الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كلمة: سعادة الأستاذ محمد ميكو
مندوب المملكة المغربية
نيابة عن مندوبي الدول العربية
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين
حضرة صاحب السمو الملكي الأمير ماجد بن عبد العزيز أمير منطقة مكة المكرمة
معالي الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي،
سيادة الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي،
أصحاب السعادة الفقهاء الأعلام،
أود بادئ ذي بدء - أصالة عن نفسي ونيابة عن باقي الوفود المشاركة - أن أتوجه بخالص الشكر والامتنان لما لقيناه من كرم الضيافة، وحسن الوفادة والرفادة، في هذه البقاع الطاهرة، في رحاب مكة المكرمة، أرض الرسول الأمين، ومهبط الوحي المبين، ومهد رسالة المؤمنين المتقين.
هذه الديار التي كلما تنادى إلى اللقاء في أكنافها جمع، واتصل في ربوعها شمل، إلا واستعرضنا عطاءها الفياض، فهي معقل الأنبياء والرسل، ومصدر العدالة والقداسة، تحيط بها ملائكة الرحمن في كل وقت وآن، إلا وأشرقت على قلوبنا كمؤمنين وعلى عقولنا كمفكرين موضوعيين أشعة الاعتزاز والافتخار بما تمتاز به الرسالة الإسلامية من أبعاد حضارية فكرية تستهدف إسعاد الإنسان في مختلف الأمصار والأعصار.
هذه الديار التي حباها الله بأسرة آل سعود العظيمة، وبقائد شهم، ورائد مظفر همام، وضع فكره وحصافته في خدمة رعيته، ووظف خبرته وكفاءته لتحقيق الازدهار والتقدم، وإيجاد الحلول الناجعة للقضايا الوطنية، والعربية، والإسلامية، يذود عنها، ويحمي حماها صاحب الجلالة الملك فهد بن عبد العزيز المعظم.
فإلى سامي حضرته أرفع تحيات أخيه صاحب الجلالة الملك الحسن الثاني حفظه الله، وخالص متمنياته ودعواته بالتوفيق والتسديد، فيما يبذله من جهد جهيد، لصالح رعيته، ولصالح الأمة الإسلامية جمعاء، فنعمه عليها كثيرة، وخيراته تترى هنا وهناك، وما تفضله بشمول هذا المجمع برعايته السامية إلا نقطة من بحر عطاءاته المتصلة اتصال استمرار واسترسال فخطابه في الحفل الافتتاحي للمؤتمر التأسيسي ما زالت أصداؤه ترن في آذاننا بتوجيهاته القيمة، ونصائحه الغالية المفيدة، ودرره اللامعة المضيئة.
وقد يكون من الضروري والعالم الإسلامي يعيش منعطفا دقيقا وتاريخيا يقضي باليقظة، والتفتح، والعمل الصالح، في ظل رسالة القرآن الكريم أن نجعله نصب أعيننا نستوحى منه نقط الانطلاق والالتقاء، فقد قال جلالته بالحرف: "إن روح العمل الجماعي هي الصلة المميزة لنجاح الأمة الإسلامية وقدرتها على مواجهة جميع التحديات، وأن المؤشرات تدل على أن الأمة الإسلامية قد وضعت أقدامها على طريق تصحيح المسار، والعودة إلى رحاب العقيدة في ظل تضامن أبناءها
…
إننا نؤمن جميعا – أيها الأخوة – أن الإسلام دين يخاطب العقل، ويناهض التخلف في شتى صوره وأشكاله، ويشجع حرية الفكر، ويستوعب منجزات العصر، ويحض على متابعتها، كما أن الإسلام وهو يضع قواعد السلوك الإنساني فإنه ينظم العلاقات الاجتماعية والدولية على أساس من الرحمة حيث يقول الله عز وجل في محكم التنزيل:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] .
حضرات السادة الأكارم،
يسجل التاريخ بكل إكبار وإجلال أن صاحب الجلالة الملك الحسن الثاني حفظه الله خاطب الضمير الإسلامي سنة 1969 بروحانية المؤمنين الصابرين أن أزفت ساعة الالتقاء والالتحام، فالخطب جلل، والمصيبة داهية دهماء، قاتلة إن لم تنبذ الأمة الإسلامية متاهات الخلاف والشقاق، وتسعى بروح وثابة صلبة بناءة إلى التلاقي والوفاق، فالمسجد الأقصى يحرق، والقدس الشريف يسرق، ومعالم الحضارة الناطقة بتعايش الديانات السماوية الثلاثة تباد وتمحق.
وشاءت العناية الربانية أن تجد هذه الصيحة الطاهرة تجاوبا مطلقا في مختلف البقاع والأصقاع، فيلبي القادة الأعلام الدعوة الملكية الكريمة، ويستضيف رباط الفتح المؤتمر الأول للقمة الإسلامية: حيث حددت المعالم، وظهرت الاختيارات والمراسم، واتضحت الرؤية لوضع المواثيق والأحكام لتسترجع الأمة الإسلامية قوتها ومناعتها أمام المتآمرين على شخصيتها، وحضاراتها، ورسالتها السماوية الإنسانية. {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} [آل عمران: 119] ، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30] .
وشاء ربك أن يبين جلالته في خطابه السامي ما ينتظره المسلم في هذا الملتقى، "المنتظر منا أن لا نخيب رجاء الذين ينتظرون نتائج أعمالنا، المنتظر منا أن نعطي للعالم فكرة جديدة على تجمع المسلمين، فكرة الفعالية، فكرة العمل، فكرة الواقعية، فكرة الإيجابية.
علينا أن نجعل من هذه الخطوة التي بارك الله سبحانه وتعالى عملها خطوة تتلوها خطوات، ولبنة تقف فوقها لبنات، وأساسا يمكننا أن نبني عليه جدارا ذلك الجدار الذي يجمع بين جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها".
وشاء ربك أن يكون المؤتمر الأول خطوة تلتها خطوات تأصيلية وتحليلية وفي مختلف الميادين، فأصبحت منظمة المؤتمر الإسلامي هيكلا وأجهزة وروافد حقيقة ملموسة، وأخذت محكمة العدل الإسلامية الدولية طريقها للنور، بالإضافة إلى وثيقة حقوق الإنسان في الإسلام، وتكوين اللجنة الإسلامية الدولية في القانون، وتوجت كل هذه الأعمال الجليلة بمجمع الفقه الإسلامي الذي سيساند الصحوة الإسلامية، ويزكي اعتزاز كل مسلم بدينه الحنيف، وانتمائه الحضاري المشرف، وماضيه المشرق المجيد، ومستقبله الواضح القوي السديد.
وكم يسعدني أن أغتنم هذه الفرصة لأزف إليكم أن صاحب الجلالة الملك الحسن الثاني شرفني بصفته رئيسا لمؤتمر القمة الإسلامي الرابع فكلفني بأن أحمل إلى هذه المنظمة السامية وإلى أعضائها المحترمين تحياته العاطرة، ومتمنياته الصادقة، بالنجاح والتوفيق في جميع الأعمال، مؤمنا بأنها ستكون فاتحة عهد جديد لصالح الفكر الإسلامي، والفقه المحمدي، والشريعة الخالدة، مباركا أعمالها في الحال والمآل مطمئنا إلى أنها ستكون في مستوى ما يعلق عليها من آمال.
حضرات السادة،
لا يخفى عليكم أن الفقه الإسلامي عرف ككل كائن حي طور النشأة ومرحلة الشباب، وطور النضج والكمال عندما كان الأئمة الأعلام يتعمقون دراسة أصوله، من قرآن كريم، كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وسنة نبوية طاهرة، قولية، أو فعلية، أو تقريرية، قال تعالى {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [آل عمران: 132] . وقال عز من قال، {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] . وإجماع دل على صحته قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115] . واستنباط وهو القياس على هذه الأصول الثلاثة لأن الله جعل المستنبط من ذلك علما وأوجب الحكم به فرضا قال تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إلى الرَّسُولِ وإلى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] . وقال عز وجل: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105] ، أي بما أريك فيه من الاستنباط والقياس.
لقد انتصب الفقه الإسلامي شامخا في ربوع الأمة الإسلامية، وأضاء الفكر الإنساني بما أمتاز به من عمق وشمولية يوم كان الأئمة الأعلام يتشبثون بالثوابت التي تعتبر فوق الزمان والمكان، فلا مساغ للاجتهاد في مورد النص، ويستنبطون أحكام النوازل بما يتوافق والأعراف، وما تقتضيه المصالح المرسلة والاستحسان، فيختلفون اختلافا طبع على التسامح، إذ اختلاف أمتي رحمة، وينتجون نتاجا أثرى المعرفة الإنسانية، وحرر الفكر البشري من قيود الأغلال والأصفاد، والهمة طريق النور والهدى والرشاد.
ولكن هذا العملاق الشامخ تسرب إليه الضعف والوهن يوم اقتصر الفقهاء على التقليد، ففضلوا المتون والشروح والحواشي، واعتبروا أن الاجتهاد باب مغلق، وطريق دونه خرط قتاد. أحاطوا بستان الفقه بحيطان شاهقة، ثم بأسلاك شائكة، ووضعوه فوق حبل وعر بعدما صيروه غثا، وألقوا العثرات في طريق ارتقائه، والتمتع بأفيائه.
ولكن هذا العملاق الشامخ دب إلى كيانه الهرم والشيخوخة يوم تعصب الفقهاء إلى الفروع وتناسوا الأصول حتى قال العلامة تاج الدين السبكي في كتابه "معيد النعم ومبيد النقمم": فلعمر الله لا أحصي عدد من رأيته يشمر على ساق الاجتهاد في الإنكار على شافعي يذبح ولا يسمي، أو حنفي يلمس ذكره ولا يتوضأ، أو مالكي يصلي ولا يبسمل، أو حنفي يقدم الجمعة على الزاول، وهو يرى من العوام ما لا يحصى عدده إلا الله يتركون الصلاة التي جزاء من تركها عند الشافعي ومالك وأحمد ضرب العنق ولا ينكرون عليه".
ويشاء الله أن تعرف الأمة الإسلامية صحوة جديدة فتثار معركة إحياء التراث بين جماعة تعتقد أن ليس في الإمكان أبدع مما كان، وجماعة تدعو إلى تجاوزه فقد استنفد أغراضه في زمن معين، ومكان خاص، وإذن فستعيش الأمة الإسلامية في حالة استيلاب واغتراب.
ولا ريب أن مجمعنا سيكون كما أراد الله للأمة الإسلامية أن تكون {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] ، ستلتزم بالقرآن الكريم، والسنة الثابتة الطاهرة، في إطار العدل والمصلحة والإحسان، فالقرآن نزول وتنزيل، نزول تم بموت الرسول، وتنزيل على الوقائع واستنباط الأحكام يجب أن يستمر إلى يوم يبعثون، ذلك أن الدين الإسلامي دين خلق وإبداع، دين منفتح يترك للفرد مبادرة كبرى، وحرية في التكييف والتغيير. وتوقع التحولات. ونحن سنجابه الواقع بما فيه من تحديات، ومشاكل اجتماعية وحضارية، وبما فيه من علوم وتقنيات ومعارف لنستنبط من الأصول بروح جماعية الحلول الملائمة. إن عودتنا إلى القيم التراثية بهذه الصورة حجة على مسايرة عضوية، وبرهان على أنه يوفر للقيم التي يحملها التحاما عميقا للواقع الذي نعيشه، فالرسالة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، والشريعة الإسلامية مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد، في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المضرة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن دخلت فيها بالتأويل.
حضرات السادة الأجلاء،
إن الاعتراف بالجميل، وإسناد الفضل إلى ذويه سنة متبعة، وطريقة محكمة، وصفة حميدة في محيط الأخلاق الإسلامية قال تعالى:{وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283]، وقال عز من قائل {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} . [الأعراف: 85]
فمعالي الأمين العام الأستاذ الجليل السيد الحبيب الشطي معلمة شاركت في مختلف دروب النضال ليستعيد وطنه الحبيب الحرية والاستقلال، وشاركت في معركة الجهاد الأكبر، فتقلب في مسؤوليات سامية في الداخل والخارج، كان في جميعها عملا متواصلا ورؤية صادقة، وتفكيرا ثاقبا، وابتكارا يبحث عن الحلول التي يستقطبها الصالح العام، ثم عندما أسندت إليه الأمانة تحملها بنفس راضية مرضية. فكان صلبا في مبادئه واختياراته، صبورا في خطواته وإنجازاته، حتى ازدانت هذه المنظمة بنتائج باهرة. وأعمال إيجابية صالحة.
ومن حسناته التي تكتب بمداد الفخر والاعتزاز فتشكر، تعيينه في نطاق الفقرة الثانية من المادة الحادية والعشرين للنظام الأساسي لهذا المجمع لفضيلة الأستاذ الكبير، العلم النحرير، الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة أمينا عاما لهذا المجمع، إنه شخصية علمية تجاوزت الحدود الوطنية، عرفناه في الدروس الحسنية. وفي الحلقات الدراسية للأكاديمية الملكية يحاضر بوقار العلماء، ويناقش بتسامح الصلحاء الأصفياء، ويستنبط القواعد والأحكام بقوة فولاذية. وعبقرية نادرة، فهو بحق موسوعة علمية، ومعلمة أخلاقية سامية، مخضرم في تكوينه بين الفقه الإسلامي والقانون الوضعي، له ذهنية تركيبية تسمح له بالتنسيق بين الأصالة والمعاصرة، بين الرسالة السماوية والقوانين الوضعية، فهو مفت رائد، وعلامة كبير في القانون المقارن.
فإلى حضرته تهانينا الحارة، ومتمنياتنا الصادقة، وكم يعز علينا أن نتفاءل بتعيينه فسيكون قطب الرحى، والقوة الديناميكية لهذا الملتقى، يشرف مسؤوليته بما يمتاز به من خصال حميدة، وأخلاق إسلامية سامية، وفقه الله ووفقنا جميعا للصالح العام، وجعلنا في مستوى المسؤوليات التاريخية الملقاة على عاتقنا، حتى نشارك في مسيرة النماء والتطور في ظل الأصول الإسلامية، والرسالة المحمدية الخالدة حتى نكون عند حسن ظن قادتنا الأعلام.
{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105] ، صدق الله العظيم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.