الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(مبنى الشريعة على جلب المصالح ودرء المفاسد)
(يُرجَّح خير الخيرين بتفويت أدناهما، ويُدْفع شر الشرين بالتزام أدناهما)
12-
الدينُ مَبْنِيٌّ على المصالِحِ
…
في جَلْبِها والدَّرْءِ للقبائِحِ
13-
فإن تَزَاحَمْ عدَدُ المصالحِ
…
يُقَدَّمُ الأعلى من المصالحِ
14-
وضده تَزاحُمُ المفاسدِ
…
يُرْتَكَبُ الأدنى من المفاسدِ
"الشرح"
يشير الناظم- رحمه الله في هذه الأبيات إلى قاعدتين:
الأولى: أن الدين جاء لتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وهذا أصل مُطَّرَدٌ في جميع أحكام الشرع ومسائله.
الثانية: هو ما يسميه الفقهاء بتلازم المصالح والمفاسد، أو بتزاحم المصالح والمفاسد، وهذه قاعدة تتعلق بالأمور العارضة لشخص أو جماعة ونحوهما.
وبيان هاتين القاعدتين من كلام الناظم- رحمه الله على ما يلي:
قوله: [على المصالح] :
واحدها مصلحة، قال الغزَّالي في:"المستصفى" هي: (عبارة في الأصل عن جلب منفعة أو دفع مضرة) .
إلا أن المقصود من المصالح عند الفقهاء هو حفظ مقصود الشارع بالحفاظ على الكليات الخمس، وهي: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، فقد جاء الإسلام للحفاظ على هذه الكليات الخمس، إما حفظ إيجاد؛ بحيث تكون في حرز عن مبطلاتها، وإما حماية زائدة على الإيجاد كالحاجيات والتحسينيات من مكارم الأخلاق وجميل العادات، والطهارة من الأدناس ونحو ذلك. قال في:"شرح مختصر التحرير": (لا خلاف بين الملل والأديان في كونها أتت للحفاظ على هذه الكليات) .
قوله: [في جلبها] :
جَلَبَ الشيء يَجْلِبُه جَلْباً وجَلَباً، كذا قال الجوهري في:"الصحاح"، قال في القاموس":(جَلْب الشيء: المجيء به من مكان إلى آخر) .
قوله: [الدرء] :
قال في: "القاموس": الدرء هو الدفع، ومنه الحديث المشهور:(ادرؤوا الحدود بالشبهات) أي: ادفعوها.
قوله: [للقبائح] :
واحدها قبيح، قال الجوهري في:"الصحاح": (القبيح ضد
الحسن".
ومن ثم يتبين أن الناظم -رحمه الله تعالى- ذكر بهذا البيت القاعدة الكبرى التي يدور عليها الدين، وهي مُقَرَّرَة باستقراء أدلة الشرع كتابا وسنة، كما قال الشاطبي في ثاني مجلدات:"الموافقات"، وهي على الترتيب السابق في التقديم والأولوية، فيُرَاعَى أول ما يُرَاعَى: الحفاظ على الدين من مبطلاته ونواقضه، فلو اجتمع الحفاظ على الدين مع الحفاظ على غيره من بواقي الكليات الخمس فَيُقَدَّم الحفاظ على الدين، وهكذا قل في ترتيب الكليات الخمس على ما سبق من كون الدين أولها، والنفس ثانيها، والعقل ثالثها، والنسل رابعها، والمال خامسها.
قوله: [فإن تزاحم عدد المصالح..الخ] :
التزاحم من حيث هو يأتي على صور ثلاث:
الأولى: تزاحم حسنة مع حسنة، فيُقدَّم الأعلى من الحسنتين، ومثاله: اجتماع واجب ومستحب، كدَيْن مطلوب في الذمة، ونفقة مستحبة كالصدقة، فالمُقَدَّم قضاء الدين لأنه واجب.
الثانية: اجتماع سيئة وسيئة، كمحرَّم وآخر أخف منه، أو محظور ومكروه، ومثاله: ما يقع الإنسان فيه بين شيئين من المحاذير المعروفة، فإنه يرتكب الأدنى ليتقي به الأعلى، وهو ما أشار إليه الناظم بقوله:(يُرْتَكَبُ الأدنى من المفاسد) .
ومَثَّلَ لها بعض فقهاء الشافعية برجل صلى في ثوب لا يستر تمام عورته الواجبة، فإنه حينئذ يلزمه أن يجلس ويصلي جالسا، فالصلاة جالسا مع القدرة محظور، فارتكب الأدنى ليتقي الأعلى من المحظورين.
الثالثة: اجتماع حسنة وسيئة، قال شيخ الإسلام في:"المجموع": (يُنْظَر في الراجح منهما فيُعمل به، فقد تترجَّح الحسنة على السيئة فتُعمل، وهذا كله إذا كان يلزم من فعل الحسنة الوقوع في السيئة، أو يلزم من ترك السيئة ترك الحسنة) .
ومثال ذلك: ما وقعت فيه أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجرت هجرة الإسلام من غير محرم، فسفرها من غير محرم سيئة ومحظور، والهجرة واجبة وهي حسنة، فتَرَجَّح فعل الحسنة على السيئة من البقاء في دار الحرب، فشرع لها الشارع الهجرة.
وكذلك من الأمثلة: ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم من قذف المنجنيق على أهل الطائف مع كونه يقع على غير المُقَاتِل ممن يحرم قتلهم كالنساء والصبية، فإبعاد الأذى عن المسلمين وطرده وإزهاق دولة الكفر حسنة مطلوبة واجبة، وقتل غير المُقاتِل من النساء والصبية سيئة حرَّمها الشارع، فترجَّحت الحسنة على سيئة قتل غير المقاتل، ففعلها الشارع.
ومن هنا يتبيَّن أن تلازم الأحكام وتزاحمها يحتاج إلى أمرين
لكي يُبَتّ في ذلك، نص عليهما شيخ الإسلام في:"المجموع":
الأول: معرفة واقع الواقعة.
الثاني: العلم بمراتب الحسنات والسيئات، ومقاصد الشريعة.
فبدون هذين الأمرين أو أحدهما لا يستوي الأمر كما قال ابن القيم في أول: "إعلام الموقعين".
* * *
المشقة تجلب التيسير
15-
ومِنْ قواعدِ الشَّريعةِ التَّيسيرُ
…
في كُلِّ أمر نَابَهُ تَعْسِيرُ
"الشرح"
أشار الناظم رحمه الله إلى قاعدة كلية هي إحدى قواعد الإسلام الكبرى وهي ما يعَبِّر عنها الفقهاء بقولهم: (المشقة تجلب التيسير) .
ويدل على صحتها الكتاب والسنة والإجماع.
فأما الكتاب فآيات، منها: قوله سبحانه في [سورة المائدة] : (ما جعل عليكم في الدين من حرج)، وقوله في [سورة الحج] :(ما جعل عليكم في الدين من حرج) قال ابن عباس رضي الله عنهما: (إنما هو يسر الإسلام) رواه ابن جرير في: "تفسيره" وغيره.
وأما السنة فأحاديث، منها: ما رواه الشيخان مرفوعاً: (إنما بعثتم ميسّرين، ولم تبعثوا معسِّرين)، ومنها: ما رواه الإمام أحمد في: "مسنده"، وغيره مرفوعاً:(إنما بُعثت بالحنيفية السمْحة) .
وأما الإجماع، فحكاه غير واحد كالشاطبي في:"موافقاته".
والمعنى الإجمالي للقاعدة المشار إليها: هو أن المشقة والعنت، إذا طرآ على المكلف كانا سبباً في المجيء باليسر له في
العمل المطروء عليه تلك المشقة.
قوله: [التيسير] :
من اليُسْر وهو ضد المشقة والعنت، وقسَّم الفقهاء رحمهم الله اليسر إلى قسمين كبيرين:
الأول: إلى يسر اعتيادي، وهذا هو المُصَاحِب لجملة أحكام الشرع وعامتها، وأشار الشارع إلى ذلك بقوله سبحانه:(يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)، وقوله:(يريد الله ليخفف عنكم)، وقوله:(ما جعل عليكم في الدين من حرج) .
الثاني: إلى يسر طارئ جلبه عسرٌ طارئ، وهذا مايسميه الفقهاء رحمهم الله بالرخص الشرعية، وهي عند الأصوليين تُعرَّف بفعل المحظور مع قيام الحاظر لدليل راجح.
ومثل ذلك: التيسير الوارد على بعض حالات المسافر كالإفطار في رمضان، وقصر الرباعية، والجمع بين الظهرين والعشائين، لأن السفر تصحبه المشقة عادة.
والمعنى الثاني الذي هو بمعنى الرخص هو المقصود بالقاعدة الكبرى من قول الفقهاء رحمهم الله: (المشقة تجلب التيسير)، وهو المقصود في قول الناظم:(التيسير) ، إذ إن (أل) في كلمة (التيسير) عهدية، أي: التيسير المعهود عند الفقهاء وهو الرخصة كما سبق.
قوله: [في كل أمر] :
(كل) : من ألفاظ العموم التي نص عليها الأصوليون رحمهم الله، والعموم مقصود في قاعدة (المشقة تجلب التيسير) فهي تنسحب على كل أمر ومسألة يطرأ عليها المشقة والعسر، على تفصيل في المشقة يأتي.
قوله: [نابه] :
الاسم نَوباً ونُوبة بضم النون، نص على الثاني الجوهري في "صحاحه" يقال ناب الشيء ينوبه نَوباً ونُوبه إذا أصابه.
ومادة (نَوَبَ) يأتي عليها معانٍ عدة في الاستعمال العربي، يناسبها من ذلك ما ذكرناه عن الجوهري آنفاً، فيكون معنى قول الناظم رحمه الله:(في كل أمر نابه تعسير)، أي: في كل أمر أصابه عُسْر ومشقة.
قوله: [تعسير] :
من العُسْر، وهو ضد السهولة واليسر، والمقصود به هنا: المشقة.
والمشقة يُقَسِّمها الفقهاء كما نص على ذلك ابن نُجَيم الحنفي في: "الأشباه والنظائر" إلى ثلاثة أقسام:
الأول: إلى مشقة تُخْرِج الفعل عن طاقة العبد وقدرته.
الثاني: مشقة يسيرة خفيفة لا تُخْرِج الفعل عن طاقة العبد وقدرته.
الثالث: مشقة يتنازعها القسمان السابقان، فقد تصل إلى رتبة القسم الأول، وقد تنزل إلى رتبة القسم الثاني.
وهذه المشاق الثلاث لها حكمان تتوزَّع عليهما:
فأما الأول: فهي المشقة الشرعية الجالبة للرخصة واليسر.
وهي القسم الأول وما ارتفع إليه من القسم الثالث، وذلك لكونها خارجة عن مقدور العبد وطاقته، وقد أعفى الشارع الأمة المحمدية من تكليفها بذلك، كما جاء في:"صحيح مسلم" من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وله حكم الرفع: (أن الله قال: قد فعلتُ، جواباً لقوله سبحانه: {ولا تُحَمِّلْنا ما لا طاقة لنا به} ) وإنما جاءت الرخصة مع هذا النوع من المشاق لسببين اثنين، كما قال الشاطبي في:"الموافقات".
الأول: لحفظ جوارح العبد ونفسه وماله وما إلى ذلك، حتى لا ينقطع عن العبادة ويكره التعبد لله أو العبادة.
الثاني: حتى لا يصيب العبدَ انقطاعٌ عند تزاحم الأعمال التعبدية، وكسلٌ ومللٌ عن العبادة.
ومن أمثلة السبب الأول:
مارواه الشيخان في: (صحيحيهما) : أن النبي- صلى الله عليه وسلم لما أراد أصحابه أن يقوموا معه ليالي رمضان، قال:(أما بعد؛ فإني علمت شأنكم، إلا أني خشيت إذا صليتُ معكم أن تُفْرَض عليكم، فتعجزوا عن ذلك) ؛ أي: عن فعلكم لما يفترضه الله عليكم بسبب صلاتي معكم.
ومن أمثلة السبب الثاني:
وهو وجود الكسل والملل والمشقة عند تزاحم الأعمال التعبدية، ما رواه الشيخان من حديث أبي جحيفة لما آخى النبي- صلى الله عليه وسلم بين أبي الدرداء وسلمان، فأحضر أبو الدرداء الأكل لسلمان، فقال له: كل فإني صائم، فقال: لا آكل حتى تأكل معي، فأكلا، ثم أراد أن يقوم الليل، فقال له سلمان: نم، فنام، ثم أراد القيام، فقال له: نم حتى آخر الليل فأيقظه، وقال: الآن قم، ثم قال سلمان لأبي الدرداء بعد علمه بحاله وسماعه مقولة أم الدرداء -إن أبا الدرداء لا شأن له في الدنيا- قال: إن لنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، ثم أتى أبو الدرداء النبي- صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، فقال صلى الله عليه وسلم:(صدق سلمان) .
وأما الثاني: فهي المشقة التي لا أثر لها في رخصة ويسر وما إلى ذلك. وهي القسم الثاني من أقسام المشاق.
وإنما لم يكن لها أثر في جلب الرخص؛ لأنها لا تكاد تخلو من جنس التكاليف الشرعية؛ لأن الأحكام الشرعية حقيقتها منع
العبد من شهوات ونوازع نفسية وغير ذلك. وفي ذلك مشقة على العبد في الجملة. وقد أشار ابن القيم -يرحمه الله- إلى ذلك في: (مدارج السالكين) .
واعلم أن المشقة من حيث مجيئها وأحكامها ثلاثة أقسام أيضاً:
المشقة الأولى: مشقة لا تعلُّق للعبد وفعله بمجيئها، وهي المصائب والابتلاءات النازلة على العباد والمكلفين كالأمراض ونحوها، فهذه المشقة ليس ثَمَّ حرج على العبد في السعي في إبعاد آثارها.
المشقة الثانية: هي مشقةٌ للعبد تَعَلُّق بمجيئها، وقد يأتي الفعل بدونها، فهذه غير مطلوبة شرعاً من المكلف.
ومثال ذلك ما جاء في "صحيح البخاري" وغيره، من حديث ابن عباس- رضي الله عنهما في صنيع أني إسرائيل من كونه نذر أن لا يستظل، وأن لا يفطر، وأن لا يقعد، فأمره النبي- صلى الله عليه وسلم أن يستظل، ويقعد، وأن يستمر في صيامه.
فهذه المشقة جلبها العبد على نفسه، وليست مقصودة من الشارع ولا أمر بها.
المشقة الثالثة: هي ما كانت مصاحبةً للفعل، فهذه نوعان:
الأول: مشقة اعتيادية لا تُخْرِج الفعل عن طاقة العبد وقدرته، ويدخل في ذلك: جملة الأفعال التكليفية، فإنها لم تسم تكليفية إلا
لوجود مشقة فيها، كما قال الْمَقَرِّي في:"قواعده".
وهذه المشقة موجودة في أكثر المصالح الدنيوية كذلك، ولذا يقول ابن القيم في:"إعلام الموقعين": (إنما تقوم مصالح الدنيا والآخرة على هذا التعب، وهذه المشقة) .
ومثال ذلك: الصلاة والصيام والحج، فكلها تكاليف فيها نوع مشقة، وهذه المشقة كما قال الشاطبي في" موافقاته" تختلف باختلاف الذي يباشرها، فقد تكون في أعلى درجات هذا النوع من المشاق، وقد تكون في أدنى درجات هذا النوع من المشاق، وقد تكون بين ذلك.
وقد ذكر الفقهاء رحمهم الله كما ذكر ذلك العز بن عبد السلام في: "قواعد الأحكام"-: أن هذه المشقة لا تجلب تيسيراً، ولو في أعلى درجات هذا النوع من المشاق، لارتباط فعل العبادة بها، ولا يصح تسمية تلك العبادات تكاليف إلا بهذا النوع من المشقة بدرجاتها وأنواعها.
والثاني: مشقة زائدة عن المشقة الاعتيادية التي تصحب التكاليف الشرعية، وهذه قسمان:
الأول: ما كان في مباشرتها تلفٌ لجارحة أو للنفس أو نحو ذلك، سواءٌ أباشرها المكلف فوجد تلك المفاسد أو بعضها، أو أيقن بوجودها، أو غلب على ظنه، فهذا النوع من المشاق لا يجوز شرعا مباشرته، لما يحصل من ذلك من مفاسد للنفس والجوارح
والعقل ونحو ذلك، ومخالفٌ لمقاصد الشرع من المحافظة على الكليات الخمس المعروفة، ومن مجيء الشارع باليسر والسماحة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري:(إن الدين يسرٌ) .
الثاني: ما كان بمباشرته مشقة عظيمة، ولكنها ليست كالمشقة في القسم الأول من كون مباشرتها قد يتْلِف الجوارح والنفس ونحو ذلك، فللعبد خيارٌ بين أمرين عقلا وشرعا.
فأما الأول: فهو عدم فعلها ومباشرتها؛ لأنها مشقة تجلب التيسير كالفطر في نهار صائف شديد الحرارة حال السفر والجهاد، ومنه ما جاء في:"الصحيح" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس من البر الصيام في السفر) .
وأما الثاني: فهو أن يباشر العبد هذه المشاق، محتملا ما فيها من عنت، ثم لعله يحظى بأجر زائد كما ذهب إليه بعض الفقهاء، وهو مبني على قاعدة: الثواب على قدر المشقة، قال شيخ الإسلام في:"المجموع": (وهي قاعدة لا تصح بهذا الإطلاق) ، يعني- رحمه الله أن فيها تفصيلا، فليس الثواب متعلقا بالمشقة مطلقا، وليس الثواب منفيا عن وجود المشقة مطلقا، بل قد يكون بقوة الإخلاص والصدق، واللُجأ في العبادة، وقد يكون بالمشقة والبلاء في العبادة والجهاد.
وذكر الشاطبي في: "الموافقات" مثالا على ذلك -أعني القسم الثاني- وهو ما يفعله بعض الزهاد والعبّاد من السلف الصالح
من قيام الليل كله، فإن في قيام الليل كله مشقةً عظيمةً، يُبعدها عن أنفس هؤلاء العباد خوفٌ غالب، أو رجاءٌ سائق.
* * *
ثم ذكر الناظم بعدُ ثلاثَ قواعد فرعية، تتفرع عن هذه القاعدة:
أولها: أن الواجبات منوطة بالاقتدار.
وثانيها: أن الضرورات تبيح المحظورات.
وثالثها: أن الضرورة تُقَدَّر بقدرها.
وفي ذلك يقول الناظم- رحمه الله تعالى-:
16-
وليس واجبٌ بلا اقْتدار
…
ولا مُحَرَّمٌ مع اضطرارِ
"الشرح"
والواجب هو من ألفاظ الأضداد في اللغة، فيأتي بمعنى الساقط، ويأتي بمعنى اللازم.
وأما في الاصطلاح؛ فهو ما طلبه الشارع طلبا مجزوما به، وقيل غير ذلك. ومثاله: الصلاة المفروضة، فإنها واجبة؛ لأن الشارع طلبها طلبا مجزوما به.
قوله: [بلا اقتدار] :
راجع إلى القدرة، أي أن الواجبات فعلها متعلِّق بوجود القدرة
عليها من المكلفين، فهي مطلوبة بوجود القدرة، والأصوليون- رحمهم الله ذكروا ضمن شروط الفعل المكلف به أن يكون ممكنا ويعنون بذلك أن يكون مقدورا غليه.
قوله: [ولا محرمٌ] :
من التحريم، وأصل التحريم يدل على المنع، والْمُحَرَّم اصطلاحا: هو ما نهى عنه الشارع نهيا مجزوما به، ومثاله الزنا، فهو محرم؛ لأن الشارع نهى عنه نهيا مجزوما به، بقوله:(ولا تقربوا الزنا) .
قوله: [مع اضطرار] :
من الضرورة، قال الغزَّالي في:"المستصفى": (هي المشقة الشديدة، التي لا يتحملها جنس بني آدم) .
ودليل هاتين القاعدتين: الكتاب والسنة والإجتماع.
أما الكتاب فآيات، منها: قوله سبحانه: (ولا تحملنا مالا طاقة لنا به) .
وأما السنة فأحاديث، منها: ما أخرجه الدارقطني في: "سننه" وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا ضرر ولا ضرار"، قال ابن الصلاح:(وللحديث طرق وشواهد بمجموعها لا ينزل الحديث عن رتبة الحسن) .
وأما الإجماع فحكاه غير واحد كأبي المعالي الجويني،
والغزَّالي في: "المستصفى"، والموفق ابن قدامة في:"الروضة" وغيرهم.
وقد سبق معك تقسيم للمشاق، التي تقع مع جنس بني آدم، فمنها ما ينزل عن رتبة الضرورة، ومنها ما يصل إلى الضروريات، وهي في الحقيقة ترجع إلى الإنسان نفسه، فهو الذي يجد القدرة على الفعل أو المشقة الشديدة التي تفقده القدرة، نص على ذلك الشاطبي رحمه الله في:"الموافقات" وكذا غيره.
* * *
الضرورة تقدر بقدرها
17-
وكل محظورٍ مع الضرورةْ
…
بقَدْرِ ما تحتاجه الضرورةْ
"الشرح"
حصل قوله: (وكل
…
) ذكر قاعدة فقهية يذكرها الفقهاء بقولهم: (الضرورات تُقدَّر بقدرها) .
وهي قاعدة تعتبر قيدا للقاعدة السابقة المذكورة في قول الناظم: (ولا محرم مع اضطرار) .
والمقصود أن كل فعل جوِّز للضرورة إنما جاز ذلك الفعل بالقدر الذي يحصل به إزالة تلك الضرورة، ولا يجوز الزيادة عن هذا الحدّ، ومعرفة ذلك راجعة إلى المتضرر نفسه كما سبق.
مثال ذلك:
المضطر إلى أكل الميتة لا يأكل من الميتة إلا بقدر ما يدفع عن نفسه الضرورة الملجئة إلى أكل الميتة، وهي: خوف الهلاك جوعا.
* * *
اليقين لا يزول بالشك
18-
وتَرجِع الأحكامُ لليقينِ
…
فلا يُزيلُ الشكُّ لليقينِ
"الشرح"
قوله: [الأحكام] :
واحدها حكم، وهو في اللغة المنع، تقول: حكمتُ الرجل تحكيما: إذا منعته مما أراد، قاله الجوهري في:"الصحاح" ومنه قول جرير:
أَبَنَيْ حنيفةَ أَحْكِمُوا سُفَهَاءَكم
…
إِنِّي أخافُ عليكُمُ أن أغضَبا
والحكم في الاصطلاح هو: إسناد أمر إلى آخر إيجابا أو سلبا. قاله الجرجاني في: "التعريفات"، ومثاله في الإيجاب: زيد قائم، حيث أثبتَّ القيام لزيد. ومثال السَّلْب: لم يقم زيد، حيث نفيتَ القيام عن زيد.
واعلم -رحمك الله- أن الحكم على ثلاثة أقسام:
الأول: حكم عقلي، وهو ما رُجِع فيه إلى العقل عند إسناد أمر إلى آخر إيجابا أو سلبا. ومثاله: الكل أكبر من الجزء.
الثاني: حكم عادي، وهو ما رُجِع فيه إلى العادة عند إسناد أمر إلى آخر إيجابا أو سلبا، ومن العادة: التجربة الصحيحة، ككثير من
الأدوية الناجعة مع بعض الأمراض.
الثالث: حكم شرعي، وهو ما رُجِع فيه إلى الشرع، وَحَدَّه جماعة من الأصوليين بأنه: خطاب الله المتعلِّق بفعل المكلَّف؛ من حيث إنه مكلفٌ به، كقوله تعالى:(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله) .
والناظم رحمه الله لم يقصد سوى: الحكم الشرعي بمعناه السابق.
قوله: [لليقين] :
اليقين من: يَقِنْتُ الأمر يَقْناً ويَقَناً، قال الجوهري:(اليقين: العلم، وزوال الشك)، وأما في الاصطلاح: فاعتقاد الشيء بأنه كذا، مع اعتقاد أنه لا يمكن إلا كذا، مطابقا للواقع غير ممكن الزوال. قاله الجرجاني، ولكن يشكل عليه ما جاء عن مجاهد رحمه الله أنه قال:(كل ظن في القرآن فهو يقين) .
إلا أن الزركشي رحمه الله قال: (هناك ضابطان للفرق بين اليقين والظن في القرآن:
أحدهما: أنه حيث وجد الظن محمودا مثابا عليه فهو اليقين، وحيث وجد مذموما مُتَوَعَّدا عليه بالعذاب فهو الشك.
والثاني: أن كل ظن به (أنْ) المخفَّفة فهو شك، وكل ظن يتصل به (أنَّ) المشددة فهو يقين؛ لأن المشدَّدة للتأكيد خلافا للمخففة) انتهى.
قوله: [يزيل] :
من زال الشيء زوالا، إذا تنحى عن مكانه، قاله ابن فارس في:"مقاييس اللغة". والمعنى: أن اليقين لا يَتنحَّى عن مكانه لطروء الشك عليه.
قوله: [الشك] :
الشك في اللغة يدل على التداخل، قال ابن فارس في:"المقاييس": (ومنه: الشك، الذي هو خلاف اليقين، وإنما سمي بذلك لأن الشاك كأنه شُكَّ له الأمران في مَشَك واحد، وهو لا يتقين واحدا منهما) .
وفي الاصطلاح هو: لمطلق التردد. وحده الراغب في: "المفردات" بقوله: "الشك: اعتدال النقيضين عند الإنسان وتساويهما". وبه جزم الكفوي رحمه الله في: "الكليات".
وجملة قوله: (وترجع الأحكام..) إشارة إلى قاعدة فقهية كلية هي: (اليقين لا يزول بالشك) ولها صيغتان معروفتان عند الفقهاء:
الأولى: اليقين لا يزال بالشك.
الثانية: اليقين لا يُرفع بالشك.
وهما صيغتان لهما الدلالة نفسها. ولا تكاد تلك القاعدة
تخلو من باب من أبواب الفقه، يقول الإمام النووي رحمه الله في:"المجموع شرح المهذَّب": (هذه قاعدة مطَّردة، لا يخرج منها إلا مسائل)، ويقول السيوطي رحمه الله في:"الأشباه والنظائر في قواعد اللغة": (هذه القاعدة تدخل في جميع أبواب الفقه) .
ويدل على صحة تلك القاعدة عدة أدلة ترجع إلى: الخبر، والإجماع، والنظر.
فأما الخبر، فمنه ما أخرجه الشيخان عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه أنه قال: شُكِي إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يُخَيَّل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال صلى الله عليه وسلم:(لا ينصرف حتى يجد صوتا أو يجد ريحا) .
ففي الخبر: الحكم ببقاء الطهارة وإن طرأ الشك؛ لأن الطهارة متيقَّن منها، وأما إذا تُيُقِّن من الحدث الموجِب نقض الطهارة، فيُقطَع به. وهذا إعمال لقاعدة اليقين لا يزال بالشك، كما أشار إلى ذلك النووي رحمه الله في:"المنهاج"، وقال الخطابي رحمه الله في:"شرح البخاري" معلقا على خبر عبد الله بن زيد: (وهذا أصل في كل أمر قد ثبت واستقر يقينا، فإنه لا يرفع حكمه بالشك) .
وأما الإجماع؛ فحكاه غير واحد كالقرافي رحمه الله في: "الذخيرة" وفي: "الفروق"، وابن دقيق العيد رحمه الله في:"إحكام الأحكام".
وأما النظر؛ فلأن اليقين لا يغلبه الشك أَلْبتة، حيث إنه قطع بثبوت الشيء فلا يَنْهدم بالشك.
ومن أمثلة القاعدة: من تيقن الطهارة، وشك في الحدث، فهو متطهِر. أو تيقن في الحدث، وشك في الطهارة فهو محدث. بهذا قال الجمهور، لحديث عبد الله بن زيد السابق. يقول شيخ الإسلام رحمه الله في:"شرح العمدة" موضحا حديث عبد الله بن زيد السابق: (فلما نهاه عن قطع الصلاة وعن الخروج من المسجد مع الشك، دل على جواز بناء الصلاة على طهارة مستصحَبة مبنية على اليقين. ولو كان يجب عليه الوضوء خارج الصلاة لجاز له أو لوجب عليه في الصلاة كسائر النواقض) .
فائدة:
اعلم -وفقك الله- أن قاعدة: (اليقين لا يُزال بالشك) لها اعتبار عند الاستدلال بالأدلة؛ إذ الأصل في الألفاظ أنها للحقيقة، وفي الأوامر أنها للوجوب، وفي النواهي أنها للتحريم. ولا يُخْرَج بتلك الأحكام عن أصولها المتيقنة لاستدلال أو دليل مشكوك فيه إما من جهة الثبوت أو الدلالة.
وقد نبه إلى ذلك العلائي رحمه الله في كتابه: "المجموع الْمُذْهب"، وقال:(ومن هذا الوجه يمكن رجوع غالب مسائل الفقه إلى هذه القاعدة إما بنفسها أو بدليلها) .
ومن ثم يتبين أن القاعدة الكلية: (اليقين لا يزال بالشك) ؛ لها موردان:
الأول: الأدلة الشرعية، عند إعمال قاعدة:"استصحاب الأصل"؛ لأن الأصل له حكم اليقين، كما سبق بيانه.
والثاني: أفعال المكلَّف، عند اشتباه أسباب الحكم عليه. وهذا المورد هو المقصود أصالة من القاعدة، قاله ابن القيم رحمه الله في:"بدائع الفوائد".
وهذا كله عندما يكون للمشكوك فيه حال قبل الشك، فتستصحَب ولا ينتقل عنها إلا بيقين، وهذا جزم به الجمهور، ونص عليه ابن القيم رحمه الله في كتابه السابق.
قال ابن القيم رحمه الله في: "بدائع الفوائد": (ينبغي أن يُعلم أنه ليس في الشريعة شيء مشكوك فيه ألبتة، وإنما يعرض الشك للمكلف) .
* * *
(الأصل في الأعيان الطهارة)
(الأصل في الأبضاع واللحوم ومن عصم ماله ونفسه: التحريم)
19-
والأصلُ في مياهنا الطهارةْ
…
والأرضِ والثيابِ والحِجارةْ
20-
والأصلُ في الأبضاعِِ واللحومِ
…
والنفسِ والأموالِ للمعصومِ
21-
تحريمُها حتى يجيءَ الحِلُّ
…
فافهَمْ هداك اللهُ ما يُمَلَّ
"الشرح"
قوله: [مياهنا] :
يدخل في ذلك جميع أنواع المياه سواء أكان الماء النازل من السماء، أم الخارج من الأرض كالآبار والأنهار، قال ابن قدامة رحمه الله في:"الروضة": "وهذا هو المعتمد".
قوله: [الثياب] :
يدخل فيها جميع أنواعها مما هو طاهر، ويخرج المصنوع من غير الطاهر كجلود السباع والكلاب والخنازير.
قوله: [الأبضاع] :
واحدها: بُضع بالضم، قال الجوهري في:"الصحاح": "البُضع هو النكاح"، قال ابن السِّكِيت، وحكى ابن الأعرابي: أن البُضع هو الفرج، وأصل مادة (بَضَعَ) تأتي على معانٍ في الاستعمال، قال بعضهم على منوال الإمام قطرب النحوي في:
"مثلثاته":
بضعت لحماً بَضْعاً
…
حتى يصير بِضْعاً
واعلم بأن بُضعَا
…
صدَقةٌ لا تَعجبِ (1)
قطعاً كما جا في التراثْ
…
مابين تسعٍ وثلاثْ (2)
بالضم وطئونا الإناثْ
…
أجر وسنة النبي
والمقصود هو الفروج والأنكحة، كما نص على ذلك الأئمة، ومنهم الإمام السبكي في:"الأشباه والنظائر"، وابن رجب في:"القواعد".
قوله: [للمعصوم] :
يقصد به من عُصم ماله ودمه.
قوله: [مايُملُّ] :
أي: ما يُمْلى عليك، وهو من الإملاء.
واعلم -رحمك الله تعالى-: أن هذه الأبيات تشتمل على جملة أمثلة مخرَّجة على القاعدة الكلية السابقة، وهي: اليقين لا يزال بالشك، كما نص على ذلك السيوطي في:"الأشباه والنظائر".
وهي ترجع إلى قاعدتين:
(1) من معاني البضع: الصدقة.
(2)
التراث: الأثر عن العرب والنقل، وهو الشيء الموروث عمن سبق.
القاعدة الأولى:
أن الأصل فيما على الأرض الإباحة، ويدخل في ذلك المياه والثياب والحجارة وغيرها، وكل ذلك طاهر، وهذا الذي عليه عامة الأصوليين والفقهاء وأكثرهم، قال ابن تيمية في:"مجموع الفتاوي"، بل نفى وجود الخلاف بين المتقدمين من الفقهاء، وقال:"إن الخلف المذكور حادثٌ بعدهم".
ويدل على ذلك النقل والعقل:
فأما النقل فمن ثلاثة أوجه:
الوجه الأول:
الكتاب: وفيه آيات، ومنها: قوله سبحانه: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً)، ووجه دلالتها على المقصود يرجع إلى دلالتين:
أما الأولى: فهو إضافة الله الشيء إلى بني آدم باللام، كما في قوله:(لكم) ، وهي لا تكون إلا بأحد معنيين هنا، كما قاله ابن عطية الأندلسي في:"المحرر الوجيز".
الأول: أنها بمعنى الملكية.
والثاني: أنها بمعنى الاختصاص.
وكلاهما يدلان على ملكية بني آدم لما في الأرض،
واختصاصهم بذلك، وليس إلا الإباحة.
والثانية: أن مساق الآية مساقُ امتنان، وغايته: الحل والإباحة، قاله القرطبي في:"تفسيره".
الوجه الثاني:
السنة: ويدل على ذلك أحاديث، منها: ما رواه أبو الدرداء رضي الله عنه مرفوعاً: (ما أحله الله فهو حلال، وما حرمه الله فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته) . أخرجه الحاكم وصححه، وأخرجه الطبراني في:"المعجم الكبير"، والبزار في:"مسنده". قال السيوطي في: "الأشباه": (إسناده حسن) .
ووجه دلالة الحديث على المقصود هو أن النبي صلى الله عليه وسلم أناط المحرَّم والمحلَّل بأمر الله، وما كان دون ذلك فقد سكت عنه الله، وهذا يقتضي إباحته، لذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:(فاقبلوا من الله عافيته)، قاله شيخ الإسلام في:"مجموع الفتاوي".
الوجه الثالث:
هو اتفاق السلف: حيث قال شيخ الإسلام في: "مجموع الفتاوي": (هو كالإجماع) ، وأنكر وجود المخالف في هذه المسألة عندهم.
وأما العقل:
فللأصوليين في تقريره عباراتٌ، منها ما قاله القرطبي في:"تفسيره": (وذلك أن الله لم يخلق ما في الأرض إلا لحكمة، إذ ضد ذلك العبث، وهو منزه عنه.
والحكمة إما أن تكون للتلذذ به، أو الانتفاع به، أو الاختبار به، أو التفكر فيه، وكلها لا تصح إلا بالتذوق، وهو دليل الإباحة) .
فائدة:
خالف عامة العلماء وأكثرهم بعضُ المتأخرين في مسألتنا السابقة؛ حيث قالوا: (إن الأصل في ذلك: الحظر والمنع)، ونسبه ابن نجيم في:"الأشباه والنظائر" إلى بعض أصحاب الحديث، وعزاه الموفق في:"الروضة" إلى حسن بن حامد الورّاق -شيخ الحنابلة المعروف-، وبعض المعتزلة، وهو اختيار القاضي أبي يعلى الفرّاء كما في:"العدة".
وحجتهم في ذلك أن التصرف في ملك الغير ممنوع إلا بإذنه، وهذا منه.
واعترض على ذلك، بأنه لو سُلِّم لهم بهذه المقدمة؛ لقيل: إن الله أَذِن كما في الآية والحديث السابقين.
وليُعلم أن محل النزاع في هذه المسألة هو ما كان خالصاً من الضُّر، أو كان الغالب للنفع فيه من مختلف الأعيان التي تختلف أوصافها؛ لأن ما كان ضراً محضاً، أوالغالب عليه الضر فهو محرَّمٌ
ممنوع لأدلة كثيرة، منها حديث النبي صلى الله عليه وسلم:"لا ضرر ولا ضرار" أخرجه الدارقطني وغيره، ويدخل في ذلك: ذوات السموم من الحيوان والنبات.
فائدة:
اختار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- أن الأصل في المسألة السابقة: الإباحة، وطهارة الأرض والثياب والحجارة لمن كان مسلماً يعمل الصالحات، لأنها إعانة له على الطاعة، وصرفٌ للنعمة في محلها، وأما خلافه كالكافر ومن يستعمل النعمة في غير محلها، فإن الأصل في حقهم المنع، سداً لذريعة التقوِّي بالنعمة على المعاصي، وصرف النعم في غير محالِّها.
القاعدة الثانية:
أن الأصل في الأبضاع واللحوم ومن عُصِم ماله ونفسه: التحريم.
ويدل على ذلك أدلة:
أما الأبضاع؛ فقد حكى الموفق في: "المغني"، والنووي في:"المجموع" إجماع أهل العلم على ذلك.
ومثاله: لو أن رجلاً له ثلاث زوجات، طلق إحداهن، ثم اشتبه عليه من طلق منهن، فالجمهور والأكثر على أنه لا يطأ واحدة منهن حتى يستبين، قال المرداوي في:"الإنصاف": (وعليه
جمهور الأصحاب) ، واختار الموفق وجماعة أنه يعمل بالقرعة بينهن، إذ القرعة حينئذ بمنزلة الْمُخْبِر والشاهد.
وأما اللحوم؛ فاستدل بالدليل العقلي السابق عند القائلين بأن الأصل المنع في الأشياء، ولكن الذي عليه الأكثر والجمهور هو أن الأصل في اللحوم: الحل حتى يجيء المنع.
واستدلوا على ذلك بالأدلة السابقة، إذ إن جنس ذوات اللحوم: من الأعيان الموجودة على الأرض، فهي داخلة في الإباحة، ويدل عليه قوله سبحانه:(وقد فصَّل لكم ما حَرَّم عليكم) ، وفصَّل بمعنى بَيَّن، قاله شيخ الإسلام، وهذا فيه دلالة على أن الأصل الحل حتى يجيء المنع، إذ إن الله ذكر المحرمات وأبقى غيرها على الحل، وبهذا جزم شيخ الإسلام في:"مجموع الفتاوي"، وانتصر له الشوكاني في:"إرشاد الفحول"، فإن كان المقصود عدم حلِّ اللحوم إلا بعد ذكاتها بطريقة شرعية -على ما هو مفصَّل في كتب الفروع- كان ذلك كذلك، وعليه الأكثر، وظاهر عبارة الموفق في "المغني": اتفاق الأئمة عليه، وهو مقصود شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في محالَّ من كتبه. وأدلة ذلك كثيرة من الكتاب والسنة والأثر.
وأما النفس والمال للمعصوم؛ فالأصل فيها حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه
الْمُفَارِق للجماعة) أخرجه البخاري ومسلم.
وحديث جابر في: "صحيح مسلم" في حجة الوداع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام. .) الحديث.
ففي الأول: حرمة الأنفس المعصومة، إلا بما يوجب حلها من الأمور الثلاثة السابقة، وفي الثاني: حرمة الأمران، إلا بما يوجب حلها من الزكاة والنفقة الواجبة، ونحو ذلك مما هو معلوم، وهذا عليه عامة الفقهاء وأكثرهم، بل حكى الموفق عدم المخالف في ذلك، وكذلك شيخ الإسلام.
* * *
(الأصل في المعاملات الحل)
(الأصل في العبادات المنع)
22-
والأصلُ في عاداتنا الإباحةْ
…
حتى يجيءَ صارفُ الإباحةْ
23-
وليس مشروعاً من الأمورْ
…
غيرَ الذي في شرعنا مذكورْ
"الشرح"
قوله: [عاداتنا] :
ماخوذ من العَوْد أو المعاودة، وهي تَكْرار الشيء، قاله الزَّبِيدي في:"شرح القاموس"، ونص عليه الحموي في:"غمز عيون البصائر".
واختلفت عبارات الفقهاء في حدِّ العادة وتعريفها، ومن ذلك أنها: ما استقر في الأنفس السليمة والطبائع المستقيمة من المعاملات، قاله ابن حجر رحمه الله في:"الفتح".
ومن ثَمَّ يتبين أن العادات ترجع إلى جنس المعاملات، وهي نوعان: معاملة مع النفس، ومعاملة مع الخلق.
قوله: [صارف الإباحة] :
أي: الصارف الشرعي، وهو إما أن يكون نصاً شرعياً، أو إجماعاً معتبراً، أو قياساً صحيحاً.
واعلم -رحمك الله- أن الناظم رحمه الله عنى بالبيتين السابقين قاعدتين كليتين:
فأما الأولى: فهي أن الأصل في العادات والمعاملات: الإباحة والحل، ودل على صحة ذلك أدلة ترجع إلى: الخبر، والاتفاق.
فأما الخبر: فمنه ما أخرجه مسلم في: "صحيحه" في قصة تأبير النخل، وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم:(أنتم أعلم بأمر دنياكم)، ووجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم رَدَّ الأمر في التعامل في الزراعة إلى الخلق، وجعله ليس من جنس الشرع الذي يتوقف فيه حتى يأتي الأمر من الرب سبحانه.
وأما الاتفاق: فحكاه غير واحد، كالنووي في:"المجموع"، والمفق في:"المغني".
وليُعلَمْ أن المعاملات والعادات باقيةٌ على الأصل ما لم تخالف أصلاً شرعياً، أو يأتي الصارف الشرعي لذلك، ومن ذلك: شرب الخمر، فهو من جنس العادات التي حرمها الرب سبحانه.
وأما القاعدة الكلية الثانية: فهي أن الأصل في العبادات: الحظر والمنع، ومعنى ذلك هو أن لا يعتقد الناس في شيء أو في فعل أو قول أنه عبادة، حتى يأتي خطاب الشارع بذلك، وقد دلت الأدلة على صحة هذه القاعدة، وترجع إلى أدلة:
أولها: الخبر، وهو من السنة والأثر.
فأما السنة، فما رواه مسلم من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من عمل عملاً ليس علي أمرنا فهو رَدٌّ)، أي: مردود عليه، قال الشاطبي في:"الاعتصام": (وهذا أصلٌ في أن الأصل في العبادات المنع والحظر) .
وبيانه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قيَّد قبول العبادة بأخذها عنه، وصدورها منه صلى الله عليه وسلم، إذ هو المشرِّع صلى الله عليه وسلم، فاعتبار غير ما قاله أو فعله من العبادات عبادة تُفعل أو تقال: اعتبارٌ مردودٌ على صاحبه؛ لأن ذلك محظورٌ عليه.
وأما الأثر؛ فما أخرجه البهقي في: "السنن الكبرى"، والخطيب في:"الفقيه والمتفقه" عن سعيد بن المسيب، أنه رأى رجلاً يصلي بعد طاوع الفجر ركعتين زائدتين عن سنة الفجر، يطيل في سجودهما وركوعهما، فزجره عن ذلك، فأنكر عليه المصلي ذلك، فقال له:(بل خالفت السنة) .
والآثار في ذلك كثيرة.
وثانيها: الاتفاق؛ فقد حكى شيخ الإسلام في: "مجموع الفتاوي" اتفاق السلف رحمهم الله على أن الأصل في العبادات الحظر والمنع.
فائدة:
إذا كان العمل في أصله مشروعاً، ولكن زِيْدَ في هيئته، أو أُنْقِصَ منه، فلا يحكم على بطلانه مطلقاً، ولا على صحته مطلقاً، قال ابن رجب في:"شرح الأربعين"؛ لأن الخلل قد يكون في شيء يوجب بطلان العبادة، وقد يكون في شيء دون ذلك، ومثاله: الصلاة إذا أُوقعت بدون سجود فإنها باطلة، لأن السجود من الأركان، وإذا أوقعت دون قراءة ما تيسَّر بعد الفاتحة فهي مجزئة صحيحة.
مسألة:
هل يشترط في كون الأصل في العبادات الحظر والمنع انسحاب ذلك على كمية فعل العبادة من الرسول صلى الله عليه وسلم، بحيث لا يُزَاد على تلك الكمية في نحو المندوبات والسنن؟
ذهب الشاطبي في: "الموافقات" إلى لزوم ذلك، وأن الزيادة مخالَفة، وذهب ابن القيم في:"الصواعق المرسلة" إلى أن العبادة إذا ثبت أصلها، وندب إليها بالسنة القولية؛ فالمواظبة عليها فضلٌ وسنة.
* * *
الوسائل لها أحكام المقاصد
24-
وسائلُ الأمورِ كالمقاصدِ
…
واحكمْ بهذا الْحُكمِ للزوائدِ
"الشرح"
قوله: [وسائل] :
واحدها وسيلة، وهي الذريعة الموصلة إلى الشيء المطلوب، والمقصود هنا الوسائل الشرعية المتعلقة بالمطلوب فعله أو تركه، ونحو ذلك من الأحكام التكليفية.
قوله: [كالمقاصد] :
واحدها مقصد، وهو الشيء المطلوب، قالع الكَفَوي في:"الكليات".
قوله: [للزوائد] :
يعني الزائد على الوسيلة والمقصد، وهو ما يسميه الفقهاء بمتمِّمات الأشياء، ومن ثم يتبيَّن أن الأشياء عند الفقهاء ثلاثة:
أولها: المقاصد.
وثانيها: الوسائل.
وثالثها: المتممات.
وبيان ذلك بمثال يذكره الفقهاء، إلا وهو الصلاة، ووجه
انطباق تلك القسمة الثلاثية للأشياء على الصلاة هو أن الصلاة من حيث أداؤها مقصدٌ، والمشي إليها: وسيلة، والرجوع بعدها إلى المكان الذي جاء منه المصلي، متمِّم، فالمقصد في هذا المثال هو الصلاة، وذلك لأن الله- تعالى- أمر بأدائها وإقامتها، وهذا أمر مجمع عليه، كما في قوله سبحانه:(أقم الصلاة)، وقوله:(وأقيموا الصلاة) .
وقد حكى الإجماع غير واحد، كابن المنذر في:"الأوسط"، وابن هبيرة في:"الإفصاح"، وغيرهما.
والوسيلة في هذا المثال هي المشي إلى الصلاة، إذ إن القدمين آلة المشي والسير، واستعمالها راجع إلى الماشي، فعندما يقصد الصلاة ويستعمل هذه الآلة في الوصول إلى مقصده يُسمى المشي: وسيلة.
والمتممة في هذا المثال هو الرجوع إلى المحل الذي جاء منه المصلي، وإنما سمي متمما؛ لأن أصل عمل الصلاة انتهى بالوسيلة والمقصد، ولكن تمام صورة الذهاب إلى الصلاة وعملها لم تنتهِ إلا برجوع المكلَّف إلى المحل الذي خرج منه؛ لأنه حينئذ تمم عملا ذهب إليه واشتغل به.
وليُعلم أن القاعدة المشار إليها في كلام الناظم رحمه الله هي ما يطلق عليها الفقهاء: (للوسائل حكم المقاصد، وللزوائد حكم المقاصد) .
وبيان ذلك من المثال السابق، هو أن أداء الصلاة المفروضة مع الجماعة في المسجد واجب، فالوسيلة إليه تأخذ حكمه، وهي المشي، فتكون الوسيلة واجبة، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، كما هو مقرر في الأصول، ومتمِّم هذا الواجب له حكمه، من حيث الثواب والأجر؛ فقد جاء في:"الصحيح" وغيره أخبارٌ تفيد أن المصلي له أجرٌ وثوابٌ على ذهابه إلى الصلاة في المسجد حتى يعود إلى محله الذي جاء منه، قال شيخ الإسلام في:"المجموع": (وهذا المعنى وردت به أخبارٌ صحيحة) .
* * *
الإتلاف يستوي فيه المتعمد والجاهل والناسي
25-
والخطأُ والإكراهُ والنسيانُ
…
أسقطه معبودُنا الرحمانُ
"الشرح"
قوله: [والخطأ] :
هو في اللغة: ضد الصواب، قاله ابن منظور في:"لسان العرب". وأما في الاصطلاح الفقهي: فهو فعل الشيء عن غير قصد، قاله الراغب في:"المفردات"، وقال ابن رجب في:"شرح الأربعين": (الخطأ هو مجيء الشيء على قصد يقع خلافه، كمكلف أراد قتل مباح الدم، فبان له أنه معصوم الدم بعد قتله) :
وأما في الاستعمال الشرعي؛ فهو يأتي بمعنى: العمد، كقوله) {إنه كان خِطئاً كبيرا} حيث قرأ ابن عامر:{إنه كان خَطَئاً كبيرا} ، ويأتي بمعنى: غير العمد، كما في آية القتل؛ حيث فُرِّق بين العامد والمخطئ، ومن ثَمَّ فإن الخطأ قي اصطلاح الشارع قد يصحبه التأثيم، وقد يتأخر عنه، قاله شيخ الإسلام في"مجموع الفتاوي".
قوله: [الإكراه] :
من -الكَرْه- بالفتح- وهو المشقة، قاله الفرَّاء، وقيل من
الكُرْه -بالضم- فال ابن منظور في: " اللسان": (أجمع كثير من أهل اللغة على أن الكُره -بالضم- والكَره -بالفتح- لغتان لمعنى) ، ولكن ابن سِيْدَه والفرَّاء فَرَّقا بينهما، ولكن الاستعمال العربي جار على سحب معنى "الكُره بالضم" على "الكَره بالفتح" والعكس، كما قرره ابن منظور في:"اللسان".
والإكراه في الاصطلاح، هو إلزام الغير على ما لا يريده، فاله ابن حجر رحمه الله في:"فتح الباري"، وبنحوه قال السيوطي في:" الأشباه والنظائر".
قوله: [النسيان] :
هو السهو لغة، وقيل: الغفلة، ذكره الزَّبيدي في:"شرح القاموس" ويعرّفه الفقهاء: بأنه عارض طبيعي خفيف.
قوله: [أسقطه] :
أي أسقط التأثيم والعقاب المتعلِّقين بعدم فعل المأمور، أو بفعل المحظور خطئا أو كُرها أو نسيانا، قال ابن رجب رحمه الله في:"شرح الأربعين": (هذا الذي تُحْمَل عليه النصوص، لا على سقوط الأحكام المتعلِّقة بالنسيان والخطأ) .
وحاصل هذه القاعدة المذكورة في كلام الناظم هو أن تلك العوارض الثلاثة توجب عدم التأثيم، وحلول العقاب.
ودليل ذلك ما رواه ابن مارواه ابن ماجه وغيره من حديث ابن عباس-
رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه} ، قال النووي في:"الأربعين": (حديث حسن)، وصححه الحاكم في:"مستدركه"، وله طرقٌ كثيرة يتقوى بها، كما قاله الحافظ ابن حجر في:"فتح الباري".
وكذلك ما أخرجه مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (لما نزل قوله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إنا سينا أو أخطأنا} قال الله: قد فعلت) ، وبنحوه عن أبي هريرة عند مسلم.
ويدل على الإكراه قوله سبحانه: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} : حيث إنها نزلت في عمار بن ياسر رضي الله عنه-لما أُكْرِه على قول كلمة الكفر، كما رواه ابن جرير في:"تفسيره"، والبيهقي في:"السنن الكبرى". قال الحافظ في: "الفتح": (جاء ذلك من طرق مرسلة يقوي بعضهما بعضا) . قال ابن العربي في: "أحكام القرآن": (وهذا إن كان إكراها على قول الكفر إلا أن الفقهاء قاسوا عليه غيره من فروع الدين من باب أولى) .
فائدة:
يقسم الفقهاء الإكراه إلى قسمين:
الأول: إكراه تام بمعنى الإلجاء، ومثاله امرأة وُطِئَتْ زنا، لا خيار لها في ذلك.
والثاني: إكراه ناقص ليس بمعنى الإلجاء كالتهديد والوعيد
بضرب أو نحو ذلك.
نص على ذلك ابن رجب في: "شرح الأربعين"، والسيوطي في:"الأشباه والنظائر".
والإكراه الْمُسْقِط للعقاب والتأثيم هو ما توفرت فيه شروطٌ ذكرها الفقهاء، ومنهم الموفق في:"المغني"، وابن حجر في:"فتح الباري"، ، والسيوطي في "الأشباه والنظائر":
أولها: أن يكون الْمُكْرِه -بالكسر- قادراً على إنفاذ وعيده وتهديده.
وثانيها: أن يكون المكرَه -بالفتح- غير قادر على المدافعة ولا الفرار.
وثالثها: أن يكون في امتناع المكرَه -بالفتح- حصول الوعيد والتهديد.
ورابعها: أن يتيقَّن المكرَه -بالفتح- أو يغلب على ظنه أن المكرِه -بالكسر- سيوقع به ما هدده به أو توعده به.
وخامسها: أن يكون إيقاع المكروه بالمكرَه -بالفتح- بعد زمن قريب في العُرف أو وقت فوري في الحال، لا أن يكون متأخرا.
وليُعلمْ أن هناك اختلافاً بين الفقهاء في مورد الإكراه، هل هو في الأقوال فحسب، أو فيها والأفعال؟
جمهورهم على أن ذلك في الأفعال والأقوال، وهو المشهور