المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌ مواقف جميلة

أخي المسلم:

هاك‌

‌ مواقف جميلة

وعبر ناصعة من سلف هذه الأمة وحرصهم على التواضع والبعد عن الشهرة والثناء.

عن خالد بن معدان قال: كان يحيى بن سعيد إذا كثرت حلقته قام مخافة الشهرة.

قال ليث عن أبي العالية أنه كان إذا جلس إليه أكثر من ثلاثة قام.

وقال أبو بكر بن عياش: سألت الأعمش كم رأيت أكثر ما رأيت عند إبراهيم؟ قال: أربعة، خمسة.

قال أبو بكر، ما رأيت عند حبيب بن أبي ثابت غلمة ثلاثة قط (1).

وقال: قال بشر بن الحارث: لا أعلم رجلاً أحب أن يعرف إلا ذهب دينه وافتضح.

وقال: لا يجد حلاوة الآخرة رجل يحب أن يعرفه الناس (2).

حقيق بالتواضع من يموت

ويكفي المرء من دنياه قوت

فما للمرء يصبح ذا هموم

وحرص ليس تدركه النعوت

صنيع مليكنا حسن جميل

وما أرزاقه عنا تفوت

فيا هذا سترحل عن قليل

إلى قوم كلامهم السكوت (3)

قال مالك بن دينار: إن القلب إذا لم يكن فيه حزن خرب

(1) التواضع والخمول، ص 122.

(2)

التواضع والخمول، ص 130.

(3)

البداية والنهاية 8/ 12.

ص: 49

كما يخرب البيت إذا لم يكن فيه ساكن. وإن قلوب الأبرار تغلي بأعمال البر وإن قلوب الفجار تغلي بأعمال الفجور. والله يرى همومكم، فانظروا ما همومكم رحمكم الله (1).

وليتبد كل قارئ ويظهر همه ومنتهى أمله؟ ! أهو لدنيا فانية ودار زائلة وكرسي متحرك؟ ! أم هو هم الدين ورفعته والدعوة إليه والصبر على ذلك!

مر بالحسن شاب عليه بزة له حسنة فدعاه فقال له: ابن آدم معجب بشبابه محب لشمائله، كأن القبر قد وارى بدنك وكأنك قد لاقيت عملك، ويحك! داو قلبك فإن حاجة الله إلى العباد صلاح قلوبهم (2).

وحال المتكبر تدعوه إلى رد الحق وعدم قبوله وهذه عين فساد القلب وخبثه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل: «كل بيمينك» قال: لا أستطيع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا استطعت ما منعه إلا الكبر» فما رفعها إلى فيه (3).

ورأى محمد بن واسع ولده يختال فدعاه وقال: أتدري من أنت؟ أما أمك فاشتريتها بمائتي درهم. وأما أبوك فلا أكثر الله في المسلمين مثله!

ورأى ابن عمر رجلاً يجر إزاره فقال: إن للشيطان إخوانًا

(1) روضة العقلاء، ونزهة الفضلاء، ص 27.

(2)

الإحياء 3/ 359.

(3)

رواه مسلم.

ص: 50

- كررها مرتين أو ثلاثًا (1).

يا مظهر الكبر إعجابًا بصورته

انظر خلاك فإن النتن تثريب

لو فكر الناس فيما في بطونهم

ما استشعر الكبر شبان ولا شيب

هل في ابن آدم مثل الرأس مكرمة

وهو بخمس من الأقذار مضروب

أنف يسيل وأذن ريحها سهك

والعين مرفضة والثغر ملعوب

يابن التراب ومأكول التراب غدًا

أقصر فإنك مأكول ومشروب (2)

وثوب الشهرة قد يكون ثوبًا رديئًا ليظهر الإنسان حاله أنه من الزهاد والصالحين! ! رأى ابن عمر على ابنه ثوبًا قبيحًا دونًا فقال: لا تلبس هذا، فإن هذا ثوب شهرة (3).

أخي الحبيب:

كيف حالك مع الفقراء والمساكين والمعدمين؟ ! هذا سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد حاز الشرف الرفيع والنسب العالي ومع هذا يتواضع وهو أهل لذلك:

عن الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما أنه مر بمساكين وهم يأكلون كسرًا لهم على كساء فقالوا: يا أبا عبد الله، الغذاء، قال: فنزل وقال: إنه لا يحب المستكبرين، فأكل معهم، ثم قال لهم: قد أجبتكم فأجيبوني، فانطلقوا معه فلما أتوا المنزل قال لجاريته:

(1) الإحياء 3/ 359.

(2)

أدب الدنيا والدين، ص 233.

(3)

التواضع والخمول، ص 129.

ص: 51

أخرجي ما كنت تدخرين (1).

وذكر عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى أنه أتاه ذات ليلة ضيف فلما صلى العشاء وكان يكتب شيئًا والضيف عنده كاد السراج أن ينطفئ، فقال الضيف: يا أمير المؤمنين، أقوم إلى المصباح فأصلحه؟ قال: ليس من مروءة الرجل أن يستعمل ضيفه. قال: أفأنبه الغلام؟ قال: لا، هي أول نومة نامها، فقام عمر وأخذ البطة فملأ المصباح، فقال الضيف: قمت بنفسك يا أمير المؤمنين؟ قال: ذهبت وأنا عمر، ورجعت وأنا عمر وخير الناس عند الله من كان متواضعًا.

وقال قيس بن أبي حازم: لما قدم عمر بن الخطاب إلى الشام تلقاه علماؤها وكبراؤها فقيل: اركب هذا البرذون يرك الناس، فقال: إنكم ترون الأمر من ههنا، إنما الأمر من ههنا وأشار بيده إلى السماء، خلوا سبيلي.

وروي في رواية أخرى أن عمر رضي الله تعالى عنه جعل بينه وبين غلامه مناوبة، فكان يركب الناقة ويأخذ الغلام بزمام الناقة ويسير مقدار فرسخ ثم ينزل ويركب الغلام ويأخذ عمر بزمام الناقة ويسير مقدار فرسخ، فلما قربا من الشام كانت نوبة ركوب الغلام، فركب الغلام وأخذ عمر بزمام الناقة، فاستقبله الماء في الطريق، فجعل عمر يخوض في الماء ونعله تحت إبطه اليسرى وهو آخذ بزمام

(1) تبينه الغافلين، ص 95.

ص: 52

الناقة، فخرج أبو عبيدة بن الجراح وكان أميرًا على الشام وقال: يا أمير المؤمنين، إن عظماء الشام يخرجون إليك فلا يحسن أن يروك على هذه الحالة، فقال عمر رضي الله تعالى عنه: إنما أعزنا الله تعالى بالإسلام فلا نبالي من مقالة الناس (1).

وقال عروة بن الزبير رضي الله عنهما: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على عاتقه قربة ماء، فقلت: يا أمير المؤمنين، لا ينبغي لك هذا، فقال: لما أتاني الوفود سامعين مطيعين دخلت نفسي نخوة فأردت أن أكسرها.

وولي أبو هريرة رضي الله عنه إمارة، فكان يحمل حزمة الحطب على ظهره ويقول: طرقوا للأمير (2).

وقال أنس: كان بين كتفي عمر أربع رقاع وإزاره مرقوع بأدم. وخطب عمر على المنبر وعليه إزار فيه اثنتا عشرة رقعة (3).

وقال مجاهد في قوله تعالى: {ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى} (4): أي يتبختر.

ودخل ابن السماك على هارون فقال: يا أمير المؤمنين، إن تواضعك في شرفك أشرف لك من شرفك، فقال: ما أحسن ما قلت! فقال: يا أمير المؤمنين إن امرءًا آتاه الله جمالاً في خلقته

(1) تنبيه الغافلين، ص 97.

(2)

مدارج السالكين، ص 343.

(3)

البداية والنهاية 7/ 148.

(4)

سورة القيامة، الآية:33.

ص: 53

وموضعًا في حسبه وبسط له في ذات يده فعف في جماله وواسى من ماله وتواضع في حسبه - كتب في ديوان الله من خالص أولياء الله فدعا هارون بدواة وقرطاس وكتبه بيده.

وكان سليمان بن داود عليهما السلام إذا أصبح تصفح وجوه الأغنياء والأشراف حتى يجيء إلى المساكين فيقعد معهم ويقول: مسكين مع مساكين.

وقال بعضهم: كما تكره أن يراك الأغنياء في الثياب الدون فكذلك فاكره أن يراك الفقراء في الثياب المرتفعة (1).

وقال سليم بن حنظلة: بينا نحن حول أبي بن كعب نمشي خلفه إذ رآه عمر، فعلاه، فقال: انظر يا أمير المؤمنين ما تصنع؟ ! فقال: إن هذا ذلة للتابع وفتنة للمتبوع (2).

وقال جرير بن عبد الله: انتهيت مرة إلى شجرة تحتها رجل نائم قد استظل بنطع له وقد جاوزت النطع فسويته عليه، ثم إن الرجل استيقظ فإذا هو سلمان الفارسي، فذكرت له ما صنعت فقال لي: يا جرير، تواضع لله في الدنيا فإنه من تواضع في الدنيا رفعه الله يوم القيامة. يا جرير أتدري ما ظلمة النار يوم القيامة؟ قلت: لا، قال: إنه ظلم الناس بعضهم في الدنيا (3).

وقال رجاء بن حيوة: قومت ثياب عمر بن عبد العزيز رضي

(1) الإحياء 3/ 361.

(2)

التواضع والخمول، ص 123.

(3)

الإحياء 3/ 361.

ص: 54

الله عنه وهو يخطب باثني عشر درهمًا. وكانت قباء وعمامة وقميصًا وسراويل ورداء وخفين وقلنسوة (1).

نعم هذا تواضع الخليفة الأموي الذي ملأ الأرض عدلاً وزان حياته بالزهد والورع رحمه الله.

قيل: أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام: إذا أنعمت عليك بنعمة فاستقبلها بالاستكانة أتممها عليك.

وتأمل أخي الحبيب في قول كعب: ما أنعم الله على عبد من نعمة في الدنيا فشكرها لله وتواضع بها لله إلا أعطاه الله نفعها في الدنيا ورفع بها درجة في الآخرة، وما أنعم الله على عبد من نعمة في الدنيا فلم يشكرها ولم يتواضع بها لله إلا منعه الله نفعها في الدنيا وفتح له طبقًا من النار يعذبه إن شاء الله أو يتجاوز عنه (2).

أخي المسلم:

هذا حديث الصادق الصدوق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم اجعله على رأسك وأمام عينيك حيث قال: «ما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله» (3).

رزقنا الله التواضع، وألزمنا جادة المؤمنين، وجعلنا ووالدينا وذرياتنا وأزواجنا من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(1) مدارج السالكين، ص 344.

(2)

الإحياء 3/ 361.

(3)

رواه مسلم.

ص: 55