الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخاتمة
وهكذا تتكشّف لنا جهود الإِمام البيهقي وصناعته في علم الجرح والتّعديل في حدود "السنن الكبرى" هذه الجهود التي تتبعت أحوال الرواة، وقامت بفحصهم بالدقة والتفصيل من أجل الوصول إلى الحكم المناسب فيهم بكل أناة وصبر ورويّة. إحقاقًا للحق، وذلك كله من أجل تمييز المرويات، وبيان صحيحها من سقيمها، ومقبولها من مردودها.
وتظل جهود الإِمام البيهقي في هذا المضمار -بالمقارنة مع غيره من أصحاب الأمهات من المصنفات الحديثة باستثناء الصحيحين في بعض جوانبهما- فائقة في كمِّها وكيفها. بل إننا إذا استثنينا "جامع الترمذي" و"سنن الدارقطني" لا نجد بعدهما كتابًا من الكتب الستة أو غيرها من الأمهات عني صاحبه فيه بإبراز الجانب النقد -وبالخصوص فيما يتعلق بالجرح والتّعديل والتعريف بالرواة- مثلما صنع البيهقي. بل إنّ الإِمام الترمذي لم تبلغ عنايته بكشف هذا الجانب وإظهاره عشر معشار ما وجدناه في صناعة البيهقي، وإن كان يبقى له فضل السبق والرّيادة.
أما "سنن الدارقطني" فإننا -إذا استثنينا الفارق الكمي في المادة بين الكتابين- وجدناها مشتملة على نسبة طيبة من مسائل النقد والتعليلَ. وهو أمر غير كبير ولا كثير على أبي الحسن الدارقطني الحافظ الحجة في الجرح والتّعديل والعلل.
وبهذا أضاف البيهقي إلى مزايا كتابه مزية جليلة إضافية وهي اشتمال كتابه "السنن الكبرى" على هذه الثروة النقدية الغنيّة بمادتها وقيمتها. بحيث
إنها تصلح أنْ تكون مرجعًا ثريًا في الجرح والتّعديل وبيان قيمة الرجال الذين اشتمل عليهم كتابه.
ومن المعلوم أن كتابه هذا قد اشتمل على جمهور رجال السنن، وحملة العلم، ورواة الآثار (1) وأنه درج على معالجة مادته الحديثية إسنادًا ومتنًا على خلاف أغلب كتب السنّة، التي ظلت فيها هذه الفوائد الجليلة مغمورة متوارية لا يدركها إلاّ أصحابها، ومَنْ قاربهم في العلم والإمامة. باستثناء بعض الشذرات المتناثرة، والإشارات المجملة المبثوثة بندرة في هذه المصنّفات الحديثية.
وصناعة البيهقي هذه على ما فيها من وضوح القصد، والإفصاح عن الغرض الحديثي وتقريبه وتيسيره وما اشتمل عليه من تسطير هذه الفوائد النقداية الهامة، فإنه يتيح للدارس في هذا الكتاب بما يؤهله مستقبلًا لاستجلاء أبعاد النقد ومسائله، وطريقته وأساليبه، والخطوات التي يخطوها فيه. وذلك بما اشتمل عليه كتابه من تلابس هذه الثروة النقدية المتنوعة بالمرويات الحديثية. فهي نصوص مشفوعة بأحكامها، وأحكام مشبعة ببيان تفاصيلها.
حيث إنها تنقل الدارس -بتلقائية ويسر- إلى الإحاطة العامة بأمور النقد، وتطلعه على مراحله الفنية. وتغرس فيه منهج القراءة المرتبطة بالنقد والتمحيص وحسب هذه الفوائد من الجلالة والأهمية بالنسبة للمعني بدراسة الحديث.
(1) قمت بجمع أقواله في الجرح والتّعديل التي تضمنت عباراته الصريحة في نقد الرواة فبلغت ثلاثة الاف مقالة، عدا الأحكام العامة التي لم أتعرض لها لإجمالها. وقد نشرناها صحبة هذه الدراسة النقدية بعنوان "معجم الجرح والتّعديل لرجال السنن الكبرى".