المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌من منازل {إياك نعبد

يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (1).

قال ابن عباس: لا تتكبر، فتحقر عباد الله، وتعرض عنهم إذا كلموك (2).

ونجد في القرآن الكريم آيات تمدح المتواضعين وتتوعد المتكبرين وتبين أن لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، قال الله تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (3). فالعبرة بالتقوى وليست بالعلم أو المال أو الحسب أو السلطان، فإن اقترن واحد من هذه بالتقوى كان خيرًا عظيمًا وإن عري عنها كان سببًا لاستحقاق العذاب الأليم، فكم من مال أودى بصاحبه في المهالك، وكم من سلطان يكون في النار مع فرعون وهامان، وكم من عالم تسعر به النار قبل غيره، فالتقوى هي قطب الرحى في جميع الأمور، وليس لأي من تلك الأمور السالفة فضيلة إلا باقترانها بالتقوى (4).

و‌

‌من منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ

وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (5): منزلة «التواضع» .

قال الله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} (6) أي بسكينة ووقار، متواضعين، غير أشرين، ولا مرحين ولا متكبرين.

(1) سورة لقمان، الآية:18.

(2)

فتح القدير 4/ 301.

(3)

سورة الحجرات، الآية:13.

(4)

التواضع والخمول لابن أبي الدنيا، ص 12.

(5)

سورة الفاتحة، الآية:5.

(6)

سورة الفرقان، الآية:63.

ص: 5

قال الحسن: علماء حلماء.

وقال محمد بن الحنفية: أصحاب وقار وعفة لا يسفهون، وإن سفه عليهم حلموا (1).

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: ذكر أن صفاتهم أكمل الصفات ونعوتهم أفضل النعوت، فوصفهم بأنهم يمشون على الأرض هونًا، أي ساكنين متواضعين لله وللخلق، فهذا وصف لهم بالوقار والسكينة، والتواضع لله ولعباده (2).

والتواضع علامة حب الله للعبد كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (3).

قال ابن كثير رحمه الله: هذه صفات المؤمنين الكمل، أن يكون أحدهم متواضعًا لأخيه ووليه، متعززًا على خصمه وعدوه (4).

وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله

(1) مدارج السالكين، ص 340.

(2)

تفسير السعدي 5/ 593.

(3)

سورة التوبة، الآية:54.

(4)

تفسير ابن كثير 2/ 73.

ص: 6

حسنة؟ قال: «إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق، وغمط الناس» (1).

وبطر الحق: هو دفعه ورده على قائله، أما غمط الناس: فهو احتقارهم وازدراؤهم.

وعن عياض بن حمار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد» (2).

وقال عليه الصلاة والسلام: «ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل جواظ مستكبر» (3).

وفي سيرته صلى الله عليه وسلم دروس في التواضع:

فقد كان صلى الله عليه وسلم يمر على الصبيان فيسلم عليهم.

وكانت الأمة تأخذ بيده صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت.

وكان صلى الله عليه وسلم إذا أكل لعق أصابعه الثلاث.

وكان صلى الله عليه وسلم يكون في بيته في خدمة أهله.

ولم يكن صلى الله عليه وسلم ينتقم لنفسه قط.

وكان صلى الله عليه وسلم يخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويحلب الشاة لأهله، ويعلف البعير ويأكل مع الخادم، ويجالس المساكين، ويمشي مع

(1) رواه مسلم.

(2)

رواه مسلم.

(3)

متفق عليه.

ص: 7

الأرملة واليتيم في حاجتهما، ويبدأ من لقيه بالسلام، ويجيب دعوة من دعاه، ولو إلى أيسر شيء.

وكان صلى الله عليه وسلم هين المؤنة، ليَّن الخلق، كريم الطبع، جميل المعاشرة، طلق الوجه بسامًا، متواضعًا من غير ذلة، جوادًا من غير سرف، رقيق القلب رحيمًا بكل مسلم، خافض الجناح للمؤمنين، لين الجانب لهم.

وكان صلى الله عليه وسلم يعود المريض. ويشهد الجنازة، ويركب الحمار، ويجيب دعوة العبد.

وكان يوم قريظة على حمار مخطوم بحبل من ليف على إكاف من ليف (1).

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعى إلى خبز الشعير والإهالة السنخة فيجيب، ولقد كان له درع عند يهودي فما وجد ما يفكها حتى مات» (2).

وكان من تواضعه صلى الله عليه وسلم ما رواه أنس بقوله: «كان صلى الله عليه وسلم يؤتى بالتمر فيه دود فيفشه يخرج السوس منه» (3).

وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: «اللهم أحيني مسكينًا، وأمتني

(1) مدارج السالكين، ص 341. وانظر: الشمائل المحمدية للترمذي، ص 284 وما بعدها. وفي سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم مواقف عظيمة في التواضع ولين الجانب وحسن الخلق.

(2)

رواه الترمذي.

(3)

صحيح الجامع 1/ 271.

ص: 8

مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين» (1).

يقول ابن الأثير: أراد به التواضع والإخبات، وأن لا يكون من الجبارين المتكبرين (2).

ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: إنكم تغفلون عن أفضل العبادات: التواضع (3).

قال حمدون القصار في تعريف التواضع: التواضع أن لا ترى لأحد إلى نفسك حاجة، لا في الدين ولا في الدنيا (4).

وعندما سئل الفضيل بن عياض عن التواضع قال: يخضع للحق، وينقاد له ويقبله ممن قاله.

وقيل: التواضع أن لا ترى لنفسك قيمة. فمن رأى لنفسه قيمة فليس له في التواضع نصيب.

وقيل: التواضع: هو خفض الجناح، ولين الجانب.

وقيل: هو أن لا يرى لنفسه مقامًا ولا حالاً، ولا يرى في الخلق شرًا منه.

وقال ابن عطاء: هو قبول الحق ممن كان. والعز في التواضع، فمن طلبه في الكبر فهو كتطلب الماء من النار (5).

(1) الإحياء 3/ 361.

(2)

مدارج السالكين، ص 344.

(3)

رواه البخاري.

(4)

رواه أبو داود وصححه الألباني.

(5)

مدارج السالكين، ص 342.

ص: 9

قال صاحب المنازل:

التواضع: أن يتواضع العبد لصولة الحق.

يعني: أن يتلقى سلطان الحق بالخضوع له، والذل، والانقياد، والدخول تحت رقه بحيث يكون الحق متصرفًا فيه تصرف المالك في مملوكه. فبهذا يحصل للعبد خلق التواضع. ولهذا فسر النبي صلى الله عليه وسلم الكبر بضده فقال:«الكبر بطر الحق، وغمط الناس» .

«فبطر الحق» رده وجحده، والدفع في صدره؛ كدفع السائل. و «غمط الناس» احتقارهم وازدراؤهم. ومتى احتقرهم وازدراهم دفع حقوقهم، وجحدها، واستهان بها.

ولما كان لصاحب الحق مقال وصولة كانت النفوس المتكبرة لا تقر له بالصولة على تلك الصولة التي فيها، ولا سيما النفوس المبطلة فتصول على صولة الحق بكبرها وباطلها. فكان حقيقة التواضع: خضوع العبد لصولة الحق، وانقياده لها، فلا يقابلها بصولته عليها (1).

ولعظم عقوبة التكبر والخيلاء حتى في أمر يراه الناس يسيرًا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة» (2).

وفي الحديث الآخر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة من

(1) مدارج السالكين، ص 346.

(2)

رواه البخاري.

ص: 10

كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» (1).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: التكبر شر من الشرك، فإن المتكبر يتكبر عن عبادة الله تعالى، والمشرك يعبد الله وغيره (2).

وقال الفضيل عندما سئل عن التواضع ما هو؟ قال: أن تخضع للحق وتنقاد له، ولو سمعته من صبي قبلته، ولو سمعته من أجهل الناس قبلته (3).

وعلى هذا القياس قل أهل التواضع في زماننا! ! وهم أندر من الكبريت الأحمر! فتأمل من يقبل الحق من صبي أو من جاهل أو فقير؟ !

ولهذا قيل عن التواضع: من يرى لنفسه قيمة فليس له من التواضع نصيب.

قال يوسف بن أسباط: يجزي قليل الورع من كثير العمل، ويجزي قليل التواضع من كثير الاجتهاد (4).

وقال يحيى بن كثير مفصلاً الأمر: رأس التواضع ثلاث: أن ترضى بالدون من شرف المجلس، وأن تبدأ من لقيته بالسلام، وأن

(1) رواه مسلم.

(2)

المستدرك على مجموع فتاوى ابن تيمية 1/ 16.

(3)

الإحياء 3/ 362.

(4)

الإحياء 3/ 361.

ص: 11

تكره المدحة والسمعة والرياء بالبر (1).

وتأمل هذه الثلاث في نفسك وانظر أين مكانك الذي تحب في المجلس؟ أهو صدر المجلس وتحب أن تعظم ويفسح لك ويشار إليك بالأيدي أم هو نهاية المجلس .. والتواضع وعدم حب الظهور؟

ثم تأمل في حال السلام تجد العجب في عدم إلقائه بحرارة وشوق خاصة على الفقراء والعمال والصغار! !

وثالثة الأثافي حبك للمدح والثناء، بل ربما -والعياذ بالله- بادرت في صدر كل مجلس بذكر تبرعك وصيامك وحجك وجهدك وخدمتك لهذا الدين ثم تعرج على تعبك ونصبك لإصلاح الناس!

كان علي بن الحسن يقول: عجبت للمتكبر الفخور الذي كان بالأمس نطفة ثم هو غدًا جيفة، وعجبت كل العجب لمن شك في الله وهو يرى خلقه، وعجبت كل العجب لمن أنكر النشأة الأولى، وعجبت كل العجب لمن عمل لدار الفناء وترك دار البقاء (2).

والمصيبة العظمى رضى الإنسان عن نفسه واقتناعه بعلمه، وهذه محنة قد عمت أكثر الخلق؛

فترى اليهودي والنصراني يرى أنه على الصواب، ولا يبحث

(1) التواضع والخمول، ص 155.

(2)

صفة الصفوة: 2/ 95.

ص: 12