الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانيًا تنبيهات هامة حول مراتب الجرح والتّعديل في السنن الكبرى
لقد تبيّن لي من خلال دراستي لمصطلحات الإِمام البيهقي وعباراته في الجرح والتّعديل بعض الملاحظات الهامة -انقدحت في ذهني من خلال التأمل والمقارنة- حول منهجه في ذلك فرأيت من الواجب عليَّ التنبيه إليها والتنويه بها.
1 - ارتباط عباراته النقدية في الجرح والتّعديل بظروف كل رواية على حدة:
إنَّ مما يجب أَنْ يُعلم أنَّ هذه العبارات المتضمّنة للجرح أو التّعديل إنما صدرت من الإِمام البيهقي في حال التعامل مع الأحاديث ككل. فجاءت صناعته واجتهاداته متلبسة بهيئة غير مستقلة عنها. فهو لم يقم بإصدار أحكامه على أناس مستقلّين مجرّدين ليعطي حكمه العام فيهم. بل جاءت كل عبارة من عباراته الفنية -جرحًا أو تعديلًا- مرتهنة بظروفها.
وعلى هذا فيمكنني أنْ أقول: إنَّ هناك الكثير من الأحكام لا يمكن تعميمها على الراوي وجعلها هي الحكم الأمثل الصحيح لبيان درجته. ومثل هذه المواطن تحتاج إلى دراية ودربة بأسلوب البيهقي ومنهجه حتى لا يقع الدارس في الخطأ من خلال التعميم، وعدم التَّدَبُّر، وذلك لأنَّ كتابه "السنن الكبرى" ليس كتابًا مستقلًا في الرجال يتناول الجرح والتّعديل فحسب. بل هو
أخبار وآثار ممحّصة ومعروضة على موازين النقد ومعاييره الدقيقة من أجل الوصول إلى الحكم الصحيح لكل نصّ من هذه النصوص التي اشتمل عليها الكتاب. فلعلّه يخرج رواية الثقة الصدوق مستخدمًا عبارته الخاصة "لم يحتج به الشيخان"(1) وذلك في معرض الترجيح بين الروايتين المختلفتين إذا خالف الثقة مَنْ هو أوثق منه. فيلتبس على الدارس غير المتعمّق بأسلوب البيهقي أنه يريد تضعيف هذا الثقة مطلقًا لأنه لم يرو عنه الشيخان في "صحيحيهما".
وهذا ما حصل للشيخ ابن التركماني فاعترض على البيهقي من أجله (2) وسيأتي مزيد إيضاح لهذه المسألة في مصطلحاته الخاصّة في الجرح والتّعديل.
ومن الأمثلة الموضحة لذلك قوله في محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري: "لا يحتج به"(3).
وقال في موضع آخر: "لا يحتج بحديثه. وهو أسوأ حالًا عند أهل المعرفة من يزيد بن أبي زياد"(4) مع العلم أنّ يزيد بن أبي زياد هذا ضعيف عند المحدّثين.
والدارس الواقف على هذه الأحكام ينقدح في ذهنه أنّ الشيخ يسقط مرويات ابن أبي ليلى تمامًا، ويردها مطلقًا. إلَّا أنّ الحال عند البيهقي ليس كذلك، فإننا لو نظرنا في أقواله مجتمعة لتبين لنا خلاف ذلك. فإنه يقول فيه في موطن آخر من "السنن":"وإنْ كان في الفقه كبيرًا، فهو ضعيف في الرواية لسوء حفظه، وكثرة خطئه في الأسانيد والمتون، ومخالفته الحفاظ فيها، والله يغفر لنا وله"(5).
(1) البيهقي- السنن الكبرى: 1/ 190، 304، 2/ 52، وغير ذلك.
(2)
ابن التركماني- الجوهر النقي: 1/ 304.
(3)
البيهقي- السنن الكبرى: 3/ 329.
(4)
المصدر السابق: 2/ 77.
(5)
المصدر السابق: 5/ 334.
ولخّص ذلك في موضع آخر بعبارة فنية فقال: "لا يفرح بما يتفرّد به"(1)
وقوله في خلاصة رأيه فيه: "غير قوي"(2).
ومحمد بن أبي ليلى هذا عند ابن حجر صدوق سيء الحفظ جدًا (3)، وهي العبارة التي تقارب عبارة البيهقي "غير قوي" إلَّا أنّ البيهقي أراد بأقواله تلك أنه لا يحتج به عند انفراده، كما صرّح بذلك في بعض المواطن. وكذا من باب أولى تضعيف وردّ مخالفته للحفاظ.
وهذا اللّبس يمكن أنْ يقع في كثير من المواطن المشابهة له إنْ لم يُتنبّه لمثل هذه الدقيقة التي تنكشف بجلاء عند الوقوف على مجموع أقواله في الرجل الواحد.
وقد وقع هذا في حكمه على الحجاج بن أرطاة فإنه تعرض لتقييمه في اثنين وعشرين موضعًا من كتابه (4) وكذلك عبد الله بن لهيعة المصري فقد تكلم فيه تسع مرات (5) وكذا في ترجمة إسماعيل بن عيّاش أبي عتبة الحمصي، فإنه تكلم فيه سبع مرات (6).
ومن المناسب أنْ نمثِّلَ لحالة إسماعيل بن عيّاش لأهميتها. فإنه صدوق في روايته عن أهل بلده، مخلّط في غيرهم، فإننا نرى البيهقي يجرحه فيقول:
(1) البيهقي- السنن الكبرى: 2/ 255.
(2)
المصدر السابق: 5/ 73.
(3)
ابن حجر- تقريب التّهذيب: 2/ 184.
(4)
البيهقي- السنن الكبرى: 1/ 159، 179، 355، 396، 5/ 105، 210، 6/ 43، 200، 254، 7/ 7، 126، 240، 188، 170، 8/ 36، 98، 75، 298، 9/ 127، 361، 10/ 148، 283.
(5)
المصدر السابق: 1/ 302، 263، 266، 2/ 408، 4/ 108، 351، 5/ 343، 6/ 162، 3/ 113.
(6)
المصدر السابق: 1/ 89، 142، 240، 3/ 38، 4/ 150، 5/ 334، 6/ 264.
"لا يحتج به"(1) أو "غير محتج به"(2) .. إلى آخره. فيظن الدارس أنه يسقطه تمامًا. والصواب أنه ليس كذلك فإنه يأتي إلى التفصيل الضروري المطلوب في حينه فيقول -مجرحًا له تجريحًا مقيدًا-: "لا يحتج به خاصة إذا روى عن أهل الحجاز"(3). أو مُعَدِّلًا له تعديلًا مقيدًا: "ما روى عن الشاميين صحيح، وما روى عن أهل الحجاز فليس بصحيح"(4).
وقد صرّح بمنهجه هذا، ومراده من عبارته "لم يحتجّ به" في إطلاقها على هؤلاء الرواة في قوله عن شريك القاضي:"لم يحتج به أكثر أهل العلم بالحديث. وإنما ذكره مسلم بن الحجاج في الشواهد"(5). فإنما أراد لم يحتج به الحفاظ عند تفرده ومخالفته لمن هو أوثق منه. وإنما يصلح أمثاله في المتابعات والشواهد والاعتبار به.
وقد كان الإِمام الحافظ عثمان بن سعيد الدارمي يستعمل هذه العبارة بهذا المقصود فيقول مثلًا: "ليس أبو بكر النهشلي ممن يحتج بروايته. أو تثبت به سنّة لم يأتِ بها غيره"(6) أي إنه لا يحتمل التفرد، ولا يصلح إلَّا في المتابعات والشواهد، والاعتبار به.
وهذه القضية أخذت من اهتمام البيهقي وجهده الشيء الكثير لأهميتها وإمكان التباسها على غير أولي الشأن فكان لها بالمرصاد. فقام بكشفها في سائر الكتاب، وذلك لأنّ الحديث الذي يتفرد بروايته مَنْ لا يحتمل عنه التفرد كالمقارب والمستور والضعيف هو عند المحدثين حديث منكر مردود (7).
(1) البيهقي- السنن الكبرى: 3/ 38.
(2)
المصدر السابق: 4/ 150.
(3)
البيهقي - السنن الكبرى: 1/ 240.
(4)
المصدر السابق: 1/ 142.
(5)
المصدر السابق: 10/ 271.
(6)
المصدر السابق: 2/ 81.
(7)
السخاوي- فتح المغيث: 1/ 202، د. عجاج الخطيب- المختصر الوجيز:156.