الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فى الاستماع ولو فرضنا عدم زيادة وصف السمع وكذلك كاف في الابصار ونحو ذلك فالذات باعتبار انها صالحة لترتب اثار الاستماع تسمى شأن السمع واعتباره وباعتبار انها صالحة للابصار تسمى شأن البصر وهكذا فالشيون اصول للصفات كما ان الصفات اصول للظلال- وهذه الاعتبارات والشيون الكائنة في الذات شبيهة بالزيت في الشجرة المباركة الزيتونة فتم التشبيه بقوله تعالى يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ حيث جاز ترتب الآثار على اعتبارات الذات ولو لم تكن هناك صفات شبيهة بنار المصباح- نور على نور- يعنى نور المصباح المنور للزجاج والمشكوة زائد على نور زيت الشجرة كما ان نور الصفات في ترتب الآثار عليها واضاءة الماهيات وإيجاد الممكنات زائد على نور اعتبارات في الذات يهدى اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ يعنى لا يعلم هذه المعارف الخاصة الا من يشاء الله من خواص العرفاء والله اعلم- وعلى هذا التأويل في هذه الاية اشارة الى الإيجاد والولادة الاولى من كتم العدم الى الوجود الخارجي الظلي المستلزم لا قربية الذات بسائر الموجودات عامة المكنى بقوله تعالى وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ وقد ذكرنا تحقيق الاقربية في تفسير تلك الاية في سورة قاف-
والتأويل الثاني
على ما قاله السلف الله نور السّموت والأرض اى هادى اهل السموات والأرض فهو بنوره يهتدون الى معرفة الذات والصفات ويرتقون الى مدارح القرب الخاص المكنى عنه بقوله تعالى قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ وقوله تعالى الله وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وقوله عليه السلام حكاية عن الله سبحانه لا يزال عبدى يتقرب الىّ بالنوافل حتى أجبته فاذا أجبته كنت سمعه الّذي يسمع به الحديث- وهذا القرب هو المسمى بالولاية الخاصة مثل نوره في قلب المؤمن كمشكوة اى كنور مشكوة فيها مصباح فالمشكوة حينئذ مثال لقلب المؤمن والمصباح الموقد من شجرة مباركة
زيتونة لا شرقيّة ولا غربيّة يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار شبيه بما يتجلّى في قلب المؤمن من صفات الله سبحانه المنشعبة من الذات المندمج فيها الشيون والاعتبارات الذاتية على ما مرّ تقريره- وقوله الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ اشارة الى ان عامة الناس من الأولياء ليس حظهم من تجليات الصفات الا من وراء حجب الظلال فان مبادى تعينات غير الأنبياء انما هى ظلال الصفات ففاية ارتقائهم بالاصالة الى أصولهم وهى الظلال الّتي يقتبسون بتوسطها أنوار الصفات فيحصل لهم فيها الفناء والبقاء ويتقربون الى الله بقرب يسمى ولاية الأولياء وهى الولاية الصغرى لكن بعض الآكلين منهم قد يحصل لهم الترقي من هذا المقام بتبعية صاحب الشريعة الى مقام الصفات بل الى الشيون والاعتبارات ويحصل فيها الفناء والبقاء فمقام الصفات من حيث الظهور يعنى من حيث قيامها بالذات يسمى الولاية الكبرى ولاية الأنبياء ومن حيث البطون يسمى الولاية العليا ولاية الملائكة- ثم الصديقون منهم (وهم ثلّة من الاوّلين يعنى اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقليل من الآخرين) يرتقون من مقام الصفات والشيون الى مرتبة الذات المتعالي من الشيون والاعتبارات حتى يتجلّى الذات بلا حجب الصفات والاعتبارات فتبارك الله رفيع الدرجات- وليس في هذه الاية اشارة الى الفريقين الأخيرين غير ان قوله تعالى نُورٌ عَلى نُورٍ جاز ان يكون اشارة الى تفاوت درجات الأولياء في مراتب وصولهم الى الله تعالى- يعنى ان هناك نور على نور بعضها فوق بعض يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ على حسب ما شاء عن عبد الله بن عمرو قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ان الله خلق خلقه في ظلمة فالقى عليهم من نوره فمن أصاب من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضلّ فلذلك أقول جف القلم على علم الله- رواه احمد والترمذي
يعنى خلق الله خلقه في ظلمة اى جهل وضلال ناش من العدم الذاتي الكائن في مبادى تعيناتهم فالقى عليهم من نوره اى من النور الّذي اقتبس الظلال من الصفات فمن أصابه ذلك النور اهتدى ومن اخطأه ضل وطريق الاصابة ان يقتبس ذلك النور ممن بعثه الله رحمة للعالمين وشرح صدره وملأ قلبه نورا وحكمة وايمانا ويجعل قلبه مرءاة لقلبه عليه السلام فيتنور قلبه بقدر الاقتباس والاقتفاء فمنهم من اكتسب صورة الايمان ونجا من الكفر في الدنيا والنيران في الاخرة ومنهم من اكتسب حقيقة الايمان على تفاوت الدرجات ومنهم من لم يقتبس أصلا فاخطأه النور وضلّ- عن ابى عنبسة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان لله تعالى آنية من اهل الأرض وانية ربكم قلوب عباد الله الصالحين واحبّها اليه ألينها وأرقها- رواه الطبراني وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ يعنى يبين في القران للامور الّتي لا سبيل للحواس إليها بالأمثال المحسوسة ليحصل للناس بها علم ويزداد وضوحا- وجاز ان يكون معنى الاية ان الله يرى أولياءه في عالم المثال أمثالا لما لا مثل له حتى يتبين لهم الحق- وذلك ان القرب الى الله سبحانه ثابت بالكتاب والسنة لا يزال العبد يتقرب اليه بالنوافل لكن ذلك القرب امر غير متكيف لا يمكن دركه بالحواس ولا بالعقل ولا يتعلق به علم حصولى ولا حضورى ولكن يدرك بعلم مفاض من الله تعالى سوى ما ذكر وهو المكنى بقوله حتى كنت سمعه الّذي يسمع به- وجعل الله تعالى لدركه وجها اخر وهو ان الأمور الّتي لا مثل لها يتمثل في عالم المثال بصورة الأجسام فيرى الصوفي في عالم المثال دائرة للظلال ودائرة للصفات ونحو ذلك- وكلّما يتقرب العبد الى الله بالنوافل والانابة والاجتباء يرى الصوفي نفسه سائرا الى دائرة الظلال حتى يصلها
ويضمحل فيها ويتلون بلونها- ثم يرى نفسه سائرا الى الصفات حتى يصلها ويضمحل فيها ويتلون بلونها- وذكر التلون انما هو لقصور العبارة والّا فلا لون هناك قال الله تعالى
سنريهم ايتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتّى يتبيّن لهم انّه الحقّ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) هذه الجملة حال من فاعل يضرب.
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ صفة لبيوت وان بتقدير الباء متعلق بإذن اى اذن الله بان ترفع تلك البيوت والمراد بها المساجد قال سعيد بن جبير عن ابن عباس المساجد بيوت الله في الأرض وهى تضيء لاهل السماء كما تضيء لاهل الأرض النجوم- ومعنى ان ترفع قال مجاهدان تبنى نظيره قوله تعالى وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة متفق عليه من حديث عثمان وقال الحسن معناه ان تعظم يعنى لا يذكر فيها القبيح من القول قال الله تعالى أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ- قال البغوي روى صالح
…
بن حبان عن بريدة في هذه الاية قال انما هى اربع مساجد لم يبنها الا نبى الكعبة بناها ابراهيم وإسماعيل وبيت المقدس بناها داود وسليمان ومسجد المدينة ومسجد قبا اسّس على التّقوى من اوّل يوم بناهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت ولا وجه لتخصيص هذه المساجد وان كن هى أفضل المساجد البتة- قوله في بيوت متعلق بما قبله اى كمشكوة في بعض بيوت كذلك او توقد في بيوت كذلك فيكون تقييدا للممثل به- وهذا التأويل عندى ضعيف لان الله سبحانه شبّه نوره بنور المشكوة وقيدها بقيود تدل على قوة النور وشدة لمعانه ولا مدخل في ذلك لهذا القيد أصلا- والقول بان قناديل المساجد تكون أعظم ممنوع بل قناديل مجالس الأغنياء يكون أقوى نورا وأشد لمعانا من قناديل المساجد- فالاولى ان يقال انه متعلق بقوله تعالى يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ فان الهداية غالبا يكون للعاكفين في المساجد والمصلين حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة معراج المؤمن «1» وقال
(1) هكذا بياض في الأصل 12.
اقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فاكثروا الدعاء- رواه مسلم وابو داود والنسائي عن ابى هريرة وجاز ان يكون متعلقا بمحذوف يعنى سبحوا امر بالتسبيح لجلب هداية الله المذكور فيما سبق وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ في الصلاة وخارجها قال ابن عباس يتلى فيها كتابه يُسَبِّحُ صفة اخرى لبيوت او جملة مستأنفة او خبر اخر لله يعنى الله نور السّموت والأرض والله يسبح له- قرأ أبو بكر وابن عامر بفتح الباء على البناء للمفعول مسندا الى احدى الظروف الثلاثة المذكورة بعدها والوقف على هذا على الآصال والباقون بكسر الباء على البناء للفاعل لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (36) قال اهل التفسير أراد به الصلوات المكتوبات فان المساجد بنيت لاجلها فصلوة الفجر تؤدّى بالغدو والاربعة الباقية بالآصال- والغدو في الأصل مصدر اطلق للوقت ولذلك حسن اقترانه بالآصال وهو جمع «1» اصل اى العشى وقيل أراد صلوة الصبح والعصر لكمال الاهتمام فان الصبح وقت النوم والعصر وقت الاشتغال بالسوق ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلى البردين دخل الجنة- رواه مسلم من حديث ابى موسى وقال الله تعالى حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى قال البغوي روى عن ابن عباس قال التسبيح بالغدو وصلوة الضحى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من مشى الى صلوة مكتوبة وهو متطهر فاجره كاجر الحاج المحرم ومن مشى الى صلوة الضحى لا ينصبه الا إياه فاجره كاجر المعتمر وصلوة على اثر صلوة كتاب في عليين- ذكره البغوي من حديث ابى امامة وروى الطبراني عنه بلفظ من مشى الى صلوة مكتوبة في الجماعة فهى كحجة ومن مشى الى صلوة تطوع فهى كعمرة نافلة-.
رِجالٌ فاعل يسبح على قراءة الجمهور وفاعل لفعل محذوف دل عليه يسبح على قراءة ابن عامر وابى بكر في جواب سوال مقدر كانّه قيل
(1) وفي مجمع البحار الآصال جمع اصل (بضمتين) جمع اصيل وقيل غير ذلك 12 الفقير الدهلوي. [.....]
من يسبح له فقال يسبح له رجال- خص الرجال بالذكر لانه ليس على النساء جمعة ولا جماعة في المسجد او لان الغالب في النساء الجهل والغفلة لا تُلْهِيهِمْ اى لا تشغلهم تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ أفرد البيع بالذكر مع شمول لفظ التجارة إياه لانه أهم من قسمى التجارة فان الربح يتوقع بالاشتراء ويتحقق بالبيع- وقيل أراد بالتجارة الاشتراء (وان كان اسم التجارة يقع على البيع والاشتراء) يدل عطف البيع عليه- وانما ذكر لفظ التجارة موضع الاشتراء لان الاشتراء مبدأ التجارة وقيل أراد بالتجارة المعاملة الرابحة ثم ذكر البيع مبالغة بالتعميم بعد التخصيص- وقال الفراء التجارة لاهل الجلب والبيع ما باعه الرجل على يديه عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ يعنى عن حضور المساجد لا قام الصلاة قال البغوي روى سالم عن ابن عمر انه كان في السوق فاقيمت الصلاة فقام الناس فاغلقوا حوانيتهم فدخلوا المسجد فقال ان فيهم نزلت لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ او المراد لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ودوام الحضور وهذا يعم من ترك المعاملات واستغرق أوقاته بالطاعات واعتزل الناس ومن لم يترك المعاملات وهو مع اشتغاله بالتجارات لا يشغل التجارة قلبه عن ذكر الله فهو في الناس كائن بائن ظاهره مع الخلق وباطنه مع الله غافل عما سواه وَإِقامِ الصَّلاةِ عوض فيه الاضافة من التاء المعوضة من العين الساقط بالاعلال- قال البغوي أراد الله سبحانه أداءها في أوقاتها لان من اخّر الصّلوة عن وقتها ليس هو مقيما للصلوة وَإِيتاءِ الزَّكاةِ المفروضة قال ابن عباس إذا حضر وقت الزكوة لم يحبسوها- وقيل هى الأعمال الصالحة كلها- يَخافُونَ حال من فاعل يسبح او من مفعول لا تلهيهم يعنى انهم مع ما هم عليه من الذكر والطاعة يخافون يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ صفة ليوما والعائد ضمير فيه يعنى تضطرب وتتغير من الهول الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (37) وقيل
معناه تتقلّب قلوب الكفار عمّا كانت عليه في الدنيا من الكفر والشك وتنفتح أبصارهم من الاغطية فتبصر ما لم تكن تبصر ولم تحتسب وتتقلب قلوب المؤمنين وأبصارهم عما كانوا عليه من القناعة بمشاهدة المثال فيرون الله سبحانه كالقمر ليلة البدر وكالشمس في رابعة النهار- وقيل معناه تتقلب القلوب يوم القيامة من الخوف والرجاء يخشى الهلاك ويطمع النجاة وتتقلب الابصار حولهم من اى ناحية يؤخذا من ذات اليمين أم من ذات الشمال ومن اين يؤتون كتبهم أمن قبل اليمين أم من قبل الشمال- وقيل تتقلب القلوب من الخوف فترجع الى الحنجرة فلا تنزل ولا تخرج وتتقلب الابصار اى تشخص من هول الأمر وشدته.
لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ متعلق بيسبح او بلا تلهيهم وجاز ان يكون متعلقا بيخافون ويكون اللام حينئذ للعاقبة إذا لخوف ليس من الافعال الاختيارية- والعلة الغائية يختص بالافعال الاختيارية- أَحْسَنَ جزاء ما عَمِلُوا الموعود لهم من الجنة فهو منصوب على المصدر او المعنى يجزيهم أعمالهم الحسنة فاحسن بمعنى حسن وهو منصوب على المفعولية وَيَزِيدَهُمْ على الجزاء الموعود او على جزاء أعمالهم مالم يخطر ببالهم مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (38) تقرير للزيادة وتنبيه على كمال القدرة ونفاذ المشية وسعة الإحسان يعنى يرزق الله ما لا نهاية له يقال فلان ينفق بغير حساب اى يوسع كانه لا يحسب ما ينفقه-.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ وهو اللامع في المفازة من لمعان الشمس عليها وقت الظهيرة يظن انه ماء يسرب اى يجرى- الجملة معطوفة على مضمون الكلام السابق تقديره المهتدون بنور الله يجزيهم الله احسن ما عملوا ويزيدهم والذين كفروا لا ينفعهم أعمالهم فانها كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ القيعة والقاع المستوي من الأرض وجمعه قيعان وتصغيره قويع وقيل هى جمع قاع كحيرة وحار
يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ اى يتوهمه العطشان ماءً تخصيص الظمآن بالذكر لتشبيه الكافر به في شدة الخيبة عند مسيس الحاجة حَتَّى إِذا جاءَهُ اى جاء ما توهمه ماءا وموضعه لَمْ يَجِدْهُ شيئا مما ظنه وَوَجَدَ اللَّهَ اى وجد عذاب الله عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ اى أعطاه جزاء اعماله وافيا كاملا على حسب عمله- فان قيل وجد الله معطوف على لم يجده وعلى جاءه والضمير المرفوع في كل منهما راجع الى الظمآن فما معنى وجد الظمآن عذاب الله عند السراب- قلت هذا الكلام عندى يحتمل التأويلين أحدهما ان الكافر إذا كان يوم القيامة اشتد عطشه فيرى النار سرابا يحسبه ماء فيسرع اليه حتى إذا جاءه لم يجده شيئا مما توهمه ووجد عذاب الله يعنى النار عنده وثانيهما ان المراد بعذاب الله ما يلحق الظمآن في الدنيا من الشدة واليأس ومبناه سيئات اعماله حيث قال الله تعالى ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ- والاولى ان يقال ان حتى ابتدائية يتصل بقوله أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ- والمعنى حتى إذا جاء الكافر عمله في الاخرة لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فالضمير المرفوع في جاءه راجع الى أحد من الكفار لا الى الظمآن والمنصوب الى عمله لا الى السراب وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39) لا يشغله حساب عن حساب يحاسب عباده في قدر نصف يوم من ايام الدنيا-.
أَوْ كَظُلُماتٍ عطف على كسراب واو للتخيير كانه يخير المخاطب في التشبيه فان أعمالهم لكونها غير نافعة موجبة للياس والتحسر كائنة كالسراب ولكونها خالية عن نور الحق كائنة كالظلمات المتراكمة من لج البحر والأمواج والسحاب- او للتنويع فان أعمالهم ان كن حسنات كالصدقة وصلة الرحم ونحوها فهى كالسراب وان كن قبيحات فكالظلمات او للتقسيم باعتبار الوقتين فانها كالظلمات في الدنيا وكالسراب في الاخرة فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ عميق
كثير الماء منسوب الى اللج قال البيضاوي هو معظم الماء كذا في النهاية والقاموس وقيل هو تردد أمواجه يَغْشاهُ اى البحر مَوْجٌ يغشاه صفة اخرى للبحر والموج ما يعلو من الماء باضطراب الرياح مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ يعنى امواج مترادفة متراكمة مِنْ فَوْقِهِ اى من فوق الموج الثاني سَحابٌ يحجب أنوار النجوم قرأ البزي بغير تنوين مضافا الى ظُلُماتٌ بالجر وبرواية القواس سحاب بالرفع والتنوين والظلمات بالجر على البدل من قوله كظلمات وقرأ الباقون سحاب ظلمت كلاهما بالرفع والتنوين فيكون تمام الكلام عند قوله سَحابٌ وظُلُماتٌ خبر لمبتدأ محذوف اى هى ظلمات بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لينظر إليها وهى اقرب ما يرى لَمْ يَكَدْ يَراها اى لم يقرب ان يراها فضلا ان يراها والضمائر للواقع في البحر وان لم يجز ذكره لدلالة الكلام عليه كذلك اعمال الكفار ظلمات على قلبه بعضها فوق بعض مانعة لهم من الاهتداء وادراك الحق فالكفر الّذي هو من اعمال القلوب كالبحر اللجى المظلم يغشاه ظلمات المعاصي بعضها فوق بعض كالامواج الّتي بعضها فوق بعض والختم والطبع على قلبه كالسحاب على الأمواج- فاذا أراد الكافر التفكر في امور الدين وان يدرك ما هو اجلى البديهيات لم يكد يريها الا ترى انه ينكر الأنبياء مع تواتر معجزاتهم الباهرة ويعتقد الوهية الحجارة مع انحطاط رتبتها عن سائر المخلوقات وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40) يعنى ان الهداية امر وهبى بل حصول العلم بالنتيجة بعد العلم بالمقدمتين امر عادى وهبى ليس على سبيل الوجوب عند اهل الحق فكم من بله في امور الدنيا أكياس في امور الاخرة وكم من كيس جربز في الدنيا هم عن الاخرة غافلون وهم في امور الدين كالانعام- وهو المعنى من قوله صلى الله عليه وسلم ان الله خلق خلقه في ظلمة فالقى عليهم من نوره فمن أصاب من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل فلذلك أقول جف القلم على علم الله-
وقد مرّ فيما سبق قال البغوي قال مقاتل نزلت هذه الاية في عتبة بن ربيعة بن امية كان يلتمس الدين في الجاهلية وليس المسوح فلما جاء الإسلام كفر.
أَلَمْ تَرَ الم تعلم علما يشبه المشاهدة في اليقين والوثاقة الحاصل بالوحى والاستدلال والكشف الصريح أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ اى يشهد على تقدسه وتنزهه عن المناقص مَنْ فِي السَّماواتِ من الملائكة وما في علم الله من جنوده وَمن في الْأَرْضِ من الانس والجنّ وغيرهم والمراد جميع المخلوقات وانما أورد كلمة من تغليبا لذوى العقول- والدليل على ارادة العموم قوله تعالى وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ اى باسطات أجنحتهن في الهواء قيد الطير بالصافات لئلا يلزم التكرار فان الطير الكائنة على وجه الأرض دخلت في من في الأرض كُلٌّ اى كل واحد من المسبحة قَدْ عَلِمَ الله صَلاتَهُ اى دعاءه وَتَسْبِيحَهُ وقيل معناه علم كل من المسبحة صلوة نفسه وتسبيحه بتعليم الله تعالى وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فانه مالكهما وخالقهما ولما فيها من الذوات والصفات والافعال وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) مرجع الجميع فيجازى كلهم على حسب عمله حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً اى يسوق من التزجية وهو دفع الشيء- ومنه البضاعة المزجاة فانها يدفعها كل أحد ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ اى يجمع بين قطع متفرقة بعضها الى بعض ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً اى بعضها فوق بعض فَتَرَى الْوَدْقَ اى المطر يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ اى من فتوقه وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها بدل اشتمال من السماء ومن في الموضعين لابتداء الغاية وجاز ان تكون الثانية للتبعيض واقعا موقع المفعول مِنْ بيانية بَرَدٍ بيان للجبال فالمعنى على الاول ينزل من جبال كائنة في السماء كائنة تلك الجبال من برد وعلى هذا قال ابن عباس اخبر الله تعالى ان في السماء جبالا من برد وعلى الثاني ينزل من السماء بعض جبال يعنى قطعا عظاما تشبه بالجبال في عظمها وجمودها كائنة تلك الجبال من برد
وجاز ان تكون من هذه للتبعيض واقعا موقع المفعول فَيُصِيبُ بِهِ اى بذلك البرد مَنْ يَشاءُ فيهلك زرعه وأمواله وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ فلا يضره يَكادُ سَنا اى ضوء بَرْقِهِ اى برق السحاب يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (43) قرأ ابو جعفر يذهب بضم الياء وكسر الهاء من الافعال فالياء على هذا زائدة.
يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ اى يأتى بالليل بعد النهار وبالنهار بعد الليل او يزيد في أحدهما ما ينقص من الاخر او بتغير أحوالهما بالحرّ والبرد والظلمة والنور او ما يعم ذلك عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى يؤذينى ابن آدم يسب الدهر وانا الدهر بيدي الأمر اقلب الليل والنهار متفق عليه إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور لَعِبْرَةً اى دلالة على وجود الصانع الواجب وجوده وكمال قدرته واحاطة علمه ونفاذ مشيته وتنزهه عن الاحتياج الى غيره لِأُولِي الْأَبْصارِ (44) اى لمن أعطاه الله بصيرة وعقلا سليما.
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ قرأ حمزة والكسائي خالق كلّ دابّة باضافة اسم الفاعل الى مفعوله حاملا لضمير الفاعل والباقون خلق على صيغة الماضي ونصب كلّ على المفعولية يعنى خلق كل من يدب على الأرض من الحيوانات مِنْ ماءٍ هو جزء مادية او ماء مخصوص يعنى النطفة فيكون تنزيلا للغالب منزلة الكل إذ من الحيوانات مالا يتولد من النطفة- وقيل من ماء صفة لدابة وليس صلة لخلق ولا يدخل في الدابة الملائكة والجن- وقيل الماء اصل لجميع الخلائق قال البغوي وذلك ان الله خلق الماء ثم جعل بعضه ريحا فخلق منها الملائكة وبعضه نارا فخلق منها الجن وبعضه طينا فخلق منه آدم وسائر الحيوانات فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ كالحيات والديدان وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ كالانسان والطير وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ كالبهائم والسباع ولم يذكر من يمشى على اكثر من اربع كالعناكب وبعض الحشرات لانها في صورة من يمشى على اربع وتذكير الضمير لتغليب العقلاء والتعبير عن الأصناف ليوافق التفصيل الإجمال يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ مما ذكر وممّا لم
يذكر من البسائط والمركبات على اختلاف الصور والهيئات والحركات والطبائع والافعال مع اتحاد المادة على مقتضى مشيته وحكمته إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) فيفعل ما يشاء.
لَقَدْ أَنْزَلْنا فى القران آياتٍ او أنزلنا في عالم الوجود الظلي دلائل مُبَيِّناتٍ مظهرات للحق شواهد على وجود الصانع العليم الحكيم القدير بانواع الدلالات وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ هدايته إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) يعنى دين الإسلام الموصل الى مراتب القرب والفوز الى الجنة والنجاة من النار يعنى ان الايمان امر وهبى لا يحصل بالنظر في الدلائل الا بتوفيق من الله وهدايته والله اعلم- ذكر البغوي ان بشر المنافق كانت بينه وبين رجل من اليهود خصومة في ارض فقال اليهودي نتحاكم الى محمد وقال المنافق نتحاكم الى كعب بن اشرف فان محمدا يحيف علينا فنزلت.
وَيَقُولُونَ يعنى بشرا وأمثاله من المنافقين آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا اى إياهما ثُمَّ يَتَوَلَّى عن الايمان وعن طاعتهما بالامتناع عن قبول حكمه إذا كان حكمه على خلاف هواه فَرِيقٌ مِنْهُمْ الذين لم يكونوا في الخصومة على الحق مِنْ بَعْدِ ذلِكَ اى بعد قولهم هذا وَما أُولئِكَ اشارة الى المنافقين كلهم وفيه اعلام بان جميعهم وان أمنوا بلسانهم لم يؤمن قلوبهم او الى الفريق المتولى منهم بِالْمُؤْمِنِينَ (47) التعريف للدلالة على انهم ليسوا من المؤمنين الذين عرفتهم ويعلم الله صدقهم وإخلاصهم- اخرج ابن ابى حاتم من مرسل الحسن قال كان الرجل إذا كان بينه وبين الرجل منازعة فدعى الى النبي صلى الله عليه وسلم وهو محق إذ عن وعلم ان النبي صلى الله عليه وسلم سيقضى له بالحق وإذا أراد ان يظلم فدعى الى النبي صلى الله عليه وسلم اعرض وقال انطلقوا الى فلان فانزل الله.
وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ اى الى حكم الله ورسوله وقيل معنى قوله إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ دعوا الى رسوله فقوله ورسوله منزلة التفسير لما سبق كما في قوله أعجبني زيد وكرمه- وجملة إذا دعوا الى آخره
عطف على ما أولئك بالمؤمنين او على يقولون لِيَحْكُمَ الرسول بحكم الله بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) يعنى فاجأ فريق منهم الاعراض عن الحكم او عن الايمان يعنى من كان منهم يعلم انه على الباطل.
وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ على من يخاصمهم يَأْتُوا إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم مُذْعِنِينَ (49) منقادين لحكمه ليقينهم انه يحكم بالحق.
أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ اى كفر وميل الى الظلم أَمِ ارْتابُوا بان راؤا منك تهمة فزال ثقتهم ويقينهم بك أَمْ يَخافُونَ يقينا أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ فى الحكومة بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) على أنفسهم بالكفر وعدم الانقياد لله ورسوله وعلى الناس الناس يريدون ان يأكلوا أموالهم بالباطل إضراب عن القسمين الأخيرين لتحقيق القسم الاول وجه التقسيم ان امتناعهم اما لخلل فيهم او في الحاكم والثاني اما ان يكون محققا عندهم او متوقعا وكلاهما باطل لان منصب نبوته وفرط أمانته يمنعه فتعين الاول- ويشهد على ذلك إتيانهم للحكم اليه مذعنين إذا كان لهم الحق- أورد ضمير الفصل ليدل على نفى ذلك عن غيرهم لا سيما المدعو الى حكمه- ثم عقب الله تعالى ذكر المؤمنين المخلصين وما ينبغى لهم على ما هو عادته في المثاني والقران العظيم فقال.
إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ المخلصين إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ قول منصوب على انه خبر لكان واسمه أَنْ يَقُولُوا يعنى قولهم سَمِعْنا الدعاء وَأَطَعْنا بالاجابة وَأُولئِكَ يعنى من كان هذا قوله هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) دون غيرهم.
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قال ابن عباس فيما ساءه وسرّه وَيَخْشَ اللَّهَ على ما عمل من الذنوب وفي مخالفة أحكامه وَيَتَّقْهِ اى يتقى عذابه بامتثال أوامره والانتهاء عن مناهيه ومحافظة أحكامه وحدوده- قرأ حفص بإسكان القاف واختلاس كسرة الهاء لسكون ما قبلها وهذا لغة إذا سقط اليا- للجزم يسكنون ما قبلها يقولون لم اشتر طعاما بسكون الراء والجمهور بكسر القاف على الأصل و
يسكن الهاء وصلا ووقفا أبو بكر وابو عمرو وخلاد في رواية عنه عن حمزة والباقون يكسرون الهاء فيختلسها ابو جعفر وقالون ويعقوب ويشبعها الباقون لاجل تحرك ما قبلها فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (52) بالنعيم المقيم ورضوان الله تعالى-.
وَأَقْسَمُوا
يعنى المنافقين بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ
جهد منصوب على انه مصدر يعنى مضاف الى مصدر اقسموا من غير لفظه او حال من فاعل اقسموا بالله جاهدين بايمانهم يعنى بالغين غايتها- وجهد اليمين مستعار من جهد نفسه إذا بلغ أقصى وسعها او ظرف يعنى وقت جهدهم ايمانهم اى المبالغة فيه انكار للامتناع لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ
يا محمد بالخروج عن ديارهم وأموالهم او بالخروج للجهاد لَيَخْرُجُنَ
جواب لاقسموا على الحكاية وجزاء للشرط معنى- قال البغوي ذلك ان المنافقين كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم أينما كنت نكن معك لان خرجت خرجنا وان أقمت أقمنا وان امرتنا بالجهاد جاهدنا قال الله تعالى قُلْ
لهم لا تُقْسِمُوا
على الكذب طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ
قال مجاهد اى هذه طاعة بالقول باللّسان دون الاعتقاد وهى معروفة اى امر عرف منكم انكم تكذبون وتقولون ما لا تفعلون- وقيل معناه طاعة معروفة بينة خالصة أفضل وأمثل من الخلف بالقول وقال مقاتل بن سليمان ليكن منكم طاعة معروفة وقيل معناه المطلوب منكم طاعة معروفة لا اليمين بالطاعة نفاقا إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ
(53)
لا يخفى عليه سرائركم.
قُلْ كرد الأمر تأكيدا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ امر بتبليغ ما خاطبهم الله تعالى على الحكاية مبالغة في تبكيتهم فَإِنْ تَوَلَّوْا صيغة مضارع حذفت احدى التاءين بقرينة ان تطيعوه يعنى ان تتولوا ايها المنافقون عن الطاعة فيه التفات من الغيبة الى الخطاب فَإِنَّما عَلَيْهِ اى على محمد ما حُمِّلَ من التبليغ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ من الامتثال جزاء الشرط محذوف أقيم علته مقامه والتقدير فان تتولوا تخسروا أنفسكم ولا تضرون الرسول شيئا لانه انما
عَلَيْهِ ما حُمِّلَ عليه وقد ادى ما كان عليه وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وأنتم تتولون عنه فتخسرون وَإِنْ تُطِيعُوهُ عطف على ان تولوا اى ان تطيعوا محمدا في حكمه تَهْتَدُوا الى الحق والى سبيل الجنة وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54) اى التبليغ الموضح لما كلفتم به بيان لما حمل- اخرج الحاكم وصححه والطبراني عن أبيّ بن كعب قال لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة فكانوا لا يبيتون الا بالسلاح ولا يصبحون الا فيه فقالوا ترون انا نعيش حتى نبيت امنين مطمئنين لا نخاف الا الله فنزلت وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ يا اهل المدينة الذين هم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزول الاية وليس المراد من المؤمنين عامة لانه يلزم حينئذ الاستدراك فان كلمة الذين أمنوا مغن عنه.
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ جواب قسم محذوف تقديره وعد الله واقسم اى قال والله ليستخلفنّهم او الوعد في تحققه نزل منزلة القسم اى لنورثنهم ارض الكفار من العرب والعجم فنجعلهم يعنى نجعلن منهم خلفاء ملوكا واجب الطاعة سياسة- او المعنى لنجعلهم بأجمعهم متصرفين في الأرض تصرف الملوك في مماليكهم كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ صفة لمصدر محذوف اى استخلافا كاستخلاف الذين من قبلهم من الأنبياء داود وسليمان وغيرهما كذا قال قتادة او كاستخلاف بنى إسرائيل حيث أهلك الجبابرة بمصر والشام وأورثهم ارضهم وديارهم وأموالهم يعنى كما كان الله تعالى وعد موسى عليه السلام في التورية بفتح بلاد الشام ولم يتحقق انجاز الوعد في حياته عليه السلام كما قال الله تعالى فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فاستخلف الله بعده يوشع بن نون وأنجز ذلك الوعد على يديه حتى فتح الشام وقسم البلاد في بنى إسرائيل
بوصية موسى- كذلك وعد الله محمدا صلى الله عليه وسلم ليظهره على الدين كله ووعد بفتح الشام على ما قرئ غلبت الرّوم على البناء للفاعل في ادنى الأرض وهم من بعد غلبهم اى بعد ما غلبوا على الفارس سيغلبون على البناء للمفعول اى سيغلبهم المسلمون في بضع سنين وعد الله لا يخلف الله وعده ولم يتيسر ذلك في حيوة النبي صلى الله عليه وسلم فاستخلف الله أبا بكر وعمر وأنجز وعده حين قاتل أبو بكر ببني حنيفة ومن ارتد من العرب وفتح الشام في خلافة عمر حين غزاهم في السنة التاسعة من غلبة الروم الّذي كان يوم الحديبية في سنة ست من الهجرة- وكون الوعد منجزا في خلافة عمر مروى عن على حين استشار عمر اصحاب النبي في المسير الى العراق للجهاد فاشار علىّ بالجهاد متمسكا بهذه الاية- روى هذا القول عن علىّ بطرق متعددة في كتبنا وفي النهج البلاغة من كتب الروافض قول علىّ رضى الله عنه ان هذا الأمر لم يكن نصرته ولا خذلانه بكثرة ولا قلة وهو دين الله الّذي أظهره وجنده الّذي أعزه وايّده حتى بلغ ما بلغ وطلع من حيث طلع ونحن على موعود من الله حيث قال وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ الاية- فالله منجز وعده وناصر جنده الى اخر ما قال قرأ أبو بكر استخلف بضم الهمزة والتاء وكسر اللام على البناء للمفعول والباقون بكسر الهمزة وفتح التاء واللام على البناء للفاعل لقوله تعالى وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا
…
وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى اى اختار لَهُمْ قال ابن عباس يوسّع لهم في البلاد حتى يملكوها ويظهر دينهم الإسلام على سائر الأديان وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ قرأ ابن كثير وأبو بكر ويعقوب بالتخفيف وسكون الباء من الابدال والباقون بالتشديد وفتح الباء من التبديل مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً جملة يعبدوننى حال من الّذين أمنوا منكم لتقييد الوعد بالثبات على التوحيد او استيناف لبيان المقتضى للاستخلاف وقوله لا يُشْرِكُونَ حال من فاعل يعبدوننى او حال مرادف
ليعبدوننى من الموصول- قال ابو العالية فاظهر الله نبيه على جزيرة العرب فامنوا ووضعوا السلاح ثم ان الله قبض نبيه فكانوا كذلك امنين في زمان ابى بكر وعمر وعثمان حتى وقعوا فيما وقعوا وكفروا النعمة قال ابو العالية مكث النبي صلى الله عليه وسلم بمكة بعد الوحى عشر سنين مع أصحابه وأمروا بالصبر على أذى الكفار ثم أمروا بالهجرة الى المدينة وأمروا بالقتال وهم على خوفهم لا يفارق أحد منهم سلاحه- فقال رجل منهم ما يأتى علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح فنزلت هذه الاية- واخرج ابن ابى حاتم عن البراء قال فينا نزلت هذه الاية ونحن في خوف شديد فانجز الله وعده وابدلهم بعد الخوف أمنا وبسط لهم في الأرض- وفيه دليل على صحة النبوة لكونه اخبارا عن الغيب على ما صار الأمر اليه وصحة خلافة الخلفاء الراشدين إذ لو لم يكن المراد خلافة الخلفاء الراشدين لزم الخلف في وعد الله إذ لم يجتمع الموعود والموعود لهم الا في زمنهم وصحة مذهب اهل السنة وكونه دينا ارتضاه الله- وبطلان مذهب الروافض حيث قالوا الائمة خائفون الى اليوم حتى لم يظهر المهدى وهو مختف لخوف الأعداء- وقولهم انه سينجز الله وعده حين يظهر المهدى باطل يأباه كلمة منكم في الاية واىّ ظهور
للدين ان ظهر بضع سنين بعد الف ومائة ما اجهلهم عن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم يكون ملكا ثم قال يعنى سفينة امسك خلافة ابى بكر سنتين وخلافة عمر عشر او خلافة عثمان اثنتي عشر وخلافة علىّ ستة- وعن عدى بن حاتم قال بينا انا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل فشكى اليه الفاقة واتى اليه اخر فشكى اليه قطع السبيل فقال يا عدى هل رايت الحيرة قلت لم ارها وقد انبئت عنها قال فان طالت بك الحيوة فلترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف الكعبة لا تخاف أحدا الا الله (قلت فيما بينى وبين نفسى فاين وعارطى قد سعروا البلاد)
ولئن طالت بك الحيوة لتفتحن كنوز كسرى قلت كسر بن هرمر قال كسرى بن هرمز ولئن طالت بك الحيوة ترين الرجل يخرج ملاكفه من ذهب او فضة يطلب من يقبله منه ولقين أحدكم ربه يوم يلقاه وليس بينه وبينه ترجمان يترجم له فيقول الم ابعث إليك رسولا ليبلّغك فيقول بلى فيقول الم أعطك مالا وأفضل عليك فيقول بلى فينظر عن يمينه فلا يرى الا جهنم وينظر عن يساره فلا يرى الا جهنم- قال عدى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول اتق النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد شق تمرة فبكلمة طيبة قال عدى فرايت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف الا الله وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز ولئن طالت بك الحيوة لتربن ما قال النبي صلى الله عليه وسلم يخرج الرجل ملاكفه فلا يجد أحدا يقبله وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ اى ارتد او كفر النعمة ولم يشكر بعد تمكين المؤمنين واستخلافهم وتائيد دينهم الّذي ارتضى لهم فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (55) الخارجون عن الايمان او عن حد الطاعة قال البغوي قال اهل التفسير أول من كفر بهذه النعمة وجحد بها الذين قتلوا عثمان رضى الله عنه فلمّا قتلوه غير الله ما بهم وادخل عليهم الخوف حتى صاروا يقتتلون بعد ما كانوا إخوانا- روى البغوي بسنده عن حميد بن هلال قال قال عبد الله بن سلام في عثمان رضى الله عنه ان الملائكة لم تزل محيطة بمدينتكم هذه منذ قدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اليوم فو الله لئن قتلتموه ليذهبون ثم لا يعودون ابدا فو الله لا يقتله رجل منهم الا لقى الله أجذم لا يد له وان سيف الله لم يزل مغمودا والله لئن يسلنه الله لا يغمده عنكم (اما قال ابدا واما قال الى يوم القيامة) فما قتل نبى قط الا قتل به سبعون الفا ولا خليفة الا قتل به خمسة وثلاثون الفا. قلت ثم كفر..... باستخلاف الخلفاء طوائف الروافض والخوارج ويمكن ان يكون قوله تعالى وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ اشارة الى يزيد بن معاوية
حيث قتل ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من اهل بيت النبوة وأهان عترته وافتخر به وقال هذا يوم بيوم بدر- وبعث جيشا على مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعل ما فعل في وقعة الحرة بالمدينة وبالمسجد الّذي اسّس على التّقوى من اوّل يوم وهو روضة من رياض الجنة ونصب المجانيق على بيت الله تعالى وقتل ابن الزبير ابن بنت خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعل ما فعل حتى كفر بدين الله وأباح الخمر قوله تعالى.
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ في سائر ما أمركم به لَعَلَّكُمْ اى لكى تُرْحَمُونَ (56) جملة اقيموا مع ما عطف عليه معطوف على قوله وأطيعوا الله فان الفاصل وعد على المأمور به وتكرير الأمر بطاعة الرسول للتأكيد وتعليق الرحمة بها.
لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ اى معجزين الله عن ادراكهم في الأرض وإهلاكهم- قرا ابن عامر وحمزة لا يحسبنّ بالياء على الغيبة والموصول فاعل له اى لا يحسبن الكافرون أنفسهم معجزين والباقون بالتاء على الخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم والموصول مفعوله الاول يعنى لا تحسبنهم معجزين وَمَأْواهُمُ النَّارُ حال من الموصول او عطف على لا تحسبن من حيث المعنى كانّه قيل الذين كفروا لا يفوتون الله ومأويهم النّار وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) النار جملة لا تحسبن وعيد متصل بقوله وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ- اخرج ابن ابى حاتم عن مقاتل بن خبان انه كان لاسماء بنت مرثد غلاما وكثيرا ما يدخل عليها في وقت تكره دخوله عليها فيه فاتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت ان خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في وقت نكرهها فانزل الله عز وجل.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ رجوع الى تتمة الاحكام السابقة بعد ذكر ما يوجب الطاعة فيما سلف من الاحكام وغيرها والوعد عليها- والوعيد
على الاعراض عنها والمراد بالخطاب الرجال والنساء جميعا غلّب فيه الرجال وقال البغوي قال ابن عباس وجّه رسول الله صلى الله عليه وسلم غلاما من الأنصار يقال له مدلج بن عمرو الى عمر بن الخطاب وقت الظهيرة ليدعوه فدخل وراى عمر بحالة كره عمر رؤية ذلك الحال فانزل الله هذه الاية وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ يعنى الذين لم يقربوا الحلم من الأحرار كما في قوله تعالى وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ يعنى قار بن البلوغ فدخل في حكم المنع عن الدخول المراهق فانه في حكم البالغ ثَلاثَ مَرَّاتٍ اى ليستأذنوا في ثلاثة اوقات مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ لانه وقت القيام من المضاجع وطرح ما ينام فيه من الثياب ولبس ثياب اليقظة وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ الّتي كانت لليقظة عند القيلولة مِنَ الظَّهِيرَةِ بيان للحين وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ لانه وقت التجرد عن اللباس والالتحاف باللحف ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر ثلث بالنصب بدلا من قوله ثَلاثَ مَرَّاتٍ والباقون بالرفع على انه خبر مبتدا محذوف اى هى ثلث عورت لّكم وجاز ان يكون مبتدأ خبره ما بعده- وقيل تقديره ثلاث ساعات انكشاف عورات لكم على حذف المضافين فالعورة على هذا بمعنى السوءة- وقال البيضاوي تقديره هى ثلاث اوقات تخيّل فيها تستّركم واصل العورة الخلل وقيل اصل العورة من العار فتكنى بالعورة عن سوءة الإنسان لما يلحق من ظهوره العار اى المذمّة ولذلك سمى النساء عورة ولذلك يقال العورة للكلمة القبيحة ويقال للشق من الثوب ويقال للخلل في البيت عورة للحوق العار به قال الله تعالى إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ اى منخرقة- فعلى هذا سميت الأوقات الثلاث عورات للحوق العار برؤية الإنسان فيهن غير مستنر- وفي القاموس العورة الخلل في الثغر وغيره وكل مكمن للستر والسوءة والساعة الّتي هى قمن من ظهور العورة
فيها وهى ثلاث ساعات قبل صلوة الفجر وعند نصف النهار وبعد العشاء الاخيرة وكل امر يستحيى منه ومن الجبال شعوفها- (مسئلة) - مقتضى هذه الاية انه لا يجوز لعبد وان كان صغيرا عاقلا ان يدخل على سيده ولا لامة ان تدخل على سيدتها واما دخول العبد البالغ او المراهق على سيدته فممنوع في جميع الأوقات لقوله تعالى قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ
…
وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ الاية- والمماليك المستشهاة منها قد ذكرنا ان المراد به الإناث دون الذكور واما دخول الامة على سيدها الّتي يجوز له وبها فجائز في كل وقت كالزوجة- ولا يجوز لصغير عاقل ان يدخل في أحد هذه الأوقات بغير استئذان- ويجوز لهم ان يدخلوا بغير الاستيذان في غير هذه الأوقات كما قال الله تعالى- لَيْسَ عَلَيْكُمْ ايها الذين تسكنون البيوت وَلا عَلَيْهِمْ اى المملوكين والأطفال الداخلين عليكم للخدمة ونحو ذلك جُناحٌ بَعْدَهُنَّ بعد هذه الأوقات الثلاث في ترك الاستئذان لدفع الحرج لمخالطتهم وكثرة دخولهم كما يدل عليه قوله تعالى طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ اى هم اى الأطفال والعبيد طوافور عليكم يدخلون ويخرجون كثيرا استيناف لبيان المرخص في الدخول بلا استئذان بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ يعنى بعضكم طائف على بعض او يطوف بعضكم على بعض بدل من الجملة السابقة وبيان له جعل الله سبحانه العبيد والأطفال من جنس أنفسهم لكثرة مخالطتهم فجعلهم بعض المخاطبين كَذلِكَ اى تبيّنا مثل ذلك التبين يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ اى آيات الاحكام وَاللَّهُ عَلِيمٌ بأحوالكم حَكِيمٌ (58) فيما شرع لكم قال البغوي اختلف العلماء في حكم هذه الاية فقال قوم هو منسوخ قال ابن عباس لم يكن للقوم ستور ولا حجاب وكان الولائد والخدم يدخلون فربما يرون مالا يحبون فامروا بالاستئذان ثم بسط الله الرزق واتخذوا الستور
فراى ان ذلك اغنى عن الاستئذان- وذهب قوم الى انها غير منسوخة روى سفيان عن موسى بن عائشة قال سالت الشعبي عن هذه الاية أمنسوخة هى قال لا والله قلت ان الناس لا يعملون بها قال الله المستعان- وقال سعيد بن جبير في هذه الاية ان ناسا يقولون نسخت والله ما نسخت ولكنها مما تهاون به الناس قلت والصحيح انها غير منسوخة لكن الحكم بالاستئذان معلول باختلال التستر في تلك الأوقات كما
يدل عليه قوله تعالى ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ وهو الفارق بين تلك الأوقات وغيرها وعدم الحكم عند عدم العلة لا يكون نسخا- فما وقع في كلام ابن عباس انها منسوخة مبنى على التجوز فعلم انه إذا كان من شأن الناس عدم اختلال التستر في تلك الأوقات لا يستلزمهم الاستئذان والله اعلم.
وَإِذا بَلَغَ اى قارب البلوغ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فى الأوقات كلها لزوال المبيح للدخول بغير استئذان وهو المخالطة وكثرة الدخول- وحكم هذه الاية يعم كل من يريد الدخول على الرجال او النساء محرمات كن او اجنبيات ويؤيده ما روى عن ابى سعيد الخدارى قال أتانا ابو موسى فقال ان عمر رضى الله عنه أرسل الىّ ان اتيه فاتيت بابه فسلمت ثلاثا فلم يرد علىّ فرجعت وقد قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع- قال عمر أقم عليه البينة قال ابو سعيد فقمت معه فذهبت الى عمر فشهدت- متفق عليه وعن عطاء بن يسار ان رجلا سال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال استأذن على مى فقال نعم فقال الرجل انى معها في البيت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذن عليها فقال الرجل انى خادمها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم استاذن عليها أتحب ان تراها عريانة قال لا قال فاستاذن
عليها- رواه مالك مرسلا قال البغوي قال سعيد بن المسيب يستأذن الرجل على امه فانما أنزلت هذه الاية في ذلك وسئل حذيفة أيستأذن الرجل على والدته قال نعم ان لم يفعل راى منها ما يكره- قلت لعل الأمر بالاستئذان في هذه الاية للاستحباب دون الوجوب فمن أراد الدخول في بيت نفسه وفيه محرماته يكره له الدخول فيه من غير استئذان تنزيها لاحتمال رؤيته واحدة منهن عريانة وهو احتمال ضعيف ومقتضاه التنزه عنه- واما الدخول في بيت غيره من غير استئذان فمحرم لا يجوز لقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وكذا في بيت فيه نساء اجنبيات لا يجوز للرجل الدخول عليهن من غير استئذان لقوله تعالى قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ والله اعلم- وقال البيضاوي استدل بهذه الاية من أوجب استئذان العبد البالغ على سيدته وجوابه ان المراد بهم المعهودون الذين جعلوا قسيما للمماليك فلا يندرجون فيهم- وكلام البيضاوي هذا يشعر باختلاف العلماء في وجوب استئذان العبد البالغ على سيدته بناء على اختلافهم في ان العبد هل هو محرم لسيدته كما قال به مالك والشافعي اولا كما قال به ابو حنيفة فمن قال بكونه محرما فالاستئذان عنده مستحب كالاستئذان على غيرها من المحرمات- ومن لم يقل بكونه محرما قال بوجوبه والله اعلم كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (49) كرره تأكيدا ومبالغة في الأمر بالاستئذان-.
وَالْقَواعِدُ مبتدا مِنَ النِّساءِ حال من ضمير الفاعل جمع قاعد وهى المرأة الّتي يئست عن الحيض والحمل ولاجل اختصاصها بالنساء جاء قاعد بغير هاء كالحائض والحامل اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً صفة للقواعد اى لا يطمعن فيه لكبرهن قال ربيعة يعنى العجائز اللاتي إذا راهن الرجال استقذروهن فاما من كانت فيها بقية
جمال وهى محل للشهوة فلا تدخل في هذه الاية فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ خبر للمبتدا جئ بالفاء لتضمن المبتدا معنى الشرط أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ اى في ان يضعن بعض ثيابهن يدل عليه قراءة ابن مسعود وأبيّ بن كعب ان يّضعن من ثيابهنّ فلا يجوز لها كشف ظهرها وبطنها وما تحت سرتها لكن جاز لها كشف رأسها ووجهها وذراعيها ونحو ذلك غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ واصل البرج الظهور ومنه يقال البرج للركن والحصن وكواكب السماء والتبرج التكلف في اظهار ما يخفى من قولهم سفينة بارجة لا غطاء عليها- والبرج سعة العين بحيث يرى بياضها محيطا بسوادها كله لا يغيب منه شيء الا انه خص في الاستعمال بتكشف المرأة زينتها وجمالها للرجال وقع في الحديث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره عشر خلال منها التبرج بالزينة لغير محلها- قال صاحب الهداية التبرج اظهار الزينة للناس الا جانب وهو المذموم واما للزوج فلا وهو معنى قوله عليه السلام لغير محلها- وقوله تعالى غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ حال من فاعل يضعن يفيد تقييد عدم الجناح في وضع ثياب العجائز ان يكون ذلك من غير ارادة اظهار الزينة للرجال فمن كانت منهن أرادت بها التبرج فذلك عليها حرام وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ اى يطلبن من انفسهن العفة وهى كف النفس عمالا يحل كذا في القاموس- والمراد وان يكففن انفسهن عن وضع الثياب عند الرجال خَيْرٌ لَهُنَّ من وضعها لانه قد يفضى الى الفتنة والتستّر ابعد من التهمة وَاللَّهُ سَمِيعٌ لمقالتهن للرجال عَلِيمٌ (60) بمقصود هن في وضع الثياب.
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ قال البغوي قال سعيد بن جبير والضحاك وغيرهما كان العرجان والعميان والمرضى يتنزهون عن مواكلة الأصحاء لان الناس يتقذرونهم ويكرهون مواكلتهم فيقول الأعمى ربما أكل اكثر ويقول الأعرج
ربما أخذ مكان اثنين فنزلت هذه الاية يعنى ليس عليهم حرج في مواكلة الأصحاء- قال البغوي وكذا اخرج ابن جرير عن ابن عباس انه لما انزل الله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ تحرج المسلمون عن مواكلة المرضى والأعمى والأعرج وقالوا الطعام أفضل الأموال وقد نهانا الله تعالى عن أكل المال بالباطل والأعمى لا يبصر موضع الطعام الطيب والأعرج لا يتمكن من الجلوس ولا يستطيع المزاحمة على الطعام والمريض يضعف عن التناول فانزل الله هذه الاية الى قوله مفاتحه وعلى هذا التأويل يكون على بمعنى في يعنى ليس عليكم حرج في الأعمى اى في مواكلته- وقال سعيد بن المسيب كان المسلمون إذا غزوا خلفوا زمناهم ويدفعون إليهم مفاتيح بيوتهم ويقولون قد أحللنا لكم ان تأكلوا ممّا في بيوتنا فكانوا يتحرجون ويقولون لا ندخلها وهم غيب فانزل الله عز وجل هذه الاية رخصة لهم- وقال الحسن نزلت هذه الاية رخصة لهؤلاء في التخلف عن الجهاد- وقد تم الكلام هاهنا وما بعده كلام منقطع عنه وهو قوله وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ اى البيوت الّتي فيها أزواجكم وعيالكم ودخل فيها بيوت الأولاد لان بيت الولد كبيته حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت ومالك لابيك- أخرجه الستة وابن حبان والحاكم عن عائشة وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان أطيب ما يأكل الرجل من كسبه وان ولده من كسبه- رواه ابو داود والدارمي من حديث عائشة وروى الترمذي والنسائي وابن ماجة نحوه والمعنى ليس عليكم حرج ان تأكلوا من اموال أزواجكم وأولادكم كذا قال ابن قتيبة- أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ قال ابن عباس عنى بذلك وكيل الرجل وقيمه في ضيعته وماشيته لا بأس عليه ان يأكل من ثمر
ضيعته ويشرب من لبن ماشيته ولا يحمل ولا يدخر- وقال الضحاك يعنى بيوت عبيدكم ومماليككم وذلك ان السيد يملك منزل عبده والمفاتح الخزائن لقوله تعالى وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ- ويجوز ان يراد به ما يفتح به قال عكرمة إذ ملك الرجل المفتاح فهو خازن فلا بأس ان يطعم الشيء اليسير- وقال السدى الرجل الّذي يولى طعامه غيره ليقوم فلا بأس ان يأكل منه- واخرج البزار بسند صحيح عن عائشة قالت كان المسلمون يرغبون في النفير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيدفعون مفاتحهم الى زمناهم ويقولون لهم قد أحللنا لكم ان تأكلوا مما احببتم فكانوا يقولون انه لا يحل لنا انهم أذنوا من غير طيب أنفسهم فانزل الله هذه الاية- واخرج ابن جرير عن الزهري انه سئل عن قوله تعالى لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ ما بال الأعمى والأعرج والمريض ذكروا هاهنا قال أخبرني عبيد الله بن عبد الله قال ان المسلمين كانوا إذا غزوا خلفوا زمناهم وكانوا يدفعون مفاتيح أبوابهم ويقولون قد أحللنا لكم ان تأكلوا مما في بيوتنا وكانوا يتحرجون من ذلك ويقولون لا ندخلها وهم غيب فانزلت هذه الاية رخصة لهم- وقال قوم أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ ما خزنتموه عندكم وقال مجاهد وقتادة من بيوت أنفسكم مما خزنتموه وملكتم أَوْ صَدِيقِكُمْ يعنى بيوت صديقكم الّذي صدقكم في المودة فانه ارضى بالتبسط في أموالهم واسر وهو يقع على الواحد والجمع كالخليط- قال البغوي قال ابن عباس نزلت في الحارث بن عمرو خرج غازيا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلف مالك بن زيد على اهله فلما رجع وجده مجهودا فساله عن حاله فقال تحرجت ان أكل من طعامك بغير اذنك فانزل الله تعالى هذه الاية- واخرج الثعلبي في تفسيره عن ابن عباس نحوه وذكر خالد بن زيد بدل مالك بن زيد- قال البغوي وكان الحسن وقتادة يريان دخول بيت الصديق والتمتع بطعامه من غير استئذان
منه
فى الاكل بهذه الاية- والمعنى فليس عليكم جناح ان تأكلوا من منازل هؤلاء إذا دخلتموها وان لم يحضروا من غير ان تتزودوا وتتحملوا- قيل هذا الحكم كان في اوّل الإسلام فنسخ والصحيح انه ليس بمنسوخ لكنه محمول على ان هذا الحكم مختص بما إذا علم رضاء صاحب البيت بإذن صريح او قرينة ولذلك خصص هؤلاء بالذكر فانه يعتاد التبسط بينهم- فالتخصيص بهؤلاء خارج مخرج العادة والا فمن دخل بيت اجنبى وعلم رضاء صاحب البيت يأكل طعامه بإذن صريح او دلالة جاز له ذلك- (مسئلة) وبهذه الاية الدالة على جريان العادة بالانبساط بين المحارم احتجت الحنفية على انه لا قطع على من سرق من بيت ذى رحم محرم منه سواء كان المسروق ماله او مال غيره ويجب القطع على من سرق من بيت اجنبى مال ذى رحم محرم منه اعتبارا للتحرز وعدمه- فان قيل فعلى هذا لزم عدم القطع على من سرق من بيت صديقه ايضا بهذه الاية بعينها قلنا الصداقة امر عارض يوجد ويزول وقد عاداه بالسرقة فلم يبق الصداقة بخلاف القرابة فانها لا تزول والله اعلم وقال البغوي كانت العميان والعرجان والمرضى يدخلون على الرجل لطلب الطعام فاذا لم يكن عنده ما يطعمهم ذهب بهم الى بيوت ابائهم وأمهاتهم او بعض من سمى الله في هذه الاية- فكان اهل الزمانة يتحرجون من ذلك الطعام ويقولون ذهب بنا الى بيت غيره فانزل الله هذه الاية- فعلى هذا معنى الاية ليس على الأعمى وأمثاله حرج ولا عليكم ان تأكلوا أنتم مع الأعمى وأمثالهم من بيوت أنفسكم وأولادكم وأزواجكم او بيوت ابائكم الى قوله او صديقكم- وقال البغوي قال عطاء الخراسانى عن ابن عباس قال كان الغنى يدخل على الفقير من ذوى قرابة او صداقة يدعوه الى طعامه فيقول والله انى لاجنح اى اتحرج ان أكل معك وانا
غنى وأنت فقير فنزلت هذه الاية- لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً اى مجتمعين او متفرقين قال البغوي نزلت في بنى ليث بن بكر وهم حى من كنانة كان الرجل منهم لا يأكل وحده حتى يجد ضيفا يأكل معه فربما قعد الرجل والطعام بين يديه من الصباح الى الرواح وربما كانت معه الإبل الحفل فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه فاذا امسى ولم يجد أحدا أكل هذا قول قتادة والضحاك وابن جريج واخرج ابن جرير عن عكرمة وابى صالح وذكر البغوي عنهما ايضا انهما قالا كانت الأنصار إذا نزل بهم الضيف لا يأكلون حتى يأكل الضيف معهم فنزلت رخصة لهم ان يأكلوا كيف شاءوا جميعا او أشتاتا فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً من هذه البيوت او من غيرها فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ اى ليسلم بعضكم على بعض فانه يطلق الأنفس على جماعة متحدة دينا وقرابة قد قال الله تعالى لا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ
…
لا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ
…
ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً- وقيل معناه فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً لكم لا اهل بها فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ يعنى قولوا السّلام علينا وعلى عباد الله الصّالحين فان الملائكة ترد عليهم تَحِيَّةً مصدر من غير لفظة تسلموا فان التحية هو التسليم روى الشيخان في الصحيحين عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعا فلمّا خلقه قال اذهب فسلّم على أولئك النفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يحيوك فانها تحيتك وتحية ذريتك فقال السّلام عليكم فقالوا السلام عليك ورحمة الله الحديث مِنْ عِنْدِ اللَّهِ اى كائنة من عنده مشروعة من لدنه وجاز ان يكون صلة للتحية فانه طلب الحيوة وهى من عند الله مُبارَكَةً يعنى مقرونة بذكر البركة وهى الزيادة في الخيرات فيقول السّلام عليكم والبركة وقيل وصف تحية السّلام بالبركة لانه يرجى بها زيادة الخير والثواب طَيِّبَةً اى لا رياء فيها ولا نفاق صادرة من
طيب النفس وقيل معناه تطيب بها نفس المستمع قال ابن عباس معنى مباركة طيبة حسنة جميلة- عن انس رضى الله عنه انه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم متى لقيت أحدا من أمتي فسلم عليه يطل عمرك فاذا دخلت بيتك فسلم عليهم يكثر خير بيتك وصل صلوة الضحى فانها صلوة الأوابين- أخرجه البيهقي في شعب الايمان والثعلبي وحمزة بن يوسف الجرجاني في تاريخ جرجان وسنده ضعيف- قال البغوي هذه الاية في دخول الرجل في
بيت نفسه فانه يسلم على اهله ومن في بيته وهو قول جابر وطاءوس والزهري والضحاك وقتادة وعمرو بن دينار قال قتادة إذا دخلت بيتك فسلم على أهلك فهم أحق ممن سلمت عليهم- وإذا دخلت بيتا لا أحد فيها فقل السلام علينا وعلى عباد الله الصّالحين حدثنا
…
ان الملائكة يرد عليهم- وروى البيهقي في شعب الايمان عن قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا إذا دخلتم بيتا فسلموا على أهلها وإذا خرجتم فاودعوا اهله بسلام- وروى الترمذي عن انس ان النبي صلى الله عليه وسلم قال يا بنى إذا دخلت على أهلك فسلم يكون بركة عليك وعلى اهل بيتك- وعن ابن عباس قال ان لم يكن في البيت أحد فليقل السلام علينا من ربنا السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين السلام على اهل البيت ورحمة الله- وروى عمرو بن دينار عن ابن عباس في هذه الاية قال إذا دخلت المسجد فقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين- وعن عبد الله بن عمرو ان رجلا سال رسول الله صلى الله عليه وسلم اىّ الإسلام خير قال تطعم الطعام وتقرئ السلام على من عرفت ومن لم تعرف- متفق عليه وعن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمن على المؤمن ست خصال يعوده إذا مرض ويشهده إذا مات ويجيبه إذا دعا ويسلمه إذا لقيه ويشمته إذا عطس وينصح له إذا غاب او شهد- رواه النسائي وروى الترمذي والبزار نحوه وعنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابّوا اولا
أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم- رواه مسلم وعن ابى هريرة مرفوعا يسلم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير متفق عليه وعنه عند البخاري يسلم الصغير على الكبير الحديث- وعن عمران بن حصين ان رجلا جاء الى النبي صلى الله عليه وسلم فقال السلام عليكم فرد عليه ثم جلس فقال النبي صلى الله عليه وسلم عشر ثم جاء اخر فقال السّلام عليكم ورحمة الله فرد عليه فجلس فقال عشرون ثم جاء اخر فقال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فرد عليه فجلس فقال ثلاثون رواه الترمذي وابو داود وروى ابو داود عن معاذ بن انس مرفوعا بمعناه وزاد ثم اتى اخر فقال السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته فقال أربعون قال وهكذا تكون الفضائل- وعن ابى امامة مرفوعا ان اولى الناس بالله من بدا بالسلام وعن ابى هريرة مرفوعا إذا انتهى أحدكم الى مجلس فليسلم فان بدا له ان يجلس فليجلس ثم إذا قام فليسلم فليست الاولى بأحق من الاخرة- رواه الترمذي وابو داود وعن علّى بن ابى طالب تجزئ عن الجماعة إذا مروا ان يسلم أحدهم وتجزى عن الجلوس ان يرد أحدهم ذكره البغوي في المصابيح موقوفا ورواه البيهقي في شعب الايمان مرفوعا كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ كرره ثالثا لمزيد التأكيد وتفخيم الاحكام المختتمة به وفصل الأولين بما هو المقتضى لذلك وهو علم الله وحكمته وهذا بما هو المقصود منه فقال لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61) الحق والخير في الأمور- اخرج ابن إسحاق والبيهقي في الدلائل عن عروة ومحمد بن كعب القرظي وغيرهما قالوا لمّا أقبلت قريش عام الأحزاب نزلوا بمجمع الاسيال من رومة بئر بالمدينة قائدها ابو سفيان وأقبلت غطفان حتى نزلوا بنقبين «1» الى جانب أحد- وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر فضرب الخندق على المدينة وعمل فيه وعمل المسلمون فيه وابطأ رجال من المنافقين وجعلوا يزورون بالضعيف من العمل فيتسللون الى أهليهم بغير علم من رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1) النقب هو الطريق بين الجبلين- مجمع البحار- الفقير الدهلوي-
ولا اذن وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة الّتي لا بد منها يذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويستأذنه في اللحوق لحاجته فياذن له فاذا قضى به بشر فانزل الله تعالى.
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الآيات الى اخر السورة الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ من صميم قلوبهم دون من قالوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ
…
وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ وصف الأمر بالجامع مجازا للمبالغة والمراد على امر يقتضى ان يجمع الناس لذلك الأمر كحفر الخندق والمشاورة والجهاد ونحو ذلك كالجمعة والأعياد لَمْ يَذْهَبُوا اى لم يتفرقوا عنه ولم ينصرفوا عمّا اجتمعوا له من الأمر حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ اى الرسول صلى الله عليه وسلم فيأذن لهم ولا حاجة هاهنا الى القول بان المراد بالمؤمنين الكاملون لانه حكاية واخبار عن حال المؤمنين الموجودين في ذلك الوقت وما به كانوا يمتازون عن المنافقين وقد كانوا كلهم كاملين في الايمان وكان شأنهم ذلك دون المنافقين- ولما كان عدم التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواضع الشدة دليلا واضحا على صدق ايمانهم إعادة مؤكدا على اسلوب ابلغ فقال إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ لاجل ضرورة أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ بصميم قلوبهم يعنى ان المستأذن مؤمن لا محالة دون الذاهب بغير اذن فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ الّذي نابهم ودعاهم الى الانصراف فيه مبالغة وتضييق للامر يعنى لا ينبغى للمؤمنين ان يستأذنوا لكل ما نابهم من النوائب بل لبعض ضرورى منها لا بد له من الانصراف فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ قيد الأمر بالاذن بالمشية للدلالة على ان هذا امر للاباحة وليس للوجوب ولو كان الاذن بعد الاستئذان واجبا على النبي صلى الله عليه وسلم بطل فائدة الاستئذان لانه لا يعجز أحد عن الاستيذان- وفيه دليل على ان بعض الاحكام كان مفوضا الى رأيه صلى الله عليه وسلم وكذا الى رأى الامام ومن منع ذلك قيد المشيّة بان
يكون تابعة لعلمه بصدقه فكان المعنى فاذن لّمن علمت ان له عذرا او يكون الأمر الجامع قاصرا في اقتضاء الاجتماع او كان المستأذن مستغنى عنه وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ يعنى بعد الاذن فان الاستئذان ولو بعذر قصور لان فيه تقديما لامر الدنيا على امر الدين إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لفرطات العباد رَحِيمٌ (62) بالتيسير عليهم وقال البغوي قال المفسرون في سبب نزول هذه الاية كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر يوم الجمعة وأراد الرجل ان يخرج من المسجد أحد لحاجة او عذر لم يخرج حتى يقوم بحيال رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يراه فيعرف انه انما قام ليستأذن فاذن لمن شاء منهم قال مجاهد واذن الامام يوم الجمعة ان يشير بيده- قال اهل العلم وكذلك كل امر اجتمع عليه المسلمون مع الامام لا يخالفونه ولا يرجعون عنه الا باذنه وإذا استأذنوا الامام ان شاء اذن له وان شاء لم يأذن هذا إذا لم يكن سبب يمنعه من المقام- فان حدث سبب يمنعه من المقام مثل ان يكون امراة في المسجد فتحيض فيه او يجنب رجل او عرض له مرض فلا يحتاج الى الاستئذان-.
لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً يعنى إذا دعاكم الرسول الى امر جامع او غير ذلك فاجيبوا دعوته وامتثلوا امره ولا تجعلوا دعوته إياكم كدعوة بعضكم بعضا في جواز الاعراض والمساهلة في الاجابة والرجوع بغير اذن- فان المبادرة الى اجابته واجبة والمراجعة بغير اذنه حرام بخلاف غير ذلك- فهذه بهذا التأويل نظيرة لقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ- والاضافة في دعاء الرسول اضافة المصدر الى فاعله والمفعول محذوف- وقال مجاهد والقتادة معنى الاية لا تجعلوا دعاءكم الرسول كدعاء بعضكم بعضا يعنى لا تدعوه باسمه كما يدعو بعضكم بعضا ولكن فخموه وشرفوه- اخرج ابو نعيم في الدلائل من طريق الضحاك عن ابن عباس انه قال كانوا يقولون يا محمد يا أبا القاسم فانزل الله تعالى هذه الاية فقالوا
يا نبى الله يا رسول الله- لكن هذا التأويل لا يناسب ما سبق وما يتلوه فان الكلام في الخروج باستئذان وبغير استئذان وايضا لا يناسبه نفس هذا الكلام لان المشبه به هو الدعاء المضاف الى الفاعل لكون المفعول به بعده منصوبا فلا بد ان يكون في المشبه ايضا الرسول فاعلا للدعاء لا مفعولا- وقال البغوي قال ابن عباس معنى الاية احذروا عن دعاء الرسول عليكم إذا اسخطتموه فان دعاءه موجب ليس كدعاء غيره- روى البخاري في الصحيح عن عائشة قالت ان اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا السام عليك قال وعليكم فقالت عائشة السام عليكم ولعنكم الله وغضب عليكم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلا يا عائشة عليك بالرفق وإياك العنف والفحش قالت اولم تسمع ما قالوا قال اولم تسمعى ما قلت رددتّ عليهم فيستجاب لى فيهم ولا يستجاب لهم فيّ- قلت على هذا كان حق الكلام لا تجعلوا دعاء الرّسول عليكم كدعاء بعضكم على بعض- لكن يمكن على هذا معنى الاية لا تجعلوا دعاء الرّسول ربه كدعاء صغيركم كبيركم يجيبه مرة ويرده اخرى- فان دعاءه مستجاب لا يرد لا محالة- قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ السل انتزاع الشيء من الشيء وإخراجه في اختفاء ولذلك يطلق على السرقة الخفية يقال سلّ البعير في جوف الليل وانسل واستل اى انطلق وخرج في اختفاء كذا في القاموس والمعنى الذين يخرجون مِنْكُمْ اى من بينكم مختفيا لِواذاً مصدر لاوذ يلاوذ ملاوذة ولو إذا وليس من لاذ يلوذ فان مصدره لياذوا للياذ الالتجاء بغيره والانضمام اليه ورد في الدعاء المأثور اللهم الوذ بك- واللو أذان يلوذ كل واحد منهم بالاخر والمعنى انهم يخرجون مستترين يلوذ ويستتر بعضهم ببعض يخرج او يلوذ بمن يؤذن في الخروج فيخرج معه كانه تابعه في القاموس اللوذ بالشيء الاختفاء والاحتضان به كاللواذ مثلثة
وكان هذا حال المنافقين في حفر الخندق على ما قال ابن إسحاق والبيهقي عن عروة ومحمد بن كعب القرظي كانوا.... ينصرفون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مختفين- وقال ابن عباس كان المنافقون يثقل عليهم المقام في المسجد يوم الجمعة واستماع خطبة النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا يلوذون ببعض أصحابه فيخرجون من المسجد في استتار- ولو إذا منصوب على الحال ومعنى قوله قد يعلم انه يجازيهم فان الجزاء فرع العلم- فَلْيَحْذَرِ تفريع على قوله قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ
…
الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ قيل عن زائدة والمعنى يذهبون سمتا خلاف سمته وقيل أورد عن لتضمن يخالفون معنى الاعراض- او المعنى يصدون عن امره دون المؤمنين من خالفه عن الأمر إذا صد عنه دونه وحذف المفعول لان المقصود بيان المخالف والمخالف عنه- وجاز ان يكون عن امره في محل النصب على الحال والمفعول محذوف تقديره الذين يخالفون الرسول ويخالفون المؤمنين عن امره وضمير امره اما راجع الى الله او الى الرسول صلى الله عليه وسلم أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ اى محنة وبلاء في الدنيا كذا قال مجاهد أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) في الاخرة ان مع صلته في محل النصب على انه مفعول ليحذروا يعنى ليحذروا إصابة الفتنة او إصابة العذاب الأليم وذلك بسبب المخالفة عن امره- وجاز ان يكون المفعول محذوفا تقديره فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ عن المخالفة لئلا يصيبهم فتنة او عذاب اليم- وهذه الاية حجة للقائلين بان مطلق الأمر يعنى مالا قرينة على كونه للوجوب او للندب او غير ذلك يكون
للوجوب فحسب وليس مشتركا بين الوجوب والندب على ما نقل عن الشافعي او بينهما وبين الإباحة او بين الثلاثة وبين التهديد على ما ذهب اليه الشيعة ونقل عن ابن شريح- فان خوف
الفتنة والعذاب لا يتصور الا في ترك الواجب او ارتكاب المحرم-.
أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خلقا وملكا قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ من الايمان والنفاق والموافقة والمخالفة فهو خطاب لجميع المكلفين وجاز ان يكون خطابا للمنافقين خاصة على سبيل الالتفات من الغيبة الى الخطاب وجملة قد يعلم تقرير لما سبق لان الّذي هو خالق ومالك لكل شيء لا بد ان يعلم احوال مخلوقاته ومملوكاته وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ اى يوم يرجع الناس للجزاء الى الله تعالى فيه التفات من الخطاب الى الغيبة فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا من الخير والشر بايفاء الجزاء والظرف يعنى يوم يرجعون متعلق بقوله ينبئهم والفاء زائدة كما في قوله تعالى لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا وجاز ان يكون الظرف معطوفا على ظرف محذوف متعلق بقوله قد يعلم ما أنتم عليه تقديره قد يعلم ما أنتم عليه اليوم ويوم يرجعون اليه فينبّئهم بما عملوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64) لا يخفى عليه منكم خافية- روى البغوي عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تنزلوا النساء الغرف ولا تعلموهن الكتابة وعلموهن بالمغزل وسورة النور- صدق الله وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدق اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضى الله عنهم أجمعين تمّت سورة النور سادس والعشرين من رمضان من السنة الرابعة بعد الف سنة 1204 ومائتين ويتلوه سورة الفرقان إنشاء الله تعالى بتصحيح: مولانا غلام نبى تونسوى الراجي الى مغفرة ربه القوى.