الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-
11 - الاعتناء بمعانى القرآن التى عاشها الصحابة عمليا
نشأ الصحابة على القرآن الكريم، وعاشوا فى ظلاله، وتذوقوا آياته، وتفاعلوا مع نصوصه، وأدركوا هديه، وأضاءت إليهم أنواره .. فكانوا جيلا قرآنيا فريدا.
وقد رووا أحيانا بعض ما كانوا يجدونه من تأثير القرآن فيهم، وما يعيشونه من إيحاءاته ومعانيه .. وهذا لا يمثل إلّا النزر اليسير الضئيل، فقد كان ما عاشوه من ذلك أضعاف أضعاف ما روى عنهم ..
ولكن تلك الروايات التى نقلت عنهم ذات دلالة على منهج تعاملهم مع القرآن وصلتهم به ونظرتهم إليه، ويمكن للقارئ أن يقتدى بهم فى ذلك، وأن يحاول أن يجد من القرآن بعضا مما وجدوه، وأن يعيش فيه شيئا مما عاشوه .. واطلاعه على ما روى عنهم، أكبر عامل يساعده على اقتدائه بهم واحتذائه حذوهم، واتباعه خطواتهم.
ولقد سبق إيرادنا لقول ابن مسعود رضى الله عنه: «إنا صعب علينا حفظ ألفاظ القرآن وسهل علينا العمل به، وإن من بعدنا يسهل عليهم حفظ القرآن، ويصعب عليهم العمل به» .
وقول عبد الله بن عمر بن الخطاب رضى الله عنه: «لقد عشنا دهرا طويلا وأحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن، فتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم فيتعلم حلالها وحرامها وآمرها وزاجرها ولا ما ينبغى أن يقف عنده، ينثره نثر الدقل .. » .
إن وقوف القارئ على تعامل الصحابة مع القرآن، واعتناءه بالمعانى والإيحاءات التى حصّلوها من الحياة فى ظلال القرآن، يعرّفه كيف تقبل القلوب الطاهرة على القرآن وتتفاعل به، فيسعى ليكون واحدا من هؤلاء.
والنماذج فى هذا كثيرة، والأمثلة عليه وافرة، نقتطف منها ما يلى:
روى مسلم وأبو داود عن أنس بن مالك رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلى نحو بيت المقدس، فنزلت: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة: 144] فمر رجل من بنى سلمة وهم ركوع فى صلاة الفجر، قد صلوا ركعة، فنادى: ألا إن القبلة قد حولت، فمالوا كما هم ركوعا إلى الكعبة».
فهذه الرواية تدلنا على نظرة الصحابة للتوجهات والتكاليف الربانية، وعلى قلوبهم المتبوئة للإيمان وهى تتفاعل معها، وعلى الاستجابة الفورية فى التنفيذ والالتزام.
وأخرج البخارى والترمذى والنسائى وأبو داود- والرواية لأبى داود- عن زيد بن ثابت رضى الله عنه قال: كنت إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغشيته السكينة، فوقعت فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذى،
فما وجدت ثقل شيء أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سرى عنه: فقال لى: أكتب، فكتبت فى كتف: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ..
[النساء: 95]، فقام ابن أم مكتوم- وكان رجلا أعمى- لما سمع فضيلة المجاهدين فقال: يا رسول الله: فكيف بمن لا يستطيع الجهاد من المؤمنين؟ فلما قضى كلامه، غشيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم السكينة، فوقعت فخذه على فخذى، ووجدت من ثقلها فى المرة الثانية كما وجدت فى المرة الأولى، ثم سرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اقرأ يا زيد. فقرأت:
لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ .. الآية كلها. قال زيد، أنزلها الله كلها فألحقها» ..
وروى البخارى ومسلم والترمذى عن ابن مسعود رضى الله عنه قال:
لما نزلت الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ [الأنعام: 82] شق ذلك على المسلمين، وقالوا: أينا لا يظلم نفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ليس ذلك: إنما هو الشرك، ألم تسمعوا قول العبد الصالح: يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)[لقمان: 13].
وروى أحمد فى مسنده عن أبى بكر الصديق رضى الله عنه أنه قال:
يا رسول الله: كيف الفلاح بعد هذه الآية: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [النساء: 123]، فكل سوء عملناه جزينا به- وفى رواية أخرى قال: فلا أعلم قد وجدت انفصاما فى ظهرى حتى تمطيت لها! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لك يا أبا بكر؟ فقلت: بأبى أنت وأمى يا رسول الله وأينا لم يعمل السوء، وإنا لمجزيون بكل سوء عملناه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: غفر الله لك يا أبا بكر ألست تمرض؟ ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأواء؟ قال: بلى! قال: فهو مما تجزون به».
وروى ابن جرير الطبرى قال: قرأ أبو طلحة رضى الله عنه سورة
براءة، فأتى على هذه الآية: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة: 41]، فقال: أرى ربنا استنفرنا شيوخا وشبابا جهزونى يا بنى، فقال بنوه: يرحمك الله قد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، ومع أبى بكر حتى مات، ومع عمر حتى مات، فنحن نغزو عنك، فأبى فركب البحر فمات، فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلّا بعد تسعة أيام فلم يتغير، فدفنوه بها .. ».
هذا ويجد القارئ الأقوال والروايات عن الصحابة فى ذلك فى كتب التفسير بالمأثور، وفى كتب أسباب النزول، وفى كتب الأحاديث من الصحاح والسنن، وفى كتب السيرة وحياة الصحابة .. وهى كثيرة ..