها فخري
باشا على ضريح السيدة فاطمة البتول رضي الله عنها ، ولولا أن فخري باشا تدارك
الأمر ، وأرسل مجوهرات الحجرة الشريفة إلى الآستانة لتَصَرَّف فيها الشريف
حسين ، ووضعها في خزائنها مثل بقية الأمتعة.
فمن جملة تصرفه في أموال الحجرة الشريفة أنه أخذ ما ينوف عن عشرة كيلو
(غرام) من الذهب ، كان فخري باشا ذوبها وجعلها سبائك ، وهو قطع بعض
الأمتعة المكسورة و250 كيلو من الفضة المسبوكة ، وكان قد أراد فخري باشا
إرسالها إلى الآستانة مع بقية الأمتعة ، فحال دونه قطع المواصلات.
والنقود التي طبعها الشريف حسين في المدة الأخيرة من هذه السبائك ،
ومن جملة الأحوال التي يتأثر بها الإنسان؛ أن الحجرة الشريفة بعد أن كانت
توقد قناديلها كلها من الزيت الرفيع ، أصبح يوقد عدد قليل منه بالزيت المكروهة
رائحته ، إلا أن أمر بإيقاد شمعتين في الحجرة فقط.
وقد نقل إلى مكة كل ما كان في الخزينة النبوية من جواهر وحلي وأمتعة
موقوفة من أهل البر والإحسان لكل عائلة تريد التحلي بها والتزين في الأعراس ،
مع ما تركه فخري باشا من النقود التي تزيد عن مليون ونصف مليون جنيه من
القراطيس المالية (بانقونوط) ، وخمسين ألف جنيهًا عثماني أصلها من أموال
الخزينة وأوقافها ، غير مبالٍ بحق الله أو بحق رسوله ، أو بحق العباد وحرمان
الفقراء المستحقين من القوت.
(3)
نهبه للحرم النبوي الشريف:
أمر الملك حسين ولده الأمير عليًّا والي المدينة المنورة بأن يرسل إليه جميع ما
في الحرم النبوي الشريف زائدًا على فرشه من السجاد والبسط فنقلها إلى مكة شيئًا
فشيئًا ، ففرش الملك بها قصره وداره ودوائر أولاده ، حتى بيوت عبيده وغلمانه ،
وكل ما يهدى إلى الحرم الشريف من زيت وشمع وعطر وغيرها ، يأمر بإرسالها
إليه قبل أن تفتح ، وأن يراها أحد ، وهو يُخْبَر بكل شيء من هذه الهدايا عند
وصلها ، وأكثرها تجيء من الهند.
ولا أعلم أنه أرسل يومًا من الأيام شيئًا إلى الحرم النبوي ، بل كلما بلغه أن
هناك هدية قدمت للحرم فقبل أن يخبروه بها هو يرسل في طلبها حالاً ، حتى
أصبحت الخزينة النبوية لا تستطيع شراء أقل شيء يحتاجه الحرم ولو (مكنسة) ،
وإذا اطلعت على قيود الخزينة النبوية ، ترى أن لها مخصصات تبلغ خمسمائة جنيه
في كل شهر ، ربما تتقاضى هذا المبلغ في مدة سنتين ، بَيْدَ أن مداخل الخزينة تقدر
بالألوف من الليرات ، فإيرادات الحرم النبوي في الحالة الحاضرة ليست بقليلة؛ بل
هي تقوم بجميع ما يحتاجه إليه مع رواتب مأموريه ، ولكن الشريف لا يرضيه ذلك ،
ولا يهمه إلا تكديس الذهب الأحمر في خزائنه ، وهو لا يصرف لخدمة الحرم من
أئمة وخطباء ومؤذنين وأغوات وغيرهم إلا نصف المرتب ، ولكن في كل ثلاثة
أشهر مرة ، ثم إنه يعطيه بدل الجنيه الإفرنجي ستة ريالات مجيدية ، وإنما سعره
في الخارج يساوي 14 مجيديًّا ، وهو لا يدفع لهم مرتباتهم إلا قطع فضة ، وكذلك
بقية عمال حكومته؛ لأنه يحتكر الذهب لنفسه.
وقد بلغ الحرم في الحالة الحاضرة إلى حالة سيئة؛ لإهمال ترميمه في كل
سنة حسب العادة ، يقال: إن ترميمه في الحالة الراهنة يحتاج إلى مصرف قدره
خمسة آلاف جنيه وزيادة ليعود كما كان.
ولولا مساعدة أرباب الغيرة من المسلمين ، وبذلهم ما في إمكانهم؛ لشراء
(البوية الخضراء) وجلبها من مصر؛ لأجل طلاء القبة الشريفة لأصبحت القبة
غبراء ، وكذلك بقية ملزمة الحرم التي ترسل تارة من إخواننا المصريين والهنود
وغيرهم.
(4)
إن بعض أغنياء الهنود يبذلون كثيرًا من الهدايا والصدقات لأهل
المدينة في أثناء زيارتهم ، وذلك يسوء الملك جدًّا ، فيتوسل جواسيسه وأعوانه بما
يعلم أهل المدينة من مساءته إلى مشاركتهم في هذه الصدقات والهدايا وإلا أخبروه
بها ، وفي رمضان الماضي زار المدينة المنورة ملك (جترال) واسمه شجاع الملك ،
وأقام فيها خمسين يومًا ، فبذل كثيرًا من الصدقات على جميع الأهالي من طعام
ولباس وفلوس حتى رجال الحكومة عمومًا ، فكان كل يوم يدعو جماعة من الدوائر
للإفطار في رمضان ، ووسع على بعض علماء المدينة الذين عرفهم ، وكانت نفقاته
اليومية تقدر على الأقل بخمسين جنيهًا ، ماعدا العطايا التي كان يبذلها لخدمة
الحجرة المعطرة ، والحرم الشريف ، ومؤذنيه ، وخطبائه ، وأئمته ، والسقاة
والبوابين إلخ ، فلما بلغ الأمر إلى الشريف الحسين ، وكان أمر بمراعاته وخدمته ،
أخذ يضيّق عليه بطرق أزعجته وأضرّت بكثير من الناس ، فقد أمر بمنع الأهالي
من زيارته حتى العلماء والفقراء إلا بإذن من الحكومة ، فكانوا يمنعونهم جهرًا
ويهينونهم [1] فأدرك الملك المشار إليه ذلك؛ فحزن ووعد بأن يساعدهم من بلاده ،
ويتحرى أن لا يصيبهم من مساعدته ضرر ، وقد أرسل الشريف حسين إليه من
يبلّغه شكره ، ويقول له: إن المطعم الهاشمي يكفي فقراء المدينة حاجتهم.
(5)
وأما خبر المطعم الهاشمي فهو أنه لما امتنعت التكية المصرية في
المدينة المنورة من إعانة الفقراء من جراء الخلاف بين الحكومتين الهاشمية
والمصرية ، أمر الشريف حسين بإنشاء مطعم يغنيهم عن إعانة التكية ، وأمر تجار
المدينة بأن تقوم بجميع نفقاته ، فقاموا بذلك ظانين أن الحكومة تعطيهم ما ينفقونه ،
فلما طال الزمان ولم يروا منها شيئًا ،علموا أن هذا من جملة الغرامات التي تلقيها
على رقابهم ، فقصروا ، واختل نظام المطعم ، وأصبح يطعم يومًا ويمنع أيامًا ،
ويعطي أقل ما ينفقه للفقراء وأكثره لرجال الحكومة الهاشمية وجواسيسها وعبيدها؛
ليشهدوا لهم عند من لا يقبل شهادة غيرهم.
أي الرجلين أظلم حسين بن علي أم علي بن حسين؟
(6)
لأهالي المدينة المنورة أوقاف كثيرة ، بعضها موقوف على بعض
العائلات بموجب فرمانات وحجج شرعية ، فلما نهق الشريف حسين نهقته
المشهورة بإبادة العالم الإسلامي ، ودخل المدينة المنورة بعد الحرب ، وضع يده
على المباني الأميرية ، وعلى الأوقاف العائدة لأهاليها الحاضرين بالمدينة المنورة ،
فحول ريعها إلى خزينته ، كما تقدم غير مبالٍ بالمستحقين فيها من أيتام وأرامل
وغيرهم ، وهو يعلم أنه ليس لهم من دونها أقل دخل يعتمدون عليه في تدبير
معيشتهم ، وقد ظن بعض الناس أن هذا خطأ ، فقام بعضهم بواجب الدفاع عن
حقوق بعض العائلات التي أُدخلت أراضيهم ودكاكينهم في الأوقاف الأميرية ،
وعرضوا الفرمانات والحجج الشرعية التي تثبت أن الوقف أهلي له مستحقون ،
فتلقى الأمير علي أمير المدينة المنورة هذه الحجج والمستندات بغاية الغضب
والاشمئزاز ، وأخذ يتدبر في حل المشكل ، فأوعز إلى قاضي المدينة بتشكيل هيئة
تدقق الحجج وتنهي المسألة على حسب مرغوبه في الباطن ، فقامت الهيئة بالعمل
فاتضح الحق: كالشمس في رابعة النهار ، ولكن المخلصين من رجال الهيئة لم
يمكنهم المجاهرة بالحق ، ففوضوا الرأي (لمولانا) القاضي لأن يحكم بما أنزل الله ،
فحكم بما أنزله الأمير علي بقوله: للحكومة حق فيها من حيث إن أصل الأراضي
أميرية ، وقد تبرعت بها الحكومة التركية على بعض الأهالي ، وبما أن القوانين
التركية لا يعمل بها في الحكومة الهاشمية فلا عبرة بحججها ولا بغيرها.
وأتى بنص أخرجه من كتب الزنادقة (كذا) أيد به رأيه ، فعارضه بعض
الأعضاء ببطلان نصه وإثبات صحة الوقف شرعًا ونفاذه. ولكن الأمير عليًّا أخذ
بقول القاضي؛ وكتمت المسألة حتى جاء والده المدينة زائرًا قبل سفره إلى شرق
الأردن ، فرفعوا الأمر إليه ، فأمر بتأليف لجنة للنظر في القضية ، فقال له الأمير
علي: إن اللجنة تشكلت وحكمت ، والتفت إلى الشاكين وهددهم بقوله: سأناقشكم
الحساب ، فقال الملك: أي حساب يا ولدي؟ شكل اللجنة ثانية؛ واعتذر هو
للشاكين بأنه زائر ما جاء ليحكم ، وإن في ولده الغنى عن حكمه ، وإنه لولا حبه
إياهم لما ترك عندهم أعز أولاده في وقت هو محتاج إليه فيه ، (قال) : فأرجو
مساعدته وحفظه ، وما هو إلا أمانة مودعة عندكم ، فراعوا حقها وواجبها فإني
أوصيكم به خيرًا.
(7)
كان صدر أمر الأمير علي بأخذ العشور عن كل ما يباع في أسواق
المدينة من صنف الخضر والفواكه التي تزرع في نفس البلاد ، فكان هذا الأمر ساء
زراع أهل المدينة مع مخالفته لحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله ما
تأويله: (لا يؤخذ عن سوقنا هذه شيء ، ولما هو مكتوب على باب السلام من
ثلاثمائة سنة سوق المدينة المنورة معفي من أداء العشور) فعرضت على الملك
حسين وهو في المدينة ، فسأل ولده الأمير عليًّا عن صحة ذلك فأجابه في حضرة
المدعين: بأنه لم يأخذ باسم العشور ، وإنما أخذ باسم الزكاة وفقًا لأصول مكة ،
فسأل الملك الحاضرين ما قولكم؟ فأجابوه: إننا تؤخذ منا الزكاة وتؤخذ منا العشور
وما نحن بكاذبين أمام صاحب الجلالة ، فسكت قليلاً وقال: أنا أمرت ألا تؤخذ
عشور من المدينة ، فما سافر الملك حسين حتى ازدادت قيمة العشور فوق ما
كانت اهـ. [2]
خاتمة الخطاب والغرض منه:
إن مجموع ما أثبتناه في هذا الخطاب يوجب وجوبًا كفائيًّا على من علم به من
المسلمين أن يسعوا لإنقاذ الحرمين الشريفين وأهلهما من ظلم هذا الطاغوت وظلم
أولاده ، وتأمين أهلهما ومن يقصدهما للنسك أو غيره على نفسه وشرفه وماله ،
ومنع الغرامات والضرائب والظمأ القاتل والغلاء الفاحش منهما ، بتغيير شكل
حكومتهما ، ومنع نفوذ حسين وأولاده أن يعود إليها ، ثم السعي لإعلاء شأنهما بالعلم
والعمران.
فأما القادرون على إزالة هذه المنكرات بأيديهم: كأمراء جزيرة العرب وأئمتها
فهم المسؤولون قبل كل أحد عن القيام بهذه الفريضة بالتعاون أو الانفراد ، فأيهم قام
بها يسقط بعمله الإثم عن الباقين وسائر المسلمين.
وقد كنا أفتينا بهذا من قبل ، وطالبنا هؤلاء الأمراء بهذا الواجب في السر
والجهر ، وبينا لهم أن ما كانوا يخشونه من تدخل الأجانب غير المسلمين في أمر
الحجاز بدعوة حسين ، ولا سيما من ناط بهم أمر حمايته ، مخالف لتقاليدهم
السياسية إلا أن يكون بالدسائس السرية ، وهي لا خطر فيها ، ولا تسقط الفريضة
بها.
وأما الأفراد الذين لا يملكون من القوة ما ينقذون به الحرمين وإصلاح شأنهما ،
فيمكنهم نصيحة القادرين ، والتعاون على العمل بوضع نظام للعاملين ، وقد تألفت
لذلك جمعية خاصة باسم (جمعية السلم العام ، في بلد الله الحرام) .
ونحمد الله تعالى أننا قبل ختم هذا الخطاب الذي أبطأنا في نشره علمنا أنه تعالى
قد وفق عبد العزيز آل سعود إمام نجد وملحقاتها للقيام بما كان يجب على أولي
الاستطاعة كافة - وجوب كفاية - من إنقاذ الحجاز من هذا الظالم وأولاده ، وقد
نصره الله نصرًا عزيزًا فاستولى على مكة المكرمة ، وخر حسين بن علي عن
عرش ملك العرب والخلافة العظمى ، اللذين تنحلهما بالباطل ، وفر منهزمًا من
الحجاز مشيعًا من قومه بمقتهم له وسخطهم ودعائهم عليه ، بأن لا يريه الله خيرًا ،
ولأنفسهم بأن لا يريهم له وجهًا ، فظننا أن قد حصل الغرض من الخطاب قبل
تمام نشره ، ولكن إبطاء جند السلطان ابن السعود المؤلف من عرب الحجاز وعرب
نجد في إنقاذ مكة ، وقطع طريق جدة والاستيلاء عليها مكّنه من نقل ألوفِ ألوفٍ
من الدنانير الذهبية الإنكليزية والجنيهات المصرية الورقية (الأنواط) ، وسبائك
الذهب والفضة التي نهبها من المدينة المنورة ، وما لا يحصى من الذخائر
والجواهر.
سيرة حسين بعد فراره من الحجاز:
إنه قد شحن سفينتين من البواخر التي كان ابتاعها للتجارة ، مما ذكر من
الأموال والأثاث والرياش الذي كان في داره وفي دار الإمارة؛ لأنه وإن قيل: كذبًا
وخداعًا إنه استقال بعد كل ما للحكومة من مال وعقار وأثاث مِلْكًا له ، وكان
يتصرف في كل شيء إلى يوم إبحاره من جدة ، وسافر بذلك من جدة إلى خليج
العقبة ، فألقى مراسيه فيه ، وهنالك بسط يديه الكزتين بالمال لولده علي الذي خلفه
في الحجاز ، وبإذنه سماه الحزب الوطني المؤلف من بعض أهالي مكة وجدة ملكًا له
وحده ، فهو فيه تحت سلطان والده ملك ملوك البلاد العربية وأمرائها كلهم وخليفة
المسلمين كافة؛ ولولده عبد الله الأمير البريطاني من قبل الدولة الإنكليزية على
شرقي الأردن بإذنه ورضاه أيضًا ، وهما اللذان جعلا لها حق السيادة الانتدابية على
هذه البقعة من قلب جزيرة العرب ، وهي مركز الخطر الأكبر عليها؛ إذ هي بين
الحجاز ونجد وفلسطين وسورية والعراق
وإنما بسط يديه الكزتين لولديه المذكورين؛ لأجل جمع المقاتلة بالأجرة ،
وجلب الأسلحة والذخائر الحربية؛ لقتال الوهابيين وإخراجهم من الحجاز ، ثم
القضاء على قوتهم ، وثل عرش ملكهم في عقر ديارهم إن أمكن ، وأملهم في القتال
ضعيف ، وإنما يظنون أن الاستعداد له يكون وسيلة لإقناع سلطان نجد بالصلح
ليعود حسين إلى مكة أشد ظلمًا وإلحادًا في الحرم مما كان؛ ولاستمالة أعراب
الحجاز الساخطين عليه الماقتين لحكمه ، حتى قيل: إن ما خصصه لهؤلاء
خمسمائة ألف جنيه من الذهب الإنكليزي؛ وما قيل من استقالته أو خلعه فهو من
خداعهم وإفكهم؛ لأنهم يعلمون أن جميع بدو الحجاز وحضره يمقتونه ، ويفضلون
سلطان نجد على حكمه ، وأما علي ابنه فضعيف الإرادة ، فلا يظلم إلا ضعفاء
الحضر ، ولكنه مبايع لوالده بملك العرب وبالخلافة ، وإنما يعمل لإعادته ، ولولا
ذلك لما أمده بالمال ، فإن عاد كان الخطر على جزيرة العرب أشد مما كان.
أما وله ببذل المال غرض آخر هو بث الدعاية العامة في العالم؛ لتحسين
سمعته وتشويه سمعة ابن سعود وأهل بلاده ، بوصفهم بالتعصب الديني والتوحش
والضراوة بسفك الدماء ، وهو يعلم ما لا يعلم أهل نجد من تأثير هذه الدعاية ، وقلما
يسخو إلا في سبيلها من حيث لا يقيم لها سلطان نجد وزنًا ، وقد بذل في هذه السبيل
كثيرًا مما جمع من السحت ، ولكن كان كل ما ربحوه أن بعض الجرائد نشرت لهم
ما شاءوا ، وقل من يصدقها لتعارضها وظهور كذب ما تنشره في الغالب، ولأن
سياستها أجنبية غير إسلامية ، وما برح الرأي الإسلامي خصمًا لهم ومؤيدًا عليهم
فلم أر لمسلمٍ معروف بمصرَ كلمة خير فيهم ، وقد أخبرنا الثقات أن أنصارهم في
سورية وفلسطين يقلون ولا يزيدون.
ويليها الدعاية في بلاد العرب لتأليب القبائل على حكومة نجد والوهابيين ،
وحملهم على قتالهم ، واسترداد إمارة آل الرشيد لهم (في ظل ملك البلاد العربية
كلها وخليفة المسلمين) ولإغراء العداوة والبغضاء الدينية بينهم وبين قبائل الشيعة
في العراق ، وهذه المهمة منوطة بالملك فيصل ، ولولا أن الشيعة مقتوه مع مبالغته
في التملق لهم؛ لما علموا من إخلاصه للأجانب دون الأمة والملة ، لنجح في هذا
الأمر نجاحًا عظيمًا ، ولعلماء الشيعة وزعمائهم ورؤساء قبائلهم في العراق الفضل
الأكبر في مقاومة الإنكليز ، واضطرارهم إلى تأليف حكومة عربية مستقلة في دائرة
الإمبراطورية البريطانية والسعي للاستقلال المطلق؛ ولولا الشيعة لكان العراق
ولاية هندية محضة ، فإن أكثر المنتمين إلى السنة هنالك أضعف عزيمة وأوهن
عصبية من الشيعة ، فالمصلحة العربية تقضي باتفاق الشيعة كأهل السنة مع أهل
نجد ومن تبعهم ، وذلك ممكن إذا كف الله كيد هؤلاء الحجازين عن البلاد العربية.
وقد أبطأ النجديون في احتلال ثغور الحجاز ، حتى تمكن حسين وأولاده من
تحصين جدة بعد أن استغاثوا وليتهم وسيدتهم الدولة البريطانية ، وطلبوا منها أن
تحمي الحجاز ، وتكف سلطان نجد عنه ، فامتنعت من ذلك لِما رأت من مشايعة
العالم الإسلامي له ومقته لهم ، ولا سيما الهند ومصر ، وكان دعاتهم قد أذاعوا أنها
تحمي لهم جدة بأسطولها ، ثم استنجدوا إيطالية ، وأذاعوا أنها أنجدتهم ، ثم كذبوا
ذلك كعادتهم ولكنهم لا يزالون يسعون لذلك سرًّا.
وكان أفضل ما عمله سلطان نجد التقي العادل أن أعلن أنه لا يريد بإنقاذ
الحجاز توسيعَ ملكه به ولا الاستبداد بالأمر فيه ، بل أمنه وإعلاءَ شأنه ، وطلب من
جميع الأقطار الإسلامية إرسال مندوبين إلى مكة؛ لعقد مؤتمر من أهل العلم والرأي ،
يضعون نظامًا لحكومة الحجاز يرضيهم ، وهذا هو الباعث على تأليف
(جمعية السلم العام ، في بلد الله الحرام) منذ ثلاث سنين ونيف ، فنشكر لهذا
السلطان هذا العمل العظيم الذي لم يسبقه إلى مثله أحد من سلاطين المسلمين الذين
تولوا أمر الحجاز ، وقد قاوم ذلك حسين وأولاده بدسيسة شيطانية ، وهي أن هذا
تحكيم للأعاجم في بلاد العرب ، وهذا من أقبح الكذب الذي يضر العرب ويفرق
بينهم وبين من ينفعهم من إخوانهم المسلمين ولا ينتفع منهم ، فندعو جميع أصحاب
الشأن من مسلمي الأرض لإجابة هذه الدعوة ، ومن قصّر فهو الذي أسقط حقه ،
وندعو أصحاب الصحف الإسلامية لترويج الدعوة إلى ذلك ، والعقبة للمتقين ،
وسلام على المرسلين ، والحمد لله رب العالمين.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
سبب هذا أنه لا يريد أن يعلم أهل الحجاز أنه يوجد في المسلمين ملوك وأمراء يعطون لوجه الله ، بل هو لحسده وأثرته ، كان يمنع جريدة الفلاح بمكة من الثناء على محمد عبد الكريم أمير الريف في المغرب ، أو ذكر أعماله؛ لئلا يفضله الناس عليه.
(2)
المنار: نكتفي بهذا الملخص من رسالة المدينة المنورة؛ لأنه لم يبق إلى التطويل حاجة ويليها رسالة في احتلال الأمن هنالك ، وعجز الحكومة الهاشمية عن منع الأعراب من القتل والنهب ، ربما ننشرها في المنار وحده.
الكاتب: محمد رشيد رضا
فتاوى المنار
غرائب الوسوسة في الطهارة
(س22) مِن صاحب الإمضاء في أسيوط
أستاذي الفاضل:
بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، أرجو الفتوى على ما يأتي:
رجل تردد على غالب محلات الأكل في مدينة من المدن ، وكان يتناول أكله
منها بدون أن يغسل يديه المتنجستين ، وقد ترك هذه العادة الممقوتة الآن؛ فما
الحكم في مأكولات هذه المدينة؟ وما الذي يعمله ذلك الرجل إذا كانت حرفته
تستدعي وجوده في هذه المدينة ، ولا يمكنه الانتقال عنها إلا في أزمنة مخصوصة
وكالإجازات الرسمية مثلاً؟ ومعلوم أيضًا أن سكان المدن لا غِنَى لهم عن تناول
طعامهم من تلك المحلات السالفة الذكر ، وبعضهم يأكل منها ولا يغسل يديه عقب
الأكل ، ولا يمكن للرجل المذكور أن يستغني عن قضاء حاجته منهم ، ولما أعهده
في فضليتكم من شرح معضلات المسائل ، والتفاني في خدمة العلم والمسلمين جميعًا
بعثت بهذه إليكم طالبًا من المولى سبحانه وتعالى أن يجزل ثوابكم ، ويعظم أجركم
وتنازلوا بقبول عاطر تحياتي.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
ابنكم المخلص
…
...
…
...
…
...
…
...
…
عبد البديع مصطفى
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
بمعهد أسيوط الديني
(ج) إن الرجل المسئول عن حاله وما يترتب عليها شاذ في عقله وعمله ،
فهو موسوس ، والسؤال عن حاله من شواذ مسائل الوسوسة ، ويصعب على العاقل
أن يتصور وجود رجل عاقل تكرر منه الأكل في أكثر مطاعم مدينة وهو متنجس
اليدين ، ولعل السائل لو ذكر لنا كيف كانت يداه متنجستين في هذه المرار كلها
لجزمنا بأنَّ تنجسها من الوسوسة لا حقيقي.
هذا وإن تنجس اليدين لا يقتضي تنجس الطعام الذي يؤكل بهما ، إلا إذا كان
يغمسهما في الإدام المائع كالمرق ، وأما تناوله بالملعقة فهو كآخذ الجامد باليد لا
يقتضي تنجس الإناء ، وإذا فرضنا أن كان من شذوذ وسوسته غمس يده النجسة أو
يديه في المائعات ، وأن أوانيها تنجست بها ، فذلك لا يقتضي بقاء هذه الأواني
نجسة ، فإن الأواني في المطاعم وغيرها تغسل عقب كل طعام ، وطهارة أواني
المطاعم وغيرها ، وطهارة الطعام أصل لا يعدل عنه إلا في إناء يعلم أنه تنجس ،
وأنه لم يطهر بعد ذلك بأن رأى النجاسة أصابته ، ولم يغب عنه غيبة يحتمل
تطهيره فيها.
وجملة القول في الجواب: إن السؤال ليس من المشكلات ، بل هو من أوضح
الواضحات ، فأواني مطاعم البلد كلها تعد طاهرة شرعًا وعقلاً وعرفًا ، فلا حرج
على الرجل في الأكل منها إذا ارتفع حرج الوسواس من قلبه ، ولا خلاف في هذا
بين فقهاء المذاهب المعتبرة ، ولكن لهم أبحاثًا دقيقة في بعض النجس بيقين ، إذا
اختلط بالطاهرات وما في معناه.
***
أسباب ارتقاء العرب الماضي
وهبوط المسلمين وعلاجه
(س 23-25) مِن صاحب الإمضاء في حمص
حضرة العلامة الفاضل الشيخ رشيد رضا زاده الله رشدًا وأرضاه نوجه لحضرتكم الأسئلة الآتية ، آملين أن تنوروا بصائرنا بما آتاكم الله من العلم ، مد الله
مناركم نورًا ، فليجب الله سؤالكم ، وينجح مقاصدكم وأمانيكم:
(1)
ما السر الذي جعل العرب الجاهلية - على ما كانوا عليه من التباين
والتنافر والجمود والهمجية - أن يخترقوا قوانين النشوء الطبيعي ونواميس الارتقاء
إلى أن وصلوا درجة الكمال بأقل من جيل؟
(2)
ما هي الأسباب التي أدت إلى هبوط المسلمين من الكمال إلى
حضيض الزوال؛ مع ما كانوا عليه من متانة القواعد الدينية والمدنية الجامعة
لجميع ما يحتاجه البشر من العلوم النافعة والصالحة في كل زمان ومكان ، واعتبارًا
من أي تاريخ يبدأ هذا الانحطاط وفي أي التواريخ يتوقف ، ثم يعود إلى الهبوط ،
وأسبابه (مختصرًا) ؟
(3)
بأي أصول يمكن معالجة حالة السلمين الحاضرة؟ وأي السبل أنفع
وأقرب للفلاح؟ وأي الأمم والأمراء الحاضرة من المسلمين أكمل استعدادًا لأداء
الخدمات للنجاح العام؟ وكيف يمكن ذلك؟
ولولا أن هذا الموضوع يهم كل مسلم يدق قلبه على تأخر أمته ، بل كل
شرقي يتألم من تدنس الشرق ، ثم لولا علمنا بأننا ما قصدنا إلا أوثق معهد ، وأوسع
دائرة علمية إسلامية شرقية ، لما تجاسرنا لتعجيزكم ، فعذرًا يا سيدي جزاكم الله عنا
كل خير.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... محمد فوزي
(ج) إن ما قاله السائل الغيور في جاهلية العرب لا يصح ولعله يريد
السؤال عن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وتابعيهم من عرب الجاهلية ،
الذين ارتقوا بالإسلام عقولاً وأخلاقًا وحكمة ، وعلمًا وعملاً ، وعدلاً وسياسة وإدارة
كانوا بها فوق المعهود في تاريخ البشر من نوع ارتقائهم ، وفيما ترتب عليه من
الفتح الشريف ، وتأسيس ذلك الملك العظيم على أساس العدل إلخ. وقد بيّنا ذلك في
مواضع كثيرة من مجلدات المنار وتفسيره ، كما بيّنا أسباب هبوط المسلمين بعد ذلك
وتاريخه وعلاج ما طرأ عليهم من الأمراض الاجتماعية ، ولا يمكن تلخيص شيء
من المسائل الثلاث في جواب سؤال ينشر في باب الفتاوى.
وإنما أقول بالإجمال: إنه لا يُصْلِح آخر هذه الأمة إلا ما صلح به أولها ، كما
قال الإمام مالك رضي الله عنه: (وذلك ما جاء به الإسلام من إصلاح العقول
بالعقائد الصحيحة الخالية من خرافات الوثنية ، وإصلاح الأنفس بالعبادات السليمة
من البدع والآداب والفضائل ، وإصلاح حال الاجتماع بوحدة الأمة ، وجمع كلمتها ،
وتوحيد وجهتها وتوجيهها إلى طلب العزة والكمال الذي شُرع الإسلام لأجله) .
وأقوى الشعوب الإسلامية استعدادًا لذلك أهل الدين في جزيرة العرب وأهل
أفغانستان ، ولكن هؤلاء عرضة للتفرنج الذي يفرق كلمة كل شعب شرقي يفتتن به
في نفسه ، ويجعل بعض أهله أعداءً وخصومًا لبعض بأْسُهم بينهم شديد ، تحسبهم
جميعًا وقلوبهم شَتَّى ، فنسأل الله أن يقيهم شر هذه الفرقة التي قوضت أركان
السلطنة العثمانية ، وقطعت أوصال الوحدة المصرية وضعضعت ألباب الطوائف
السورية ، فيجب إرشاد عرب الجزيرة إلى جمع كلمتهم بالدين ، ولن تجتمع بغيره ،
وإلى العناية مع ذلك بتنظيم القوة الحربية وتنظيم موارد الثروة الداخلية ، ثم يجيء
كل ارتقاء تبعًا لذلك ، ولا نظام أصلح وأرجى لذلك من نظام الوهابية ، إذا أتيح له
ما يحتاج إليه من المساعدة ، وكذلك الزيدية في اليمن ، فهم فرقة متحدة تحتاج إلى
المساعدة على تنظيم القوة والثروة الداخلية ، ويجب أن يتحالف الإمامان فيهما ،
ونحمد الله تعالى أنه ليس ثمة أجناس ولا مال يتخذها الأجانب ذرائع للفساد فيهما.
***
خطيب يأمر المسلمين بالشرك
(س 26) من صاحب الإمضاء في بمبي (الهند) .
بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة العالم العلامة والحَبْر الفهّامة سيدي الأجل السيد محمد رشيد رضا
صاحب مجلة المنار المنير لا زال محفوظًا لخدمة الدين الحنيف آمين. أما بعد:
فأرجو إجابتي عما يأتي:
خطب أحد خطباء مساجد بمبي خطبة يوم الجمعة حبذ فيها الاستغاثة
والاستعانة بغير الله؛ كالأنبياء والأولياء والصالحين ، وقد جاء بأحاديث عزز فيها
قوله لا أعلم مقدار حظها من الصحة ، وكان بودّي أن آخذ نص الخطبة وأرسلها
مرفقة بسؤالي ولكنني لم أستطع ، غير أني أظن أنني أحفظ حديثًا واحدًا مما أتى به
ذلك الخطيب بدون إسناد ، إذا لم تخني ذاكرتي وهو (اذكر أحب الناس إليك ، قال
يا محمداه يا محمداه) ، وقد سب وشتم أيضًا عالمًا من كبار علماء المسلمين ألا وهو
المرحوم حسن صديق خان البهبالي؛ لزعمه أنه حرف في فتح الباري الذي طبعه
في مصر على نفقته حديث (أوتيت علوم الأولين والآخرين) وعند انتهاء الخطبة
عاد فكرر كرامات الصالحين ووجوب الاستعانة بهم ، واستشهد على ما قال بقصة
عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع سارية والقصة مشهورة عند العامة ،
ولكنني لم أعثر عليها في كتب مَن أثِقُ به من المؤرخين.
فما قول سيدي الأجل فيما تقدم؟ اهدنا إلى طريق الحق جعلك الله هاديًّا
ومرشدًا والله يحفظكم والسلام.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... المخلص لكم
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
علي خان البنجابي
(ج) الاستغاثة والاستعانة بالمخلوق قسمان:
(أحدهما) ما يكون بين الناس من طلب التعاون والمساعدة في الأمور
الكسبية: كاستغاثة مَن أَشْرَفَ على الغرق أو تردى في بئر أو حفرة بمن ينقذه مثلاً،
وكاستعانة مَن وَقَعَ حِمْلُ دابته بمن يساعده على رفعه؛ فهذا القسم مشروع في كل
عمل مشروع من الواجبات والمستحبات والمباحات.
(ثانيهما) ما يكون فيما وراء الأسباب التي هي من كسب الناس مما يخالف
سنن الله تعالى في خلقه؛ كالاستغاثة بالموتى ، والاستعانة بهم وبالأحياء فيما ليس
من مقدورهم وكسبهم: كإنزال المطر ، وشفاء المرضى بغير تداوٍ ، فهذا القسم
خاص بالله تعالى لا يطلب من غيره ، وهو المراد بقوله تعالى في سورة الفاتحة:
{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) ومعناه نستعينك وحدك ولا نستعين غيرك ، كما
أن معنى قوله تعالى قبله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} (الفاتحة: 5) نعبدك ولا نعبد غيرك؛
فاستعانة غير الله تعالى بهذا المعنى كفر وشرك كعبادة غيره ، ومن أمر بذلك كان
آمرًا بالكفر بالله ومخالفة ما كُلَّف جميع عباده أن يخاطبوه به في كل ركعة من
صلواتهم ، فهل صار المسلمون في درجة من الجهل بدينهم يؤمهم بها في صلاتهم ،
ويتولى وعظهم في مساجدهم مَن يأمرهم بهذا؟ وإذا لم تكن هذه الاستعانة هي
الخاصة بالله تعالى بنص هذه الآية في أشهر سورة من كتاب ربهم ، يحفظها كل
مسلم ومسلمة فما هيه؟ على أن العباد يتحرون اجتناب الاستعانة بالمخلوقين
وسؤالهم حتى في الأمور الكسبية التي أقام الله تعالى بها نظام هذا العالم ، وقد ورد
في مناقب الصديق الأكبر رضي الله عنه أنه لم يسأل النبي صلوات الله عليه
وعلى آله شيئًا لنفسه قيل: ولا الدعاء. وفي وصية النبي صلى الله عليه وسلم
لابن عباس رضي الله عنه (إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله)
رواه الترمذي عنه ، وقال حسن: صحيح ، وقال الحافظ ابن رجب في شرحه: إن
هذه الوصية منتزعة من قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5)
وقد بايع النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من أصحابه على ألا يسألوا أحدًا شيئًا
منهم الصديق وأبو ذر وثوبان رضي الله عنه فكان أحدهم يسقط سوطه أو
خطام ناقته من يده وهو راكب ، فلا يسأل أحدًا أن يناوله إياه؛ (أقول) : وهذه
درجة كمال ، لا يقدر عليها إلا أفراد الرجال ، وأما الأولى فيكلفها كل مؤمن؛ لأن
تركها ينافي الإيمان ، وفي المسألة أحاديث أخرى في الصحاح وآثار عن كبار
الصحابة والتابعين ومَن دونهم من الصالحين.
والاستغاثة في هذا الباب مثل الاستعانة؛ بل أخص لأنها عبارة عن الضراعة
في الدعاء عند شدة الضيق ، التي وصف الله تعالى مشركي العرب بأنهم لا يدعون
غيره عندها ، وإنما يشركون به بعد أن ينجيهم منها والآيات في ذلك متعددة.
وقد استغاث المسلمون الله تعالى يوم بدر ، ولم يستغيثوا النبي صلى الله عليه
وسلم ، بل كان - بأبي هو وأمي - إمامهم وقدوتهم في الاستغاثة ، كما أنزل الله
عليه {ِإذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} (الأنفال: 9) إلخ ، وذلك أنهم كانوا قد
قاموا بكل ما قدروا عليه ، ولم يبق إلا ما لا يناله كسبهم من أسباب النصر ، فسألوا
الله تعالى مستغيثيه ، فاستجاب لهم ونصرهم.
ولكنك تجد الألوف من المسلمين الأميين والمتعلمين يعارض هذه الأصول
القطعية من التوحيد بشبهات تلقّاها بعضهم من بعض بالتسليم والتقليد الجهلي ،
وهي إن ما ثبت في الكتاب من حياة الشهداء ، وما عليه جمهور أهل السنة من إثبات
كرامات الأولياء يقتضيان جواز دعائهم ودعاء سائر الصالحين ، واستعانتهم على
قضاء الحاجات وكشف السوء والنصر على الأعداء ، وسائر ما نعجز عنه من
طريق الأسباب وسنن الله في الخلق؛ وهذه الشبهة باطلة من وجوه شرحناها في
التفسير وباب الفتوى وغيره من المنار مرارًا ، ومن أخصها أن حياة الشهداء من
أمور عالم الغيب ، وكرامات الأولياء من خوارق العادات عند مثبتيها ، وقد أجمعوا
على أن كُلاًّ منها يُؤخذ ما صح منه بالتسليم ، فليس للمجتهد أن يقيس عليه ولا أن
يستنبط منه حكمًا شرعيًّا ، ولو لم يكن معارضًا لنصوص الكتاب والسنة؛ كاستعانة
غير الله تعالى ، فكيف إذا كان كذلك؟ وكان المستنبط مع هذا غير مجتهد ولا عالم
كهؤلاء الجهال ، وإن كان فيهم معمّمون كثيرون ، وأما قصة عمر رضي الله عنه
في نداء سارية فقد رواها البيهقي بسند ضعيف ، وذكرها السبكي في طبقات
الشافعية.
وأما سب هذا الخطيب للعالم الجليل السيد حسن صديق محيي السنة في بلاد
الهند وغيرها فهو من المعاصي المعلومة من الدين بالضرورة ، وأما زعمه أنه
حرّف في فتح الباري فكذب ، وهو لم يتول تصحيح فتح الباري ، وإنما صححه له
عند طبعه بعض علماء مصر.
_________
الكاتب: أحمد بن تيمية
إبطال وحدة الوجود والرد على القائلين بها
لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية
رضي الله عنه
وموسى لما قال لآدم: لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فقال آدم عليه السلام
فيما قال لموسى: لِمَ تلومني على أمر قدّره الله عليَّ قبل أن أُخْلَقَ بأربعين عامًا؟
فحج آدم موسى؛ لم يكن آدم عليه السلام محتجًا على فعل ما نهي عنه بالقدر ، ولا
كان موسى ممن يحتج عليه بذلك فيقبله ، بل آحاد المؤمنين لا يفعل مثل هذا ،
فكيف آدم وموسى؟ وآدم قد تاب مما فعل واجتباه ربه وهدى ، وموسى أعلم بالله
من أن يلوم من هو دون نبي على فعل تاب منه ، فكيف بنبي من الأنبياء؟ وآدم
يعلم أنه لو كان القدر حجة لم يحتج إلى توبة ولم يجر ما جرى من خروجه من
الجنة وغير ذلك ، ولو كان القدر حجة لكان لإبليس وغيره ، وكذلك موسى يعلم أنه
لو كان القدر حجة لم يعاقب فرعون بالغرق ولا بنو إسرائيل بالصعقة وغيرها ،
كيف وقد قال موسى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} (القصص:
16) وقال: {فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الغَافِرِينَ} (الأعراف: 155) ،
وهذا باب واسع ، وإنما كان لوم موسى لآدم من أجل المصيبة التي لحقت بآدم من
أكل الشجرة ، ولهذا قال: لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ واللوم لأجل المصيبة
التي لحقت الإنسان نوع، واللوم لأجل الذنب الذي هو حق الله نوع آخر ، فإن الأب
لو فعل فعلاً افتقر به حتى تضرر بنوه ، فأخذوا يلومونه لأجل ما لحقهم من الفقر لم
يكن هذا كلومه لأجل كونه أذنب ، والعبد مأمور أن يصبر على المقدور ، ويطيع
المأمور ، وإذا أذنب استغفر كما قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ
لِذَنْبِكَ} (غافر: 55) وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَاّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن
يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} (التغابن: 11) .
قال طائفة من السلف: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله
فيرضى ويسلم ، فمن احتج بالقدر على ترك المأمور ، وجزع من حصول ما كرهه
من المقدور ، فقد عكس الإيمان والدين ، وصار من حزب الملحدين المنافقين ،وهذا
حال المحتجين بالقدر ، فإن أحدهم إذا أصابته مصيبة عظم جزعه وقل صبره ، فلا
ينظر إلى القدر ، ولا يسلم له ، وإذا أذنب ذنبًا أخذ يحتج بالقدر ، فلا يفعل المأمور
ويترك المحظور ، ولا يصبر على المقدور ، ويدعي مع هذا أنه من كبار أولياء الله
المتقين ، وأئمة المحققين الموجدين ، وإنما هو من أعداء الله الملحدين ، وحزب
الشيطان اللعين ، وهذا الطريق إنما يسلكه أبعد الناس عن الخير والدين والإيمان ،
تجد أحدهم أخير الناس إذا قدر ، وأعظمهم ظلمًا وعدوانًا ، وأذل الناس إذا قهر ،
وأعظم جزعًا ووهنًا ، كما جربه الناس من الأحزاب البعيدين عن الإيمان بالكتاب
والمقابلة من أصناف الناس ، والمؤمن إن قدر عدل وأحسن ، وإن قهر وغلب صبر
واحتسب كما قال كعب بن زهير في قصيدته التي أنشدها للنبي صلى الله عليه وسلم ،
التي أولها بانت سعاد إلخ في صفة المؤمنين:
ليسوا مفاريح إن نالت رماحهم
…
يومًا وليسوا مجازيعًا إذا نيلوا
وسئل بعض العرب عن شيء من أمور النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال:
رأيته يَغْلِب فلا يبطر ، ويُغلب فلا يضجر ، وقد قال تعالى: {قَالُوا أَئِنَّكَ لأَنْتَ
يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا
يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ} (يوسف: 90) وقال تعالى: {وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا
يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ} (آل عمران: 120) وقال تعالى: {إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم
مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} (آل عمران:
125) ، وقال تعالى:{وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (آل
عمران: 186) فذكر الصبر والتقوى في هذه المواضع الأربعة ، فالصبر يدخل
فيه الصبر على المقدور ، والتقوى يدخل فيها فعل المأمور ، فمن رزق هذا وهذا
فقد جمع له الخير ، بخلاف من عكس فلا يتقي الله؛ بل يترك طاعته متبعًا لهواه
ويحتج بالقدر ، ولا يصبر إذا ابتلى ، ولا ينظر حينئذ إلى القدر ، فإن هذا حال
الأشقياء ، كما قال بعض العلماء: أنت عند الطاعة قدري ، وعند المعصية جبري ،
أي مذهب وافق هواك تمذهبت به ، يقول: أنت إذا أطعت جعلت نفسك خالقًا
لطاعتك ، فتنسى نعمة الله عليك كي [1] أنه جعلك مطيعًا له ، وإذا عصيت لم
تعترف بأنك فعلت الذنب؛ بل تجعل نفسك بمنزلة المجبور عليه بخلاف مراده أو
المحرك الذي لا إرادة له ، ولا قدرة ولا علم وكلاهما خطأ.
وقد ذكر أبو طالب المكي عن سهل بن عبد الله التستري أنه قال: إذا عمل
العبد حسنة فقال: أي ربي أنا فعلت هذه الحسنة ، قال له ربه: أنا يسرتك لها ،
وأنا أعنتك عليها ، فإن قال: أي ربي أنت أعنتني عليها ، ويسرتني لها ، قال له
ربه: أنت عملتها وأجرها لك ، وإذا فعل سيئة فقال: أي ربي قُدِّرَت عليَّ هذه
السيئة ، قال له ربه: أنت اكتسبتها وعليك وزرها ، قإن قال: أي ربي إني أذنبت
هذا الذنب وأنا أتوب منه ، قال له ربه: أنا قدرته عليك وأنا أغفره لك ، وهذا باب
مبسوط في غير هذا الموضع.
وقد كثر في كثير من المنتسبين إلى المشيخة والتصوف شهود القدر فقط من
غير شهود الأمر والنهي ، والاستناد إليه في ترك المأمور وفعل المحظور ، وهذا
أعظم الضلال ، ومن طرد هذا القول والتزم لوازمه كان أكفر من اليهود والنصارى
والمشركين ، لكن أكثر من يدخل في ذلك يتناقض ولا يطرد قوله.
وقول هذا القائل هو من هذا الباب فقوله: آدم كان أمره بكُلْ باطنًا فأكل ،
وإبليس كان توحيده ظاهرًا فأمر بالسجود لآدم فرآه غيرًا ، فلم يسجد فغير الله عليه
وقال: {اخْرُجْ مِنْهَا} (الأعراف: 18) الآية ، فإن هذا مع ما فيه من الإلحاد
كذب على آدم وإبليس ، فآدم اعترف بأنه هو الفاعل للخطيئة وإنه هو الظالم لنفسه ،
وتاب من ذلك ولم يقل: إن الله ظلمني ، ولا أن الله أمرني في الباطن بالأكل ،
قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (البقرة: 37) وقال تعالى: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا
لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ} (الأعراف: 23) وإبليس أصر واحتج بالقدر ، فقال:
{قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (الحجر: 39)
وأما قوله: رآه غيرًا نحلم يسجد؛ فهذا شر من الاحتجاج بالقدر ، فإن هذا قول أهل
الوحدة الملحدين وهو كذب على إبليس ، فإن إبليس لم يمتنع من السجود لكونه
غيرًا ، بل قال:{َأنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} (الأعراف:
12) ، ولم تؤمر الملائكة بالسجود لكون آدم ليس غيرًا ، بل المغايرة بين الملائكة
وآدم ثابتة معروفة والله تعالى يقول: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى
المَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَاّ مَا
عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ} (البقرة: 31-32) ، وكانت الملائكة وآدم
معترفين بأن الله مباين لهم وهم مغايرون له ، ولهذا قالوا: دعوه دعاء العبد، فآدم
يقول: (ربنا ظلمنا أنفسنا) والملائكة تقول: {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَاّ مَا عَلَّمْتَنَا} (البقرة:
32) وتقول: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا
سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ} (غافر: 7) الآية ، وقد قال تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ
تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الجَاهِلُونَ} (الزمر: 64)، وقال تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ
أَتَّخِذُ وَلِياًّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَم} (الأنعام: 14)، وقال:
{أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الكِتَابَ مُفَصَّلاً} (الأنعام: 114) فلو
لم يكن هناك غيره لم يكن المشركون أمروا بعبادة غير الله ، ولا اتخاذ غير الله وليًّا
ولا حكمًا ، فلم يكونوا يستحقون الإنكار ، فلما أنكر عليهم ذلك دل على ثبوت
غير يمكن عبادته واتخاذه وليًّا وحكمًا ، وأنه من فعل ذلك فهو مشرك بالله كما قال
تعالى: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} (القصص: 88)، وقال: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ
إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً} (الإسراء: 22) وأمثال ذلك.
وأما قول القائل: إن قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} (آل عمران:
128) عين الإثبات للنبي صلى الله عليه وسلم كقوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ
وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (الأنفال: 17) {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ
فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (الفتح: 10) فهذا بناه على قول أهل الوحدة والاتحاد ، وجعل معنى
قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} (آل عمران: 128) أي فعلك هو فعل الله
لعدم المغايرة وهذا ضلال عظيم من وجوه:
(أحدهما) : إن قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} (آل عمران: 128)
نزل في سياق قوله: {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُوا خَائِبِينَ*
لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} (آل عمران:
127-
128) ، وقد ثبت في الصحيح (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو
على قوم من الكفار أو يلعنهم في القنوت) فلما أنزل الله هذه الآية ترك ، فعلم أن
معناها إفراد الرب تعالى بالأمر وأنه ليس لغيره أمر ، بل إن شاء الله تعالى قطع
طرفًا من الكفار وإن شاء كبتهم فانقلبوا بالخسارة ، وإن شاء تاب عليهم ، وإن شاء
عذبهم ، وهذا كما قال في الآية الأخرى: {قُل لَاّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلَا ضَراًّ إِلَاّ مَا
شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} (الأعراف:
188) ونحو ذلك قوله تعالى: {يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ
كُلَّهُ لِلَّهِ} (آل عمران: 154) .
(الوجه الثاني) : إن قوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (الأنفال: 17) لم يرد به أن فعل العبد هو فعل الله تعالى كما تظنه طائفة من
الغالطين، فإن ذلك لو كان صحيحًا لكان ينبغي أن يقال: لكل أحد حتى يقال:
للماشي ما مشيت إذ مشيت ولكن الله مشى ، ويقال: للراكب ما ركبت إذ ركبت
ولكن الله ركب ، ويقال للمتكلم ما تكلمت إذ تكلمت ولكن الله تكلم ، ويقال مثل ذلك:
للآكل والشارب والصائم والمصلي ونحو ذلك ، وطرد ذلك يستلزم أن يقال للكافر:
ما كفرت إذ كفرت ولكن الله كفر ، ويقال للكاذب ما كذبت إذ كذبت ولكن الله كذب ،
ومن قال: مثل هذا فهو ملحد خارج عن العقل والدين ، ولكن معنى الآية أن
النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر رماهم ، ولم يكن في قدرته أن يوصل الرمي
إلى جميعهم فإنه إذا رماهم بالتراب ، وقال: شاهت الوجوه، ولم يكن في قدرته أن
يوصل ذلك إليهم كلهم ، فالله تعالى أوصل ذلك الرمي إليهم بقدرته، يقول وما
أوصلت إذ حذفت ولكن الله أوصل ، فالرمي الذي أثبته له ليس هو الرمي الذي
نفاه عنه وهو الإيصال والتبليغ ، وأثبت له الحذف والإلقاء ، وكذلك إذا رمى سهمًا
فأوصلها بقدرته.
(الوجه الثالث) : نه لو فرض أن المراد بهذه الآية: أن الله خالق أفعال
العباد فهذا المعنى حق، وقد قال الخليل:{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} (البقرة:
128) فالله هو الذي يجعل المسلم مسلمًا.
وقال تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ
الخَيْرُ مَنُوعًا} (المعارج: 19-21) فالله هو الذي خلقه هلوعًا ، لكن ليس في هذا
أن الله هو العبد ، ولا أن وجود الخالق هو وجود المخلوق ، ولا أن الله حالٌّ في
العبد. فالقول: بأن الله خالق أفعال العباد حق، والقول: بأن الخالق حال في
المخلوق أو وجوده وجود المخلوق باطل ، وهؤلاء ينتلقون من القول بتوحيد
الربوبية إلى القول بالحلول والاتحاد ، وهذا عين الضلال والإلحاد.
(الوجه الرابع) : إن قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّه} (الفتح: 10) لم يُرِد أنك أنت الله ، وإنما أراد أنك أنت رسول الله ومبلغ أمره
ونهيه فمن بايعك فقد بايع الله ، كما أن من أطاعك فقد أطاع الله ، ولم يرد بذلك أن
الرسول هو الله ، ولكن الرسول أَمر بما أمر الله به ، فمن أطاعه فقد أطاع الله كما
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أطاعني فقد أطاع الله ومن أطاع أميري فقد
أطاعني ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن عصى أميري فقد عصاني) ومعلوم
أن أميره ليس هو إياه ، ومن ظن في قوله:{إنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّه} (الفتح: 10) أن المراد به أن فعلك هو فعل الله ، أو المراد أن الله حال فيك
ونحو ذلك ، فهو مع جهله وضلاله بل كفره وإلحاده قد سلب الرسول خاصيته
وجعله مثل غيره ، وذلك أنه لو كان المراد به أنه خالق لفعلك لكان هنا قدر مشترك
بينه وبين سائر الخلق ، وكان من بايع أبا جهل فقد بايع الله ، ومن بايع مسيلمة فقد
بايع الله ، ومن بايع قادة الأحزاب فقد بايع الله ، وعلى هذا التقدير فالمبايع هو الله
أيضًا ، فيكون الله قد بايع الله إذ الله خالق لهذا ولهذا ، وكذلك إذا قيل: بمذهب أهل
الحلول والوحدة والاتحاد فإنه عام عندهم في هذا وهذا، فيكون الله قد بايع الله ،
وهذا يقوله: كثير من شيوخ هؤلاء الحلولية ، حتى إن أحدهم إذا أُمِرَ بقتال العدو
يقول أقاتل الله؟ ما أقدر أن أقاتل الله ونحو هذا الكلام الذي سمعناه من شيوخهم ،
وبيّنا فساده لهم وضلالهم غير مرة.
وأما الحلول الخاص فليس هو قول هؤلاء؛ بل هو قول النصارى ومن
وافقهم من الغالية [2] وهو باطل أيضًا ، فإن الله سبحانه قال له: {لَيْسَ لَكَ مِنَ
الأَمْرِ شَيْءٌ} (آل عمران: 128)، وقال:{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} (الجن: 19)، وقال:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} (الإسراء: 1) ،
وقال: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} (البقرة: 23)، وقال:
{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ
السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} (الفتح: 18-19) .
فقوله: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} (الفتح:
18) يبين قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} (الفتح: 10) ولهذا
قال: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِم} (الفتح: 10) ، ومعلوم أن يد النبي صلى الله تعالى
عليه وسلم كانت مع أيديهم كانوا يصافحونه ويصفقون على يده في البيعة ، فعلم أن
يد الله التي فوق أيديهم ليست هي يد النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن الرسول عبد
الله ورسوله فبايعهم عن الله وعاهدهم وعاقدهم عن الله ، فالذين بايعوه بايعوا الله
الذي أرسله وأمره ببيعتهم ، ألا ترى أن كل من وكّل شخصًا بعقد مع الوكيل كان
ذلك عقدًا مع الموكل، ومن وكل نائبًا له في معاهدة قوم فعاهدهم عن مستنيبه ، كانوا
معاهدين لمستنيبه ، ومن وكّل رجلاً في نكاح أو تزوج كان الموكل هو الزوج الذي
وقع له العقد ، وقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ
لَهُمُ الجَنَّةَ} (التوبة: 111) الآية ، ولهذا قال في تمام الآية: {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا
عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (الفتح: 10) .
فتبين أن قول ذلك الفقير هو القول الصحيح ، وأن الله إذا كان قد قال لنبيه
{لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْء} (آل عمران: 128) فإيش نكون نحن وقد ثبت عنه
صلى الله تعالى عليه وسلم في الصحيح أنه قال: (لا تطروني كما أطرت
النصارى المسيح بن مريم فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله) .
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
كذا في الأصل ولعل صوابه (في) وحذفه أولى.
(2)
هم فرق الباطنية وآخرهم البهائية.
الكاتب: جمال الدين الأفغاني
المقالة الخامسة [*]
ما ينبغي للمسلمين علمه وعمله
أيها المسلمون:
إن الحجاز مهبط دينكم ، وفيه بيت ربكم ، وهو قبلة صلاتكم ، ومشاعر
نسككم ، وشعائر الله لكم ، فيه يقام الحج الأكبر ، الذي هو ركن الإسلام الاجتماعي
الأوحد ، وفيه مقام إبراهيم ، وقبر نبيكم الكريم عليهما من الله أفضل الصلاة
والتسليم ، وقد جاء الإسلام بحرية الأديان إلا في حرم الله وحرم رسوله وسياجهما
من جزيرة العرب ، فهما خاصان بدين الإسلام ، وقد امتدت إليهما أيدي غير
المسلمين في هذه الأيام.
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها ، قالت:
آخر ما عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: (لا يترك بجزيرة العرب
دينان) ، وروى أحمد ومسدد والحميدي في مسانيدهم والبيهقي في سننه من
حديث أبي عبيدة رضي الله عنه قال: آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله
عليه وسلم (أخرجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب) ، وفي
رواية نصارى نجران.
وروى أحمد والبخاري ومسلم من حديث ابن عباس قال: اشتد برسول الله
صلى الله عليه وسلم وجعه يوم الخميس وأوصى عند موته بثلاث: (أخرجوا
المشركين من جزيرة العرب ، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم) قال سليمان
الأحول راوي الحديث عن سعيد بن جبير الذي سمعه من ابن عباس: ونسيت
الثالثة.
وحملها العلماء بالاحتمال على ما صح من وصاياه الأخرى في مرض موته -
صلى الله عليه وسلم كقوله: (لا تتخذوا قبري وثنًا) ، وفي موطأ الإمام مالك ما
يشير إلى ذلك - أو وفد أسامة - أو الوصية بالنساء والرقيق.
وقد أجلى النبي صلى الله عليه وسلم بني قينقاع وقريظة والنضير
المحاربين له من يهود المدينة ، وأنذَر مَن بقي من اليهود الجلاء بعد عجزهم عن
قتاله؛ ليخرجوا بسلام ويحفظوا أموالهم ، فقد روى البخاري في مواضع من صحيحه
وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة قال: (بينما نحن في المسجد خرج النبي
صلى الله عليه وسلم فقال: انطلقوا إلى يهود، فانطلقنا حتى جئنا بيت المِدْراس
(هو بوزن المفتاح العالم الذي يدرس كتابهم) فقال: أسلموا تسلموا ، واعلموا أن
الأرض لله ورسوله ، وأنني أريد أن أجليكم من هذه الأرض ، فمن يجد منكم بماله
(أي بدل ماله) شيئًا فليبعه؛ فاعلموا أن الأرض لله ورسوله) ، والمراد أرض
المدينة وسائر الحجاز.
وروى أحمد ومسلم والترمذي من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه
أنه سمع رسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لأخرجن اليهود والنصارى من
جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلمًا) ، ولما كان أبو بكر رضي الله عنه لم
يتسع له الوقت لتنفيذ هذه الوصية ، نفذها عمر رضي الله عنه ، فقد روى
البخاري عن عبد الله أن عمر والده رضي الله عنهما أجلى اليهود والنصارى
من أرض الحجاز ، وذكر يهود خيبر إلى أن قال أجلاهم عمر إلى تيماء وأريحاء.
سبب هذه الوصية النبوية معروف دلت الأحاديث الصحيحة ، وهو أن الله
تعالى أطلع رسوله صلى الله عليه وسلم على ما سيكون من مطاردة الأمم لأمته ،
وسلبهم إياها ما يخولها الله تعالى من الملك ، ومحاولتهم القضاء على دينها بعد
القضاء على ملكها ، فأراد أن يكون مهد الإسلام معقلاً لها تعتصم فيه ، ولا تجعل
للأمم التي ستبغي عليها سبيلاً للتدخل في شؤونه ، كما تفعل الآن دول الاستعمار
الكبرى ، وفي مقدمتها حليفة البيت الحسيني بالحجاز بريطانية العظمى؛ هذه الدولة
التي أرادت أن تجعل طائفة القبط وسيلة لحرمان مصر من الاستقلال ، فلما خيبوا
أملها خلقت مسألة الأقليات بدون قيد ، وكلفت نفسها بدون إذنهم أن تبقى محتلة
لمصر؛ لأجل حمايتهم؛ وهذه الدولة التي خلقت للعراق العربي شعبًا أشوريًّا ،
قضى عليه التاريخ منذ ألوف السنين ، فقلدته السلاح وحملته على مطالبة جمعية
الأمم بتأسيس دولة جديدة له في العراق؛ لأجل العداء والشقاق ، والتذرع به لإبقاء
العراق تحت سلطانها إلى يوم التلاق ، هذه الدولة التي ما زالت تكيد للدولة العثمانية ،
وتتوسل إلى إسقاطها بالأرمن والروم وغيرهم ، إلى أن سقطت وزالت من
الأرض ، فحاولت القضاء على شعبيها الإسلاميين الكبيرين - العرب والترك -
فحالت أحداث الزمان دون الإجهاز على الشعب التركي ، ووجدت من حسين
المكي وأولاده أقوى نصير للقضاء على الشعب العربي ، فلما سلط الله تعالى عليه
شعبًا شديد الاعتصام بالإسلام طرده من الحجاز في هذه الأيام، قامت جرائدهم
تدعو بالويل والثبور، وتنذر قومها الخطر الإسلامي العربي على ما سلبوا من بلاد
العرب أن ينفلت من أيديهم.
أيها المسلمون تأملوا الشواهد على صحة قولي هذا لعلكم تتفكرون: يروي
مسلم في صحيحه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا إلى النبي
صلى الله عليه وسلم قال: (إن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ، ويأرز
بين المسجدين كما تأرز الحية من جحرها) وروى الترمذي من حديث عمرو بن
عوف مرفوعًا إليه صلى الله عليه وسلم قال: (إن الدين ليأرز إلى الحجاز
كما تأرز الحية إلى جحرها ، وليعقلن الدين من الحجاز معقل الأروبة من رأس
الجبل [1] إن الدين بدأ غريبًا ويرجع غريبًا فطوبى للغرباء الذين يصلحون ما
أفسد الناس بعدي من سنتي) .
وملخص معنى هذه الأحاديث أن المسلمين سيطرأ عليهم الفساد بالبدع حتى
يكون الإسلام نفسه غريبًا فيهم ومحتاجًا إلى الإصلاح؛ وأنهم سيضطهدون بدينهم
ولأجل دينهم ، حتى لا يجدون ملجا يعتصمون فيه لإقامته إلا معقله الذي ظهر فيها
غريبًا وهو الحجاز ، فيكون فيه عزيزًا قويًّا؛ كعصم الوعول في شناخيب الجبال
ومن تمام التشبيه أن يستتبع ذلك ما استتبعه أولاً من الملك والعمران (إن شاء الله) .
أيها المسلمون: إلى متى أنتم غافلون ، إن الدولة البريطانية ولية حسين بن
علي المكي وأولاده من دون الله والمسلمين ، هي التي أخذت على نفسها القضاء
على دين الإسلام في الشرق بعد القضاء على حكمه ، وقد سلكت أقرب الطرق إلى
ذلك وأقلها خسارة ونفقة ، وهو جعل الشعوب الإسلامية أسلحة لها تضرب بعضها
ببعض ، إلى أن يهلك الجميع وتكون السيادة لها وحدها على بلادهم وهي هي التي
قاتلت المصريين بإذن ولاة الأمر من السلطان والخديو؛ وهي هي التي قاتلت
السودانيين بالمصريين ، وهي هي التي قاتلت قبل ذلك بعض ملوك الشرق وأمرائه
ببعض ، ولا سيما في الهند ، كما سترون في المنار من مقال للسيد جمال الدين
الأفغاني [2] الذي كان أول من نبّه الشرق عامة والمسلمين خاصة لعداوتها؛ وهي
هي التي قاتلت الترك بالعرب الذين خدعهم ملك الحجاز وأولاده ، حتى سلبت منهم
أخصب بلادهم وقررت إعطاء البلاد المقدسة منها لليهود ، وجعلهم شعبًا جديدًا قويًّا
بين مصر وسورية والحجاز ، يستعينون به على أهلها من العرب في حرمانهم من
رقبة بلادهم وخيراتها؛ وهي هي التي ألقت العداوة والبغضاء بين إمام اليمن
والسيد الإدريسي؛ وهي هي التي أطمعت الطاغوت حسين بن علي بالخلافة
الإسلامية وملك العرب كلهم تحت حمايتها ، وقد بينا بعض الوثائق الرسمية في
ذلك كله.
أيها المسلمون: إن العقل وحالة الاجتماع العامة وتقاليد السياسة الإنكليزية
الخارقة كلها تؤيد معنى ما ورد في الحديث ، الذي صدقته وقائع التاريخ التي أشرنا
إليها آنفًا من أن الله لا يهلك المسلمين إلا بقتال بعضهم لبعض.
روى مسلم من حديث ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: (إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها [3] ، وإن
أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها ، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض ، وإني
سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة ، وأن لا يسلط عليها عدوًّا من سوى
أنفسهم يستبيح ببيضتهم [4]، وإن ربي قال لي: يا محمد إني إذا قضيت قضاء ،
فإنه لا يرد ، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة ، وأن لا أسلط عليهم
عدوًّا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها - أو قال
من بين أقطارها - حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا ويسبي بعضهم بعضًا) .
وقد ظهر صدق هذا الحديث في الفتح الإسلامي للشرق والغرب ، ثم في
ذهاب ملك المسلمين كما أشرنا إليه آنفًا في شأن بعض دول الشرق الإسلامي ،
ومثله دول الغرب القديمة والحديثة ، فلولا تفرق أهل الأندلس وتعاديهم وتقاتلهم لما
زالت دولتهم وورثها الأسبانيون ، ولولا مسلمو مراكش لما فتحت فرنسة الجزائر ،
ثم لولا مسلمو الجزائر لما استولت فرنسة على مملكة مراكش.
أيها المسلمون: لا يكن أمركم عليكم غمة في مسألة زحف النجديين؛ لإنقاذ
الحجاز من صنيعة الأجانب حسين المكي وأولاده ، قد بينا لكم بالوثائق الرسمية
حقيقة السبب الحامل للسلطان ابن سعود على ذلك ، وأنه إسلامي محض؛ لتأمين
فريضة الحج ، ومنع الإلحاد والظلم في الحرم ، وقطع عروق النفوذ الأجنبي في
مهد الإسلام ، المانع من تنفيذ وصية المصطفى عليه الصلاة والسلام.
وكذا منع حسين وأولاده مما صرح به رسميًّا من عزمه على إخضاع جميع
حكومات جزيرة العرب لحكمه قبل ادعائه الخلافة ، فكيف يكون خطره بعد ادعائه
حق الولاية العامة عليهم شرعًا؟
أرجف بعض الكتاب الذين يخدمون السياسة الإنكليزية من طريق الحجاز بأن
سلطان نجد يريد إكراه حسين بضغطه على توقيع المعاهدة العربية البريطانية ،
فمتى خضع عاد جيش نجد أدراجه ، وردّدت جرائد أخرى هذا الإرجاف فظهر
كذبهم.
وأرجفوا بأن ابن سعود ينفذ للإنكليز في الحجاز ما لم ينفذه حسين ، وأنهم هم
الذين أغروه بالاستيلاء على الحجاز ، فظهر كذبهم أتم الظهور بما نشرته صحيفة
إرجافهم بمصر من برقيات لندن - أولاً - من خبر الاتفاق بين ابن سعود ونوري
باشا الشعلان رئيس قبائل الرولة على سماح الأول للثاني ببقعة الجوف بشرط منع
الإنكليز من مد سكة حديدية بين فلسطين والعراق - وثانيًا - ببرقية التيمس التي
أرسلها إليها مراسلها من الإسكندرية الناطقة بأن احتلال ابن السعود للحجاز
وموانئه الواقعة على البحر الأحمر مفعم بأخطار شديدة! ! وأنه يحمل معظم
القبائل على الانضواء إلى كنفه ، والسير تحت لوائه؛ وأنه يرجح أن ينتقل من
إنقاذ الحجاز إلى إنقاذ شرق الأردن وفلسطين وكذا اليمن على احتمال.
ثم إن هذا الإنكليزي الغيور على الإسلام والعرب طعن في دين الوهابيين
ومذهبهم ، ووصفهم بالتوحش وكراهة المدنية ، وأظهر خوفه وحذره من إكراههم
لغيرهم على اتباع مذهبهم ، وغيرته على المعاهد المقدسة! ! ، واستدل بهذا كله
على أنه يجب على الدولة البريطانية وهي أكبر دولة إسلامية (! ! !) أن تبادر
إلى رد الوهابيين عن الحجاز ، قال: (فتنقذ بذلك المعاهد المقدسة في الحجاز من
أن تمسها يد الوهابيين بالتدمير والتخريب - وليس ذلك فقط- بل تزيل أيضًا خطرًا
شديدًا يهدد البلاد العربية، وتقضي على عامل يقلق السلم في جزيرة العرب، فإذا
لم تزله زوالاً تامًا ، فإنها تخفف من حدته كثيرًا) .
المعنى الصريح المراد من هذا الكلام أن إنكلترة ترى من أعظم الخطر على
سياستها في البلاد العربية أو الإسلامية أن يوجد في المسلمين أمير مسلم قوي ، ولا
سيما إذا كان مسلمًا مؤمنًا ، معتصمًا بدينه ، مؤيدًا بشعب صادق الإيمان كابن سعود
وقومه، لا يباع ولا يشترى بالذهب الإنكليزي ، ولا بالألقاب الفخمة الضخمة
كحسين وأولاده، لأن قوة مثل هذه تحول دون نجاح السياسة البريطانية في إزالة
الإسلام من الأرض ، من حيث هو دين سيادة وسلطان، ثم في إزالته من الأرض
من حيث هو دين عقيدة وإيمان، ويستتبع ذلك احتمال إنقاذ ما استعبدته من الشعوب
الإسلامية والعربية.
ثم إن مراد كتاب الإنجليز وصنائعهم بمصر من نشر هذه الأراجيف
والتضليلات تمهيد السبيل لحمل المسلمين في مثل الهند ومصر وفلسطين وسورية
على استقباح استيلاء الوهابيين على الحجاز، وتمني إخراجهم منه؛ لتتوسل الدولة
البريطانية بذلك إلى بذل قوتها لإجلائهم عنه خدمة للإسلام والمسلمين (! !) ؛
لأنها شديدة الحب لهذا الدين والإيمان به ، ومغرمة القلب بحب المسلمين كافة ، كما
فعلت من قبل في احتلال أوطانهم حبًّا فيهم وتكريمًا لدينهم (! !) ، وهل كان فتحها
الصليبي للقدس الشريف واحتفالهم بذلك في جميع كنائسهم إلا من آثار هذا العشق
والغرام؟ وهل تمليكها رقبة فلسطين لليهود الصهيونيين ، وتجديد ملك لهم في قلب
بلاد العرب إلا من عشق الإسلام والمسلمين كافة، والعرب منهم خاصة (! !) .
يظهر أن مدير التيمس ومراسل التيمس بمصر وأمثالهما لا يزالون يظنون كما
يظن رجال الوزارة الخارجية البريطانية ، أن المسلمين لا يزالون كالبله يصدقون
كما يقول الإنكليز بدليل أن بعض أهل فلسطين وسوريا والعراق لا يزالون يعظمون
حسينًا وفيصلاً وعبد الله مع ظهور خيانتهم للأمة العربية ، وجنايتهم على الدين
الإسلامي.
والصواب الذي يجب أن يعرفه الإنكليز هو أن السواد الأعظم من المسلمين
صاروا على الرأي الذي سمعته من حسني أفندي أحد مشايخ الإسلام المتأخرين في
الآستانة وهو: أن كل ما تقول دول أوربة لنا إنه مفيد لكم فهو ضار بنا، وكل ما
تقول لنا: إنه ضار بكم فهو نافع لنا، فليرجع الساسة الإنكليز عن هذه الوسائل
السخيفة للتنكيل بالأمم الضعيفة، مع ادعاء المقاصد الشريفة، وليرجعوا عن
مطامعهم التي لا حد لها فإن ذلك خير لهم.
أيها المسلمون: حسبكم ما بينا لكم من الدلائل في هذه المقالات وغيرها على
مصاب الإسلام والعرب بهذا البيت الحجازي ، ووجوب تطهير الحجاز من جناياته
على العرب والإسلام، وقد سخر الله لحرمه من أنقذه بأهون الوسائل ، فماذا يجب
عليكم الآن؟ خذوا رأي أخيكم كاتب هذه المقالات الذي درس مسألة جزيرة العرب
وأمرائها ، وسياسة الأجانب فيها بالعلم والعمل درسًا طويلاً عريضًا عميقًا في أكثر
من ربع قرن ، وألخص ما يتعلق منه بموضوعنا في القضايا الآتية:
1-
إن أعظم جناية يجنيها مسلم على الإسلام والمسلمين والعرب السعي
لإقرار سلطة علي بن حسين وإبقائه ملكًا على الحجاز ، فقد سنحت الآن الفرصة
لأعظم إصلاح يمكن أن يقوم به المسلمون في مهد دينهم ، فإذا أضاعوها يخشى أن
لا تعود.
قد تولى إمارة الحجاز كثيرون من هؤلاء الناس الذين يسمون شرفاء مكة في
بضعة قرون ، فلم يخرج منهم مصلح في علم ولا عمل ولا ديانة ولا سياسة ولا
إدارة، بل كان أكثرهم مفسدين ظالمين، وأقلهم غير نافعين ولا ضارين، والدليل
على ذلك سوء حالة الحجاز في جميع هذه القرون، ورجوع بدوه إلى شر مما كانوا
عليه في الجاهلية، وكون حضره أسوأ حالاً من جميع سكان المدن في البلاد
الشرقية.
وقد كان شرهم وأطمعهم وأشدهم إلحادًا وإفسادًا للدين والدنيا حسين بن علي
الذي لم يبلغنا أن أحدًا من الأمراء أبغضه أهل ملته وذموه مثله، وهذا ولده قد سمي
ملكًا في أسوأ حال نصب فيها حاكم في أمة أو بلد ينهزم أمام الفاتحين من مكان إلى
مكان ، ويستغيث بجميع أهل الملل والنحل من جميع الأمم؛ لينقذوه من هؤلاء
الفاتحين، ثم هو يقر حكومة والده الممقوتة برجالها كلهم ، ويبدأ أعماله السياسية
بأمر وكيل والده في لندن ، بعقد تلك المعاهدة التي بيّن فسادها كُتَّاب المسلمين في
مشارق الأرض ومغاربها.
2-
إنه لم يكن يوجد في الدنيا شعب إسلامي غير النجديين يمكنه إنقاذ الحجاز
من الخطر الذي كان محيطًا به بعد احتلال الأجانب لفلسطين وسورية والعراق ،
واستيلائهم على سكة الحديد الحجازية من جانب العمران، وقد كان هذا البلاء
المبين بمساعدة هذا البيت الحجازي. وها نحن أولاء نسمع ونقرأ ما يهدد الإنكليز
به الحجاز من عدم السماح لقوة إسلامية تؤسس فيه؛ لئلا تكون خطرًا على ما
صاروا يعدونه ملكًَا لهم من بلاد العرب ، التي يزعم حسين وأولاده أنهم أنقذوها
(فلسطين وشرق الأردن والعراق) .
ولا يخفى عليكم أن مقتضى القاعدة السياسية الإنكليزية وجوب الاستيلاء التام
على الحجاز واحتلاله بالقوة العسكرية ، إن لم تكن تحت الإشراف البريطاني؛
لأجل الأمن على المواصلات البريطانية بين فلسطين والعراق.
3-
اعلموا أنه لا توجد حكومة إسلامية غير حكومة نجد ، تقدر الآن على
حفظ الأمن في الحجاز ، ومنع التعدي على الحجاج، ثم على إصلاح حال قبائل
الأعراب فيه ، ومنعهم من الغزو لمجرد التعدي أو الكسب والنهب، فيجب أن
يعضدها جميع العالم الإسلامي، وسيرون صحة قولي في هذا كما رأوه في غيره
ولا سيما الإرجاف الأخير بالخوف على الكعبة المشرفة أن يهدمها الوهابيون ، أو
يمزقوا أستارها، وأمثال هذه الأكاذيب التي كان يذيعها الإنكليز ومروجو سياستهم
الحجازية في مصر وسورية ، فقد دخلوا مكة كما دخلها أجدادهم في فجر القرن
العشرين معتمرين ، فطافوا بالكعبة المعظمة ، وقبّلوا الحجر وصلّوا سُنَّة الطواف ،
ثم الفريضة وآمنوا جميع الأهالي من كل اعتداء ، فلم يعتدوا على أحد، وسيلغون
جميع الضرائب والمغارم التي أرهق حسين بها الناس، ولما علم ذلك عاد الذين
كانوا فارين من مكة إلى جدة من الطريق ، ولا بد أن يكون جميع الذين فروا إلى
جدة قبل ذلك قد ندموا؛ لتصديقهم الملك السابق والملك اللاحق ، بأن الوهابية
سيمزقون أشلاءهم، ويبقرون بطون نسائهم، ويقطعون أعضاء أطفالهم على مرأى
منهم، ثم ينهبون جميع ما يملكون
…
4-
إنه لا يليق بالإسلام، ولا ببيت الله الحرام، أن يكون في مكة وهي البلد
الأمين، والمعبد الأعظم للمسلمين، ملك قاهر مستعلٍ على الناس ، يقتل ويسجن
ويعذب ويفرض الغرامات ، ويعادي جيرانه ويقاتلهم، بل يجب أن يكون فيها
حكومة يديرها مجلس شرعي مُنْتَخَبٌ من خيار علمائها وعلماء الشعوب الإسلامية
الأخرى ، ويكون لهم رئيس يختارونه من أنفسهم في كل سنة ، ولا يكون لأي فرد
من الأفراد أن يستبد بأي أمر في حرم الله برأيه.
5-
يجب أن يكون الحجاز قطرًا على الحياد لا يُقَاتِل ولا يُقاتَل ولا يكون
لأحد من الأجانب غير المسلمين نفوذ فيه ، ولا حق سُكْنى ولا ملك ولا حماية أحد
من الحجاج ولا من غيرهم. ولا يوجد مسلم يعرف دينه يرضى أن يكون بلد الله
الأمين تحت حماية حاكم غير مسلم ، أو يجعل نفسه ذريعة لتدخله في شؤونه،
وإهانته لحكومته الإسلامية ، وإذا كان قد عهد من أجهل المسلمين التابعين لدول
غير إسلامية الصبر الجميل على ظلم أمراء مكة القبيح ، ولم يستحلوا أن يشكوا
ذلك لحكوماتهم ، فكيف يكون شأنهم إذا صارت حكومة الحجاز شرعية شورية لا
استبداد فيها ولا مجال للاستبداد.
6-
يجب أن يكون الحجاز مهد العلم والصلاح والإصلاح ، وقد أُلِّفَت في
القاهرة جمعية إسلامية عامة؛ للسعي لما يجب من تأمينه وحياده السلمي باعتراف
جميع الدول ، ومن الإصلاح فيه اسمها (جمعية السلم العام ، في بلد الله الحرام)
وستعلن الدعوة إليها.
7-
إن ما أشرنا إليه ، ونقلنا بعضه في المقالة الرابعة من أقوال سلطان نجد
وبلاغي نجله ، وما لدينا من الاطلاع الخاص ، يعطينا اعتقادًا جازمًا بأن السلطان
عبد العزيز بن سعود يقبل بكل ارتياح ، أو يدعو إلى عقد مؤتمر إسلامي في مكة
المكرمة يؤلف من خواص مسلمي الشعوب الإسلامية؛ للبحث وتقرير النظام الذي
أشرنا إليه، كما أنه سيرسل وفدًا من علماء نجد لحضور مؤتمر الخلافة الذي سيعقد
في مصر، فهل كان أحد من المسلمين يطمع في شيء من هذا قبل إنقاذ هذا الرجل
العظيم للحجاز من قبضة الطاغوت؟
***
المقالة السادسة [**]
ماذا يفعل الوهابيون بالحجرة النبوية وقبة الحرم الشريف
أكثر المثنون علينا من قراء هذه المقالات من العلماء والفضلاء قولاً وكتابة
على ما بينا لهم من الحقائق، مؤيدة بالدلائل والوثائق، كما كثر طلاب (الهدية
السنية التحفة الوهابية النجدية) حتى صارت تطلب من الأقطار البعيدة، ووزعت
منها ألوف عديدة، وكثر السائلون لنا عما يشتبه عليهم من هذه الرسالة ومن أقوال
الجرائد، فأما من يلقوننا منهم فإننا نجيب كل سائل بقدر ما يتسع الوقت، وأما
الذين يكتبون إلينا منهم فنعتذر لهم، بأننا لا نجد وقت فراغ من أعمالنا
الضرورية نصرفه في الكتابة لهم ، وإن كنا نعتقد أن الكتابة مفيدة لمن أراد أن
يستفيد.
ومن الأسئلة الكتابية سؤال أرسل إلينا من طريق جريدة الأهرام هو أجدرها
بأن لا يجاب عنه، وإن كان مرسله مستعجلاً لا صبر له، إذ هو يسأل عما يفعل
الوهابيون بالحجرة النبوية إذا هم فتحوا مكة والمدينة، ويقيم عليهم الحجة إذا هم
فعلوا ما زعم أنهم يدينون الله تعالى به وإذا هم لم يفعلوا على سواء. فأنا لا يعنيني
أن أبحث في أمر المستقبل ، وما عسى أن يفعل الوهابية فيه، ولا يعنيني أن
يخطئ القوم في أمر فتقوم به عليهم الحجة ، ومتى فعلوا شيئًا يعلم السائل وغيره
ذلك، وهم على تشددهم في الدين غير معصومين، فإن وقع منهم خطأ ، فقد وقع
ممن هم خير منهم: كالصحابة الذين قتلوا جماعة أسلموا بأمرخالد بن الوليد رضي
الله عنه؛ لأنه لم يثق بإسلامهم ، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأمرهم قال:
(اللهم أبرأ إليك مما فعل خالد، اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد) رواه البخاري
وغيره.
ولكنني وجدت باعثًا دينيًّا دعاني للإجابة عن هذا السؤال الذي هو غير جدير
بالإجابة عنه لذاته، وهو أن أبين للجماهير من الناس الذين لم يطّلعوا على كتب
السنة أصح ما ورد في هذا الباب، مع فوائد أخرى تتعلق بما في السؤال من
الاحتجاج، اقتداء بما ورد في آخر كتاب العلم من صحيح البخاري في (باب من
أجاب السائل بأكثر مما سأله) .
وهذا نص السؤال:
السلام عليكم، وبعد: أرأيتَك يا أستاذ ، لو تم للإخوان الوهابيين فتح مكة
والمدينة؛ أيهدمون قبر النبي صلى الله عليه وسلم، أعني يحطمون ما حوله من
بناء وما فوقه من قباب، إذ أنهم يدينون بتحريم ذلك، ويعتقدون أنها بدع يجب
استئصالها
…
؟
وهل لا يغضب العالم الإسلامي لمثل ما يأتون إذا حصل
…
؟ وإذا راعى
الإخوان في ذلك شعور العالم الإسلامي ، وتحاشوا تلك الأعمال عند هذا المقام، فما
معنى تلك الأسطر الكثيرة التي خطوها في هذا الباب؟ أو هل كان النص تنقطع
سلسلة اتباعه هنا، فهو مقصور على قبر غير النبي صلى الله عليه وسلم
…
؟
عجِّل يا سيدي بإجابتي ، وتقبل جميل احتراماتي
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... المخلص
…
...
…
...
…
...
…
...
…
محمد إبراهيم خليل
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... ببولاق
جواب السؤال:
(1)
الذي نظنه أن الوهابيين لا يهدمون الحجرة التي فيها القبر الشريف ،
وما قاله السائل من أنهم يدينون الله تعالى بتحريم ذلك البناء ، ويعتقدون أنها بدع
يجب استئصالها؛ فيه نظر فإن البدع المخالفة لصريح السنة هي اتخاذ القبور
مساجد ، بأن يدفن الميت في المسجد أو يبنى المسجد على القبر
…
كما يعلم مما
يأتي ، وقبر النبي صلى الله عليه وسلم منفصل من المسجد في بناء وحده كان بيت
زوجه عائشة رضي الله عنها وعن أبيها ، فالذي يصلي في المسجد لا يعد
مصليًّا إلى القبر، وإذا كان بعض الناس يدخل الحجرة الشريفة فيصلي إلى القبر
يسهل منعه.
وقد استولى القوم على الحرمين الشريفين في فجر القرن الثالث عشر الهجري
(الموافق لأول القرن التاسع عشر الميلادي) ، ولم يهدموا الحجرة الشريفة، ولكن
روى بعض المؤرخين أنهم أزالوا من فوق قبة الحرم النبوي الشريف ما كان من
شكل الهلال والكرة المذهبين، وأنه كان من مرادهم هدم القبة ، ولكن سقط اثنان
من الفعلة الذين صعدوها لإزالة الكرة والهلال الذهبيين فماتا فامتنعوا من هدم القبة
لذلك، والمعلوم قطعًا أنهم لم يهدموا قبة الحرم ، ولم يحدثوا اعتداءً ولا تغييرًا في
القبر الشريف، وربما كان نزع الكرة والهلال لاعتقادهم أنهما من الذهب ، فرأوا
أن الانتفاع بهما في خدمة الدين التي يعتقدون القيام بها أولى من وضعها فوق القبة ،
على أن هذا الزخرف في بناء المساجد ليس من الدين في شيء ، بل هو من
البدع التي تفاخر بها الملوك ، فأنكرها عليهم بعض العلماء وسكت عنها بعضهم
خوفًا منهم، أو لأنهم عدوا الكثير منها من البدع الدنيوية التي لا تمس العقائد ولا
العبادات ، ثم ابتدع هؤلاء الملوك بناء المساجد على قبورهم ، فكانوا يوصون بذلك
فينفذه أخلافهم ، وهو محرم بالنصوص الصحيحة الصريحة ، فأنكره قليل من
العلماء الربانيين، وسكت عنه الآخرون خوفًا من شرهم، أو طمعًا في برهم، كما
يعلم من الشواهد التي نزيدها على جواب السائل الفاضل.
(2)
إن العالم الإسلامي يغضب أشد الغضب إن هدموا القبة الخضراء أو
شيئًا من جدران الحجرة الشريفة؛ لأن هذه المظاهر الفخمة والزخارف الجميلة تعد
في عرف جميع العوام وكثير ممن يسمون الخواص من قبيل شعائر الإسلام،
والمشعر الحرام، بل هي عندهم أفضل من الركن والمقام، وأهم من الصلاة
والصيام، ومنهم من يذهب إلى الحجاز؛ لأجل الزيارة ، ولا يخشع إلا لرؤية هذه
المباني الفخمة ، فإذا كان في إزالة شيء منها مصلحة من بعض الوجوه كالرجوع
في الأمور الدينية وما يتعلق بها إلى مثل ما كانت عليه في عصر السلف ، والتمييز
بين ما هو مطلوب شرعًا وما هو محذور أو غير مطلوب؛ فإن فيه مفسدة أكبر
والحال في أكثر البلاد الإسلامية على ما ذكرنا ، حتى صح فيها ما تنوه به خطباء
المنابر من تحول المعروف منكرًا والمنكر معروفًا ، ودرء المفاسد مقام على جلب
المصالح بشرطه المعروف عند العلماء.
(3)
إذا راعى الإخوان شعور العالم الإسلامي في ترك بعض المنكرات
المتفق على حظرها على حالها درءًا للمفسدة، واتقاء لتنفير الكثيرين عن الإصلاح
المقصود من إنقاذ البلاد المقدسة، يكون عملهم هذا موافقًا للشرع، وقد علمنا مما
دار في مؤتمر الشورى في عاصمة نجد ، أن العلماء أفتوا السلطان بجواز تأخير
أداء فريضة الحج في الموسم الأخير إذا كان يترتب على أدائه مفسدة راجحة ،
ووجود الحجرة النبوية نفسها ليس من المنكرات ، بل من المعروف المتواتر خبره
في كتب السنة كالمسجد النبوي ، وإنما تغير شكل البناء، وأمره هين لا يذكر مع
تركهم للحج خوفًا من المفسدة.
ومن دلائل السنة على هذه المراعاة بهذا القصد ما ثبت في الصحيحين
وغيرهما من حديث عائشة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم
كان كارهًا لما عليه بناء قريش للكعبة مقتصرة من جهة الشمال عن قواعد جده
إبراهيم (عليهما وآلهما الصلاة والسلام) ومن جعل بابها مرتفعًا؛ ليدخلوا من
شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا، وأنه كان صلى الله عليه وسلم يود لو نقضها فأعاد
بناءها على أساس إبراهيم ، وجعل لها بابين لاصقين بالأرض؛ ليدخل كل من أراد
من باب ويخرج من الآخر ، وما منعه من ذلك إلا حداثة عهدهم بالكفر والجاهلية
كما صرح به لعائشة) والحديث في ذلك مكرر في الصحيحين وغيرهما، فإذا كان
المعصوم صلى الله عليه وسلم خاف أن تنكر قلوب حديثي العهد بالشرك من
المؤمنين هدمه للكعبة وبناءها على أتم وأفضل مما بناها عليه المشركون ، فمراعاة
الإخوان مثل ذلك يعد عملاً شرعيًّا.
الزيادة على الجواب:
إذا أراد السائل وأمثاله نصًّا عن الأئمة المجتهدين في هذه المباني الفخمة
والزينة في الحرم النبوي الشريف فليراجع ما قاله العلامة الشاطبي في كتابه
الاعتصام: في بحث الشروط التي تشترط لعد البدع من المعاصي الصغائر كبائر ،
حتى إذا ما بلغ الشرط الثالث وهو (أن لا تفعل البدعة في المواضع التي هي
مجتمعات الناس ، والمواضع التي تقام فيها السنن ، وتظهر فيها أعلام الشريعة)
يجد من الدلائل على هذا الشرط ما نصه:
(قال أبو مصعب: قدم علينا ابن مهدي فصلى ووضع رداءه بين يدي
الصف ، فلما سلم الإمام رمقه الناس بأبصارهم ، ورمقوا مالكًا (هو الإمام مالك ابن
أنس) ، وكان قد صلى خلف الإمام ، فلما سلم قال: من هاهنا من الحرس؟ فجاءه
نفسان فقال: خذا صاحب هذا الثوب فاحبساه ، فحبس، فقيل له: إنه ابن مهدي
(أي قيل لمالك: إن هذا الذي حبس هو عبد الرحمن بن مهدي الإمام المشهور ، وهو
من أقران مالك في الحديث) فوجه إليه وقال له: ما خفت الله واتقيته أن وضعت
ثوبك بين يديك في الصف ، وشغلت المصلين بالنظر إليه ، وأحدثت في مسجدنا
شيئًا ما كنا نعرفه؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في مسجدنا
حدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) ، فبكى ابن مهدي وآلى على نفسه
أن لا يفعل ذلك في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في غيره ، وفي رواية أن
عبد الرحمن بن مهدي اعتذر بأنه ثقل عليه رداؤه من شدة الحر ، فوضعه ولم يقصد
مخالفة من مضى. أي في عدم إحداث شيء جديد في مسجده صلى الله عليه وسلم.
فإذا كان إمام دار الهجرة يرى أن من مخالفة الحديث الشريف الذي رواه هو
ومن بعده من أصحاب الصحاح والسنن أن يضع المصلي رداءه أمامه؛ لأن هذا لم
يكن في عهده صلى الله عليه وسلم، وكل ما لم يكن في عهده يصدق عليه أنه
إحداث وابتداع فيه يستحق صاحبه تلك اللعنة الشاملة المحيطة ، فما القول عنده في
سائر الأحداث؟
والإمام مالك مُتَّفَقٌ على جلالته واجتهاده ، ويلقبه بعض المحدثين حتى من
غير المالكية بالإمام الأعظم، ولكنه لو خرج اليوم من قبره، وأراد أن يجعل
المسجد النبوي كما كان في عصره لرجمه جماهير المسلمين بالحجارة وفي مقدمتهم
أتباع مذهبه من المغاربة والسودانيين والمصريين.
نكتفي بهذا القدر من الزيادة الآن ، وسنذكر في المقال المتمم لهذه الفتوى
بعض الأحاديث المحتج بها في أحكام القبور والمساجد ، وأقوال بعض كبار الفقهاء
من غير الحنابلة؛ لأن هذه فرصة تنبهت فيها الأذهان للتمييز بين السنن والبدع.
***
المقالة السابعة [***]
القبور ومساجدها وقبابها
قد عم الجهل بالإسلام ، حتى صار ألوف الألوف من المسلمين جنسية لا
هداية ، يعدون بعض الحق من عقائده وآدابه وأحكامه باطلاً، والباطل من البدع
المحدثة فيه حقًّا، وسبب هذا إهمال التعليم الديني والإرشاد الإسلامي، وترك
فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فانقلب الأمر وانعكس الوضع، فصار
الكثيرون يعدون كثيرًا من المعروف منكرًا ومن المنكر معروفًا ، حتى في الأمور
المتعلقة بصحة الإيمان.
ولما فشت البدع ورسخت ، صارت مألوفة ، وعز على المشتغلين بالعلم أن
يطبقوا على أصحابها أحكام الشرع في أحكام: الردة ، والخروج من الإسلام ،
وأحكام رد الشهادة ، ثم صار بعضهم يتأول لهم ، ولو بالتمحل البعيد عن النقل
والعقل.
لهذا اضطرب الناس في الإصلاح والتجديد للدين الذي قام به الشيخ محمد عبد
الوهاب الحنبلي السلفي في نجد وأولاده وأحفاده وتلاميذهم بتأييد أمراء نجد؛ سعود
وآل سعود؛ لأنهم أقاموا أحكام الإسلام بالعلم والعمل ، والتأييد بالحكم النافذ؛ فرأى
أمراء الحجاز المفسدون مجالاً واسعًا لاتهامهم بتكفير المسلمين واستباحة دمائهم؛
ووافقتهم الدولة العثمانية يومئذ على ذلك؛ لإماتة ذلك الإصلاح لئلا يفضي إلى
تأسيس دولة عربية قوية في بلاد العرب، مع أن الدولة كانت تعد فرق الباطنية؛
كالنصيرية والإسماعيلية ، والدروز مسلمين ، إذ كانت أبعد الحكومات الإسلامية عن
التكفير وعن مقاومة البدع، إلا أن يكون لأجل السياسة كقتالها للإيرانيين، وكل من
هذا وذاك دوران مع السياسة يدل عليه أن الشعب التركي يثني على الوهابيين اليوم
وتتمنى جرائده لهم الفوز بالاستيلاء على الحجاز؛ لأن الحجاز قد خرج من دائرة
دولتهم ، وكان المتغلب عليه عدوًّا لهم.
أشهر ما اشتهر من إصلاح الوهابيين الذي سماه الجاهلون بدعة أو مذهبًا
جديدًا أو دينًا محدثًا منع البدع والمعاصي المتعلقة بقبور الأنبياء والأولياء وأهل
البيت ، وإننا ننشر للجمهور الآن بعض ما ورد في ذلك من الأحاديث النبوية ،
وأقوال بعض الفقهاء المشهورين من المجتهدين والمنتمين إلى المذاهب المشهورة؛
ليميزوا به الحق من الباطل والهدى من الضلال.
جاء في كتاب الزواجر للفقيه الشهير أحمد بن حجر الهيتمي الشافعي المولود
بمصر سنة 909 والمتوفى بمكة سنة 973 - ما نصه:
الكبيرة 93-98
اتخاذ القبور مساجد وإيقاد السرج عليها ، واتخاذها أوثانًا والطواف بها
واستسلامها ، والصلاة إليها.
أخرج الطبراني بسند لا بأس به عن كعب بن مالك رضي الله عنه قال:
عهدي بنبيكم قبل وفاته بخمس ليالٍ فسمعته يقول: (إنه لم يكن نبي إلا وله خليل
من أمته ، وإن خليلي أبو بكر بن أبي قحافة، وأن الله اتخذ صاحبكم خليلاً، ألا
وإن الأمم قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ، وإني أنهاكم عن ذلك، اللهم
إني بلغت) ثلاث مرات، ثم قال:(اللهم اشهد) ثلاث مرات، الحديث.
والطبراني (لا تصلوا إلى قبر ولا تصلوا على قبر)[5] وأحمد وأبو داود
والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان عن ابن عباس رضي الله عنهما (لعن
رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج)
ومسلم (ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد فإني أنهاكم عن
ذلك) وأحمد (إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون
القبور مساجد) ، وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم (الأرض كلها
مسجد إلا المقبرة والحمَّام) والشيخان وأبو داود (قاتل الله اليهود اتخذوا قبور
أنبيائهم مساجد) ، وأحمد عن أسامة وأحمد والشيخان والنسائي عن عائشة وابن
عباس ومسلم عن أبي هريرة [6] بمعناه وأحمد والشيخان والنسائي (أولئك إذا كان
فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا ، وصوروا فيه تلك الصور أولئك
شرار الخلق عند الله يوم القيامة) ، وابن حبان عن أنس: (نهى صلى الله عليه
وسلم عن الصلاة إلى القبور) ، وأحمد والطبراني: (إن من شرار الناس من
تدركهم الساعة وهم أحياء ومن يتخذ القبور مساجد) ، وابن سعد (ألا إن من كان
قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ، فلا تتخذوا القبور مساجد فإني
أنهاكم عن ذلك) ، وعبد الرازق (إن من شرار الناس من يتخذ القبور مساجد) ،
وأيضًا (كانت بنو إسرائيل اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد فلعنهم الله تعالى)[7] ، ثم
قال المصنف بعد سرد هذه الأحاديث:
(تنبيه) :
عد هذه الستة من الكبائر وقع في كلام بعض الشافعية ، وكأنه أخذ ذلك مما
ذكرته من هذه الأحاديث ، ووجه أخذ اتخاذ القبر مسجدًا منها واضح؛ لأنه لعن من
فعل ذلك بقبور أنبيائه ، وجعل من فعل ذلك بقبور صلحائه شر الخلق عند الله يوم
القيامة، ففيه تحذير لنا كما في رواية:(يحذر ما صنعوا) أي يُحَذِّرُ أُمَّتَهُ بقوله
لهم ذلك من أن يصنعوا كصنع أولئك فيلعنوا كما لعنوا واتخاذ القبر مسجدًا معناه
الصلاة عليه أو إليه وحينئذ فقوله: (والصلاة إليها) مكرر، إلا أن يراد باتخاذها
مساجد الصلاة عليها فقط [8] .
(نعم إنما يتجه هذا الأخذ إن كان القبرُ قَبْرَ مُعَظَّم من نبي أو ولي كما
أشارت إليه رواية (إن كان فيهم الرجل الصالح) ومن ثَمَّ قال أصحابنا: تحرم
الصلاة إلى قبور الأنبياء والأولياء تبركًا وإعظامًا ، فاشترطوا شيئين: أن يكون
قبر معظم ، وأن يقصد بالصلاة إليه ومثلها الصلاة عليه التبرك والإعظام ، وكون
هذا الفعل كبيرة ظاهر من الأحاديث المذكورة لما علمت، وكأنه قاس على ذلك كل
تعظيم للقبر؛ كإيقاد السرج عليه تعظيمًا له وتبركًا به - والطواف به كذلك - وهو
أخذ غير بعيد ، سيّما وقد صرح في الحديث المذكور آنفًا بلعن من اتخذ على
القبر سرجًا ، فيحمل قول أصحابنا بكراهة ذلك على ما إذا لم يقصد به تعظيمًا
وتبركًا بذي القبر) .
وأما اتخاذها أوثانًا فجاء النهي عنه بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تتخذوا
قبري وثنًا يعبد بعدي) أي لا تعظموه تعظيم غيركم لأوثانهم بالسجود له أو نحوه [9] ،
فإن أراد ذلك الإمام بقوله: واتخاذها أوثانًا - هذا المعنى اتجه ما قاله من أن
ذلك كبيرة بل كفر بشرطه، وإن أراد أن مطلق التعظيم الذي لم يؤذن فيه كبيرة
ففيه بعد ، نعم قال بعض الحنابلة: قصد الصلاة عند القبر متبركًا به غير المحادة
لله ورسوله ، وإبداع دين لم يأذن به الله للنهي عنها ، ثم إجماعًا فإن أعظم
المحرمات وأسباب الشرك الصلاة عندها ، واتخاذها مساجدًا أو بناؤها عليها ،
والقول بالكراهة محمول على غير ذلك ، إذ لا يُظن بالعلماء تجويز فعل تواتر عن
النبي صلى الله عليه وسلم لَعْنُ فاعله.
وتجب المبادرة لهدمها وهدم القباب التي على القبور إذ هي أضر من مسجد
الضرار؛ لأنها أسست على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم ، لأنه نهى عن
ذلك ، وأمر صلى الله عليه وسلم بهدم القبور المشرفة ، وتجب إزالة كل قنديل أو
سراج على قبر ، ولا يصح وقفه ونذره، انتهى (راجع صفحة 161 - 163 من
الزواجر المطبوع بالمطبعة الوهبية بمصر سنة 1293) .
وقد أشار بقوله أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بهدم القبور المشرفة إلى
الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه وغيره عن أبي الهياج الأسدي قال: (قال لي
علي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تدع
تمثالاً إلا طمسته ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته) ، قال الإمام النووي في شرحه لهذا
الحديث: قال الشافعي في الأم: ورأيت الأئمة بمكة يأمرون بهدم ما يبنى ، ويؤيد
الهدم قوله: (ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته) اهـ.
فهل كان ابن حجر والنووي قبله والإمام الشافعي قبلهما من الوهابية؟ وهل
كان أئمة المسلمين بمكة في عصر الشافعي أعلم وأهدى ، أم طاغوت الحجاز في
عصرنا حسين الذي أمطر الخافقين برقيات في الطعن على الوهابية بهدم قبر ابن
عباس رضي الله عنهما ؟
إن أمر النبي صلى الله عليه وسلم لعلي - كرم الله وجهه - حين أرسله إلى
اليمن بطمس التماثيل ، وهدم القبور المشرفة ، وتسويتها بالأرض؛ ثم أمر علي
عامله أبا الهياج الأسدي بذلك ، وعمل أئمة المسلمين بذلك في خير القرون كان لسد
ذريعة تعظيم القبور تعظيمًا دينيًّا إذ هو من أعمال الشرك، فهل ننكر هدمها وهدم
القباب والمساجد التي عليها بعد ما وقع المحذور ، وارتكب المحظور؟
حدثني الشريف محمد شرف عدنان باشا حفيد الشريف عبد المطلب الذي كان
أعقل رجل في شرفاء مكة أنه رأى رجلاً في مسجد ابن عباس بالطائف يصلي
مستقبلاً القبر مستدبرًا القبلة فظن أنه أعمى قد أخطأ القبلة ، فأخبره بذلك وجاء
ليحوله إلى القبلة ، فرآه بصير العينين ، وأبى أن يتحول معه ، فعلم أنه متعمد فقال
لبعض الخدم: أخرجوا هذا المشرك من المسجد.
فالأمر المشاهد الذي لا شك فيه أن هذه القبور المعظمة تعظيمًا دينيًّا لم يأذن
به الله قد كانت سببًا لمنكرات كثيرة أخرى منها هو شرك صريح لا يحتمل
التأويل ، ومنها ما يحتمله احتمالاً قريبًا أو بعيدًا، ولكن لا يجوز أن يجعل الاحتمال
مسوغًا للسكوت عنه وإقرار أهله عليه ، وإنما قد يجوز ذلك في درء الكفر عن
شخص معين؛ ومنها ما هو معصية كبيرة ، ومنها ما هو صغيرة وكلاهما كثير جدًّا
لا خلاف بين المسلمين فيه ، ولا في أن استحلال المُجْمَع عليه المعلومِ من الدين
بالضرورة كفر وخروج من الملة ، وقد فصّل العلماء الناصحون ذلك في كتب كثيرة
أشهر المطبوع منها كتاب المدخل للعلامة ابن الحاج المالكي الفاسي المتوفي في
مصر سنة 737 ، ومما ذكره أن العلماء أفتوا بهدم بنيان البيوت التي على القبور
(الأحواش) ، كما في الصفحة 274 من الجزء الأول ، وفصّل المفاسد الموجِبَة لذلك.
وقال الإمام الشوكاني المجتهد في شرح حديث أبي الهياج الأسدي من كتابه
(نيل الأوطار) ما نصه: (ومِن رَفْعِ القبور الداخل تحت الحديث دخولاً أوليًّا
القبب والمشاهد المعمورة على القبور ، وأيضًا هو من اتخاذ القبور مساجد ، وقد
لعن النبي صلى الله عليه وسلم فاعل ذلك كما سيأتي ، وكم قد سرى عن تشييد أبنية
القبور وتحسينها من مفاسد يبكي لها الإسلام، (منها) : اعتقاد الجهلة لها كاعتقاد
الكفار للأصنام، وعظم ذلك فظنوا أنها قادرة على جلب النفع ورفع الضرر،
فجعلوها مقصدًا لطلب قضاء الحوائج، وملجأً لنجح المطالب، وسألوا منها ما يسأله
العباد من ربهم، وشدوا إليها الرحال، وتمسحوا بها واستغاثوا، وبالجملة فإنهم لم
يدعو شيئًا مما كانت الجاهلية تفعله بالأصنام إلا فعلوه، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
(ومع هذا المنكر الشنيع والكفر الفظيع لا نجد من يغضب لله ، ويغار حمية
للدين الحنيف لا عالمًا ولا متعلمًا ولا أميرًا ولا وزيرًا ولا ملكًا ، وقد توارد إلينا من
الأخبار ، ما لا يشك معه أن كثيرًا من هؤلاء القبوريين أو أكثرهم إذا توجهت عليه
يمين من قبل خصمه حلف بالله فاجرًا ، فإذا قيل له بعد ذلك: احلف بشيخك
ومعتقدك الولي الفلاني ، تلعثم وتلكأ وأبى واعترف بالحق ، وهذا من أبين الأدلة
الدالة على أن شركهم قد بلغ فوق شرك من قال: إنه تعالى ثاني اثنين وثالث ثلاثة.
(فيا علماء الدين، ويا ملوك المسلمين، أي رزء للإسلام أشد من الكفر؟
وأي بلاء لهذا الدين أضر عليه من عبادة غير الله تعالى؟ وأي مصيبة يصاب بها
المسلمون تعدل هذه المصيبة؟ وأي منكر يجب إنكاره إن لم يكن إنكار هذا البين
واجبًا؟ اهـ المراد منه (ص234 ج3 من نيل الأوطار المطبوع بالمطبعة
الأميرية بمصر) .
وللإمام الشوكاني هذا رسالة خاصة في هذا الموضوع ، نشرت في المجلد
الثاني والعشرين من المنار، وللعلامة المحدث محمد بن إسماعيل الوزير رسالة في
معناها اسمها (تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد) نشرت في المجلد الثالث
والعشرين منه - وقد طبعتا على حدة - وقد ذكر الأخير شبهة بعض الناس في قبة
المسجد النبوي الشريف ، بعد أن بين أن مبتدعي بناء القباب والمساجد على القبور
هم ملوك الأعاجم الجاهلون فقال:
(فإن قلت: هذا قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عُمِّرت عليه قبة
عظيمة ، أُنْفِقَتْ فيها الأموال (قلت) : هذا جهل عظيم بحقيقة الحال، فإن هذه
القبة ليس بناؤها منه صلى الله عليه وسلم ولا من أصحابه ولا من تابعيهم وتبع
التابعين، ولا من علماء أمته وأئمة ملته، بل هذه القبة من أبنية بعض ملوك مصر
المتأخرين ، وهو قلاوون الصالحي المعروف بالملك المنصور في سنة 678 ، ذكره
في (تحقيق النصرة، بتلخيص معالم دار الهجرة) فهذه أمور دولية لا دليلية ، يتبع
فيها الآخر الأول) اهـ.
فقد علم القراء بهذا النقول أن الوهابية لم يبتدعوا في هذا الأمر ، بل اتبعوا
الأدلة وأقوال الأئمة من المحدثين والفقهاء المنتمين إلى المذاهب المشهورة ، لا
مذهبهم الحنبلي فقط بعد ترك الجماهير لها {وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4) .
وإننا ندعو بالخير لمن سأل فكان سبب هذا البيان، وقد بلغنا ما علمنا به أننا
أخطأنا في فهمنا أنه أراد به الاحتجاج، والنية حسنة ولله الحمد في كل حال.
_________
(*) نشرت في الأهرام بتاريخ 19 ربيع الأول 18 أكتوبر.
(1)
أرز: كعلم وضرب ونصر: تجمع وانكمش وعاد وثبت، والأُروِيّة بضم الهمزة وكسر الواو وتشديد الياء أنثى الوعول؛ وهي تعتصم في أعلى الجبال.
(2)
نشر هذا المقال في ج 7و8 وكان الوعد في الأهرام قبل صدورهما.
(3)
زوى الشيء يزويه جمعه وقبضه والمراد: أنه تعالى أطلعه عليها.
(4)
يكنى بالبيضة عن موضع سلطة القوم ، وملكهم ومستقر قوتهم وما يحمون من حقيقتهم.
(**) نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 26 ربيع الأول 25 أكتوبر.
(***) نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 29ربيع الأول 28أكتوبر.
(5)
كل ما وضع بين هذه العلامة () فهو حديث نبوي شريف.
(6)
وفيه زيادة (والنصارى) وكان ذكر له صلى الله عليه وسلم كنيسة في الحبسة فيها صور الخ.
(7)
هذه الجملة من كلام عائشة قالتها بعد رواية لعنه صلى الله عليه وسلم لمن اتخذوا القبور مساجد تعليلاً للَّعن.
(8)
المتبادر بقرينة ما فعل أهل الكتاب أن منه بناء المساجد عليها ، وجعلها منسوبة إليها كما وضحه صلى الله عليه وسلم بقوله:(أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح) إلخ.
(9)
أي كالطواف به ، كما صرح به المؤلف آنفًا ، ومثله التمسح به أو بقفصه للتبرك أو الاستشفاء.
الكاتب: حسني عبد الهادي
من الخرافات إلى الحقيقة [*]
(11)
الجمعيات السرية
إن الفتوحات التي ابتدأت في زمان الخلفاء الراشدين وعَظُمَتْ في زمان
الأمويين، واستولى المسلمون على إيران ومصر والشام وإفريقية الشمالية ،
ولكن هذه الفتوحات كانت إقليمية لا قلبية، نعم تبدلت الحكومات وزالت الدول إلا
أن العقائد الراسخة منذ أجيال بقيت كما كانت؛ لأن تبديلها ليس هينًا [1] .
ثم كان بين الذين أسلموا أناس كان إسلامهم لمقاصد سياسية ، فكانوا يريدون
إماتة الديانة الإسلامية ، ويتوسلون إلى إحياء عقائدهم بإبرازها بثوب إسلامي جديد
وفي أواخر أيام العباسيين ظهر أناس بعضهم ملحد راسخ في الإلحاد وبعضهم
فارسي (زردشتي) ، وبعضهم من أتباع (ماني) أي نصفه مجوسي ونصفه
مسيحي وحصروا الشؤون العامة في أنفسهم.
وكان أكثر الناس غافلين عن كل شيء، ومستعدين لتصديق كل شيء، إذا
صادفت الجماعة منهم رجلاً صالحًا قادها إلى طريق الهداية، وإذا صادفت آخر
صالحًا خرجت معه عن جوهر الدين بدون أن تشعر، وكان (تصديق) كل ما
يسمع من أمارات الامتياز في تلك الأوقات، فكل فكر أسند إلى آية ولو لم تكن
موجودة، أو أسند إلى حديث موضوع، أو أي كتاب مجموع، كان ذلك يقبل بغير
تفكر، ويتبع بدون تدبر.
وثَم أسباب أخرى لميل الناس لكل جديد ، وهو ظلم الأمراء ، فكان الناس
بميلهم إلى الجديد يرجون خلاصًا من الظلم الواقع.
ثم إن كثرة المذاهب الدينية التي يُكَفِّرُ أصحابُها بعضُهم بعضًا أزالت هيبة
الدين وقللت من احترامه في نظر الناس ، هذه هي الحالة الذهنية التي تقدمت نشر
مذهب الباطنية.
الباطنيون:
كان ظاهر عملهم بذل الجهد؛ لإحياء مذهب الإسماعيلية الذي هو من مذاهب
الشيعة، والحقيقة أنهم كانوا يقصدون إحياء أساطير وخرافات قديمة يكتمونها عن
المبتدئين؛ فإن مؤسسي هذه الفرقة لم يكونوا مسلمين لا فعلاً ولا اسمًا ، والصحيح
أنهم كانوا مجوسًا.
منهم (عبد الله بن ميمون بن القداح) عقد مرة مجلسًا وخطب فيه فقال:
(إن المسلمين فتحوا بلادنا، وأزالوا دولتنا، إن الانتصار عليهم في الحرب والقتال
أصبح مستحيلاً، وإنما النافع في جهادنا لهم أن نقطع أواصر الاتحاد التي بينهم،
ونشوش عليهم أمورهم، ونوقعهم في بحر الارتباك، فحينئذ ننال منهم ما نبغي:
نحرف الإسلام بتأويل نصوصه، ونمجس المسلمين من حيث لا يشعرون ليخربوا
بيوتهم بأيديهم ، إذ بهذا وحده يمكن أن تدال الدولة للفرس ويعيدوا دينهم ودولتهم إلى
سابق مجدها.
وكان عاقبة التشاور في ذلك المجلس انتخاب عبد الله بن ميمون منفذًا لهذه
الخطة ، وكان ابن ميمون يعلم كنه الأخطار التي تظهر أمام من يريد نشر مذهب
جديد ، فاختار لذلك طريق الدسائس السرية، وكان عالمًا بمذهب (زردشت)
واقفًا على أصوله وفروعه، وكان له نصيب من العلوم الطبيعية، والأحوال
الروحية، لذلك بدأ يحرض الناس على الظلم والظلمة ، وينفرهم من الاستبداد
والمستبدين ، فجمع حوله جمًّا غفيرًا ، وكان يجذب قليلي الدين بمقدمات فلسفية،
ويجذب الشيعة بالإمام الموهوم المستتر، وأهل السنة بالمهدي المنتظر، ويخلب
أفئدة اليهود بالمسيح الموعود، كل هذا لأجل إعادة سلطنة إيران الزائلة.
بذل ابن ميمون هذا مساعي جمة لنيل المرام ، وكان موقنًا بالنجاح ، ثم مات
وخَلْفُهُ ابنه (أحمد) فواظب على خطة أبيه وعندما ظهر (حمدان القرمطي) وجد
الجو مناسبًا جدًّا لامتلاء أفكار الناس بعقائدهم.
أهل العراق كانوا مظلومين من قبل الحكومة ظلمًا شديدًا ولذلك كانوا ميالين
لكل ما يظهر من جديد فكانت الضرائب كثيرة جدًا والعسرة المالية شديدة على
الجمهور، وعندما سمع العراقيون بمذهب حمدان القرمطي الذي يقتضي اشتراك
الناس بالأموال هرعوا إليه وقبلوا دعوته بدون مناقشة.
عندئذ شرع الباطنيون يحرفون القرآن الكريم بالتأويل ويقولون إن له معنى
ظاهرًا للعوام ومعنى باطنًا للخواص، وهو المقصود بالذات، لأن الظاهر هو
القشر، والباطن هو اللب، وظاهر القرآن الكريم يحمل الإنسان واجبات أخلاقية
واجتماعية ودينية كثيرة وفيه أوامر ونواهي كثيرة وهذا مَرْكَبٌ صعب لا يُذَلَّلُ،
وبما أن باطن القرآن يقتضي ترك ظاهره طفقوا يفسرونه تفسيرًا غريبًا.
كانوا يقولون ليس من شؤوننا البحث عن صفات الله وهل هو موجود أو
معدوم، وعالم أو جاهل، خلق الله العقل قبل كل شيء ثم بواسطة العقل خلق
النفس وبما أن النفس مشتاقة لكمال العقل احتاجت إلى الحركة، والحركة تحتاج
إلى آلات ولذلك خلق الأجرام الفلكية وبتدبير النفس تحركت الأجرام الفلكية حركة
دورية وبتأثير ذلك النباتات والمعادن وأنواع الحيوانات.
أفضل الحيوانات الإنسان لأن بينه وبين العالم العلوي رابطة من دونها وعندما
يرتقي الإنسان إلى مرتبة العقل ترتفع عنه التكاليف والسنن ويستغني عن الاشتغال
بالعبادات.
الرسل عند الباطنية سبعة: آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد
ومحمد المهدي [2] وبين كل رسولين سبعة أئمة والواجب على الإمام إكمال نواقص
الرسول الذي تقدمه ولا يخلو عصر من إمام.
لهذا المذهب رتب مختلفة: (1) إمام (2) حجة (3) ذو مصة (4)
باب (5) داع (6) مأذون (7) مكلب (8) مؤمن.
الإمام عندهم: هو غاية الأدلة ومؤدي الله، والحجة هو مؤدي الإمام والحائز
لعلم الإمام ويحتج بذلك المعلم.
ذو المصة: هو الذي يأخذ العلم من الحجة أبواب: هو المأمور بتعلم الفكرة.
الداعي نوعان: داع أكبر وداع مأذون فالأول هو الذي يعين درجات المؤمنين
والثاني هو الذي يقبل أهل الظاهر، ويدخلهم في عداد أهل الباطن ويأخذ عهدهم
وميثاقهم.
المكلب: هو الذي يدخل بين أهل الظاهر ويعرف أحوالهم والذي يعرضها
على الداعي. المأذون المؤمن: هو الذي دخل في جمعية أهل الباطن وصار في
ذمة الإمام.
الداعي: هو ما يعبر عنه أهل زماننا باسم (جزويت) وهو يراقب الناس
فمن رأى فيه قابلية واستعدادا يختبر أحواله وأطواره وأفكاره ويجذبه إلى التعرف
إليه فإن رآه متدينا يظهر أي الداعي له بمظهر الدين. وإن وجده ملحدًا أو ضعيف
الإيمان يأتيه من حيث يحلو له وإن رآه متحليًّا بمكارم الأخلاق يتمثل له بمظهر ملك
كريم، وإن وجده من المنهمكين في الفسق يتظاهر بأنه مثله. وجملة القول أنه
يتحبب إلى الرجل ويختلبه حتى إذا رأى أنه استولى على روحه في تنفيذ وظيفته
وهز جذبه إلى حزبهم، يقنعه بأن كل ما يرغب فيه من السعادة لديهم. وكان الدعاة
يعملون عملهم بالترتيب ويتسلقون إلى الغاية - درجة بعد درجة - وهذه الدرجات
ثمانية.
وقبل أن نبحث في هذه الدرجات نبين بالإيجاز حقيقة طائفة الإسماعيلية التي
يستند عليها بالظاهر أرباب مذاهب الباطنية.
طائفة الإسماعيلية:
الإسماعيلية طائفة من طوائف الشيعة تنسب إلى إسماعيل بن جعفر الصادق
الكبير كانوا يقولون بإمامة جعفر الصادق وأنه فوضها إلى ابنه الكبير وبما أن
إسماعيل توفي قبل جعفر كان يقتضي أن ينقل حق الإمامة إلى محمد المكتوم وبعده
قام ابنه جعفر المصدق مقامه وخلفه محمد الجيب وكان ذكيًّا وفعالاً وهذا هو الذي
عم نشر مذهب الإسماعيلية وكان يسكن بلدة اسمها سلمية في جوار حمص وأرسل
الدعاة إلى جميع الجهات وأهم نقطة كان يعتني بها الإسماعيليون أن العالم لا يخلو
من إمام فإن كان مخفيًّا فلا بُدَّ له من لقياه وعند وفاة محمد الجيب أعلن ابنه عبد الله
أنه هو الإمام المنتظر أي المهدي.
(لها بقية)
…
...
…
...
…
...
…
...
…
المترجم
…
...
…
...
…
...
…
...
…
حسني عبد الهادي
_________
(*) تابع لما سبق من الكتاب المترجم عن التركية (راجع ص 444م25) .
(1)
المنار: الحق أن الإسلام قضى على جميع العقائد القديمة في عقول أكثر الناس وقلوبهم؛ لظهور بطلانها في نوره المتألق ، ولكن أكثر الأعاجم لم تفهم القرآن كما فهمه العرب ، وإنما فهمه منهم حق الفهم من تلقوا اللغة عن أهلها في الصدر الأول ، وكان الأكثرون قابلين لكل بدعة فيه.
(2)
المنار: قد كان تأثير هذه المفسدة المراد بها إبطال الإسلام بنبي آخر بعد خاتم النبيين رواج دعوة البابية والبهائية، ثم الأحمدية القاديانية، فهؤلاء ابتدعوا نبوة جديدة، وأولئك ابتدعوا ألوهية
جديدة.
الكاتب: محمد رشيد رضا
ماضي الأزهر وحاضره ومستقبله
(لقد ألقيت في الأزهر بزرة جديدة
إما أن تكون مبدأ حياة جديدة له وإما أن يموت)
(الأستاذ الإمام)
نعني بالأزهر ما شمل معاهد العلوم الدينية ووسائلها من الفنون العربية في
الإسكندرية وطنطا ودسوق ودمياط وأسيوط وكلها مرتبطة بالجامع الأزهر
وتابعة له في إدارته ونظام التعليم فيه.
كانت مصر بالأزهر بلاد علم وحضارة وثروة وحكومة عزيزة قوية ، فكان
الأزهر ركن العلم من حضارتها، وكان بالأزهر قوام حكومتها ومن رجال الأزهر
جل حكامها ، إلا السلاطين والموك ورؤساء الجند ، فكانوا يُكَوِّنُونَ من غيرهم ومن
غير الشعب المصري أيضًا، ولكن علماء الأزهر وكبراء المصريين قلما كانوا
يشعرون بهذه الغيرية، والأحكام تصدر بشريعتهم، والدواوين والمحاكم بلغتهم،
وأولئك السلاطين والقواد من أهل دينهم، وإنما كان يهمهم من أمر الأمراء
والسلاطين عدلهم وفضلهم، لا أصلهم وفصلهم، ولو كان ثَم أسباب تشعرهم بهذه
الغيرية شعورًا مؤلمًا لطباعهم ، لأمكنهم إزالة ملكهم، كما أمكن الشيخ عز الدين بن
عبد السلام بيع أمراء الدولة المصرية من المماليك الأتراك ، فإنه ما زال يصرح
ببطلان تصرفاتهم من بيع وشراء ونكاح؛ لأنهم أرقاء مملوكون لبيت المال (حتى
تعطلت مصالحهم ، فأرسلوا إليه يسألونه عن حل لهذا الإشكال ، فقال: نعقد لكم
مجلسًا ، وينادي عليكم لبيت مال المسلمين ويحصل عتقكم بطريق شرعي ، وبعث
إليه السلطان بأن يرجع عن هذا القول فلم يرجع، فأنكر عليه السلطان دخوله في
هذا الأمر بأنه لا يعنيه ، وذكر كلمة فيها غلظة حملت الشيخ على الشروع في
الهجرة من القاهرة إلى الشام فركب مع أهل بيته حميرًا ، وخرجوا فتبعهم وجهاء
المسلمين من جميع الطبقات فبلغ الخبر السلطان ، وقيل له: متى راح الشيخ ذهب
ملكك ، فلحقه بنفسه على بعد فرسخ من القاهرة واسترضاه ، فرجع على أن ينفذ ما
قرره، فأراد نائب السلطنة وكان من أولئك المماليك أن يحوله عن رأيه بالملاطفة ،
فلم يفد ثم بالتهديد فلم يفد، فاضطروا إلى الامتثال ، فاجتمعوا ونادى عليهم واحدًا
واحدًا ، وغالى في ثمنهم حتى باعهم وأعتقهم مبتاعوهم من الأغنياء، وصرف
الشيخ ثمنهم في وجوه البر العامة ، كما بينه التاج السبكي في ترجمته من طبقات
الشافعية.
ولهذه المكانة التي كانت للشيخ عز الدين قدس الله روحه قال الملك الظاهر
لبعض خواصه لما رأى جنازته تحت القلعة وما يتبعها من كثرة الناس: اليوم استقر
أمري في الملك ، لأن هذا الشيخ لو كان يقول للناس: اخرجوا عليه؛
لانتزع الملك مني.
كان الناس كلهم يتبعون العلماء، وكان في استطاعة العلماء أن يسيروا
الأمراء والسلاطين في طريق الشرع المستقيم، ويمنعوهم من الاستبداد والظلم،
ولكنهم لم يفكروا في هذا الأمر فيعدوا له عدته، ويمهدوا له طريقه، بل لم يكونوا
يشعرون باستطاعتهم، ولا يُقَدِّرون كُنْه سُلطتِهم، وما كان يظهر من آياتها يعدونه
من الأحداث الشاذة، التي لا ترجع إلى سنة عامة، ولعلهم كانوا يعدون ما فعله
الشيخ عز الدين بأمراء الترك من كراماته، والكرمات من خوارق العادات فلا
يقاس عليها، ولا يبحث عن سبب لها.
كذلك لم يكونوا يفكرون في سنة الله في قوة الاجتماع، ولا في أن منه حمل
علماء الأزهر الدولة العثمانية على تولية محمد علي الكبير على هذه البلاد، فلهذا لم
يضعوا نظامًا لجمع كلمتهم؛ وجمع كلمة الأمة على زعامتهم، ولما جاء السيد جمال
الدين هذه البلاد وشرع في إيقاظ الأمة ، وتعريفها بما لها من الحق في إدارة أمرها
وسياسة حكومتها ، كان كبار علماء الأزهر أبعد الناس عنه وأشدهم تحذيرًا منه ،
وإنما انتفع به بعض الشبان منهم.
الإسلام دين ودولة، وقد أسس المسلمون دولاً عزيزة في قارات العالم القديم
الثلاث - آسية وإفريقية وأوربة - كانت أرقى دول الأرض عدلاً وعلمًا وحضارة ،
ولم يكن لها قانون في سياستها وحروبها ، ولا في إدارتها وقضائها إلا الشريعة
العادلة الغراء ، ومن أحكامها أن يكون أمراؤها وقضائها علماء فقهاء عدولاً، وبذلك
كان لها من السؤدد والملك ما كان، ثم دبَّ إليها الفسادُ ساعتها بتوسيد الأمور فيها
إلى غير أهلها وفاقًا للحديث (إذا وُسِّدَ الأمرُ إلى غير أهله فانتظر الساعة) رواه
البخاري من حديث أبي هريرة ، فغلب الجهل فيها على العلم، وانقلب الوضع ،
وانعكست القضية ، فصار من القواعد الأساسية أن علماء الشرع أبعد الناس عن
السياسة كما قال الحكيم العربي ابن خلدون في الزمن الذي لم يكن فيه للسياسة
مستمد علمي إلا الشرع، وما سبب ذلك إلا تقصير علماء الشرع ، فيما يجب عليهم
مما بيناه من قبل ولا محل لإعادته هنا.
صار أمر المسلمين بتقصير العلماء إلى الجاهلين بالشرع قبل أن يوجد في
بلادهم علم غير الشرع ، فكان الملك فيهم ينال بعصبية القوة لا باختيار أهل الحل
والعقد الذين يمثلون سلطة الأمة، حتى إن الإمامة العظمى وهي النيابة عن الرسول
صلى الله عليه وسلم في إقامة الدين وسياسة الدنيا جعلوها لقوة العصبية التي تبرأ
صلى الله عليه وسلم منها ومن أهلها، فلا عجب إذا اجتهد ملوك القوة وأمراء
العصبية ، باستمالة محبي الدنيا من العلماء؛ لتقوية نفوذهم عند العامة ، وإضعاف
نفوذ كل عالم لا يميله المال ولا يطويه الجاه، وصار من علامة العالم العامل
المخلص البعد عن الحكام كما قيل:
قل للأمير مقالة
…
لا تركنن إلى فقيه
إن الفقيه إذا أتى
…
أبوابكم لا خير فيه
كانت حكوماتنا الإسلامية هكذا تتدلى بل تتردى في مهاوي الجهل والفساد،
بعد أن أخذ الإفرنج عنها وعنا مبادئ العلم وأصول العدل والإصلاح، وحسبك ما
رأوه من السلطانين العادلين المجاهدين نور الدين وصلاح الدين في الحروب
الصليبية ، ثم ما زالوا في تَرَقٍّ وما زلنا في تَدَلٍّ إلى من أُدِيلَ لهم منا ، وفتحوا من
بلادنا بالعلم والعقل أضعاف ما عجزوا عن فتحه بالسيف ، فإنهم فتحوا بالعلم أدمغة
الألوف الكثيرة منا وقلوبهم ، وتصرفوا في مراكز الإدراك منها ومشاعر الأنفس
منهم ، فأودعوا فيها من المعلومات والوجدانات ما يُعَظِّمُ شَأْنَها ويُعْلِي قدرهم في
تاريخهم وآدابهم وعاداتهم وتشريعهم ، من حيث يحط من شأن أمتنا وملتنا في
تاريخها وآدابها وتشريعها ، فوطن هؤلاء أنفسهم على تقليدهم وقبول سيادتهم
ورياستهم ، وكانوا منافذ بل أبوابًا واسعة لدخول الأجانب بلادهم والسيطرة على
حكوماتهم؛ من حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون ، فأفسدوا عليهم أمرهم ،
ونزعوا منهم استقلالهم ، وخربوا عليهم بيوتهم بأيديهم ، وليس من موضوع هذا
المقال تفصيل ذلك ، وبيان الشواهد عليه في مشرق العالم الإسلامي ومغربه ،
ويغنينا عنه ما نشرناه أخيرًا ، وما سننشره من مقالات السيد جمال الدين فيه ، وإنما
نضرب مثلاً لذلك كلمة واحدة في مسألة السودان المصري التي هي أهم ما تتنازع
فيه مصر مع الإنكليز اليوم وهي أن إسماعيل باشا هو الذي مكّن الإنكليز من
الاستيلاء على السودان لا بطرس باشا غالي الذي أمضى لهم عقد الشركة مع مصر
فيه ، وأن الذي فتحه للإنكليز غوردون (باشا) لا اللورد كتشنر (باشا) ، وأما
الذي مكن الإنكليز من احتلال مصر فمعروف لقرب عهده.
أدخلنا الإفرنج بلادنا؛ ليصلحوها لنا فأفسدوا علينا أمرها بما أصلحوا لأنفسهم
من وسائل استغلالها وسلب استقلالها، فكان مثلهم ومثلنا كما قال الشاعر في القيان
تبارين يصلحن أعوادهن
…
فأصلحهن وأفسدنني
أضاعوا علينا تشريعنا، وشوهوا لنا تاريخنا، وأفسدوا منا آدابنا، وسلبوا منا
ثروتنا، حتى انتزعوا منا سلطتنا، وكان من أكبر همهم في ذلك إبعاد رجال
الشريعة الإسلامية عن مناصب الحكومة، وحرمانهم من تولي شؤون الأمة،
وإيئاسهم من منصات الزعامة ، وربوا لنا من نابتتنا من جعلوهم آلات لجميع ما
يريدونه منا، ومن قواعدهم فيه أن الدين والسياسة ضدان لا يجتمعان، ومن فروع
هذا الأصل أنه يجوز لكل فريق من الأمة أن يعنى بسياسة بلاده ويسعى لاستقلالها
ويبحث في شؤون حكومتها؛ إلا رجال الدين، معلمين كانوا أو متعلمين، فلا يسمح
لهم بقول في ذلك ولا فعل، ولا بتأليف جمعية أو حزب، وجرى العمل على هذا
وانقاد له الأزهريون خانعين صاغرين ، حتى إذا ما هب شبانهم من رقادهم وأبوا
ليشاركوا الأمة في نهضتها بعد الحرب تأسيًّا بطلاب المدارس المدنية ، وعقدوا لذلك
المحافل في الأزهر كَبُرَ الخَطْبُ على الإنكليز وعلى رجال الحكومة المصرية معًا ،
فحجروا على الأزهر وأهله، واشترعوا لعقابهم أحكامًا خاصة بهم، وأقفلوا أبواب
الأزهر في وجوه مريدي الاجتماع فيه؛ للبحث في شؤون الأمة والخطابة في
مصالحها ، ووضعوا عليه الشُّرَط ، ووافقهم الشيوخ الرسميون على ذلك ، سكت
عنه غير المقيدين بالرسميات منهم ، وربما هونه على بعض زهادهم في الدنيا ولو
عن عجز وضعف بعض الآثار ، مثل حديث ابن عمر عند البيهقي (المؤمنون
هيّنون ليّنون كالجمل الأنف إن قيد انقاد ، وإن أنيخ على صخرة استناخ) فإن
لأمثال هذه الروايات الباطلة تأثيرًا كبيرًا في قتل هذه الأمة، وهذا الحديث على
ضعف إسناده من مراسيل مكحول الدمشقي ، وهو على علمه وزهده مُدَلِّسٌ، وإذا
حُمِلَ على ما أشرنا إليه كان معارض المتن بالقطعيات كعزة المؤمنين.
جرى العمل على هذا المنكر حتى صار هو المعروف ، حتى عند جمهور
الأمة ، ولذلك رأينا كثيرين يستنكرون بحث المنار في شؤون السياسة ، ويقولون:
إنها مجلة دينية فمالها وللسياسة؟ وقد كلم بعض وجهاء الإسكندرية الأستاذ الإمام في
هذا محتجين به على انتقادنا الحكومة الحميدية ، وكلفوه رحمه الله أن ينهانا
عن ذلك ، فقال لهم: ماذا أقول له والإسلام لم يفصل بين الدين والسياسة؟ وآل
أمر رجال الدين بمصر وغيرها من البلاد إلى ترك شؤون الأمة حتى الإرشاد
الديني، وصاروا عَالَمًا آخر أقرب إلى الخيال منه إلى عالم الوجود ، كما قلنا في
بعض مقالات المنار التي كتبناها في أول العهد بمعرفة حال هذه البلاد.
حاول السيد جمال الدين الأفغاني - أكرم الله مثواه - إخراج الأزهريين من
عزلتهم ، وحملهم على العمل؛ لإصلاح حال الأمة والحكومة فلم يلق من جمهورهم
إلا الإعراض والنفور كما قلنا آنفًا، ثم كان من أمر من تلقوا عنه من مجاوري
الأزهر أن ترك أكثرهم الزي الأزهري أو الديني ، وبرعوا كلهم في الأمور العامة
من حكومية وغيرها، وثبت آخرون أعظمهم وأشهرهم الأستاذ الإمام الشيخ محمد
عبده والأستاذ القاضي الشيخ عبد الكريم سلمان، وممن عرفنا من الخاملين منهم
الشيخ داغر من القضاة الشرعيين ، وكان شيخنا يبره ويحبه رحمهم الله أجمعين.
ثم تصدى لإصلاح الأزهر وإخراجه من عزلته إلى خدمة الأمة شيخنا الأستاذ
الإمام ، وكان أعلم الناس بحال أهله وبما يحتاجون إليه ، وبما ينبغي لهم وبما يُؤَثِّرُ
فيهم، وأحرص الناس على إعلاء شأنهم وحفظ كرامتهم ، وتوفير رزقهم واتقاء
عبث الأمراء والحكام بهم مع تسخير هؤلاء لإصلاح شأنهم ، فأما محمد توفيق باشا
فكان بعد عودة الشيخ من منفاه والبلاد رازحة تحت نير الاحتلال لا يزال على ما
كان من الحذر منه ، منذ تنكر له ولأستاذه السيد جمال بعد أن كان من حزبهما، فلم
يسمح بأن يتولى شيئًا من التعليم في مدرسة دار العلوم لئلا يحدث في البلاد انقلابًا
جديدًا كما قال- وما كان يكون ذلك الانقلاب إلا خيرًا له ولبلاده- فلما قضى نحبه
وتولى الأمر ولي عهده عباس باشا وجاء من أوروبة يتدفق حماسة ويلتهب غيرة،
حامت حوله الآمال، وطاف بكعبة إمارته الرجال، فأرشده الأستاذ الإمام إلى أرجى
الأعمال، التي لا ينازعه فيها الاحتلال. قال له: إن لدى أفندينا ثلاث مصالح لا
يمكن أن يمد إليها الإنكليز أيديهم الآن [1] وهي الأوقاف والأزهر والمحاكم الشرعية ،
فإذا هو عني بإصلاحها فإنه يصلح بها البلاد كلها، فأمر الأمير يومئذ بتأليف
لجنة لوضع نظام أو نظم لما ينبغي لهذه المصالح ، فكانت تجتمع وتعمل سرًّا،
وراب أمرها أصحاب المقطم فصاروا يعرضون بها جهرًا. ثم كان من أمر إصلاح
الأزهر ما شرحه الأستاذ الشيخ عبد الكريم سلمان في كتاب خاص سماه (أعمال
مجلس إدارة الأزهر) ، وطبعناه بعد أن قرأه الأستاذ الإمام في أثناء مرض موته
وأذن بطبعه، وهو كتاب يشبه الرسمي ، ولو صدر بقرار من مجلس إدارة الأزهر
لكان رسميًّا بالمعنى الاصطلاحي) .
وإن من وراء الرسميات في كل عمل من المصالح العامة أمورًا أهم من
الرسميات، ولا يسعنا أن نذكر من ذلك هنا إلا أن أكثر كبار الشيوخ حتى أعضاء
مجلس إدارة الأزهر كانوا كارهين للإصلاح والنظام ، فلم يكن منهم ظهير مخلص
لواضع أصوله والناهض بأعبائه إلا صديقه وتربه الشيخ عبد الكريم سلمان ، وإنما
كانت قوته التي يجاهدهم بها الحق المؤيد بالبرهان وتعضيد الأمير ، فلما تنكر
الأمير له قويت معارضة الشيوخ حتى إن شيخ الجامع الأزهر كان يهمل تنفيذ
قرارات مجلس الإدارة الرسمية، وكان ذلك على أشده في مشيخة الشيخ سليم
البشري.
وأما الشيخ حسونة النواوي فكان مواتيًا معتدلاً ، ولكن غضب الأمير الشديد
كان بعد مشيخته، ثم كان السيد علي الببلاوي مواليًا له فبلغ سخط الأمير منتهى
حده في عهد مشيخته، وكان له حظ كبير منه. فقد ألجئ إلى الاستقالة هو
والأستاذ الإمام وغيرهما من أعضاء إدارة الأزهر في وقت واحد ، عقب اتفاق
الأمير مع الحكومة ، على أن كل ما يهمهم من أمر الأزهر شيئان أحدهما: أن
يكون أهله في أمان ، والثاني: تخريج القضاة الشرعيين؛ وإذ كان غير مستعد
لتخريج القضاة عزمت الحكومة على إنشاء مدرسة خاصة للقضاء الشرعي، وقد
صرّح الأمير بذلك في حفلة إلباس الخلعة للشيخ الشربيني الذي ولي المشيخة بعد
السيد الببلاوي، وأسند المقطم يومئذ هذا الرأي إلى (أولياء الأمور) ، ومعنى ذلك
اتفاق الخديوي والحكومة والإنكليز على حرمان الأزهر من كل شيء ....
وقد ذكرت في المنار، أهم ما طرأ على الأزهر من هذه الأطوار، ومنها
أمثلة عديدة من معارضة أعضاء مجلس الإدارة ومجادلاتهم للأستاذ الإمام، ولو
واتوه وعرفوا قيمة الإصلاح الذي كان يريده منهم ولهم وبهم لكان للأزهر الآن شأن
عظيم في مصر بل في العالم كله.
على أن قصارى ما كان من تأثير المعارضة أنها استطاعت تأخير الإصلاح
ولم تستطع أن تقتله قتلاً، ولا أن تجتث نبتته فرعًا وأصلاً، إذ لم تستطع أن تمنع
أفكار الإمام المصلح التي كان يلقيها في دروسه ، والتي يعلل بها أعماله أن تنفذ إلى
العقول، وأن تأخذ مكانها من القلوب، فها هي ذي قد فعلت فعلها، وكان من
تأثيرها أن النابتة الجديدة من المدرسين والطلاب هم الذين صاروا يطلبون إصلاح
التعليم ، واختيار الكتب النافعة ، ودرس ما يسمى العلوم الجديدة، وجعل التعليم
الأزهري وسيلة للعمل ومؤهلاً لخدمة الأمة في مدارس الحكومة ومصالحها كتعليم
سائر المدارس الرسمية، وقد كانوا محرومين من كل هذا ، فلا يخطر في بال أحد
من شيوخهم ولا من شبابهم، وإنما هي أفكار الأستاذ الإمام التي جعلت لهم قيمة عند
أنفسهم، من حيث لا يدري أكثرهم، ودروسه في التفسير والتوحيد والبلاغة
والمنطق ، وإحداثه لتعليم الإنشاء في الأزهر هي التي أوجدت فيهم هذه الألسنة
الخاطبة، والأقلام الكاتبة، والحجج التي يجادلون بها الرؤساء والوزراء، بعد أن
كان أحدهم يُشتم ويُلعن وربما يُضرب بأخس ما يَضْرِبُ به جبار خادمه ، فلا يرتفع
له رأس، ولا يدفع عن نفسه بقول ولا فعل، ولولا الكتابة والخطابة، لما
استطاعوا أن يبينوا ما لهم من حق ولا ما يشعرون به من كرامة.
لعل أكثر من لم يدرك عهد الأستاذ الإمام منهم لم يعلموا أنه - أحسن الله ثوابه-
قد احتال لإدخال تعليم الإنشاء في الأزهر احتيالاً ، ولقي فيه معارضة شديدة من
كبار الشيوخ الذين يقولون: إن الإنشاء ليس بعلم، وأنه لا يصح أن يجعل في مواد
الدرس والتعليم، فلم ير وسيلة إلى إرضاء مجلس إدارة الأزهر بتقريره إلا وضع
مبلغ من المال لأجله ، فاقترح عند وضع ميزانية الأوقاف العامة أن يوضع فيها
مائة جنيه باسم ترقية اللغة العربية في الأزهر ، وإنما اختار هذا الاسم استثقالاً
للاعتراف بأن الأزهر لا يتعلم فيه الإنشاء ، ولأنه كان يريد نوط هذا الدرس بمعلم
من غير الأزهريين كما أخبرني بذلك في وقته، فماذا كان من رأي أعضاء مجلس
إدارة الأزهر في هذا المبلغ عند وضع ميزانية الأزهر؟
اقترح بعض كبار الأعضاء منهم أن يوزع المبلغ عليهم ، لأنهم يرقون اللغة
العربية بقراءة بعضهم لكتب النحو الكبرى ، وبعضهم لمختصر السعد في البلاغة،
فأخبرهم الأستاذ بأن الغرض من وضع هذا المبلغ إحداث درس للإنشاء، قال
بعضهم: ولكن العبارة أعم فهي تشمل من يقرأ كتاب ابن عقيل فضلاً عن الصبان
والسعد قال أستاذُنا: أنا الذي وضعت هذه العبارة ، ومرادي بالعام فيها هذا
الخاص من أفراده وإلا لم يكن لوضعها فائدة! !
وأما معارضة كبار الشيوخ له فيما يسمونه العلوم الجديدة؛ كتقويم البلدان
والحساب والهندسة بالطريقة العملية فقد كانت من فضائح التاريخ، وكان لمنشئ
هذه المجلة جولات هذه المعمعة ، فكتب في الجرائد اليومية مقالات في الرد على ما
كتبه بعضهم في الإنكار على درس هذه العلوم في الأزهر ، ولكن بإمضاء مستعار
كأزهري؛ لئلا ينسب إلى الأستاذ الإمام نفسه ، أو إلى إيعازه لأن صلتي به ومكاني
من بطانته قد عرف منذ السنة الأولى من هجرتي إلى مصر، وهذا الكفاح فاجأني
فيها. وقد كتب الإمام نفسه في أثناء اشتداد المعارضة مقالة ، ردَّ فيها على كلام
نُشِرَ في المؤيد عزى فيه إنكار تدريس تلك العلوم إلى الشيخ محمد الشربيني لكن
بالوصف الذي يعينه لا باسمه العلم ، ربما ننشرها في جزء آخر. ولولا الإنشاء لما
كان للأزهريين هذا الصوت الذي صخ مسامع الوزراء، وملا جواء البلاد، ولولا
هذه العلوم التي كانوا ينكرونها لما كان لهم أن يطلبوا أن يكونوا معلمين في مدارس
الحكومة وغيرها كمتخرجي دار العلوم ، بل هم يطلبون أن تكون هذه المدرسة تابعة
للأزهر.
على أن الإمام المصلح - أحسن الله جزاءه - كان يريد لهم وبهم ما هو أعظم
وأعلى مما يطلبونه اليوم لأنفسهم، كان يريد أن يكونوا أرقى طبقة في الأمة
الإسلامية، وأهلاً لكل ما تتوقف عليه حياتها الدينية والمدنية، وقد كان من أغرب
مساوئ عصر الضعف الذي منيت به الشعوب الإسلامية أن ترك رجال الدين والعلم
الشرعي فيه حبلها على غاربها، ورضوا بالذل والهوان لأنفسهم ولها، فلم يعنوا
بإصلاح أمرها من جانب الحكومة ولا من جانب الأمة، اتبعوا سنن من قبلهم في
الشر ولم يتبعوه في الخير، ولأجل هذا كنا ننحي عليهم باللائمة منذ أنشأنا المنار،
حبًّا فيهم وغيرة عليهم وإرشادًا لهم إلى ما يجب عليهم لسعادتهم وسعادة أمتهم بهم
وقد يستفيد الظنة المتنصح.
ومما يدخل في موضوعنا من أمر اتباعهم سنن من قبلهم أن رجال الدين من
أولئك الأقوام كانوا في القرون الوسطى لأمتهم ، وهي التي يسمونها العصور
المظلمة ، يحرمون كل ما يجهلون من العلوم والأعمال ، ويضطهدون أهلها بعصبية
الدين التي كان سببها خضوع العامة لهم، واضطرار الملوك والأمراء إلى مداراتهم
ومواتاتهم، لمكانتهم عند العامة، وقد اتبعهم رجال الدين عندنا في هذا ، ولكنهم لم
يبلغوا شأوهم فيه؛ لأن الإسلام لم يعطهم من الرياسة والسلطة ما أعطت أولئك
ديانتهم.
ولما رأى أولئك أن رجال العلم والفكر قد انتصروا عليهم وغلبوهم على
الملوك والأمراء، وطفقوا ينتزعون من الحكومات ما كان لهم فيها من النفوذ
والسلطان، بل تصدوا لمحاربة الدين نفسه بدعوى مخالفته للعلم والعقل وللفطرة
البشرية وطبيعة الوجود وسننه - لما رأى رجال الدين هذا - قبلوا على درس هذه
العلوم والفنون كلها ، فحذقوها في أديارهم ومدارسهم الخاصة بهم ، ودعموا بقوتها
بناء الكنيسة، واتخذوا منها سلاحًا للدفاع عن الدين، ثم تولوا هم تعليمها لأحداث
الأمة مع تعليم الدين وتربية النشء على آدابه وفضائله وعصبيته، والتوفيق بينها
وبين تقاليده وعقائده، بل اتخذوها ذريعة لبث دعوة دينهم في الملل الأخرى بقبول
أحداثها في مدارسهم المشتملة على ما ذكر؛ وأما رجال الدين الإسلامي فلم يتبعوا
سننهم في هذا الأمر النافع كما اتبعوه في ذلك الأمر الضار.
دخلوا في جحر الضب المشار إليه في حديث (لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا
بشبر وذراعًا بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه) قالوا يا رسول الله:
اليهود والنصارى؟ قال: (فمن؟) رواه الشيخان من حديث أبي سعيد الخدري ،
وفي لفظ لو دخلوا في جحر ضب الخ ، ولكنهم لما يخرجوا منه إلا قليلاً منهم ، بَيْدَ
أن الحركة الجديدة للنابتة الجديدة في الأزهر تبشرنا بقرب الخروج العام، الذي كان
يرجوه الأستاذ الإمام، وسنبين ذلك في مقال آخر إن شاء الله تعالى.
ونختم هذه المقالة بما قلناه في هذا الموضوع مما زدناه في (المقصورة
الرشيدية) بعد وفاة الأستاذ الإمام من الكلام في نهوضه بأمر الإصلاح مع السيد
جمال الدين وبعده وهو:
ما تم للإمام ما أراد من
…
خُطتي الإصلاح هدمًا وبنا
ولم يفته كل ما شاء فقد
…
خرج من يتمُّ كل ما بنا
إذا استجاب الله ما به دعا
…
وزال ما حاذره بما رجا [2]
إذ علم الأزهر كيف يفقه الد
…
ين ويطلب العلوم واللُّغى [3]
من غير بحث في مقال من خلوا
…
يكثر فيه الاحتمال والمِرا
علّمنا التفسير كيما نهتدي
…
به على علم صحيح يُقتفى
وعلّم (أسرار البلاغة) التي
…
(دلائل الإعجاز) منها تُبتغى
علّمنا التوحيد كي نفهمه
…
بعقلنا لا بعقول من مضى
علّمنا (بصائر) المنطق كي
…
نقيم ميزان العلوم للحجا
وهل وراء الدين واللسان والعقل
…
إذا أصلحتهن منتهى
فإن يك الأزهر لم يصلح بها
…
فقد نأى عن سبل من كان مأى [4]
ونبتت من غرسه نابتة
…
ستلائم الصدع وترأب الثأى [5]
وترفع الحجر عن المعهد أو
…
يعود جحر الضب رحبًا كالفضا
إذًا ينال وهو قد أشفى الشفا
…
من مرض بات به على شَفا
ثم يولي المصلحون شطره
…
ينحونه من كل فَجِّ ورجا
ما وردوا حياضه وصدروا
…
ألا يفيضون علومًا وهدى
فأحيوا الإسلام في أنفس من
…
واصلهم بهجره صرف الردى
فعاد آهلاً إلى موطنه
…
من غربة طلبها عهد النوى
واستتبعت غربته المجد كما
…
كان فعاد الأمر مثل ما بدا [6]
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
هذا لفظه الذي سمعناه منه قبل تدخل الإنكليز في شؤون المحاكم والأوقاف ، بل قد صرح له بأنه يخشى من ذلك في المستقبل ، ولا سيما إذا بقيت هذه المصالح محتلة.
(2)
فيه إشارة إلى الأبيات التي نظمها قُبَيْلَ وفاته التي قال فيها:
ولكنه دين أردت صلاحه
…
أحاذر أن تقضي عليه العمائم.
(3)
اللغى بالضم جمع لغة.
(4)
مأى - في الأمر يمأى: (وزن نأى ينأى) بالغ فيه وتعمق متكلفًا توسيعه ، وهو من مأى الجلد إذا مده وشده ليتسع، والمراد أن الأزهر إن لم يكن قد صلح بالفعل فقد بعد عن طريق أولئك الشيوخ المتنطعين المتعمقين في ألفاظ الكتب وأساليبها الشاغلة عن جوهر العلوم.
(5)
يقال: لأَمَ الصَّدْعَ والجرح إذا شده وجمعه وجبر كسره ، ولأَمَ فلانًا إذا أصلحه ، ويقال: ورأب الثأى إذا أصلح الفساد، وهو من ثئي الخرق ثأيًا إذا انخرم ، ويقال: عظم الثأى بينهم إذا وقعت بينهم جراحات وقتل.
(6)
إشارة إلى حديث: (بدأ الإسلام غريبًا ويعود غريبًا كما بدأ) رواه مسلم والترمذي.
والمعنى أن دعوة الإسلام غريبًا كما بدأ لا يقتضي أن تدوم هذه الغربة ، بل تشبيه الإعادة بالبدء يدل على أن الغربة الثانية تؤول إلى ظهور وقوة وتستتبع عزًّا ومجدًا إن شاء الله تعالى.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الإغراء بين النصارى والمسلمين
أُرسل إلينا من بيروت كتاب جديد ألفّه أحد نصارى اللبنانيين؛ لأجل تأريث
العداوة والبغضاء بين أهل وطنه ، إذ جمع فيه من كتب التاريخ ما عثر عليه مما
ينقمه النصارى من حكومات المسلمين من قول وفعل، ومن المُسَلّمات التي لا
يختلف فيها اثنان أن في كل أمة وكل حكومة عادلين وظالمين، وإن الظالم قد يظلم
القريب والموافق، كما يظلم البعيد والمخالف، وأن من الناس من لا يرضى من
مخالفه في الدين والسياسة بالحق ولا بالعدل، وأن من أخبار التاريخ الصادق
والكاذب؛ فعلى هذا يسهل على كل مُطَّلع على التاريخ المشترك بين الأمم والملل
أن يجمع منه ما ينكره بعضهم على بعض، ولكن هذا لا يكون إلا بنية سيئة.
أرسل إلينا هذا الكتاب لنرد عليه ، والرد عليه سهل ، ولكن ما فائدته؟ إن
أريد بها بيان أن ما قد يصح من تلك المطاعن شخصي ليس الباعث عليه أحكام
الإسلام؛ فهذا أمر يعرفه من يقرأ المنار من النصارى القليلين كما يعرفه المسلمون
لما شرحناه مرارًا من عدل الإسلام العام، والجمهور منهم لا يقرؤونه. وإن أريد
تلقين المسلم الحجج للرد على من يكلمه في ذلك ، ففي المنار حجج كثيرة على عدل
الإسلام وتفضيله على جميع الملل والقوانين من الكتاب والسنة والتاريخ وشهادة
المنصفين من مؤرخي الإفرنج أنفسهم كقول فيلسوف فرنسة الاجتماعي ومؤرخها
المنصف الدكتور غوستاف لوبون: ما عرف التاريخ فاتحًا أعدل ولا أرحم من
العرب؛ يعني الذين أقاموا الإسلام ونشروه في العالم ، وإن شاءوا المقارنة بين ما
كتبه هذا اللبناني عن المسلمين وبين ظلم دول النصارى للمسلمين ولليهود أيضًا
فهذه نبذة منه:
اضطهاد أسبانية لمسلمي الأندلس ويهودها:
جاء في ملخص تاريخ الأندلس الذي جعله الأمير شكيب أرسلان ذيلاً لرواية
(آخر بني سراج) ما نصه مترجمًا عن التواريخ الإفرنجية:
كانت دولتا قشتالة وأراغون تتسابقان في تعذيب المدجنين الذين ذكرنا أنهم
المسلمون الخاضعون لحكومة الأسبانيول وملوك الدولتين يتبارون في الانتقام منهم
والنكال بهم استزادة للمثوبة واستعلاء في درجات الآخرة، حسبما كانت عليه حالة
ذلك العصر من التحمس الديني والتأخر المدني.
ففي قشتالة كان هنري أخو بطره قد جعل للمدجنين والإسرائيليين علامة فارقة
اسمها (المشيرة) ، وأمر بمنع اختلاطهم وأخذهم وعطائهم مع الأسبانيول ، وأن لا
يقبل أحد منهم في خدمة الدولة.
وفي أيام جان الأول ملك قشتالة صدرت الأوامر بأن كل مسيحي يربي في
بيته مدجنًا (مسلمًا) أو إسرائيليًّا فله الحق كل الحق أن يؤدبه بالسياط ، وأنه لا
يجوز لمدجن ولا ليهودي أن يستخدم عنده مسيحيًّا، وأن من خالف ذلك يضرب ،
وتضبط أملاكه، كما أنه لا يجوز دخول مسلم ولا يهودي بيت أحد من الأسبانيول
إلا إذا كان طبيبًا ، وثبت لزومه ، ومن خالف ذلك يغرم بدفع ستة آلاف مراويد
(نوع من السكة) .
وسنة 811 هجرية جدد جان الثاني أمر سلفه في رفض المدجنين واليهود في
خدمة الدولة ، وضم إليه أن جزاء المخالفة دفع ثلاثة آلاف مراويد، وأن كل من
يسافر من المسلمين أو اليهود مع أحد الاسبانيول أو يؤاكله أو يستخدمه في عمل له
يجلد مائة، وإذا تكرر الفعل يؤخذ منه ألف مراويد ، ويكون ثلثاها للمخبر، وإذا
وُجِدَ أحد من هؤلاء في وليمة أسبانيولي يغرم بدفع ثلاثة آلاف وإن عاد صاحبًا له
من الإسبانيول أثناء مرض يدفع ثلثمائة ، وإن عاملهم بأخذ أو عطاء يدفع الثلاثمائة
ويضرب ويعزر.
وكانت في بادئ الأمر محاكم مخصوصة بالمدجنين فألغيت في التالي وأحيلت
دعاويهم إلى محاكم الأسبانيول ، وصدرت الأوامر أيضًا بأن كل من يخرج مدجنًا
من مزارعه ، ويستخدم لحرثه مدجنًا بدلاً عنه يغرم بخمسة آلاف مراويد ، وإن
تكرر فعله فبمائة ألف ، وإن تكرر أيضًا تضع الدولة يدها على جميع عقاراته ،
وإذا فر مدجن إلى غرناطة ، ووقع أثناء فراره في يد الاسبانيول عُدَّ أسيرَ حرب
وضبطت جميع أمواله ، وصار ملكًا لمن يمسكه.
وسنة 826 أضيف إلى هذا الشرط أن من منع من المدجنين ابنه من التنصر
عذب شديدًا ، ومن أسر من مسلمي غرناطة أحدًا كان له ملكًا خالصًا.
وسنة 830 صدرت الأوامر بعدم اعتبار إمضاء الأسبانيول فيما عليهم
للمدجنين واليهود ، وباعتبار إمضاء هؤلاء فيما عليهم للأسبانيول.
وسنة 833 صدرت الأوامر أن المسلم أو الإسرائيلي المُدَّعى عليه بِدَيْنٍ لأحد
الأسبانيول إذا أنكره لا يقبل منه اليمين ، ولكن حيث كان بعض المدجنين واليهود
يضمنون الأراضي الأميرية ، ففي هذه الحالة يقبل منهم اليمين عند الإنكار لعدم
إلحاق الضرر بخزينة الدولة.
وسنة 880 صدّقت الملكة إيزابلا جميع عهود جان الصغير ، وأضافت عليها
حظر لباس الحرير وحلية الذهب والفضة على المسلمين واليهود (عاملت المسلمين
في ذلك بحكم شريعتهم لكن في الرجال فقط) ، ووضعت لهم علامات فارقة في
الملبس من جملتها رقعة زرقاء عرضها أربع أصابع؛ لتمييز المسلمات
والإسرائيليات.
وما كفى كل هذا حتى نشرت حكومة قشتالة أمرًا لجميع عمال النواحي بأنه
بلغ الملكة وقوع إهمال في إنفاذ بعض الشروط بتمامها في حق المدجنين واليهود
وأنه إن حصل فيما بعد أقل تقاعس من أحد في تنفيذها بحرفها يعزل من منصبه
ويحرم معاشه.
وأما في مملكة أراغون فكان بطره الثالث قد أعلن في نحو سنة 68 هجرية
أن كل شخص مسيحيًّا كان أو مسلمًا أو إسرائيليًّا يمكنه استيطان مملكته والإقامة بها
حيث شاء ، لكن يُنفى المسلمون واليهود من الخدمة العسكرية والمالية في الحكومة ،
ويحظر عليهم أن يدينوا الأسبانيول مالاً بأكثر من فائدة عشرين في المائة ، وأن
دعاويهم تنظر عند الحكام ، ويقبل فيها اليمين ، على أنه إن كان لمسلم أو يهودي
دَيْن عند أحد الأسبانيول بدون سند أو بينة خطية فيقبل قوله من تاريخ الدين إلى
خمسة عشر يومًا ، ومن ثمة لا يعود مقبولاً ، والسند الذي للمسلم والإسرائيلي على
الاسبانيولي إن لم يسجل عند حكام الأسبانيول فبعد مضي ست سنواتٍ يسقط
اعتباره ويلغى كل حكم له.
وسنة 770 أصدر الدون جان أمرًا بأنَّ من تنصّر من أبناء المدجنين ، ومات
أبوه فله نصيبه من الإرث كما لو بقي مسلمًا.
وسنة 780 صدرت الأوامر بأن كل مدجن يفر إلى أرض غرناطة ، ويقع في
اليد يعتبر أسير حرب ، وتضبط أملاكه ، وتقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول للملك
والثاني لمن يكون قد قبض عليه ، والثالث مناصفة بين صاحب الأرض التي أبق
منها وصاحب الأرض التي تهيأ وقوعه فيها.
ثم منع المدجنون من الجهر بالشهادتين (تأملوا) واستعمال النفير لما فيه من
تحريك الجامعة وجُوزِيَ من يجاهر بشيء من ذلك بالقتل (تأملوا) .
وسنة 890 أصدر الملك فرديناند صاحب أراغون أمرًا بمنع المدجنين من
الخروج من مملكته ، وإنه إذا استصحب أحد الأسبانيول أحدًا منهم في خدمته
لضرورة قضت فيؤذن بشرط أن لا يكون مع المدجن ولد دون الأربع عشرة من
عمره ، ذلك خوفًا من الفرار إلى بلاد الإسلام؛ إلى غير ذلك من آيات العدل (!)
التي تواترت في كتب الإفرنج ، فلخصنا منها ما قرأت لا عجب فلولا هذه الغرائب ،
ولولا الإمعان في الظلم إلى هذه الدرجة لما تأخرت أسبانية إلى الحد الذي وصلت
إليه ، بعد أن كان لها من مركزها في أوروبا وافتتاح أميركا على يدها ، وانبساط
أيديها في مستعمرات الخافقين ما يضمن لها المقام الأول بين الدول اهـ.
_________
الكاتب: شكيب أرسلان
من الأمير إلى الملك [*]
بعث الأمير شكيب أرسلان بكتاب سياسي خطير إلى الملك حسين رأينا أن
ننشره لما تضمنه من الحقائق التاريخية قال:
الأمير النبيل سليل العترة الفاطمية، وطراز العصابة الهاشمية، أطال الله
بقاءه، وسدد إلى الصواب آراءه، آمين.
لا يخفى أن من الأحاديث المأثورة المشهورة عن جدك سيد الثقلين صلى الله
عليه وسلم (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين)[1] .
فإذا كان الأمر كذلك أيها الأمير، ويطابق على صحته العقل وتظاهر بداهته
الحديث، فما قولك بالمؤمن يُلْدغ ألف مرة؟ وما ظنك بالمؤمن ابن المؤمن والشريف
ابن الشريف ولي نعمة الإيمان، ومشرق نور الإسلام، وأمير بلد الله الحرام، أن
لدغ من جحر قد سبق أنه لدغ منه غيره من المؤمنين لا مرة ولا مرتين، بل مرارًا
يضيع عندها الحساب، ولا يستوفيها كتاب؟
أيها الأمير عندنا في بر الشام مثل سائر: إن أنت لم تمت ألم تر من مات ،
فعلى فرض أن الإنكليز لم يخونوك إلى الآن أيها الأمير، أفلا تنظر إلى من خانوا
قبلك؟ وعلى تقدير أنه لم يأت وقتك ، أفلا اعتبرت بمن أمهلوا قبلك ثم أخذوه؟
وإذا كانوا لم يعترضوك إلى اليوم في داخل إمارة مكة أو في الحجاز ، فيمكنك
أن تربح فكرك منها منذ الآن [2] ولا حاولوا إدخال عسكرهم إلى البلد الحرام، ولا
وضعوا ضباطهم على أبواب حجرة المصطفى علية الصلاة والسلام، تفاديًا من
العجلة التي قد تخالف الحكمة، وتجر الوحشة ، على حين لم يسترح بالهم ولا
تحققت آمالهم ، أفليس عندك أنت بمكانك من الذكاء ، والفضل ، ومطالعة التواريخ ،
وقياس الحاضر على الماضي ، وقوة الاستنتاج ما يدلك على أنك بعد ركود
العواصف ، ومضي الأزمنة ، وانقضاء الغرض من مراعاتك ، ومدارتلك صائر
إلى ما صار إليه غيرك ، ولا حق بمن تقدمك من ملوك الإسلام الذين وقعوا في
حبائل الإنجليز طوعًا وكرهًا، فما زالوا حتى عفوا آثارهم: وأطفئوا منارهم،
وجعلوهم في الغابرين.
أتظن أيها الأمير أن الإنكليز يغدرون بكل هؤلاء الملوك والممالك ويستثنونك
أنت من الجميع ، فيتعلمون فيك الوفاء ، ويخرقون من أجلك خطة الغدر التي ساروا
عليها إلى يومنا هذا مع كل من ظللته الخضراء، وأقلته الغبراء، حال كون
غرضهم في محو إمارتك وأخذ بلدك أعظم من غرضهم في أخذ غيرك، وحال كون
مصلحتهم في طي سجلك أهم من مصلحتهم في حذف أي أمارة من أمارات الإسلام
لأنهم يرون أنهم إن استولوا على الحرمين الشريفين ، فقد استولوا على الرأس ،
فصارت في أيديهم أرواح المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وعاد المسلمون
لا يملكون معهم عينًا تطرف ولا نفسًا تصعد، وأمنوا جانب انتقاضهم عليهم في
مستقبل الأيام، وكل فتوحاتهم لا يحسبونها شيئًا بالقياس إلى نشر أجنحتهم على
الحجاز وعلى البلد الأمين - والعياذ بالله - وجعله من جملة مستعمرات بريطانيا.
أم غرك كون الإنكليز عقدوا معك عهدًا؟ قُلْ بحرمة جدك أيها الشريف ابن
الشريف: كم عقدًا عقد الإنكليز ولم ينقضوه؟ وكم عهدًا أبرموه ثم لم يجعلوه أنكاثًا؟
وما أخالك تجهل التاريخ ، وتكابر في التواتر بمن شأنهم في الإخلال بالعهود
والمواثيق إلى الحد الذي تنكر فيه هذه الحقيقة ، التي تتجلى في جميع معاملاتهم
سواء مع المسلمين أو مع سائر الأمم.
ناشدتك الله أيها الأمير هل أنت مصدق في ذات صدرك وذخيرة نفسك أن
للإنكليز عهدًا يرعونه معك أو مع غيرك، أو ذمامًا يحفظونه لك أو لسواك إذا
قضت سياستهم [3] ، أفلم تكن تقرأ ، ولم يخبرك أبوك الأمير الكبير أنه قرأ
إعلانات حكومتهم الصريحة الرسمية مرارًا بأنهم يخلون مصر عندما يستتب فيها
الأمن ويعيدونها إلى أهلها؟ فماذا كان بعد ذلك سوى أنهم لبثوا يلتهمونها تدريجًا
حتى انتهوا باستلحاقها بدون أدنى مبالاة بعهود خطية، ولا بمواعيد رسمية،
وضموها إلى سائر مستعمراتهم؟ وإن أحسوا بأدنى مقاومة لأفكارهم في أرض
مصر ينسخون هذه الحكومة القائمة فيها كالشبح الماثل، ويجعلونها ولاية كسائر
الولايات، ولا نطيل عليك بسرد ما صنعوه في الهند وزنجبار وجنوبي اليمن
ومسقط والبحرين والكويت والعجم وبلوخستان وغيرها، وكل مبادئهم مع هذه
البلاد لم تكن إلا كمبادئهم معك، فكان من البديهي أن ينتهي معك الأمر كما انتهى
مع غيرك.
وإلى كم أيها الأمير تمر بنا المثلات ولا نعتبر، وتعظنا الحوادث ولا ندّكر؟
ونكون أشبه بالغنم يأخذها الجزار للذبح واحدًا بعد واحد وهي لا تعقل ماذا يصنع
بها حتى يصير السكين في أعناقها؟
فإذا كان من المقرر عند أهل الشرق والغرب أن الإنكليز ينكثون عهودهم لما
هو أقل شأنًا من الحجاز وتلك البقاع المقدسة التي تهوي إليها أفئدة المسلمين من كل
حدب ، فهل هناك في يدك من قوة مادية تمنعهم من دخول قلب بلادك ، ويكونون
مضطرين أن يحترموك من أجلها؟ أو تردعهم فيما لو قضت عليهم سياستهم عن
سلب إمارتك، لا بل والإيقاع بك واستئصال جرثومتك؟
لا جرم أنك تقدر أن تدعى بوجود بعض عشائر من العرب توفر القوة التي
تكفل دفع إنكلترا بجيوشها الجرارة عن مكة والمدينة، ولا أحد من الخلق يرتاح
إلى هذه الدعوة، فأنت إذًا باتفاق كلمة جميع العقلاء وأهلك وقومك باقون تحت
رحمة إنكلترا ورهن إرادتها، وقيد إشارتها، موكول أمركم إلى أمانتها وكرم
أخلاقها [4] .
لا قوة معنوية تتكلون عليها من حفظ العهود، وتأكيد الوعود، بعد ما رأينا
سياسة إنكلترة مع غيرك. ولا قوة مادية من جيوش منظمة ، ومدافع وذخائر وأعتاد
وطيارات وبوارج وغواصات وما أشبه ذلك مما تلتزم إنكلترة معه جانب الأدب
والكياسة، فبماذا أنت آمن شر تلك الدولة على جزيرة العرب ولا سيما على الحجاز
منذ أحقاب [5] ؟ وأي ضمان عندك على كونها لا تقلب لك ظهر المجن، فتندم حين
لا ينفعك الندم؟ وبعد أن يكون تسلط غير المسلمين على أقدس تراب عند المسلمين
منذ 13 قرنًا.
ليس من باباوية في الإسلام أيها الأمير، ولا مزية للمسلم على المسلم إلا
بالتقوى ، وأقرب الناس إلى الرسول أطوعهم لوصاياه، وأنت لا تجهل ما في كلام
الله وأحاديث جدك المصطفى صلى الله عليه وسلم مما يثبت لك أن مزيتك هذه
المتعلقة بسلالة الرسالة وبنور النبوة إنما تبدأ عند حفظ حدود الله لا غير.
أم تظن (أن الغاية تبرر الواسطة) كما يقولون؟ وإنك إنما تريد لتضع
أساس دولة عربية تبدأ في أول أمرها بالنشوء تحت حماية إنكلترة ، حتى إذا بلغت
أشدها استقلت تمامًا، وأن تلك هي سنة النشوء والارتقاء؟ فاعلم أيها الأمير أن
الذين يزينون لك هذه الأوهام هم قوم قد عرفناهم ونعرفهم لا خلاق لهم، ابتلى الله
بهم هذه الأمة كما ابتلى كل الأمم بأمثالهم، وما هم في واقع الحال سوى سماسرة
الإنكليز يسعون أن يتمموا لإنكلترة صفقة البلاد العربية ، وأسماؤهم مقيدة في دفتر
المبالغ السرية التي تنقدها إنكلترة سماسرتها السياسيين كلاً على قدر خدمته يدخل
هؤلاء عليك وعلى غيرك بمثل هذه الأعاليل ، التي هي أسخف من أن يتنزل عاقل
مثلك لاستماعها فضلاً عن أن يتلقاها بالقبول.
هل الإنكليز الذين حلموا في المنام بطائر حلق فوق الهند ، فهبوا مذعورين
وأرسلوا ببزاة طياراتهم لاصطياده في لوح الجو ، يرضون أن هذا العرق العربي
النجيب الذي سبق له ما سبق في التاريخ العام يتمكن من تأسيس دولة عربية مستقلة
على ضفاف البحر الأحمر دهليز الهند ، تسد على الإنكليز طريق حياتهم ومجاري
أنفاسهم أي وقت شاءت؟ أيظن أولئك المخدوعون بالإنكليز أنهم صاروا أدهى من
رجال بريطانيا ، وأعلى كعبًا في السياسة ، وأبعد نظرًا في عواقب الأمور ، حتى
انتبهوا إلى ما غفلت هي عنه ، وفكروا في مستقبل الأمة البريطانية.
أم هذه الأمة البريطانية التي هي أربعون مليونًا خَامَرَ عقولها الجنونُ ،
فصارت تسعى بإرادتها في تأسيس استقلال للعرب على طريق الهند ، أو في مقابلة
مصر والسودان وتبحث عن حتفها بظلفها؟
قل لهؤلاء القائمين بالدعوة العربية ، الناهضين لحفظ حقوقها وأخذ ثاراتها
ماذا إلى اليوم أمنوا من حقوق العرب بقيامهم؟ .
ليقولوا لنا ماذا أقاموا للعرب من الملك حتى نشكرهم ، ونقر بفضلهم؟ لأننا
عرب نحب كل من أحب العرب ، ونبغض كل من أبغض العرب ، ولا نبالي بالقال
والقيل أمام الحقائق.
أترانا اكتفينا بأن يتلقبوا بألقاب الحكام ذوي السلطان؟ فهل الملك بالألقاب
والألفاظ الضخمة؟
ليتلقب واحدهم بملك الملوك أو سلطان السلاطين وهو ذو قوة نعرفها كما هي
فما يؤثر على الأمة الإسلامية أو يفيدها [6] .
إن قلت: إنك مستقل في الحجاز وأنها أول بلاد عربية استقلت أجبناك: إن
الحجاز وحده لا يمكن أن يستقل عن بريطانيا طرفة عين مادام الحجاز عيالاً على
الخارج وعلى ما وراء البحر ، وما دام ليس هناك استقلال اقتصادي ممكن ، وإن
قلت: إنه يقدر أن يستغني عن البحر ، وأن يعيش من الداخل ، فأي داخل دخل
عليك لهذه المملكة الجديدة؟
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
…
_________
(*) رأينا هذا الكتاب بهذا العنوان في جريدة (الوطن) السورية البرازيلية ، ولم نره في جريدة أخرى ، والظاهر أنه كتب في أوائل سني الحرب الكبرى، فلم ندر كيف وصل إلى هذه الجريدة المنشأة لنشر الإعلانات التجارية دون غيرها من الجرائد التي اعتدنا أن نرى فيها جولات يراع أمير البيان ، فنشرناه بنصه لما فيه من الحجج الناهضة على جهل الشريف حسين وغروره وجنايته على الأمة العربية وبلادها ، ومن النصائح الناصعة والحكم البالغة التي يجب أن يعرفها كل عربي.
(1)
رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
(2)
وضع هذه الجملة التفريعية بين الجملة الشرطية ، وما عطف عليها غير ظاهر.
(3)
كذا في الأصل ، والمعنى إذا قضت سياستهم غير ذلك أو أن يخفروه.
(4)
المنار: كان الأولى بالكاتب أن يخاطب حسينًا هنا بلغته وعرفه في التعبير عن اتكاله على إنكلترة فيقول: موكول أمركم إلى (الحسيات النجيبة البريطانية) وهو حين كتب هذا لم يكن يعلم أنه هو وأولاده بَنَوْا أساس سياستِهم على أن يكون الحجاز وما دونه من بلاد العرب تحت حماية الإنكليز بشرط أن يجعلوهم ملوكًا وأمراء فيها.
(5)
لعله قد سقط من هنا كلمة يتعلق بها ما بعدها ، كان يقال: الطامعة هي فيه منذ أحقاب.
(6)
قوله: وهو ذو قوة نعرفها كما هي: يعني أنها لا غناء فيها ولا اعتداء بها، وإلا فالمقام مقام النفي أي وهو ليس بذي قوة يصدق بها اللقب وقوله: فما يؤثر علي الأمة الإسلامية الخ لعل أصله الأمة العربية ، فحرف في الطبع أو سبق القلم قبله ، وتعدية التأثير بعلى من أغلاط الجرائد التي يجتنب مثلها الأمير شكيب ، ولكنها مما كثر استعماله قولاً وكتابة ، حتى صارت تجري بها الأقلام كالألسنة ولا يتذكر الكاتب العالم بها أنها من الغلط.
الكاتب: محمد رشيد رضا
المطبوعات الحديثة
أكثر ما يهدى إلى المنار من المطبوعات الحديثة خيارها بالفعل أو برأي مَن
يعرفنا من ناشري الكتب في مدح ما لا يستحق المدح أو السكوت عن ذم أصحابها
لعدم طمع من الضار: كأكثر الروايات والقصص وأمثالها ، وقد كثر لدينا من
المطبوعات ما يستحق أن يقرأ وأن يقرظ وينتقد للترغيب في نفعه أو التحذير من
ضرر فيه، ولا نزال يضع بالقرب منا كثيرًا من هذه الكتب والرسائل؛ لنذكرها
عند سنوح فرصة ، فنقرأ منها ما يبيح لنا أن نقول فيها قولاً مفصلاً ومجملاً، وقد
سبق أن ذكرنا مثل هذا ، ولكننا نرى الموانع تزداد سنة بعد سنة ، فعزمنا على
احتذاء مثال غيرنا من أصحاب المجلات بذكر هذه المطبوعات بكلمات وجيزة
قضاء لما للمُهْدِينَ من الحق الذي أعطاهم إياه الشرع والعرف ، فمِنْ هَدْي السنة
النبوية مكافأة المُهْدي وجزاؤه، ويقابل ذلك حق قراء المجلات على قرائها في
النصح لهم ، أو عدم غشهم على الأقل فنقول:
(الأخلاق عند الغزالي)
من هذه الكتب التي يوجب الشرع والعرف وحال العصر انتقاده بالتفصيل
كتاب (الأخلاق عند الغزالي) الذي ألفه (الدكتور زكي مبارك) ، وتقدم به إلى
الجامعة المصرية عند امتحان شهادة (الدكتورية) في الآداب العربية ، فكان لذلك
ضجة استياء وحملة شديدتين من علماء الأزهر وغيرهم من أهل الدين ، سبق
مثلهما لغيره من خريجي هذه الجامعة ، فكان ذلك من المسائل التي تستوقف الفكر،
وتدعوه إلى الجولان والبحث، وقد نظر في هذا الكتاب نظرة عجلى مرة واحدة،
وقرأنا عنه مسائل متفرقة، علمنا بها أن فيه من مواضع النقد ما لم نسمع ، ولم
نقرأ كلامًا لأحد فيه، ولعله أهم من كل ما كتب الكاتبون الكثيرون في نقده؛ لهذا
نعد بأننا سنخصه بوقتٍ نقرأ فيه منه كل ما يتوقف عليه الحكم فيه ، قبل كتابة ما
طلب منا مهديه وغيره من نقده إن شاء الله تعالى.
***
(غرائب الغرب)
(كتاب اجتماعي تاريخي اقتصادي أدبي فيه كلام عن مدينة فرنسة وإنكلترة
وألمانية وإيطالية وأسبانية وسويسرة والبلجيك وهولاندة والنمسة والمجر والبلقان
واليونان والآستانة ومصر والشام؛ ومقالات في علائق الغرب بالشرق منذ الزمن
الأطول، ولا سيما صلات الغرب مع العالم الإسلامي والعربي منه خاصة، في
جنوبي إيطالية وفرنسة) .
مؤلف هذا الكتاب صديقنا محمد أفندي كردعلي رئيس المجمع العلمي العربي
في دمشق ومنشئ مجلة المقتبس وجريدة المقتبس ، فهو غني عن التعريف ،
مشهور عند أهل العلم والأدب، حسن الاختيار ، حسن العبارة ، معتدل الفكر ،
حريص على الإصلاح العلمي والمدني ، فما كتبه في هذا الكتاب من أخبار رحلته
الأولى والثانية إلى أوروبة مفيد لقراء العربية إن شاء الله تعالى ، كما رجا من كرم
الله تعالى.
طبع الجزء الأول منه صاحب المكتبة الأهلية بمصر سنة 1341 في المطبعة
الرحمانية ، وهذه الطبعة الثانية له صفحاته 338 وثمنه 25 قرشًا ، وهو يطلب من
طابعه ومن مكتبة المنار بمصر.
***
(المختصر في تاريخ آداب اللغة الغربية)
لمنشئ مجلة الهلال جرجي زيدان بك كتاب في تاريخ آداب اللغة العربية ،
يدخل في أربعة أجزاء ، مرتب على أعصر التاريخ ، كان رسم خطته لاختصاره
في جزء واحد.
يرتب على حسب الموضوعات الأدبية ، ولكنه توفي قبل إنجاز ذلك ، فعهدت
إدارة الهلال إلى الأستاذ أنيس أفندي الخويري المقدسي أستاذ هذا الفن في الجامعة
الأمريكية ببيروت بمراجعة أصوله وترتيبها فأجاب وأجاد، وقد طبع الكتاب في
العام الماضي بمطبعة الهلال على ورق جيد فنحث القراء على مطالعته.
***
(الزهراء)
مجلة علمية أدبية اجتماعية تصدر في القاهرة في منتصف كل شهر عربي
لمنشئها محب الدين (أفندي) الخطيب، اشتراكها السنوي خمسون قرشًا مصريًّا
في المملكة المصرية ، وستون قرشًا في الخارج، وسنتها عشرة أشهرٍ ، ويتألف كل
جزء منها من ثمانية كراريس (ملازم) ، وتهدي إلى المشتركين كتابًا في آخر
السنة بدلاً من الشهرين.
صاحب هذه المجلة كاتب مشهور اشتغل بالكتابة والتحرير في عدة صحف
أولها المؤيد وآخرها الأهرام ، ولا يزال من المحررين فيها، وهو محب للإتقان
فمجلته جديرة بالثبات على خدمة الآداب العربية ، مرجوة الارتقاء والنجاح، فعسى
أن تصادف من القراء تعضيدًا يعينها على هذه الخدمة النافعة.
***
(الشورى)
جريدة أسبوعية سياسية ، تبحث في شؤون سورية: فلسطين سورية لبنان
شرق الأردن؛ يصدرها في مصر محمد علي أفندي الطاهر سكرتير الجمعية
الفلسطينية بمصر ، وهو من الشبان الفلسطينيين الأذكياء تَمَرَّسَ بالسياسة من نشأته
الأولى في أثناء الحرب العامة ، وتَمَرَّنَ على الكتابة في أشهر الجرائد المصرية
والسورية الفلسطينية، وهو في نشاطه وخبره جدير بالنجاح في عمله وخدمة وطنه
به، وله أصدقاء كثيرون من حملة الأقلام يؤازرونه ويمدون جريدته في
الموضوعات السياسية العامة والآداب ، فنتمنى له التوفيق والفلاح ، وقيمة
الاشتراك في الشورى 75 قرشًا صحيحًا في القطر المصري و75 قرشًا في فلسطين
وسائر الأقطار.
_________