الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن خلال نظرة سريعة في الكشف الذي ذكرناه في المبحث الخامس من الباب الثالث المتعلق بالحديث المنكر (1)، والمتضمن للمواطن التي نبّه البيهقي على نكارتها في "السنن الكبرى" تنكشف قدرة البيهقي النقدية الكمّ والكيف، وذلك لأنَّ هذا الكشف يتطلب معرفة كبيرة بالرواة وأحوالهم ودرجاتهم. ومعرفة أخرى بالمرويات وأحوالها، والإحاطة بمشهورها من غريبها، ومستفيضها من فردها. كما يقتضي يقظة عالية تمكن من الوقوف على المناكير في وسط هذه الكثرة من المرويات الحديثية.
ومن نظائر هذه المسالة إطلاقه عبارة "ضعيف" إجمالًا على المتروك الساقط في الاحتجاج كقوله في "أبان بن أبي عياش البصري": "ضعيف".
ولكن من خلال النظرة التكاملية لأقواله فيه، نجده يُفَصَّل في عبارته كاشفًا أبعاد هذا الضعف فيقول:"متروك"(2). ويقول في موضع آخر: "لا يحتج به"(3).
وكذا صنيعه في "أبي شيبة إبراهيم بن عثمان العبسي الكوفي"(4) وأضرابه. وهذا يقتضي مني أن أوسع الحديث قليلًا عن طريقته في استعمال عبارة "ضعيف".
* * *
2 - أبعاد صيغة "ضعيف" في استعمال البيهقي:
إنّ مما ينبغي التنبّه له في التعامل مع عبارات البيهقي النقدية في إطار "السنن الكبرى" عبارة "ضعيف"، لأنه ربما أطلقها على الراوي في موطن وهو
(1) انظر كتابنا "الصناعة الحديثية".
(2)
البيهقي- السنن الكبرى: 3/ 41، 10/ 7.
(3)
المصدر السابق: 5/ 303.
(4)
انظر: المصدر السابق: 1/ 145، 2/ 496، 9/ 194، 10/ 312.
يريد أنها لا تليق به إلَّا في هذا الموطن. ولم يكن يقصد إطلاقها عليه كحكم ثابت وملازم لهذا الراوي في جميع أحواله. أو أنه هو الحكم المناسب له.
أ- فقد يطلق عبارة "الضعف" عني الصدوق الذي يخطئ أحيانًا كما صنع مع "أيوب بن سويد" فإنه قال فيه: "هو ضعيف"(1). فهو إنما قصد أنه ضعيف في هذا الموطن وأنه أخطأ في، روايته ووهم فلزم تضعيفه هنا.
ب- وربما أطلقها على مَنْ تركه المحدثون وأسقطوه. كما صنع في الحارث بن نبهان (2)، والسري بن إسماعيل الهمداني (3)، وخالد بن إلياس (4) وجميع هؤلاء متروكون ساقطون في الاحتجاج عند جمهور المحدثين. وهو إنما أراد الضعف المطلق. وهي لفظة عامة تدخل في عمومها بقية الألفاظ التي هي دونها، والحق أنَّ تصرف الإِمام البيهقي في ظاهره تنقصه الدّقة في العبارة؛ على اعتبار أنّ بقية العبارات الداخلة في مسمَّى الضعف لها اصطلاحاتها الفنية المعبِّرة عنها. فكان أحرى به أنْ يستعملها في مثل هذه المواطن، إلاّ أنه إنما أراد أن من كانت هذه صفته فهو ليس بمتروك عنده حتى يجمع المحدثون على تركه. وهذه النماذج التي ذكرناها -من أسماء هؤلاء الذين تركهم جمهور النقاد، واكتفى الآخرون بتضعيفهم ضعفًا متفاوتًا، بعضه خفيف، ومنهم مَنْ كان يكتب حديث بعضهم- تدل على ذلك.
وقد تابع البيهقيُّ في ذلك الحافظَ الناقدَ أحمد بن صالح، فقد نقل عنه مذهبه الذي يقول فيه: "لا يترك حديث الرجل حتى يجمع الجميع على ترك
(1) البيهقي- السنن الكبرى: 10/ 271.
(2)
المصدر السابق: 8/ 89. وانظر: ابن حجر- تهذيب التّهذيب: 2/ 158 - 159.
(3)
المصدر السابق: 8/ 344. وانظر: ابن حجر- تهذيب التّهذيب: 3/ 459 - 460.
(4)
المصدر السابق: 2/ 124، 7/ 290، وانظر: ابن حجر- تهذيب التّهذيب: 3/ 80 - 81.
حديثه. وقد قال: فلان ضعيف. فإمّا أنْ يقال: فلان متروك فلا، إلَّا أنْ يجمع الجميع على ترك حديثه" (1).
أما قول ابن حجر فيهم في كتابه "التقريب" القاضي في الحكم عليهم بالترك فهو إنما يأخذ مجمل الأقوال في الراوي وما عليه جمهورهم (2).
وممن وجدتُه يستعمل هذه الطريقة في إطلاق عبارة الجرح الإمامُ الناقدُ الدارقطني. ومن شواهد ذلك عنده، حكمه على "إسماعيل بن أبي أمية أبو أمية الثقفي" فقد حكم عليه مرة فقال:"متروك"(3) وقال في موضع آخر معممًا: "ضعيف"(4).
ج- استعمال اصطلاح الضعف في موضعه المناسب له. وهو الوضع الطبيعي الطاغي على إطلاقه لهذه العبارة (5).
والإمام البيهقي يفصّل في كثير من الأحيان هذا الضعف في حينه، ويعطيه بعده المقصود من العبارة النقدية. فيقول:"ضعيف جدًا"(6).
أو يقول: "ضعيف بمرّة"(7).
أو: "ضعيف عند بعض أهل النقل"(8).
(1) ابن الصلاح- علوم الحديث: 126 - 127.
(2)
ابن حجر- تقريب التّهذيب: 1/ 144، 211، 285.
(3)
الدارقطني- الضّعفاء والمتروكون: 135، وسنن الدارقطني: 2/ 20.
(4)
الدارقطني- الضّعفاء والمتروكون: 412.
(5)
انظر مثلًا: إسحاق بن إبراهيم الحنيني "السنن الكبرى": 9/ 271، ورشدين بن سعد المصري "السنن الكبرى": 8/ 238، وعباد بن كثير الرملي الفلسطيني "السنن الكبرى": 6/ 128.
(6)
البيهقي- السنن الكبرى: 7/ 250، وانظر: مراتب الرواة.
(7)
البيهقي- السنن الكبرى: 3/ 138، وانظر: مراتب الرواة.
(8)
المصدر السابق: 9/ 296، وانظر: مراتب الرواة.
أو: "ضعيف عند أهل النقل لا يحتج بخبره"(1).
أو: "ضعيف لا يحتج بمروياته"(2).
أو: "ضعيف لا تقوم به حجة إذا وصل الحديث، فكيف بما أرسله"(3).
أو: "ضعيف، منكر الحديث"(4). وغير ذلك من الاستعمالات الكثيرة.
وتبيَّن مِمّا تقدم أن عبارات البيهقي في الجرح والتّعديل جاءت مرتهنة بظروف المرويات، وطبيعة قوتها، فهو يوغل في تضعيف الرجل في موطن ويتلطف في غيره عند حصول متابعة أو شاهد. وقد يطلق العبارة في موطن، ثم ينشط في موطن آخر فيبيّن المراد منها. فينبغي للمعتمد على مادته في "الجرح. والتّعديل" أن يلتفت إلى هذه اللّطيفة.
وقد يتوسّع البيهقي مبيّنًا أسماء الأئمة النقّاد الذين ضعَّفوا هذا الراوي أو ذلك. فيفصّل تارة، ويجمل أخرى.
ومن شواهد تسميته لهؤلاء النّقاد الذين قاموا بإطلاق الضعف على الراوي قوله في "عباد بن كثير الرملي": "ضعفه أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، والبخاري، وتكلّم فيه شعبة بن الحجاج"(5).
وقوله في عبد الرحمن بن زياد الافريقي: "ضعفه يحيى القطان، وعبد الرحمن ابن مهدي، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين وغيرهم من أئمة الحديث"(6).
(1) البيهقي- السنن الكبرى: 3/ 169، وانظر: مراتب الرواة.
(2)
المصدر السابق: 2/ 379، وانظر: مراتب الرواة.
(3)
المصدر السابق: 8/ 31، وانظر: مراتب الرواة.
(4)
المصدر السابق: 1/ 425، وانظر: مراتب الرواة.
(5)
البيهقي- السنن الكبرى: 7/ 316.
(6)
المصدر السابق: 2/ 139.