المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ تقديم- آفة الشعر عند ما يكون مدحا لغير رسول الله صلى الله عليه وسلم - مختارات من أجمل الشعر في مدح الرسول

[محمد سعيد البوطي]

الفصل: ‌ تقديم- آفة الشعر عند ما يكون مدحا لغير رسول الله صلى الله عليه وسلم

-‌

‌ تقديم- آفة الشعر عند ما يكون مدحا لغير رسول الله صلى الله عليه وسلم

كثيرون هم الذين مدحوا قديما على ألسنة الشعراء، من ملوك وخلفاء وأمراء وحكام. حتى غدا المدح موضوعا من أبرز موضوعات الشعر وأهمّ غرض من أغراضه.

غير أن فن المديح في الشعر، ظل ملازما لآفتين اثنتين، لم ينفكّ الشعر بسببهما عن اضطراب وضعف.

أولى الآفتين: الفجوة التي لا بدّ أن تظل قائمة تفصل بين طبيعة الشعر بحد ذاته، وواقع الممدوح أيا كان شأنه.. ذلك لأن طبيعة الشعر هي الغلوّ والافراط في كل ما يصفه ويعبّر عنه، وواقع الممدوح هو الاصطباغ بالنقص والضعف والأخطاء أيا كان، بحكم كونه إنسانا لا تنفك عنه سمة النقص والضعف. والشأن في ذلك أن يضعف من جدّية الشعر وتأثيره على النفس، ويفرغه من أكثر المضمون الذي يجمّله ويحببه.

الآفة الثانية: أنّ الدافع للشعراء إلى المديح، يتمثل في عوامل من الأطماع والآمال الخارجية أكثر من أن يتمثل في مشاعر صادقة من المحبة الداخلية. وإذا فرغ الشعر من صدق الشعور عاد صنعة كلامية وزخرفا لفظي. واقتصر طريقه إلى النفوس من هذه الزاوية وحدها

غير أن هاتين الآفتين لا يبدو لهما أي وجود، في الشعر الذي مدح به محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. أيا كان الشاعر، وأيا كان واقعه وشأنه.

ذلك لأن الشعر الذي يمدح به رسول الله صلى الله عليه وسلم، يتحرك ويعلو في ساحة الوصف والبيان كما يشاء، دون أي غلوّ أو تكلف. ومهما أوغل الشاعر في الوصف وسما في المديح والاطراء، لا يحسّ أنه اصطدم بحدود، أو تجاوز الحقيقة إلى الخيال، أو بالغ في الثناء.

إن الشعر يغدو، إذ يمدح به رسول الله، كالثوب الذي يأتي على قدر لابسه.

لا تجد في شيء من ذيوله أو أطرافه أي زيادة أو فضول.

ص: 5

وذلك أيضا، لأن الشاعر إذ يندفع إلى مدح محمد عليه الصلاة والسلام، لا يحمله على ذلك طمع في مغنم أو خوف من مغرم، مما كان يحمل الشعراء على طرق أبواب الأمراء والقيام بين أيديهم مثنين ومادحين.. وإنما يحدوه إلى ذلك شعور داخلي لاهب، وكثيرا ما يكون هذا الشعور نقدا ذاتيا من الشاعر لنفسه وأسى مريرا على العهود الغابرة من عمره، ورغبة ملحّة في الالتجاء الى ساحة النبوة، والانغماس- بعد الرحلة المضنية- في مغتسل طهور من الأنوار والرحمة المحمدية.

والنفس الانسانية ذات شأن عجيب! .. إنها قد توغل بصاحبها في أودية التيه او الضياع، ولكنها تظل في حين دائم إلى قمم النور وشطآن النجاة.. لا تعجب إن رأيت صاحب هذه النفس شاردا في سلوكه منحطّا في أفانين غيّه، ثم أصغيت منه مع ذلك إلى أنين يحنّ إلى الطهر، ولوعة تترامى على أعتاب الرحمة الإلهية، وتسفح الدمع سخيا أمام واسطة هذه الرحمة، محمد عليه الصلاة والسلام.

فإن أوتي مثل هذا الانسان، مع ذلك، بيانا من الشعر، كان له فيه أروع قيثار يستخرج صدق أحاسيسه النيرانية، بل النورانية اللاهبة، ويصوغها في شجو يأخذ اللب ويأسر النفس.

وإذا صحّ أنّ أعذب الشعر أكذبه، فلا ريب أن أحّر الشعر أصدقه! ..

وإنما عذوبة الشعر صنعة كلامية وصقل لألفاظ، أما حرارته فهي النبض الذي يبعث فيه الحياة التي تسري بالتأثير في قلوب الآخرين.. وقديما قالت العرب: ليست النائحة كالثكلى.

ولا أذكر أني قرأت قصيدة، لشاعر مجيد، يمدح فيها محمدا عليه الصلاة والسلام، إلا وتملّكني منها تأثير كبير، واستبدّت بي رقة تذيب النفس، أيا كان الشاعر ومهما كان شأنه.

وإنما مردّ ذلك، إلى ما قلت: الشعر الذي أخذ حظه، إذ تحرك في ميدان فسيح من الوصف والبيان والإطراء، دون أن تشمّ فيه رائحة غلو أو تكلف في القول.. والشاعر الذي أفرغ أحاسيس قلبه، لوعة وحبا وإجلالا، في واحة تلك العبارات والأوزان.

ص: 6

فإن كنت في شك مما أقول، فدونك فاستعرض قصائد هذا الكتاب، وإنما هي قطوف منوعة لشعراء مختلفين في المذهب والسلوك، متدرّجين في العصور والتاريخ، تجد مصداق ما أقول، وتشعرّ بزفرة الصدق في ثنايا كلام كل منهم.

ثم انظر إلى شعر البوصيري، على سبيل المثال، وقارن بينه إذ كان يمدح به أمراء عصره، طمعا في مغنم أو انتجاعا لرزق، وبينه إذ اتجه به إلى مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، تجد هناك التكلف الممجوج، والمعاني المفتعلة المصنّعة، وتجد هنا الرّفاء والرّصانة العجيبين، حتى لكأنّ شعره ينتشي ويطرب من ذاته، ثم تجد نفسك مأخوذا بمشاعر اللوعة الصادقة تسري في سائر جمله وكلماته! .. اصغ إليه وهو يقول:

يا رحيما بالمؤمنين إذا ما

ذهلت عن أبنائها الرّحماء

يا شفيعا في المذنبين إذا أش

فق من خوف ذنبه البرآء

جد لعاص، وما سواي هو العا

صي، ولكن تنكّري استحياء

كلّ يوم ذنوبه صاعدات

وعليها أنفاسه صعداء

أو ثقته من الذنوب ديون

شدّدت في اقتضائها الغرماء

ما له حيلة سوى حيلة المو

ثق إمّا توسل أو دعاء

راجيا أن تعود أعماله السّو

ء بغفران الله وهي هباء

أو ترى سيآته حسنات

فيقال استحالت الصّهباء

ولن أزيد عليك بعد هذه الأبيات وزخم المشاعر التي فيها، أي شيء. بل سأتركك مع واحة الشعر، تتنقّل من قصيد إلى قصيد، لترى مصداق ما أقول.

الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي

ص: 7