الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثالثًا ما تفرّد به البيهقي من مصطلحات النقد
استعمل الإِمام البيهقي عبارات خاصة به لم يستعملها سواه -فيما أعلم- ولا شك أنّ هذه العبارات لها مدلولها الخاص عنده. وقد حاولت من خلال الدراسة والتأمل المقارنة بين استعمالاته لهذه العبارات وطبيعة إطلاقها -من خلال النظرة الموسوعية الشاملة لعمله في "السنن الكبرى"- وموافقة هذه العبارات لطبيعة أولئك الرواة الذين أطلقها عليهم، ومدى صدق استعمالها في تجريحهم أو تعديلهم.
ومن هذه العبارات الخاصة:
1 - قوله: "لم يحتج به الشيخان البخاري ومسلم
" (1):
هذه العبارة التي يكثر الإمام البيهقي من استعمالها في "السنن الكبرى" لا يوجد -فيما أعلم- من استخدمها سواه. وهي قد تدعو إلى الاستغراب في بادئ الأمر، إلَّا أنها حين يتأملها الدارس يكبرها ويتبناها.
ذلك أن البيهقي من فقهاء المحدثين اجتمعت فيه صناعتا الفقه والحديث، فأثمر هذا التزاوج والتمازج بين هذين الفنين الجليلين قدرة هائلة على التحليل والنقد.
(1) راجع مراتب الجرح والتّعديل من هذا المبحث.
وهذه العبارة أثر من آثار هذه الحصيلة الجامعة. فالصحيحان للإمامين البخاري ومسلم تلقتهما الأمةُ بالقبول والإكبار. واعتبرتهما القِمَّة السامقة التي تتطلع إليها العيون، وتشرئبُّ إليها الأعناق، فرجالهما أعلى رجال الأمة صحة ونظافة وقوة، وكذلك القول في متونهما. لكن الإِمام البيهقي ترجم هذه النظرة الجليلة المتفق عليها عند مَنْ يعتد به من طوائف هذه الأمة المباركة فجعلهما محكًّا ومعيارًا في الترجيح بين الأحاديث المختلفة.
وأقول: "في الأحاديث المختلفة" حتى لا ينصرفَ الذهنُ إلى أنَّ البيهقيَّ قد استخدم هذا المنهج في عموم ترجيحاته. فهذا غير صحيح (1).
وذلك لأنَّ البيهقي وغيره من الحفاظ يعلمون أنَّ الشيخين لم يستوعبا الصحيح ولا التزماه في كتابيهما (2). فليس كل ثقة لم يرو عنه الشيخان ليس بثقة، ولا كل حديث صحيح لم يخرجاهُ ليس بصحيح. فهذا ما لم يقل به أحد.
وتصِحيح البيهقي لمئات الأحاديث في كتابه مما لم يخرجه الشيخان شاهد على هذا.
إلَّا أنه إنما ابتكر هذا المعيار الدقيق في مجال الترجيح، واختار الأقوى من المرويات حينما احتاج إليه عند اختلاف الحديثين، وذلك لأنه قد يختلف الحديثان في حكمهما. ولا نجد إمكانًا للجمع بينهما، ولا معرفة الناسخ والمنسوخ منهما، فلا بدّ لنا من ترجيح أحدهما على الآخر، وذلك لأنّ الحجة في الحديثين -إذا اختلفا- في أحدهما، ولا يمكن أنْ يكون كلاهما صحيحًا (3). وعلى هذا الأساس يكون قول الإِمام البيهقي في داود بن عبد الله
(1) انظر: ابن التركماني- الجوهر النقي: 1/ 304.
(2)
د. مصطفى الخن- المنهل الروي من تقريب النووي: 33، د. عجاج الخطيب- المختصر الوجيز: 135 - 136.
(3)
البيهقي- السنن الكبرى: 10/ 210، ودلائل النبوة: 1/ 41 - 42.
الأودي: "لم يحتج به الشيخان"(1). مع أنّ داود هذا ثقة روى له أصحاب السنن الأربعة (2) إلَّا أنه هنا خالف في حديثه هذا حديثًا أخرجه مالك والبخاري. ولمَّا تعذّر على البيهقي الجمع بينهما بطريقة مساغة، عمد إلى الترجيح بينهما. فرأى أنّ رجال البخاري ومالك إذا قيسوا برجال السند الثاني الذي فيه الأودي رجَحوا عليهم.
ويتضح منهج البيهقي جليًا حينما نستعرض بقية العبارات المستوحاة من هذا المنهج الترجيحي، فهو يقول كذلك:"غيره أثبت منه"(3).
ويقول: "غيره أوثق منه"(4) أو"أقوى منه". فهذا عند الإِمام البيهقي ليس بجرح بمعنى الجرح، وإنما هو اصطلاح للتمييز بين الثقات عند الاختلاف من حيث المرتبة.
وهو أقرب إلى روح العلل من حيث النظرة النسبية التي تؤدي إلى أنَّ الثقات على مراتب متفاوتة وليسوا في درجة واحدة (5) وتبرز قيمة هذا الفهم في مثل هذه الحالات المستعصية، والتي تتطلب الترجيح عند الاختلاف بين الرواة الثقات المتفاوتين في درجاتهم تفاوتًا دقيقًا لا يكاد يبين. وقد نصّ الحافظ العراقي على هذه الدقيقة في الترجيح، وعدّها في جملة المعايير المؤدية إلى الترجيح عند إلاختلاف بين المرويات المقبولة. فعدّ منها "كون أحدهما اتفق عليه الشيخان"(6).
* * *
(1) البيهقي- السنن الكبرى: 1/ 190.
(2)
المزي- تهذيب الكمال: 1/ 386 - 387، ابن حجر- التقريب: 1/ 233.
(3)
انظر مراتب الجرح والتّعديل في هذا المبحث.
(4)
المصدر السابق.
(5)
د.-همام- العلل في الحديث: 23.
(6)
العراقي- التقييد والإيضاح: 250.