الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في نفسه نار الكبر أدركها التواضع من نصرة الله تعالى، وإذا هاجت نار الحسد في نفسه أدركتها النصيحة مع توفيق الله عز وجل، وإذا هاجت في نفسه نار الحرص أدركتها القناعة مع عون الله عز وجل (1).
قال ابن الحاج: من أراد الرفعة فليتواضع لله تعالى، فإن العزة لا تقع إلا بقدر النزول، ألا ترى أن الماء لما نزل إلى أصل الشجرة صعد إلى أعلاها؟ فكأن سائلاً سأله: ما صعد بك هنا، أعني في رأس الشجرة وأنت تحت أصلها؟ ! فكأن لسان حاله يقول: من تواضع لله رفعه (2).
و
الفرق بين التواضع والمهانة:
أن التواضع يتولد من بين العلم بالله سبحانه ومعرفة أسمائه وصفاته ونعوت جلاله وتعظيمه ومحبته وإجلاله، ومن معرفته بنفسه وتفاصيلها وعيوب عمله وآفاتها، فيتولد من بين ذلك كله خلق هو التواضع، وهو انكسار القلب لله وخفض جناح الذل والرحمة بعباده فلا يرى له على أحد فضلاً ولا يرى له عند أحد حقًا، بل يرى الفضل للناس عليه والحقوق لهم قبله، وهذا خلق إنما يعطيه الله عز وجل من يحبه ويكرمه ويقربه.
أما المهانة: فهي الدناءة والخسة وبذل النفس وابتذالها في نيل حظوظها وشهواتها، كتواضع السفل في نيل شهواتهم، وتواضع
(1) الإحياء 3/ 362.
(2)
المدخل لابن الحاج 2/ 122.
المفعول به للفاعل، وتواضع طالب كل حظ لمن يرجو نيل حظه منه، فهذا كله ضعة لا تواضع، والله سبحانه يحب التواضع ويبغض الضعة والمهانة (1).
قال سفيان بن عيينة: من كانت معصيته في شهوة فارج له التوبة، فإن آدم عليه السلام عصى مشتهيًا فغفر له، فإذا كانت معصيته من كبر فاخش عليه اللعنة، فإن إبليس عصى مستكبرًا فلعن (2).
وآفة حب الثناء والمدح التي يحبها البعض بل ويبحث عنها ويحث عليها - ما موقعها بين حال السلف؟ ! وعلى أي حال كانوا يقبلونها؟ ! وأي منزلة ينزلونها؟ !
قال مطرف بن عبد الله: ما مدحني أحد قط إلا تصاغرت إلى نفسي (3).
وما ذاك إلا لمعرفتهم بحقارة أنفسهم في جنب الله، وتواضعهم لجلاله، ومحاسبة أنفسهم ومعرفتهم بتقصيرهم وزللهم! !
أخي المسلم:
عجبت لمن يعجب بصورته، ويختال في مشيته، وينسى مبدأ أمره. إنما أوله لقمة، ضمت إليها جرعة ماء، فإن شئت فقل كسيرة
(1) كتاب الروح، ص 273.
(2)
مختصر منهاج القاصدين، ص 247.
(3)
صفة الصفوة 3/ 223.
خبز، معها تمرات، وقطعة من لحم، ومذقة من لبن، وجرعة من ماء، ونحو ذلك، طبخته الكبد، فأخرجت منه قطرات مني، فاستقر في الأنثيين، فحركتها الشهوة، فصبت في بطن الأم مدة، حتى تكاملت صورتها، فخرجت طفلاً تتقلب في خرق البول.
وأما آخره: فإنه يلقى في التراب، فيأكله الدود، ويصير رفاتًا تسفيه السوافي، وكم يخرج تراب بدنه من مكان إلى مكان آخر، ويقلب في أحوال، إلى أن يعود فيجمع. هذا خبر البدن.
إنما الروح التي عليها العمل، فإن تجوهرت بالأدب، وتقومت بالعلم، وعرفت الصانع، وقامت بحقه، فما يضرها نقض المركب. وإن هي بقيت على صفتها من الجهالة شابهت الطين، بل صارت إلى أخس حالة منه (1).
أخي المسلم:
حقيق بالتواضع من يموت
…
وحسب المرء من دنياه قوت (2)
قال أحمد بن الورد: ولي الله إذا زاد جاهه زاد تواضعه، وإذا زاد ماله زاد سخاؤه، وإذا زاد عمره زاد اجتهاده (3).
وقال ابن المبارك: رأس التواضع أن تضع نفسك عند من دونك في نعمة الدنيا حتى تعلمه أنه ليس لك بدنياك عليه فضل، وأن ترفع نفسك عمن هو فوقك في الدنيا حتى تعلمه أنه ليس له
(1) صيد الخاطر، ص 457.
(2)
التبصرة 1/ 2.
(3)
صفة الصفوة 2/ 395.
بدنياه عليك فضل.
أخي الحبيب:
كيف هو قلبك؟ أمع الفقراء والمساكين والمعدومين؟ ! محص نفسك بقول يحيى بن معاذ: حبك الفقراء من أخلاق المرسلين، وإيثارك مجالستهم من علامة الصالحين، وفرارك من صحبتهم من علامة المنافقين (1).
ولا تحقرن أحدًا فإن من هؤلاء الضعفاء والمساكين من له منزلة عظيمة عند الله عز وجل كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره» (2).
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟ » (3).
قال خالد بن معدان: لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يرى الناس في جنب الله أمثال الأباعر ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أحقر حاقر (4).
أخي المسلم:
من اتقى الله تعالى تواضع له، ومن تكبر كان فاقدًا لتقواه، ركيكًا في دينه، مشتغلاً بدنياه، فالمتكبر وضيع وإن رأى نفسه مرتفعًا على الخلق، والمتواضع وإن رُئِي وضيعًا فهو رفيع القدر.
(1) الإحياء 4/ 211.
(2)
رواه مسلم.
(3)
رواه البخاري.
(4)
السير 4/ 539.
تواضع تكن كالنجم لاح لناظر
على صفحات الماء وهو رفيع
ولا تك كالدخان يعلو بنفسه
إلى طبقات الجو وهو وضيع
ومن استشعر التواضع وعاشه كره الكبر وبواعثه (1).
وتأمل في حال من تلبسه الشيطان في حالة واحدة من حالات الكبر يظنها بعض الناس يسيرة وهي عند الله عظيمة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه، مرجل رأسه (2)، يختال في مشيته، إذ خسف الله به، فهو يتجلجل (3) في الأرض إلى يوم القيامة» (4).
وتأمل في حالات كثيرة من المتكبرين من الرجال والنساء لجدة مركب أو شهرة ثوب أو لجاه ومنصب! وتلحظ بعض الناس تتغير شخصيته وطريقة حديثه وخطوات ممشاه إذا لبس جديدًا أو اقتنى فانيًا من حطام الدنيا! !
وقد ذم الله عز وجل الكبر في آيات كثيرة فقال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} (5).
(1) التواضع والخمول، ص 12.
(2)
مرجل رأسه: أي ممشطه.
(3)
يتجلجل: أي يغوص وينزل.
(4)
متفق عليه.
(5)
سورة الأعراف، الآية:146.
وقال تعالى: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} (1). ومن تدبر القرآن خشي على نفسه من هذه الآفة العظيمة.
ولنا في حال أبي بكر رضي الله عنه وهو الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم عبرة وعظة ودرس وتربية: عن ابن أبي مليكة قال: كان ربما سقط الخطام من يد أبي بكر الصديق، فيضرب بذراع ناقته فينيخها فيأخذه، قال: فقالوا له: أفلا أمرتنا نناولكه؟ قال: إن حِبِّي صلى الله عليه وسلم أمرني أن لا أسأل الناس شيئًا (2).
ويقال: أرفع ما يكون المؤمن عند الله أوضع ما يكون عند نفسه، وأوضع ما يكون عند الله أرفع ما يكون عند نفسه.
وقال زياد النمري: الزاهد بغير تواضع كالشجرة التي لا تثمر.
وكان السلف رحمهم الله يجاهدون أنفسهم ويحقرونها في جنب الله عز وجل حتى أن أحدهم يتأهب للمنادي!
قال مالك بن دينار: لو أن مناديًا ينادي بباب المسجد: ليخرج شركم رجلاً، والله ما كان أحد يسبقني إلى الباب إلا رجلاً بفضل قوة أو سعي.
قال: فلما بلغ ابن المبارك قوله قال: بهذا صار مالك مالكًا.
وقال الفضيل: من أحب الرئاسة لم يفلح أبدًا (3).
(1) سورة غافر، الآية:35.
(2)
صفة الصفوة 1/ 253.
(3)
الإحياء 3/ 361.