المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة المؤمنين بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ربّ يسّر وتمّم بالخير اخرج - التفسير المظهري - جـ ٦

[المظهري، محمد ثناء الله]

الفصل: ‌ ‌سورة المؤمنين بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ربّ يسّر وتمّم بالخير اخرج

‌سورة المؤمنين

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ربّ يسّر وتمّم بالخير اخرج الحاكم وصححه على شرط الشيخين عن ابى هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى رفع بصره الى السماء فنزلت.

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) فطأطا راسه واخرج ابن مردوية بلفظ كان يلتفت في السماء فنزلت- وذكره البغوي انه قال ابو هريرة كان اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون أبصارهم الى السماء في الصّلوة فلمّا نزل الّذين هم في صلاتهم خشعون رموا بأبصارهم الى مواضع السجود- واخرج ابن ابى حاتم عن ابن سيرين مرسلا كان الصحابة يرفعون أبصارهم الى السماء في الصّلوة فنزلت قرا ورش بإلقاء حركة همزة أفلح على دال قد وحذف الهمزة- وكلمة قد تثبت ما كان متوقعا- كما ان لمّا ينفيه- وتدل على ثباته إذا دخل على الماضي ولذلك تقرّبه من الحال- ولمّا كان المؤمنون متوقعين الفلاح بفضل الله صدّرت بها بشارة لهم- والفلاح قال في القاموس هو الفوز (يعنى بالمقصود) والنجاة ريعتى من المرهوب) والبقاء في الخير- وهو دنيوى واخروى والمراد هاهنا الفلاح الأخروي الكامل- وكماله ان لا يعذب أصلا لا في القبر ولا بالمناقشة في الحساب وشدائد يوم القيامة ولا بدخول النار ولا بصعوبة المرور على الصراط- ويفوز الى أعلى المقاصد في الجنان ومراتب القرب والرؤية والرضوان من الملك الديان

ص: 360

واما الفلاح في الجملة فغير مختص بالمتصفين بهذه الصفات المذكورة في تلك الآيات- بل هو لكل من قال لا اله الا الله قال الله تعالى فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ والايمان والتوحيد نفسه رأس الخيرات- ومن هاهنا قال ابن عباس قد سعد المصدقون بالتوحيد وبقوا في الجنة- وروى عن ابن عباس مرفوعا خلق الله جنة عدن ودلّى فيها ثمارها وشق فيها أنهارها ثم نظر إليها فقال تكلمى فقالت قد أفلح المؤمنون فقال وعزتى وجلالى لا يجاورنى فيك بخيل- رواه الطبراني قلت لعل المراد بالبخيل هاهنا هو الكافر فانه يتجل عن أداء حق الله تعالى في التوحيد واخرج ايضا الطبراني بسند اخر جيد عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خلق الله جنة عدن خلق فيها مالا عين رات ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ثم قال تكلمى فقالت قد أفلح المؤمنون- واخرج البزار والطبراني والبيهقي نحوه عن ابى سعيد الخدري مرفوعا والبيهقي عن مجاهد وعن كعب نحوه والحاكم عن انس نحوه واخرج ابن ابى الدنيا في صفة الجنة عن انس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خلق الله تبارك وتعالى جنة عدن من درة بيضاء ولبنة من ياقوتة حمراء ولبنة من زبرحد خضراء وملاطها المسك وحشيشها الزعفران وحصاها اللؤلؤ وترابها العنبر- ثم قال لها انطقى قالت قد أفلح المؤمنون- قال وعزتى لا يجاورنى فيك بخيل- قلت ويمكن ان يقال ان المراد بالفلاح دحول الجنة مطلقا ولو بعد التعذيب وذلك لجميع المؤمنين كما تدل عليه الأحاديث المذكورة- والتقييد في القران بالصفات المذكورة ليس للاحتراز بل لنمدح- فان شأن المؤمن يقتضى الاتصاف بتلك الصفات وعلى تقدير كون المراد بالفلاح الفلاح الكامل وكون التقييد بالصفات للاحتراز لا يدل تلك الآيات الا على الوعد بالفلاح الكامل للمؤمنين الكاملين المتصفين بتلك الصفات ولا ندل على نفى الفلاح عن غيرهم من المؤمنين- لانا لا نقول بمفهوم الصفة كما قرر

ص: 361

فى الأصول ان التقييد بالشرط او الصفة يجعل ما لا يوجد فيه الشرط او الصفة في حكم المسكوت عنه وهو المراد بالاحتراز لا انه يجعله في حكم المنطوق بنفي الحكم وقد انعقد الإجماع على ان اهل الكبائر من المؤمنين وان ماتوا بغير توبة مالهم الى الجنة وهم في مشيئة الله تعالى ان شاء عذبهم ثم يدخلهم الجنة وان شأغفر لهم بلا تعذيب- والخاشعون قال ابن عباس هم المخبتون أذلاء وقال الحسن خائفون وقال مقاتل متواضعون وقال مجاهد هو غض البصر وخفض الصوت وعن على كرم الله وجهه هو ان لا يلتفت يمينا ولا شمالا وقال سعيد بن جبير لا يعرف من على يمينه ولا من على شماله ولا يلتفت من الخشوع لله تعالى وقال عمرو بن دينار هو السكون وحسن الهيئة وقال جماعة هو ان لا ترفع بصرك عن موضع سجودك وقال عطاء هو ان لا تعبث بشيء من جسدك في الصلاة- وقيل الخشوع في الصلاة هو جمع الهمة لها والاعراض عما سواه والتدبر فيما يجرى

على لسانه من القراءة والذكر- وان لا يجاوز مصلاه ولا يلتفت ولا يغيب ولا يميل ولا يفرقع أصابعه ولا يقلّب الحصى ولا يفعل شيئا مما يكره في الصّلوة وعن ابى الدرداء هو اخلاص المقال وإعظام المقام واليقين التام وجمع الاهتمام وفي القاموس الخشوع هو الخضوع اى التواضع او هو قريب من الخضوع او هو في البدن والخشوع في الصوت والبصر والسكون والتذلّل- وفي النهاية الخشوع في الصوت والبصر كالخضوع في البدن- عن ابى ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يزال الله عز وجل مقبلا على العبد ما كان في صلاته ما لم يلتفت فاذا التفت اعرض عنه رواه احمد وابو داود والنسائي والدارمي وعن عائشة قالت سالت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة قال هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلوة العبد- متفق عليه وعن انس بن مالك قال قال النبي صلى الله عليه وسلم ما بال أقوام يرفعون أبصارهم

ص: 362

الى السماء في صلاتهم- فاشتد قوله في ذلك حتى قال لينتهين عن ذلك او ليتخطفن أبصارهم- رواه البغوي وروى مسلم والنسائي عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لينتهين أقوام عن رفعهم أبصارهم عند الدعاء في الصلاة الى السماء او ليختطفن أبصارهم وعن جابر بن سمرة بلفظ لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم الى السماء في الصلاة او لا يرجع إليهم أبصارهم- رواه احمد ومسلم وابو داود وابن ماجة وعن ابى هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم راى رجلا يعبث بلحيته في الصّلوة فقال لو خشع «1» قلب هذا لخشعت «2» جوارحه- رواه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول بسند ضعيف وعن ابى الأحوص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا قام أحدكم الى الصلاة فلا يمسح الحصى فان الرحمة تواجهه رواه البغوي ورواه احمد وابن عدى والنسائي وابن ماجة وابن حبان عن ابى ذر (فصل) وعن انس ان النبي صلى الله عليه وسلم قال له يا انس اجعل بصرك حيث تسجد- رواه البيهقي في سننه الكبير وعنه قال قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم يا بنى إياك والالتفات في الصّلوة فان الالتفات في الصّلوة هلكة فان كان لا بد ففى التطوع لا في الفريضة.

وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ قال عطاء عن ابن عباس عن الشرك وقال الحسن عن المعاصي قلت والاولى أن يقال عما لا يفيدهم في الاخرة كلاما

(1) عن ابى بكر الصديق رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعوذ بالله من خشوع النفاق- قالوا يا رسول الله وما خشوع النفاق قال خشوع البدن ونفاق القلب- وعن مجاهد عن عبد الله بن الزبير انه كان يقوم في الصّلوة كانه عود وكان أبو بكر يفعل ذلك 12 منه رح

(2)

عن اسماء بنت ابى بكر عن أم رومان والدة عائشة قالت رانى أبو بكر الصديق أتميل في صلاتى فزجرنى زجرة كدت انصرف من صلاتى قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا قام أحدكم في الصلاة فليسكن أطرافه لا يتميل تميل اليهود فان سكون الأطراف في الصّلوة من تمام الصّلوة- 12 ازالة الخفا منه رح-

ص: 363

كان او غيره ولا يحمد عليه من قول او فعل مُعْرِضُونَ (3) فضلا عن ارتكابهم ما يضرهم من الشرك والمعاصي- وقيل هو معارضة الكفار بالشتم والسبّ قال الله تعالى وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً- اى إذا سمعوا الكلام القبيح أكرموا أنفسهم عن الدخول فيه- قال البيضاوي هو ابلغ من الذين لا يلهون بوجوه جعل الجملة اسمية وبناء الحكم على الضمير والتعبير عنه بالاسم وتقديم الصلة عليه واقامة الاعراض مقام الترك ليدل على بعدهم عنه رأسا مباشرة وتسبيبا وميلا وحضورا فان أصله ان يكون في عرض غير عرضه وكذلك قوله.

وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (4) الزكوة يطلق على القدر الواجب الّذي يخرجه المزكى من النصاب وعلى فعل المزكى والمراد هاهنا هو الفعل لان الفاعل انما يفعل الفعل دون العين وجاز ان يراد العين بتقدير المضاف يعنى لاداء الزكوة فاعلون- وفي لفظ فاعلون دلالة على المداومة ودخول اللام لتقدم المفعول وضعف اسم الفاعل عن العمل يقال هذا ضارب لزيد ولا يقال ضرب لزيد- وقيل الزكوة هاهنا هو العمل الصّالح اى والذين هم للعمل الصالح فاعلون.

وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) الفرج اسم لجميع سوءة الرجل والمرأة وحفظ الفرج التعفف عن الحرام.

إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ صلة لحافظون من قولك احفظ علىّ عنان فرسى يعنى لا تطلقه- واستقام المعنى لتضمن الحفظ معنى نفى البذل او صلة لمقدور هو لا يبذلونها لدلالة قوله غير ملومين عليه- وجاز ان يكون المستثنى المفرغ منصوبا على الحال والتقدير حافظون لفروجهم في جميع الأحوال الا قادرين على أزواجهم اى زوجاتهم أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ اى سرياتهم يعنى ناكحين او مالكين قال البيضاوي انما قال ما اجراء للمماليك مجرى غير ذوى العقول إذ الملك اصل شائع فيه قلت بل المراد منه الإماء فان النساء لقلة عقلهن ملحقات بغير ذوى العقول ولذلك يستعمل ضمائر التأنيث لغير ذوى العقول- فايراد كلمة ما للدلالة

ص: 364

على ان المراد به الإماء دون العبيد من المماليك فلا يجوز للنساء الاستمتاع بفروح عبيدهم فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فى إتيانها والضمير المنصوب لحافظون ولمن دل عليه الاستثناء اى فان بذلوها على أزواجهم او امائهم فانّهم غير ملومين.

فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ المستثنى اى طلب سوى الأزواج والإماء المملوكة لبذل الفرج فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (7) اى الكاملون في الظلم والعدوان المتجاوزون عن الجلال الى الحرام وهذه الاية ناسخة لمتعة النساء- عن ابن عباس قال انما كانت المتعة في اوّل الإسلام كان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة فيتزوج بقدر ما يرى انه مقيم فتحفظ له متاعه وتصلح له شيئه حتى إذا نزلت الّا على أزواجهم او ما ملكت ايمانهم قال ابن عباس فكل فرج سواهما فهو حرام- رواه الترمذي ولا شك ان النساء اللاتي يتمتع بهن لسن من الأزواج للاجماع على عدم التوارث بينهم حتى لا تقول الروافض ايضا بالتوارث- وقد قال الله تعالى وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ وقد ذكرنا مسئلة متعة النساء في تفسير سورة النساء في تفسير قوله تعالى فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً- وايضا في هذه الآية دليل على ان الاستمناء باليد حرام- وهو قول العلماء قال ابن جريج سالت عطاء عنه فقال مكروه سمعت ان قوما يحشرون وأيديهم حبالى وأظن انهم هؤلاء- وعن سعيد بن جبير قال عذب الله امة كانوا يعبثون بمذاكيرهم.

وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ قرا ابن كثير هاهنا وفي المعارج لامنتهم على التوحيد والباقون بالجمع وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (8) اى لما يؤتمنون عليه ويعاهدون من جهة الحق كالصلوة والصوم وغيرهما من العبادات الّتي أوجبها الله تعالى- او من جهة الخلق كالودائع والبضائع وما واعد الناس وعاقدهم فعلى العبد الوفاء بجميعها عن ابى هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ان اوّل ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته فان صلحت فقد أفلح

ص: 365

وأنجح وان فسدت فقد خاب وقد خسر فان انتقص من فريضته شيء قال الرب تبارك وتعالى انظروا هل لعبدى من تطوع فيكمل بها ما انتقص من الفريضة ثم يكون سائر عمله على ذلك- وفي رواية ثم الزكوة مثل ذلك ثم يؤخذ الأعمال على حسب ذلك- رواه ابو داود ورواه احمد عن رجل.

وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ قرا حمزة والكسائي صلاتهم على التوحيد والباقون على الجمع يُحافِظُونَ (9) اى يواظبون عليها ويؤدونها في أوقاتها- ولفظ الحفظ لما في الصّلوة من التجدد والتكرار- وليس تكريرا لما وصفهم به اولا لان الخشوع في الصّلوة غير المحافظة عليها- وفي تصدير ذكر الصّلوة والختم بامرها تعظيم لشأنها ووحدت الصّلوة في الأمر باخشوع لافادة انه لا بد من الخشوع في جنس الصّلوة ايّة صلوة كانت وجمعت في المحافظة عند اكثر القراء آخرا ليفاد المحافظة على أنواعها من الفرائض والواجبات والسنن والنوافل.

أُولئِكَ اى الجامعون لهذه الصفات هُمُ الْوارِثُونَ (10) الاحقاء بان يسموا وارثا دون غيرهم جملة معترضة للمدح.

الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ صفة للوارثين بيان لما يرثونه والتقييد للوراثة بعد إطلاقها تفخيما لها وتأكيدا يعنى يرثون منازل الكفار الّتي أعدت لهم ان أمنوا- عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منكم من أحد إلا له منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار فاذا مات فدخل النار ورث اهل الجنة منزله فذلك قوله تعالى أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ- رواه ابن ماجة وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم وابن مردوية والبيهقي في البعث واخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير والحاكم وصححه عن ابى هريرة بلفظ يرثون مساكنهم ومساكن إخوانهم الّتي أعدت لهم لو أطاعوا الله- واخرج ابن ماجة عن انس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من فرمن ميراث وارثه قطع الله ميراثه من الجنة- وقال بعضهم معنى الوراثة هو انه يؤل أمرهم الى الجنة وينالونها كما يؤل امر الوارث الى الميراث- والفردوس أعلى الجنة و

ص: 366

قد مر ذكره مشروحا في سورة الكهف هُمْ فِيها الضمير راجع الى فردوس وتأنيث الضمير لكونه اسما للجنة خالِدُونَ (11) لا يموتون فيها ولا يخرجون منها جملة مستأنفة روى احمد والترمذي والنسائي والحاكم عن عمر بن الخطاب قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا انزل عليه الوحى سمع عند وجهه دوى كدوى النحل فانزل عليه يوما فمكثنا ساعة فسرى عنه فاستقبل القبلة ورفع يديه وقال اللهم زدنا ولا تنقصنا وأكرمنا ولاتهنّا وأعطنا ولا تحرمنا واثرنا ولا تؤثر علينا وارضنا وارض عنا ثم قال انزل على عشر آيات من أقامهن دخل الجنة ثم قرأ قد أفلح المؤمنون حتى ختم عشر آيات- قال النسائي منكر وصححه الحاكم وهذه الآية جامعة لابواب الخير كلها فان الله تعالى وصف المؤمنين بالخشوع في الصّلوة والمواظبة على الزكوة والاعراض عن اللغو والتجنب عن المحرمات وسائر ما يوجب المروة اجتنابه- فظهر انهم بلغوا الغاية على الطاعات البدنية والمالية والتطهر والتنزه للتجليات الذاتية والصفاتية والله اعلم-.

وَلَقَدْ خَلَقْنَا جنس «1» الْإِنْسانَ او آدم عليه السلام ولهذا جواب قسم محذوف والجملة معطوفة على قوله قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ فانه كان في ذكر الايمان واصناف العبادات والطاعات وهذه الجملة لبيان استحقاقه تعالى العبادة والطاعة وسبب وجوبها- فكانه قال وقد حق لهم ان يعبدونا ويوحدونا لانّا والله لقد خلقناهم مِنْ سُلالَةٍ اى خلاصة سلت من بين الكدر ومن للابتداء مِنْ طِينٍ (12) من للبيان اى سلالة هو طين صفة لسلالة- اى سلالة كائنة من طين سلت من وجه الأرض- وكان آدم من طين سلت من الأرض وسائر الناس من النطف الّتي هى من الاغذية الّتي هى من الأرض- وجاز ان يكون ظرفا لغوا متعلقا بمعنى سلالة لانها بمعنى مسلولة

(1) الاولى ولقد خلقنا الإنسان اى جنسه إلخ لان ما اختاره المفسر العلام رحمه الله تعالى يلزم عليه جر لفظة الإنسان وهو منصوب فتامل- الفقير الدهلوي-

ص: 367

فيكون من ابتدائية وقال الكلبي المراد بالطين آدم عليه السلام والمعنى خلقنا جنس الإنسان من نطفة سلت من طين هو آدم عليه السلام اخرج عبد الرزاق وابن جرير وعبد بن حميد وابن ابى حاتم عن قتادة ان المراد بالطين آدم عليه السلام واخرج عبد بن حميد عن مجاهد في قوله تعالى مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ قال من منى بنى آدم قال البغوي وروى عن ابن عباس انه قال السلالة صفوة الماء وقال عكرمة هو الماء سل من الظهر والعرب تسمى النطفة سلالة.

ثُمَّ جَعَلْناهُ اى السلالة وتذكير الضمير على تأويل المسلول نُطْفَةً وجاز ان يكون الضمير راجعا الى الإنسان ونطفة منصوبا بنزع الخافض فان كان المراد بالإنسان آدم فمضاف الضمير محذوف أقيم المضاف اليه مقامه والمعنى ثم خلقنا ذلك الجنس من نطفة او خلقنا بنيه من نطفة كائنة فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) اى مقر حريز وهو الرحم والمكين في الأصل صفة للمستقر وصف به المحل مبالغة كما عبر عنه بالقرار وهو مصدر.

ثُمَّ خَلَقْنَا اى صيرنا النُّطْفَةَ البيضاء عَلَقَةً حمراء فَخَلَقْنَا صيرنا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً قطعة لحم قدر ما يمضغ فَخَلَقْنَا صيرنا الْمُضْغَةَ عِظاماً بان صلبناها فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً مما بقي من المضغة او مما أنبتنا عليها مما يصل إليها- ولحما منصوب بنزع الخافض اى كسونا العظام بلحم او هو مفعول ثان لكسونا لتضمنه معنى أعطينا يقال كسوت زيدا حلة اى أعطيته إياها قرأ الجمهور عظاما والعظام في الموضعين بلفظ الجمع لاختلافها في الهيئة والصلابة- وقرا أبو بكر وابن عامر عظما والعظم على التوحيد اكتفاء باسم الجنس عن الجمع ثُمَّ أَنْشَأْناهُ الضمير عائد الى السلالة او الى الإنسان سواء كان المراد به الجنس او آدم عليه السلام ولا حاجة هاهنا الى تقدير المضاف خَلْقاً آخَرَ مصدر لا نشأنا من غير لفظه يعنى خلقناه خلقا اخر او مفعول ثان له بتضمينه معنى صيرنا- وجاز ان يكون بدل اشتمال للضمير المنصوب والمعنى انشأناه اى السلالة او الإنسان خلقا اخر

ص: 368

اى انشأنا خلقا اخر- قال ابن عباس ومجاهد والشعبي وعكرمة والضحاك وابو العالية هو نفخ الروح فيه- قلت لعل المراد بالروح في قولهم هو الروح السفلى المسمى بالروح الحيواني وبالنفس الّتي هى مركب للروح العلوي الّذي هو من عالم الأرواح ومقره فوق العرش في النظر الكشفى وليس هو بمكاني- والنفس هى البخار المنبعث من العناصر المصور على هيئة الجسم وهو جسم لطيف سار في الجسم الكثيف وعلى هذا يصح إرجاع ضمير انشأناه الى السلالة- بخلاف ما إذا كان المراد به الروح العلوي فانه غير ماخوذ من السلالة- وايضا كلمة ثم تدل على ذلك فان خلق الأرواح العلوية قبل خلق الأبدان فان الأبدان لم تكن موجودة حين أخذ الله الميثاق من الأرواح- واما نفخ الروح فهو صفة من صفاته تعالى قال الله تعالى وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي- وان كان تاخره من تكسية العظام صادق باعتبار تأخر تعلق الصفة القديمة- اللهم الا ان يقال المراد بالانشاء نفخ الروح لا خلق الروح والله اعلم عن ابن مسعود قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق ان خلق أحدكم يجمع في بطن امه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله اليه ملكا بأربع كلمات فيكتب عمله واجله ورزقه وشقى او سعيد ثم ينفخ فيه الروح- فو الّذي لا اله غيره ان أحدكم ليعمل بعمل اهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها الاذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل اهل النار- وان أحدكم ليعمل بعمل اهل النار حتى ما يكون بينه وبينها الاذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل اهل الجنة- متفق عليه فان قيل ورد في الحديث تحويلات خلق الإنسان بكلمة ثم وهى تدل على التراخي وفي كتاب الله بكلمة الفاء وهى للتعقيب فما وجه التطبيق بينهما- قلت ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين كل تحويل أربعين يوما وذلك زمان طويل يقتضى العطف بكلمة ثم لكن الله سبحانه أورد كلمة الفاء للدلالة على ان تلك المدة الطويلة وهى أربعون يوما قصيرة جدّا نظرا الى ما يقتضى تفاوت كل طور منها الى طور اخر- واما إيراد كلمة

ص: 369

ثم في بعض المواضع وكلمة الفاء في بعضها فلتفاوت الاستحالات- الا ترى ان استحالة السلالة الى النطفة في غاية البعد- واستحالة النطفة الّتي استقرت في صلب الرجل وترائب المرأة زمانا طويلا- ثم وصلت في رحم المرأة وامتزجت هناك وبقيت في الرحم نطفة أربعين يوما- ثم تحولت الى العلقة ايضا لطول زمانه وتراخيه يقتضى العطف بكلمة ثم بخلاف التحويلات الاخر من العلقة الى المضغة ومن المضغة الى العظام والى تكسية العظام لحما فكل ذلك ليس بتلك المثابة من البعد- ولاجل ذلك أوردها بلفظة الفاء وأورد كلمة ثم في قوله ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ للتراخى في الرتبة وكمال التفاوت بين الخلقتين والله اعلم (مسئلة) هذه الاية تدل على انه من غصب بيضة فافرخت عنده ثم مات الفرخ- او أخذ من الحرم بيضة فاخرجها الى الحل ثم افرخت لزمه ضمان البيضة دون الفرخ لانه خلق اخر وفيه الروح السفلى وهو الروح الحيواني والله اعلم- وقال قتادة معنى قوله ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ نبات الأسنان والشعر وروى ابن جريج عن مجاهد انه استواء الشباب وعن الحسن قال ذكر او أنثى- وروى العوفى عن ابن عباس

ان ذلك تصريف أحواله بعد الولادة من الاستهلال الى الارتضاع الى القعود الى القيام الى المشي الى الفطام الى أن يأكل ويشرب الى ان يبلغ الحلم وينقلب في البلاد الى ما بعدها- قلت ويمكن ان يكون المراد بقوله تعالى ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ الولادة الثانية الّتي يكون للفقراء بالفناء والانخلاع من الصفات البهيمية والسبعية والبشرية الى الصفات الملكية والارتقاء منها الى الصفات الرحمانية والبقاء بذات الله تعالى او بصفاته القدسية وهذا التأويل أليق بالعطف بكلمة ثم فَتَبارَكَ اللَّهُ اى تعالى وتعظّم من ان يتخذ له شريكا او بتهاون في امتثال أوامره او الانتهاء عن مناهيه- والفاء للسببيّة فان اتصافه تعالى بما ذكر من الخلق دليل على كمال قدرته وحكمته يقتضى الحكم بكبريائه وعظمته

ص: 370

وعلو منزلته واستحالة شريكه أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (12) بدل من الله او خبر مبتدا محذوف وليس بصفة لانه نكرة وان أضيف لان المضاف اليه عوض من من التفضيليّة والتميز هاهنا محذوف تقديره احسن الخالقين خلقا فترك ذكر المميز لدلالة الخالقين عليه واحتجت المعتزلة بهذه الاية على ان العباد خالقون لافعالهم الاختياريّة حتى يتحقق التفضيل- وقد دلت البراهين العقليّة والادلة الشرعيّة على أن الافعال الاختياريّة للعباد مخلوقة لله تعالى حيث قال الله تعالى خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ- ولان الممكن الّذي لا يقتضى ذاته وجوده لا يتصور ان يقتضى ذاته وجود غيره وعليه انعقد اجماع الصحابة ومن بعدهم من علماء النصيحة- فالجواب عن استدلال المعتزلة انا لا ننكر ان للعباد في أفعالهم الاختياريّة نوعا من الارادة والاختيار وذلك الارادة والاختيار مناط التكليف ومنشأ الثواب والعقاب وموجب لاسناد الافعال إليهم ونسمّيه بالكسب- لكن ذلك الارادة والاختيار غير كافية لايجاد معدوم أصلا جوهرا كان او عرضا وانما الإيجاد بقدرة الله الكاملة وإرادته واختياره- وتعلق قدرته وإرادته واختياره بمخلوق نسمّيه خلقا وذلك كاف لايجاد كل معدوم- غير ان الله سبحانه اقتضت حكمته (وان خفيت علينا) ان يجعل لكسب العبد ايضا مدخلا في بعض أفعالهم- فنزاعنا مع المعتزلة في المعنى فانهم يقولون ان قدرة العبد وإرادته كاف لايجاد المعدوم ونحن لا نقول به ولا نزاع لنا في جواز اطلاق لفظ الخلق على كسب العبد فانه نزاع لفظى- وكلمة احسن الخالقين انما تدل على صحة اطلاق لفظ الخلق لغة على معنى الكسب والخلق المصطلحين ومن هاهنا قال مجاهد معناه يصنعون ويصنع الله والله خير الصانعين- يقال رجل خالق اى صانع وقال الله تعالى وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً وقال الله تعالى حكاية عن عيسى أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ- وقيل معنى الخالقين هاهنا المصورين او المقدرين والخلق في اللغة التقدير وقبل

ص: 371

هذا على سبيل الفرض وفرض المحال ليس بمحال يعنى لو فرضنا تعدد الخالقين- ركما هو رأى المعتزلة مجوس هذه الامة فالله تعالى أحسنهم اخرج ابن ابى حاتم عن عمر قال وافقت ربى في اربع نزلت وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ الآيات فلمّا نزلت قلت فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ فنزلت فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ الحديث- وهذه القصة تدل على ان ما دون الاية ليس بمعجز يقدر عليه البشر حيث نطق به عمر رضى الله عنه- وقيل ان عبد الله بن سعد بن ابى سرح كان يكتب للنبى صلى الله عليه وسلم فنطق بذلك قبل إملائه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتب هكذا نزلت فقال عبد الله ان كان محمد نبيّا يوحى اليه فانا نبى يوحى الىّ فارتد ولحق بمكة- فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة أهدر دمه فيمن أهدر من الدماء فجاء الى عثمان بن عفان فاستأمن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فصمت طويلا ثم قال نعم فلما انصرف عثمان قال النبي صلى الله عليه وسلم ما صمتّ الا لتقتلوه فقال رجل هلّا او مأت إلينا يا رسول الله فقال ما كان لنبى ان يكون له خائنة الأعين ثم اسلم ذلك اليوم وحسن إسلامه قلت ذكر في سبيل الرشاد ارتداده واهدار النبي صلى الله عليه وسلم دمه وشفاعة عثمان وغير ذلك لكن لم يذكر ان سبب ارتداده كان نطقه بهذه الاية قبل إملائه ولا يتصور ان يكون هذا سببا لارتداده لان ارتداده كان بالمدينة وهذه السورة مكية والله اعلم.

ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ اى بعد ما ذكرنا من أمركم لَمَيِّتُونَ (15) عند انقضاء اجالكم اى لصائرون الى الموت لا محالة ولذلك ذكر صيغة النعت الّذي هو للثبوت دون اسم الفاعل وهذه الجملة مع ما عطف عليه معطوف على ولقد خلقنا الإنسان الى اخر الآيات وفيه التفات من الغيبة الى الخطاب وانما أكد الجملة بانّ واللام لكون الناس مصرين على ارتكاب المعاصي وذلك دليل على انكارهم الموت والبعث فنزلوا منزلة المنكرين لهما- قال البغوي

ص: 372

ان الميّت بالتشديد والمائت الّذي لم يمت بعد وسيموت- والميت بالتخفيف من مات ولذلك لم يجز التخفيف هاهنا كقوله تعالى إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ وفي القاموس مات يموت ويمات ويميت فهو ميت بالتخفيف وميّت بالتشديد والمائت الّذي لم يمت بعد.

ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (16) من القبور للمحاسبة والمجازاة.

وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ جواب قسم محذوف معطوف على قوله ولقد خلقنا الإنسان سَبْعَ طَرائِقَ اى سبع سموات لانها طورق بعضها فوق بعض مطارقة النعل- وكل ما فوقه مثله فهو طريقه او لانها طراق الملائكة او الكواكب فيها مسيرها وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ عن جنس المخلوق غافِلِينَ (17) اى مهملين أمرها بل نحفظها عن الزوال والاختلال وندبر أمرها حتى يبلغ منتهى ما قدرنا لها من الكمال على ما اقتضته الحكمة وتعلقت به المشية فتمسك السماء ان تقع على الأرض- وهذه الجملة اما حال من فاعل خلقنا او معطوف على قوله لقد خلقنا وهو واقع في مقام التعليل- يعنى خلقنا فوقكم سبع طرائق لنفتح عليكم الأرزاق والبركات منها وتطلع عليكم الشمس والقمر والكواكب لانا ما كنا عنكم وعما يصلح شأنكم غافلين.

وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مطرا عطف على خلقنا بِقَدَرٍ اى بمقدار ما علمنا صلاحهم فَأَسْكَنَّاهُ عطف على ما سبق اى جعلناه ثابتا مستقرا فِي الْأَرْضِ فقيل المراد به ما يبقى في الحياض والغدر ان ينتفع به الناس عند انقطاع المطر- وقيل المراد به ما تتشربه الأرض ويدخل في مساماتها فيخرج منها في الأرض ينابيع- فماء الأرض على هذا كله من السماء وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ عطف على فاسكناه يعنى على إزالته بالإفساد او التصعيد او التعميق بحيث يتعذر عليكم استنباطه- وفي تنكير ذهاب ايماء الى كثرة طرقه ومبالغة في الإيعاد لَقادِرُونَ (18) كما كنا قادرين على انزاله يعنى

ص: 373

لو فعلنا ذلك لهلكتم عطشانا وهلكت مواشيكم ويخرب اراضيكم- قال البغوي وفي الخبر ان الله تعالى انزل أربعة انهار من الجنة سيحان وجيحان ودجلة والفرات وقال روى الامام الحسن بن سفيان عن عثمان بن سعيد بالاجازة عن سعيد بن سابق الإسكندراني عن سلمة بن على عن مقاتل بن حبان عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ان الله تعالى انزل من الجنة خمسة انهار سيحون وجيحون ودجلة والفرات والنيل أنزلها الله عز وجل من عين واحدة من عيون الجنة من أسفل درجة من درجاتها على جناحى جبرئيل عليه السلام استودعها الجبال وأجراها في الأرض وجعل منافع للناس فذلك قوله تعالى وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ- وإذا كان عند يأجوج ومأجوج أرسل الله جبرئيل فرفع من الأرض القران والعلم كله والحجر الأسود من ركن البيت ومقام ابراهيم وتابوت موسى بما فيه وهذه الأنهار الخمسة فيرفع كل ذلك الى السماء فذلك قوله وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ- فاذا رفعت هذه الأشياء من الأرض فقد أهلها خير الدين والدنيا- قلت ولعل جميع انهار الدنيا من عيون الجنة وانما ذكر الخمسة في الحديث على سبيل التمثيل والله اعلم-.

فَأَنْشَأْنا عطف على أنزلنا لَكُمْ بِهِ اى بالماء جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها اى في جنات فَواكِهُ كَثِيرَةٌ تتفكهون بها سوى النّخيل والأعناب وَمِنْها اى من الجنات يعنى من ثمارها وزروعها تَأْكُلُونَ (19) تغذيا او ترزقون وتحصلون معايشكم من قولهم فلان يأكل من حرفته- ويجوز ان يكون الضمير ان للنخيل والأعناب اى لكم في ثمراتها انواع من الفواكه الرطب والعنب والتمر والزبيب والعصير والدبس وغير ذلك وخص النخيل والأعناب بالذكر لانهما اكثر فواكه العرب- وجملة منها تأكلون حال من فاعل الظرف اعنى لكم فيها فواكه او معطوف عليه ولجنات او نخيل.

وَشَجَرَةً عطف على جنات تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ وهى الزيتون قرا اهل الحجاز

ص: 374

وابو عمرو سيناء بكسر السين- وابن عامر ويعقوب والكوفيون بفتحها- اختلفوا في معناه وفي سينين قال مجاهد معناه البركة اى من جبل مبارك وقال قتادة والضحاك وعكرمة معناه الحسن اى جبل حسن قال الضحاك هو بالنبطية وقال عكرمة بالحبشية- وقال الكلبي معناه ذو شجر قيل هو بالسريانية الملتف بالأشجار وقال مقاتل كل جبل فيه أشجار مثمرة فهو سيناء وسينين بلغة النبط- وقال مجاهد سيناء اسم حجارة بعينها أضيف إليها الجبل لوجودها عنده- وقال عكرمة هو اسم المكان الّذي به هذا الجبل- وقيل المركب منهما اسم لجبل بين مصر وأيلة نودى منه موسى كامرا القيس كذا قال ابن زيد- ومنع صرفه للتعريف والعجمة او التأنيث على تأويل البقعة والعجمة لا للالف لانه فيعال كديماس من السناء بمعنى الرفعة او بالقصر بمعنى النور او ملحق بفعلال إذ لا فعلاء بألف التأنيث هذا على قراءة اهل الحجاز- واما على قراءة الكوفيين فهو فيعال ككيسان او فعلاء كصحراء فالالف للتأنيث لا فعلال إذ ليس في كلامهم.

تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ قرا ابن كثير وابو عمرو ويعقوب بضم التاء وكسر الباء من الافعال يعنى زيتونها متلبّسا بالدهن قال الزجاج الباء للحال اى ومعها الدهن وقيل الباء على هذا زائدة اى تنبت الدهن- وقيل أنبت بمعنى نبت والمعنى على حسب قراءة الباقين بفتح التاء وضم الباء من المجرد اى تنبت متلبّسا بالدهن مستصحبا له- ويجوز ان يكون للتعدية فيكون معناه تنبت الدّهن وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) معطوف على الدهن جار على إعرابه عطف أحد وصفي الشيء على الاخر اى تنبت بالشيء الجامع بين كونه دهنا يدهن به ويسرج منه وكونه أدما يصبغ به الخبز اى يغمس فيه للايتدام- قال البغوي الصبغ والصباغ الادام الّذي يغمس فيه الخبز فينصبغ والادام كل ما يؤكل مع الخبز سواء ينصبغ به الخبز اولا قال مقاتل جعل الله في هذا الشجر أدما ودهنا فالادم الزيتون والدهن الزيت وقال خض الطور بالزيتون لان أول الزيتون نبت بها ويقال ان الزيتون أول

ص: 375

شجرة نبت في الدنيا بعد الطوفان

وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً اية بحالها وتستدلون بها على كمال القدرة والحكمة لصانعها عطف على فانشأنا لكم- ولمّا كان الناس غافلون عن الاعتبار نزلوا منزلة اهل الإنكار وأكد الجملة. نُسْقِيكُمْ قرا نافع وابن عامر وأبو بكر ويعقوب بفتح النون على صيغة المتكلم من المجرد والباقون بضم النون على صيغة المتكلم من الافعال كما ذكرنا في سورة النحل- وابو جعفر هاهنا بالتاء وفتحها على صيغة المؤنث الغائب من المجرد والضمير حينئذ راجع الى الانعام مِمَّا فِي بُطُونِها من الألبان أو من العلف فان اللبن يستلون منه فمن للتبعيض او للابتداء وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ في ظهورها واشعارها وأصوافها وأوبارها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (21) فتنتفعون بأعيانها.

عَلَيْها

اى على الانعام فان منها ما يحمل عليه كالابل والبقر وقيل المراد الإبل لانها هى المحمول عليها عند العرب والمناسب للفلك فانها سفائن البر قال ذو الرمة سفينة برّ تحت خدى زمامها- والضمير فيه كالضمير في وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ

عَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ

(22)

فى البر والبحر وجملة نسقيكم الى آخرها بيان للعبرة فان ما اخرج الله تعالى مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ آية للاعتبار على كمال قدرته- وانقياد الانعام للحلب وجزّ الصوف والشعر والحمل والذبح وغير ذلك مع كمال قوتها وضعف الإنسان اية اخرى.

وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ عطف على قوله ولقد خلقنا الإنسان ذكر في صدر السورة حال المؤمنين المطيعين ثم عقبه بالآيات المقتضية للإيمان والطاعة ثم عقبه بذكر الكافرين الطاغين وما ال اليه أمرهم فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ أطيعوه ووحدوه ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ استيناف لتعليل الأمر بالعبادة قرأ الكسائي غيره بالجر حملا على لفظة اله والباقون بالرفع حملا على محله أَفَلا تَتَّقُونَ (23) عطف على محذوف يعنى اتشركون به فلا تتّقون ان يزيل ما بكم من نعمائه ويعذبكم باشراككم إياه غيره في العبادة

ص: 376

وكفرانكم آلاءه.

فَقالَ الْمَلَأُ الاشراف الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ فيما بينهم ما هذا يعنى نوحا عليه السلام إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يأكل ويشرب وينام فكيف يكون رسولا من الله- وهذا القصر قصر قلب فان من يدعى الرسالة كانه منكر لكونه بشرا ومدع لكونه ملكا على زعمهم الفاسد فقالوا على قلب دعواه ليس هذا ملكا وليس هذا شيئا الّا بشرا- ومبنى هذا القصر على انهم أنكروا ان يكون البشر لله رسولا مع ما ادعوا ان يكون الحجر له تعالى شريكا قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ

يُرِيدُ بادعائه الرسالة أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ اى يطلب ان يكون له الفضل عليكم ويسودكم جملة يريد صفة بعد صفة لبشر او مستأنفة كانه قيل ما يريد بادعائه الرسالة وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ان لا يعبد غيره او ان يرسل رسولا- لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً رسلا ما سَمِعْنا بِهذا الّذي يدعيه نوح من التوحيد والمسألة والبعث بعد الموت فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) وذلك اما لفرط عنادهم او لكونهم في فترة متطاولة- جملة ما سمعنا حال من فاعل يريد والجملة الشرطية معترضة بين الحال وعامله.

إِنْ اى ما هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ اى جنون حيت يدعي الرسالة من الله لنفسه استيناف او تأكيد لنفى الرسالة فان المجنون لا يكون رسولا فَتَرَبَّصُوا بِهِ فاحتملوه وانتظروا حَتَّى حِينٍ (25) لعله يفيق من الجنون او يموت والفاء في فتربصوا للسببيّة فان كونه مجنونا يوجب التربص وترك العجلة في الانتقام ولما اوحى الى نوح من الله تعالى انه لن يؤمن من قومك الا وقد آمن.

قالَ نوح رَبِّ انْصُرْنِي باهلاكهم او بإنجاز ما اوعدتهم من العذاب بِما كَذَّبُونِ (26) بدل تكذيبهم ايّاى او بسببه جملة مستأنفة.

فَأَوْحَيْنا عطف على مقدر تقديره فاستجبنا دعاءه فاوحينا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا اى بحفظنا ان لا يخطئ فيه او يفسد عليك أحد ان مفسرة لاوحينا فانه بمعنى القول وَوَحْيِنا اى أمرنا وتعليمنا كيف تصنع فَإِذا جاءَ أَمْرُنا بالركوب او نزول العذاب عطف

ص: 377

على اصنع وَفارَ التَّنُّورُ اى فار الماء من التنور للخباز اركب أنت ومن معك فلما نبع الماء منه وكان ذلك علامة لنوح أخبرته امرأته فركب ومحله في مسجد الكوفة عن يمين الداخل مما يلى باب كندة- وقيل في ذروة من الشام فَاسْلُكْ فِيها اى ادخل فيها جاء سلك لازما ومتعدّيا يقال سلكت في كذا اى دخلت وقال الله تعالى ما سلككم في سقر مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ قرأ الجمهور باضافة كل الى زوجين فاثنين حينئذ منصوب على المفعولية يعنى ادخل فيها اثنين من كل صنفين من الحيوانات يعنى الذكر والأنثى وقرأ حفص كلّ بالتنوين عوض المضاف اليه يعنى ادخل فيها زوجين كانتا من كل نوع فاثنين على هذا تأكيد للزوجين- وفي القصة ان الله تعالى حشر لنوح السباع والطيور وغير ذلك فجعل نوح يضرب بيديه في كل نوع فيقع يده اليمنى على الذكر واليسرى على الأنثى فيحملها في السفينة وَأَهْلَكَ يعنى اهل بيتك او من أمن معك إِلَّا مَنْ سَبَقَ في الأزل عَلَيْهِ الْقَوْلُ بالإهلاك لكفره مِنْهُمْ اى حال كون من سبق عليه القول بالإهلاك من أهلك وهى امرأته وولده كنعان- وانما حئ بعلى لان السابق ضار وانما يجئ باللام إذا كان نافعا كما في قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى

وَلا تُخاطِبْنِي عطف على اصنع او على فاسلك يعنى لا تخاطبني بالدعاء بالانجاء فِي حق الَّذِينَ ظَلَمُوا على أنفسهم بالكفر إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) لا محالة لظلمهم بالاشراك جملة معللة لقوله لا تخاطبني.

فَإِذَا اسْتَوَيْتَ اعتدلت أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ ونجوت من مصاحبة الجار السوء فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي في السفينة بعد الركوب او في الأرض بعد الخروج من السفينة مُنْزَلًا قرأ أبو بكر عن عاصم بفتح الميم وكسر الزاء على معنى موضع النزول والباقون بضم الميم وفتح الزاء بمعنى الانزال مُبارَكاً يتسبّب لمزيد الخير في الدارين فالبركة في السفينة النجاة من مصاحبة اعداء الله والفراغ للاشتغال بعبادته- والبركة في الأرض بعد الخروج كثرة النسل والرزق

ص: 378

والاشتغال بعبادة الله تعالى- الجملة الشرطية معطوفة على فاسلك وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) حال من فاعل أنزلني وفيه ثناء مطابق لدعائه- امر نوحا وحده بالدعاء وعلق الدعاء بان يستوى هو ومن معه إظهارا لفضله واشعارا بان في دعائه كفاية عن دعائهم.

إِنَّ فِي ذلِكَ الّذي فعلنا بنوح وقومه لَآياتٍ تدل على كمال قدرة الله تعالى ورأفته بالمسلمين وغضبه على الظالمين يعتبر بها أولوا الابصار وَإِنْ مخففة من الثقيلة تقديره وانّا كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) اللام فارقة يعنى كنا لمصيبين قوم نوح ببلاء عظيم او ممتحنين عبادنا وقيل ان نافية واللام بمعنى الا يعنى وماكنا بإرسال نوح ووعظه وتذكيره الا مبتلين قومه ومختبرين إياهم لننظر ما هم عاملون قبل نزول العذاب بهم.

ثُمَّ أَنْشَأْنا عطف على كلام محذوف تقديره فاغرقناهم ثم انشأنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (31) المراد بهم عاد او ثمود قال البغوي والاول اظهر.

فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ يعنى أوحينا بين أظهرهم رَسُولًا مِنْهُمْ يعرفونه بانصدق والعدالة وهو هود او صالح عليهما السلام أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ان مفسرة لارسلنا لكونه بمعنى القول يعنى قلنا لهم على لسان الرسول اعبدوا الله ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (32) مر تفسيره.

وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا لعله ذكر بالواو لان كلامهم لم يتصل بكلام الرسول بخلاف كلام قوم نوح وحيث استأنف الله به ذكر مقال قوم هود في الأعراف وهود بغير واو بالاستيناف كانّه جواب سوال مقدر كانّه، قيل فما قال قومه في جوابه وذكر هاهنا بالواو عطفا لما قالوه على ما قال الرسول على معنى انه اجتمع في الحصول هذا الحق مع هذا الباطل وليس متصلا بكلام النبي جوابا له- وذكر في قصة نوح بالفاء لانه جواب لقوله واقع عقيبه وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ اى بلقاء ما فيها من الثواب والعقاب او بمصيرهم الى الحيوة الاخرة وَأَتْرَفْناهُمْ اى انعمناهم بكثرة الأموال والأولاد فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا الّذي يدعى النبوة إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ في الصفات والأحوال يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ

ص: 379

وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) ما موصولة والعائد الى الثانية منصوب محذوف او مجرور حذف مع الجار لدلالة ما قبله عليه.

وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ اللام في جواب قسم محذوف اى والله لئن أطعتم بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (34) حيث اذللتم أنفسكم بالانقياد لمثلكم أبوا اتباع مثلهم وعبدوا أعجز منهم ما أحمقهم وما اجهلهم.

أَيَعِدُكُمْ الاستفهام للانكار او التقرير اى قد يعدكم أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ قرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص بكسر الميم من مات يمات- والباقون بضم الميم من مات يموت وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً مجردة عن اللحوم والاعصاب أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) من القبور احياء انكم تكرير للاول أكد به لطول الفصل بينه وبين خبره تقدير الكلام أيعدكم انّكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما مخرجون كذلك قرأ ابن مسعود رضى الله عنه وجاز ان يكون انّكم مخرجون مبتدا خبره الظرف المقدم- او فاعل للفعل المقدر وجوابا للشرط والجملة خبر الاول اى انكم إخراجكم واقع إذا متم او انكم إذا متم وقع إخراجكم ويجوز ان يكون خبر الاول محذوفا لدلالة خبر الثاني عليه- وجملة أيعدكم تقرير للطعن السابق في النبوة او تعليل لقوله لئن أطعتم بشرا انكم لخاسرون.

هَيْهاتَ اسم فعل وفاعله ضمير مستكن فيه اى بعد وقوع هذا الوعد عن العقل والتصور- او بعد التصديق والايمان به هَيْهاتَ تأكيد للاول لِما تُوعَدُونَ (36) خبر مبتدا محذوف اى هذا الاستبعاد لما توعدون كانهم لما صوتوا بكلمة الاستبعاد قبل لهم فما له هذا الاستبعاد قالوا لما توعدون- وجاز ان يكون اللام زائدة للبيان والموصول فاعل لهيهات كما في هيت لك- وقيل هيهات مصدر بمعنى البعد وهو مبتدا خبره لما توعدون- قرأ الجمهور بفتح التاء على انه مبنى عليه وقرأ ابو جعفر بكسر التاء من غير تنوين وقرئ بالكسر منونا وقرأ نصر بن عاصم بضم التاء وقرئ بالفتح منونا للتنكير وبالضم منونا على انه جمع هيهة وغير منون تشبيها بقبل وبعد- وقرئ بالسكون على لفظ الوقف وبابدال التاء هاء ووقف عليها اكثر القراء بالتاء وجملة هيهات لما توعدون معترضة.

إِنْ هِيَ اى الحيوة جنسها شيء

ص: 380

إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا الّتي نحن فيها ودنت منا أقيم الضمير مقام الحيوة الاولى لدلالة الثانية عليها حذرا عن التكرير وشعارا بان تعيينها مغن عن التصريح بها- فان نافية دخلت على هى الّتي في معنى الحيوة الدالة على الجنس مثل لا الّتي لنفى الجنس نَمُوتُ وَنَحْيا يعنى يموت بعضنا ويحيى بعضنا قال البغوي فيه تقديم وتأخير اى نحيى ونموت لانهم كانوا ينكرون البعث بعد الموت وهذا القول مبنى على كون ضمير المتكلم مع الغير لجميع الناس- قلت وعلى تقدير كون الضمير لجميع الناس ايضا لا حاجة الى القول بالتقديم والتأخير إذ الواو لمطلق الجمع دون الترتيب فالمعنى يثبت لجميع الناس في الدنيا موت وحيوة ولا حيوة غير لهذه الحيوة وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) بعد الموت حال او عطف.

إِنْ هُوَ يعنى ما الّذي يدعى الرسالة إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ فيما يدعيه من الرسالة او فيما يعدها من البعث كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) اى مصدقين وهذه الجملة تأكيد لقولهم ما هذا الّا بشر.

قالَ الرسول رَبِّ انْصُرْنِي عليهم وانتقم لى منهم بِما كَذَّبُونِ (39) اى بسبب تكذيبهم إياي.

قالَ الله عَمَّا قَلِيلٍ ما زائدة لتأكيد معنى القلة او نكرة موصوفة بمعنى شيء والمراد به الزمان يعنى عن زمان قليل لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (40) على تكذيبهم إذا عاينوا العذاب.

فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ قيل أراد بالصيحة الهلاك وفي القاموس الصيحة والصياح الصوت بأقصى الطاقة وصيح بهم نزعوا وفيهم هلكوا والصيحة العذاب فان كان القصة لعاد فالمراد بالصيحة هاهنا العذاب وان كان لثمود فالمراد بها الصوت وقد ذكرنا قصتهم في سورة الأعراف انه أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة وصوت كل شيء في الأرض فتصدعت قلوبهم بِالْحَقِّ اى بالوجه الثابت الّذي لا دافع له او بالعدل كقولك فلان يقضى بالحق او بالوعد الصدق فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً اى هلكى شبههم في دمارهم بغثاء الليل وهو حميله- يقول العرب لمن هلك سال به الوادي فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)

ص: 381

يحتمل الاخبار والدعاء وبعدا مصدر لبعد بمعنى هلك وهو من المصادر الّتي وجب إضمار فعلها في الاستعمال وسدها مسد الافعال- والقوم الظالمون فاعل للمصدر الّذي سد مسد الفعل واللام زائدة او هى لتقوية عمل المصدر كما في قوله أعجبني جلوس لزيد وقيام لعمرو ووضع الظاهر موضع الضمير للتعليل.

ثُمَّ أَنْشَأْنا عطف على فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً

مِنْ بَعْدِهِمْ اى بعد عاد قُرُوناً آخَرِينَ (42) قوم صالح ولوط وشعيب وغيرهم.

ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ من زائدة للاستغراق وامة في محل الرفع على الفاعلية أَجَلَها اى الوقت الّذي لهلاكها يعنى لا يهلك امة قبل الوقت الّذي قدر هلاكها فيه وَما يَسْتَأْخِرُونَ (43) ولا يتاخر امة عن وقت هلاكها اى لا يبقى بعد الاجل- ذكّر الضمير بعد تأنيثه للمعنى وهذه جملة معترضة.

ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا أصله وترى من الوتر ضد الشفع قلبت الواو بالتاء كما في التراث والتقوى منصوب على الحال من مفعول أرسلنا- قرأ ابو جعفر وابن كثير وابو عمرو بالتنوين وصلا وبالألف عوض التنوين وقفا ولذا لا يميله ابو عمرو لان الفه عنده كانف زيدا في النصب فهو مصدر بمعنى التواتر والمواترة وهو تتابع الأشياء وترا وترا يعنى فرادى من غير اجتماع- قال في القاموس التواتر التتابع او مع فترات وواتر مواترة ووتارا تابع إذ لا يكون المواترة بين الأشياء الا إذا وقعت بينها فترة يعنى اعتبر بعض الناس في التواتر ان يكون بينها فترة- ومنه حديث أبي هريرة لا بأس بقضاء رمضان تترى اى متفرقا غير متتابع كذا في النهاية- قال الأصمعي يقال واترت الخبر اى اتبعت بعضها بعضا وبين الخبرين مهلة- قلت ولذلك اشترط في الخبر المتواتر ان يروى من جهات شتى ورجال غير مجتمعين بحيث لا يحتمل تواطئهم على الكذب- وقرأ اكثر القراء بالألف المقصورة للتأنيث على وزن سكرى من غير تنوين بعدم انصرافه للزوم التأنيث ذكر صيغة التأنيث لان الرسل جماعة وقوله ثُمَّ أَرْسَلْنا معطوف على قوله ثُمَّ أَنْشَأْنا- وفيه مقابلة الجمع بالجمع بارادة انقسام الآحاد على الآحاد فاستقام التراخي كانّه قال ثمّ انشأنا قرنا

ص: 382

ثمّ أرسلنا فيه رسولا ثم انشأنا قرنا اخر ثم أرسلنا رسولا اخر وهكذا- إذ لا يستقيم ان يقال أرسلنا قرونا كثيرة وبعد جميع القرون أرسلنا رسلا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها أضاف الرسول مع الإرسال الى المرسل ومع المجيء الى المرسل إليهم لان الإرسال الّذي هو مبدء الأمر منه والمجيء الّذي هو منتهاه إليهم كَذَّبُوهُ أسند التكذيب إليهم لاجل صدوره من أكثرهم فان للاكثر حكم الكل جملة مستانفة فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً في الهلاك كما اتبعنا بعضهم بعضا في الإنشاء وبعث الرسل إليهم عطف على كذبوه وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ يعنى لم يبق منهم اثر الا حكايات يسمر بها ويعتبر بها المعتبرون جمع احدوثة وهو ما يتحدثه الناس تلهيا وتعجبا- قال الأخفش انما هذا اى استعمال كلمة احدوثة وأحاديث في الشر واما في الخير فلا يقال جعلتهم أحاديث واحدوثة وانما يقال صار فلان حديثا- وقيل هو اسم جمع للحديث يقال أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (44) بالرسل ولا بصدقونهم.

ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى عطف على ثمّ أرسلنا رسلنا وَأَخاهُ هارُونَ 5 بدل من أخاه بِآياتِنا التسع وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (45) حجة واضحة ملزمة للخصم ويجوز ان يراد به العصا وافرادها بالذكر لانها أول المعجزات وتعلقت بها معجزات شتى كانقلابه حيّة وتلقفها ما افكته السحرة وانفلاق البحر وانفجار العيون من الحجر وحراستها ومصيرها شمعة وشجرة مثمرة ورشاء ودلوا- ويجوز ان يراد به المعجزات وبالآيات الحجج وان يراد بهما المعجزات فانها آيات للنبوة وحجة للنبى على ما يدعيه.

إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا عن الايمان ومتابعة الرسول وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (46) اى كانوا يرتفعون على الناس تكبرا ويقهرونهم ظلما.

فَقالُوا أَنُؤْمِنُ الاستفهام للانكار اى لا نعترف ولا نصدق بالفضل والنبوة لِبَشَرَيْنِ فانه يطلق على الواحد كقوله تعالى فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا

كما يطلق على الجمع كقوله تعالى فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً مثلنا لم يثن

ص: 383

المثل لانه في حكم المصدر فان مثل وغير يوصف به الواحد والاثنان والجماعة من المذكر والمؤنث وَقَوْمُهُما يعنى بنى إسرائيل لَنا عابِدُونَ (47) مطيعون متذلّلون والعرب تسمى كل من أطاع وتذلّل لاحد انه عابد له والجملة حال لفاعل نومن او لبشرين أولهما.

فَكَذَّبُوهُما عطف على أرسلنا فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) بالغرق.

وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ التورية لَعَلَّهُمْ الضمير عائد الى قومها ولا يجوز عود الضمير الى فرعون وقومه لان التوراة نزلت بعد إغراقهم اى لكى «1» يَهْتَدُونَ (49) الى المعارف والاحكام.

وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً بولادتها ايّاه من غير مسيس فالاية امر واحد وهو الولادة مضاف إليهما او تقديره وجعلنا ابن مريم اية بان تكلم في المهد وظهر منه معجزات اخر وامه اية بان ولدت من غير مسيس فحذفت الاولى لدلالة الثانية عليها وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ اى مكان مرتفع من الأرض قال عبد الله بن سلام هى دمشق وهو قول سعيد بن المسيب ومقاتل وقال الضحاك غوطة «2» دمشق وقال ابو هريرة هى الرملة وقال عطاء عن ابن عباس هى بيت المقدس وهو قول قتادة وكعب وقال كعب هى اقرب الأرض الى السماء بثمانية عشر ميلا وقال ابن زيد هى مصر والسدى هى ارض فلسطين ذاتِ قَرارٍ اى مستوية منبسطة يستقر عليها ساكنوها وقيل ذات تمار وزروع يستقر فيها الناس لاجلها وَمَعِينٍ (50) اى ماء ظاهر جار فعيل من معن الماء إذا جرى وأصله الابعاد في الشيء او من الماعون وهو المنفعة لان الماء نفاع او مفعول من عانه إذا أدركه بعينه لانه لظهوره يدرك بالعيون.

يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ اى الحلالات دون المحرمات فالامر للتكليف لانه في معنى النهى

(1) غير سديد لان يهتدون مرفوع وكى جازمة فلا يناسب فافهم- الفقير الدهلوي. [.....]

(2)

الغوط عمق الأرض ولم يقول نهاية منه الغوطة بالضم بلد قريب من دمشق مجمع البحار وفيه الغوطة اسم بساتين ومياه حول دمشق وهو غوطها- الفقير الدهلوي-

ص: 384

عن تناول المحرمات او المستلذات من المباحات فالامر للترفية وللرد على الرهبانية في رفض الطيبات وقيل هى الحلال الصافي القوام فالحلال ما لا يعصى الله فيه وضده الحرام- والصافي ما لا ينسى الله فيه وضده ما يلهيه وبوقعه في انهماك الشهوات والقوام ما يمسك النفس ويحفظ العقل والقوى وضده القدر الزائد على الشبع وَاعْمَلُوا صالِحاً اى عملا يراد به وجه الله على وفق ما امر به خالصا له تعالى من غير شرك جلى ولا خفى وضده الفاسد وهو ما يكرهه الله تعالى من قول افعل وتقدير الكلام وقلنا لهم يا ايها الرسل كلوا الى آخره فهو حكاية عما خوطب به الأنبياء كل نبى في زمانه لا على انهم خوطبوا به دفعة- وقال الحسن ومجاهد وقتادة والسّدى والكلبي وجماعة خوطب به محمّد صلى الله عليه وسلم وحده على مذهب العرب في مخاطبة الواحد بلفظ الجمع- قلت ومبنى ذلك على التعظيم وفيه اشارة الى فضله او لقيامه مقام جماعة فانه أرسل الى الناس كافة- وجاز ان يكون المراد به النبي صلى الله عليه وسلم وعلماء أمته فانهم برازخ بين الرسول وأمته كما ان الرسول برزخ بينهم وبين الله تعالى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم العلماء ورثة الأنبياء وقيل خوطب به عيسى عليه السلام عند ايوائه وامه الى الربوة فذكر لهما ما خوطب به الأنبياء كل نبى في زمانه ليقتد يا بالرسل في تناول ما رزقا ويقتضيه سياق القصة إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) فاجازيكم على حسب أعمالكم فالجملة في مقام التعليل.

وَإِنَّ هذِهِ اى أكل الطيبات والعمل بالصالحات قرأ الكوفيون بكسر الهمزة على انه جملة في محل النصب حال من فاعل كلوا او هى معطوفة على جملة سابقة فيكون في مقولة قلنا على تقديره- والباقون بفتحها «1» عطفا على ما تعملون او بتقدير اللام يعنى ولانّ هذه امّتكم او منصوب بتقدير اعلموا ان هذه أُمَّتُكُمْ اى ملتكم وشريعتكم الّتي أنتم بأجمعكم عليها أُمَّةً اى ملة واحِدَةً وهى الإسلام متحدا في العقائد واصول الشرائع والعمل في الفروع

(1) وقرا ابن عامر بفتح الهمزة وتخفيف النون على انها مخففة من الثقيلة- ابو محمّد عفا الله عنه

ص: 385

على حسب ما امر الله به في كل زمان وعلى الناسخ بعد ترك المنسوخ- وقوله امّة واحدة حال مؤكدة لقوله امّتكم على طريقة زيد أبوك عطوفا والعامل فيه معنى الاشارة وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) الفاء للسببية يعنى اتقونى لاجل انى ربكم.

فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ يعنى تقطع وتفرق الذين أرسل إليهم بعد الإرسال امر دينهم وجعلوه أديانا مختلفة في اصول الدين- فامن بعضهم بجميع الرسل وبجميع ما أرسل إليهم وهم اهل الحق في كل قرن- وبعضهم أمن ببعض دون بعض كاليهود والنصارى والصابئين وبعضهم كفروا بأجمعهم كالمجوس واهل الأوثان فالتفعل بمعنى التفعيل وجاز ان يكون معناه فتفرقوا وتحزبوا في امر دينهم وجعلوه أديانا مختلفة فعلى هذا أمرهم منصوب بنزع الخافض او على التميز من نسبة التفرق إليهم- والضمير في تفرقوا راجع الى المرسل إليهم المذكورين في القصص المذكورة حيث قال وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ وانشأنا قرونا فارسلنا فيهم رسلنا تترا وغير ذلك- والجملة معطوفة على أرسلنا زُبُراً اى فرقا وطوائف وقطعا جمع زبور بمعنى الفرقة ومنه زبر الحديد- فهو اما منصوب على المصدرية من غير لفظ الفعل نحو أنبته الله نباتا او حال من أمرهم او من فاعل تقطعوا او مفعول ثان لتقطعوا لتضمنه معنى الجعل يعنى قطعوا أمرهم وجعلوه زبرا فرقا- وقيل معناه كتبا من زبرت الكتاب إذا كتبته كتابة غليظة وكل كتاب غليظ الكتابة يقال زبور- يعنى جعلوا دينهم كتبا محرفة بعد ما كان كتابا واحدا من الله منزلا

فيكون مفعولا ثانيا لتقطعوا او حال من أمرهم والمعنى فرقوا أمرهم اى دينهم حال كون دينهم كتبا منزلة من السماء متفقة في اصول الدين مصدقا بعضها بعضا فقالوا نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض وعن الحسن قطعوا كتاب الله قطعا وحرّفوه كُلُّ حِزْبٍ منهم بِما لَدَيْهِمْ من الدين او الهوى فَرِحُونَ (53) معجبون معتقدون انهم على الحق جملة مستأنفة.

فَذَرْهُمْ يا محمد فِي غَمْرَتِهِمْ قال ابن عباس في كفرهم وضلالتهم وقيل في غفلتهم وجهالتهم جهلا مركبا شبّهها بالماء الّذي يغمر القامة

ص: 386

اى يسترها حَتَّى حِينٍ (54) اى الى زمان موتهم او الى ان نأمرك بالقتال يعنى لا تحزن على تفرقهم وكفرهم فانا نأخذهم اما بالعذاب من عندنا او بايديكم.

أَيَحْسَبُونَ اى الذين يفرحون بما لديهم من الضلال ولا يتبعون الرسل ويكذبونهم أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ اى ما نعطيهم ونجعلها مددا لهم مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (55) بيان لما.

نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ خبر لان والعائد محذوف- وان مع اسمها وخبرها قائم مقام مفعولى يحسبون والاستفهام للتوبيخ والرد على حسبانهم والمعنى أيزعمون ان الّذي نعطيهم في الدنيا ونمدهم بها من الأموال والأولاد نسارع به لهم فيما فيه خيرهم وإكرامهم ثوابا لاعمالهم وعقائدهم لاجل مرضاتنا عنهم وهذا الحسبان سبب لفرحهم بما لديهم ليس الأمر كذلك بَلْ لا يَشْعُرُونَ «1» (56) يعنى بل هم كالانعام لا فطنة لهم ولا شعور حتى يتاملوا فيعلموا ان لهذه الأعمال والعقائد غير مستوجبة للثواب والمرضاة وانما ذلك الامداد استدراج لا مسارعة في الخيرات- هذه الاية حجة على المعتزلة في قولهم الأصلح للعباد في الدين على الله واجب.

إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ اى من خوف عذابه مُشْفِقُونَ (57) حذرون من موجبات العذاب او المعنى انهم بسبب اتصافهم بخشية الله تعالى خائفون من عقابه- وجاز ان يكون المراد بالخشية ما به الخشية والمعنى انهم من عذاب ربهم مشفقون-

(1) عن الحسن ان عمر بن الخطاب اتى بفروة كسرى بن هرمز فوضعت بين يديه وفي القوم سراقة بن مالك فاخذ عمر سواريه فرمى بهما الى سراقة- فاخذهما فجعلهما في يديه فبلغتا منكيبة- فقال الحمد لله سوارى كسرى بن هرمز في يدى سراقة بن مالك ابن جعشم أعرابي من بنى مدلج- ثم قال اللهم انى قد علمت ان رسولك قد كان حريصا ان يصيب مالا ان ينفقه في سبيلك وعلى عبادك فزويت عنه ذلك- اللهم انى أعوذ بك ان يكون هذا مكرا انك لعمر ثم تلا أيحسبون انما نمدّهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون 12 منه رحمه الله.

ص: 387

قال الحسن البصري المؤمن جمع إحسانا وخشية والمنافق جمع اساءة وأمنا.

وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ المنزلة او باياته المنصوبة الدالة على التوحيد يُؤْمِنُونَ (58) يصدقون بمدلولاتها.

وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) في العبادة أحدا غيره شركا جليّا ولا خفيّا فلا تكرار فان الايمان بالله وحده لا ينفى الإشراك في العبادة غيره.

وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا اى يعطون من الصدقات ما أعطوه- قال البغوي وروى عن عائشة انها كانت تقرا يأتون ما أتوا اى يعملون ما عملوا من اعمال البر وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ اى خائفة..... ان لا يقبل منهم او ان لا يقع على الوجه الّذي يليق بجناب كبريائه فيواخذوا به او لا ينجيهم من عذاب الله لكثرة الخطايا وقلة الطاعات أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60) اى لان مرجعهم الى الله او قلوبهم خائفة من ان مرجعهم الى الله وهو يعلم ما يخفى- قال الحسن عملوا لله بالطاعات واجتهدوا فيها وخافوا ان ترد عليهم- عن عائشة قالت سالت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الاية وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ «1» الذين يشربون الخمر ويسرقون قال لا يا ابنة الصديق ولكنهم الذين يصومون ويصلّون ويتصدقون وهم يخافون ان لا تقبل منهم أولئك الّذين يسارعون في الخيرات- رواه احمد والترمذي وابن ماجة وروى البيهقي انها قالت قلت يا رسول الله والّذين يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة اهو الّذي يزنى ويشرب الخمر ويسرق قال لا يا ابنة الصديق ولكنه الرجل يقوم ويتصدق ويخاف ان لا يقبل منه- الموصولات المعطوفة بعضها على بعض اسم لان وانما كرر الموصول ولم يعطف الصلات بعضها على بعض للدلالة على ان كل واحد من الصفات المذكورة مستقل لثبوت الخير وخبرها.

أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ اى يرغبون في الطاعات أشد الرغبة فيسارعون في إتيانها كيلا يفوت منهم إتيانها- او المعنى يسارعون في نيل الخيرات الاخروية

(1) وفي الجامع للترمذى بعد قوله تعالى وقلوبهم وجلة قالت عائشة اهم الذين إلخ الفقير الدهلوي.

ص: 388

الموعودة على الطاعات بالمبادرة إليها- او يسارعون في نيل الخيرات الدنيوية الموعودة على صالح الأعمال بالمبادرة إليها- حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرد البلاء الا الدعاء ولا يزيد في العمر الا البر- فهذه الاية حينئذ كقوله فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ- فيكون اثباتا لهم ما نفى عن أضدادهم- قلت لعل المراد بالخيرات الّتي يسارع إليها المؤمنون في الدنيا هو الاطمينان بذكر الله والالتذاذ به والشبع بالكفاف وعدم الخوف من زوال نعماء الدنيا وعدم الخوف والرجاء عن أحد سوى الله تعالى- والمبشرات الّتي يدرك بالإلهام او المنام وَهُمْ لَها سابِقُونَ (61) اى لاجل الخيرات سابقون الناس الى الجنات او فاعلون السبق الى الطاعات او الثواب او الجنة او سابقون الى خيرات ينالونها في الدنيا قبل الاخرة حيث عجلت لهم- وقيل اللام هاهنا بمعنى الى يعنى وهم الى الخيرات سابقون كقوله تعالى لِما نُهُوا عَنْهُ اى الى ما نهوا عنه ومن هاهنا قال الكلبي سبقوا الأمم الى الخيرات- وقال ابن عباس معنى الاية سبقت لهم من الله السعادة.

وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها جملة في محل النصب على الحال من فاعل يسارعون في الخيرات يعنى ما مسارعتهم الى الاجتهاد الا بطيب أنفسهم التذاذا- وما كلفناهم الا بقدر طاقتهم وَلَدَيْنا كِتابٌ يعنى اللوح المحفوظ او صحائف الأعمال يَنْطِقُ بِالْحَقِّ اى بما هو الثابت المتحقق في الواقع يعنى أعمالهم ثابتة لدينا لا نضيع منها شيئا بل نثيب عليها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (62) اى لا ينقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم شيء- قوله ولدينا كتاب حال ثان مرادف للاول وقوله إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ الى آخره جملة معترضة لبيان احوال المؤمنين في أثناء ذكر الكافرين- فقوله.

بَلْ قُلُوبُهُمْ إلخ متصل بقوله تعالى بَلْ لا يَشْعُرُونَ يعنى بل قلوب الكفرة الذين لا شعور لهم فِي غَمْرَةٍ اى في غفلة غامرة مِنْ هذا يعنى من عدم شعورهم فهم كما لا يشعرون لا يشعرون انهم لا يشعرون- او المعنى هم في غمرة من نفس الشعور فهم كما لا يشعرون حالا لا يشعرون في الاستقبال لانتفاء صلاحية الشعور

ص: 389

فيهم لاجل الغمرة- او انهم في غمرة من انهم تفرقوا دينهم وتركوا دين الله المرضى الى ما اقتضته اهواؤهم- وقيل في غمرة من هذا القرآن او ممّا اتصف به المؤمنون وذكر فيما سبق او من كتاب الحفظة وَلَهُمْ أَعْمالٌ خبيثة كائنة مِنْ دُونِ ذلِكَ الأعمال الّتي اتصف بها المؤمنون او المعنى لهم اعمال خبيثة متزائدة على ما هم عليه من الشرك هُمْ لَها لتلك الأعمال الخبيثة عامِلُونَ (63) معتادون بها هذه الجملة صفة للاعمال.

حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ يعنى متنعميهم بِالْعَذابِ اخرج ابن جرير عن ابن جريج عن ابن عباس انه قال هو السيف يوم بدر- وقال الضحاك هو الجوع حين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف فابتلاهم الله بالقحط حتى أكلوا الكلاب والجيف والعظام المحترقة- والدعاء عليهم مروى في الصحيحين من حديث ابن مسعود إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) الجئر رفع الصوت بالاستغاثة جواب شرط وإذا للمفاجاة ينوب على الجملة الاسمية مناب الفاء الجزائية- وحتى ابتدائية يدل على سببيّة ما قبلها لما بعدها كما في قولك مرض فلان حتى لا يرجونه فان غفلتهم سبب لهلاكهم واستغاثتهم- وجاز ان يكون إذا هم يجئرون بدلا من إذا أخذنا وجواب الشرط قوله.

لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ فانه مقدر بالقول يعنى قيل لهم لا تجئروا وعلى التأويل الاول هذا استيناف إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (65) تعليل للنهى يعنى لا تجئروا فانه لا ينفعكم الجئر ولا يلحقكم نصر ومعونة من جهتنا ولا يمكن دفع عذاب الله الا من نصر من جهته-.

قَدْ كانَتْ آياتِي المنزلة في القرآن تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) النكوص الرجوع قهقرى يعنى كنتم تعرضون مدبرين عن سماعها وتصديقها والعمل بها والجملة تعليل لقوله إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ....

مُسْتَكْبِرِينَ عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم والايمان به مستعلين أنفسكم على سائر الناس بِهِ الضمير راجع الى غير مذكور وهو الحرم يعنى مستكبرين بالحرم قائلين نحن اهل الحرم وجيران بيت الله لا يظهر

ص: 390

علينا أحد لا نخاف أحدا- كذا قال ابن عباس ومجاهد وجماعة ولمّا كان افتخارهم واستكبارهم بالبيت مشهورا اغنى ذلك عن ذكر المرجع- وقيل الضمير راجع الى آياتي فانها بمعنى كتابى والباء متعلق بمستكبرين لتضمينه معنى مكذبين او لان استكبارهم على المسلمين حدث بسبب استماعهم القرآن- وقوله مستكبرين حال من فاعل تنكصون وكذا قوله سمرا حال منه او من فاعل مستكبرين يعنى حال كونكم تسمرون اى تتحدثون بالليل في مجالسكم حول البيت- والسمر الحديث بالليل والسامر اسم جمع كالباقر للبقر والجامل للجمل- يقال سمر القوم يسمرون فهم سمار وسامر كذا في النهاية ومنه حديث قيلة إذ جاء زوجها من السامر اى من قوم يسمرون- وفي القاموس سمر سمرا وسمورا لم ينم وهم السمار والسامرة والسامر اسم الجمع والسّمر محركة الليل وحديثه وظلّ القمر والدهر والظلمة- قال البيضاوي السامر في الأصل مصدر جاء على لفظ الفاعل كالعافية- وقيل هو مفرد في محل الجمع كما في قوله تعالى يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا اى أطفالا- وقيل السامر الليل المظلم فعلى هذا يكون سامرا منصوبا على الظرفية يعنى تنكصون وتستكبرون في الليل في أحاديثكم تَهْجُرُونَ (67) قرأ نافع بضم التاء وكسر الجيم من الاهجار وهو الافحاش اى تفحشون وتسبّون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه- والباقون بفتح التاء وضم الجيم من هجر يهجر هجرا بضم الهاء بمعنى الفحش والقول القبيح فيكون معنى القرائتين واحدا- او هجرا بفتح الهاء بمعنى القطيعة والاعراض او بمعنى الهذيان اى تعرضون عن القرآن او تهذون في شأن النبي صلى الله عليه وسلم او القرآن وتقولون مالا تعلمون- اخرج ابن ابى حاتم عن سعيد بن جبير قال كانت قريش تسمر حول البيت ولا تطوف به ويفتخرون فانزل الله تعالى مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ الاستفهام للانكار وانكار النفي اثبات والفاء للعطف على محذوف تقديره الم يسمعوا فلم يدبروا القول اى القرآن فان اللام للعهد يعنى القول الّذي جاء به محمّد صلى الله عليه وسلم يعنى قد سمعوا القرآن وتدبروا فيه حين أرادوا معارضته فلم يقدروا على إتيان مثل اقصر سورة منه فظهر عليهم

ص: 391

باعجازه واخباره وقصصه انه ليس من كلام البشر.

أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أم منقطعة بمعنى بل والهمزة الّتي للانكار والمعنى بل لم يجئهم ما لم يأت آباءهم الأولين يعنى بل قد جاءهم ما اتى آباءهم إسماعيل عليه السلام وأعقابه من الرسول والكتاب وقد كانت القريش يعترفون بنبوة ابراهيم وإسماعيل وفضلهما فمحمّد صلى الله عليه وسلم مثلهما ولا استحالة في ذلك.

أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ محمّدا صلى الله عليه وسلم يعنى قد عرفوه صغيرا وكبيرا وعرفوا نسبه وأمانته وصدقه وحسن أخلاقه ووفاء عهوده وكمال علمه وأدبه من غير تعلم من البشر الى غير ذلك كذا قال ابن عباس فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) الفاء للسببيّة معطوف على لم يعرفوا وما عطف هو عليه- يعنى لا يجوز الإنكار الا بسبب أحد هذه الوجوه المذكورة ولم يوجد شيء منها بل قد تحقق أضدادها.

أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ أم هاهنا ايضا منقطعة والهمزة الّتي في ضمنها للردع والتوبيخ يعنى بل أيقولون انه مجنون وهم يعلمون انه أرجحهم عقلا واتقنهم نظرا لا ينسب الجنون الى مثله الا معاند او مجنون وجاز ان يكون أم في هذه المواضع متصلة معطوفة على ما دخل عليه همزة الاستفهام لنفى المفهوم المردد- وجملة افلم يدبروا مستأنفة كانّ السامع لمّا سمع قوله تعالى قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ قال ما سبب هذا النكوص والاستكبار والهجر إذا كان شيئا من هذه الأمور المذكورة وهى عدم تدبرهم في القرآن او عدم علمهم بإتيان النبي قبلهم او عدم معرفتهم امانة الرسول وصدقه وغير ذلك او زعمهم كونه مجنونا فقال الله في جوابه ليس شيء من هذه الأمور بَلْ سبب ذلك المكابرة والعناد حيث جاءَهُمْ محمّد صلى الله عليه وسلم بِالْحَقِّ اى القول الثابت المتحقق الظاهر صدقه عقلا ونقلا لا يخفى صحته وحسنه على عاقل وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (70) الجملة حال من مفعول جاءهم يعنى جاءهم الحق وهم له كارهون عنادا وظلما لحب الرياسة واتباع الشهوات وتقليد الجهال

ص: 392

والتمسك بالعادات لا لحكم الكياسة- وانما قيد الحكم بالأكثر لانه كان منهم من ترك الايمان خوفا من توبيخ قومه او لقلة فطنته او عدم فكرته لا لكراهة الحق-.

وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ بان كان في الواقع الهة متعددة لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ اى لبطلت ولم يخرج شيء منها من كتم العدم لما ذكرنا في تفسير قوله تعالى لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا في سورة الحج «1» وقال ابن جريج ومقاتل والسدى وجماعة الحق هو الله وقال الفراء والزجاج المراد بالحق القران- والمعنى لو اتبع الله مرادهم وجعل لنفسه شركاء او اتخذ ولدا وانزل القرآن على حسب شهواتهم ونطق القرآن بالشرك والقبائح- لم يكن الله الها فان الالوهية لا يحتمل الشركة والله لا يأمر بالفحشاء فان الأمر بالفحشاء رذيلة والالوهية يقتضى التنزه عن الرذائل ولو لم يكن الله الها لبطل وجود الممكنات بأسرها- وقيل معناه لو اتبع الحق أهواءهم وانقلب باطلا لذهب ما قام به العالم فلا يبقى له قوام- او المعنى لو اتبع الحق الّذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الدين أهواءهم وانقلب شركا لا نزل الله عليهم العذاب وأهلك العالم من فرط غضبه بَلْ أَتَيْناهُمْ عطف على قوله بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ إلخ وجملة لَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه لبيان بطلان اهوائهم بِذِكْرِهِمْ اى بالكتاب الّذي يذكّرهم الله او هو ذكرهم اى وعظهم او الذكر الّذي تمنّوه بقولهم لو انّ عندنا ذكرا من الاوّلين لكنّا عباد الله المخلصين وقال ابن عباس يعنى بما هو ذكرهم اى بما فيه فخرهم وشرفهم يعنى القرآن نظيره قوله تعالى لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ اى شرفكم وانّه لذكر لك فان القرآن نزل بلغة قريش وجعل الله الناس تبعا لقريش وانحصر الامامة فيهم فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) لا يلتفتون اليه ولا يريدون الشرف-.

أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً يعنى اجرا على هدايتهم والرسالة إليهم عطف على قوله أَمْ بِهِ جِنَّةٌ وفيه التفات من الغيبة الى الخطاب

(1) سهو من المفسر العلام رحمه الله تعالى لان الاية المذكورة انما هى في سورة الأنبياء- الفقير الدهلوي.

ص: 393

فالاستفهام هاهنا ايضا للانكار يعنى لا تسئلهم اجرا حتى لا يؤمنوا بك مخافة الغرامة فخراج ربّك اى اجره وثوابه الّذي يعطيك في الاخرة- قرا حمزة والكسائي خراجا فخراج ربّك بالألف في الموضعين وقرأ ابن عامر بغير الف فيهما ومعناهما واحد وهو الاتاوة اى الجعل والاجر على العمل قال في القاموس الخرج الاتاوة كالخراج وقرأ الباقون أم تسئلهم خرجا بغير الف فخراج ربّك بالألف- قال البيضاوي الخرج بإزاء الدخل يقال لكل ما تخرجه الى غيرك والخراج غالب في الضربية الّتي يأخذها السلطان على الأرض- ففى هذه القراءة في اضافة الخراج الى الله اشعار بالكثرة واللزوم خَيْرٌ لسعته ودوامه ففيه مندوحة لك عن عطائهم هذه الجملة تعليل لنفى السؤال وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) عطف على خراج ربّك خير او حال من ربك.

وَإِنَّكَ يا محمد لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) تشهد العقول السليمة على استقامته وعدم الاعوجاج فيه- بيّن الله سبحانه عدم الأسباب الموجبة لانكار دعوة النبي صلى الله عليه وسلم سوى كراهة الحق وقلة الفطنة- وذكر الداعي الى الايمان وهو كون المدعو اليه صراطا مستقيما مرغوبا لجميع العقلاء عامة وكونه شرفا لهم داعيا الى اسلام قريش خاصة فظهر ان انكارهم لم يكن الا لكراهة الحق عندهم عنادا او قلة تفطنهم ومبنى ذلك الشقاوة الازلية المكتوبة عليهم- فانهم كانوا عقلاء كانوا يدركون منافع الدنيا على ما ينبغى فعدم ادراكهم المنافع العاجلة والاجلة المؤبدة الخالصة عن شوب الكدر لم يكن الا لشقاوتهم وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ....

وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ المستقيم فان اللام للعهد لَناكِبُونَ (74) اى لمائلون لسوء استعدادهم فانهم خلقوا من ظلال الاسم المضل فلا يمكنهم الاهتداء الى الصراط المستقيم ويكرهون الحق بعد ظهوره.

وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ اى من عذاب أخذنا مترفيهم به سواء أريد به السيف يوم بدر كما قال به ابن عباس او الجوع كما قال به الضحاك وقد ذكرنا القولين فيما سبق-

ص: 394

لَلَجُّوا اللجاج التمادي في العناد وتعاطى الفعل المزجور عنه فِي طُغْيانِهِمْ اى في استكبارهم عن الحق وافراطهم في الكفر وعداوة الرسول صلى الله عليه وسلم يَعْمَهُونَ (75) من الهدى حال من فاعل لجّوا وهذه الجملة الشرطية معطوفة على مضمون لا تجئروا اليوم انّكم منّا لا تنصرون فان معناه قيل لهم لا تجئروا إلخ ومضمونه انا لم نرحمهم ولو رحمناهم لتمادوا في الطغيان ولم يتوبوا فكانّ هذا تعليل لعدم الترحم عليهم- اخرج النسائي والحاكم عن ابن عباس قال جاء ابو سفيان الى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد أنشدك الله والرحم قد أكلنا العهن والدم فانزل الله تعالى.

وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ يعنى القتل يوم بدر او الجوع فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ يعنى لم يرجعوا الى ربهم بالتوبة بل أقاموا على عتوهم ومضوا على تمردهم- وما استكانوا اما معناه ما استفعلوا لكون فان المفتقر ينتقل من كون الى كون- واما معناه افتعلوا السكون وعلى هذا الالف من إشباع الفتحة وَما يَتَضَرَّعُونَ (76) يعنى ليس من عادتهم التضرع والخشوع واخرج البيهقي في الدلائل بلفظ ان ابن أثال الحنفي لما اتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو أسير خلى سبيله- فاسلم فلحق بمكة ثم رجع فحال بين مكة وبين الميرة من اليمامة حتى أكلت قريش العهن فجاء ابو سفيان الى النبي صلى الله عليه وسلم فقال الست تزعم انك بعثت رحمة للعالمين قال بلى قال فقد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع فنزلت هذه الاية وفي هذه الاية استشهاد على ما سيق فانهم لما لم يتضرعوا بالأخذ بالعذاب فلو رحمناهم وكشفنا عنهم العذاب لم يتضرعوا بالطريق الاولى- فان قيل ما ذكرت في تفسير الاية يدل على انه تعالى لم يكشف عنهم العذاب الّذي أخذ به مترفيهم وقد قال البغوي دعا النبي صلى الله عليه وسلم على قريش ان يجعل عليهم سنين كسنى يوسف فاصابهم القحط فجاء ابو سفيان الى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أنشدك الله والرحم الست تزعم انك بعثت رحمة للعالمين قال بلى فقال قد قتلت الآباء

ص: 395

بالسيف والأبناء بالجوع فادع الله يكشف عنا هذا القحط فدعى فكشف عنهم فانزل الله تعالى هذه الاية وهذه القصة تدل على ان الله تعالى كشف عنهم عذاب الجوع بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم فما وجه التوفيق قلت الاية انما دلت على نفى المرحمة وكشف العذاب في الزمان الماضي لعلمه تعالى بلجاجهم عند الكشف ايضا ولا تدل على انه لا يكشف عنهم في المستقبل لامر حادث فالله سبحانه كشف عنهم العذاب لامر معترض وهو دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لكنهم لم يتضرعوا ولجوا في طغيانهم يعمهون ولم يستكينوا- «1» .

حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ كلمة حتى ابتدائية والمراد بالعذاب هاهنا عذاب الجوع ان كان المراد بالعذاب في قوله حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ القتل والاسر يوم بدر كما قاله ابن عباس فان الجوع أشد من الاسر والقتل يعنى إذا فتحنا عليهم بابا من عذاب الجوع إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) متحيرون آيسون من كل خير حتى جاءك أعتاهم يستعطفك وان كان المراد بالعذاب فيما سبق عذاب الجوع كما قاله الضحاك فالمراد بالعذاب هاهنا الموت وعذاب القبر وقيل قيام الساعة وعذاب النار- فقوله فتحنا بمعنى المستقبل أورد صيغة الماضي لتيقن وقوعه كما في قوله إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ- والمعنى انا محنّاهم كل محنة من القتل والجوع فما استكانوا ولم يتضرعوا حتى إذا عذبوا بنار جهلم إذا هم مبلسون- كقوله تعالى يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ....

وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ لتحسوا بها الآيات المنصوبة وَالْأَفْئِدَةَ لتتفكروا في الآيات وتستدلوا بها الى غير ذلك من المنافع الدينية والدنيوية قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ (78) ما زائدة للتأكيد منصوب على المصدرية او الظرفية يعنى تشكرون شكرا قليلا او في زمان قليل لان العمدة في شكرها استعمالها فيما خلقت لاجلها والإذعان لما نحها من غير

(1) وفي الأصل لم يستكانوا- الفقير الدهلوي-

ص: 396

اشراك وقيل معنى هذه العبارة في العرف لا تشكرون أصلا.

وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ اى خلقكم وبثكم بالتناسل فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) تجمعون يوم القيامة بعد تفرقكم.

وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اى لامره وقضائه اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ في السواد والبياض والمنافع او اختلاف الليالى الشتائية والصيفية في الطول والقصر والأيام كذلك أَفَلا تَعْقِلُونَ (80) بالنظر والتأمل ان كل ذلك منا وان قدرتنا تعم الممكنات كلها ومن جملتها البعث بعد الموت وقوله تعالى وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ الى هنا جملة معترضة لتعديد النعم وشكايتهم على كفرهم بعد تلك النعم الجسام وقوله.

بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (81) عطف على قوله بل آتيناهم بذكرهم يعنى بل قال كفار مكة مثل ما قال الأولون من كفار الأمم السابقة.

قالُوا بدل من قالوا المذكور سابقا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) الاستفهام للانكار أنكروا واستبعدوا ذلك ولم يتاملوا في بدء خلقهم انهم كانوا قبل ذلك ترابا ولم يكونوا قبل ذلك شيئا أصلا فخلقوا من غير سبق مادة-.

لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا يعنى البعث بعد الموت وعدها قوم ذكروا انهم رسل الله مِنْ قَبْلُ ظرف لفعل دل عليه حرف العطف يعنى وعد بهذا آباؤنا من قبل هذا الزمان ولم يقع الى الان مع لطاول الزمان إِنْ هذا الوعد إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) السطر هو الصف من الكتاب ومن الشجر المغروس والقوم الوقوف والمراد هاهنا الاول يقال سطر فلان كذا اى كتب سطرا وجمعه اسطر وسطور واسطار والأساطير جمع اسطار والمعنى ان هذا ليس منزلا من الله بل شيء كتبه الأولون كذبا- وقال المبرد الأساطير جمع اسطورة نحو ارجوجة واراجيج واحدوثة وأحاديث واعجوبة وأعاجيب واضحوكة وأضاحيك واستعماله فيما يكتب كذبا يتلهى به ولهذا فسروه بالاكاذيب- وقوله لقد وعدنا الى آخره تعليل وتقرير للانكار المذكور.

ص: 397

قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها جملة مستأنفة كأنّه في جواب قول الرسول ماذا أقول لهم حين أنكروا البعث- والاستفهام للتقرير اى حمل المخاطب على الإقرار إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) شرط حذف جوابه لدلالة الكلام عليه تقديره ان كنتم من اهل العلم او من العالمين بذلك فاجيبوا- وفيه استهانة بهم وتقرير لفرط جهلهم فان حالهم ومقالهم يشهد على جهلهم بمثل هذا الجلى الواضح الّذي يعرفه الصبيان والمجانين والزام بما لا يمكن إنكاره لمن له ادنى تميز- ولذلك اخبر عن جوابهم قبل ان يجيبوا فقال.

سَيَقُولُونَ لِلَّهِ لان العقل الصريح والنقل من كل ناطق واعتراف الناس أجمعين بذلك يضطرهم الى هذا الجواب قُلْ بعد اعترافهم بذلك أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) قرا حمزة وعلىّ وحفص بالتخفيف بحذف احدى التاءين من تتذكّرون والباقون بالتشديد والإدغام- والاستفهام للانكار والفاء للعطف على محذوف تقديرة أتعترفون فلا تتذكرون ان من فطر الأرض ومن فيها ابتداء قادر على إيجادها ثانيا فما الوجه لانكاره.

قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) فانها أعظم من ذلك استيناف اخر لتلقين الإلزام بعد الإلزام سَيَقُولُونَ لِلَّهِ باللام والجر اى هم لله كذا قرا العامة هاهنا وفيما بعده فهو جواب على المعنى كقول القائل في جواب من مولاك لفلان اى انا لفلان فهو مولاى- وقرأ اهل البصرة فيهما الله الله بالرفع على ما يقتضيه السؤال وكذلك في مصحف اهل البصرة وفي سائر المصاحف مكتوب بلا الف كالاول.

قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) يعنى أتعترفون بان خالق السموات والعرش هو الله لا غير فلا تتقون عقابه حيث تشركون به بعض مخلوقاته وتنكرون قدرته على بعض مقدوراته.

قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ الملكوت هو الملك اى العز والسلطان والواو والتاء فيه للمبالغة فهو غاية ما يتصور من السلطان ولهذا يختص استعماله بملك الله تعالى وقيل المراد به خزائنه وَهُوَ يُجِيرُ اى يحرس ويمنع من السوء و

ص: 398

يؤمن من يشاء وَلا يُجارُ عَلَيْهِ عطف على ما سبق او حال من فاعله اى لا يؤمن من أخافه الله ولا يمنع من السوء من أراد الله به سوءا او لا يقدر أحد على ان يضره حتى يجار عليه- وتعديته بعلى لتضمنه معنى النصرة إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) وشرحه قد مر.

سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) يعنى إذا اعترفتم بذلك فمن اين تحذعون فتصرفون عن الرشد او المعنى إذا اعترفتم فكيف يخيل إليكم الحق باطلا.

بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ من التوحيد والوعد بالنشور عطف على قوله بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ إضراب عنه وبينهما معترضات وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (90) فى انكارهم ذلك عطف على ما سبق او حال من الضمير المنصوب.

مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ لتقدسه عن المماثلة وو المجانسة بأحد من زائدة لتأكيد النفي والجملة في مقام التعليل على قوله وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ

وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ يشاركه في الالوهية إِذاً جواب لمن أشرك وجزاء الشرط محذوف يدل عليه قوله ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ تقديره لو كان معه الهة اذن لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ واستبد به ومنع غيره من التصرف فيه وامتاز ملكه عن ملك الاخر وَلَعَلا اى غلب بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ اى على بعضهم إذا وقع بينهم التحارب كما يقع بين ملوك الدنيا لامكان ذلك عند تعدد الالهة فلا يكون المغلوب الها لانه امارة العجز والحدوث ويظهر منه انه لو لم يغلب أحدهما على الاخر لزم عجزهما وذلك مناف للالوهية سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) اى عما يصفونه من الولد والشريك لما سبق من الدليل على فساده.

عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ قرا اهل المدينة والكوفة غير حفص بالرفع على انه خبر مبتدأ محذوف والباقون بالجر على انه صفة لله- وهذا دليل اخر على نفى الشريك بناء على اتفاقهم على انه متفرد به ولهذا رتب عليه بالفاء قوله فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) يعنى عن اشراكهم يعنى انه أعظم من ان يوصف بالولد او الشريك.

قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي أصله ان ما ترينّنى فادغمت النون في الميم و

ص: 399

حذفت نون الوقاية كراهة اجتماع النونات- وهذا شرط أكدت بما المزيدة والنون فالمعنى ان كان لا بد من ان ترينى ما يُوعَدُونَ (93) اى ما يوعد به الكفار من العذاب في الدنيا والاخرة.

رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) قرينا لهم في العذاب جملة معترضة لتلقين الدعاء وتكرير النداء وتصدير كل واحد من الشرط والجزاء به لزيادة التضرع والجوار- وفي تلقين الدعاء اشارة الى وجوب الخوف وهضم النفس- والى ان شوم الظلم قد يحيق بمن ورائهم- قال الله تعالى وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً....

وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ من العذاب لَقادِرُونَ (95) لكنا لم نعذبهم عذاب استيصال لانك بين أظهرهم ولعلمنا بان بعضهم او بعض أعقابهم يؤمنون- جملة معترضة ثانية لرد انكارهم الموعود او استعجالهم استهزاء-.

ادْفَعْ بِالَّتِي اى بالخصلة الّتي هِيَ أَحْسَنُ الخصال وهى الصفح والاعراض والصبر والإحسان السَّيِّئَةَ مفعول لا دفع يعنى ادفع شرهم بإحسان منك فعلى هذا امر بالصبر على الأذى والكف عن القتال نسلعتها اية السيف وقيل الحسنة كلمة التوحيد والسيئة كلمة الشرك وقيل السيئة المنكر والحسنة النهى عنه وهذا ابلغ من ادفع بالحسنة السيئة لما فيه من التنصيص على التفضيل- معترضة اخرى نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (96) اى بما يصفونك به او بوصفهم إياك على خلاف حالك واقدر على جزائهم فكل إلينا أمرهم ولا تتصد على الانتقام منهم- وهذه الجملة في مقام التعليل لقوله ادْفَعْ....

وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ اى امتنع واعتصم بك مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (97) الهمز شدة الدفع يعنى من دفع الشياطين بالإغواء والوساوس الى المعاصي.

وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) اى يحضرونى في شيء من أموري في الصلاة وغيرها فانه إذا حضر وسوس- قرأ يعقوب يحضرونى بالياء وصلا ووقفا والباقون بلا ياء في الحالين- وجملة قل ربّ أعوذ بك عطف على قوله

ص: 400

قل ربّ امّا ترينّى.

حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ حتى ابتدائية متعلق بقوله يصفون او بقوله كذبون قالَ يعنى إذا رأى مقعده من الجنة لو أمن ثم مقعده من النار ويقال له قد أبدل الله لك هذا بذلك لاجل كفرك قال رَبِّ ارْجِعُونِ (99) قرا يعقوب بالياء وصلا ووقفا والباقون بلا ياء في الحالين يعنى ارجعنى الى الدنيا- أورد ضمير الجمع للتعظيم وقيل لتكرير الفعل أصله ارجعنى ارجعنى كما قيل في قفار واطرقا- وقيل هذا خطاب مع الملائكة الذين يقبضون روحه- ابتدأ بخطاب الله تعالى لانهم استغاثوا اولا بالله تعالى ثم رجعوا الى مسئلة الملائكة الرجوع الى الدنيا.

لَعَلِّي قرا الكوفيون ويعقوب بسكون الياء والباقون بفتحها أَعْمَلُ صالِحاً اى عملا صالحا منصوب على المفعولية او على المصدرية فِيما تَرَكْتُ اى في الايمان الّذي تركته اى لعلى اتى بالايمان واعمل فيه صالحا- وقيل فيما تركت اى في المال او في الدنيا فعلى هذا فيما تركت ظرف كما هو الظاهر- وقيل ما تركت مفعول به وفي زائدة اى اعمل ما تركت حال كونه صالحا من الايمان وغيره او عملا صالحا بلا فساد- اخرج ابن جرير من حديث ابن جريج ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا نرجعك الى الدنيا فيقول الى دار الهموم والأحزان بل قدوما الى الله- واما الكافر فيقول ربّ ارجعون وفي الصحيحين عن عبادة بن الصامت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه فقالت عائشة او بعض أزواجه انا لنكره الموت قال ليس ذلك ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته فليس شيء أحب اليه «1» ممّا امامه فاحب لقاء الله وأحب الله لقاءه- واما الكافر إذا حضر بشر بعذاب الله وعقوبته فليس شيء اكره اليه ممّا امامه فكره لقاء الله وكره الله لقاءه كَلَّا ردع من طلب الرجعة واستبعاد

(1) وفي الأصل من امامه 12.

ص: 401

اى لارجعة إليها إِنَّها يعنى قوله ربّ ارجعون الى آخره انث الضمير لمجانسة الخبر كَلِمَةٌ وهو طائفة من الكلام المنتظم بعضها مع بعض فهو لا يقع الا على الجملة المركبة المفيدة- واطلاق الكلمة على اللفظ المفرد انما هو اصطلاح النحاة هُوَ اى الكافر قائِلُها لا محالة لتسلط الحسرة عليه ومخافة العذاب وَمِنْ وَرائِهِمْ اى امامهم والضمير للجماعة بَرْزَخٌ قال مجاهد يعنى حجاب بينهم وبين الرجعة- وجملة من ورائهم برزخ معطوف على مضمون كلا يعنى لا يكون ما يطلبون ومن ورائهم برزخ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) وقال قتادة البرزخ بقية عمر الدنيا فانه لارجوع الى الحيوة ما لم ينته عمر الدنيا- وقال الضحاك البرزخ ما بين الموت الى البعث وقيل البرزخ القبر وهم فيه الى يوم يبعثون.

فَإِذا كان يوم القيامة ونُفِخَ فِي الصُّورِ روى سعيد بن جبير عن ابن عباس ان المراد به النفخة الاولى نفخة الصعق فنفخ «1» فى الصّور فصعق من في السّموت ومن في الأرض- فلا انساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون- ثمّ نفخ فيه اخرى فاذا هم قيام ينّظرون واقبل بعضهم على بعض يّتساءلون- لكن الصحيح انها النفخة الثانية نفخة البعث كذا قال ابن مسعود قال يؤخذ بيد العبد او الامة يوم القيامة فينصب على رءوس الأولين والآخرين ثم ينادى مناد هذا فلان بن فلان- فمن كان له قبله حق فليأت الى حقه فيفرح المرء ان قد وجب له الحق على والده او ولده او زوجته او أخيه فيأخذ منه- ثم قرا ابن مسعود فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (101) وكذا روى عطاء عن ابن عباس انها النفخة الثانية فلا انساب بينهم اى لا يتفاخرون بينهم بالأنساب كما كانوا يتفاخرون بها في الدنيا او المعنى لا ينفعهم الأنساب يومئذ لعدم التعاطف والتراحم منهم لفرط الدهشة واستيلاء الحيرة بحيث يفرّ المرء من أخيه وامّه وأبيه وصاحبته وبنيه وضمير بينهم عائد الى الكفار لذكرهم فيما سبق دون المؤمنين ولقوله تعالى في المؤمنين أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وقوله صلى الله عليه وسلم

(1) هكذا في الأصل وفي القرآن الحكيم ونفخ إلخ بالواو لا بالفاء- الفقير الدهلوي.

ص: 402

إذا كان يوم القيامة خرج ولدان المسلمين بايديهم الشراب فيقول الناس لهم اسقونا فيقولون أبوينا أبوينا حتى السقط بباب الجنة يقول لا ادخل الجنة حتى يدخل أبوي- رواه ابن ابى الدنيا عن عبد الله بن عمر اللبثى وعن ابى ذرارة بمعناه فان قيل قد ورد في الحديث كل نسب وصهر ينقطع يوم القيامة إلا نسبي وصهرى- رواه ابن عساكر عن ابن عمر بسند صحيح قلت نسب المؤمنين داخل في نسب النبي صلى الله عليه وسلم فانه ابو المؤمنين وأزواجه أمهاتهم- وقال البغوي معنى الحديث لا ينفع يوم القيامة سبب ونسب الا نسبه وسببه وهو القران والايمان- ومعنى قوله تعالى لا يَتَساءَلُونَ سوال تواصل كما كانوا يتساءلون في الدنيا من أنت ومن اىّ قبيلة أنت- فان قيل قد قال الله تعالى في موضع اخر واقبل بعضهم على بعض يّتساءلون- قلنا قال ابن عباس ان للقيامة أحوالا ومواطن ففى موطن يشتد عليهم الجوف فيشغلهم عظم الأمر عن التساؤل فلا يتساءلون وفي موطن يفيقون افاقة فيتساءلون.

فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ جمع موزون يعنى عقائده واعماله الموزونة والمراد به الصالحات منها يعنى كثرت وترجحت حسناته على سيئاته- او هو جمع ميزان والمراد به ترجحت كفة حسناته من الميزان وإيراد صيغة الجمع اما مبنى على ان يكون لكل انسان ميزان على حدة- واما على ان يعتبر تعدد الميزان بتعدد الوزن والموصول مع صلته مبتدا خبره فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) الفائزون بالنجات والدرجات والجملة معطوفة على محذوف فوضع الميزان فمن ثقلت إلخ- اجمع علماء اهل السنة على ان وضع ميزان ووزن الأعمال حق وأنكره المعتزلة والروافض والخوارج واكثر اهل الأهواء اخرج البيهقي في البعث عن عمر بن الخطاب في حديث سوال جبرئيل عن الايمان قال يا محمّد ما الايمان قال ان تؤمن بالله وملائكته ورسله وتؤمن بالجنة والنار والميزان وتؤمن بالبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشرّه- قال فاذا فعلت هذا فانا مؤمن قال نعم قال صدقت- واخرج الحاكم

ص: 403

فى المستدرك وصححه على شرط مسلم عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوضع الميزان يوم القيامة فلو وضع فيه السموات والأرض لوسعت- الحديث واخرج ابن المبارك في الزهد والآجري في الشريعة عن سلمان موقوفا وابو الشيخ بن حبان في تفسيره عن ابن عباس قال الميزان له لسان وكفتان- واخرج ابن جرير في تفسيره وابن ابى الدنيا عن حذيفة قال صاحب الميزان يوم القيامة جبرئيل عليه السلام وأحاديث الميزان قد تواترت بالمعنى- (فصل) اختلف العلماء في كيفية الوزن قال بعضهم يوزن العبد مع عمله فيكون للمؤمن ثقل بقدر حسناته ولا يكون للكافر وزن- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم انه ليأتى الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة ثم قرا فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً- متفق عليه من حديث ابى هريرة فالمراد بمن خفت موازينه هم الكفار لا غير وقيل يوزن صحائف الحسنات وصحائف السيئات- روى الترمذي وابن ماجة وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاء برجل من أمتي على رءوس الاشهاد يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعون سجلا كل سجل منها مد البصر فيقول أتنكر من هذا شيئا أظلمك كتبتى الحافظون فيقول لا يا رب فيقول بلى ان لك عندنا حسنة وانه لا ظلم عليك اليوم- فيخرج له بطاقة فيها اشهد ان لا اله الا الله واشهد ان محمّدا عبده ورسوله- فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات- فيقول انك لا تظلم فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ولا يثقل مع اسم الله شيء- واخرج احمد بسند حسن صحيح عن ابن عمر نحوه وقيل يجسد العمل ويوزن قال ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والّذي نفسى بيده لوجئ بالسماوات والأرض وما فيهن وما بينهن وما تحتهن ووضعت في كفة الميزان ووضعت شهادة ان لا اله الا الله في الكفة الاخرى لرجحت بهن- رواه الطبراني و

ص: 404

اخرج ابن عبد الرزاق في فصل العلم بسنده عن ابراهيم النخعي قال يجاء بعمل الرجل فيوضع في كفة ميزانه يوم القيامة فيخف فيجاء بشيء أمثال الغمام فيوضع في كفة ميزانه يوم القيامة فيثقل فيقال ما تدرى ما هذا فيقول لا فيقال هذا فضل العلم الّذي كنت تعلّم الناس- واخرج الذهبي في فضل العلم عن عمران بن حصين قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوذن يوم القيامة مداد العلماء ودم الشهداء فيترجح مداد العلماء على دماء الشهداء- قلت وعندى انه يوضع العبد مع حسناته المتجسدة او مع صحائف الحسنات في كفة ومالهما واحد فان ثقل الصحائف بثقل الحسنات ويوضع سيئاته متجسدة او صحائفها الثقيلة بثقل السيئات في كفة اخرى فالكافر لا تزن جناح بعوضة وهو الّذي قال الله تعالى فيه وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ اى لا يكون لميزانه ثقل أصلا- واما المؤمن فلا يخلو ميزانه من ثقل ولو بشهادة ان لا اله الا الله وهو المكنى بقوله تعالى فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ غير ان لثقله مراتب فمنهم من اجتنبوا الكبائر وكفر الله عنهم سيئاتهم فموازينهم أثقل الموازين طاشت كفة سيئاتهم خاليا فارغا ومنهم من خلطوا عملا صالحا واخر سيّئا وهم الذين

قال ابن عباس فيهم انه يحاسب الناس يوم القيامة فمن كانت حسناته اكثر من سيئاته بواحد دخل الجنة- ومن كانت سيئاته اكثر من حسناته دخل النار يعنى ليصهر ويخلص من الذنوب كما ان الحديد يخلص في النار من الخبث فيصلح لدخول الجنة قال ابن عباس وان الميزان يخف بمثقال حية ويرجح ومن استوت حسناته وسيئاته كان من اصحاب الأعراف يعنى حتى يحكم الله تعالى فيهم بدخول الجنة- روى قول ابن عباس هذا ابن ابى حاتم وليس المذكور في هذا الأثر حال الكفار إذ لا حسنة لهم أصلا والمذكور في القران انما هو حال صالحى المؤمنين وحال الكفار واما حال عصاة المؤمنين فمسكوت عنه في القران غالبا- ولعل ذلك لان المؤمنين في زمن نزول القران روهم الصحابة

ص: 405

رضى الله عنهم كانوا عدولا كلهم مجتنبين من الكبائر او التائبين والتائب من الذنب كمن لا ذنب له- فالمراد بقوله تعالى.

وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ خفت اعماله الحسنة او كفة حسناته بحيث لا يكون لها ثقل أصلا- وذلك هو الكافر لا محالة- اخرج البزار والبيهقي عن انس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يؤتى ابن آدم يوم القيامة فيوقف بين كفتى الميزان ويؤكل به ملك فان ثقلت موازينه نادى الملك بصوت يسمع الخلائق سعد فلان لا يشقى بعده ابدا وان خفت موازينه نادى الملك بصوت يسمع الخلائق شقى فلان شقاوة لا يسعد بعده ابدا- والمراد بالخفة في هذا الحديث ايضا مالا يكون له ثقل أصلا- قلت لعل عصاة المؤمنين يوزن أعمالهم مرتين فان كان في حسناته بعض خفة يدخل في النار حتى يخلص ثم يوزن ثانيا بعد التطهير فيثقل موازينه وحينئذ ينادى الملك سعد فلان سعادة لا يشقى بعده ابدا وقد ذكرنا بعض تحقيقات المقام في سورة القارعة والدليل على ان المراد بهذه الاية هم الكفار خاصة دون عصاة المؤمنين قوله تعالى خبرا للموصول فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ غبنوها وضيعوا زمان استكمالها فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103) بدل من الصلة او خبر ثان لاولئك او خبر مبتدا محذوف تقديره وهم في جهنّم خالدون.

تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ اى تحرقها كذا في القاموس- واما المؤمن فلا يحرق وجوههم النار لما اخرج مسلم عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل قوم النار من هذه الامة فتحرقهم الّادارة وجوههم ثم يخرجون منها- واخرج ابن مردوية والضياء عن ابى الدرداء قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ- قال تلفحهم لفحة فتسيل لحومهم على أعقابهم واخرج الطبراني في الأوسط وابو نعيم عن ابى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ان جهنم لما سيق إليها أهلها تلفتهم يعنى فلفحتهم لفحة فما

ص: 406

أبقت لحما على عظم الا ألقته على أعقابهم وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (104) الجملة حال من الضمير المجرور المضاف اليه والكلوح تقلص الشفتين عن أسنان اخرج الترمذي وصححه عن ابى سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى وَهُمْ فِيها كالِحُونَ قال تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخى شفته السفلى حتى تضرب سرته- واخرج هناد عن ابى مسعود في قوله تعالى وَهُمْ فِيها كالِحُونَ قال مثل الرأس النضيج بدت أسنانهم وتقلصت شفاههم.

أَلَمْ تَكُنْ تقديره يقال لهم توبيخا وتذكيرا عما استحقوا العذاب لاجله الم تكن آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (105) .

قالُوا في جواب ذلك رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا قرا الجمهور بكسر الشين وسكون القاف وقرا حمزة والكسائي شقاوتنا بفتح الشين والقاف والف بعدها وهما لغتان يعنى ملكتنا شقاوتنا حتى صارت أحوالنا مؤدية الى سوء العاقبة وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (106) عن الحق.

رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها اى من النار فَإِنْ عُدْنا الى التكذيب فَإِنَّا ظالِمُونَ (107) لانفسنا فحينئذ لا تخلصنا من العذاب بعد ذلك-.

قالَ الله سبحانه في جوابهم اخْسَؤُا فِيها اى اسكتوا سكوت هو ان فانها ليست مقام السؤال وابعدوا- فى القاموس خسا الكلب بالنصب كمنع اى طرده خساء وخسوءا وخسا الكلب بالرفع اى بعد كانخسا فهو لازم ومتعد وَلا تُكَلِّمُونِ (108) قرا يعقوب بالياء وصلا ووقفا والباقون بلا ياء- يعنى لا تكلمونى في رفع العذاب فانى لا ارفعه منكم فحينئذ يئسوا عن الفرج- او لا تكلمونى مطلقا- قال الحسن هذا اخر كلام يتكلم به اهل النار ثم لا يتكلمون بعدها الّا الشهيق والزفير ويكون لهم عواء كعواء الكلب لا يفهمون ولا يفهمون- وقال القرطبي- إذا قيل لهم اخسئوا فيها ولا تكلّمون انقطع رجاؤهم واقبل بعضهم ينبح في وجه بعض وأطبقت عليهم اخرج هناد والطبراني وابن ابى حاتم والحاكم وصححه والبيهقي وعبد الله بن احمد في

ص: 407

روائد الزهد عن عبد الله بن عمرو قال ان اهل النار ينادون مالكا يا مالك ليقض علينا ربّك فيذرهم أربعين عاما لا يجيبهم ثم يجيبهم انّكم مكثون- ثم ينادون ربهم ربّنا أخرجنا منها فان عدنا فانّا ظلمون فيذرهم مثل الدنيا مرتين لا يجيبهم ثم يجيبهم اخسئوا فيها ولا تكلّمون- قال فيئس القوم فلا يتكلمون بعدها بكلمة ومه هو الا الزفير والشهيق- واخرج سعيد بن منصور والبيهقي عن محمد بن كعب انه قال لاهل النار خمس دعوات يجيبهم الله في اربع فاذا كانت الخامسة لا يتكلمون بعدها ابدا يقولون ربّنا امتّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل الى خروج من سبيل فيجيبهم ذلكم بانّه إذا دعى الله وحده كفرتم وان يّشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلىّ الكبير- ثم يقولون ربّنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا انّا موقنون فيجيبهم فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا انّا نسينكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون- ثم يقولون ربّنا اخّرنا الى أجل قريب نخب دعوتك ونتّبع الرّسل فيجيبهم او لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال ثم يقولون ربّنا أخرجنا نعمل صالحا غير الّذى كنّا نعمل فيجيبهم الله تعالى اولم نعمّركم ما يتذكّر فيه من تذكّر وجاءكم النّذير فذوقوا فما للظّلمين من نّصير- ثم يقولون ربّنا غلبت علينا شقوتنا وكنّا قوما ضالّين ربّنا أخرجنا منها فان عدنا فانّا ظلمون فيجيبهم الله تعالى اخسئوا فيها ولا تكلّمون عادت وجوههم قطعة لحم ليس فيها أفواه ولا مناخر يتردد النفس في أجوافهم- وانها ليسقط عليهم حيات من نار وعقارب من نار فلو ان حية منها نفحت بالمشرق احترق من بالمغرب ولو ان عقربا منها ضربت اهل الدنيا احترقوا من آخرهم- وانها لتسقط عليهم فتكون بين لحومهم وجلودهم- وانه ليسمع لها هناك جلبة كجلبة الوحش في الفيافي.

إِنَّهُ اى الشأن كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يعنى المؤمنين.

ص: 408

يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ.

فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا قرأ اهل المدينة وحمزة والكسائي بضم السين هاهنا وفي سورة صاد والباقون بكسرها واتفقوا على الضم في سورة الزخرف قال الكسائي والفرّاء السخر بكسر السين بمعنى الاستهزاء بالقول وبالضم بمعنى التسخير والاستعباد بالفعل ولذلك اتفقوا في سورة الزخرف لانه بمعنى التسخير لا يحتمل غيره وقال الخليل هما لغتان مترادفان نحو بحر لجى بضم اللام وكسرها وكوكب درى بضم الدال وكسرها وفي القاموس نحو ذلك حيث قال سخروا منه وبه هزى كاستسخر والاسم السخرية والسخرى بالضم ويكسر وسخره كمنعه سخريا بالكسر والضم كلفه مالا يريد وقهره وكذا في النهاية وغير وعلى كل تقدير مصدر زيدت فيه ياء النسبة للمبالغة والمراد هاهنا الاستهزاء بقرينة قوله تعالى حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ فان الضحك يترتب على الاستهزاء دون التسخير وحتى ابتدائية كما في مرض فلان حتى لا يرجونه يعنى حتى انسأكم اشتغالكم بالاستهزاء بهم والضحك ذكرى أسند الانساء الى المؤمنين مجازا قال مقاتل نزلت الآية في عمار وصهيب وسلمان وغيرهم من فقراء الصحابة كان كفار قريش يستهزون بهم.

إِنِّي جَزَيْتُهُمُ اى المؤمنين الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا اى بسبب صبرهم على اذاكم واستهزاءكم إياهم أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ دونكم قرأ حمزة والكسائي بكسر الهمزة على الاستيناف والباقون بفتحها على انه ثانى مفعولى جزيتهم.

قالَ قرأ البعض قل على انه امر من الله تعالى للملك او لبعض رؤساء اهل النار يوم البعث ان يسألوا جماعة اهل النار وقيل هو خطاب لكل واحد من اهل النار قل جواب هذا وقرأ الباقون بالألف يعنى قال الله تعالى للكفار يوم البعث كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ احياء وأمواتا في القبور عَدَدَ سِنِينَ تميز لكم.

قالُوا يعنى الكفرة في الجواب استقصار المدة لبثهم فيها اما لان المعذب يستطيل ايام شدته ويستقصر

ص: 409

بامر قبل ذلك واما لكونها منقضية والمنقضى في حكم المعدول واما لكون مدة حيوة الدنيا وايام القبور في غاية الاقتصار بالنسبة الى مدة الحيوة الآخرة لعدم انتهائها واما لكونها ايام سرورهم وايام السرور قصار وهذا على تقدير كون السؤال مقتصرا على مدة حيوتهم في الدنيا دون مدة لبثهم في القبور لانها ليست ايام السرور لثبوت عذاب القبر فيها بالقطعيات والإجماع لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ من الملئكة الذين يحفظون اعمال بنى آدم ويحصونها عليهم فانهم احفظ لمدة لبثنا او من البشر الذين يتمكنون من عد أيامها ان أردت تحقيقها فانا لما نحن فيه من العذاب مشغولون عن تذكرها.

قالَ قرأ حمزة والكسائي بغير الف على صيغة الأمر من الله تعالى والباقون بالألف على صيغة الحكاية يعنى قال الله تعالى إِنْ لَبِثْتُمْ يعنى ما لبثتم في الدنيا إِلَّا زمانا او لبثا قَلِيلًا بالنسبة الى ما تستقبلونه من مدة العذاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما الدنيا في الآخرة الا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه في اليمّ فلينظر بم يرجع رواه احمد ومسلم وابن ماجه عن المستورد لَوْ أَنَّكُمْ يعنى لو ثبت انكم كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ذلك وكلمة لو للتمنى والتوبيخ يعنى ليتكم تعلمون ان لبثكم في الدنيا قليل فلم تضيعوها في الملاهي والشهوات وما نسيتم لقاء يومكم هذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كن في الدنيا كانك غريب او عابر سبيل رواه البخاري عن ابن عمرو زاد احمد والترمذي وابن ماجة وعد نفسك من اهل القبور.

أَفَحَسِبْتُمْ الفاء للعطف على محذوف والهمزة للانكار والتوبيخ تقديره أتوهمتم فحسبتم اى ظننتم أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً ما كافة لعمل ان فدخلت على الجملة الفعلية وهى مع جملتها قائم مقام المفعولين لحسبتم وعبثا اما مفعول مطلق من قبيل ضربته سوطا او مفعول له او حال

ص: 410

من الفاعل او المفعول او منصوب بنزع الخافض يعنى لم نخلقكم خلقا عبثا لا لحكمة او للتلهى بكم او عابثين اى غير مريدين من خلقكم حكمة او حال كونكم مبعوثين غير مراد منكم حكمة التكليف بالطاعة والمعرفة والجزاء او لتلعبوا وتعبثوا بل خلقناكم لتعرفوا وتعبدوا ربكم وتطيعوه وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ قرأ حمزة والكسائي بفتح التاء وكسر الجيم على انه مبنى للفاعل من المجرد والباقون بضم التاء وفتح الجيم على انه مبنى للمفعول من الإرجاع وان مع جملتها عطف على انما خلقناكم والمعنى احسبتم عدم رجوعكم إلينا للجزاء او هو معطوف على عبثا يعنى ما خلقناكم غير راجعين إلينا.

فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ الّذي يحق له الملك فان من عداه مملوك بالذات مالك بالعرص من وجه وفي حال دون حال والفاء للتعليل والجملة في مقام التعليل للانكار تعالى الله وتنزه من ان يكون فعله عبثا لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ وصفه بالكرم لاختصاصه بتجليات كريمة من أكرم الأكرمين.

وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ يعنى يعبد غير الله لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ صفة اخرى لاله لازمة له فان الباطل لا برهان به جئ بها للتاكيد وبناء الحكم عليه تنبيها على ان التدين بما لا دليل عليه ممنوع فضلا عما دل الدليل على بطلانه او اعتراض بين الشرط والجزاء لذلك فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ جزاء لمن الشرطية يعنى انه تعالى مجازيه مقدار ما يستحقه إِنَّهُ اى الشان لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ بيان لجزائهم يعنى ليس لهم نجاة من النار وفوز الى الجنة بدأ الله السورة بتقرير الفلاح للمؤمنين وختمها

ص: 411

بنفي الفلاح عن الكافرين ثم امر رسوله بان يستغفروا يسترحمه حتى يتاسى به المؤمنون من أمته فيفوزوا على مدارج الفلاح فقال.

وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ جملة أنت خير الراحمين حال من فاعل ارحم وحذف المفعول من اغفروا رحم لتعميم الدعاء بالمغفرة متكفل لسلب جميع المضرات وبالرحمة لجلب جميع المنافع روى البغوي في التفسير عن حنش ان رجلا مصابا مرّبه على ابن مسعود فرقى في اذنيه أفحسبتم انما خلقناكم عبثا وانكم إلينا لا ترجعون حتى ختم السورة فبرأ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بماذا رقيت في اذنه فاخبره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والّذي نفسى بيده لو ان رجلا موقنا قرأها على جبل لزال تمت تفسير سورة المؤمنين خامس عشر شهر صفر سنة اربع والف ومائتين ويتلوه سورة النور إنشاء الله تعالى وصلّى الله على محمّد واله وصحبه وسلم امير.

ص: 412