الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[استطراد:]
استطراد: قد خطر لي أن أذكر هنا جملة أحاديث من طبّه صلى الله عليه وسلم الّذي وصفه لغيره؛ لتتمّ بذلك الفائدة. وجلّها من «الهدي النّبويّ» للعلّامة ابن القيّم:
روى مسلم في «صحيحه» :
…
(استطراد) هو- لغة-: مصدر استطرد الفارس من قرنه في الحرب؛ بأن يفرّ من بين يديه يوهمه الانهزام، ثمّ يعطف عليه على غرّة منه؛ مكيدة له.
واصطلاحا: الانتقال من معنى إلى معنى آخر متّصل به، ولم يقصد بذكر الأوّل التّوصّل إلى الثاني. قاله الشّهاب الخفاجي رحمه الله تعالى.
وقال الباجوري: الاستطراد: ذكر الشّيء في غير محلّه لمناسبة، أي كما هنا، فإنّ المقام لذكر طبّ النّبي صلى الله عليه وسلم الّذي استعمله بنفسه، لكن المصنّف ذكر طبّ غيره، وذكر ما جاء في مطلق التّداوي لمناسبة ذكر الطّبّ، ولكون ذلك من طبّه صلى الله عليه وسلم أيضا.
(قد خطر لي) قال في «المصباح» : الخاطر ما يخطر في القلب من تدبير أمر، يقال: خطر ببالي، وعلى بالي؛ خطرا وخطورا. انتهى.
وفي «شرح القاموس» : ومن المجاز: خطر فلان بباله وعليه يخطر بالكسر- ويخطر- بالضّمّ- خطورا؛ إذا ذكره بعد نسيان. انتهى.
(أن أذكر هنا) - في هذا الفصل- (جملة أحاديث من طبّه صلى الله عليه وسلم الّذي وصفه لغيره) من أصحابه (لتتمّ بذلك الفائدة) للمطالع.
(وجلّها) ؛ أي: معظم هذه الأحاديث مأخوذ (من الهدي النّبويّ) المسمّى «زاد المعاد في هدي خير العباد» (للعلّامة) الحافظ محمد بن أبي بكر (ابن القيّم) الحنبلّي رحمه الله تعالى. آمين. وتقدمت ترجمته في أوّل الكتاب.
(روى مسلم في «صحيحه» ) ؛ في «كتاب الطّبّ» ، وكذا الإمام أحمد ابن حنبل
عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما: عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «لكلّ داء.. دواء، فإذا أصيب دواء الدّاء.. برأ بإذن الله عز وجل» . وفي «الصّحيحين» : عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أنزل الله من داء.. إلّا أنزل له شفاء» .
كلاهما؛ (عن جابر بن عبد الله) بن عمرو بن حرام الأنصاري، الصّحابي ابن الصّحابيّ (رضي الله تعالى عنهما؛ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال:«لكلّ داء) - بفتح الدّال ممدود، وقد يقصر- (دواء) - بفتح الدّال أي: شيء مخلوق مقدّر له- (فإذا أصيب دواء الدّاء) - بالبناء للمفعول-. والأصل: فإذا أصاب المريض دواء الدّاء المناسب له؛ سواء أصابه بتجربة، أو إخبار عارف، واستعمله على القدر الّذي ينبغي؛ في الوقت الّذي ينبغي- (برأ بإذن الله عز وجل» ) لأنّ الشّيء يداوى بضدّه غالبا، لكن قد يدقّ حقيقة المرض، وحقيقة طبع الدّواء، فيقلّ الفقه بالمتضادّين، ومن ثمّ أخطأ الأطبّاء، فمن كان مانعا- بخطأ أو غيره- تخلّف البرء، فإن تمت المضادّة حصل البرء لا محالة، فصحّت الكلية واندفع التّدافع. انتهى «زرقاني» .
وقال القسطلّاني في «المواهب» معلّقا على هذا الحديث؛ ما نصّه: فالشّفاء متوقّف على إصابة الدّاء الدواء بإذن الله تعالى، وكذلك أنّ الدّواء قد يحصل معه مجاوزة الحدّ في الكيفيّة، أو الكمّيّة، فلا ينجع، بل ربّما أحدث داء آخر. وفي رواية عليّ- عند الحميدي في كتابه المسمّى ب «طبّ أهل البيت» -:«ما من داء إلّا وله دواء» ، فإذا كان كذلك بعث الله عز وجل ملكا؛ ومعه ستر فيجعله بين الدّاء والدّواء، فكلّما شرب المريض من الدّواء لم يقع على الدّاء، فإذا أراد الله برأه أمر الملك فرفع السّتر، ثمّ يشرب المريض الدّواء فينفعه الله تعالى به. انتهى.
(وفي «الصّحيحين» ) من حديث عطاء بن أبي رباح؛ (عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أنزل الله من داء) - أي: مرضا- (إلّا أنزل له شفاء» ) - أي: دواء- وجمعه: أشفية، وجمع الجمع: آشاف.
ولي «مسند الإمام أحمد» : عن أسامة بن شريك
…
وشفاه يشفيه: أبرأه وطلب له الشّفاء كأشفاه؛ قاله القسطلّاني: وهو صريح في أنّ الشّفاء اسم للدّواء.
وقال بعضهم: أي أنزل له دواء يكون سببا للشّفاء، فإذا استعمله المريض، وصادف المرض حصل له الشّفاء؛ سواء كان الدّاء قلبيّا أو بدنيّا. انتهى.
قال الكرماني: أي ما أصاب الله أحدا بداء إلّا قدّر له دواء. أو المراد بإنزالهما الملائكة الموكّلين بمباشرة مخلوقات الأرض من الدّواء والدّاء. انتهى.
قال القسطلّاني: فعلى الأوّل المراد بالإنزال التّقدير، وعلى الثّاني المراد إنزال علم ذلك على لسان الملك للنّبيّ مثلا، أو إلهام لغيره. انتهى.
وقيام عامّة الأدوية والأدواء بواسطة إنزال الغيث الّذي تتولّد به الأغذية والأدوية وغيرهما، وهذا من تمام لطف الرّبّ بخلقه، كما ابتلاهم بالأدواء أعانهم عليها بالأدوية، وكما ابتلاهم بالذّنوب أعانهم عليها بالتّوبة؛ والحسنات الماحية. انتهى «زرقاني» .
قال في «المواهب» : وهذا الحديث أخرجه- أيضا- النّسائي وصحّحه ابن حبّان والحاكم؛ عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم بلفظ: «إنّ الله لم ينزل داء إلّا أنزل له شفاء!! فتداووا» . وعند أحمد من حديث أنس مرفوعا: «إنّ الله حيث خلق الدّاء خلق الدّواء، فتداووا» . انتهى.
(وفي «مسند الإمام أحمد» ) ابن حنبل، وأخرجه أصحاب «السّنن الأربعة» ، والبخاري في «الأدب المفرد» ، وصحّحه التّرمذيّ وابن خزيمة والحاكم؛
(عن أسامة بن شريك) الثّعلبي- بمثلّثة ومهملة- الذبيانيّ، صحابيّ له ثمانية أحاديث، روى عنه زياد بن علاقة؛ وعلي بن الأقمر. انتهى «خلاصة» .
وقال «الزرقاني» : تفرّد بالرّواية عنه زياد بن علاقة- على الصّحيح-.
رضي الله تعالى عنه قال: كنت عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم وجاءت الأعراب، فقالوا: يا رسول الله؛ أنتداوى؟ قال: «نعم؛ يا عباد الله، تداووا، فإنّ الله عز وجل لم يضع داء.. إلّا وضع له شفاء، غير داء واحد» ، قالوا: وما هو؟ قال: «الهرم» .
وفي لفظ:
…
(رضي الله تعالى عنه قال: كنت عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم وجاءت الأعراب) : سكّان البادية (فقالوا: يا رسول الله؛ أنتداوى؟ قال: «نعم، يا عباد الله، تداووا) وصفهم بالعبودية إيذانا بأنّ التّداوي لا يخرجهم عن التّوكل الّذي هو من شرطها، أي: تداووا؛ ولا تعتمدوا في الشّفاء على التّداوي؛ بل كونوا عباد الله؛ متوكّلين عليه- (فإنّ الله عز وجل لم يضع داء إلّا وضع له شفاء) وهو سبحانه لو شاء لم يخلق داء، وإذ خلقه لو شاء لم يخلق له دواء، وإذ خلقه لو شاء لم يأذن في استعماله! لكنّه أذن، فمن تداوى فعليه أن يعتقد حقّا، ويوقن يقينا، بأنّ الدّواء لا يحدث شفاء، ولا يولده، كما أنّ الدّاء لا يحدث سقما ولا يولّده، لكن الباري سبحانه يخلق الموجودات واحدا عقب آخر على ترتيب هو أعلم بحكمته (غير داء واحد!!» ) قال أبو البقاء: لا يجوز في غير هنا إلا النّصب على الاستثناء من داء؛ قاله الزّرقاني على «المواهب» .
(قالوا: وما هو؟ قال: «الهرم» ) - بفتحتين، أي: الكبر-.
(وفي لفظ)«إلّا السّام» ، وهو- بمهملة مخفّفا- الموت. يعني: إلّا داء الموت. أي: المرض الذي قدّر على صاحبه الموت فيه.
واستثناء الهرم في الرّواية الأولى!! إمّا لأنّه جعله شبيها بداء الموت، وداء الموت لا دواء له؛ فكذا الهرم، لمشابهته له في نقص الصّحة، أو لقربه من الموت؛ وإفضائه إليه. لأن الموت يعقبه كما يعقب الدّاء.
ويحتمل أن يكون الاستثناء منقطعا.
والمعنى: لكنّ الهرم لا دواء له؛ فلا ينجع فيه التّداوي. انتهى «زرقاني» .
«إنّ الله تعالى لم ينزل داء.. إلّا أنزل له شفاء؛ علمه من علمه، وجهله من جهله» .
وفي «المسند» و «السّنن» : عن أبي خزامة قال: قلت:
يا رسول الله؛ أرأيت رقى نسترقيها، ودواء
…
وأخرج النّسائيّ وابن ماجه وابن حبّان و «الحاكم» وصحّحاه؛ عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه رفعه:
( «إنّ الله تعالى لم ينزل داء إلّا أنزل له شفاء) - قال بعضهم: الدّاء علّة تحصل بغلبة بعض الأخلاط، والشّفاء رجوعها إلى الاعتدال. وذلك بالتّداوي، وقد يحصل بمحض لطف الله بلا سبب-
(علمه من علمه) بإلهام الله تعالى له واطّلاعه عليه
(وجهله من جهله» ) بإخفاء الله تعالى عنه إياه. فإذا شاء الله الشفاء يسّر ذلك الدّواء، ونبّه مستعمله بواسطة؛ أو دونها، فيستعمله على وجهه وفي وقته؛ فيبرأ. وإذا أراد إهلاكه أذهله عن دوائه، وحجبه بمانع فهلك، وكلّ ذلك بمشيئته وحكمه، كما سبق في علمه. ولقد أحسن القائل:
والنّاس يلحون الطّبيب وإنّما
…
غلط الطّبيب إصابة المقدور
وفي الحديث إشارة إلى أنّ بعض الأدوية لا يعلمها كلّ أحد، لقوله:«جهله من جهله» . انتهى زرقاني مع «المواهب» .
(و) أخرج الإمام أحمد (في «المسند» و) التّرمذيّ وقال: حسن صحيح، وابن ماجه في ( «السّنن» ) كلّهم؛ (عن أبي خزامة) عن أبيه رضي الله تعالى عنه (قال:
قلت: يا رسول الله؛ أرأيت) - أي: أخبرني عن هذه الأشياء- (رقى) بضم الرّاء، وفتح القاف: جمع رقية اسم للمرّة من التعويذ- ( [نسترقيها] ودواء
نتداوى به، وتقاة نتّقيها.. هل تردّ من قدر الله شيئا؟ قال:«هي من قدر الله» .
وذكر البخاريّ في «صحيحه» : عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: إنّ الله تعالى لم يجعل شفاءكم فيما حرّم عليكم.
نتداوى به، وتقاة) - وزنه فعلة، ويجمع على تقى كرطبة ورطب، وأصله وقية، لأنه من الوقاية، فأبدلت الوّاو تاء، والياء ألفا لتحرّكها وانفتاح ما قبلها- أي:
ما نتّقي به ما يرد علينا من الأمور الّتي لا نريد وقوعها بنا.
وفي رواية «المسند» وابن ماجه: بالجمع: تقى (نتّقيها، هل تردّ من قدر الله شيئا؟
قال) أي: النّبيّ صلى الله عليه وسلم: ( «هي من قدر الله» ) يعني: أنّ الله تعالى قدّر الأسباب والمسبّبات، وربط المسبّبات بالأسباب، فحصول المسبّبات عند حصول الأسباب من جملة القدر.
(وذكر) الإمام (البخاريّ في «صحيحه» ) تعليقا (عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه) وبيّن الحافظ ابن حجر أنّه جاء من طرق صحيحة إليه.
(إنّ الله تعالى لم يجعل شفاءكم) من الأمراض القلبيّة والنفسيّة، أو الشّفاء الكامل المأمون الغائلة (فيما حرّم) - بالبناء للفاعل، ويجوز للمفعول- (عليكم) فلا يجوز التّداوي بالحرام؛ لأنّه سبحانه وتعالى لم يحرّمه إلا لخبثه عناية بعباده؛ وحمية لهم؛ وصيانة عن التّلطّخ بدنسه، وما حرم عليهم شيئا إلّا عوّضهم خيرا منه!! فعدولهم عمّا عوّضه لهم إلى ما منعهم منه يوجب حرمان نفعه.
ومن تأمّل ذلك هان عليه ترك المحرّم المردي، واعتاض عنه النّافع المجدي.
والمحرّم؛ وإن فرض أنّه أثّر في إزالة المرض لكنّه يعقبه بخبثه سقما قلبيا أعظم منه، فالمتداوي به ساع في إزالة سقم البدن بسقم القلب.
.........
وبه علم أنّه لا تدافع بين الحديث وآية «إنّ في الخمر منافع» «1» . انتهى زرقاني على «المواهب» .
ويحرم التّداوي بالخمر- أي: شربها لأجل التّداوي بها- وكذا يحرم شربها للعطشان، وأمّا إذا غصّ بلقمة؛ ولم يجد ما يسيغها إلّا خمرا؟؟ فيلزمه الإساغة بها، لأنّ حصول الشّفاء بها حينئذ محقّق، بخلاف التّداوي.
أمّا التّداوي بالخمر على ظاهر الجسم؛ بقصد المداواة عند الحاجة!! فذلك جائز. قال «النّوويّ» في «فتاويه» : مسألة: إنسان به مرض؛ وصف له من يجوز اعتماده من الأطبّاء المسلمين أن يتضمّد بالتّرياق الفاروق، ويبقى عليه أيّاما، وقال: لا تحصل المداواة إلّا بذلك، وهذا التّرياق فيه خمر ولحم الحيّات!! هل يجوز له ذلك؟ ويصلّي على حسب حاله؟؟
الجواب: يجوز، وتلزمه إعادة الصّلاة. انتهى.
وعلم من ذلك أنّ خطر التّداوي بالمحرّمات؛ إنّما هو في الحالات العاديّة لدى وجود وتيسّر الدّواء المباح النّاجع، أمّا عند الاضطرار! فالحكم كما قال الله عز وجل وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [119/ الأنعام] .
ويكون استعمال ذلك المحرّم- في حال الاضطرار- مع وجود ضرر فيه، لدفع ضرر أشدّ- عملا بقاعدة: تعارض المفسدتين فيرتكب أخفّها ضررا.
هذا؛ وفي عصرنا الحاضر يسعى الأطبّاء دوما لدى علاجهم المريض إلى اختيار العلاج الملائم للعلّة، وحالة أجهزة الجسم المعلول، ويختارون من الأدوية المفيدة- في تلك العلّة- أكثرها فائدة وأقلّها أعراضا جانبيّة وضررا، وإذا كان الدّواء مفيدا وخاليا من الأعراض الجانبيّة؛ فإنه يحوز رضى الأطبّاء أكثر، ويقع اختيارهم عليه أوّلا لدى توفّره.
(1) هكذا في الأصل وهي بالمعنى؛ والتلاوة قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ.
وفي «السّنن» : عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدّواء الخبيث.
ولا شكّ أنّ الله سبحانه وتعالى لم يحرّم شيئا على هذه الأمّة؛ إلا وفيه ضرر جسمي أو خلقيّ؛ نفسيّ أو روحيّ، فلا يليق بالمسلم طبيبا كان؛ أو مريضا أن يقرب تلك المحرّمات لفوائد صحيّة فيها؛ مع أنّ لها أضرارا جانبيّة.
فإذا ساقت الضّرورة إلى استعمال المحرّم لفقدان العلاج الحلال الملائم؛ وكان ما يتوخّى في المحرّم من فائدة علاجية يفوق ما يسبّب من أعراض جانبيّة غير مرغوب فيها؛ فعلى المريض والطّبيب أن يستشعر أنّ التّداوي بذلك المحرّم إنّما هو للضّرورة، ولارتكاب أهون الأمرين ضررا.
وعلى الطّبيب: أن يستشعر خشية الله تعالى، وأن يسعى لتعديل الآثار الجانبيّة الضّارّة بما يلائم من دواء؛ أو غذاء؛ أو إرشادات صحيّة.
وعلى المريض أن يحسّن نيّته في استعمال المحرّم عند الاضطرار؛ فلا يقصد لذّة، أو هوى؟؟. وعليه أن يأخذ بوسائل تعديل آثاره الضّارة على النّفس والقلب بما يلائم من الدّعاء؛ والالتجاء إلى الله العليّ القدير، وعدم التّجافي في استعمالها إلى إثم ولا بغي ولا عدوان على حدود الله باتّخاذ حادثة الضّرورة سلّما إلى المعصية، والله على ما نقول وكيل.
(و) أخرج الإمام أحمد وأبو داود والتّرمذيّ وابن ماجه (في «السّنن» ) والحاكم- وقال: على شرطهما، وأقره الذّهبيّ. وفي «المهذّب» : إسناده صحيح- كلّهم؛ (عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال:
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدّواء الخبيث) - يعني: السّم أو النّجس أو الخمر ولحم غير المأكول، وروثه، وبوله، فلا تدافع بينه وبين حديث العرنيّين وقيل:
أراد الخبيث المذاق لمشقّته على الطّباع، والأدوية؛ وإن كانت كلّها كريهة لكنّ بعضها أقلّ كراهة. انتهى.
وفي «صحيح مسلم» : عن طارق بن سويد الجعفيّ رضي الله تعالى عنه: أنّه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر؟
فنهاه، أو كره أن يصنعها، فقال: إنّما أصنعها للدّواء، فقال:
«إنّ ذاك ليس بدواء؛ ولكنّه داء» .
قال الشّوكانيّ: ظاهره تحريم التّداوي بكلّ خبيث، والتّفسير بالسّمّ مدرج؛ لا حجّة فيه. ولا ريب أنّ الحرام والنّجس خبيثان.
قال «الماورديّ» وغيره: السّموم على أربعة أضرب:
منها: ما يقتل كثيره وقليله؛ فأكله حرام للتّداوي ولغيره، لقوله تعالى وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [195/ البقرة] .
ومنها ما يقتل كثيره؛ دون قليله، فأكل كثيره الّذي يقتل حرام للتّداوي وغيره، والقليل منه إن كان ينفع في التّداوي جاز أكله تداويا.
ومنها ما يقتل في الأغلب، وقد يجوز ألايقتل، فحكمه كما قبله.
ومنها ما لا يقتل في الأغلب، وقد يجوز أن يقتل، فذكر الشّافعي في موضع إباحة أكله، وفي موضع تحريم أكله! فجعله بعض أصحابه على حالين؛ فحيث أبيح أكله فهو إذا كان للتّداوي. وحيث حرم أكله: فهو إذا كان غير منتفع به في التّداوي. انتهى. من «بلوغ الأماني شرح مسند الإمام أحمد بن حنبل الشّيباني» رحمه الله تعالى.
(وفي)«مسند الإمام أحمد» و ( «صحيح مسلم» ) في «الأشربة» ، وأبي داود، وابن ماجه كلّهم؛ (عن) وائل الحضرميّ؛ عن (طارق بن سويد الجعفيّ) ؛ أو الحضرميّ (رضي الله تعالى عنه أنّه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن) صنع (الخمر؟ فنهاه؛ أو كره أن يصنعها.
فقال) - أي: طارق- (: إنّما أصنعها للدّواء) ؛ ظنّا منه أنّ ذلك جائز.
(فقال) - أي: النبيّ صلى الله عليه وسلم له (: «إنّ ذاك ليس بدواء) - كما تظنّ- (ولكنّه داء» )
وفي «السّنن» : أنّه صلى الله عليه وسلم سئل عن الخمر تجعل في الدّواء؟ فقال: «إنّها داء، وليست بالدّواء» .
ويذكر عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «من تداوى بالخمر..
فلا شفاه الله تعالى» .
وذكّر الضمير! باعتبار كون الخمر شرابا.
قال الإمام النّووي في «شرح مسلم» : هذا دليل لتحريم اتّخاذ الخمر وتخليلها.
وفيه التّصريح بأنّها ليست بدواء، فيحرم التّداوي بها؛ لأنّها ليست بدواء، فكأنّه يتناولها بلا سبب، وهذا هو الصحيح عند أصحابنا: أنه يحرم التّداوي بها.
وكذا يحرم شربها للعطش، وأمّا إذا غصّ بلقمة؛ ولم يجد ما يسيغها به إلّا خمرا؟
فيلزمه الإساغة بها، لأن حصول الشّفاء بها حينئذ مقطوع به، بخلاف التّداوي.
والله أعلم. انتهى.
وفي قوله (حصول الشّفاء مقطوع به) نظر.
(و) أخرج التّرمذيّ وأبو داود (في «السّنن» أنّه صلى الله عليه وسلم سئل عن الخمر تجعل في الدّواء) - أي: مع شيء آخر، ويحتمل أن يراد أنّها تستعمل دواء- (فقال) ؛ أي: النّبيّ صلى الله عليه وسلم (: «إنّها داء، وليست بالدّواء» ) .
وروى الطبرانيّ في «الكبير» ؛ وأبو يعلى عن أمّ سلمة. قالت: نبذت نبذا في كوز، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يغلي، فقال:«ما هذا» ؟! قلت: اشتكت ابنة لي فنقعت لها هذه؟. فقال صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله لم يجعل شفاءكم فيما حرّم عليكم» .
(ويذكر عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «من تداوى بالخمر فلا شفاه الله تعالى» ) ؛ ذكره ابن القيّم. وقال عقبه: المعالجة بالمحرّمات قبيحة عقلا وشرعا؛ أمّا الشّرع؛ فما ذكرناه من هذه الأحاديث وغيرها، وأما العقل؛ فهو أنّ الله سبحانه إنّما حرّمه
.........
لخبثه، فإنّه لم يحرّم على هذه الأمّة طيّبا؛ عقوبة لها، كما حرّمه على بني إسرائيل بقوله فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [160/ النساء] .
وإنّما حرّم على هذه الأمّة ما حرّم! لخبثه، وتحريمه له حمية لهم، وصيانة عن تناوله، فلا يناسب أن يطلب به الشّفاء من الأسقام والعلل، فإنّه؛ وإن أثّر في إزالتها لكنّه يعقب سقما أعظم منه في القلب بقوّة الخبث الذي فيه، فيكون المداوى به قد سعى في إزالة سقم البدن بسقم القلب.
وأيضا؛ فإنّ تحريمه يقتضي تجنّبه؛ والبعد عنه بكلّ طريق، وفي اتّخاذه دواء حضّ على التّرغيب فيه، وملابسته. وهذا ضدّ مقصود الشّارع.
وأيضا؛ فإنّه داء، كما نصّ عليه صاحب الشّريعة، فلا يجوز أن يتّخذ دواء.
وأيضا؛ فإنه يكسب الطّبيعة والرّوح صفة الخبث، لأنّ الطّبيعة تنفعل عن كيفية الدّواء انفعالا بيّنا، فإذا كانت كيفيّته خبيثة؛ اكتسبت الطّبيعة منه خبثا، فكيف إذا كان خبيثا في ذاته؟! ولهذا حرّم الله سبحانه على عباده الأغذية؛ والأشربة؛ والملابس الخبيثة لما تكتسب النّفس من هيئة الخبث وصفته.
وأيضا؛ فإنّ في إباحة التّداوي به- ولا سيّما إذا كانت النّفوس تميل إليه- ذريعة إلى تناوله للشّهوة؛ واللّذة. لا سيّما إذا عرفت النّفوس أنّه نافع لها، مزيل لأسقامها، جالب لشفائها؛ فهذا أحبّ شيء إليها، والشّارع سدّ الذّريعة إلى تناوله بكلّ ممكن. ولا ريب أنّ بين سدّ الذّريعة إلى تناوله وفتح الذّريعة إلى تناوله تناقضا وتعارضا.
وأيضا؛ فإنّ في هذا الدّواء المحرّم من الأدواء ما يزيد على ما يظنّ به من الشفاء.
ولنفرض الكلام في أمّ الخبائث الّتي ما جعل الله لنا فيها شفاء قطّ؛ فإنّها شديدة المضرّة بالدّماغ؛ الّذي هو مركز العقل عند الأطبّاء وكثير من الفقهاء والمتكلمين!!
وروى البخاريّ:
…
قال بقراط في أثناء كلامه في «الأمراض الحادّة» :
ضرر الخمر بالرأس شديد، لأنّه يسرع الارتفاع إليه، ويرتفع بارتفاعه الأخلاط التي تعلو في البدن، وهو كذلك يضرّ بالذّهن.
وقال صاحب «الكامل» : إنّ خاصّيّة الشّراب الإضرار بالدّماغ والعصب. وأمّا غيره من الأدوية المحرّمة! فنوعان:
أحدهما: تعافه النّفس، ولا تنبعث لمساعدته الطّبيعة على دفع المرض به؛ كالسّموم، ولحوم الأفاعي، وغيرها من المستقذرات، فيبقي كلّا على الطّبيعة مثقلا لها، فيصير حينئذ داء لا دواء.
والثّاني: ما لا تعافه النّفس؛ كالشّراب الّذي تستعمله الحوامل مثلا، فهذا ضرره أكثر من نفعه، والعقل يقضي بتحريم ذلك، فالعقل والفطرة مطابق للشّرع في ذلك.
وههنا سرّ لطيف في كون المحرّمات لا يستشفى بها، فإنّ شرط الشّفاء بالدّواء تلقيه بالقبول، واعتقاد منفعته، وما جعل الله فيه من بركة الشّفاء، فإنّ النّافع هو المبارك. وأنفع الأشياء أبركها. والمبارك من النّاس أينما كان هو الّذي ينتفع به حيث حلّ.
ومعلوم أنّ اعتقاد المسلم تحريم هذه العين ممّا يحول بينه وبين اعتقاد بركتها ومنفعتها؛ وبين حسن ظنّه بها؛ وتلقّي طبعه لها بالقبول، بل كلّما كان العبد أعظم إيمانا؛ كان أكره لها، وأسوأ اعتقادا فيها، وطبعه أكره شيء لها، فإذا تناولها في هذه الحال؛ كانت داء له لا دواء، إلّا أن يزول اعتقاد الخبث فيها، وسوء الظّنّ والكراهة لها بالمحبّة، وهذا ينافي الإيمان، فلا يتناولها المؤمن قطّ إلا على وجه داء. والله أعلم. انتهى كلام ابن القيّم رحمه الله تعالى.
(وروى البخاريّ) ، ومسلم، وابن ماجه في «الطّبّ» كلّهم؛
عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنّه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى مريضا، أو أتي به.. قال:«أذهب الباس ربّ النّاس، اشف وأنت الشّافي، لا شفاء إلّا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما» .
(عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى مريضا) عائدا له (أو) قال: (أتي) بالبناء للمفعول (به) إليه (قال) في دعائه له: ( «أذهب) بفتح الهمزة بعدها ذال معجمة- (الباس) - بغير همز للمؤاخاة، أي: المناسبة لما بعده. وأصله الهمز، أي: الضرر والمرض-
(ربّ النّاس) وغيرهم، بحذف حرف النّداء، (اشف) بحذف المفعول (وأنت) - وفي رواية بحذف الواو- (الشّافي) .
أخذ منه جواز تسميته تعالى بما ليس في القرآن؛ بشرط ألايوهم نقصا، وأن يكون له أصل في القرآن، وهذا منه، فإن فيه وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)[الشعراء] .
(لا شفاء) - بالمدّ؛ مبنيّ على الفتح، والخبر محذوف، تقديره: حاصل لنا أوله- (إلّا شفاؤك) بالرّفع؛ بدل من محلّ «لا شفاء» .
(شفاء) - مصدر منصوب بقوله: اشف- (لا يغادر) - بغين معجمة، أي:
لا يترك- (سقما» ) بضمّ فسكون، وبفتحتين، والتّنوين للتّقليل.
وفائدة التّقييد بذلك: أنّه قد يحصل الشّفاء من ذلك المرض؛ فيخلفه مرض آخر!!. فكان دعاء له بالشّفاء المطلق، لا بمطلق الشّفاء.
واستشكل الدّعاء بالشّفاء؛ مع ما في المرض من كفّارة وثواب، كما تظافرت الأحاديث بذلك!!
والجواب عن ذلك: أنّ الدّعاء عبادة، ولا ينافي الثّواب والكفّارة، لأنهما يحصلان بأوّل المرض، وبالصّبر عليه. والدّاعي بين حسنيين: إمّا أن يحصل له مقصوده، أو يعوّض عنه بجلب نفع؛ أو دفع ضرر. وكلّ ذلك من فضل الله سبحانه وتعالى. انتهى «عزيزي» .
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أيضا قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخذ أهله الوعك.. أمر بالحساء فصنع، ثمّ أمرهم فحسوا. وكان يقول:«إنّه ليرتو فؤاد الحزين، ويسرو عن فؤاد السّقيم، كما تسرو إحداكنّ الوسخ بالماء عن وجهها» .
وقوله: (الوعك) : هو الحمّى، أو ألمها.
(و) أخرج الإمام أحمد والتّرمذيّ في «الطّبّ» ؛ وقال: حديث حسن صحيح، وابن ماجه والحاكم في «الأطعمة» وقال: صحيح، وأقرّه الذّهبيّ كلّهم؛
(عن عائشة رضي الله تعالى عنها أيضا قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخذ أهله) ؛ أي: أحدا من أهل بيته (الوعك) ؛ أي: حرارة الحمّى، ومثلها بقيّة الأمراض، فما ذكر نافع لجميع الأمراض (أمر بالحساء) - بالفتح والمدّ: طبيخ يتّخذ من دقيق وماء ودهن- (فصنع) بالبناء للمفعول (ثمّ أمرهم فحسوا) ؛ أي:
شربوا وتناولوه.
(وكان يقول: «إنّه ليرتو) - بفتح المثنّاة التحتيّة وراء ساكنة، فمثنّاة فوقيّة- أي: يشدّ ويقوّي (فؤاد الحزين) - قلبه- (ويسرو) - بسين مهملة وراء- (عن فؤاد السّقيم) - أي: يكشف عن فؤاده الألم، ويزيله- (كما تسرو إحداكنّ الوسخ بالماء عن وجهها» ) أي: تكشفه وتزيله.
قال «ابن القيّم» : هذا ماء الشّعير المغليّ، وهو أكثر غذاء من سويقه، نافع للسّعال، قامع لحدّة الفضول، مدرّ للبول جدّا، قامع للظّمأ، مطف للحرارة.
وصفته أن يرضّ ويوضع عليه من الماء العذب خمسة أمثاله، ويطبخ بنار معتدلة إلى أن يبقى خمساه. انتهى. «مناوي وعزيزي» .
(وقوله: الوعك) - بفتحتين- (هو الحمّى، أو ألمها) ؛ كما قاله المناوي وغيره.
و (الحساء) - بالفتح والمدّ-: طبيخ يتّخذ من دقيق وماء ودهن.
و (يرتو) : يشدّ ويقوّي. و (يسرو) : يكشف الألم ويزيله.
وفي «السّنن» عنها [رضي الله تعالى عنها] أيضا: «عليكم بالبغيض النّافع: التّلبين» .
(والحساء بالفتح) - للحاء والسّين المهملتين- (والمدّ) لا بالقصر (: طبيخ يتّخذ من دقيق) ؛ أي: دقيق الشّعير (وماء، ودهن) .
قال الحفني: وهو أن يضع قدرا من الشّعير بلا طحن، ويزن قدره من الماء خمس مرّات، ويوقد عليه بنار لطيفة حتّى يذهب ثلاثة أخماس الماء، فإنه يسكّن العطش والحرارة، وينفع من كلّ داء؛ لأنّ الشّعير بارد.
وفيه كيفيّة أخرى وهي: أن يطحنه؛ ويأخذ دقيقه، ويضيف له شيئا من دهن اللّوز؛ أو الورد؛ أو نحوهما وشيئا من الماء؛ ويطبخه. انتهى.
(ويرتو) - بفتح المثنّاة التحتيّة، وراء ساكنة فمثناة فوقيّة- أي:(يشدّ ويقوّي) ؛ بتشديد الواو من التّقوية (ويسرو) بفتح أوله؛ فسين مهملة ساكنة، فراء بوزن: يعرو.
قال المناوي: معناه (يكشف) عن فؤاده (الألم ويزيله) . انتهى.
(و) أخرج الإمام أحمد في «المسند» في الطّبّ وابن ماجه (في «السّنن» ) في «الطّبّ» أيضا، والحاكم وصحّحه؛ وأقرّه الذّهبيّ، كلّهم؛ (عنها) - أي:
عائشة- (أيضا) رضي الله تعالى عنها قالت:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( «عليكم بالبغيض) - أي: المبغوض بالطّبع- (النّافع) من حيث الواقع، أي: كلوه أو لازموا استعماله، قالوا: وما البغيض النّافع يا رسول الله؟ قال: (التّلبين» ) .
وفي ابن ماجه التّلبينة يعني: الحسو، وهو دقيق يعجن بالماء إلى أن يصير
قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى أحد من أهله.. لم تزل البرمة على النّار حتّى ينتهي أحد طرفيه- يعني: يبرأ- أو يموت.
وعنها أيضا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قيل له: إنّ فلانا وجع.. لا يطعم الطّعام، قال:«عليكم بالتّلبينة، فأحسوه إيّاها» ، ويقول: «والّذي نفسي بيده؛ إنّها
…
كاللّبن، ويشرب، لا سيّما دقيق الشّعير، فإنّه بارد.
وهذا من الطّبّ النّبويّ الّذي لا شكّ فيه، وإنّما يكون التّخلف من سوء حال المستعمل. انتهى «حفني» .
(قالت) ؛ أي: عائشة (: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى) ؛ أي: مرض (أحد من أهله لم تزل البرمة) - بضمّ الموحّدة، وسكون الرّاء: إناء- (على النّار حتّى ينتهي أحد طرفيه. يعني:) أنّهم كانوا يحرصون على هذا الطعام دائما لخفّته على المريض مع تغذيته، وعدم الإضرار به إلى أن (يبرأ) من مرضه، (أو يموت) إذا انقضى أجله.
(و) أخرج الإمام أحمد وابن ماجه والحاكم وصحّحه، وأقرّه الذّهبي، كلّهم؛ (عنها) ؛ أي: عائشة رضي الله تعالى عنها (أيضا) قالت:
(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قيل له: إنّ فلانا وجع) - بكسر الجيم، أي-: مريض (لا يطعم الطّعام؟ قال: «عليكم بالتّلبينة) - بفتح فسكون-: حساء يعمل من دقيق، أو نخالة، فيصير كاللّبن بياضا ورقّة، وقد يجعل فيه عسل. وسمّيت بذلك!! تشبيها باللّبن لبياضها ورقّتها (فأحسوه) ؛ أي: أشربوه وأطعموه (إيّاها» ) لأنّها غذاء فيه لطافة، سهل التّناول للمريض، فإذا استعمله اندفعت عنه الحرارة الجوعيّة، وحصلت له القوّة الغذائيّة بغير مشقّة. انتهى «مناوي» .
(ويقول) ؛ أي: النّبيّ صلى الله عليه وسلم (: «والّذي نفسي بيده؛ إنّها) ؛ أي: التّلبينة
تغسل بطن أحدكم كما تغسل إحداكنّ وجهها من الوسخ» .
و (التّلبين والتّلبينة) : الحساء الرّقيق الّذي هو في قوام اللّبن.
قال الهرويّ: سمّيت تلبينة؛ لشبهها باللّبن لبياضها ورقّتها، وهذا هو الغذاء النّافع للعليل، وهو الرّقيق النّضيج، لا الغليظ النّيء،
(تغسل بطن أحدكم) من الدّاء (كما تغسل إحداكنّ) - كذا في «زاد المعاد» - (وجهها) - وفي «المسند» : «كما يغسل أحدكم وجهه بالماء» - (من الوسخ» )
تحقيق لوجه الشّبه: قال الموفّق البغداديّ: إذا شئت [معرفة] منافع التلبينة؛ فاعرف منافع ماء الشّعير، سيّما إذا كان نخالة، فإنّه يجلو وينفذ بسرعة، ويغذّي غذاء لطيفا، وإذا شرب حارا كان أجلى وأقوى نفوذا. انتهى «مناوي» .
(والتّلبين والتّلبينة) - بهاء- قال ابن القيّم: هو (الحساء) بالفتح والمدّ (الرّقيق) - بالرّاء- (الّذي) يعمل من دقيق أو نخالة، و (هو في قوام اللّبن) ، وربّما جعل فيها عسل.
(قال) الإمام اللّغويّ أحمد بن محمّد بن عبد الرّحمن الباشاني: أبو عبيد (الهرويّ) نسبة إلى «هراة» المتوفّى في رجب سنة: إحدى وأربعمائة هجرية، قرأ على جماعة منهم: أبو سليمان الخطّابي. وكان اعتماده وشيخه الّذي يفتخر به أبا منصور محمد بن أحمد الأزهري صاحب كتاب «التّهذيب» في اللّغة، وله من المؤلّفات كتاب «الغريبين» أي:«غريب القرآن» ، و «غريب الحديث» ، وهو السّابق إلى الجمع بينهما- فيما علمنا-، وله كتاب «ولاة هراة» رحمه الله تعالى.
قال في كتاب «الغريبين» : (سمّيت تلبينة لشبهها باللّبن؛ لبياضها ورقّتها)، وهي تسمية بالمرّة من التّلبين؛ مصدر لبّن القوم: إذا سقاهم اللّبن.
(وهذا) التّلبين (هو الغذاء) بكسر الغين المعجمة؛ مثل كتاب: ما يغتذى به من الطّعام والشّراب (النّافع للعليل) ؛ أي: المريض، (وهو الرّقيق) - بالرّاء- (النّضيج) لأنّه ينفذ بسرعة، ويغذّي غذاء لطيفا، (لا الغليظ النّيء) مهموز وزان
وإذا شئت أن تعرف فضل التّلبينة.. فاعرف فضل ماء الشّعير، فإنّها حساء يتّخذ من دقيق الشّعير.
وفي «الصّحيحين» : عن عائشة رضي الله تعالى عنها
…
«حمل» : كلّ شيء شأنه أن يعالج بطبخ أو شيّ ولم ينضج.
(وإذا شئت أن تعرف فضل التّلبينة) ؛ أي: امتيازها على غيرها في التّغذية؛ (فاعرف فضل ماء الشّعير، فإنّها) ؛ أي: التّلبينة (حساء) - بالحاء والسّين المهملتين- (يتّخذ) ؛ أي: يصنع (من دقيق الشّعير) بنخالته، والفرق بينها وبين ماء الشّعير: أنّه يطبخ صحاحا، والتّلبينة تطبخ منه مطحونا، وهي أنفع منه؛ لخروج خاصيّة الشّعير بالطّحن.
وللعادات تأثير في الانتفاع بالأدوية والأغذية، ومن أمثلتهم: داووا الأجساد بما تعتاد. وكانت عادة القوم أن يتّخذوا ماء الشّعير منه مطحونا؛ لا صحاحا وهو أكثر تغذية؛ وأقوى فعلا؛ وأعظم جلاء.
وإنّما اتّخذه أهل المدن صحاحا!! ليكون أرقّ وألطف. فلا يثقل على طبيعة المريض، وهذا بحسب طبائع أهل المدن ورخاوتها وثقل ماء الشّعير المطحون عليها.
والمقصود: أنّ ماء الشّعير مطبوخا صحاحا ينفذ سريعا، ويجلو جلاء ظاهرا، ويغذّي غذاء لطيفا، وإذا شرب حارّا كان جلاؤه أقوى، ونفوذه أسرع، وإنماؤه للحرارة الغريزيّة أكثر. انتهى «زاد المعاد» .
(و) أخرج البخاريّ ومسلم (في «الصّحيحين» ) : كتاب «الأطعمة والطّبّ» ؛
(عن) أمّ المؤمنين (عائشة) الصّدّيقة بنت الصّدّيق؛ زوج النّبيّ صلى الله عليه وسلم (رضي الله تعالى عنها) أنّها كانت إذا مات الميت من أهلها، فاجتمع لذلك النّساء. ثمّ تفرّقن إلّا أهلها وخاصّتها أمرت ببرمة من تلبينة؛ فطبخت، ثم صنع
قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «التّلبينة:
مجمّة لفؤاد المريض؛ تذهب ببعض الحزن» .
وروى التّرمذيّ وابن ماجه: عن عقبة بن عامر الجهنيّ
…
ثريد؛ فصبّت التّلبينة عليها، ثمّ (قالت:) كلن منها فإنّي (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
«التّلبينة) - بفتح المثنّاة الفوقيّة، وسكون اللّام، وكسر الموحّدة، بعدها تحتانيّة، ثم نون ثمّ هاء- (مجمّة) - بفتح الميمين، والجيم، والميم الثّانية مشدّدة، وتكسر الجيم، وبضمّ الميم وكسر الجيم؛ اسم فاعل، والأوّل أشهر، أي: مريحة- (لفؤاد المريض) - أي: تريح قلبه، وتسكّنه؛ وتقوّيه، وتزيل عنه الهمّ، وتنشّطه بإخمادها للحمّى؛ من الإجمام وهو الرّاحة، فلا حاجة لما تكلّفه بعض الأعاجم من تأويل الفؤاد، برأس المعدة. فتدبّر!!
(تذهب) - بفتح الفوقيّة، والهاء- (ببعض الحزن) - بضمّ الحاء المهملة وسكون الزّاي- فإنّ فؤاد المريض يضعف باستيلاء اليبس على أعضائه، وعلى معدته؛ لقلّة الغذاء، وهذا الطّعام يرطّبها، ويقوّيها. ولذا كانت عائشة تفعله لأهل الميت؛ لتسكين حزنهم.
(وروى) الإمام أحمد و (التّرمذيّ وابن ماجه) في «الطّبّ» ، وقال التّرمذيّ: حسن غريب. وقال في «الأذكار» : فيه بكر بن يونس بن بكير، وهو ضعيف. وفي «الزوائد» : إسناده حسن، لأنّ بكر بن يونس مختلف فيه. وباقي رجال الإسناد ثقات. انتهى.
وكذا رواه الحاكم كلّهم؛ (عن) أبي حمّاد (عقبة بن عامر) بن عبس بن عمرو (الجهنيّ) نسبة لجهينة الصّحابيّ الجليل. كان من أحسن النّاس صوتا بالقرآن.
وشهد فتوح الشّام، وكان هو البريد إلى عمر بن الخطّاب رضي الله عنه يبشّره
رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تكرهوا مرضاكم على الطّعام والشّراب؛ فإنّ الله عز وجل يطعمهم ويسقيهم» .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرض أحد من أهل بيته..
بفتح دمشق. ووصل المدينة في سبعة أيّام، ورجع منها إلى الشّام في يومين ونصف، بدعائه عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتشفعّه به؛ في تقريب طريقه.
وسكن دمشق وكانت له دار في ناحية قنطرة «سنان» من «باب توما» وسكن مصر ووليها لمعاوية بن أبي سفيان سنة أربع وأربعين.
وتوفّي بها سنة ثمان وخمسين هجرية.
روي له عن النّبي صلى الله عليه وسلم خمسة وخمسون حديثا. اتّفقا منها على تسعة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بتسعة.
روى عنه جابر بن عبد الله؛ وابن عبّاس؛ وغيرهما من الصّحابة وخلائق من التّابعين (رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تكرهوا مرضاكم على) تناول (الطّعام والشّراب) إذا عافوه للمرض الذّي قام بهم.
قال الموفّق: ما أكثر فوائد هذه الكلمة النّبوية للأطّبّاء!! لأنّ المريض إذا عاف الطّعام أو الشّراب؛ فذلك لاشتغال طبيعته بمجاهدة مادّة المرض، أو سقوط شهوته لموت الحارّ الغريزيّ. وكيفما كان فإعطاء الغذاء في هذه الحالة غير لائق. انتهى شروح «الجامع الصّغير» . ولفظ: الشّراب ليس في رواية التّرمذيّ.
(فإنّ الله عز وجل يطعمهم ويسقيهم» ) . قال «المناوي» : أي يحفظ قواهم، ويمدّهم بما يقع موقع الطّعام والشّراب في حفظ الرّوح، وتقويم البدن.
وقال العلقمي: أي: يشبعهم ويرويهم؛ من غير تناول طعام وشراب. انتهى.
(و) أخرج مسلم في «صحيحه» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت:
(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرض أحد من أهل بيته) - وفي رواية لمسلم: «من
نفث عليه بالمعوّذات.
وفي «الصّحيحين» : عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الحمّى- أو شدّة الحمّى- من فيح جهنّم،
…
أهله» - (نفث) ؛ أي: نفخ (عليه) نفخا لطيفا، بلا ريق (بالمعوّذات) - بكسر الواو- وإنما خصّ المعوّذات!! لأنّهنّ جامعات للاستعاذة من كلّ مكروه جملة وتفصيلا، ففيها الاستعاذة من شرّ ما خلق؛ فيدخل فيه كلّ شيء، ومن شرّ النّفّاثات في العقد؛ وهنّ السّواحر، ومن شرّ حاسد إذا حسد، ومن شرّ الوسواس الخنّاس.
وفائدة التّفل: التّبرّك بتلك الرّطوبة؛ أو الهواء المباشر لريقه.
قال النّووي فيه استحباب النّفث في الرّقية، وعليه الجمهور من الصّحابة والتّابعين ومن بعدهم، وكان مالك ينفث إذا رقى نفسه، وكان يكره الرّقية بالحديد؛ والملح؛ والّذي يعقد؛ والّذي يكتب «خاتم سليمان» ؛ والعقد عنده أشدّ كراهة، لما في ذلك من مشابهة السّحر.
وفيه ندب الرّقية بنحو القرآن، وكرهه البعض بغسالة ما يكتب منه، أو من الأسماء. انتهى شروح «الجامع الصّغير» .
(و) أخرج البخاريّ ومسلم (في «الصّحيحين» ) من رواية نافع؛ (عن ابن عمر) بن الخطّاب (رضي الله تعالى عنهما أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:
«إنّ الحمّى- أو شدّة الحمّى- من فيح جهنّم» ) كذا في «المواهب» وتعقّبه الزرقاني: بأنّه لم يجده في واحد من «الصحيحين» بهذا اللّفظ!!
وإنّما الّذي في البخاريّ في «الطّبّ» ؛ من رواية مالك عن نافع عن ابن عمر مرفوعا: «الحمّى من فيح جهنّم، فأطفئوها بالماء» . وفيه في «صفة جهنّم؛ من بدء الخلق» من رواية عبيد الله؛ عن نافع؛ عن ابن عمر مرفوعا: «الحمّى من فيح جهنّم، فابردوها بالماء» بدل قوله «فأطفئوها» .
.........
وكذا رواه مسلم؛ من طريق يحيى بن سعيد؛ عن عبيد الله؛ عن نافع، بلفظ:«فابردوها» .
رواه من طريق مالك؛ عن نافع؛ باللّفظ الأوّل- وهو «فأطفئوها» - ورواه من وجه آخر؛ عن عبيد الله؛ عن نافع؛ عن ابن عمر؛ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ شدّة الحمّى من فيح جهنّم، فأطفئوها بالماء» . انتهى.
وعندي أنّ الأمر سهل، ومراد المصنّف كالقسطلّاني: أنّ هذا اللّفظ موجود في «الصحيحين» ، من رواية ابن عمر بن الخطّاب؛ سواء كان من وجه واحد، أو متعدّد فتعقّب الزّرقاني وارد على تعيين رواية مخصوصة بهذا اللّفظ. والله أعلم.
وقوله: «من فيح جهنّم» !! بفتح الفاء؛ وسكون التحتيّة؛ فحاء مهملة آخره. وفي رواية ل «الصحيحين» «من فور» - بالرّاء، بدل الحاء- وفي رواية للبخاري:«من فوح» - بالواو، بدل التّحتيّة- وكلّها بمعنى، والمراد: سطوع حرّها ووهجه.
قال في «المواهب» : اختلف في نسبتها إلى جهنّم!؟ فقيل: حقيقة.
واللهب الحاصل في جسم المحموم قطعة من جهنّم.
وقدّر الله ظهورها في الدّنيا!! - بأسباب تقتضيها؛ نذيرا للجاحدين، وبشيرا للمقرّبين، ليعتبر العباد بذلك. فالتّعذيب بها يختلف باختلاف محلّه، فيكون للمؤمن تكفيرا لذنوبه، وزيادة في أجوره، وللكافر عقوبة؛ وانتقاما.
كما أنّ أنواع الفرح واللّذة من نعيم الجنّة؛ أظهرها الله سبحانه في هذه الدّار الدّنيا عبرة ودلالة على ما عنده تعالى.
وإنّما طلب ابن عمر كشف العذاب الحاصل بالحمّى- كما في البخاري؛ عقب الحديث، قال نافع: وكان عبد الله يقول: اللهم اكشف عنا الرّجز؛ أي:
العذاب- مع ما فيه من الثّواب!! لمشروعيّة طلب العافية من الله، إذ هو قادر على
فابردوها بالماء» .
وقد ذكر أبو نعيم وغيره: من حديث أنس رضي الله تعالى عنه، يرفعه إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم:
…
أن يكفّر السّيئات لعبده، ويعظم ثوابه، من غير أن يصيبه شيء يشقّ عليه. انتهى كلام «المواهب» مع الزرقاني.
(فابردوها بالماء» ) بهمزة وصل، والرّاء مضمومة على المشهور في الرّواية؛ من بردت والحمّى أبردها بردا؛ بوزن قتلتها أقتلها قتلا، أي: أسكنت حرارتها.
وحكي كسر الراء؛ مع وصل الهمزة، وحكى عياض: رواية بهمزة قطع مفتوحة، وكسر الرّاء؛ من أبرد الشيّء: إذا عالجه فصيّره باردا، مثل: أسخنته إذا صيّرته سخنا. وهي لغة رديئة.
وفي «المواهب» ؛ عن الخطّابي: أولى ما يحمل عليه كيفية تبريد الحمّى بالماء: ما صنعته أسماء بنت الصّدّيق رضي الله تعالى عنها المرويّ في «الموطأ» و «الصحيحين» ؛ عن أسماء: أنّها كانت إذا أتيت بالمرأة قد حمّت تدعو لها؛ أخذت الماء فصبّته بينها وبين جيبها، قالت: وكان صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نبردها بالماء.
والصّحابيّ؛ ولا سيّما مثل أسماء الّتي كانت ممّن يلازم بيت النّبي صلى الله عليه وسلم أعلم بالمراد من غيرها. والله أعلم.
والّذي يظهر لي أن ذلك لا يتعيّن، فإنّ الإبراد بالماء يحصل بأيّ كيفيّة كانت، كما هو إطلاق الحديث، وذلك بحسب ما يراه المحموم نافعا لإطفاء حرارة الحمّى، وقد كنت إذا اشتدّت بي الحمّى أذهب فأنغمس في الماء، فأجد ذلك يخفّف عنّي حرارة الحمّى؛ خصوصا إذا كان الماء باردا طبيعيا، فإنّه أنفع في تبريد الحمّى. والله أعلم.
(وقد ذكر أبو نعيم وغيره) ؛ كالطّبرانيّ والحاكم بسند قوي (من حديث أنس رضي الله تعالى عنه يرفعه إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم:
«إذا حمّ أحدكم.. فليرشّ عليه الماء البارد ثلاث ليال من السّحر» .
وفي «السّنن» لابن ماجه: عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، يرفعه إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم:«الحمّى كير من كير جهنّم، فنحّوها عنكم بالماء البارد» .
وفي «المسند» وغيره: عن سمرة
…
«إذا حمّ أحدكم) - بالضّمّ والتّشديد-: أصابته الحمّى (فليرشّ عليه) ؛ أي:
على نفسه (الماء البارد ثلاث ليال من السّحر» ) ؛ أي: قبيل الصّبح.
فهذا الحديث المرفوع يؤيّد فعل أسماء، فيكون المراد بالإبراد الرّشّ؛ لا الاغتسال. قال الزّرقانيّ: وقد علمت أنّ ذلك غير متعيّن.
(وفي «السّنن» ) في «كتاب الطّبّ» (لابن ماجه) - بالهاء وصلا ووقفا- (عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه) - وفي «الزّوائد» : إسناده صحيح؛ ورجاله ثقات- (يرفعه إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «الحمّى كير) - بكسر الكاف؛ وسكون المثنّاة التّحتيّة-: زقّ ينفخ فيه الحدّاد (من كير جهنّم) فيه: تشبيه، أي: حرارتها الواصلة للبدن كحرارة جهنّم الواصلة بالكير الآلة المعروفة للحداد، وفيه من المبالغة ما لا يخفى. انتهى «حفني» .
(فنحّوها عنكم بالماء البارد» ) شربا وغسل أطراف، لأنّ البارد رطب ينساغ لسهولته. فيصل للطافته إلى أماكن العلّة، من غير حاجة إلى معاونة الطّبيعة. انتهى «زرقاني» .
(وفي «المسند» ) للإمام أحمد (وغيره) ؛ من حديث الحسن البصريّ.
(عن) أبي سعيد (سمرة) بن جندب- بضمّ الدّال وفتحها- ابن هلال الفزاري. توفّي أبوه وهو صغير؛ فقدمت به أمّه المدينة، فتزوّجها أنصاريّ، وكان في حجره حتّى كبر. قيل: أجازه النّبيّ صلى الله عليه وسلم في المقاتلة يوم أحد، وغزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوات، ثمّ سكن البصرة.
رضي الله تعالى عنه، يرفعه إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم:
«الحمّى قطعة من النّار، فأبردوها عنكم بالماء البارد» .
وفي «السّنن» : من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال:
ذكرت الحمّى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسبّها رجل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا تسبّها؛ فإنّها تنفي الذّنوب، كما تنفي النّار خبث الحديد» .
روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة حديث وثلاثة وعشرون حديثا؛ اتّفقا منها على حديثين، وانفرد البخاريّ بحديثين، ومسلم بأربعة.
روى عنه خلق منهم: الحسن، وابن سيرين، والشّعبيّ.
وتوفّي بالبصرة سنة تسع- وقيل: ثمان- وخمسين. قال البخاريّ: توفي سمرة بعد أبي هريرة. يقال: آخر سنة تسع وخمسين، ويقال: سنة ستّين (رضي الله تعالى عنه.
يرفعه إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «الحمّى قطعة من النّار) ؛ أي: نار جهنّم: جعلها الله في الدنيا (فابردوها عنكم بالماء البارد» ) ؛ شربا وغسل أطراف، أو جميع الجسد، على ما يليق بالزّمان والمكان. انتهى «زرقاني» .
وقال السّيوطي: قد تواتر الأمر بإبرادها بالماء، وأصحّ كيفيّاته: أن يرشّ بين الصّدر والجيب. انتهى نقله المناوي.
(وفي «السّنن» ) لابن ماجه- وفي سنده موسى بن عبيدة وهو ضعيف- (من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال:
ذكرت الحمّى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبّها رجل!! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«لا تسبّها؛ فإنّها تنفي الذّنوب) ؛ أي: تكفّر خطايا المؤمنين (كما تنفي النّار خبث) - بفتحتين أي: وسخ- (الحديد» ) لمّا كانت الحمّى يتبعها حمية عن الأغذية الرّديئة، وتناول الأغذية والأدوية النّافعة، وفي ذلك إعانة على تنقية البدن
.........
ونفي أخباثه وفضوله، وتصفيته من موادّه الرّديئة، وتفعل فيه كما تفعل النّار في الحديد؛ من نفي خبثه، وتصفية جوهره؛ كانت أشبه الأشياء بنار الكير الّتي تصفّي جوهر الحديد، وهذا القدر هو المعلوم عند أطبّاء الأبدان.
وأمّا تصفيتها القلب من وسخه ودرنه، وإخراجها خبائثه! فأمر يعلمه أطبّاء القلوب، ويجدونه كما أخبرهم به نبيّهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنّ مرض القلب إذا صار مأيوسا من برئه لم ينفع فيه العلاج.
فالحمّى تنفع البدن والقلب، وما كان بهذه المثابة؛ فسبّه ظلم وعدوان.
انتهى. من «زاد المعاد» .
وقال السّيوطي: هي طهور من الذّنوب، وتذكرة للمؤمن بنار جهنّم كي يتوب.
ولها منافع بدنيّة، وماثر سنيّة؛ فإنّها تنقّي البدن، وتنفي عنه العفن، وربّ سقم أزليّ؛ ومرض عولج منه زمانا- وهو ممتلئ- فلمّا طرأت عليه أبرأته، فإذا هو منجل، وربّما صحّت الأجساد بالعلل.
وذكروا أنّها تفتح كثيرا من السّدد وتنضح من الأخلاط والموادّ ما فسد، وتنفع من الفالج، واللّقوة «1» ؛ والتّشنج الامتلائيّ؛ والرّمد. انتهى. نقله المناوي.
ولما نظر جماعة من السّلف ما في الحمّى من الفوائد؛ دعوا على أنفسهم بملازمة الحمّى لهم إلى توفيهم.
وممّن دعا بذلك سعد بن معاذ، وكذا أبي «2» دعا على نفسه ألايفارقه الوعك حتى يموت، ولا يشغله عن حجّ؛ ولا عمرة؛ ولا جهاد؛ ولا صلاة جماعة، فما مسّ رجل جلده بعدها إلّا وجد حرّها حتّى مات.
(1) داء في الوجه. اه (مختار الصحاح) .
(2)
الكلام للمناوي؛ لا للشارح.
وروى التّرمذيّ في «جامعه» : من حديث ثوبان رضي الله تعالى عنه، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أصاب أحدكم الحمّى؛ فإنّ الحمّى قطعة من النّار، فليطفئها عنه بالماء،
…
وقد قال بعض من اقتفى آثارهم، وتدثر دثارهم:
زارت محمّصة الذّنوب لصبّها
…
أهلا بها من زائر ومودّع
قالت- وقد عزمت على تر حالها-:
…
ماذا تريد؟ فقلت: ألاتقلعي
انتهى «مناوي» .
(وروى التّرمذيّ في «جامعه» ) في «الطبّ» بسند فيه راو لم يسمّ، وراو مختلف في تضعيفه وتوثيقه، وقال: حديث غريب.
(من حديث) أبي عبد الله، - أو أبي عبد الرّحمن- (ثوبان) - بضم المثلّثة وفتحها- ابن بجدد- بموحّدة مضمومة ثم جيم ساكنة، ثمّ دال مهملة مكّررة؛ الأولى مضمومة- ويقال: ابن جحدر الهاشميّ، مولاهم من أهل «السّراة» :
موضع بين «مكّة» و «اليمن» .
أصابه سباء؛ فاشتراه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقه. ولم يزل معه في الحضر والسّفر، فلما توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الشّام، فنزل «الرّملة» .
ثمّ انتقل إلى حمص وابتنى بها دارا. وتوفي بها سنة: خمس وأربعين- وقيل:
سنة أربع وخمسين-.
روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة حديث؛ وسبعة وعشرون حديثا، روى له مسلم منها عشرة أحاديث.
روى عنه جماعة من كبار التّابعين (رضي الله تعالى عنه.
عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أصاب أحدكم الحمّى، فإنّ الحمّى قطعة من النّار) حقيقة أو مجازا- (فليطفئها عنه بالماء) - لأنّ الماء يطفئ النّار، ثمّ بيّن كيفيّة
فليستقبل نهرا جاريا ليستقبل جرية الماء، فيقول:(باسم الله، اللهمّ؛ اشف عبدك، وصدّق رسولك) بعد صلاة الصّبح قبل طلوع الشّمس، فليغتمس فيه ثلاث غمسات ثلاثة أيّام، فإن لم يبرأ في ثلاث.. فخمس، فإن لم يبرأ في خمس.. فسبع، فإن لم يبرأ في سبع.. فتسع؛ فإنّها لا تكاد تجاوز تسعا بإذن الله تعالى» .
الإطفاء، فقال: - (فليستنقع نهرا) - بفتحتين؛ على الأفصح- (جاريا، ليستقبل جرية الماء،
فيقول: باسم الله، اللهمّ؛ اشف عبدك) لم يقل: اشفني لأنّ المقام مقام استعطاف وتذلّل، ولا وصف أصدق من وصف العبوديّة. (وصدّق رسولك) فيما أخبر أنّه شفاء من الحمّى.
(بعد صلاة الصّبح، قبل طلوع الشّمس) ظرف لقوله «يستنقع» .
(فليغتمس فيه ثلاث غمسات، ثلاثة أيّام، فإن لم يبرأ في ثلاث؛ فخمس) ينغمس فيها، ف «خمس» : خبره محذوف (فإن لم يبرأ في خمس؛ فسبع، فإن لم يبرأ في سبع؛ فتسع) من الأيّام، (فإنّها) أي: الحمى (لا تكاد تجاوز تسعا بإذن الله تعالى» ) .
وهذا يحتمل أن يكون لبعض الحمّيات دون بعض، ويحتمل أنّه خارج عن قواعد الطّبّ، داخل في قسم المعجزات الخارقة للعادات. ألا ترى كيف قال فيه «صدّق رسولك» ، و «بإذن الله» ؟؟.
وقد شوهد وجرّب؛ فوجد كما نطق به الصّادق المصدوق صلى الله عليه وسلم؛ قاله الطّيبيّ.
وقال الزّين العراقيّ: عملت بهذا الحديث؛ فانغمست في بحر «النّيل» ؛
وفي «الصّحيحين» : عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله تعالى عنه: أنّ رجلا أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: إنّ أخي يشتكي بطنه- وفي رواية: استطلق بطنه- فقال: «اسقه عسلا» ، فذهب، ثمّ رجع، فقال: قد سقيته عسلا؛ فلم يغن عنه شيئا؟
…
فبرئت منها! قال ولده الولّي العراقيّ: ولم يحمّ بعدها، ولا في مرض موته!!.
انتهى «زرقاني» .
(وفي «الصّحيحين» ) : البخاريّ ومسلم، وكذا التّرمذيّ والنّسائي كلّهم في (الطب) ؛ من حديث سعيد بن أبي عروبة؛ عن أبي المتوكّل النّاجيّ.
(عن أبي سعيد) سعد بن مالك (الخدريّ) الصّحابيّ ابن الصّحابيّ (رضي الله تعالى عنه) وعن والده.
(أنّ رجلا أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فقال: إنّ أخي) - قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسم واحد منهما- (يشتكي بطنه) ؛ أي: وجع بطنه، من إسهال حصل له من تخمة.
(وفي رواية) للشّيخين أيضا؛ من حديث قتادة؛ عن أبي المتوكّل النّاجي؛ عن أبي سعيد فقال: إنّ أخي (استطلق) - بفتح الفوقيّة واللّام- (بطنه) بالرّفع، وضبطه في «الفتح» مبنيّا للمفعول؛ أي: تواتر إسهال بطنه؛ قاله القسطلّاني.
وكذا قال القرطبيّ في «المفهم» : هو بضمّ التاء مبنيّا للمفعول، فهو الرّواية الصّحيحة، فيكون أصله استطلق هو بطنه، فالسّين زائدة؛ لا للطّلب قال الحافظ ابن حجر: استطلق- بضمّ المثنّاة؛ وسكون الطّاء المهملة؛ وكسر اللّام بعدها قاف- أي: كثر خروج ما فيه يريد الإسهال.
(فقال: «اسقه عسلا) صرفا، أو ممزوجا، وعند الإسماعيليّ:«اسقه العسل» ، واللّام عهديّة، والمراد: عسل النّحل، لكونه المشهور عندهم؛ قاله الحافظ «ابن حجر» .
(فذهب، ثمّ رجع؛ فقال: قد سقيته عسلا فلم يغن عنه شيئا؟!) ؛ أي: لم
وفي لفظ: فلم يزده إلّا استطلاقا (مرّتين أو ثلاثا) - كلّ ذلك يقول له: «اسقه عسلا» ، فقال له في الثّالثة أو الرّابعة:«صدق الله، وكذب بطن أخيك» ، ثمّ سقاه، فبرأ بإذن الله تعالى.
يبرأ. (وفي لفظ) : فسقاه العسل، فلم ينجع، فأتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: إنّي سقيته (فلم يزده إلّا استطلاقا؟!) بعد السّقيّ؛ لجذبه الأخلاط الفاسدة، وكونه أقلّ من كميّة تلك الأخلاط، فلم يدفعها بالكلية (مرّتين أو ثلاثا) يترّدد إليه (كلّ ذلك يقول له:«اسقه عسلا» .
فقال له في) المرّة (الثّالثة أو الرّابعة: «صدّق الله) في قوله: فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ [69/ النحل](وكذب) ؛ أي: أخطأ (بطن أخيك» ) . حيث لم يصلح لقبول الشّفاء، لكثرة المادّة الفاسدة التي فيه، ولذا أمره بمعاودة شرب العسل، لاستفراغها، فلمّا كرّر ذلك برأ.
وفي رواية لمسلم: فقال له ثلاث مرّات: إنّي سقيته فلم يزده إلّا استطلاقا؟! ثمّ جاء الرّابعة فقال: «اسقه عسلا» . فقال: سقيته فلم يزده إلّا استطلاقا؟! فقال:
«صدق الله، وكذب بطن أخيك!!» ففي هذه الرّواية: أنه قال ذلك بعد الرّابعة!
قال الحافظ «ابن حجر» : والأرجح أنّه قاله بعد الثّالثة.
(ثمّ سقاه فبرأ) - بفتح الرّاء والهمزة- بوزن: قرأ، وهي: لغة أهل الحجاز، وغيرهم يقول: برىء بكسر الراء؛ بوزن علم؛ كما في «الفتح» .
(بإذن الله تعالى» ) لأنّه لما تكرّر استعمال الدّواء قاوم الدّاء فأذهبه.
قال في «المواهب» : وفي قوله: «وكذب بطن أخيك» إشارة إلى أنّ هذا الدّواء نافع، وأنّ بقاء الدّاء ليس لقصور الدّواء في الشّفاء، ولكن لكثرة المادّة الفاسدة، فمن ثمّ أمره بمعاودة شرب العسل، لاستفراغها!! فشفي لمّا استفرغت، فاعتبار مقادير الأدوية، وكيفيّاتها، ومقدار قوّة المرض والمريض من أكبر قواعد الطّبّ.
وفي «سنن ابن ماجه» : عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا: «من لعق العسل ثلاث غدوات كلّ شهر.. لم يصبه عظيم من البلاء» .
قال في «زاد المعاد» : وليس طبّه صلى الله عليه وسلم كطبّ الأطبّاء؟؟ فإنّ طبّه عليه الصلاة والسلام متيقّن قطعيّ إلهيّ؛ صادر عن الوحي، ومشكاة النّبوّة، وكمال العقل، وطبّ غيره حدس وظنون وتخمين وتجارب. انتهى بزيادة من «شرح البخاري» .
(وفي «سنن ابن ماجه» ) في كتاب «الطّبّ» قال: حدّثنا محمود بن خداش؛ قال: حدّثنا سعيد بن زكريا القرشيّ؛ قال: حدّثنا الزّبير بن سعيد الهاشميّ؛ عن عبد الحميد بن سالم.
(عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه) قال في «الميزان» ؛ عن البخاري:
لا يعرف لعبد الحميد سماع من أبي هريرة؟! وفي «الزّوائد» : إسناده ليّن!! ومع ذلك هو منقطع! وأورده ابن الجوزي في «الموضوعات» وقال: الزّبير ليس بثقة.
وقال العقيلي: ليس لهذا الحديث أصل. ولم يتعقّبه السّيوطيّ سوى بأنّ له شاهدا، وهو ما رواه أبو الشّيخ في «الثّواب» ؛ عن أبي هريرة مرفوعا:«من شرب العسل ثلاثة أيّام في كلّ شهر على الرّيق عوفي من الدّاء الأكبر: الفالج، والجذام والبرص» . انتهى. «مناوي» مع زيادة.
(مرفوعا) إلى النّبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: ( «من لعق) بابه فهم؛ كما في «المختار» أي: لحس (العسل) النّحل- وهو يذكّر ويؤنّث. وأسماؤه تزيد على المائة- (ثلاث غدوات) - بضمّ فسكون «1» - (كلّ شهر) . قال الطّيبيّ: صفة ل «غدوات» أي: غدوات كائنة في كلّ شهر، أي: ثلاثة أيّام في كلّ شهر.
(لم يصبه عظيم من البلاء» ) ، لما في العسل من المنافع الدّافعة للأدواء، إذ
(1) الذي في «المختار» و «الأساس» : بفتحتين سواء كان جمع غداء أو غدا؟! (عبد الجليل) .
وفي أثر آخر: «عليكم بالشّفاءين: العسل،
…
هو غذاء من الأغذية، ودواء من الأدوية، وشراب من الأشربة!، وحلوى من الحلاوات!، وطلاء من الأطلية!، ومفرح من المفرحات!! فيطلب لعق العسل النّحل في كلّ شهر ثلاثة أيّام منه؛ في أوّله، أو أثنائه. وتخصيص الثّلاث!! لسرّ علمه الشّارع. انتهى شروح «الجامع الصّغير» .
(وفي أثر آخر) أخرجه ابن ماجه، والحاكم في «الطّبّ» ؛ عن ابن مسعود مرفوعا إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقال الحاكم: إنّه على شرط الشّيخين- وأخرجه ابن أبي شيبة، والحاكم أيضا مرقوفا على ابن مسعود، ورجاله رجال الصّحيح.
وقال البيهقيّ في «الشّعب» : الصّحيح أنّه موقوف على ابن مسعود رضي الله تعالى عنه.
( «عليكم) ؛ أي: الزموا التّداوي (بالشّفاءين) ، قال تعالى في العسل فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ [69/ النحل] وقال في القرآن وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ [82/ الإسراء] فالشّفاء ثابت لكلّ بنصّ القرآن.
(العسل) النحل وهو لعابها.
وله منافع كثيرة، منها: أنه ينفع البشرة وينعّمها، وإن اكتحل به جلا البصر، وإذا استنّ به بيّض الأسنان؛ وصقلها؛ وحفظ صحّتها؛ وصحّة اللّثّة؛ وإذا تغرغر به نفع من أورام الحلق، ومن الخنّاق، ويوافق السّعال البلغميّ، ويدرّ البول، ويليّن البطن، ويفتح سددها، ويفتح أفواه العروق، ويدرّ الطّمث، وينفع من لسع العقرب، ومن نهش الهوام ذوات السّموم، ومن عضّة الكلب، ولعقه على الرّيق يذيب البلغم، ويدفع الفضلات، ويغسل خمل المعدة، ويشدّها، ويسخّنها باعتدال، ويفتح سددها، ويفعل مثل ذلك بالكبد؛ والكلى؛ والمثانة.
وقد كان النّبي صلى الله عليه وسلم يشرب كلّ يوم قدح عسل ممزوجا بالماء على الرّيق.
فهذه حكمة عجيبة في حفظ الصّحّة؛ لا يعقلها إلّا العالمون!.
والقرآن»
وقد كان بعد ذلك يغتذي بخبز الشّعير مع الملح، أو الخلّ؛ أو نحوه، ويصابر شظف العيش، فلا يضرّه!! لما سبق له من الإصلاح.
وقد كان عليه الصلاة والسلام يراعي في حفظ صحّته أمورا فاضلة جدّا، منها، تقليل الغذاء، وتجنّب التّخم، ومنها شرب بعض المنقوعات يلطّف بها غذاءه، كنقيع التّمر؛ أو الزّبيب؛ أو الشّعير؛ ومنها استعمال الطّيب، وجعل المسك في مفرقه، والادّهان والاكتحال.
وكان عليه الصلاة والسلام يغذّي روح الدّماغ والقلب بالمسك، وروح الكبد والقلب بماء العسل، فما أتقن هذا التدبير، وما أفضله!!. انتهى «عزيزي» .
وقال «الزّرقاني» : أصلح العسل الرّبيعيّ، ثمّ الصّيفي. وأمّا الشّتائي فرديء، وما يؤخذ من الجبال والشّجر أجود ممّا يؤخذ من الخلايا. وهو بحسب مرعاه. ومن العجيب أنّ النّحل يأكل من جميع الأزهار، ولا يخرج منه إلا حلو مع أنّ أكثر ما يجنيه مرّ. انتهى.
(والقرآن» ) جمع بين الطّبّ البشريّ والطّبّ الإلهيّ، وبين الفاعل الطّبيعيّ والفاعل الرّوحانيّ، وبين طبّ الأجساد وطبّ الأرواح، وبين السّبب الأرضيّ والسّبب السّماويّ.
وشفاء القرآن بحسب إزالته للرّيب، وكشف غطاء القلب؛ لفهم المعجزات، والأمور الدّالّة على الله المقرّرة لشرعه.
قال «ابن القيّم» : جماع أمراض القلب الشّبهات والشّهوات. والقرآن شفاء لهما، ففيه من البيّنات؛ والبراهين القطعيّة؛ والدّلالة على المطالب العالية ما لم يتضمّنه كتاب سواه، فهو الشّفاء بالحقيقة، لكنّ ذلك موقوف على فهمه وتقرير المراد منه.
ويحتمل أن يريد بالشّفاء: نفعه من الأمراض بالرّقى والتّعويذ ونحوه، كما في
وعن أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطّاعون
…
الرّقية ب «فاتحة الكتاب» وب «المعوّذتين» وغير ذلك.
وممّا جرّب نفعه للاستشفاء أن يكتب آيات الشّفاء وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14)[التوبة] . وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ [57/ يونس] . يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ [69/ النحل] . وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [82/ الإسراء] . وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)[الشعراء] . قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ [44/ فصّلت] .
ثم يكتب: بسم الله الرّحمن الرّحيم قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)[الإخلاص] ، إي والله، إي والله، إي والله اللَّهُ الصَّمَدُ (2)[الإخلاص] ، إي والله، إي والله، إي والله لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3)[الإخلاص] ، لا والله، لا والله، لا والله وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)[الإخلاص] ، لا والله، لا والله، لا والله. ربّ النّاس أذهب الباس، اشف أنت الشّافي، لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما، وصلّى الله على سيّدنا محمّد، وعلى آله وصحبه وسلّم في إناء نظيف، ويسقى للمريض.
انتهى. من شروح «الجامع الصّغير» .
(و) أخرج البخاريّ في «ذكر بني إسرائيل والطّبّ وترك الحيل» ، ومسلم في «الطّبّ» وكذا النّسائي كلّهم؛
(عن أسامة بن زيد) الحبّ بن الحبّ (رضي الله تعالى عنهما قال) ؛ وقد سأله سعد بن أبي وقّاص: ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطاعون؟ قال أسامة:
(قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطّاعون) بوزن فاعول؛ من الطّعن، عدلوا به عن أصله، ووضعوه دالّا على الموت العامّ كالوباء. ويقال: طعن؛ فهو مطعون وطعين؛ إذا أصابه الطّاعون، وإذا أصابه الطّعن بالرّمح.
والطّاعون: ورم رديء قتّال، يخرج معه تلهّب شديد مؤلم جدّا يتجاوز المقدار
رجز أرسل على طائفة من بني إسرائيل، وعلى من كان قبلكم،
…
في ذلك، ويصير ما حوله- في الأكثر- أسود، أو أخضر، أو أكمد، ويؤول أمره إلى التّقرّح سريعا.
وفي الأكثر يحدث في ثلاثة مواضع: في الإبط، وخلف الأذن والأربيّة «1» ، وفي اللّحوم الرّخوة.
ويحصل معه خفقان وغثيان وقيء، وقد يخرج في الأيدي والأصابع وسائر الجسد.
وأردؤه: ما حدث في الإبط، وخلف الأذن. والأسود منه قلّ من يسلم منه!! وأسلمه الأحمر، ثمّ الأصفر.
(رجز) - بالزّاي على المعروف. - أي: عذاب.
قال النّووي في «شرح مسلم» : وهذا الوصف بكونه عذابا مختصّ بمن كان قبلنا. وأمّا هذه الأمّة! فهو لها رحمة وشهادة، ففي «الصّحيحين» قوله صلى الله عليه وسلم:
«المطعون شهيد» ، وفي حديث آخر في غير «الصّحيحين» :«إنّ الطّاعون كان عذابا يبعثه الله على من يشاء، فجعله رحمة للمؤمنين، فليس من عبد يقع الطّاعون؛ فيمكث في بلده صابرا يعلم أنّه لن يصيبه إلّا ما كتب الله له؛ إلّا كان له مثل أجر شهيد» .
وفي حديث آخر: «الطّاعون شهادة لكلّ مسلم، وإنّما يكون شهادة لمن صبر» ؛ كما بيّنه في الحديث المذكور. انتهى كلام «النّوويّ» .
(أرسل على طائفة من بني إسرائيل) لمّا كثر طغيانهم، (وعلى من كان قبلكم) كذا في نسخ المصنّف: بالواو تبعا ل «المواهب» .
قال الزّرقاني: والّذي في «الصّحيحين» : إنما هو ب «أو» قال الحافظ ابن حجر: بالشّكّ من الرّاوي.
(1) أصل الفخذ، أو ما بين أعلاه وأسفل البطن «قاموس» .
.........
وفي رواية ابن خزيمة بالجزم؛ بلفظ: «رجز سلّط على طائفة من بني إسرائيل» . والتّنصيص عليهم أخصّ، فإن كان ذلك المراد؛ فكأنّه أشار بذلك إلى ما جاء في قصّة «بلعام» ، فأخرج الطّبريّ من طريق سليمان التّيمي- أحد صغار التّابعين- عن سيّار: أن رجلا كان يقال له «بلعام» كان مجاب الدّعوة، وإنّ موسى أقبل في بني إسرائيل يريد الأرض التي فيها «بلعام» !!، فأتاه قومه فقالوا: ادع الله عليهم!! فقال: أؤآمر ربّي! فمنع، فأتوه بهديّة؛ فقبلها!! وسألوه ثانيا. فقال:
حتّى أؤآمر ربّي؟ فلم يرجع إليه بشيء!؟ فقالوا: لو كره لنهاك فدعا عليهم؛ فصار يجري على لسانه ما يدعو به على بني إسرائيل فينقلب على قومه، فلاموه على ذلك؟ فقال: سأدلّكم على ما فيه هلاكهم: أرسلوا النّساء في عسكرهم، ومروهنّ لا يمتنعن من أحد، فعسى أن يزنوا؛ فيهلكوا؟ فكان فيمن خرج بنت الملك فأرادها بعض الأسباط، وأخبرها بمكانه؛ فمكّنته من نفسها!! فوقع في بني إسرائيل الطّاعون، فمات منهم سبعون ألفا في يوم، وجاء رجل من بني هارون ومعه الرّمح فطعنها، وأيّده الله فانتظمها جميعا» .
وهذا مرسل جيّد، وسيار شاميّ موثّق.
وذكر الطّبريّ- أيضا- هذه القصّة؛ عن محمّد بن إسحاق؛ عن سالم أبي النّضر بنحوه، وسمّى المرأة «كشتاء» - بفتح الكاف؛ وسكون المعجمة؛ وفوقية- والرجل «زمري» - بكسر الزّاي، وسكون الميم، وكسر الرّاء- رأس سبط شمعون. والّذي طعنهما «فنحاص» - بكسر الفاء، وسكون النون؛ ثمّ مهملة؛ فألف؛ فمهملة- ابن هارون. وقال في آخره: فحسب من هلك من الطّاعون سبعون ألفا!! والمقلّل يقول: عشرون ألفا! وهذه الطّريق تعضد الأولى.
وذكر ابن إسحاق في «المبتدأ» : أنّ بني إسرائيل لما كثر عصيانهم؛ أوحى الله إلى داود فخيّرهم بين ثلاث: إمّا أن أبتليهم بالقحط سنتين؟، أو العدوّ شهرين؟
أو الطّاعون ثلاثة أيّام؟؟ فأخبرهم، فقالوا: اختر لنا. فاختار الطّاعون، فمات
فإذا سمعتم به بأرض.. فلا تدخلوا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها.. فلا تخرجوا منها فرارا منه» .
منهم- إلى أن زالت الشّمس- سبعون ألفا؟! وقيل: مائة ألف. فتضرّع داود إلى الله؛ فرفعه.
وورد وقوع الطّاعون في غير بني إسرائيل، فيحتمل أنّه المراد بقوله «أو من كان قبلكم» .
من ذلك ما أخرجه الطّبريّ وابن أبي حاتم؛ عن سعيد بن جبير، قال: أمر موسى بني إسرائيل: أن يذبح كلّ رجل منهم كبشا، ثمّ يخضب كفّه في دمه، ثم يضرب به على بابه!! ففعلوا، فسألهم القبط عن ذلك؟ فقالوا: إنّ الله يبعث عليكم عذابا، وإنّنا ننجو منه لهذه العلامة، فأصبحوا وقد مات من قوم فرعون سبعون ألفا!! فقال فرعون- عند ذلك- لموسى: ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ.. الآية [134/ الأعراف] . فدعا؛ فكشفه عنهم. وهذا مرسل جيّد الإسناد.
وأخرج عبد الرزّاق في «تفسيره» ، وابن جرير عن الحسن؛ في قوله تعالى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ [243/ البقرة] قال: فرّوا من الطّاعون، فقال لهم الله: موتوا، ثمّ أحياهم؛ ليكملوا بقيّة آجالهم.
فأقدم من وقفنا عليه- في المنقول- ممّن وقع الطّاعون به من بني إسرائيل في قصّة «بلعام» ، ومن غيرهم: في قصّة فرعون، وتكرّر بعد ذلك لغيرهم. انتهى.
(فإذا سمعتم به بأرض؛ فلا تدخلوا عليه) لأنّه تهوّر؛ وإقدام على خطر، وإلقاء إلى التّهلكة، كمن أراد دخول دار؛ فرأى فيها حريقا تعذّر طفؤه، فعدل عن دخولها لئلّا يصيبه، وليكون ذلك أسكن للنّفس، وأطيب للعيش، ولئلا يقعوا في اللّوم المنهيّ عنه، بلوم أنفسهم؛ فيما لا لوم فيه، لأن الباقي والنّاهض لا يتجاوز واحد منهم أجله.
(وإذا وقع بأرض؛ وأنتم بها فلا تخرجوا منها، فرارا منه» ) لأنّه فرار من
.........
القدر، فالأوّل تأديب وتعليم، والثّاني تفويض وتسليم.
قال ابن عبد البرّ: النّهي عن الدّخول لدفع ملامة النّفس، وعن الخروج للإيمان بالقدر. انتهى.
والأكثر على أنّ النّهي عن الفرار منه للتّحريم. وقيل: للتّنزيه. ومفهوم الحديث جوازه لشغل عرض غير الفرار، وحكي عليه الاتفاق.
قال الحافظ ابن حجر: ولا شكّ أنّ الصّور ثلاث:
1-
من خرج لقصد الفرار محضا، فهذا يتناوله النّهي؛- لا محالة-.
و2- من خرج لحاجة متمحّضة، لا لقصد الفرار أصلا، ويتصوّر ذلك فيمن تهيّأ للرّحيل من بلد إلى بلد كان بها إقامته- مثلا- ولم يكن الطّاعون وقع؛ فاتّفق وقوعه أثناء تجهّزه، فهذا لم يقصد الفرار أصلا فلا يدخل في النهي.
الثّالث: من عرضت له حاجة فأراد الخروج إليها، وانضمّ إلى ذلك أنه قصد الرّاحة من الإقامة بالبلد التي وقع بها الطّاعون؟ فهذا محلّ النّزاع، كأن تكون الأرض الّتي وقع بها وخمة والأرض الّتي يتوجّه إليها صحيحة؛ فتوجّه بهذا القصد إليها!!. فمن منع نظر إلى صورة الفرار في الجملة. ومن أجاز نظر إلى أنه لم يتمحّض القصد للفرار، وإنّما هو لقصد التّداوي. انتهى.
وقد ذكر العلماء في النّهي عن الخروج حكما:
منها أنّ الطّاعون يكون في الغالب عامّا في البلد- الّذي يقع فيه، فإذا وقع؟
فالظّاهر مداخلة سببه لمن هو بها؛ فلا يفيده الفرار، لأنّ المفسدة إذا تعيّنت حتّى لا يقع الانفكاك عنها كان الفرار عبثا؛ فلا يليق بالعاقل.
ومنها أنّ النّاس لو تواردوا على الخروج؛ لصار من عجز عنه بالمرض المذكور، أو بغيره، أو الكبر ضائع المصلحة، لفقد من يتعهّده حيّا وميتا وأيضا لو شرع الخروج فخرج، الأقوياء؛ لكان في ذلك كسر قلوب الضّعفاء الّذين لا يقدرون على الخروج.
وروي هذا الحديث
…
ومنها ما ذكره بعض الأطبّاء: أن المكان الّذي يقع به الوباء؛ تتكيّف أمزجة أهله بهواء تلك البقعة؛ فتألفها، ويصير لهم كالأهوية الصّحيحة لغيرهم. فلو انتقلوا إلى الأماكن الصحيحة؛ لم توافقهم! بل ربّما إذا استنشقوا هواءها، استصحب معه إلى القلب؛ من الأبخرة الرّديّة، الّتي حصل تكيّف بدنها بها، فأفسدته!؟ فمنع من الخروج لهذه النّكتة.
ومنها أنّ الخارج يقول: لو أقمت لأصبت بالطّاعون!! والمقيم يقول: لو خرجت لسلمت! فيقع في «اللّو» المنهيّ عنه، بقوله صلى الله عليه وسلم:«إيّاك» و «لو» ؛ «فإنّ لو من الشّيطان» . رواه مسلم. انتهى. من «المواهب» وشرحها.
فإن قيل: ظاهر الحديث ليس فيه طبّ من الطّاعون؟ وإنّما فيه نهيه عن الخروج والدّخول؟
والجواب: أنّه نهي شرعيّ، مشتمل على طبّ بدنيّ، لأن النّبي صلى الله عليه وسلم جمع للأمّة في نهيه عن الدّخول إلى الأرض، الّتي هجر بها، ونهيه عن الخروج منها، بعد وقوعه جمع لها كمال التّحرّز منه، لأن في الدّخول في الأرض الّتي هو بها تعرّضا للبلاء، وتجنّب الدّخول من باب الحمية الّتي أرشدنا الله إليها، وهي حمية عن الأمكنة، والأهوية المؤذية، كما أنّ نهيه عن الخروج من بلده؛ فيه حمل النّفوس على الثّقة بالله والتّوكّل عليه، والصّبر على أقضيته؛ والرّضا بها.
فظهر المعنى الطّبّي من الحديث النّبويّ، وما فيه من علاج القلب والبدن، وصلاحهما؛ كما ذكره ابن القيّم رحمه الله تعالى.
(و) قد (روي) - ببناء المجهول- (هذا الحديث) ؛ أي: حديث الطّاعون، الّذي رواه أسامة المذكور؛ وليس المراد بصيغة التّمريض الإشارة إلى ضعف الحديث؟ بل القصد بها الاختصار بحذف راويه، لأنّ الحديث صحيح؛ رواه البخاريّ في «الطّبّ والحيل» ، ومسلم في «الطّبّ» ، وأبو داود في «الجنائز» .
عن عبد الرّحمن بن عوف أيضا رضي الله تعالى عنه.
(عن عبد الرّحمن بن عوف) الزّهري (أيضا رضي الله تعالى عنه) ، ولفظه كما في مسلم؛ عن عبد الله بن عبّاس رضي الله تعالى عنهما- أنّ عمر بن الخطّاب خرج إلى الشّام، حتّى إذا كان ب «سرغ» لقيه أمراء الأجناد: أبو عبيدة بن الجّراح وأصحابه، فأخبروه أنّ الوباء قد وقع بالشّام، قال ابن عبّاس: فقال عمر: ادع لي المهاجرين الأوّلين. فدعوتهم؛ فاستشارهم؛ وأخبرهم أنّ الوباء قد وقع بالشّام! فاختلفوا؛ فقال بعضهم: قد خرجت لأمر، ولا نرى أن ترجع عنه؟! وقال بعضهم: معك بقيّة النّاس، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء!! فقال: ارتفعوا عنّي.
ثمّ قال: ادع لي الأنصار. فدعوتهم له، فاستشارهم؛ فسلكوا سبيل المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم!! فقال: ارتفعوا عنّي!!
ثمّ قال: ادع لي من كان هنا من مشيخة قريش؛ من مهاجرة الفتح!! فدعوتهم؛ فلم يختلف عليه رجلان!! فقالوا: نرى أن ترجع بالنّاس، ولا تقدمهم على هذا الوباء.
فنادى عمر في النّاس: إنّي مصبح على ظهر؛ فأصبحوا عليه!.
فقال أبو عبيدة بن الجرّاح: أفرارا من قدر الله!؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة!! - وكان عمر يكره خلافه- نعم نفرّ من قدر الله إلى قدر الله. أرأيت لو كانت لك إبل فهبطت واديا له عدوتان: إحداهما خصبة، والآخرى جدبة؛ أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله؟؟! وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟؟!.
قال: فجاء عبد الرّحمن بن عوف- وكان متغيّبا في بعض حاجته- فقال: إنّ عندي من هذا علما!! سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه!!
قال: فحمد الله عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه ثمّ انصرف. انتهى.
وفي «سنن أبي داود» مرفوعا: «إنّ من القرف التّلف» .
قال ابن قتيبة: (القرف) مداناة الوباء، ومداناة المرضى.
وفي «صحيح البخاريّ» :
…
(وفي «سنن أبي داود» ) السّجستانيّ في كتاب «الطّبّ» (مرفوعا) ولفظه:
حدّثنا مخلد بن خالد، وعبّاس العنبري؛ قالا: حدّثنا عبد الرّزاق؛ قال:
أخبرنا معمر؛ عن يحيى بن عبد الله بن بحير، قال: أخبرني من سمع فروة بن مسيك رضي الله تعالى عنه قال: قلت: يا رسول الله أرض عندنا يقال لها أرض «أبين» هي أرض ريفنا وميرتنا، وإنها وبيئة، أو قال: وباؤها شديد؟؟ فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «دعها عنك ف (إنّ من القرف) - بفتحتين-: ملابسة الدّاء، ومداناة المرض» ، كما سيأتي تفسيره في المتن عن المصنّف:(التّلف» ) ؛ أي:
الهلاك، وليس هذا من باب العدوى؟! وإنّما هو: من باب الطّبّ، فإنّ استصلاح الهواء من أعون الأشياء على صحّة الأبدان، وفساد الهواء من أسرع الأشياء إلى الأسقام؛ قاله في «النّهاية» .
(قال) الإمام أبو محمّد عبد الله بن مسلم (بن قتيبة) الدّينوري.
ولد سنة ثلاث عشرة ومائتين ببغداد، وسكن الكوفة، ثمّ ولي قضاء «الدّينور» مدة فنسب إليها، وتوفّي ببغداد سنة: ستّ وسبعين ومائتين، وهو من المصنّفين المكثرين؛ له كتاب «أدب الكاتب» ، و «تأويل مختلف الحديث» ، و «مشكل القرآن» ، و «المشتبه من الحديث والقرآن» وغيرها رحمه الله تعالى قال:
(القرف) - بفتح القاف والرّاء آخره فاء هو: (مداناة الوباء) ؛ أي:
مقاربته، وكلّ شيء قاربته؛ فقد قارفته (ومداناة المرضى) جمع مريض، أي:
القرب منهم، ومخالطتهم؛ وملاصقتهم. والله أعلم.
(وفي «صحيح) الإمام (البخاريّ» ) رحمه الله تعالى، وكذا رواه الإمام
عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «الشّفاء في ثلاث: شربة عسل، وشرطة محجم، وكيّة نار.
وأنهى أمّتي عن الكيّ» .
أحمد، وابن ماجه (عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما؛ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:
«الشّفاء في ثلاث) الحصر المستفاد من تعريف المبتدأ «ادّعائيّ» . بمعنى: أنّ الشّفاء في هذه الثّلاثة بلغ حدّا كأنّه انعدم به من غيرها، ولم يرد الحصر الحقيقيّ!! فإنّ الشّفاء قد يكون في غيرها! وإنّما نبّه بها على أصول العلاج:
(شربة) - بالجرّ؛ بدل من سابقه- (عسل) نحل، لأنّه مسهّل للأخلاط البلغميّة، (وشرطة محجم) يتفرّغ بها الدّم الّذي هو أعظم الأخلاط عند هيجانه؛ لتبريد المزاج، والمحجم- بكسر الميم؛ وسكون المهملة؛ وفتح الجيم-: الآلة التي يجمع فيه دم الحجامة عند المصّ، ويراد به هنا: الحديدة التي يشرط بها موضع الحجامة. يقال: شرطة الحاجم: إذا ضرب موضع الحجامة، لإخراج الدّم وقد تتناول الفصد.
وأيضا: الحجامة في البلاد الحارّة أنفع من الفصد، والفصد في البلاد الّتي ليست بحارّة أنجح من الحجم. انتهى «قسطلّاني» .
(وكيّة نار) تستعمل في الخلط الباغي، الّذي لا تنحسم مادّته إلّا به، فهو خاصّ بالمرض المزمن، لأنّه يكون من مادّة باردة قد تفسد مزاج العضو! فإذا كوي خرجت منه. وآخر الدّواء الكيّ. و «كيّة» مضافة لتاليها.
(وأنهى أمّتي) نهي تنزيه (عن الكيّ» ) لما فيه من الألم الشّديد، والخطر العظيم.
وكانوا يبادرون إليه قبل حصول الاضطرار إليه؛ يستعجلون بتعذيب الكيّ لأمر مظنون! فنهى صلى الله عليه وسلم أمّته عنه لذلك، وأباح استعماله على جهة طلب الشّفاء من الله تعالى.
وفي «سنن ابن ماجه» : عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما مررت ليلة أسري بي بملأ..
إلّا قالوا: يا محمّد؛ مر أمّتك بالحجامة»
…
وأخذ من إثباته الشّفاء في الكيّ، وكراهته له؛ أنه لا يترك مطلقا، ولا يستعمل مطلقا، بل عند تعيّنه طريقا إلى الشّفاء، مع مصاحبة اعتقاد أنّ الشّفاء بإذن الله تعالى
وعلى هذا التّفصيل يحمل حديث المغيرة: «من اكتوى واسترقى برىء من التّوكّل» والله أعلم. انتهى شروح «الجامع الصّغير» .
(وفي «سنن ابن ماجه) محمد بن يزيد القزويني رحمه الله تعالى قال: حدّثنا جبارة بن المغلّس؛ قال: حدّثنا كثير بن سليم؛ (عن أنس) ؛ أي: ابن مالك لأنّه المراد عند إطلاق لفظ «أنس» ، فإذا أريد غيره قيّد (رضي الله تعالى عنه) ، وهو حديث منكر، لأنّ فيه كثير بن سليم الضّبيّ ضعّفوه- كما في «الميزان» وعدّوا من مناكيره هذا-؛ قاله المناوي.
ورواه التّرمذيّ؛ عن ابن مسعود بمخالفة يسيرة، وفي سنده راو مضعّف، وقال التّرمذيّ: حسن غريب، من حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه.
(قال) ؛ أي: أنس: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما مررت ليلة أسري بي) إلى السّماء (بملأ) ؛ أي: جماعة (إلّا قالوا: يا محمّد؛ مر أمّتك بالحجامة) ؛ لأنهم من بين الأمم كلّهم أهل يقين، فإذا اشتعل نور اليقين في القلب ومعه حرارة الدّم؛ أضرّ بالقلب وبالطّبع.
وقال التّوربشّتي: وجه مبالغة الملائكة في الحجامة سوى ما عرف منها من المنفعة العائدة على الأبدان: أنّ الدّم مركّب من القوى النّفسانيّة الحائلة بين العبد؛ وبين التّرقّي إلى الملكوت الأعلى، والوصول إلى الكشوف الرّوحانية وغلبته تزيد جماح النّفس وصلابتها، فإذا نزف الدّم أورثها ذلك خضوعا وجمودا ولينا ورقّة، وبذلك تنقطع الأدخنة المنبعثة عن النّفس الأمّارة، وتنحسم مادّتها؛ فتزداد البصيرة نورا إلى نورها. انتهى «مناوي» .
ورواه التّرمذيّ: عن ابن عبّاس بلفظ: «عليك بالحجامة يا محمّد» .
وقد روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «خير ما تداويتم به.. الحجامة والفصد» .
وفي حديث: «خير الدّواء.. الحجامة والفصد» .
(ورواه) الإمام أحمد، و (التّرمذيّ) مطوّلا، وابن ماجه، والحاكم؛ (عن ابن عبّاس) رضي الله تعالى عنهما، وفي سنده عبّاد بن منصور النّاجي: ضعّفه أبو حاتم، وليّنه أبو زرعة، وفي «التقريب» : إنّه صدوق رمي بالقدر، وكان يدلّس، وتغيّر بأخرة. وفي «الخلاصة» : قال القطّان: ثقة؛ لا ينبغي أن يترك حديثه لرأي أخطأ فيه. يعني: القدر. انتهى. ولذلك قال التّرمذيّ فيه: حديث حسن غريب، لا نعرفه إلّا من حديث عبّاد بن منصور. وقال الحاكم: صحيح.
وأقرّه الذّهبيّ.
(بلفظ: «عليك بالحجامة يا محمّد» ) ؛ أي: الزمها ومر أمّتك بها. كما تقدّم-.
وذلك دلالة على عظيم فضلها، وبركة نفعها، وإعانتها على التّرقّي في الملكوت الأعلى- كما تقدم آنفا-.
(وقد روي) بسند ضعيف، وفي «العزيزي» : أنّه حديث حسن لغيره، رواه أبو نعيم في «الطّبّ النّبويّ» ؛ عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه (عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال:
«خير ما) ؛ أي: دواء (تداويتم به: الحجامة) سيّما في البلاد الحارّة، (والفصد) والحجامة أنفع لأهل البلاد الحارّة، والفصد لغيرهم أنفع.
(وفي حديث) آخر رواه أبو نعيم أيضا بسند ضعيف في كتاب «الطّبّ النّبويّ» ؛ عن عليّ رضي الله تعالى عنه بلفظ:
( «خير الدّواء الحجامة والفصد» ) لمن لاق به ذلك وناسب حاله مرضا؛ وسنا؛ وقطرا؛ وزمنا، وغير ذلك.
وروى التّرمذيّ في «جامعه» : عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما يرفعه: «إنّ خير ما تحتجمون فيه يوم سابع عشرة، أو تاسع عشرة، ويوم إحدى وعشرين» .
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا: «من احتجم يوم الأربعاء، أو يوم السّبت؛ فأصابه بياض، أو برص.. فلا يلومنّ إلّا نفسه» .
(وروى) الإمام أحمد، و (التّرمذيّ في «جامعه» ) كتاب «الطّبّ» ، والحاكم في «المستدرك» كلّهم؛ من طريق عبّاد بن منصور المذكور قريبا.
وما قيل فيه سابقا يقال هنا، لأنّه حديث واحد، ذكر هنا قطعة منه حيث قال:
(عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما يرفعه) إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: ( «إنّ خير ما تحتجمون فيه: يوم سابع عشرة) من الشّهر، (أو تاسع عشرة) منه، (ويوم إحدى وعشرين) منه لا سيّما إذا وافق يوم الإثنين!! فإنّه أجود أيّام الحجامة.
و «عشرين» في هذه الرّواية- بالنّصب- والجيّد أن يكون مرفوعا، لأنّه خبر، فيتكلّف له تقدير ناصب، مثل: وترى الأخيرية إحدى وعشرين؛ قاله الحفني على «الجامع الصغير» .
(و) روى الخلّال؛ عن أبي سلمة، وأبي سعيد المقبري؛ (عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا) إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:
( «من احتجم يوم الأربعاء؛ أو يوم السّبت، فأصابه بياض؛ أو برص، فلا يلومنّ إلّا نفسه» ) فإنّه الّذي عرّض جسده لذلك، وتسبّب فيه.
روى الدّيلمي؛ عن أبي جعفر النّيسابوري؛ قال: قلت يوما «هذا الحديث غير صحيح» ، فافتصدت يوم الأربعاء؛ فأصابني برص!! فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النّوم فشكوت إليه؟! فقال:«إيّاك والاستهانة بحديثي» .. فذكره.
وروى الدّارقطنيّ
…
وقد كره الإمام أحمد الحجامة يوم السّبت والأربعاء لهذا الحديث.
والظّاهر أنّ الفصد مثل الحجامة في اجتنابه في الأيّام المنهيّ عنها. والله أعلم.
ورواه أيضا الحاكم، والبيهقي في «سننه» ؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه:
«من احتجم يوم الأربعاء، أو يوم السّبت؛ فرأى في جسده وضحا «1» !؟ فلا يلومنّ إلا نفسه» . قال الحاكم: صحيح، وردّه الذّهبيّ؛ بأنّ فيه سليمان بن أرقم؛ متروك!! وأورده ابن الجوزي في «الموضوعات» ؛ قاله المناوي.
(وروى) الإمام الحافظ؛ وحيد دهره؛ وفريد عصره: عليّ بن عمر بن مهدي: أبو الحسن (الدّارقطنيّ) - بفتح الدّال المهملة، وبعد الألف راء مفتوحة، ثمّ قاف مضمومة، وبعدها طاء مهملة ساكنة، ثمّ نون مكسورة آخره ياء، نسبة إلى «دار القطن» محلّة كبيرة ببغداد-. الشّافعيّ.
ولد سنة: ست وثلثمائة ب «دار القطن» ، وكان عالما؛ حافظا؛ فقيها على مذهب الإمام الشّافعي، أخذ الفقه عن أبي سعيد الاصطخريّ، وانفرد بالإمامة في علم الحديث في عصره؛ فلم ينازعه في ذلك أحد من نظرائه، وتصدّر في آخر أيّامه للإقراء ببغداد، وكان عارفا باختلاف الفقهاء، وأخذ عنه الحافظ أبو نعيم صاحب «الحلية» وجماعة.
وكانت وفاته سنة: خمس وثمانين وثلثمائة؛ وقد قارب الثّمانين.
وكان متفنّنا في علوم كثيرة؛ وإماما في علوم القرآن، تصدّر في آخر أيّامه للإقراء ببغداد.
وله من المصنّفات: كتاب «السنن» ، وكتاب «العلل» الواردة في الأحاديث
(1) الوضح- بفتحتين-: الضوء والبياض؛ وقد يكنّى به عن البرص ا. هـ «مختار» . (عبد الجليل) .
من حديث نافع قال: لي عبد الله بن عمر: تبيّغ بي الدّم، فأبغني حجّاما، ولا يكن صبيّا، ولا شيخا كبيرا، فإنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الحجامة.. تزيد الحافظ حفظا، والعاقل عقلا،
…
النّبويّة: ثلاث مجلّدات، و «المجتبى من السّنن المأثورة» و «المؤتلف والمختلف في الحديث» ، وكتاب «الضّعفاء» .
وتوفي ببغداد، وصلى عليه الشّيخ أبو حامد الإسفرائينيّ الفقيه المشهور رحمهم الله تعالى. آمين.
روى هذا الحديث في كتاب «الأفراد» ؛ (من حديث) أبي عبد الله (نافع) بن هرمز- ويقال ابن كاوس- سبي وهو صغير فاشتراه عبد الله بن عمر.
وهو تابعيّ جليل سمع سيّده ابن عمر؛ وأبا هريرة؛ وأبا سعيد الخدري؛ وعائشة؛ وغيرهم من الصّحابة والتّابعين.
روى عنه أبو إسحاق السّبيعيّ والزّهريّ، وصالح بن كيسان؛ وغيرهم من التابعين ومن تابع التابعين، سمع منه مالك؛ وابن جريج؛ والأوزاعيّ؛ واللّيث، وخلائق لا يحصون.
وأجمعوا على توثيقه وجلالته. وكان ثقة كثير الحديث.
مات بالمدينة المنورة سنة: سبع عشرة ومائة رحمه الله تعالى.
(قال) ؛ أي: نافع: (قال لي عبد الله بن عمر) بن الخطّاب «مولاه» :
(تبيّغ) - بمثنّاة فوقيّة فموحّدة؛ مفتوحتين، فمثنّاة تحتيّة مشدّدة مفتوحة، فغين معجمة آخره؛ من باب التّفعّل- أي: هاج (بي الدّم) وغلب، وذلك حين تظهر حمرته في البدن.
(فأبغني) يقال: أبغني كذا- بهمزة القطع-؛ أي: أعنّي على الطّلب، وبهمزة الوصل-: أي: اطلب لي (حجّاما، ولا يكن صبيّا، ولا شيخا كبيرا، فإنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الحجامة تزيد الحافظ حفظا، والعاقل عقلا،
فاحتجموا على اسم الله، ولا تحتجموا يوم الخميس، والجمعة، والسّبت، والأحد. واحتجموا يوم الإثنين، وما كان من جذام ولا برص إلّا نزل يوم الأربعاء» .
وقد روى أبو داود في «سننه» : من حديث أبي بكرة رضي الله تعالى عنه: أنّه كان يكره الحجامة يوم الثّلاثاء. وقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يوم الثّلاثاء.. يوم الدّم، فاحتجموا) معتمدين (على اسم الله، ولا تحتجموا يوم الخميس، والجمعة؛ والسّبت؛ والأحد؛ واحتجموا يوم الإثنين، وما كان من جذام، ولا برص إلّا نزل يوم الأربعاء» ) .
قال الدّارقطني: تفرّد بهذا الحديث زياد بن يحيى، وقد رواه أيّوب عن نافع، وقال فيه:«واحتجموا يوم الاثنين والثّلاثاء، ولا تحتجموا يوم الأربعاء» . ذكره ابن القيّم قال:
(وقد روى أبو داود في «سننه» ) ؛ كتاب «الطّبّ» بسند فيه بكّار بن عبد العزيز بن أبي بكرة، قال ابن معين: ليس بشيء، وابن عدي: هو من جملة الضّعفاء الذين يكتب حديثهم. وقال الذّهبيّ: إسناده ليّن، وأمّا زعم ابن الجوزيّ وضعه؟ فلم يوافقوه عليه. انتهى «مناوي» .
(من حديث أبي بكرة) - بفتح الموحّدة-: واسمه نفيع بن الحارث بن كلدة (رضي الله تعالى عنه: أنّه) ؛ أي: أبا بكرة (كان يكره الحجامة يوم الثّلاثاء) لفظ أبي داود: كان ينهى أهله عن الحجامة يوم الثّلاثاء- (وقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يوم الثّلاثاء) - بالمدّ- (يوم الدّم) برفع «يوم» وإضافته إلى الدّم، أي: يوم غلبة الدّم وهيجانه، أي: يفور فيه الدّم، فيحذر من إخراجه فيه بفصد أو غيره؛ لئلّا يصادف وقت فوران الدّم، فلا ينقطع فيموت.
ويحتمل أن يكون المراد «يوم الدّم» : أي: أوّل يوم أريق فيه الدّم بغير حقّ،
وفيه ساعة لا يرقأ» .
فإنّه اليوم الذّي قتل فيه قابيل أخاه هابيل.
(وفيه) ؛ أي: يوم الثلاثاء (ساعة) ؛ أي: لحظة (لا يرقأ) - بهمز آخره- أي: لا ينقطع فيها دم من احتجم أو افتصد، وربما هلك الإنسان فيها بسبب عدم انقطاع الدّم. قال ابن جرير: قال زهير: مات عندنا ثلاثة ممّن احتجم.
وأخفيت هذه السّاعة!! لتترك الحجامة فيه كلّه؛ خوفا من مصادفتها، كما أخفيت ليلة القدر في أوتار العشر الأواخر.
وأخرج الدّيلمي؛ عن أنس مرفوعا: «الحجامة على الرّيق دواء، وعلى الشّبع داء، وفي سبعة عشر من الشّهر شفاء، ويوم الثّلاثاء صحّة للبدن» .
وأخرج ابن سعد، والبيهقيّ- وضعّفه- عن معقل بن يسار؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحجامة يوم الثّلاثاء لسبع عشرة مضت من الشّهر دواء لداء سنة» .
ويجمع بين هذا الاختلاف بحمل طلب الحجامة في الثّلاثاء؛ على ما إذا كان موافقا السّابع عشر من الشّهر. وبحمل التّحذير منها فيه؛ على ما إذا لم يوافق السّابع عشر من الشّهر. والله أعلم.
روى أبو يعلى؛ من حديث الحسين بن علي مرفوعا: «في الجمعة ساعة لا يوافقها رجل يحتجم فيها إلّا مات» .
قال المناوي: يحتمل أنّ المراد به يوم الجمعة، فيكون كيوم الثّلاثاء في ذلك، ويحتمل أنّ المراد الجمعة كلّها يعني: الأسبوع. وأنّ الحديث المشروح عيّن تلك السّاعة، في يوم الثّلاثاء، والأوّل أقرب، ولم أر من تعرّض له. انتهى.
وفي «فتاوي ابن حجر الفقهيّة» قبيل باب «المسابقة والمناضلة» ما نصّه:
وسئل رحمه الله تعالى: هل ورد النّهي عن الحجامة في بعض الأيّام؛ والأمر بها في البعض؟ فأجاب بقوله: نعم، ورد- بل صحّ- النّهي عنها يوم الجمعة؛
وروى التّرمذيّ في «جامعه» وابن ماجه في «سننه» : عن أسماء بنت عميس
…
والسّبت؛ والأحد؛ والأربعاء،!! وفي روايات أخر:«إنّ يوم الثّلاثاء يوم الدّم، وإنّ فيه ساعة لا ينقطع فيها الدّم، وإنّه يخشى منها يوم الأربعاء والسّبت البرص، وأنّ في يوم الجمعة ساعة لا يحتجم فيها أحد إلّا مات» . وصح الأمر بها يوم الخميس والإثنين. والله سبحانه أعلم. انتهى.
قال الباجوري؛ على «الشّمائل التّرمذيّة» : وأفضل الأيّام لها: يوم الإثنين، وأفضل السّاعات لها: السّاعة الثانية والثالثة من النّهار. وينبغي ألاتقع عقب استفراغ؛ أو حمّام؛ أو جماع، ولا عقب شبع؛ ولا جوع، ومحلّ اختيار الأوقات المتقدّمة عند عدم هيجان الدّم. وإلّا وجب استعمالها وقت الحاجة إليها.
انتهى.
(وروى التّرمذيّ في «جامعه» ) وقال: غريب، (وابن ماجه في «سننه» ) ، والإمام أحمد، والحاكم. وقال الذّهبي: صحيح. كلّهم في «الطّبّ» ؛
(عن أسماء بنت عميس) - بعين مهملة مضمومة، ثمّ ميم مفتوحة مخفّفة، ثمّ ياء مثنّاة من تحت ساكنة، ثمّ سين مهملة آخره مصغرا الخثعميّة-.
كانت تحت جعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وهاجرت معه إلى أرض الحبشة، ثمّ قتل عنها يوم مؤتة، وولدت له عبد الله؛ ومحمّدا؛ وعونا.
ثم تزوّجها أبو بكر الصّديق رضي الله تعالى عنه فمات عنها، وولدت له محمّد ابن أبي بكر. ثمّ تزوجها عليّ رضي الله عنه وولدت له يحيى.
روى عنها من الصّحابة: عمر بن الخطّاب، وأبو موسى الأشعريّ، وعبد الله بن عبّاس، وابنها عبد الله بن جعفر. ومن غير الصّحابة: عروة بن الزّبير؛ وعبد الله بن شدّاد.
وأسماء المذكورة أخت ميمونة بنت الحارث «زوج النبي صلى الله عليه وسلم» ، وأخت
رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«بماذا كنت تستمشين؟» ، قالت: بالشّبرم، قال: «حارّ..
حارّ» ، ثمّ قالت: استمشيت بالسّنى
…
أمّ الفضل امرأة العبّاس وأخت أخواتها لأمّهنّ، وكنّ عشر أخوات لأمّ، وقيل:
تسع.
وكانت أسماء المذكورة أكرم النّاس أصهارا، فمن أصهارها: رسول الله صلى الله عليه وسلم وحمزة، والعبّاس وغيرهم.
أسلمت أسماء قديما، قال ابن سعد: أسلمت قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم بن أبي الأرقم بمكة، وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت وفاتها بعد عليّ بن أبي طالب (رضي الله تعالى عنها) وعنهم أجمعين.
(قالت) ؛ أي: أسماء (: قال) لي (رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بماذا) ؛ أي: بأيّ دواء (كنت تستمشين؟!» ) - أي: تطلبين مشي بطنك- أي: إخراج ما فيه.
(قالت: بالشّبرم) - بضمّ الشّين المعجمة والرّاء بينهما موحّدة ساكنة وآخره ميم، وقد يفتح أوّله- (قال:«حارّ حارّ» ) ؛ أي: شديد الحرارة، فالثّاني تأكيد لفظي، ويحتمل أن الثّاني بجيم، وشدّ الرّاء إتباع ل «حارّ» بمهملتين؛ كما في «النّهاية» ، يقال: حار جار، ويقال: حار يار- بمثنّاة تحتيّة- على الإتباع أيضا.
(ثمّ قالت) ؛ أي: أسماء (: استمشيت بالسّنى) - بفتح السّين والنّون، والقصر وقد يمدّ-: نبت معروف أجوده ما يكون بمكّة.
وشرب مائه مطبوخا أصلح من شرب «1» مدقوقا، ومقدار الشّربة منه إلى ثلاثة دراهم، ومن مائه إلى خمسة دراهم. وله منافع كثيرة؛
منها أنه إذا طبخ في زيت، وشرب نفع من أوجاع الظّهر والوركين.
(1) لعلها: شربه.
فقال: «لو كان شيء يشفي من الموت.. كان السّنى» .
و (الشّبرم) : قشر عرق شجرة.
(فقال) ؛ أي: النّبيّ صلى الله عليه وسلم (: «لو كان شيء يشفي من الموت؛ كان السّنى» ) مبالغة في كثرة منافعه.
وذكر المحاسبيّ في كتابه المسمّى ب «المقصد والرّجوع إلى الله» : أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم شرب السّنا بالتّمر، أي: وضعهما في الماء، وشربه، أي: ليبس الطّبيعة، وبوضعهما في الماء، يندفع اجتماع حارّين، المنهيّ عنه عند الأطبّاء لضرره؛ ذكره الزرقاني مع «المواهب» .
وذكر في «المواهب» أيضا: أن الحميديّ ذكر في كتاب «الطّبّ النّبويّ» له:
أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إيّاكم والشّبرم!! فإنّه حارّ حارّ، وعليكم بالسّنى، فتداووا به، فلو دفع الموت شيء، لدفعه السّنى» !! انتهى.
قال العلماء: (والشّبرم) - بالشّين المعجمة المضمومة، والموحّدة السّاكنة، والرّاء المهملة المضمومة، وآخره ميم؛ كقنفذ- هو:(قشر عرق شجرة) . وفي «النّهاية» : حبّ يشبه الحمّص؛ يطبخ ويشرب ماؤه للتّداوي. وقال أبو حنيفة:
الشّبرم شجرة حارّة تسمو على ساق؛ كقعدة الصّبيّ أو أعظم، لها ورق طوال رقاق، وهي شديدة الخضرة، وزعم بعض الأعراب: أن لها حبّا صغارا كجماجم الحمر!!
وقيل: الشّبرم: نبات آخر سهليّ، له ورق طوال كورق الحرمل، وله حبّ كالعدس، أو شبه الحمّص، وله أصل غليظ ملآن لبنا، والكلّ مسهل. واستعمال لبنه خطر جدّا، وإنّما يستعمل أصله مصلحا؛ بأن ينقع في الحليب يوما وليلة، ويجدّد اللّبن ثلاث مرات، ثمّ يجفّف وينقع في عصير الهندباء والرازيانج، ويترك ثلاثة أيام، ثمّ يجفّف، وتعمل منه أقراص مع شيء من التّربد؛ والهليلج؛ والصّبر، فإنّه دواء فائق. انتهى. «شرح القاموس» «1» .
(1) بل هو بتمامه في «القاموس» . (عبد الجليل) .
وفي «سنن ابن ماجه» : عن عبد الله بن أمّ حرام [رضي الله تعالى عنه]- وكان ممّن صلّى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلتين- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
«عليكم بالسّنى والسّنّوت، فإنّ فيهما شفاء من كلّ داء، إلّا السّامّ» ، قيل: يا رسول الله؛ وما السّامّ؟ قال: «الموت» .
قال في «المواهب» : وهو من الأدوية الّتي منع الأطبّاء من استعمالها، لخطرها وفرط إسهالها، وإنّما أجازوه بالتّدبير الّذي رأيت عن «القاموس» .
(وفي «سنن ابن ماجه) و «مستدرك الحاكم» كلاهما في «الطّبّ» ؛ من حديث عمرو بن بكر السّكسكي؛ قال: حدّثنا إبراهيم بن أبي عبلة.
(عن عبد الله بن أمّ حرام) وهو عبد الله بن عمرو، وقيل: بن كعب الأنصاريّ. نزل بيت المقدس، وهو آخر من مات من الصّحابة بها، وزعم ابن حبّان: أن اسمه سمعون، له هذا الحديث، قال الحاكم: إنّه حديث صحيح، وردّه الذّهبيّ بأنّ عمرو بن بكر السّكسكي المذكور اتّهمه ابن حبّان! وقال ابن عديّ: له مناكير! انتهى.
(وكان) ؛ أي: عبد الله ابن أمّ حرام (ممّن صلّى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلتين) ؛ أي: إليها، أي: الكعبة، وبيت المقدس (قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «عليكم بالسّنى) قال ابن الأثير: يروى بضمّ السّين؛ والفتح أفصح، أي: وبالقصر: نبت معروف.
(والسّنّوت) - بوزن التّنّور والسّنّور، وسيأتي معناه- (فإنّ فيهما شفاء من كلّ داء، إلّا السّامّ) - بمهملة من غير همز-.
(قيل يا رسول الله: وما السّامّ؟ قال: «الموت» ) فيه أنّ الموت داء من جملة الأدواء، قال الشّاعر:
…
كذاك الموت ليس له دواء
و (السّنى) : نبت حجازيّ، أفضله المكّيّ. واختلف في معنى (السّنّوت) على أقوال، وأقربها إلى الصّواب: أنّه
…
(والسّنا) - بفتح السّين والقصر، وبعضهم يرويه بالمدّ-:(نبت) ذو ورق رقيق، واحدته سناة، ومنه (حجازيّ) ؛ أي: نبت في الحجاز. ومنه ما يأتي من نواحي صعيد مصر، و (أفضله المكّيّ) ؛ أي: الّذي يأتي من مكّة.
وهو دواء شريف، مأمون الغائلة، قريب الاعتدال، يسهّل الصّفراء؛ والسّوداء؛ والبلغم؛ والدّم؛ كيف استعمل فهو موافق للأخلاط الأربعة، بعضها بالطّبع، وبعضها بالخاصّيّة على زعم الأطبّاء، وما طبخ منه أجود ممّا لم يطبخ، فيشرب من مائة خمسة دراهم إلى سبعة دراهم، ولا يزاد عليها!.
قال في «الهدي» : شرب مائه مطبوخا أصلح من شربه مدقوقا، ومقدار الشّرب منه إلى ثلاثة دراهم، ومن مائه إلى خمسة دراهم، وإذا أغلي بالزّيت نفع لوجع الظهر والوركين، وينفع للحكّة والجرب.
(واختلف في معنى السّنّوت) - بالفتح؛ كتنّور على المشهور، ويروى بضمّ السّين، فلا عبرة بمن أنكره، وفيه لغة على مثال سنّور وأفصحها الفتح- (على أقوال) . فقيل: هو الزّبد «1» ، وقيل: هو الجبن المعروفان وقيل: هو الرّب «2» بضمّ الرّاء- أي: ربّ عكّة السّمن يخرج خطوطا سودا على السّمن، فتلك الخطوط هي السّنّوت. وقيل: حبّ يشبه الكمّون؛ وليس به. وقيل: هو الكمّون الكرماني. وقيل إنّه الرّازيانج، وهو الشّمار بلغة اليمن، أو الشّمر بلغة مصر، وقيل: ضرب من التّمر.
(وأقربها إلى الصّواب) في تفسير قوله «عليكم بالسّنى والسّنّوت» (أنّه) ؛
(1) الزّبد: ما يستخرج في اللبن بالمخض. القطعة منه: زبدة. (عبد الجليل) .
(2)
الرّبّ: هو الطلاء الخاثر. وزنجبيل. اهـ مختار. الرّبّ: عصارة التمر المطبوخة وما يطبخ في التمر والعنب. (عبد الجليل) .
العسل الّذي يكون في زقاق السّمن.
وروى التّرمذيّ: عن زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «تداووا من ذات الجنب بالقسط البحريّ والزّيت» .
أي: السّنّوت: (العسل) النّحل (الّذي يكون في زقاق السّمن) - بكسر الزّاي-، أي: السّقاء الّذي يجعل فيه، أي: يخلط السّنى حال كونه مدقوقا بالعسل المخالط للسّمن، ثمّ يلعق؛ فيكون أصلح من استعماله مفردا، لما في العسل والسّمن من إصلاح السّنى، وإعانته على الإسهال، لأنّ رطوبتهما تقاوم اليبس الّذي في السّنى؛ فتصلحه.
(وروى) الإمام أحمد، و (التّرمذيّ) ، وابن ماجه، والحاكم- وصحّحه- كلّهم؛ (عن زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «تداووا من ذات الجنب) المراد بها هنا: رياح غليظة تحتقن تحت الجلد الّتي في الصدر والأضلاع؛ فتحدث وجعا. وليس المراد ذات الجنب الحقيقيّ الّذي تكلّم عليه الأطبّاء!! لأنّه من الأمراض المخوفة- كما سيأتي-.
(بالقسط) - بضمّ القاف- وفي لغة: بالكاف بدل القاف (البحريّ) قال المازري: القسط صنفان: بحريّ وهنديّ، والبحريّ هو القسط الأبيض، ويؤتى به من بلاد المغرب، وهو أفضل من الهنديّ. وأقلّ حرارة منه.
وقيل: هما حارّان يابسان، والهنديّ أشدّ حرّا.
وتعقّبه القرطبيّ: بأنّ البحريّ الأبيض أحد نوعي العود الهندي، فكيف يؤتى به من بلاد المغرب. والفرض أنّه هندي؟! إلا أن يعني بالمغرب: المغرب من بلاد الهند. انتهى.
وبذلك يعلم أنّ المراد بالبحري أحد نوعي الهنديّ، وهو الأبيض البحريّ.
لكن في «شرح القسطلّاني» : أنّ البحريّ يجلب من اليمن، ومنه ما يجلب من المغرب.
(والزّيت) المسخّن بأن يدقّا ناعما ويخلط به، ويدلك به محلّه، أو يلعق،
و (ذات الجنب) : ورم حارّ يحدث في الغشاء المستبطن للأضلاع، وألم يشبهه يعرض في نواحي الجنب.
فإنّه نافع له، محلّل لمادّته، مقوّ للأعضاء الباطنة؛ يفتح للسّدد، وغير ذلك.
قال بعض العلماء: على المريض والطّبيب أن يعمل على أنّ الله أنزل الدّاء والدّواء، وأنّ المرض ليس بالتخليط؛ وإن كان معه، وأنّ الشّفاء ليس بالدّواء؛ وإن كان عنده، وإنّما المرض بتأديب الله، والبرء برحمته، حتى لا يكون كافرا بالله؛ مؤمنا بالدّواء، كالمنجّم إذا قال:«مطرنا بنوء كذا» ، ومن شهد الحكمة في الأشياء، ولم يشهد مجريها، صار بما علم منها أجهل من جاهلها؛ قاله الزّرقاني.
(وذات الجنب: ورم حارّ يحدث في الغشاء المستبطن) ؛ أيّ: الدّاخل (للأضلاع) ؛ أي: فيها بحيث جعل كالبطانة، وهذا هو ذات الجنب الحقيقيّ الّذي تكلّم عليه الأطبّاء.
ويحدث بسببه خمسة أمراض: الحمّى؛ والسّعال؛ والنّخس؛ وضيق النّفس؛ والنّبض المنشاري، أي: أنّ العروق تحرّك تحركا شديدا لأعلى ولأسفل، حركة تشبه حركة المنشار؛ وهو من الأمراض المخوفة. وهو من سيّء الأسقام، ولذا قال صلى الله عليه وسلم لمّا لدّوه في مرضه؛ ظنّا منهم أنّ به ذات الجنب-:
«ما كان الله ليسلّطها عليّ» . أي: ما كان الله مريدا لأن يسلّطها عليّ رحمة بي، ورأفة عليّ.
(و) قد تطلق «ذات الجنب» على ما ذكره بقوله: (ألم يشبهه) ؛ أي: يشبه الورم الحارّ، الّذي هو ذات الجنب الحقيقيّ (يعرض) ذلك الألم (في نواحي الجنب) من رياح غليظة؛ مؤذية، تحتقن بين الصّفاقات «1» والعضل «2» الّتي في
(1) الصفاقات- بكسر الصاد وتخفيف الفاء-: الجلد الأسفل الذي تحت الجلد الذي عليه الشعر. انتهى «زرقاني» . (هامش الأصل) .
(2)
العضل؛ جمع عضلة- بفتح المهملة والمعجمة-: كل عصبة معها لحم غليظ. انتهى «زرقاني» . (هامش الأصل) .
و (القسط البحريّ) هو: العود الهنديّ.
وفي «الصّحيحين» : أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «خير ما تداويتم به: الحجامة، والقسط البحريّ،
…
الصّدر والأضلاع، يداوي به الرّيح الغليظة.
وقد تطلق «ذات الجنب» على وجع الخاصرة (والقسط) - بضمّ القاف- (البحريّ هو: العود الهنديّ) الّذي يتبخّر به.
وقال اللّيث: عود يجاء به من الهند؛ يجعل في البخور والدّواء.
وقال بعضهم: العود خشب يأتي من قمار من الهند، ومن مواضع أخر، وأجوده القماريّ الرّزين؛ الأسود اللّون؛ الذّكي الرّائحة، الذّائب إذا ألقي على النّار، الرّاسب في الماء، ومزاجه حارّ يابس. انتهى «شرح القاموس» .
(وفي «الصّحيحين» ) - كذا في النّسخ الّتي بأيدينا؛ وهو كذلك في «زاد المعاد» ، ولم أجده في «مسلم» بهذا اللّفظ!! وأمّا البخاري فلفظه:«إنّ أمثل ما تداويتم به: الحجامة والقسط البحريّ، ولا تعذّبوا صبيانكم بالغمز من العذرة، وعليكم بالقسط» . والحديث باللّفظ الّذي أورده المصنّف مذكور في «الجامع الصّغير» قال العزيزي: حديث صحيح، ورمز له في «الجامع الصّغير» برمز الإمام أحمد والنّسائي؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال:
( «إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «خير ما تداويتم به: الحجامة) لا سيّما في البلاد الحارّة، (والقسط) - بضمّ القاف- (البحريّ) وهو الأبيض.
قال العلقمي: القسط ضربان: أحدهما الأبيض الّذي يقال له البحريّ، والآخر الهنديّ؛ وهو أشدّهما حرّا، والأبيض ألينهما ومنافعهما كثيرة جدا، وهما حارّان يابسان ينشّفان البلغم، ويقطعان الزّكام. وإذا شربا نفعا من ضعف الكبد والمعدة، ومن بردها، ومن حمّى الرّبع والورد، وقطعا وجع الجنب، ونفعا من السّموم.
انتهى.
ولا تعذّبوا صبيانكم بالغمز من العذرة» .
وفي «السّنن والمسند» عن جابر بن عبد الله قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة رضي الله تعالى عنها- وعندها صبيّ يسيل منخراه دما- فقال: «ما هذا؟» ، قالوا: به العذرة، أو: وجع في رأسه،
…
وقال القرطبّي: البحريّ الأبيض أحد نوعي العود الهندي- كما تقدّم-.
(ولا تعذّبوا صبيانكم) ؛ أي: أطفالكم (بالغمز) - بالغين المعجمة، والزّاي آخره- بأن يدخل أحدكم نحو الإصبع في حلق الطّفل، ويغمز محلّ الوجع؛ فينفجر منه دم أسود (من العذرة) - بضمّ المهملة، وسكون المعجمة-: وجع في الحلق يعتري الأطفال غالبا. وقيل: قرحة تخرج بين الأذن والحلق، سمّيت به!! لأنها تخرج عند طلوع العذراء؛ كوكب تحت الشّعراء، وطلوعها يكون في الحرّ.
والمراد عالجوا العذرة بالقسط، بأن يسحق ويجعل في زيت، ويسخّن يسيرا على النّار، ويسقى الطّفل، ولا تعذّبوهم بالغمز، لأنّ مادّة العذرة دم يغلب عليه بلغم. وفي القسط تخفيف للرّطوبة، فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن الغمز وأرشدهم إلى ما هو أنفع للأطفال. وأسهل عليهم.
(وفي «السّنن والمسند» ) للإمام أحمد؛ (عن جابر بن عبد الله) بن عمرو بن حرام الأنصاريّ رضي الله تعالى عنهما (قال:
دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة رضي الله تعالى عنها- وعندها صبيّ) صغير (يسيل منخراه) ؛ تثنية منخر، وفيه خمس لغات نظمها بعضهم؛ فقال:
افتح لميم منخر وخائه
…
واكسرهما، وضمّ أيضا معلنا
وزد كمجلس وعصفور وقل
…
خمس ب «قاموس» أتت فأتقنا
(دما، فقال:
«ما هذا؟» ) الّذي بهذا الصّبيّ. (قالوا: به العذرة، أو وجع في رأسه.
فقال: «ويلكنّ؛ لا تقتلن أولادكنّ، أيّما امرأة أصاب ولدها عذرة، أو وجع في رأسه.. فلتأخذ قسطا هنديّا، فتحكّه بماء، ثمّ تسعطه
فقال: «ويلكنّ) كلمة تقال لمن وقع في هلكة ولا يترحّم عليه، بخلاف «ويح» (لا تقتلن أولادكنّ) ؛ أي: لا تفعلن ما يكون سببا لقتلهم.
(أيّما امرأة) - بزيادة «ما» ، لإفادة التّعميم- (أصاب ولدها عذرة، أو وجع في رأسه؛ فلتأخذ قسطا) - بضمّ القاف وبالطّاء، قال «البخاري» وهو الكست.
يعني: بالكاف والفوقية- قال: مثل الكافور والقافور، ومثل كشطت وقشطت، وقرأ عبد الله بن مسعود [قشطت] «1» قال «القرطبي» : وهذا من التّعاقب بين الحرفين. (هنديّا) يجلب من الهند. وهو نوعان: أسود وأبيض، ويقال له:
بحريّ، وهو المراد هنا، لحديث زيد بن أرقم:«تداووا من ذات الجنب بالقسط البحريّ، والزّيت» . هذا مفاد كلام القرطبي.
وقال القسطلّاني في «شرح البخاري» : البحريّ ما يجلب من اليمن، ومنه ما يجلب من المغرب، وزاد بعضهم ثالثا يسمّى ب «القسط المرّ» ، وهو كثير ببلاد الشّام؛ خصوصا السّواحل.
قال في «نزهة الأفكار» : وأجودها البحري، وخياره الأبيض الخفيف الطّيب الرّائحة، وبعده الهندي؛ وهو أسود خفيف، وبعده الثّالث؛ وهو ثقيل، ولونه كالخشب البقس ورائحته ساطعة، وأجود ذلك كلّه: ما كان جديدا ممتلئا غير متاكل يلذع اللّسان. وكلّ دواء مبارك نافع.
(فتحكّه بماء) ؛ أي: تحكّه على حجر بالماء، كذا في «المرقاة» . وقال «القرطبي» : أي: يدقّ ناعما.
(ثمّ تسعطه) - بفتح التّاء والعين، وبضمّ العين؛ من سعط: كمنع ونصر،
(1) من قوله تعالى وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ [11/ التكوير] . وأما قراءة ابن مسعود رضي الله عنه [قشطت] فهي قراءة شاذّة.
إيّاه» ، فأمرت عائشة رضي الله تعالى عنها فصنع ذلك للصّبيّ فبرأ.
و (العذرة) : تهيّج في الحلق من الدّم.
وقيل: قرحة تخرج فيما بين الأذن والحلق، وتعرض للصّبيان غالبا.
و (القسط البحريّ) : هو العود الهنديّ، وهو الأبيض منه، وفيه منافع عديدة،
…
وبضمّ التّاء وكسر العين؛ من أسعط (إيّاه» ) ؛ أي: تصبّه في أنفه.
قال القرطبي: وهل يسعط به مفردا أو مع غيره؟! يسأل عن ذلك أهل المعرفة والتّجربة. ولا بدّ من النفع به، إذ لا يقول صلى الله عليه وسلم إلّا حقّا.
(فأمرت عائشة رضي الله تعالى عنها فصنع ذلك للصّبيّ فبرأ) .
قال في «المرقاة» : وقد حصل هذا المرض لولدي؛ وألحّ به، فأرادوا أن يغمزوا حلقه على طريقة النّساء فمنعتهنّ من ذلك تمسّكا بالحديث، واستعملت له القسط؛ فشفي منه سريعا، ولم يعاوده بعد ذلك، ووصفته لجماعة فبرأوا؛ مصداق قوله صلى الله عليه وسلم.
(والعذرة) - بضمّ العين المهملة، وسكون الذّال المعجمة- (تهيّج) ؛ أي:
ثوران ورم (في الحلق من الدّم) الّذي يغلب عليه البلغم.
(وقيل) هي: (قرحة تخرج فيما بين الأذن والحلق) ، أو تخرج في الخرم الّذي بين الأنف والحلق، وهو الّذي يسمّى سقوط اللهاة.
(وتعرض للصّبيان غالبا) في زمن الحرّ.
(والقسط) - بضم القاف وبالطّاء- (البحريّ: هو العود الهنديّ) الّذي يجلب من الهند، (وهو) نوعان: أسود وأبيض، والمراد هنا (الأبيض منه، وفيه منافع عديدة)
وكانوا يعالجون أولادهم بغمز اللهاة، وبالعلاق؛ وهو شيء يعلّقونه على الصّبيان، فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وأرشدهم إلى ما هو أنفع للأطفال وأسهل عليهم.
و (السّعوط) : ما يصبّ في
…
يدرّ الطّمث والبول، ويقتل ديدان الأمعاء، ويدفع السّمّ وحمّى الرّبع، وحمّى الورد، ويسخّن المعدة، ويحرّك شهوة الجماع. ويذهب الكلف طلاء.
(وكانوا يعالجون أولادهم بغمز اللهاة) - بفتح اللّام-: اللّحمة الّتي في أقصى الحلق، ويجمع على لهى ولهيات؛ مثل: حصاة وحصى وحصيات، وعلى لهوات أيضا- على الأصل- كما في «المصباح» .
(و) يعالجونهم (بالعلاق) - بكسر العين المهملة وفتحها- (وهو: شيء يعلّقونه على الصّبيان) كالعوذة، وهذا بيان للمراد، وإلّا فالعلاق- لغة-: ما يعلق به الشّيء، ثمّ تفسيره بذلك مخالف لما في «شرح البخاريّ» حيث قال: أعلقت عليه من العذرة؛ أي: رفعت حنكه بأصبعها ففجّرت الدّم.
وفي «الفتح» و «النهاية» وغيرهما: أنّه كانت عادة النّساء إذا أصاب الصّبيّ العذرة تعمد المرأة إلى خرقة تفتلها فتلا شديدا، وتدخلها في أنفه، وتطعن ذلك الموضع، فينفجر منه دم أسود وربّما أقرحه، وكانوا بعد ذلك يعلّقون عليه علاقا كالعوذة.
(فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وأرشدهم إلى ما هو أنفع للأطفال، وأسهل عليهم) ، فإنّ القسط يشدّ اللهاة، ويرفعها إلى مكانها؛ لأنّه حارّ يابس.
(والسّعوط) المراد هنا- بفتح السّين، وضمّ العين المهملتين-. أمّا بضمّ السّين؛ فهو الفعل الّذي هو صبّ الدّواء في الأنف. وليس مرادا هنا بل المراد الأوّل وهو:
(ما يصبّ في) الأنف، وقد يكون بأدوية مفردة ومركّبة تدقّ؛ وتنخل؛
أنف الإنسان وهو مستلق على ظهره، وبين كتفيه ما يرفعهما؛ لينخفض رأسه فيتمكّن السّعوط من الوصول إلى دماغه، ويستخرج ما فيه من الدّاء بالعطاس. وقد مدح النّبيّ صلى الله عليه وسلم التّداوي بالسّعوط فيما يحتاج إليه فيه.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر أن يسترقى من العين.
وروى مسلم في «صحيحه» : عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «العين حقّ، ولو كان شيء سابق القدر
…
وتعجن، وتجفّف؛ ثم تحلّ عند الحاجة، ويسعط بها في (أنف الإنسان وهو مستلق على ظهره، وبين كتفيه) ؛ أي: تحتهما (ما يرفعهما) من نحو مخدّة؛ (لينخفض رأسه، فيتمكّن السّعوط من الوصول إلى دماغه) يعني أنه بهذه الكيفيّة يسهل انحدار السّعوط إلى الدّماغ (ويستخرج ما فيه) ؛ أي: الدمّاغ (من الدّاء بالعطاس) ؛ ذكره ابن القيّم قال:
(وقد مدح النّبيّ صلى الله عليه وسلم التّداوي بالسّعوط فيما يحتاج إليه فيه) .
وذكر أبو داود في «سننه» أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم استعط. انتهى.
(وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر أن يسترقى) - بالبناء للمفعول- (من العين) بنحو (ما شاء الله، لا قوّة إلّا بالله. أخرجه مسلم في «صحيحه» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها. وفي رواية له؛ عنها أيضا: كان يأمرني أن أسترقي من العين.
(وروى مسلم في)«الطّبّ» ؛ من ( «صحيحه» )، والإمام أحمد كلاهما؛ (عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«العين حقّ) ؛ أي: أنّ الإصابة بالعين شيء ثابت موجود، وهو من جملة ما تحقّق وجوده بالفعل، (ولو كان شيء سابق القدر) - بفتحتين-: أي: لو
لسبقته العين» .
فرض أنّ لشيء قوّة بحيث يسبق القدر (لسبقته العين) لكنّها لا تسبق القدر، فكيف غيرها؟! فإنه تعالى قدّر المقادير قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة.
قال القرطبي: «فلو» . مبالغة في تحقيق إصابة العين، جرى مجرى التّمثيل، إذ لا يردّ القدر شيء، فإنّه عبارة عن سابق علم الله ونفوذ مشيئته، ولا رادّ لأمره ولا معقّب لحكمه، فهو كقولهم: لأطلبنّك؛ ولو تحت الثّرى، ولو صعدت السّماء؟!.
قال المازري: وقد أخذ الجمهور بظاهر الحديث من تأثيرها بإرادة الله وخلقه، وأنكره طوائف من المبتدعة لغير معنى، لأنّ كلّ شيء ليس محالا في نفسه، ولا يؤدّي إلى قلب حقيقة ولا إفساد دليل!! فهو من مجوّزات العقول، وكلّ ما جوّزته وأخبر الشّارع بوقوعه وجب قبوله والأخذ بظاهره؛ ولم يكن لإنكاره معنى سوى العناد والمكابرة. وهل من فرق بين إنكارهم إصابة العين؛ وبين إنكارهم ما يخبر به من أمور الآخرة!؟
وقد اشتكى بعض النّاس هذه الإصابة؛ فقال: كيف تعمل العين من بعد، حتّى يحصل الضّرر للمعيون؟
وأجيب: بأنّ طبائع النّاس تختلف، فقد يكون ذلك من سمّ يصل من عين العائن في الهواء إلى بدن المعيون؛ فيحصل الضّرر بتقدير الله. وقد نقل عن بعض من كان معيانا، أنّه قال: إذا رأيت شيئا يعجبني وجدت حرارة تخرج من عيني!!
ويقرّب ذلك: بالمرأة الحائض تضع يدها في إناء اللّبن فيفسد!! ولو وضعتها بعد طهرها لا يفسد!!
وكذا تدخل البستان، فتضرّ بكثير من الغروس من غير أن تمسّها!
ومن ذلك: أنّ الصّحيح قد ينظر إلى العين الرّمداء فيرمد!!.
قال المازري: وزعم بعض الطّبائعييّن أنّ العائن ينبعث من عينه قوة سمّيّة تتّصل
.........
بالمعيون؛ فيهلك أو يفسد جسمه أو عقله، وهو كإصابة السّمّ من نظر الأفعى.
وأشار المازري إلى منع الحصر في ذلك. أي: خروج سمّيّة من عين العائن، مع تجويز المازريّ خروجها؛ لا على سبيل القطع.
وإنّ الّذي يتمشّى على طريقة أهل السّنّة: أنّ العين إنّما تضرّ عند نظر العائن، بعادة أجراها الله تعالى أن يحدث الضّرر عند مقابلة شخص آخر.
وهل ثمّ جواهر خفيّة تخرج من العين أو لا؟! هو أمر محتمل؛ لا يقطع بإثباته ولا نفيه، إذ لا مستند لذلك.
ومن قال ممّن ينتمي إلى الإسلام من أصحاب الطّبائع بالقطع؛ بأنّ ثمّ جواهر لطيفة غير مرئيّة تنبعث من العائن فتتّصل بالمعيون؛ وتتخلّل مسامّ جسمه، فيخلق الباري الهلاك عندها؛ كما يخلق الهلاك عند شرب السّمّ!! فقد أخطأ بدعوى القطع، إذ لا دليل عليه، ولكنّه جائز أن يكون عادة ليس ضرورة؛ ولا طبيعة.
انتهى كلام المازري. وهو كلام سديد لموافقته مذهب أهل السّنّة.
وليس المراد بالتّأثير المعنى الذي يذهب إليه الفلاسفة من أنّ إصابة العين صادرة عن تأثير النّفس بقوّتها فيه، فأوّل ما تؤثّر في نفسها؛ ثمّ تؤثّر في غيرها!!.
بل المراد ما أجرى الله به العادة من حصول الضّرر للمعيون بخلق الله تعالى.
وقد أخرج البزّار، والبخاريّ في «التّاريخ» والطّيالسي، والحكيم التّرمذي بسند حسن، وصحّحه «الضّياء» - عن جابر رفعه «أكثر من يموت من أمّتي بعد قضاء الله وقدره بالنّفس» . قال الرّاوي: يعني بالعين. وقد أجرى الله العادة بوجود كثير من القوى والخواصّ في الأجسام والأرواح؛ كما يحدث لمن ينظر إليه من يحتشمه من الخجل؛ فيرى في وجهه حمرة شديدة لم تكن قبل ذلك! وكذلك الاصفرار عند رؤية من يخافه، وكثير من النّاس يسقم بمجرّد النّظر إليه؛ وتضعف قواه.
وفي «سنن أبي داود» : عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان يؤمر العائن فيتوضّأ،
…
وكلّ ذلك بواسطة ما خلق الله تعالى في الأرواح من التأثيرات لشدّة ارتباطها بالعين، وليست هي المؤثّرة! وإنّما التأثير للرّوح، والأرواح مختلفة في طبائعها، وكيفيّاتها؛ وخواصّها. فمنها ما يؤثّر في البدن بمجرّد الرّؤية؛ من غير اتّصال به، لشدّة خبث تلك الرّوح وكيفيتها الخبيثة.
والحاصل أنّ التّأثير بإرادة الله تعالى وخلقه ليس مقصورا على الاتّصال الجسمانيّ، بل يكون تارة به؛
وتارة بالمقابلة، وأخرى بمجرّد الرّؤية، وأخرى بتوجّه الرّوح؛ كالذي يحدث في البدن من الشّفاء من المرض ونحوه بسبب الأدعية والرّقى والالتجاء إلى الله تعالى.
وتارة يقع ذلك بالتّوهّم والتخيّل، فالذي يخرج من عين العائن سهم معنويّ، إن صادف البدن لا وقاية له أثّر فيه الضّرر بخلق الله تعالى، وإلّا! لم ينفذ فيه السّهم، بل ربّما ردّ على صاحبه، كالسّهم الحسّيّ سواء. انتهى ملخّصا من «فتح الباري» وغيره. نقله في «المواهب» وشرحها.
وتمام الحديث: «وإذا استغسلتم فاغسلوا» أي: إذا طلب منكم أيّها المتّهمون بإصابة العين- غسل الأعضاء الآتي بيانها فاغسلوا.
(وفي «سنن أبي داود» ) في كتاب «الطّبّ» ؛ (عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان يؤمر العائن فيتوضّأ) ولم يبيّن في حديث ابن عباس صفة الاغتسال؛ ولا في حديث عائشة صفة الوضوء؟!
قال المحقّق محمد بن سليمان الكردي في «حواشي شرح بافضل» «1» : الّذي
(1) في كتابه المسمى «الحواشي المدنية على المقدمة الحضرمية في فقه السادة الشافعية» .
ثمّ يغتسل منه المعين.
قال الزّهريّ:
…
يفهمه كلام أئّمتنا تصريحا وتلويحا: أنّ وضوء العائن كغيره، المراد به الوضوء الشّرعيّ؛ لكن الموجود في كتب الحديث أنّه غيره.
(ثمّ يغتسل منه) ؛ أي الوضوء، أي: ماءه (المعين) - اسم مفعول-؛ من عانه إذا أصابه بالعين، تقول: - كما في «الفتح» -: عنت الرّجل؛ أصبته بعينك؛ فهو معين ومعيون. انتهى.
(قال) الإمام الحافظ المحدّث؛ محمّد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤي: أبو بكر القرشي.
(الزّهريّ) ؛ نسبة إلى بني زهرة بن كلاب المذكور. تابعيّ من أهل المدينة، نزل الشّام واستقرّ بها، ويقولون تارة الزّهري، وتارة ابن شهاب ينسبونه إلى جدّ جدّه.
وهو أحد أفراد الدّنيا؛ علما وعملا وجلالة.
سمع أنس بن مالك؛ وسهل بن سعد؛ والسّائب بن يزيد؛ وعبد الرحمن بن أزهر؛ ومحمود بن الرّبيع؛ وأبا أمامة أسعد بن سهل بن حنيف؛ وأبا الطّفيل.
وهؤلاء كلهم صحابة.
وسمع من خلائق؛ من كبار التّابعين وأئمّتهم.
روى عنه خلائق من كبار التّابعين وصغارهم، ومن أتباع التّابعين.
وحفظ القرآن في ثمانين ليلة!. قال الشّافعيّ: لولا الزّهريّ ذهبت السّنن من المدينة.
ومناقبه؛ والثّناء عليه؛ وعلى حفظه أكثر من أن يحصر.
توفي ليلة الثّلاثاء لسبع عشرة خلت من شهر رمضان سنة: أربع وعشرين ومائة، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة، وتوفي بقرية بأطراف الشّام يقال لها:
«سغبدا» رحمه الله تعالى. قال في صفة الاستغسال:
يؤمر الرّجل العائن بقدح، فيدخل كفّه فيه، فيتمضمض، ثمّ يمجّه في القدح، ثمّ يغسل وجهه في القدح، ثمّ يدخل يده اليسرى، فيصبّ على كفّه اليمنى في القدح، ثمّ يدخل يده اليمنى، فيصبّ على كفّه اليسرى، ثمّ يدخل يده اليسرى، فيصبّ على مرفقه الأيمن، ثمّ يدخل يده اليمنى، فيصبّ على مرفقه الأيسر، ثمّ يدخل يده اليسرى، فيصبّ على قدمه اليمنى، ثمّ يدخل يده اليمنى، فيصبّ على قدمه اليسرى ثمّ يدخل يده اليسرى، فيصبّ على ركبته اليمنى، ثمّ يدخل يده اليمنى، فيصبّ على ركبته اليسرى، ثمّ يغسل داخلة إزاره، ولا يوضع القدح في الأرض، ثمّ يصبّ
…
(يؤمر الرّجل العائن بقدح) فيه ماء؛ (فيدخل كفّه فيه، فيتمضمض) بغرفة منه؛ (ثمّ يمجّه في القدح، ثمّ) يأخد منه ماء (يغسل وجهه في القدح) مرّة واحدة، (ثمّ يدخل يده اليسرى) في القدح؛ (فيصبّ على كفّه اليمنى في القدح) صبّة واحدة، (ثمّ يدخل يده اليمنى، فيصبّ على كفّه اليسرى) واحدة، (ثمّ يدخل يده اليسرى، فيصبّ على مرفقه الأيمن) في القدح واحدة، (ثمّ يدخل يده اليمنى، فيصبّ على مرفقه الأيسر) صبّة واحدة، (ثمّ يدخل يده اليسرى، فيصبّ على قدمه اليمنى) في القدح واحدة، (ثمّ يدخل يده اليمنى، فيصبّ على قدمه اليسرى) صبّة واحدة، (ثمّ يدخل يده اليسرى، فيصبّ على ركبته اليمنى) في القدح، (ثمّ يدخل يده اليمنى، فيصبّ على ركبته اليسرى) صبّة واحدة فيها، (ثمّ يغسل داخلة إزاره) .
قال المازري: المراد ب «داخلة إزاره» : الطّرف المتدلّي الّذي يلي حقوه الأيمن. وقال القاضي عياض: إنّ المراد ما يلي جسده من الإزار. وقيل غير ذلك.
(ولا يوضع القدح في الأرض) حتّى يفرغ (ثمّ يصبّ) ذلك الماء الّذي في
على رأس الرّجل الّذي تصيبه العين من خلفه صبّة واحدة.
القدح (على رأس الرّجل الّذي تصيبه العين من خلفه صبّة واحدة) يجري على جسده، ويكون غسل الأطراف المذكورة كلّها؛ وداخلة الإزار في القدح. هكذا روي عن الزّهري، وقال: إنّه من العلم.
قال ابن عبد البرّ: وهو أحسن ما فسّر به الحديث، لأنّ الزّهريّ راويه. قال القاضي عياض: إنّ الزّهري أخبر أنه أدرك العلماء يصفونه واستحسنه علماؤنا، ومضى به العمل. انتهى.
قال مقيّده غفر الله ذنوبه: هذه الكيفية الّتي ذكرها غير متعيّنة، بل يحصل النّفع بالاستغسال الآتي في حديث سهل بن حنيف، وبأيّ كيفيّة كانت؛ إذا غسل أطرافه، وصبّ غسالته على المعيون؛ حصل النّفع بإذن الله تعالى، ولذلك لم يبيّن النّبيّ صلى الله عليه وسلم كيفيّة الاستغسال، بل أطلق؛ إشارة إلى ذلك. والله أعلم.
قال الزّرقاني: وهذا الغسل ينفع بعد استحكام النّظرة. أمّا عند الإصابة؛ وقبل الاستحكام؛ فقد أرشد صلى الله عليه وسلم إلى ما يدفعه، بقوله:«ألا بركت عليه» !!. قال أبو عمر: أي: قلت: تبارك الله أحسن الخالقين، اللهم بارك فيه. فيجب على كلّ من أعجبه شيء أن يبارك، فإذا دعا بالبركة، صرف المحذور لا محالة.
وللنّسائيّ وابن ماجه؛ عن أبي أمامة، وابن السّنيّ؛ عن عامر بن ربيعة، كلاهما مرفوعا:«إذا رأى أحدكم من أخيه ما يعجبه؛ فليدع بالبركة» .
وروى ابن السّنّي؛ عن سعيد بن حكيم؛ قال: كان صلى الله عليه وسلم إذا خاف أن يصيب شيئا بعينه، قال:«اللهمّ؛ بارك فيه ولا تضرّه» . انتهى.
قال المازري: وهذا المعنى- يعني الاغتسال بالصّفة المذكورة- لا يمكن تعليله، ومعرفة وجهه من جهة العقل، وليس في قوّة العقل الاطّلاع على أسرار جميع المعلومات!! فلا يردّ لكونه لا يعقل معناه!.
وقال ابن القيّم: هذه الكيفيّة لا ينتفع بها من أنكرها، ولا من سخر منها،
.........
ولا من شكّ فيها، أو فعلها مجرّبا غير معتقد، وإذا كان في الطّبيعة خواصّ لا يعرف الأطبّاء عللها؛ بل هي عندهم خارجة عن القياس وإنما تفعل بالخاصيّة؛ فما الّذي ينكره جهلتهم من الخواصّ الشرعيّة؟ هذا مع أنّ في المعالجة بالاغتسال مناسبة لا تأباها العقول الصّحيحة، فهذا ترياق سمّ الحيّة يؤخذ من لحمها! وهذا علاج النّفس الغضبيّة، بوضع اليد على بدن الغضبان، فيسكن! فكان أثر تلك العين، كشعلة نار، وقعت على جسد ففي الاغتسال إطفاء لتلك الشّعلة.
ثمّ لمّا كانت هذه الكيفيّة الخبيثة تظهر في المواضع الرّقيقة من الجسد لشدّة النّفوذ فيها ولا شيء أرقّ من المغابن؛ فكان في غسلها إبطال لعملها.
ولا سيّما أن للأرواح الشّيطانيّة في تلك المواضع اختصاصا.
وفيه أمر آخر: وهو وصول أثر الغسل إلى القلب، من أرق المواضع وأسرعها نفاذا، فتطفأ تلك النّار التي أثارتها العين بهذا الماء؛ فيشفى المعين. انتهى.
وقال ابن القيّم أيضا: والغرض العلاج النّبويّ الوارد في الأحاديث؛ من الرّقى بالأدعية، ونحوها لعلّة الإصابة بالعين.
فمن التّعوّذات والرّقى الإكثار من قراءة المعوّذتين، لحديث عائشة السّابق:
كان إذا اشتكى، يقرأ على نفسه بالمعوّذات وينفث. ولحديثها أيضا: كان صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه كلّ ليلة جمع كفّيه؛ ثمّ نفث فيها، ثمّ يقرأ:«قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» ، و «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ» ، و «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ» ، ثمّ مسح بهما ما استطاع من جسده؛ يفعل ذلك ثلاث مرات. رواه البخاري.
ومنها الإكثار من قراءة «الفاتحة» ؛ لحديث «الصحيحين» في الّذي رقى اللّذيغ بالفاتحة؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «وما أدراك أنّها رقية» ؟.
وروى البيهقيّ في «الشّعب» ؛ عن جابر رفعه: «ألا أخبرك بخير سورة نزلت في القرآن؟» قلت: بلى. قال: «فاتحة الكتاب» . قال راويه: وأحسبه قال «فيها شفاء من كلّ داء» .
.........
وللبيهقيّ ولسعيد بن منصور؛ عن أبي سعيد مرفوعا «فاتحة الكتاب شفاء من السّمّ» .
ومنها قراءة آية الكرسي. روى الدّيلميّ؛ عن أبي أمامة: سمعت عليا يقول:
ما أرى رجلا أدرك عقله في الإسلام؛ يبيت حتّى يقرأ هذه الآية اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [255/ البقرة]، إلى قوله وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) [البقرة] فلو تعلمون ما هي أو ما فيها؛ لما تركتموها على حال!! إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«أعطيت آية الكرسيّ من كنز تحت العرش، ولم يؤتها نبيّ قبلي» .
قال عليّ: فما بتّ ليلة منذ سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى أقرأها.
قال أبو أمامة: وما تركتها منذ سمعتها من عليّ، ثمّ سلسله الباقون.
«الدّيلميّ» .
وفي خبر: «سيّد البقرة آية الكرسيّ، أما إنّ فيها خمس آيات، في كلّ كلمة خمسون بركة» .
ومنها التّعوّذات النّبويّة؛ نحو: «أعوذ بكلمات الله التّامّة، من كلّ شيطان وهامّة. ومن كلّ عين لامّة» . ونحو «أعوذ بكلمات الله التّامّات، الّتي لا يجاوزهنّ برّ ولا فاجر، من شرّ ما خلق وبرأ وذرأ، ومن شرّ ما ينزل من السّماء، ومن شرّ ما يعرج فيها، ومن شرّ ما ذرأ في الأرض، ومن شرّ ما يخرج منها، ومن شرّ فتن اللّيل والنّهار، ومن شرّ طوارق اللّيل والنّهار، إلّا طارقا يطرق بخير يا رحمن» .
وإذا كان الشّخص يخشى ضرر عينه؛ وإصابتها للمعين! فليدفع شرّها بقوله «اللهم بارك عليه» ، كما قال صلى الله عليه وسلم لعامر بن ربيعة: لمّا عان سهل بن حنيف: «ألا برّكت عليه» ؛ أي: قلت (بارك الله فيك) . انتهى من «المواهب» و «شرحها» .
.........
وحديث سهل بن حنيف الّذي أشار إليه هو ما أخرجه الإمام أحمد، والنّسائي، وصححه ابن حبّان؛ من طريق الزّهري؛ عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف: أنّ أباه سهل بن حنيف حدّثه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم خرج وساروا معه نحو ماء، حتّى إذا كان بشعب الخرّار من الجحفة؛ اغتسل سهل بن حنيف.
وفي رواية مالك؛ عن محمّد بن أبي أمامة؛ عن أبيه: فنزع سهل جبّة كانت عليه؛ وكان أبيض حسن الجسم والجلد فنظر إليه عامر بن ربيعة، فقال: ما رأيت كاليوم، ولا جلد مخبّأة!!؟ وفي رواية: مالك المذكورة: ولا جلد عذراء، فلبط سهل- أي: صرع وسقط إلى الأرض-.
وفي رواية مالك: فوعك سهل مكانه واشتدّ وعكه، زاد في رواية: حتّى ما يعقل لشدّة الوجع!! فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم زاد مالك؛ عن ابن شهاب؛ عن أبي أمامة- فقيل له: يا رسول الله: هل لك في سهل بن حنيف؟ والله ما يرفع رأسه؟! فقال: «هل تتّهمون من أحد!» . قالوا: عامر بن ربيعة.
وفي رواية «مالك» ؛ عن محمّد بن أبي أمامة؛ عن أبيه: فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر أنّ سهلا وعك، وأنّه غير رائح معك، فأتاه صلى الله عليه وسلم، فأخبره سهل بالّذي كان من شأن عامر بن ربيعة، فدعا عامرا؛ فتغيّظ عليه، فقال:«علام يقتل أحدكم أخاه!؟» - زاد في رواية: - «وهو غنيّ عن قتله؟؟ هلّا إذا رأيت ما يعجبك برّكت؟!» . ثمّ قال: «اغتسل له» .
ولمالك؛ عن محمّد: «توضّأ له» . فغسل عامر وجهه ويديه- وفي رواية- وظاهر كفّيه ومرفقيه. زاد في رواية: وغسل صدره وركبتيه، وأطراف رجليه، وداخلة إزاره في قدح. زاد في رواية: قال: وحسبته قال: وأمره فحسا منه حسوات، ثمّ صبّ ذلك الماء عليه رجل من خلفه على رأسه؛ وظهره؛ ثمّ كفأ القدح، ففعل ذلك؛ فراح سهل مع النّاس؛ ليس به بأس. انتهى.
وممّا يدفع إصابة العين:
قول: (اللهمّ بارك عليه) .
وقول: (ما شاء الله لا قوّة إلّا بالله) .
(وممّا يدفع إصابة العين قول: اللهمّ بارك عليه) ، فإنّ ذلك يبطل ما يخاف من العين، ويذهب تأثيره. ذكره الباجيّ.
(و) ممّا يدفعها أيضا (قول: ما شاء الله، لا قوّة إلّا بالله) كما قال تعالى وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ [39/ الكهف] .
وقال صلى الله عليه وسلم: «من رأى شيئا. فأعجبه، فقال: ما شاء الله، لا قوّة إلّا بالله، لم يضرّه» . رواه البزّار؛ وابن السّنّي؛ عن أنس.
ففيهما استحباب هذا الذّكر عند رؤية ما يعجب.
واستدلّ مالك بالآية على استحبابه لكلّ من دخل منزله؛ كما قاله ابن العربي.
وأخرج ابن أبي حاتم؛ عن مطرّف قال: كان مالك إذا دخل بيته قال:
«ما شاء الله، لا قوّة إلّا بالله» . قلت له: لم تقول هذا؟ قال: ألا تسمع الله تعالى يقول
…
وتلا الآية. وأخرج عن الزّهري مثله.
وممّا يدفع إصابة العين أيضا رقية جبريل النّبيّ صلى الله عليه وسلم، كما رواه مسلم في «الطّبّ» عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أنّ جبريل أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال:
يا محمّد: أشتكيت؟ قال: «نعم» . قال: باسم الله أرقيك، من كلّ شيء يؤذيك، من شرّ كلّ ذي نفس، أو عين حاسد، الله يشفيك، باسم الله أرقيك» .
وعند مسلم أيضا في «الطّبّ» ؛ من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها:
كان جبريل يرقي النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى قال: باسم الله يبريك، ومن كلّ داء يشفيك، ومن شرّ حاسد إذا حسد، ومن شرّ كلّ ذي عين. انتهى. والله سبحانه وتعالى أعلم.