الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الفصل الثّاني في سنّه صلى الله عليه وسلم ووفاته]
الفصل الثّاني في سنّه صلى الله عليه وسلم ووفاته عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: مكث النّبيّ صلى الله عليه وسلم بمكّة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه،
(الفصل الثّاني) من الباب الثّامن؛
(في) ما جاء في (سنّه صلى الله عليه وسلم
أي: مقدار عمره الشّريف، والسّنّ بهذا المعنى مؤنّثة، لأنّها بمعنى المدّة.
(و) في ما جاء في (وفاته)
أي: تمام أجله الشّريف، فإنّ الوفاة- بفتح الواو-: مصدر وفى يفي بالتخفيف- أي: تمّ أجله.
وهذا الفصل مضمونه يسكب المدامع من الأجفان، ويجلب الفجائع لإثارة الأحزان، ويلهب نيران الموجدة على أكباد ذوي الإيمان.
أخرج البخاريّ في «الهجرة، والمغازي، وفضائل القرآن» ، ومسلم في «الفضائل» ، والتّرمذيّ في «الجامع» ؛ في «كتاب المناقب» ، وأخرجه في «الشّمائل» ؛
(عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: مكث) - بفتح الكاف وضمّها- أي: لبث (النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد البعثة (بمكّة) الّتي هي أفضل الأرض عند الشّافعي؛ حتى على المدينة المنوّرة، وعكس مالك الإمام.
وسمّيت مكة: لأنّها تمكّ الذّنوب؛ أي: تذهبها، ولها أسماء كثيرة.
(ثلاث عشرة سنة) هذا هو الأصحّ، وغيره! محمول عليه (يوحى إليه) ؛
وبالمدينة عشرا، وتوفّي وهو ابن ثلاث وستّين.
وفي رواية عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم توفّي وهو ابن خمس وستّين.
أي: باعتبار مجموعها، لأنّ مدّة فترة الوحي ثلاث سنين، من جملتها، وروي:
عشر سنين، وهو محمول على ما عدا مدّة فترة الوحي، وروي أيضا خمس عشرة سنة؛ في سبعة منها يرى نورا ويسمع صوتا؛ ولم ير ملكا. وفي ثمانية منها يوحى إليه.
وهذه الرّواية مخالفة للأولى من وجهين:
الأوّل في مدّة الإقامة بمكّة بعد البعثة؛ هل هي ثلاثة عشر؟ أو خمسة عشر.
والثّاني: في زمن الوحي: هل هو ثلاث عشرة؛ أو ثمانية.
(وبالمدينة عشرا) ؛ أي: عشر سنين باتّفاق، فإنّهم اتّفقوا على أنّه صلى الله عليه وسلم أقام بالمدينة بعد الهجرة عشر سنين، كما اتّفقوا على أنّه أقام بمكّة قبل البعثة أربعين سنة، وإنّما الخلاف في قدر إقامته بمكّة بعد البعثة!! والصّحيح أنه ثلاث عشرة سنة.
(وتوفّي) - بالبناء للمجهول- أيّ: توفّاه الله تعالى؛ أي: مات (وهو ابن ثلاث وستّين) سنة، واتّفق العلماء على أنّ هذه الرّواية أصحّ الرّوايات الثّلاث الواردة في قدر عمره صلى الله عليه وسلم، وقد رواها مسلم؛ من رواية عائشة، وأنس؛ وابن عبّاس رضي الله تعالى عنهم.
والثّانية: أنّه توفّي وهو ابن ستّين سنة، وهي محمولة على أنّ راويها اقتصر على العقود وألغى الكسر.
والثّالثة: أنّه توفّي وهو ابن خمس وستين سنة، وهي محمولة على إدخال سنة الولادة وسنة الوفاة، أو حصل فيها اشتباه. والله أعلم.
(وفي رواية عنه) ؛ أي: ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما (أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم توفّي وهو ابن خمس وستّين) سنة، أي: بحسبان سنتي الولادة والوفاة كما تقدّم
وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم توفّاه الله تعالى على رأس ستّين سنة.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم مات وهو ابن ثلاث وستّين سنة.
وعن جرير بن حازم الأسديّ، عن معاوية رضي الله تعالى عنه:
أنّه سمعه يخطب، قال:
…
التّنبيه عليه آنفا؛ على أنّه قد أنكر عروة بن الزّبير على ابن عبّاس قوله: خمس وستّين، ونسبه إلى الغلط، وأنّه لم يدرك أوّل النّبوّة، ولا كثرة صحبته، بخلاف الباقين.
(و) أخرج التّرمذيّ في «الشّمائل» ؛ (عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم توفّاه الله تعالى على رأس ستّين سنة) ؛ أي: بإلغاء الكسر، فلا ينافي رواية أنّه توفّاه الله تعالى وهو ابن ثلاث وستّين سنة، الّتي هي أصحّ الرّوايات؛ وأشهرها رواها البخاريّ من رواية ابن عبّاس؛ ومعاوية، ومسلم من رواية عائشة؛ وابن عبّاس؛ ومعاوية أيضا رضي الله تعالى عنهم.
(و) أخرج مسلم، والتّرمذيّ في «الشّمائل» ؛ (عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم مات وهو ابن ثلاث وستّين سنة) قد علمت أن هذه الرّواية أصحّ الرّوايات وأشهرها.
(و) أخرج البخاريّ، ومسلم، والتّرمذيّ في «الشّمائل» ؛
(عن جرير بن حازم الأسديّ) حضر جنازة أي الطّفيل بمكّة، وسمع رجاء العطارديّ، والحسن. وعنه ابنه، وابن مهدي. ثقة؛ لكنّه اختلط، فحجبه أولاده؛ مات سنة: سبعين ومائة.
(عن معاوية) بن أبي سفيان بن حرب بن أميّة (رضي الله تعالى عنه)
(أنّه) ؛ أي: جرير (سمعه) ؛ أي معاوية (يخطب) ؛ أي: حال كونه خطيبا (قال:
مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستّين، وأبو بكر وعمر. وأنا ابن ثلاث وستّين سنة.
قوله: (أنا ابن ثلاث وستّين) المراد: أنّه كان كذلك وقت تحديثه بهذا الحديث، ولم يمت فيه، بل عاش حتّى بلغ نحو ثمانين سنة.
مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستّين) ؛ أي: والحال أنّه ابن ثلاث وستّين سنة.
(وأبو بكر وعمر) مرفوعان بالابتداء، والخبر محذوف تقديره: كذلك.
أمّا أبو بكر! فمتفّق عليه أنّه مات وعمره ثلاث وستّون.
وأما عمر؛ فعلى الأصحّ أنّه عمره ثلاث وستّون.
ولم يذكر عثمان رضي الله تعالى عنه! لأنّه قتل وله من العمر ثنتان وثمانون سنة، وقيل: ثمان وثمانون.
ولم يذكر عليا رضي الله تعالى عنه وكرّم الله وجهه! مع أنّ الأصحّ أنّه قتل وله من العمر ثلاث وستّون. وقيل: خمس وستّون، وقيل: سبعون، وقيل: ثمان وخمسون!! للاختلاف الواقع فيه، أو لعدم معرفته بعمره، بسبب تعدّد الرّوايات.
والله أعلم.
ثم استأنف معاوية رضي الله تعالى عنه؛ فقال: (وأنا ابن ثلاث وستّين سنة) أي: أنا متوقع أن أموت في هذا السّن؛ موافقة لهم، لكنّه لم ينل مطلوبه ومتوقّعه، بل مات وهو قريب من ثمانين، كما سيأتي للمصنّف.
(قوله) ؛ أي: معاوية (أنا ابن ثلاث وستّين: المراد) بهذا الكلام (أنّه) ؛ أي معاوية (كان كذلك) ؛ أي: كان عمره ثلاثا وستّين سنة (وقت تحديثه بهذا الحديث، ولم يمت فيه) ؛ أي: في هذا السّن، (بل عاش) ؛ أي: طال عمره (حتّى بلغ نحو ثمانين سنة) قيل: بلغ ثمانيا وسبعين، وقيل: ستّا وثمانين، وقيل: ثمانين سنة.
وأمّا وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: ف
وأحسن العمر: ثلاث وستّون، كعمره صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، ولهذا لمّا بلغ بعض العارفين هذا السّنّ، هيّأ له أسباب مماته؛ إيماء إلى أنّه لم يبق لذّة في بقيّة حياته.
والله أعلم.
(وأمّا وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ف) هي مصيبة الأوّلين والآخرين من المسلمين، ولمّا كان الموت مكروها بالطّبع، لما فيه من الشّدة والمشقة العظيمة؛ لم يمت نبيّ من الأنبياء حتّى يخيّر.
وأول ما أعلم النّبيّ صلى الله عليه وسلم من انقضاء عمره باقتراب أجله؛ بنزول سورة إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)[النصر] فإنّ المراد من هذه السّورة نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي:
إنّك يا محمّد إذا فتح الله عليك البلاد، ودخل النّاس في دينك، الّذي دعوتهم إليه أفواجا؛ فقد اقترب أجلك، فتهيّأ للقائنا بالتحميد والاستغفار، فإنّه قد حصل منك مقصود ما أمرت به؛ من أداء الرّسالة والتّبليغ، وما عندنا خير لك من الدّنيا، فاستعدّ للنّقلة إلينا.
وكان عليه الصلاة والسلام يعرض القرآن كلّ عام على جبريل مرّة، فعرضه ذلك العام مرّتين في رمضان؛ كما في «الصّحيحين» من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها.
وكان عليه الصلاة والسلام يعتكف العشر الأواخر من رمضان كلّ عام؛ فاعتكف في ذلك العام عشرين، وأكثر معهن الذكر والاستغفار.
وروى الشيخان؛ من حديث عقبة بن عامر الجهني؛ قال:
صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد؛ صلاته على الميت بعد ثمان سنين، كالمودّع للأحياء والأموات، ثمّ طلع المنبر؛ فقال:
«إنّي بين أيديكم فرط، وأنا عليكم شهيد، وإنّ موعدكم الحوض، وإنّي لأنظر إليه وأنا في مقامي هذا، وإنّي قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، وإنّي لست
عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كشف السّتارة يوم الإثنين،
…
أخشى عليكم أن تشركوا بعدي!!، ولكنّي أخشى عليكم الدّنيا أن تنافسوا فيها!!» .
وما زال صلى الله عليه وسلم يعرّض باقتراب أجله في آخره عمره، فإنه لما خطب في حجّة الوداع؛ قال للنّاس:«خذوا عنّي مناسككم، فلعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا!» .
وطفق يودّع النّاس، فقالوا: هذه «حجة الوداع» .
واختلف في مدّة مرضه، والأكثر أنّها ثلاثة عشر يوما، وهو المشهور.
وكان ابتداء مرضه في بيت ميمونة؛ كما ثبت في «الصحيحين» ، واشتداد مرضه في بيت عائشة رضي الله تعالى عنها. وابتدأ به المرض يوم الاثنين، وقيل:
يوم السّبت، وقيل: يوم الأربعاء.
وشدّة مرضه الّتي انقطع بها عن الخروج في بيت عائشة كانت سبعة أيّام، وما زاد عليها؛ فهو قبل اشتداده الّذي انقطع به.
وفي البخاريّ ومسلم: قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: لمّا ثقل برسول الله صلى الله عليه وسلم واشتدّ وجعه استأذن أزواجه أن يمرّض في بيتي، فأذنّ له
…
الحديث.
وأخرج ابن ماجه، والتّرمذيّ في «الشّمائل» ؛ (عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كشف) أي: رفع (السّتارة) المعلّقة على باب بيته الشّريف، أي: أمر برفعها. وهي- بكسر السّين المهملة-:
ما يستر به، فقوله «آخر نظرة» مبتدأ، وخبره ما دلّ عليه «كشف» ، وجملة «كشف السّتارة» في محلّ نصب على الحال، بتقدير «قد» ؛ أي: آخر نظري إلى وجهه حال كونه قد كشف السّتارة (يوم الاثنين) - منصوب على الظّرفية-. وقيل:
إنّه مرفوع على أنه خبر، مع تقدير مضاف قبل المبتدأ، والتّقدير: زمن آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو يوم الاثنين.
فنظرت إلى وجهه كأنّه ورقة مصحف، والنّاس خلف أبي بكر، فكاد النّاس أن يضطربوا، فأشار إلى النّاس: أن اثبتوا وأبو بكر يؤمّهم، وألقى السّجف، وتوفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر ذلك اليوم.
(فنظرت إلى وجهه) الشّريف (كأنّه ورقة) - بفتح الرّاء- (مصحف) - مثلّث الميم، والأشهر ضمّها-، وهو كناية عن الجمال البارع وحسن البشرة، وصفاء الوجه، واستنارته؛ قاله الزّرقاني.
(والنّاس خلف أبي بكر) الصّدّيق رضي الله تعالى عنه؛ قد اقتدوا به في صلاة الصّبح بأمره صلى الله عليه وسلم، (فكاد النّاس أن يضطربوا) في صلاتهم بأن يخرجوا منها فرحا برسول الله صلى الله عليه وسلم، لاعتقادهم خروجه صلى الله عليه وسلم ليصلّي بهم، (فأشار) رسول الله صلى الله عليه وسلم (إلى النّاس: أن اثبتوا) مكانكم في صلاتكم. و «أن» تفسيريّة لمعنى الإشارة؛ لما في الإشارة من معنى القول، فهو نظير قوله فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ [27/ المؤمنون] .
(وأبو بكر يؤمّهم) ؛ أي: يصلّي بهم إماما في صلاة الصّبح بأمره، حيث قال:«مروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس» .
(وألقى) ؛ أي: أرخى (السّجف) - بكسر السّين وفتحها- أي: السّتر، وهو الّذي عبر عنه أولا بالسّتارة.
(وتوفّي) - بصيغة المجهول- (رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر ذلك اليوم) ؛ وهو يوم الاثنين، وكان ابتداء مرضه صلى الله عليه وسلم من صداع عرض له، ثمّ اشتدّ به؛ حتّى صار يقول:«أين أنا غدا.. أين أنا غدا؟» ثمّ استأذن أزواجه أن يمرّض في بيت عائشة لمحبّته لها؛ مع علمه بأنّ بيتها مدفنه، فأذنّ له أن يمرّض عندها، وامتدّ به المرض، حتّى مات في اليوم الثّاني عشر من ربيع الأوّل، وكان يوم الاثنين.
وكونه توفّي آخر ذلك اليوم لا ينافي جزم أهل السّير بأنّه مات حين اشتدّ الضّحى!! بل حكى صاحب «جامع الأصول» : الاتّفاق عليه، لأنّ المراد بقولهم
.........
«توفّي ضحى» : أنّه فارق الدّنيا، وخرجت نفسه الشّريفة في وقت الضّحى، والمراد بكونه توفّي في آخر اليوم أنّه تحقّق وفاته عند النّاس في آخر اليوم.
وذلك أنّه بعد ما توفّي حصل اضطراب واختلاف بين الصّحابة في موته، فأنكر كثير منهم موته؛ حتّى قال عمر: من قال «إنّ محمّدا قد مات؛ قتلته بسيفي هذا» ؟! فما تحقّقوا وفاته إلّا في آخر النّهار، حتّى جاء الصّدّيق رضي الله تعالى عنه وأعلمهم كما سيأتي.
وفي الحديث أنّ الصّدّيق استمرّ خليفة على الصّلاة؛ حتّى مات المصطفى صلى الله عليه وسلم، لا كما زعمت الشّيعة أنّه عزله بخروجه!! والله أعلم.
وقد روى البخاريّ هذا الحديث أيضا؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه، لكن بلفظ: إنّ المسلمين بينما هم في صلاة الفجر يوم الاثنين؛ وأبو بكر يصلّي بهم لم يفجأهم إلّا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كشف سجف حجرة عائشة رضي الله تعالى عنها، فنظر إليهم وهم صفوف في الصّلاة ثمّ تبسّم يضحك، فنكص أبو بكر على عقبيه ليصلّ بالصّف، فظنّ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يخرج إلى الصّلاة.
قال أنس: وهمّ المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم؛ فرحا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأشار إليهم بيده: أن أتمّوا صلاتكم، ثمّ دخل الحجرة، وأرخى السّتر. وفي رواية له: فتوفّي في يومه.
وفي رواية أخرى للبخاريّ ومسلم؛ عن أنس أيضا: لم يخرج إلينا ثلاثا، فذهب أبو بكر يتقدّم، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجاب، فلمّا وضح لنا وجهه ما نظرنا منظرا قطّ كان أعجب إلينا منه، حين وضح لنا؛ فأومأ إلى أبي بكر أن يتقدّم وأرخى الحجاب
…
الحديث.
ولفظ مسلم؛ عن أنس أيضا: إنّ أبا بكر كان يصلّي بهم، حتّى إذا كانوا يوم الاثنين وهم صفوف في الصّلاة؛ كشف صلى الله عليه وسلم ستر الحجرة، فنظرنا إليه؛ وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف، ثمّ تبسّم ضاحكا
…
الحديث.
و (السّجف) : السّتارة.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كنت مسندة النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى صدري- أو قالت: إلى حجري- فدعا بطست؛ ليبول فيه، ثمّ بال، فمات صلى الله عليه وسلم.
(والسّجف) - بكسر السّين المهملة-: (السّتارة) الّتي على الحجرة الشّريفة.
(و) أخرج التّرمذيّ في «الشّمائل» ؛ (عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كنت مسندة) - بصيغة اسم الفاعل؛ من الإسناد- (النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى صدري- أو قالت: إلى حجري-) بفتح الحاء المهملة وكسرها-: حضني؛ وهو- بكسر الحاء-: ما دون الإبط إلى الكشح.
(فدعا بطست) - بفتح أوّله- أصله «طسّ» . فأبدل أحد المضعّفين تاء لثقل اجتماع المثلين، ويقال: طسّ على الأصل- بغير تاء-، وهي كلمة أعجمية معرّبة مؤنّثة؛ عند الأكثر، وحكي تذكيرها، ولذلك قال:
(ليبول فيه) - بتذكير الضّمير، لكنّ التّأنيث أكثر في كلام العرب؛ كما قال الزّجاج- (ثمّ بال، فمات صلى الله عليه وسلم ولحق بالرّفيق الأعلى.
وظاهره أنّه مات في حجرها، ويوافقه ما رواه البخاريّ عنها: توفّي في بيتي، وفي يومي، وبين سحري ونحري. وفي رواية: بين حاقنتي وذاقنتي؛ أي: كان رأسه بين حنكها وصدرها.
ولا يعارضه ما رواه الحاكم وابن سعد؛ من طرق: أنّ رأسه كان في حجر علي رضي الله عنه؟ لأنّ كلّ طريق منها، لا يخلو من شيء؛ كما ذكره الحافظ ابن حجر.
وعلى تقدير صحّتها! يحمل على أنّه كان في حجره قبل الوفاة.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أيضا أنّها قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالموت، وعنده قدح فيه ماء، وهو يدخل يده في القدح، ثمّ يمسح وجهه بالماء، ثمّ يقول:
«اللهمّ؛ أعنّي على سكرات الموت» .
وفي الحديث حلّ الاستناد للزّوجة، والبول في الطّست بحضرتها.
(و) أخرج الإمام أحمد، والتّرمذي في «الجامع» ؛ و «الشمائل» - وقال في «الجامع» : حديث حسن غريب- وأخرجه ابن ماجه: كلّهم؛
(عن عائشة رضي الله تعالى عنها أيضا أنّها قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالموت) - أي: مشغول به، ومتلبّس به- (وعنده قدح فيه ماء؛ وهو يدخل يده في القدح، ثمّ يمسح وجهه بالماء) ، لأنّه كان يغمى عليه من شدّة المرض ثم يفيق.
قال «المناوي» : وفيه أنه يسنّ فعل ذلك لمن حضره الموت، لأنّ فيه نوع تخفيف؛ فإن لم يفعله فعل به. أي: ما لم يظهر كراهته.
(ثمّ يقول: «اللهمّ أعنّي على سكرات الموت» ) : شدائده.
قال بعض العلماء: فيه أنّ ذلك من شدّة الآلام والأوجاع؛ لرفعة منزلته، وقد قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: لا أكره شدّة الموت لأحد بعد النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقال الشّيخ أبو محمد المرجاني: تلك السّكرات سكرات الطّرب، ألا ترى إلى قول بلال لمّا قال له أهله- وهو في السّياق-: واكرباه!! ففتح عينيه؛ وقال:
واطرباه!! غدا ألقى الأحبّة؛ محمدا وحزبه.
فإذا كان هذا طربه وهو في حال السّياق بلقاء محبوبه؛ وهو النّبيّ صلى الله عليه وسلم وحزبه، فما بالك بلقاء النّبيّ لربّه تعالى!! فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [17/ السجدة] .
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أيضا قالت: لا أغبط أحدا بهون موت بعد الّذي رأيت من شدّة موت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(و) أخرج الإمام أحمد، والتّرمذي في «الجامع» و «الشّمائل» ؛
(عن عائشة رضي الله تعالى عنها أيضا قالت: لا أغبط) - بكسر الموحّدة- من الغبطة وهي: أن يتمنّى أن يكون له مثل ما للغير؛ من غير أن تزول عنه.
وفي رواية: ما أغبط (أحدا بهون موت) ؛ أي: بسهولته (بعد الّذي رأيت من شدّة موت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومرادها بذلك إزالة ما تقرّر في النّفوس من تمنّي سهولة الموت، لأنّها لما رأت شدّة موته صلى الله عليه وسلم علمت أنّها ليست علامة رديئة؛ بل مرضيّة، فليست شدّة الموت علامة على سوء حال الميت، كما قد يتوهّم، وليست سهولته علامة على حسن حاله؛ كما قد يتوهم أيضا.
والحاصل: أنّ الشّدّة ليست أمارة على سوء؛ ولا ضدّه، والسّهولة ليست أمارة على خير؛ ولا ضدّه.
وقد جاء عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم بيان الشّدّة الحاصلة بالموت، فقد روى الإمام أحمد بإسناد حسن؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه؛ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال:«لم يلق ابن آدم شيئا قطّ منذ خلقه الله أشدّ عليه من الموت، ثمّ إنّ الموت لأهون ممّا بعده» .
وأخرج الخطيب البغداديّ في «تاريخ بغداد» ؛ عن أنس: «لمعالجة ملك الموت أشدّ من ألف ضربة بالسّيف» انتهى.
اللهمّ؛ خفّف عنّا سكرات الموت، والطف بنا عند نزع أرواحنا، وارحمنا إذا صرنا من أصحاب القبور؛ يا عزيز يا غفور.
(و) أخرج التّرمذيّ في «الجامع» و «الشمائل» ، وقال في «الجامع» : إنّه حديث غريب، وعبد الرّحمن بن أبي بكر المليكي يضعّف من قبل حفظه؛
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أيضا قالت: لمّا قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم.. اختلفوا في دفنه، فقال أبو بكر:
سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ما نسيته؛ قال: «ما قبض الله نبيّا إلّا في الموضع الّذي يحبّ أن يدفن فيه، ادفنوه في موضع فراشه» .
(عن عائشة رضي الله تعالى عنها أيضا قالت: لمّا قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في دفنه؟) ؛ أي في أصل دفنه، هل يدفن أو لا؟ وفي محلّ دفنه: هل يدفن في مسجده؟ أو البقيع عند أصحابه؟ أو في الشّام؛ عند أبيه إبراهيم الخليل؟ أو في بلده مكّة المكرمة؟
فالاختلاف من وجهين: أصل الدّفن، ومحلّ الدّفن؟ كذا في «الباجوري» .
قال بعضهم: هذا أوّل اختلاف وقع بين الصّحابة بعد موته، حتى أخبرهم أبو بكر وعليّ بما عندهما من العلم- كما سيأتي-؛ ذكره المناوي.
(فقال أبو بكر) جوابا عن كلّ من السّؤالين:
(سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ما نسيته) ؛ إشارة إلى كمال استحضاره وحفظه. (قال: «ما قبض الله نبيّا؛ إلّا في الموضع الّذي يحبّ) الله؛ أو النّبيّ (أن يدفن) - بصيغة المجهول- (فيه» ) .
ولا ينافيه نقل موسى ليوسف عليهما الصّلاة والسّلام من مصر إلى آبائه بفلسطين!؟ لاحتمال أن محبّة دفنه بمصر مؤقّتة بفقد من ينقله، على أن الظّاهر أن موسى إنّما فعله بوحي.
وورد أن عيسى يدفن بجنبه صلى الله عليه وسلم؛ في السّهوة الخالية بينه صلى الله عليه وسلم وبين الشّيخين.
وأخذ منه بعضهم أنّ عيسى يقبض هناك في ذلك المحلّ المكرّم.
(ادفنوه) - بكسر الفاء- (في موضع فراشه) ؛ أي: في المحلّ الّذي هو تحت فراشه، الّذي مات فيه من حجرة عائشة رضي الله تعالى عنها.
وعن عائشة أيضا وابن عبّاس: أنّ أبا بكر قبّل النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد ما مات.
وعن عائشة أيضا رضي الله تعالى عنها: أنّ أبا بكر دخل على النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، فوضع فمه بين عينيه، ووضع يديه على ساعديه،
…
(و) أخرج البخاري؛ عن عائشة، والتّرمذيّ في «الجامع» و «الشّمائل» ، وابن ماجه؛ (عن عائشة أيضا وابن عبّاس) رضي الله تعالى عنهم قال التّرمذيّ في «الجامع» : وفي الباب عن ابن عباس؛ وجابر؛ وعائشة، قالوا:
(إنّ أبا بكر) الصّدّيق رضي الله تعالى عنه (قبّل النّبيّ صلى الله عليه وسلم بين عينيه تبرّكا واقتداء به صلى الله عليه وسلم؛ حيث قبّل عثمان بن مظعون (بعد ما مات) .
فتقبيل الميت سنّة اقتداء بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم وبالصّدّيق رضي الله تعالى عنه.
قال المحقّق ابن حجر المكّيّ في «فتح الإله شرح المشكاه» :
إذا كان الميت صالحا سنّ لكلّ أحد تقبيل وجهه؛ التماسا لبركته، واتّباعا لفعله صلى الله عليه وسلم في عثمان بن مظعون- كما سيأتي-.
وإن كان غير صالح؟ جاز ذلك بلا كراهة، لنحو أهله وأصدقائه، لأنّه ربّما كان مخفّفا لما وجده من ألم فقده. ومع الكراهة لغير أهل الميت، إذ قد لا يرضى به لو كان حيّا من غير قريبه وصديقه.
ومحلّ ذلك كلّه ما لم يحمل التّقبيل فاعله على جزع أو سخط؛ كما هو الغالب من أحوال النّساء، وإلّا حرم أو كره. انتهى كلام «ابن حجر» ؛ نقله ابن علّان في «شرح الأذكار» .
(و) أخرج التّرمذيّ في «الشمائل» ؛ (عن عائشة أيضا رضي الله تعالى عنها أنّ أبا بكر) الصّدّيق (دخل على النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، فوضع فمه بين عينيه) وقبّله، (ووضع يديه على ساعديه) - الأقرب ما في «المواهب» : على صدغيه. لأنّه هو
وقال: وانبيّاه، واصفيّاه، واخليلاه.
وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: لمّا كان اليوم الّذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة.. أضاء منها كلّ شيء، فلمّا كان اليوم الّذي مات فيه.. أظلم منها كلّ شيء،
…
المناسب للعادة- (وقال) من غير انزعاج وقلق وجزع وفزع، بل بخفض صوت (: وانبيّاه؛ واصفيّاه؛ واخليلاه) بهاء سكت في الثّلاثة، تزاد ساكنة لإظهار الألف الّتي أتى بها ليمتدّ الصوت به.
وهذا يدلّ على جواز عدّ أوصاف الميت بلا نوح، بل ينبغي أن يندب، لأنّه من سنّة الخلفاء الرّاشدين، والأئمّة المهديين.
وقد صار ذلك عادة في رثاء العلماء، بحضور المحافل العظيمة، والمجالس الفخيمة.
قال في «جمع الوسائل» : وفي رواية أحمد أنّ أبا بكر أتاه من قبل رأسه فحدر فاه؛ فقبّل جبهته، ثمّ قال: وانبيّاه. ثمّ رفع رأسه وحدر فاه؛ وقبّل جبهته، ثمّ قال: وا صفيّاه. ثمّ رفع رأسه وحدر فاه؛ وقبّل جبهته، وقال: واخليلاه.
وفي رواية ابن أبي شيبة: فوضع فمه على جبينه؛ فجعل يقبّله ويبكي، ويقول: بأبي أنت وأمّي؛ طبت حيّا وميتا. انتهى.
(و) أخرج ابن ماجه، والتّرمذيّ في «الشمائل» ؛ (عن أنس رضي الله تعالى عنه قال:
لمّا كان اليوم الّذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة) الشّريفة (أضاء) أي:
استنار (منها) ؛ أي: المدينة الشّريفة (كلّ شيء) نورا حسّيّا ومعنويا، لأنّه صلى الله عليه وسلم نور الأنوار، والسّراج الوهّاج، ونور الهداية العامّة، ورفع الظلمة الطّامة.
(فلمّا كان اليوم الّذي مات فيه) صلى الله عليه وسلم (أظلم منها كلّ شيء) لفقد النّور،
وما نفضنا أيدينا من التّراب، وإنّا لفي دفنه حتّى أنكرنا قلوبنا.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين.
وعن محمّد الباقر رضي الله تعالى عنه- وهو من التّابعين- قال:
قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين، فمكث ذلك اليوم، وليلة الثّلاثاء، ودفن من اللّيل.
والسّراج منها؛ فذهب ذلك النّور بموته. (و- ما-) نافية (نفضنا أيدينا من التّراب) ؛ أي: تراب قبره الشّريف، ونفض الشّيء: تحريكه ليزول عنه الغبار (وإنّا) - بالكسر، أي: والحال إنّا- (لفي) معالجة (دفنه حتّى أنكرنا) بصيغة الماضي (قلوبنا) أي: تغيّرت حالها بوفاة النّبيّ صلى الله عليه وسلم عمّا كانت عليه من الرّقّة والصّفاء؛ لانقطاع ما كان يحصل لهم منه صلى الله عليه وسلم من التعليم، وبركة الصّحبة، وليس المراد أنّهم لم يجدوا قلوبهم على ما كانت عليه من التّصديق!!، لأنّ إيمانهم لم ينقص بوفاته صلى الله عليه وسلم.
(و) أخرج الإمام أحمد، والبخاريّ؛ والتّرمذي في «الشّمائل» كلّهم؛
(عن عائشة رضي الله تعالى عنها) أنّها (قالت: توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ أي:
توفّاه الله تعالى بقبض روحه (يوم الاثنين) كما هو متفق عليه بين أرباب النّقل.
(و) أخرج التّرمذي في «الشّمائل» قال: حدّثنا محمّد بن أبي عمر؛ قال:
حدّثنا سفيان بن عيينة؛ (عن) جعفر الصّادق؛ عن أبيه (محمّد الباقر) بن عليّ زين العابدين ابن سيدنا الحسين السّبط (رضي الله تعالى عنه) وعنهم أجمعين؛ (وهو) أي: محمّد الباقر (من التّابعين) فالحديث مرسل؛ (قال:
قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، فمكث) - بضمّ الكاف؛ وفتحها، أي:
لبث بلا دفن- (ذلك اليوم) الذي هو يوم الاثنين (وليلة الثّلاثاء) بالمدّ (ودفن من اللّيل) ؛ أي في ليلة الأربعاء وسط اللّيل، وقيل: دفن ليلة الثلاثاء، وقيل: يوم
وعن سالم بن عبيد رضي الله تعالى عنه- وكانت له صحبة- قال:
أغمي على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه،
…
الثّلاثاء، والأوّل عليه الأكثر.
وأما غسله وتكفينه، ففعلت يوم الثّلاثاء؛ كما في «المواهب» .
وإنّما أخّر دفنه صلى الله عليه وسلم مع أنّه يسنّ تعجيله!! لعدم اتّفاقهم على دفنه، ومحلّ دفنه، ولدهشتهم من ذلك الأمر الهائل، الّذي لم يقع قبله ولا بعده مثله. وذلك لأنّه لمّا وقعت هذه المصيبة العظمى والبليّة الكبرى؛ وقع الاضطراب بين الأصحاب، كأنّهم أجساد بلا أرواح!! وأجسام بلا عقول!! حتّى إنّ منهم من صار عاجزا عن النّطق! ومنهم من صار ضعيفا نحيفا! وبعضهم صار مدهوشا! وشكّ بعضهم في موته، وكان محلّ الخوف من هجوم الكفّار، وتوهّم وقوع المخالفة في أمر الخلافة بين الأبرار، فاشتغلوا بالأمر الأهمّ؛ وهو البيعة لما يترتّب على تأخيرها من الفتنة، وليكون لهم إمام يرجعون إليه فيما ظهر لهم من القضيّة؛ فنظروا في الأمر، فبايعوا أبا بكر، ثمّ بايعوه من الغد بيعة أخرى، وكشف الله به الكربة، من أهل الرّدّة، ثمّ رجعوا إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فغسّلوه، وصلّوا عليه ودفنوه، بملاحظة رأي الصّدّيق رضي الله تعالى عنه. والله وليّ التّوفيق؛ قاله في «جمع الوسائل» .
(و) أخرج التّرمذيّ في «الشّمائل» ؛ قال: حدّثنا نصر بن علي الجهضمي؛ قال: حدّثنا عبد الله بن داود؛ قال: حدّثنا سلمة بن نبيط؛ قال: أخبرنا عن نعيم بن أبي هند عن نبيط بن شريط؛ (عن سالم بن عبيد) - بالتّصغير- الأشجعيّ:
صحابيّ من أهل الصّفّة (رضي الله تعالى عنه) ، خرّج له الأربعة، ومسلم، ولذلك قال المصنّف تبعا ل «الشّمائل» : (وكانت له صحبة؛ قال:
أغمي) - بصيغة المجهول- (على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه) لشدّة ما حصل له من الضّعف، وفتور الأعضاء، فالإغماء جائز على الأنبياء، لأنّه من المرض.
فأفاق، فقال:«حضرت الصّلاة؟» ، فقالوا: نعم، فقال:
«مروا بلالا فليؤذّن، ومروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس» .
قال: ثمّ أغمي عليه، فأفاق، فقال:«حضرت الصّلاة؟» ، فقالوا: نعم، فقال:«مروا بلالا فليؤذّن، ومروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس» .
فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: إنّ أبي رجل أسيف- أي:
حزين-
…
وقيّده الغزاليّ بغير الطويل، وجزم به البلقيني، بخلاف الجنون، فليس جائزا عليهم؛ لأنّه نقص، وليس إغماؤهم كإغماء غيرهم! لأنّه إنّما يستر حواسّهم الظّاهرة؛ دون قلوبهم، لأنّه إذا عصمت عن النّوم فعن الإغماء أولى.
(فأفاق) من الإغماء بأن رجع إلى الشّعور؛ (فقال: «حضرت الصّلاة؟» ) ؛ أي: صلاة العشاء الآخرة؛ كما ثبت عند البخاري وهو استفهام بحذف الهمزة، أي: أحضر وقتها؟.
(فقالوا: نعم) أي: حضرت الصّلاة.
(فقال: «مروا بلالا) ؛ أي: بلّغوا أمري بلالا (فليؤذّن) - بفتح الهمزة، وتشديد الذّال- من التّأذين، أي: فليناد بالصّلاة.
(ومروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس» ) ؛ إماما لهم.
(قال: ثمّ أغمي عليه، فأفاق، فقال:«حضرت الصّلاة؟» فقالوا: نعم.
فقال: «مروا بلالا فليؤذّن، ومروا أبا بكر؛ فليصلّ بالنّاس» .
فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: إنّ أبي رجل أسيف) فعيل بمعنى فاعل؛ من الأسف؛ وهو شدّة الحزن، (أي حزين) ؛ أي: يغلب عليه الحزن والبكاء،
إذا قام ذلك المقام.. بكى، فلا يستطيع، فلو أمرت غيره.
قال: ثمّ أغمي عليه، فأفاق، فقال:«مروا بلالا فليؤذّن، ومروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس، فإنّكنّ صواحب- أو صواحبات- يوسف» ؛ أي: مثلهنّ في إظهار خلاف ما يبطنّ.
ولا يطيق أن يشاهد محلّ المصطفى صلى الله عليه وسلم خاليا منه، فلا يتمكّن من الإمامة، والقراءة، وهذا معنى قولها:
(إذا قام ذلك المقام) الّذي هو مقام الإمامة (بكى) ؛ حزنا عليك (فلا يستطيع) ؛ أي: لا يقدر على الصّلاة بالنّاس، لغلبة البكاء عليه (فلو أمرت غيره؟!) لكان حسنا فجواب «لو» محذوف إن كانت شرطية، ويحتمل أنّها للتمنّي فلا جواب لها.
(قال) ؛ أي: سالم بن عبيد (: ثمّ أغمي عليه، فأفاق، فقال: «مروا بلالا فليؤذّن، ومروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس، فإنّكنّ صواحب) - جمع صاحبة- (أو صواحبات) جمع صواحب؛ فهو جمع الجمع- (يوسف؛ أي: مثلهنّ في إظهار خلاف ما يبطنّ) - بتشديد النون- حتّى يصلن إلى أغراضهنّ، فالخطاب؛ وإن كان بلفظ الجمع لكنّ المراد به واحدة؛ وهي عائشة، وكذلك الجمع في قوله «صواحب» المراد به: امرأة العزيز، فهو من قبيل التّشبيه البليغ. ووجه الشّبه:
أنّ زليخا استدعت النّسوة، وأظهرت لهنّ الإكرام بالضّيافة؛ وأضمرت زيادة على ذلك، وهي: أن ينظرن إلى حسن يوسف عليه الصلاة والسلام فيعذرنها في حبّه.
وعائشة رضي الله تعالى عنها أظهرت أنّ سبب محبّتها صرف الإمامة عن أبيها، أنّه رجل أسيف، وأنه لا يستطيع ذلك، وأضمرت زيادة على ذلك هي ألايتشاءم النّاس به. فقد روى البخاريّ عنها: لقد راجعته، وما حملني على كثرة المراجعة إلّا أنّه لم يقع في قلبي أن يحبّ النّاس رجلا قام مقامه أبدا، وأنّه لن يقوم أحد مقامه إلّا تشاءم النّاس به.
قال: فأمر بلال فأذّن، وأمر أبو بكر فصلّى بالنّاس، ثمّ إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد خفّة فقال:«انظروا لي من أتّكىء عليه» ، فجاءت بريرة ورجل آخر؛
…
قال في «جمع الوسائل» : وقد يقال: الخطاب لعائشة وحفصة، وجمع إمّا تعظيما لهما، أو تغليبا لمن معهما من الحاضرات؛ أو الحاضرين، أو بناء على أنّ أقلّ الجمع اثنان.
ويعضده أنّ هذا الحديث أي «أغمي
…
» إلى آخره روى الشّيخان بعضه، ومنه قوله:«مروا أبا بكر، فليصلّ بالنّاس» ، وأنّ عائشة أجابته، وأنّه كرّر ذلك؛ فكرّرت الجواب، وأنّه قال:«إنّكنّ صواحب يوسف، أو صواحبات يوسف، مروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس» .
وفي البخاريّ: «فمر عمر فليصلّ بالنّاس» . وأنّها قالت لحفصة: أنّها تقول له ما قالته عائشة، فقال لها: «مه إنّكنّ لأنتنّ صواحب يوسف! مروا أبا بكر.
فليصلّ بالنّاس» . فقالت لها حفصة: ما كنت لأصيب منك خيرا. انتهى.
(قال) ؛ أي سالم بن عبيد (فأمر بلال) - بصيغة المجهول- (فأذّن، وأمر أبو بكر فصلّى بالنّاس) تلك الصّلاة، واستمرّ يصلّي بهم إلى تمام سبع عشرة صلاة؛ كما نقله الحافظ الدّمياطيّ أولاها عشاء ليلة الجمعة، وآخرها صبح يوم الاثنين الّذي توفّي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كذا قاله الباجوري كالمناوي.
(ثمّ إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد خفّة) من مرضه؛ (فقال: «انظروا لي) ؛ أي أحضروا لي (من أتّكىء) ؛ أي: أعتمد (عليه» ) لآخرج للصّلاة.
(فجاءت بريرة) - بفتح الموحّدة، وكسر الرّاء المهملة الأولى مكبّرا؛ وهي:
بنت صفوان مولاة عائشة قبطيّة، أو حبشيّة، لها حديث واحد.
(ورجل آخر) جاء في رواية: أنّه نوبة- بضمّ النّون، وسكون الواو- وهو عبد أسود، ووصف باخر!! للإيضاح. وفي رواية الشيخين: فخرج بين رجلين؛
فاتّكأ عليهما، فلمّا رآه أبو بكر ذهب لينكص؛ فأومأ إليه أن يثبت مكانه حتّى قضى أبو بكر صلاته.
أحدهما العبّاس، ورجل آخر، وفسّر بعلي. وفي طريق آخر: ويده على الفضل بن عباس، ويده على رجل آخر. وجاء في غير مسلم: بين رجلين؛ أحدهما أسامة.
وفي رواية مسلم: العبّاس وولده الفضل، وفي أخرى: العبّاس وأسامة.
وجمعوا بين هذه الرّوايات على تقدير ثبوت جميعها بتعدّد خروجه. وخصّوا بذلك، لأنّهم من خواصّ أهل بيته؛ كذا في شروح «الشّمائل» .
(فاتّكأ) ؛ أي: اعتمد (عليهما) كما يعتمد على العصا (فلمّا رآه أبو بكر ذهب) ؛ أي: طفق (لينكص) ؛ أي: ليرجع إلى ورائه القهقرى. يقال: نكص على عقبيه: رجع. وبابه: دخل؛ وجلس، فيصحّ قراءة ما هنا بضمّ الكاف وكسرها، والأولى أن تضبط بكسرها، لأنّه المطابق لما في القرآن، حيث قال تعالى عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66)[المؤمنون] بالكسر لا غير.
(فأومأ) - بالهمز- على الصّحيح أي: أشار النّبيّ صلى الله عليه وسلم (إليه) ؛ أي: إلى أبي بكر (أن يثبت مكانه) ليبقى على إمامته، ولا يتأخّر عن مكانه فثبت (حتّى قضى أبو بكر صلاته) أي: أتمّها، فهو مرتبط بمحذوف كما قدرته.
وظاهر ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم اقتدى بأبي بكر، وقد صرّح به بعض الرّوايات، لكن الّذي في رواية «الصحيحين» : كان أبو بكر رضي الله عنه يصلّي قائما ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي قاعدا يقتدي أبو بكر بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنّاس يقتدون بصلاة أبي بكر رضي الله عنه.
والمراد أنّ أبا بكر كان رابطة مبلّغا عنه صلى الله عليه وسلم، فبعد أن أخرج نفسه من الإمامة، صار مأموما. وهذا يدلّ لمذهب الشافعيّ؛ من جواز إخراج الإمام نفسه من الإمامة، واقتدائه بغيره؛ فيصير مأموما بعد أن كان إماما.
ثمّ إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض، فقال عمر: والله؛ لا أسمع أحدا يذكر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض إلّا ضربته بسيفي هذا. قال: وكان النّاس أمّيّين؛ لم يكن فيهم نبيّ قبله،
ويمكن الجمع بين هاتين الرّوايتين بتعدّد الواقعة. انتهى؛ قاله الباجوري، ومثله في المناوي على «الشمائل» . وفيه إشكال لما تقدّم نقله؛ عن الدّمياطي أن أبا بكر صلّى بهم تلك الصّلاة؛ وما بعدها
…
إلى تمام سبع عشرة صلاة.
ورواية الشيخين صريحة في أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم هو الّذي صلّى بهم تلك الصّلاة؛ وأبو بكر كان مقتديا به، فهي أولى بالاعتماد من غيرها.
(ثمّ إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض) أي: مات؛ وأبو بكر الصّدّيق غائب بالعالية عند زوجته بنت خارجة، وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم أذن له في الذّهاب.
(فقال عمر) وقد سلّ سيفه (: والله؛ لا أسمع أحدا يذكر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض إلّا ضربته بسيفي هذا!!؟» ) .
والحامل له على ذلك ظنّه عدم موته، وأنّ الّذي عرض عليه غشي أو استغراق وتوجّه للذات العلية، ولذلك كان يقول أيضا: إنما أرسل إليه صلى الله عليه وسلم كما أرسل إلى موسى صلى الله عليه وسلم فلبث عن قومه أربعين ليلة، والله؛ إنّي لأرجو أن يقطع أيدي رجال، وأرجلهم، أي: من المنافقين، أو المرتدّين.
(قال) سالم (: وكان النّاس) أي: العرب، بقرينة السّياق (أمّييّن)، لقوله تعالى هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ [2/ الجمعة] . قال جمهور المفسّرين:
الأمّيّ: من لا يحسن الكتابة والقراءة. أي: لا يقرؤون ولا يكتبون. هذا هو معنى الأمّييّن في الأصل، والمراد بهم هنا: من لم يحضر موت نبيّ قبله، فقوله (لم يكن فيهم نبيّ قبله!!) تفسير وبيان للمراد بالأمّييّن؛ بأنّهم لم يشاهدوا موت نبيّ ولا عرفوه من كتاب.
وسبب العلم بموته: إمّا دراية كتب الأنبياء، أو مشاهدة موته، وكلاهما منفيّ عن العرب.
فأمسك النّاس.
فقالوا: يا سالم؛ انطلق إلى صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فادعه، فأتيت أبا بكر رضي الله تعالى عنه- وهو في المسجد- فأتيته أبكي دهشا؟ فلمّا رآني.. قال لي: أقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: إنّ عمر يقول: لا أسمع أحدا يذكر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض.. إلّا ضربته بسيفي هذا، فقال لي:
انطلق، فانطلقت معه، فجاء هو والنّاس قد دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أيّها النّاس؛ أفرجوا لي،
…
(فأمسك النّاس) ألسنتهم عن النّطق بموته؛ خوفا من عمر لما حصل لهم من الذهول، والحيرة الّتي ضلّت بها معلوماتهم الّتي من جملتها نطق التّنزيل على أنه ميّت؛
(فقالوا) ؛ أي: النّاس (يا سالم؛ انطلق إلى صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم الّذي هو أبو بكر، فإنّه متى أطلق انصرف إليه، لكونه كان مشهورا به بينهم (فادعه) ليحضر فيبيّن الحال.
(فأتيت أبا بكر رضي الله تعالى عنه، وهو في المسجد) ؛ أي: مسجد محلّته التي كان فيها؛ وهو بالعوالي، كما في رواية البخاري: جاء من السّنح- بضمّ السّين المهملة؛ بوزن فعل-: موضع بأدنى عوالي المدينة بينه وبين مسجده الشّريف ميل، ولعله كان في ذلك المسجد، لصلاة الظّهر، (فأتيته) كررّه للتّأكيد (أبكي) أي: حال كوني أبكي (دهشا) - بفتح فكسر أي: حال كوني دهشا-:
أي متحيّرا (فلمّا رآني؛ قال لي: أقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم؟) لما فهمه من حاله.
(قلت: إنّ عمر يقول: لا أسمع أحدا يذكر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض إلّا ضربته بسيفي هذا!؟ فقال لي: انطلق؛ فانطلقت معه، فجاء هو) ؛ أي: أبو بكر (والنّاس قد دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أيّها النّاس؛ أفرجوا) - بقطع الهمزة، أي:
أوسعوا (لي) لأجل أن أدخل. ولا ينافي هذا رواية البخاري: أقبل أبو بكر
فأفرجوا له، فجاء حتّى أكبّ عليه ومسّه فقال: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر: 30] .
ثمّ قالوا: يا صاحب رسول الله؛ أقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، فعلموا أن قد صدق.
رضي الله تعالى عنه فلم يكلّم النّاس، لأنّ المراد لم يكلّمهم بغير هذه الكلمة.
(فأفرجوا له) ؛ أي: انكشفوا عن طريقه (فجاء حتّى أكبّ عليه) فوجده مسجّى ببرد حبرة، فكشف عن وجهه الشّريف. (ومسّه) أي: قبّله بين عينيه، ثمّ بكى، وقال: بأبي أنت وأمّي؛ لا يجمع الله عليك موتتين، أمّا الموتة الّتي كتبت عليك فقد متّها؛ كذا في البخاريّ. وقصد بذلك الردّ على عمر فيما قال، إذ يلزم منه أنّه إذا جاء أجله يموت موتة أخرى، وهو أكرم على الله من أن يجمع عليه موتتين، كما جمعها على الّذين خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ [243/ البقرة] .
(فقال) ؛ أي: قرأ استدلالا على موته صلى الله عليه وسلم قوله تعالى (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ
(30)
[الزمر] يعني: قد أخبر الله عنك في كتابه: أنّك ستموت، وأنّ أعداءك أيضا سيموتون، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)[الزمر] فقوله حقّ، ووعده صدق فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ [32/ الزمر] وقد قال المفسرون- في قوله تعالى وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) [الزمر] : - إنّ الجائي بالصّدق هو النّبيّ صلى الله عليه وسلم، والمصدّق أبو بكر، ولذا سمّي ب «الصّدّيق» رضي الله تعالى عنه.
(ثمّ قالوا: يا صاحب رسول الله؛ أقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم!! قال: نعم.
فعلموا أن) ؛ أي: أنّه (قد صدق) في إخباره بموته، لاستدلاله بالآية الّتي ذكرها، لما عنده من نور اليقين.
قالوا: يا صاحب رسول الله؛ أيصلّى على رسول الله؟ قال:
نعم، قالوا: وكيف؟ قال: يدخل قوم، فيكبّرون ويصلّون، ويدعون، ثمّ يخرجون، ثمّ يدخل قوم، فيكبّرون ويصلّون، ويدعون، ثمّ يخرجون، حتّى يدخل النّاس.
(قالوا: يا صاحب رسول الله؛ أيصلّى) - بالبناء للمفعول- (على رسول الله؟) إنّما سألوه لتوهّم أنّه مغفور له، فلا حاجة له إلى الصّلاة المقصود منها الدّعاء والشّفاء للميت.
(قال: نعم) أي: يصلّى عليه لمشاركته لأمّته في الأحكام، إلّا ما خرج من الخصوصيات لدليل. (قالوا: وكيف) يصلّى عليه؟ أمثل صلاتنا على آحاد أمّته؟
أم بكيفية مخصوصة تليق برتبته العليّة؟.
(قال: يدخل قوم، فيكبّرون) ؛ أي: أربع تكبيرات، (ويصلّون) على النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ (ويدعون، ثمّ يخرجون، ثمّ يدخل قوم، فيكبّرون ويصلّون، ويدعون، ثمّ يخرجون، حتّى يدخل النّاس) ؛ أي: وهكذا حتّى يصلّي عليه النّاس جميعا.
روى الحاكم في «المستدرك» ، والبزّار: أنّ المصطفى صلى الله عليه وسلم حين جمع أهله في بيت عائشة، قالوا: فمن يصلّي عليك؟ قال: «إذا غسّلتموني وكفّنتموني فضعوني على سرير، ثمّ اخرجوا عنّي ساعة، فإنّ أوّل من يصلّي عليّ جبريل، ثمّ ميكائيل، ثمّ إسرافيل، ثمّ ملك الموت مع جنوده، ثمّ ادخلوا عليّ فوجا بعد فوج، فصلّوا عليّ، وسلّموا تسليما» . قال الحاكم: فيه عبد الملك بن عبد الرّحمن؛ مجهول، وبقيّة رجاله ثقات.
وروى ابن ماجه أنّهم لمّا فرغوا من جهازه يوم الثّلاثاء وضع على سريره في بيته، ثمّ دخل النّاس أرسالا؛ أي: قوما بعد قوم، يصلّون عليه، حتّى إذا فرغوا دخلت النّساء، حتّى إذا فرغن؛ دخل الصّبيان، ولم يؤمّ النّاس عليه أحد، وقد
قالوا: يا صاحب رسول الله؛ أيدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قالوا: أين؟ قال: في المكان الّذي قبض الله فيه روحه، فإنّ الله لم يقبض روحه إلّا في مكان طيّب، فعلموا أن قد صدق.
روي عن عليّ كرّم الله وجهه أنّه قال: لا يؤمّ أحدكم عليه، لأنّه إمامكم حال حياته، وحال مماته.
وورد في بعض الرّوايات أنّه صلى الله عليه وسلم أوصى على الوجه المذكور، ولذا وقع التّأخير في دفنه، لأنّ الصّلاة على قبره صلى الله عليه وسلم لا تجوز؛ قاله ملّا علي قاري في «جمع الوسائل» .
قال الباجوري: وجملة من صلّى عليه من الملائكة ستّون ألفا، ومن غيرهم ثلاثون ألفا. انتهى. هذا أمر توقيفيّ؛ يحتاج إلى دليل. والله أعلم.
(قالوا: يا صاحب رسول الله؛ أيدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟) ؛ أي: أو يترك بلا دفن؟ لسلامته من التّغيّر، أو لانتظار رفعه إلى السّماء؟ (قال: نعم) ؛ أي:
يدفن في الأرض، لقوله تعالى مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (55)[طه]، ولأنّه من سنن الأنبياء والمرسلين (قالوا: أين) يدفن؟ كما تقدّم من الخلاف في دفنه. (قال:) يدفن (في المكان الّذي قبض الله فيه روحه، فإنّ الله لم يقبض روحه إلّا في مكان طيّب، فعلموا أن) ؛ أي: أنّه (قد صدق) فيما قال.
وورد مثل هذا عن أمير المؤمنين عليّ كرّم الله وجهه، فقد أخرج ابن الجوزيّ في «الوفاء» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في دفنه؟ فقال لي عليّ رضي الله عنه: إنّه ليس في الأرض بقعة أكرم على الله من بقعة قبض فيها نفس نبيّه صلى الله عليه وسلم. قال الشّريف السّمهوديّ: فهذا أصل الإجماع على تفضيل البقعة التي ضمّت أعضاءه على جميع الأرض، حتّى من الكعبة!.
انتهى.
ثمّ أمرهم أن يغسّله بنو أبيه.
واجتمع المهاجرون يتشاورون،
…
(ثمّ أمرهم أن يغسّله بنو أبيه) ؛ أي: أمر النّاس أن يمكّنوا بني أبيه من غسله، ولا ينازعوهم فيه، ولذلك لم يقل: أمر بني أبيه أن يغسّلوه، مع أنّه الظّاهر؟ لأنّ المأمور بالغسل هم؛ لا النّاس.
ومراده: ب «بني أبيه» : عصبته من النّسب، فغسّله عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، لخبر ابن سعد والبزّار والبيهقيّ وابن الجوزي في «الواهيات» ؛ عن عليّ قال: أوصاني النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «ألايغسّله أحد غيري، فإنّه لا يرى أحد عورتي إلا طمست عيناه» . زاد «ابن سعد» : قال عليّ: فكان الفضل وأسامة يناولان الماء من وراء السّتر- وهما معصوبا العين- قال عليّ: فما تناولت عضوا، إلا كأنّما يقلّبه معي ثلاثون رجلا، حتّى فرغت من غسله.
وكان العبّاس وابنه الفضل يعينانه، وقثم وأسامة وشقران «مولاه صلى الله عليه وسلم» يصبّون الماء وأعينهم معصوبة من وراء السّتر.
(واجتمع المهاجرون يتشاورون) في أمر الخلافة، والواو لمطلق الجمع، لأنّ القضيّة واقعة قبل الدّفن، فقد ذكر الطبريّ «1» في «الرّياض النّضرة» : أنّ الصّحابة أجمعوا على أنّ نصب الإمام بعد انقراض زمن النّبوة من واجبات الأحكام، بل جعلوه أهمّ الواجبات، حيث اشتغلوا به عن دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وواجب نصب إمام عدل
…
بالشّرع فاعلم؛ لا بحكم العقل
واختلافهم في التعيين لا يقدح في الإجماع.
ولتلك الأهميّة لمّا توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم قام أبو بكر خطيبا؛ فقال: يا أيّها
(1) هو المحب الطبري من علماء القرن السابع الهجري، لا المؤرخ المفسر المحدث المشهور. وقد تقدمت ترجمته مع شيء عن عائلته في الجزء الثاني.
فقالوا: انطلق «1» بنا إلى إخواننا من الأنصار ندخلهم معنا في هذا الأمر، فقالت الأنصار: منّا أمير، ومنكم أمير،
…
النّاس؛ من كان يعبد محمّدا؛ فإنّ محمّدا قد مات! ومن كان يعبد الله؛ فإنّ الله حيّ لا يموت، ولا بدّ لهذا الأمر ممّن يقوم به، فانظروا، وهاتوا رأيكم! فقالوا صدقت.
واجتمع المهاجرون، (فقالوا) لأبي بكر (: انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار) ولعلّهم لم يطلبوا الأنصار إلى مجلسهم!! خوفا أن يمتنعوا من الإتيان إليهم؛ فيحصل اختلاف وفتنة، وقوله:(ندخلهم) - بالجزم؛ في جواب الأمر- (معنا في هذا الأمر) ؛ أي: التّشاور في الخلافة، وكان من جملة القائلين: عمر رضي الله تعالى عنه حيث صرّح بالعلّة بقوله: مخافة إن فارقنا القوم؛ ولم تكن لهم بيعة معنا، أن يحدثوا بعدنا بيعة؟ فإمّا أن نبايعهم على ما لا نرضى، أو نخالفهم؛ فيكون فساد.
(فقالت الأنصار) - مرتّب على محذوف، والتّقدير: فانطلقوا إليهم- وهم مجتمعون في سقيفة بني ساعدة- فتكلّموا معهم في شأن الخلافة، فقال قائلهم الحباب بن المنذر (: منّا أمير، ومنكم أمير!!) على عادتهم في الجاهلية، قبل تقرّر الأحكام الإسلامية، فإنّه كان لكلّ قبيلة شيخ ورئيس يرجعون إليه في أمورهم وسياستهم.
ولهذا كانت الفتنة مستمرّة فيهم إلى أن جاء النّبي صلى الله عليه وسلم وألّف بين قلوبهم، وعفا الله عمّا سلف من ذنوبهم.
ولمّا قالوا ذلك ردّ عليهم أبو بكر الصّدّيق، وقال: نحن الأمراء، وأنتم الوزراء، فكونوا معنا واستدلّ بقوله تعالى لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)[الحشر] مع
(1) في «وسائل الوصول» : انطلقوا.
فقال عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه: من له مثل هذه الثّلاثة؟
ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التوبة: 40] من هما؟.
قال: ثمّ بسط يده فبايعه، وبايعه النّاس، بيعة حسنة جميلة.
قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)[التوبة] فقال لهم:
نحن الصّادقون؛ فكونوا معنا. فأذعنوا لقوله.
واحتجّ بحديث: «الأئمّة من قريش» وهو حديث صحيح؛ ورد من طريق نحو أربعين صحابيا. وفي رواية أحمد والطّبرانيّ؛ عن عقبة بن عبد بلفظ: «الخلافة لقريش» .
واستغني بهذا عن الرّدّ عليهم بالدّليل العقلي؛ وهو أنّ تعدّد الأمير يفضي إلى التّعارض والتّناقض؛ فلا يتمّ النّظام، ولا يلتئم الكلام.
(فقال عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه: من له) أي: من ثبت له (مثل هذه) الفضائل (الثّلاثة؟!) التي ثبتت لأبي بكر الصّدّيق رضي الله تعالى عنه، وهو استفهام إنكاريّ، قصد به الرّدّ على الأنصار، حيث توهّموا أنّ لهم حقا في الخلافة، وهذه الثّلاثة مذكورة في قوله تعالى (ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ) هذه الأولى، والثّانية قوله (إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ) ، والثّالثة قوله (إِنَّ اللَّهَ مَعَنا) فبعد ما تلا عليهم عمر بن الخطّاب هذه الآية، قال:(من هما!؟) أي: من هذان الاثنان المذكوران في هذه الآية؟ والاستفهام للتّعظيم والتّقرير!!
(قال) ؛ أي: الرّاوي (ثمّ بسط) أي: مدّ عمر رضي الله عنه (يده) أي:
كفّه (فبايعه) ؛ أي: بايع عمر أبا بكر الصّدّيق (وبايعه النّاس) أي: الموجودون في ذلك المحل (بيعة حسنة جميلة) لوقوعها عن ظهور واتفاق من أهل الحلّ والعقد، ولم يحضر هذه البيعة عليّ والزّبير؛ ظنّا منهما أنّ الشيخين لم يعتبراهما في
.........
المشاورة؛ لعدم اعتنائهما بهما، مع أنّه ليس الأمر كذلك؟ بل كان عذرهما في عدم التّفتيش على من كان غائبا في هذه الوقت عن هذا المجلس، خوفهما من الأنصار أن يعقدوا البيعة لواحد منهم؛ فتحصل الفتنة، مع ظنّهما أنّ جميع المهاجرين خصوصا عليّا والزّبير لا يكرهون خلافة أبي بكر.
ولذلك قال عليّ والزّبير: ما أغضبنا إلّا أنّا أخّرنا عن المشورة، وأنّا نرى أبا بكر أحقّ النّاس بها، وأنّه لصاحب الغار، وأنّا لنعرف شرفه وخيره، ولقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلّي بالنّاس؛ وهو حيّ، وأنّه رضيه لديننا؛ أفلا نرضاه لدنيانا.
ولمّا حصلت تلك المبايعة في سقيفة بني ساعدة يوم الاثنين؛ الّذي مات فيه النّبي صلى الله عليه وسلم وأصبح يوم الثّلاثاء، واجتمع النّاس في المسجد النّبويّ بكثرة وحضر عليّ والزّبير، وجلس الصّدّيق على المنبر، وقام عمر، فتكّلم قبله، وحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: إنّ الله تعالى قد جمع أمركم على خيركم؛ صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وثاني اثنين إذ هما في الغار، فقوموا فبايعوه. فبايعوه بيعة عامّة، حتّى عليّ والزّبير بعد بيعة السّقيفة.
ثمّ تكلّم أبو بكر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أمّا بعد؛ أيّها النّاس قد ولّيت عليكم، ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوّموني، الصّدق أمانة، والكذب خيانة، والضّعيف فيكم قويّ عندي حتى أريح عليه حقّه إن شاء الله تعالى، والقويّ فيكم ضعيف عندي؛ حتّى آخذ الحقّ منه إن شاء الله، ولا يدع قوم الجهاد في سبيل الله، إلّا ضربهم الله بالذّلّ، ولا تشيع الفاحشة في قوم قطّ إلّا عمّهم الله تعالى بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، وإذا عصيت الله ورسوله؛ فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم؛ رحمكم الله.
وأخرج موسى بن عقبة؛ في «مغازيه» ، والحاكم وصحّحه؛ عن عبد الرّحمن بن عوف قال:
قال الباجوريّ:
(الفضيلة الأولى: كونه أحد الاثنين في قوله تعالى: ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ [التوبة: 40] .
الفضيلة الثّانية: إثبات الصّحبة في قوله تعالى: إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ [التوبة: 40] .
خطب أبو بكر؛ فقال: والله ما كنت حريصا على الإمارة يوما وليلة قطّ، ولا كنت راغبا، ولا سألتها الله؛ في سرّ ولا علانية، ولكنّي أشفقت من الفتنة، ومالي في الإمارة من راحة، فلقد قلّدت أمرا عظيما؛ مالي به من طاقة ولا يد إلا بتقوية الله.
ولما فرغوا من المبايعة يوم الثّلاثاء اشتغلوا بتجهيزه صلى الله عليه وسلم.
(قال) شيخ الإسلام؛ إبراهيم (الباجوريّ) - نسبة إلى «بيجور» قرية بمصر؛ من المنوفيّة، ويقال لها: باجور، ولعلّها لغة فيها!! رحمه الله تعالى قال في تقرير الفضائل الثلاث الّتي ثبتت للصّدّيق رضي الله تعالى عنه:
(الفضيلة الأولى: كونه أحد الاثنين في قوله تعالى) في سورة التّوبة (ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ)[40/ التوبة] المعهود بمكّة وقت الهجرة وهو غار ثور، إذ مكثا فيه ثلاث ليال، فذكر في الآية أبا بكر الصّدّيق مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم بضمير التّثنية، وناهيك بذلك.
(الفضيلة الثّانية: إثبات الصّحبة، في قوله تعالى إِذْ يَقُولُ) أي:
النّبيّ صلى الله عليه وسلم (لِصاحِبِهِ) أبي بكر الصّدّيق، وقد قال له لما رأى أقدام المشركين: لو نظر أحدهم تحت قدميه لأبصارنا؟! (لا تَحْزَنْ) مقول قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان الصّدّيق قد حزن على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لا على نفسه؟ فقال له:
يا رسول الله: إذا متّ أنا، فأنا رجل واحد، وإذا متّ أنت؛ هلكت الأمّة والدّين!!
فسمّاه الله (صاحبه) ، فمن أنكر صحبته.. كفر؛ لمعارضته القرآن.
الفضيلة الثّالثة: إثبات المعيّة في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التوبة: 40] .
(فسمّاه الله «صاحبه» ) ولم يشرّف غيره من الصّحابة بتنصيصه على الصّحبة، (ف) لهذه الخصوصية، قال العلماء:(من أنكر صحبته كفر، لمعارضته القرآن) أي: لكون إنكار صحبته يتضمّن إنكار الآي القرآنية، بخلاف سائر الصّحابة، ولعلّ هذه الإضافة المشرّفة بالكتاب، صارت سببا لصحبته المستمرّة له في الحياة والممات، والخروج إلى العرصات، والدّخول في الجنّات!! فبهذه الصّحبة المخصوصة فارق الصّدّيق سائر الأصحاب، كما شهد به الكتاب.
(الفضيلة الثّالثة: إثبات المعيّة في قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ مَعَنا)[40/ التوبة] والمراد بالمعيّة: الولاية الدائمة، الّتي لا يحوم حول صاحبها شيء من الحزن.
وفي العدول عن «معي» إلى «معنا» : دلالة واضحة على اشتراك الصّدّيق معه في هذه المعيّة، بخلاف قول موسى عليه الصلاة والسلام كما أخبر سبحانه عنه بقوله فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)[الشعراء] .
وقد ذكرت الصّوفيّة هنا شيئا من النّكت العليّة؛ وهي: أنّ موسى عليه الصلاة والسلام كان في مقام التّفرقة، وأنّ نبيّنا صلى الله عليه وسلم كان في حالة الجمعيّة الجامعة، المعبّر عنها، بمقام «جمع الجمع» . فهذه المعيّة المقرونة بالجمعية مختصّة بالصّدّيق؛ دون الأصحاب.
فانظر إلى خصوصيّته رضي الله عنه بهذه الأسرار، من موافقته في الغار، ومرافقته في الأسفار، وملازمته في موضع القرار؛ حيا وميتا، وخروجا من القبر،
فثبوت هذه الفضائل له.. يؤذن بأحقّيّته بالخلافة) .
وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: لمّا وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من كرب الموت ما وجد.. قالت فاطمة رضي الله [تعالى] عنها: واكرباه، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم:
«لا كرب على أبيك بعد اليوم؛
…
ودخولا في الجنّة؛ مقدّما على جميع الأبرار.
(فثبوت هذه الفضائل له) دليل ظاهر على أفضليّته، وتقدّمه على سائر الصّحابة، وذلك (يؤذن بأحقّيّته بالخلافة) وفي هذه القضيّة من الإشارة الخفيّة أنّه أفضل المهاجرين، لأنّ هجرته مقرونة بهجرته صلى الله عليه وسلم، بخلاف هجرة غيره؛ مقدّما أو مؤخّرا.
ومن المعلوم أنّ المهاجرين أفضل من الأنصار، وقد أشار إليه سبحانه بقوله:
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ [100/ التوبة] .
فهذا دليل على أن الصّدّيق أفضل الأصحاب كما فهمه عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنهم. أجمعين.
(و) أخرج البخاريّ بعضه، وابن ماجه والتّرمذيّ في «الشّمائل» ؛
(عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه؛ قال: لمّا وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من كرب الموت) أي: شدّة سكراته، لأنّه كان يصيب جسده الشّريف الآلام البشريّة، ليزداد ترقية في المراتب العليّة، و «من» تبعيضيّة، أو بيانيّة، لقوّة (ما وجد، قالت فاطمة) الزّهراء رضي الله عنها - لمّا رأت من شدّة كرب أبيها- (: وا كرباه!!) - بألف الندبة، وفتح الكاف، وسكون الرّاء، وهاء ساكنة في آخره للوقف-، فقد حصل لها من التّألّم والتّوجّع مثل ما حصل لأبيها.
(فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم تسلية لها (: «لا كرب على أبيك بعد اليوم!!) ، لأنّ الكرب كان بسبب العلائق الجسمانيّة، وبعد اليوم تنقطع تلك العلائق الحسّية،
إنّه قد حضر من أبيك ما ليس بتارك منه أحدا، الموافاة يوم القيامة» .
قال الإمام الغزاليّ في «الإحياء» : (قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أمّنا عائشة رضي الله تعالى عنها حين دنا الفراق، فنظر إلينا، فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم، ثمّ قال:
…
للانتقال حينئذ إلى الحضرة القدسيّة، فكربه سريع الزّوال؛ ينتقل بعده إلى أحسن النّعيم، ممّا لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فمحن الدّنيا فانية، ومنح الآخرة باقية.
(إنّه) ؛ أي: الحال والشّأن (قد حضر من أبيك) ؛ أي: نزل به (ما) أي: شيء عظيم- (ليس) الله (بتارك منه) من الوصول إليه (أحدا) وذلك الأمر العظيم، هو (: الموافاة يوم القيامة» ) أي: الحضور ذلك اليوم المستلزم للموت.
والقصد تسليتها، بأنّه لا كرب عليه بعد اليوم، وأمّا اليوم فقد حضره ما هو مقرّر عامّ لجميع الأنام، فينبغي أن ترضي وتسلّمي؛ كذا قرره المناوي.
(قال الإمام) حجّة الإسلام محمّد بن محمّد بن محمّد: أبو حامد (الغزاليّ) بتخفيف الزّاي؛ في المشهور- منسوب إلى «غزالة» : قرية من قرى طوس، وحكي عن بعض أسباط الغزالي: أنّه أخطأ النّاس في تثقيل جدّنا. وإنّما هو مخفّف رحمه الله تعالى.
(في) كتاب ( «الإحياء» ) ؛ أي: «إحياء علوم الدّين» ؛ في «ربع المنجيات؛ كتاب ذكر الموت»
(قال) عبد الله (بن مسعود) الهذليّ (رضي الله تعالى عنه:
دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أمّنا عائشة رضي الله تعالى عنها حين دنا الفراق) للدّنيا (فنظر إلينا؛ فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم، ثمّ قال:
«مرحبا بكم) - أي: لقيتم رحبا؛ أي: سعة- (حيّاكم الله) - معناه: الدّعاء لهم بالحياة في الطّاعة، على ما هو اللّائق في مقام الدّعاء- (آواكم الله) - بالمدّ والقصر، والمدّ أشهر، أي: ضمّكم إلى رحمته ورضوانه، وإلى ظلّ عرشه يوم القيامة- (نصركم الله) ؛ أي: أعانكم.
(وأوصيكم بتقوى الله) ؛ أي: بمخافته، والحذر من مخالفته، (وأوصي بكم الله) ؛ أي: أستخلفه عليكم، (إنّي لكم منه نذير مبين) بيّن الإنذار؛ (أن لا تعلو) تتكبّروا (على الله في بلاده) بترك ما أمركم به، وفعل ما نهاكم عنه (وعباده) بظلمهم (وقد دنا) : قرب (الأجل) : الموت، (والمنقلب) : الرّجوع (إلى الله، وإلى سدرة المنتهى) الّتي ينتهي إليها علم الخلائق، (وإلى جنّة المأوى) :
الإقامة، (وإلى الكأس الأوفى، فاقرأوا على أنفسكم وعلى من دخل في دينكم بعدي منّي السّلام، ورحمة الله» ) أي: أنالكم الله رحمته الّتي وسعت كلّ شيء.
قال في «شرح الإحياء» :
قال العراقيّ: رواه البزّار، وقال: هذا الكلام قد روي [عن] مرّة عن عبد الله من غير وجه، وأسانيدها متقاربة. قال: وعبد الرّحمن بن الأصبهانيّ لم يسمع هذا من مرّة، وإنّما هو عمّي أخبره عن مرّة، قال: ولا أعلم أحدا رواه عن عبد الله غير مرّ.
قلت: وروي من غير ما وجه؛ رواه ابن سعد في «الطّبقات» من رواية ابن
وروي: أنّه صلى الله عليه وسلم قال لجبريل عليه السلام عند موته: «من لأمّتي من بعدي؟» ، فأوحى الله تعالى إلى جبريل: أن بشّر حبيبي أنّي لا أخذله في أمّته، وبشّره أنّه أسرع النّاس خروجا من الأرض إذا بعثوا، وسيّدهم إذا جمعوا،
…
عون؛ عن ابن مسعود. ورويناه في «مشيخة القاضي أبي بكر الأنصاريّ» من رواية الحسن العرني؛ عن ابن مسعود، ولكنّهما منقطعان وضعيفان، والحسن العرنيّ، إنّما يرويه عن مرّة، كما رواه ابن أبي الدّنيا، والطّبرانيّ في «الأوسط» . انتهى.
(وروي) بإسناد ضعيف؛ في حديث طويل جدّا- كما قال العراقيّ- رواه الطبرانيّ في «الكبير» من حديث جابر؛ وابن عبّاس رضي الله تعالى عنهم.
(أنّه صلى الله عليه وسلم قال لجبريل عليه السلام عند موته: «من لأمّتي) المصطفاة (من بعدي؟» . فأوحى الله تعالى إلى جبريل) عليه السلام (أن بشّر حبيبي، أنّي لا أخذله في أمّته، وبشّره أنّه أسرع النّاس خروجا من الأرض) ؛ أي: من قبره.
فقد روى مسلم؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: «أنا سيّد ولد آدم، وأوّل من ينشقّ عنه القبر، وأوّل شافع، وأوّل مشفّع» . ورواه أبو داود أيضا وغيره.
(إذا بعثوا) ؛ أي: أثيروا من قبورهم، وهذا من كمال عناية ربّه به، حيث منحه هذا السّبق، (وسيّدهم إذا جمعوا) في أرض المحشر يوم القيامة ويظهر سؤدده لكلّ أحد عيانا.
أخرج التّرمذيّ بسند فيه راو ليّن؛ عن أنس رضي الله عنه: «أنا أوّل النّاس خروجا؛ إذا بعثوا، وأنا خطيبهم؛ إذا وفدوا، وأنا مبشّرهم؛ إذا أيسوا، لواء الحمد يومئذ بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على ربّي؛ ولا فخر» .
وأنّ الجنّة محرّمة على الأمم، حتّى تدخلها أمّته، فقال [صلى الله عليه وسلم] :«الآن قرّت عيني» .
وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نغسّله بسبع قرب من سبعة آبار،
…
وأخرج مسلم وأبو داود كلاهما؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه؛ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «أنا سيّد ولد آدم يوم القيامة، وأوّل من ينشقّ عنه القبر، وأوّل شافع، وأوّل مشفّع» .
(وأنّ الجنّة محرّمة على الأمم، حتّى تدخلها أمّته. فقال) ؛ أي صلى الله عليه وسلم (: «الآن قرّت عيني» ) ؛ أي: سررت بهذه البشارة.
(وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها) فيما رواه الدّارميّ بهذا السّياق في «مسنده» - وفيه: إبراهيم بن المختار؛ مختلف فيه- عن محمّد بن إسحاق- وهو مدلّس، وقد رواه بالعنعنة؛ كما قاله العراقيّ-.
(أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نغسّله بسبع قرب من سبعة آبار) هذه زيادة على رواية البخاري وغيره، فيحتمل أنّها معيّنة، ويحتمل أنّها غير معيّنة، وإنّما يراد تفرّقها خاصّة.
فعلى الأوّل: في تلك الآبار المعيّنة خصوصيّة، ليست في غيرها.
وعلى الثّاني: الخصوصيّة في تفرّقها. والله أعلم.
وقد ذكر العلماء الآبار الّتي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضّأ منها، ويشرب من مائها؛ ويغتسل، وهي سبعة: 1- بئر أريس؛ ويقال لها «بئر الخاتم» ، و 2- بيرحاء، و 3- بئر رومة، و 4- بئر غرس، و 5- بئر بضاعة، و 6- بئر بصّة، و 7- بئر السّقيا؛ أو 7- بئر جمل. السّابعة فيها تردّد!!.
وقد أخرج ابن ماجه في «السّنن» ؛ من حديث عليّ بإسناد جيّد: «إذا أنا
ففعلنا ذلك، فوجد راحة، فخرج، فصلّى بالنّاس، واستغفر لأهل أحد، ودعا لهم، وأوصى بالأنصار، فقال: «أمّا بعد: يا معشر المهاجرين؛ فإنّكم تزيدون، وأصبحت الأنصار لا تزيد على هيئتها الّتي هي عليها اليوم، وإنّ الأنصار عيبتي الّتي أويت إليها،
…
متّ، فاغسلوني بسبع قرب من بئري: بئر غرس» . انتهى «شرح الإحياء» .
(ففعلنا ذلك؛ فوجد راحة) ؛ أي: خفّة من المرض (فخرج، فصلّى بالنّاس، واستغفر لأهل أحد، ودعا لهم) كالمودّع للأحياء والأموات، (وأوصى بالأنصار) أن يقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم.
وفي البخاريّ؛ قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: لمّا دخل بيتي واشتدّ وجعه؛ قال: «أهريقوا عليّ من سبع قرب؛ لم تحلل أوكيتهنّ، لعلّي أعهد إلى النّاس!» . فأجلسناه في مخضب لحفصة «زوج النّبيّ صلى الله عليه وسلم» ثمّ طفقنا نصبّ عليه من تلك القرب، حتّى طفق يشير إلينا بيده: أن قد فعلتنّ. قالت: ثمّ خرج إلى النّاس؛ فصلّى بهم، وخطبهم؛ (فقال:
وقد وقع ذلك كما أخبر صلى الله عليه وسلم، فإنّ الموجودين الآن ممّن ينسب إلى عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه- ممّن يتحقّق نسبته إليه- أضعاف من يوجد من قبيلتي الأوس والخزرج، ممّن يتحقّق نسبه!! وقس على ذلك.
ولا التفات إلى كثرة من يدّعي أنّه منهم من غير برهان؛ قاله في «الفتح» .
(وإنّ الأنصار عيبتي) - بعين مهملة مفتوحة، وتحتيّة ساكنة، وموحّدة مفتوحة، وتاء تأنيث- وهي: ما يحرز فيها الرّجل نفيس ما عنده، يعني: أنّهم موضع سرّه (الّتي أويت إليها) فإنّهم آووه ونصروه، وهذا أمر قد انقضى زمانه؛
فأكرموا كريمهم- يعني: محسنهم- وتجاوزوا عن مسيئهم» .
ثمّ قال [صلى الله عليه وسلم] : «إنّ عبدا خيّر بين الدّنيا وبين ما عند الله.. فاختار ما عند الله» ، فبكى أبو بكر رضي الله تعالى عنه، وظنّ أنّه يريد نفسه.
فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «على رسلك يا أبا بكر،..
لا يلحقهم فيه اللّاحق، ولا يدرك شأوهم السّابق (فأكرموا كريمهم» - يعني:
محسنهم- وتجاوزوا عن مسيئهم» ) في غير الحدود. (ثمّ قال:
«إنّ عبدا خيّر) - من التّخيير- (بين الدّنيا وبين ما عند الله) في الآخرة؛ (فاختار) ذلك العبد (ما عند الله» . فبكى أبو بكر رضي الله تعالى عنه، وظنّ) ؛ أي: فهم (أنّه) ؛ أي: النّبيّ صلى الله عليه وسلم، (يريد) بهذا الكلام (نفسه) صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر الصّدّيق رضي الله تعالى عنه: فديناك بابائنا وأمّهاتنا.
قال الرّاوي: فعجبنا لبكائه! وقال النّاس: متعجّبين: انظروا إلى هذا الشّيخ؛ يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خيّره بين أن يؤتيه من زهرة الدّنيا؛ وبين ما عنده، وهو يقول: فديناك بابائنا وأمّهاتنا!؟.
قال الرّاوي: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخيّر، وكان أبو بكر أعلمنا به؛ ذكره في البخاري.
(فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «على رسلك؛ يا أبا بكر) تسلية له، إذ خفي المعنى على كثير ممّن سمع كلامه، ولم يفهم المقصود غير صاحبه الخصّيص به؛ ثاني اثنين إذ هما في الغار، وكان أعلم الأمّة بمقاصد النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فلمّا فهم المقصود من هذه الإشارة بكى؛ وقال «بل نفديك بأموالنا؛ وأنفسنا؛ وأولادنا» .
فسكّن الرسول صلى الله عليه وسلم جزعه، وأخذ في مدحه، والثّناء عليه على المنبر، ليعلم النّاس كلّهم فضله؛ فلا يقع عليه اختلاف في خلافته، فقال:«إنّ من أمنّ النّاس عليّ في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متّخذا خليلا لاتّخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوّة الإسلام» .
سدّوا هذه الأبواب الشّوارع في المسجد، إلّا باب أبي بكر؛ فإنّي لا أعلم امرأ أفضل عندي في الصّحبة من أبي بكر» .
ثم قال صلى الله عليه وسلم: ( «سدّوا هذه الأبواب الشّوارع في المسجد، إلّا باب أبي بكر) الصّدّيق؛ إكراما له، وتنويها بأنّ أبا بكر هو الخليفة والإمام بعده، فإنّ الإمام يحتاج إلى سكنى المسجد، والاستطراق فيه، بخلاف غيره، وذلك من مصالح المسلمين المصلّين؛ فإبقاؤه مصلحة عامّة.
ثمّ صرّح بأفضليّته على غيره؛ حيث قال: (فإنّي لا أعلم امرأ أفضل عندي في الصّحبة من أبي بكر» ) الصّدّيق، فهو أفضل الأصحاب على الإطلاق.
ثمّ أكّد هذا المعنى بأمره صريحا: أن يصلّي بالنّاس أبو بكر، فروجع في ذلك، وهو يقول:«مروا أبا بكر أن يصلّي بالنّاس» . فولّاه إمامة الصّلاة، ولذا قال الصّحابة عند بيعة أبي بكر: رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا، أفلا نرضاه لدنيانا؟!
وفيه إشارة قويّة إلى استحقاقه الخلافة، لا سيّما وقد ثبت أنّ ذلك كان في الوقت الّذي أمرهم فيه أنّ لا يؤمّهم إلّا أبو بكر.
نعم جاء في سدّ الأبواب أحاديث؛ يخالف ظاهرها حديث الباب!!؛
فروى الإمام أحمد، والنّسائيّ بإسناد قويّ؛ عن سعد بن أبي وقّاص:
أمر صلى الله عليه وسلم بسدّ الأبواب الشّارعة في المسجد، وترك باب عليّ زاد الطّبرانيّ في «الأوسط» برجال ثقات: فقالوا: يا رسول الله؛ سددت أبوابنا؟! فقال:
«ما سددتها!!، ولكنّ الله سدّها!» .
وروى الإمام أحمد، والنّسائيّ، والحاكم برجال ثقات؛ عن زيد بن أرقم:
كان لنفر من الصّحابة أبواب شارعة في المسجد؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «سدّوا هذه الأبواب، إلّا باب عليّ» رضي الله عنه، فتكلّم ناس في ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم:«إنّي والله ما سددت شيئا، ولا فتحته! ولكن ولكن أمرت بشيء، فاتّبعته» .
وروى الإمام أحمد، والنّسائيّ برجال ثقات؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى
.........
عنهما قال: أمر صلى الله عليه وسلم بأبواب المسجد فسدّت؛ غير باب عليّ. فكان يدخل المسجد وهو جنب؛ ليس له طريق غيره.
وروى الطّبرانيّ عن جابر بن سمرة قال: أمر بسدّ الأبواب كلّها؛ غير باب عليّ، فربّما مرّ فيه وهو جنب.
وروى الإمام أحمد بإسناد حسن؛ عن ابن عمر قال: لقد أعطي عليّ ثلاث خصال؛ لأن تكون لي واحدة منهنّ أحبّ إليّ من حمر النّعم: زوّجه النّبيّ صلى الله عليه وسلم ابنته؛ وولدت له، وسدّ الأبواب؛ إلّا بابه في المسجد، وأعطاه الرّاية يوم خيبر.
وهذه أحاديث يقوّي بعضها بعضا، وكلّ طريق منها صالح للحجّة؛ فضلا عن مجموعها. وأوردها ابن الجوزي في «الموضوعات» ، وأعلّها بما لا يقدح!! وبمخالفتها للأحاديث الصّحيحة في باب أبي بكر!! وزعم أنّها من وضع الزّنادقة؛ قابلوا بها الحديث الصّحيح!! فأخطأ في ذلك خطأ شنيعا فاحشا، فإنّه سلك يردّ الأحاديث الصّحيحة بتوهّمه المعارضة!!
مع أنّ الجمع بين القضيّتين ممكن؛ كما أشار إليه البزّار، بما دلّ عليه حديث أبي سعيد؛ عند الترمذيّ: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لعليّ: «لا يحلّ لأحد، أن يطرق هذا المسجد جنبا، غيري وغيرك» .
والمعنى: أنّ باب عليّ كان إلى جهة المسجد؛ ولم يكن لبيته باب غيره، فلذا لم يؤمر بسدّه.
ويؤيّده ما أخرجه إسماعيل القاضي؛ عن المطّلب بن عبد الله بن حنطب: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يأذن لأحد أن يمرّ في المسجد وهو جنب؛ إلّا لعليّ بن أبي طالب، لأنّ بيته كان في المسجد.
ومحصّل الجمع أنّه أمر بسدّ الأبواب مرّتين.
ففي الأولى: استثنى باب عليّ لما ذكر.
قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: فقبض صلى الله عليه وسلم في بيتي، وفي يومي، وبين سحري ونحري،
…
وفي الآخرى: باب أبي بكر، لكن إنّما يتمّ بحمل باب عليّ على الباب الحقيقي، وباب أبي بكر الباب المجازيّ؛ أي الخوخة- كما في بعض طرقه- وكأنّهم لما أمروا بسدّها سدّوها، وأحدثوا خوخا يستقربون الدّخول إلى المسجد منها؛ فأمروا بعد ذلك بسدّها، فهذا لا بأس به في الجمع.
وبه جمع الطّحاويّ والكلاباذيّ، وصرّح بأنّ بيت أبي بكر كان له باب خارج المسجد؛ وخوخة إلى داخل المسجد، وبيت عليّ لم يكن له باب إلّا من داخل المسجد. انتهى. ملخّصا من «فتح الباري» رحم الله مؤلّفه. آمين.
(قالت عائشة رضي الله تعالى عنها) - فيما ذكره في «الإحياء» . وقال العراقي: متّفق عليه- (فقبض صلى الله عليه وسلم في بيتي، وفي يومي) الّذي كان يدور عليّ فيه (وبين سحري) - بفتح السّين، وسكون الحاء المهملتين-: هو الصّدر، (ونحري) - بفتح النّون، وسكون الحاء المهملة-: موضع القلادة من الصّدر؛ كما في «الصّحاح» .
وفي رواية عنها: مات بين حاقنتي وذاقنتي. والحاقنة- بالحاء المهملة، والقاف المكسورة، والنّون المفتوحة-: أسفل من الذّقن. والذّاقنة: طرف الحلقوم. وقيل: غير ذلك.
والحاصل: أنّ ما بين الحاقنة والذّاقنة، هو: ما بين السّحر والنّحر.
والمراد أنّه صلى الله عليه وسلم توفّي ورأسه بين عنقها وصدرها.
وهذا الحديث الصّحيح لا يعارضه ما أخرجه الحاكم وابن سعد؛ من طرق:
أنّه صلى الله عليه وسلم مات ورأسه في حجر عليّ!! لأنّ طريقا منها؛ كما قال الحافظ ابن حجر:
لا يخلو عن مقال في إسناده؛ من جهة ضعف رواته؛ فلا يلتفت لمعارضته الحديث الصّحيح.
وجمع الله بين ريقي وريقه عند الموت، فدخل عليّ أخي عبد الرّحمن وبيده سواك، فجعل ينظر إليه، فعرفت أنّه يعجبه ذلك، فقلت له: آخذه لك؟ فأومأ برأسه- أي: نعم- فناولته إيّاه، فأدخله في فيه، فاشتدّ عليه، فقلت: أليّنه لك؟ فأومأ برأسه- أي: نعم- فليّنته، وكان بين يديه ركوة ماء، فجعل يدخل فيها يده ويقول:
«لا إله إلّا الله، إنّ للموت لسكرات» ، ثمّ نصب يده يقول:
«الرّفيق الأعلى
…
(وجمع الله بين ريقي وريقه عند الموت، فدخل عليّ) - بتشديد الياء- (أخي عبد الرّحمن) بن أبي بكر (وبيده سواك) ؛ وأنا مسندة رسول الله صلى الله عليه وسلم، (فجعل ينظر إليه!! فعرفت أنّه يعجبه ذلك؛ فقلت له: آخذه لك!؟ فأومأ برأسه؛ أي:
نعم) .
فيه العمل بالإشارة عند الحاجة، وقوّة فطنة عائشة رضي الله تعالى عنها (فناولته إيّاه، فأدخله في فيه؛ فاشتدّ عليه، فقلت: أليّنه لك؟ فأومأ برأسه، أي: نعم. فليّنته) بالماء، (وكان بين يديه ركوة ماء) - بفتح الرّاء؛ من جلد- (فجعل يدخل فيها يده) ويمسح بها وجهه، (ويقول:«لا إله إلّا الله، إنّ للموت لسكرات» .) جمع سكرة؛ وهي الشّدّة. (ثمّ نصب يده يقول: «الرّفيق الأعلى) أي: أسأل الله الرّفيق الأعلى.
والرّفيق الأعلى هو: جماعة الأنبياء الّذين يسكنون أعلى علّيّين. والمراد الأنبياء؛ ومن ذكر في الآية.
والمراد بمرافقتهم: المحلّ الّذي يحصل فيه مرافقتهم في الجملة؛ على اختلاف درجاتهم، فلا يقال: إنّ محلّه صلى الله عليه وسلم فوقهم؛ فكيف يسأل اللّحاق بهم؟.
وقيل: المراد بالرّفيق الأعلى: الله، لأنّه من أسمائه تعالى- كما في مسلم؛
الرّفيق الأعلى» .
فقلت: إذا- والله- لا يختارنا.
وروى سعيد بن عبد الله، عن أبيه
…
عن عائشة: «إنّ الله رفيق؛ يحبّ الرّفق» -. وقيل: المراد بالرّفيق الأعلى:
حظيرة القدس، أي: الجنّة، وقيل غير ذلك.
(الرّفيق الأعلى» ) ولا زال يكرّر ذلك صلى الله عليه وسلم حتّى قبض، ومالت يده.
وفي «المواهب» : الحكمة في اختتام كلامه صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة كونها تتضمّن التّوحيد، أي: لدلالتها على قطع العلائق، عن غيره سبحانه وتعالى حيث قصر نظره على طلب الرّفيق الأعلى على كلّ تفسيراته.
وتتضمّن الذّكر بالقلب، فهو وإن لم يذكر باللّسان؛ فهو مستحضر بالقلب، حتّى يستفاد منها الرّخصة لغيره، أنّه لا يشترط أن يكون الذّكر باللّسان عند الموت، لأنّ بعض النّاس قد يمنعه من النّطق مانع؛ كعقل اللّسان عنه، فلا يضرّه ذلك إذا كان قلبه عامرا بالذّكر. انتهى من الزّرقاني.
(فقلت: إذا؛ والله لا يختارنا) من الاختيار، وفي رواية: لا يجاورنا.
قالت: فعرفت أنّه حديثه الّذي كان يحدّثنا به؛ وهو صحيح حيث كان يقول: «إنّه لم يقبض نبيّ، حتّى يرى مقعده من الجنّة، ثمّ يخيّر» .
وما فهمته عائشة رضي الله عنها من قوله عليه الصلاة والسلام: «اللهمّ الرّفيق الأعلى» أنّه خيّر بين الدّنيا، والارتحال إلى الآخرة، نظير فهم أبيها رضي الله عنه؛ من قوله عليه الصلاة والسلام «إنّ عبدا خيّره الله بين الدّنيا، وبين ما عنده، فاختار ما عنده» أنّ العبد المراد هو النّبيّ صلى الله عليه وسلم كما تقدّم-.
(و) في كتاب «إحياء علوم الدّين» للإمام الغزالي رحمه الله تعالى:
(روى سعيد بن عبد الله) بن ضرار (عن أبيه) عبد الله بن ضرار بن الأزور؛ تابعيّ روى عن ابن مسعود، قال أبو حاتم فيه، وفي ابنه سعيد: ليس بالقوي.
قال: لمّا رأت الأنصار أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يزداد ثقلا.. أطافوا بالمسجد، فدخل العبّاس رضي الله تعالى عنه على النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأعلمه بمكانهم وإشفاقهم.
انتهى. وقال الذّهبيّ: سعيد بن عبد الله بن ضرار؛ عن أبيه؛ وغيره. قال يحيى:
لا يكتب حديثه. انتهى من «شرح الإحياء» .
وحديثه هذا قال فيه العراقيّ: مرسل ضعيف، وفيه نكارة، ولم أجد له أصلا!!.
لكن قال في «شرح الإحياء» : أسنده سيف بن عمر التّميمي- ويقال الضّبي- الكوفيّ في كتاب «الفتوح» هكذا. وسيف بن عمر ضعيف الحديث عمدة في التّاريخ، أفحش ابن حبّان القول فيه، مات زمن الرّشيد، روى له التّرمذيّ؛ قاله الحافظ ابن حجر. نقله الزّرقانيّ، وقال: ذكر هذا الحديث الفاكهانيّ في «الفجر المنير» ؛ من طريق سيف بن عمر التّميمي المذكور رحمه الله تعالى.
(قال: لمّا رأت الأنصار) جمع ناصر؛ كالأصحاب: جمع صاحب، وسمّوا بذلك!! لما فازوا به دون غيرهم؛ من نصرته صلى الله عليه وسلم وإيوائه، وإيواء من معه، ومواساتهم بأنفسهم وأموالهم.
والأنصار هم: قبيلتا الأوس والخزرج، وحلفاؤهم أبناء حارثة بن ثعلبة، وهو اسم إسلاميّ، واسم أمّهم قيلة- بالقاف المفتوحة، والتّحتية السّاكنة-.
وفي البخاري؛ عن غيلان بن جرير قال: قلت لأنس: أرأيت اسم الأنصار كنتم تسمّون به، أم سمّاكم الله به؟ قال: بلى سمّانا الله به. أي: كما في قوله تعالى وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ [100/ التوبة] انتهى. من القسطلّاني» .
(أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يزداد ثقلا) من مرضه (أطافوا بالمسجد، فدخل العبّاس رضي الله تعالى عنه على النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فأعلمه بمكانهم وإشفاقهم) : خوفهم عليه
ثمّ دخل عليه الفضل فأعلمه بمثل ذلك.
ثمّ دخل عليه عليّ رضي الله تعالى عنه فأعلمه بمثله، فمدّ يده، وقال:«ها» فتناولوه، فقال:«ما يقولون؟» ، قالوا: يقولون:
نخشى أن تموت. وتصايح نساؤهم لاجتماع رجالهم إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فثار رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فخرج متوكّئا على عليّ والفضل، والعبّاس أمامه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم معصوب الرّأس يخطّ برجليه، حتّى جلس على أسفل مرقاة من المنبر، وثاب النّاس إليه، فحمد الله، وأثنى عليه، وقال: «أيّها النّاس؛ إنّه بلغني أنّكم تخافون عليّ الموت، كأنّه استنكار منكم للموت؟! وما تنكرون من موت نبيّكم؟ ألم أنع إليكم، وتنعى إليكم أنفسكم؟!
الفقد، (ثمّ دخل عليه الفضل) بن عبّاس [رضي الله تعالى عنه](فأعلمه بمثل ذلك، ثمّ دخل عليه عليّ) بن أبي طالب (رضي الله تعالى عنه فأعلمه بمثله) أي:
ذكر له حال الأنصار.
(فمدّ يده) صلى الله عليه وسلم (وقال: «ها» ) ؛ أي: خذوا بيدي لأنهض، (فتناولوه، فقال: «ما يقولون؟» قالوا: يقولون: نخشى أن تموت) من مرضك هذا (وتصايح نساؤهم) ؛ أي: رفعن أصواتهنّ بالبكاء (لاجتماع رجالهم إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فثار رسول الله صلى الله عليه وسلم من فراشه (فخرج) حال كونه (متوكّئا على عليّ والفضل، والعبّاس أمامه) : قدّامه، (ورسول الله صلى الله عليه وسلم معصوب الرّأس) من الوجع (يخطّ) - بضمّ الخاء- (برجليه حتّى جلس على أسفل مرقاة) : درجة (من المنبر، وثاب) : اجتمع (النّاس إليه) في المجلس، (فحمد الله وأثنى عليه) بما هو أهله، (وقال: «أيّها النّاس؛ إنّه بلغني) من الثّلاثة المذكورين (أنّكم تخافون عليّ) - بتشديد الياء التحتيّة- (الموت؟! كأنّه استنكار منكم للموت؟!) أن ينزل بي، (وما تنكرون من موت نبيّكم!؟ ألم أنع إليكم؟ وتنعى إليكم أنفسكم؟!) في
هل خلّد نبيّ قبلي فيمن بعث.. فأخلّد فيكم؟
ألا وإنّي لاحق بربّي، ألا وإنّكم لاحقون به.
وإنّي أوصيكم بالمهاجرين الأوّلين خيرا، وأوصي المهاجرين فيما بينهم، فإنّ الله عز وجل قال: وَالْعَصْرِ. إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ.
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا [العصر: 1- 3]
…
إلى آخرها.
قوله تعالى إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)[الزمر](هل خلّد نبيّ قبلي فيمن بعث) إليهم (فأخلّد؟!) - بالنّصب- (فيكم!!) وفيه تسلية لهم، وتذكير بقوله تعالى وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ [34/ الأنبياء] ، وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [144/ آل عمران] ، (ألا) - بالفتح والتّخفيف- (وإنّي لاحق بربّي، ألا وإنّكم لاحقون به) ؛ أي: ميّتون لا محالة، (وإنّي أوصيكم بالمهاجرين الأوّلين خيرا) بأن تعرفوا حقّهم، وتنزلوهم منزلتهم، (وأوصي المهاجرين فيما بينهم) بالدّوام على التّقوى وعمل الصّالحات، (فإنّ الله عز وجل قال (وَالْعَصْرِ)(1) - الدّهر، أو: ما بعد الزّوال إلى الغروب، أو صلاة العصر- (إِنَّ الْإِنْسانَ) - الجنس- (لَفِي خُسْرٍ) (2) ؛ أي: خسران، ومعناه: النّقصان، وذهاب رأس المال، والتّنكير في الخسر، يفيد التّعظيم، أي: إنّ الإنسان لفي خسر عظيم، لا يعلم كنهه إلّا الله، فقد جعل الإنسان مغمورا في الخسر للمبالغة، وأنّه أحاط به من كلّ جانب، لأنّ كلّ ساعة تمرّ بالإنسان، فإن كانت مصروفة إلى المعصية؛ فلا شكّ في الخسر، وإن كانت مشغولة بالمباحات؛ فالخسران أيضا حاصل، وإن كانت مشغولة بالطّاعات؛ فهي غير متناهية، وترك الأعلى والاقتصار على الأدنى نوع خسران.
والألف واللّام في «الإنسان» للجنس، فيشمل المؤمن والكافر، بدليل الاستثناء في قوله- إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا
- أي: فليسوا كذلك، وتلاها (إلى آخرها) . أو أنّه قال:«إلى آخرها» .
وإنّ الأمور تجري بإذن الله، فلا يحملنّكم استبطاء أمر على استعجاله، فإنّ الله عز وجل لا يعجل لعجلة أحد، ومن غالب الله.. غلبه، ومن خادع الله.. خدعه فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ [محمد: 22] .
وأوصيكم بالأنصار خيرا، فإنّهم الّذين تبوّؤوا الدّار والإيمان (وإنّ الأمور تجري) ؛ أي: تقع (بإذن الله) أي: بإرادته، (فلا يحملنّكم استبطاء أمر على استعجاله؟!، فإنّ الله عز وجل لا يعجل لعجلة) ؛ أي: لأجل عجلة (أحد) ، فلا فائدة في الاستعجال، بل فيه الهمّ والغمّ والنّكال، (ومن غالب الله غلبه) الله، (ومن خادع الله خدعه) . والمفاعلة فيهما ليست مرادة، بل هي نحو «عافاك الله» .
وإنّما عبّر بالمفاعلة!! تشبيها بفعل المغالب والمخادع لمن هو مثله، كما قال تعالى يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ [9/ البقرة] ؛ تشبيها لفعل المنافقين بفعل المخادع.
(فَهَلْ عَسَيْتُمْ) - فهل يتوقّع منكم- (إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) - أمور النّاس، وتأمّرتم عليهم، أو أعرضتم وتولّيتم عن الإسلام- (أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ)[22/ محمد] ؛ تشاجرا على الدّنيا، وتجاذبا لها، أو رجوعا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية، من التّغاور ومقاتلة الأقارب.
والمعنى: أنّهم لضعفهم في الدّين وحرصهم على الدّنيا؛ أحقّاء بأن يتوقّع ذلك منهم من عرف حالهم، ويقول لهم: هل عسيتم؛ قاله البيضاوي.
ولا يخفى مناسبة تلاوته لهذه الآية في هذا المقام.
(وأوصيكم بالأنصار خيرا، فإنّهم الّذين تبوّؤا الدّار) ؛ أي: اتّخذوا المدينة وطنا، سمّيت دارا!! لأنّها دار الهجرة (والإيمان) ؛ أي: ألفوه، فنصب بعامل
من قبلكم؛ أن تحسنوا إليهم، ألم يشاطروكم في الثّمار؟! ألم يوسّعوا عليكم في الدّيار؟! ألم يؤثروكم على أنفسهم وبهم الخصاصة؟!.
ألا.. فمن ولّي أن يحكم بين رجلين.. فليقبل من محسنهم، وليتجاوز عن مسيئهم.
ألا.. ولا تستأثروا عليهم.
ألا.. وإنّي فرط لكم، وأنتم لاحقون بي.
ألا.. وإنّ موعدكم الحوض، حوضي أعرض ممّا بين بصرى خاصّ، أو بتضمين «تبوؤا» معنى «لزموا» ، أو بجعل الإيمان منزلا مجازا لتمكّنهم فيه، فجمع في «تبوؤا» بين الحقيقة والمجاز. (من قبلكم، أن تحسنوا إليهم) بدل من «خيرا» .
ثمّ بيّن أنّ أمره به لمكافأتهم بقوله: (ألم يشاطروكم في الثّمار؟) بإعطائكم نصف ثمارهم. والاستفهام للتّقرير!! (ألم يوسّعوا لكم في الدّيار؟ ألم يؤثروكم) : يقدّموكم (على أنفسهم، وبهم الخصاصة) : الحاجة إلى ما يؤثرون به، (ألا فمن ولّي أن يحكم بين رجلين) منهم؛ (فليقبل من محسنهم، وليتجاوز عن مسيئهم) في غير الحدود.
وعبّر بالجمع!! إشارة إلى أنّ المراد جنس رجلين، أو على أنّ أقل الجمع اثنان.
(ألا) - بالفتح مخفّفا- (ولا تستأثروا عليهم) بتقديم أنفسكم، وتميّزكم بالأمور الدّنيوية دونهم، (ألا؛ وإنّي فرط) - بفتحتين: سابق- (لكم) أهيّء لكم حوائجكم، (وأنتم لاحقون بي، ألا وإنّ موعدكم الحوض) في القيامة، (حوضي أعرض ممّا بين بصرى) ؛ كحبلى: بلد بالشّام، بين دمشق والمدينة، أوّل بلاد الشّام فتوحا سنة ثلاث عشرة، وحقّق شرّاح «الشّفاء» أنّها حوران، أو قيساريّة.
الشّام وصنعاء اليمن، يصبّ فيه ميزاب الكوثر ماء، أشدّ بياضا من اللّبن، وألين من الزّبد، وأحلى من الشّهد، من شرب منه.. لم يظمأ أبدا،
…
وإنما قال: «بصرى (الشّام» ) بالإضافة!! احترازا من بصرى بغداد؛ قرية قرب عكبر، ذكرها ياقوت في «المعجم» «1» (وصنعاء) - بالمدّ، ويقصر للضّرورة-: بلد باليمن، قاعدة ملكها، ودار سلطنتها، كثير الأشجار والمياه، حتّى قيل: إنّها تشبه دمشق الشّام في المروج والأنهار، ويقال: إنّ اسم مدينة صنعاء في الجاهلية: أزال. ويروى: أنّ صنعاء كانت امرأة ملكة، وبها سمّيت صنعاء، وفي كتاب «المعجم» لأبي عبيد البكري: أنّ صنعاء كلمة حبشيّة، ومعناها: وثيق حصين.
وإنّما قال «صنعاء (اليمن» ) !! بالإضافة، احترازا من صنعاء الشّام بباب دمشق.
والمراد أنّ مسافة عرضه كالمسافة بين بصرى وصنعاء، وهو مربّع؛ لا يزيد طوله ولا عرضه. قال القاضي عياض: الحوض على ظاهره عند أهل السّنّة، فيجب الإيمان به. وقال القرطبي: أحاديث الحوض متواترة، فقد رواه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أكثر من ثلاثين، ورواه عنهم من التّابعين أمثالهم، ثمّ لم تزل تلك الأحاديث تتوالى؛ وتشير الرّواة إليها في جميع الأعصار إلى أن انتهى ذلك إلينا، وقامت به حجّة الله علينا، فأجمع عليه السّلف والخلف.
(يصبّ فيه ميزاب الكوثر ماء) والكوثر: نهر في الجنّة؛ حافّتاه من الذّهب، ومجراه على الدّرّ والياقوت، تربته أطيب من المسك، وماؤه (أشدّ بياضا من اللّبن، وألين من الزّبد، وأحلى من الشّهد) ؛ أي: العسل، وكيزانه عدد نجوم السّماء.
(من شرب منه) شربة (لم يظمأ) بعدها (أبدا) ؛ أي: لم يعطش عطشا
(1) أي: «معجم البلدان» .
حصباؤه اللّؤلؤ، وبطحاؤه المسك، من حرمه في الموقف غدا..
حرم الخير كلّه.
ألا.. فمن أحبّ أن يرده عليّ غدا.. فليكفف لسانه ويده إلّا مّما ينبغي.
فقال العبّاس: يا نبيّ الله؛ أوص بقريش.
فقال: «إنّما أوصي بهذا الأمر قريشا؛ والنّاس تبع لقريش، يتأذّى به (حصباؤه اللّؤلؤ، وبطحاؤه) - أي: ترابه- (المسك) ، وريحه أطيب من ريح المسك، وخصّه!! لأنّه أطيب الطّيب.
(من حرمه) ؛ أي: منع من الشّرب منه (في الموقف غدا) أي: يوم القيامة (حرم الخير كلّه، ألا فمن أحبّ أن يرده عليّ) - بتشديد الياء- (غدا) .
عبّر به!! لأنّ كلّ ما هو آت قريب، (فليكفف لسانه ويده إلّا فيما ينبغي» ) .
وخصّهما!! لأنّهما أغلب ما يحصّل الفعل، وإلّا! فباقي الأعضاء كذلك.
(فقال العبّاس) بن عبد المطّلب (: يا نبيّ الله؛ أوص بقريش) ؛ بالصّرف على الأصحّ- على إرادة الحيّ، ويجوز عدمه؛ على إرادة القبيلة- وهم ولد النّضر ابن كنانة، وهو الصّحيح، أو ولد فهر بن مالك بن النّضر، وهو قول الأكثر «1» .
وأوّل من نسب إلى قريش قصيّ بن كلاب، وقيل: غير ذلك. وقيل: سمّوا باسم دابّة في البحر؛ من أقوى دوابّه!! لقوّتهم، والتّصغير للتّعظيم.
(فقال) أي: النّبيّ صلى الله عليه وسلم: ( «إنّما أوصي بهذا الأمر قريشا، والنّاس تبع لقريش) - لفضلهم على غيرهم، قيل: وهو خبر بمعنى الأمر، ويدلّ له قوله في حديث آخر:«قدّموا قريشا، ولا تقدّموها» . أخرجه عبد الرّزاق بإسناد صحيح،
(1) والصواب في هذه المسألة ما ذكره المؤلف في كتابه هذا (1/ 131) .
برّهم لبرّهم، وفاجرهم لفاجرهم، فاستوصوا- آل قريش- بالنّاس خيرا.
يا أيّها النّاس؛ إنّ الذّنوب تغيّر النّعم وتبدّل القسم، فإذا برّ النّاس.. برّهم أئمّتهم، وإذا فجر النّاس.. عقّوهم.
ولكنّه مرسل، وله شواهد (برّهم تبع لبرّهم) - فلا يجوز الخروج عليهم- (وفاجرهم تبع لفاجرهم) .
وفي «الصحيحين» ؛ عن أبي هريرة: «النّاس تبع لقريش، في هذا الشّأن؛ مسلمهم تبع لمسلمهم، وكافرهم تبع لكافرهم»
…
الحديث.
قال الكرمانيّ: هو إخبار عن حالهم في متقدّم الزّمان، يعني: أنّهم لم يزالوا متبوعين في زمان الكفر، وكانت العرب تقدّم قريشا وتعظّمهم.
وزاد في «فتح الباري» : لسكناها الحرم، فلما بعث النّبيّ صلى الله عليه وسلم ودعا إلى الله تعالى توقّف غالب العرب عن اتّباعه، فلمّا فتحت مكّة، وأسلمت قريش تبعتهم العرب، ودخلوا في دين الله أفواجا. انتهى. ذكره «القسطلّاني» .
(فاستوصوا) يا (آل قريش بالنّاس خيرا) بأن تحكموا فيهم بالعدل، وتجتنبوا الجور والظّلم.
(يا أيّها النّاس؛ إنّ الذّنوب تغيّر النّعم) كما قال تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ [11/ الرعد](وتبدّل القسم، فإذا برّ النّاس؛ برّهم أئمّتهم) وأمراؤهم، (وإذا فجروا) ؛ بأن عصوا الله ولم يراقبوه (عقّوهم) ؛ أي: عقّهم أئمّتهم وأمراؤهم؛ بمخالفة مطلوبهم وقطع الإحسان إليهم، وغير ذلك.
قال الله تعالى: وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» [الأنعام: 129] .
وروى ابن مسعود رضي الله تعالى عنه:
…
(قال الله تعالى) في سورة الأنعام (وَكَذلِكَ) - كما متّعنا عصاة الإنس والجنّ؛ بعضهم ببعض- (نُوَلِّي) - من الولاية؛ أي الإمارة، أي: نؤمّر ونسلّط (بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً) - أي: على بعض- (بِما) - أي: لسبب ما- (كانُوا) أي: البعض الثّاني- (يَكْسِبُونَ» ) من المعاصي.
قال ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما في تفسير هذه الآية: هو أنّ الله تعالى إذا أراد بقوم خيرا ولّى عليهم خيارهم، وإذا أراد بقوم شرّا ولّى عليهم شرارهم، فعلى هذا القول إنّ الرّعيّة متى كانوا ظالمين؛ سلّط الله عز وجل عليهم ظالما مثلهم. فمن أراد أن يخلص من ظلم ذلك الظّالم فليترك الظّلم. انتهى.
وفي الحديث: «كما تكونوا يولّى عليكم» ؛ ذكره في «الجامع الصغير» مرموزا له برمز الدّيلميّ في «مسند الفردوس» ؛ عن أبي بكرة، وبرمز البيهقيّ في «سننه» ؛ عن أبي إسحاق السّبيعي مرسلا؛ أي: فإن اتّقيتم الله وخفتم عقابه؛ ولّى عليكم من يخافه فيكم، وعكسه؛ حكمه كحكم عكسه، ولهذا الحديث؛ لمّا سمع إنسان آخر يسبّ الحجّاج؛ قال له: لا تفعل!. وذكر الحديث، بل ينبغي الدّعاء، بنحو «اللهمّ لا تسلّط علينا بذنوبنا من لا يخافك؛ ولا يرحمنا» ، كما كان يفعل صلى الله عليه وسلم فإذا تولّى عليكم ظالم فارجعوا لأنفسكم، ولوموها، فإنّه بسبب ظلمكم لبعضكم. والله أعلم.
(و) في «الإحياء» : (روى ابن مسعود رضي الله تعالى عنه) .
قال العراقيّ: رواه ابن سعد في «الطبقات» ، عن محمّد بن عمر (هو الواقديّ) ؛ بإسناد ضعيف؛ إلى ابن عون؛ عن ابن مسعود، وهو مرسل ضعيف كما تقدّم-. انتهى.
أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر رضي الله تعالى عنه:
«سل يا أبا بكر» . فقال: يا رسول الله؛ دنا الأجل؟ فقال: «قد دنا الأجل، وتدلّى» .
فقال: ليهنك يا نبيّ الله ما عند الله، فليت شعري عن منقلبنا؟
فقال: «إلى الله، وإلى سدرة المنتهى، ثمّ إلى جنّة المأوى، والفردوس الأعلى، والكأس الأوفى، والرّفيق الأعلى، والحظّ والعيش المهنّا» . فقال: يا نبيّ الله؛ من يلي غسلك؟ قال:
«رجال من أهل بيتي؛ الأدنى فالأدنى» .
وكذا رواه الطّبرانيّ في «الدّعاء» ، والواحديّ في «التّفسير» بسند واه جدّا، إلى ابن مسعود؛ مع مخالفة في اللّفظ بالزّيادة والنّقص؛ كما في «شرح الإحياء» وغيره.
(أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر رضي الله تعالى عنه: «سل يا أبا بكر» . فقال:
يا رسول الله دنا) ؛ أي: قرب (الأجل؟! فقال) ؛ أي المصطفى صلى الله عليه وسلم (: «قد دنا الأجل، وتدلّى!» ) وهو عبارة عن غاية القرب.
(فقال: ليهنك يا نبيّ الله؛ ما عند الله) من النّعيم المقيم بمجاورة الكريم، (فليت شعري عن منقلبنا!!) ؛ أي: رجوعنا. (فقال: «إلى الله) فيكرم مثوانا، (وإلى سدرة المنتهى، ثمّ إلى جنّة المأوى) : الإقامة الدّائمة (والفردوس الأعلى) : صفة كاشفة، لأنّ الفردوس هو أعلى الجنّة وأوسطها، (والكأس الأوفى، والرّفيق الأعلى، والحظّ والعيش) : الحياة الدّائمة (المهنّى» ) الّذي لا ينغّصه شيء.
(فقال: يا نبيّ الله؛ من يلي غسلك؟) بعد موتك (قال) يلي غسلي (: «رجال من أهل بيتي، الأدنى فالأدنى) : الأقرب فالأقرب، وقد غسّله
قال: يا رسول الله؛ فيم نكفّنك؟ قال: «في ثيابي هذه، وفي حلّة يمانية، وفي بياض مصر» .
عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، لحديث عليّ: أوصاني النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا يغسّلني إلّا أنت، فإنّه لا يرى أحد عورتي، إلّا طمست عيناه» . رواه البزّار والبيهقي.
وأخرج البيهقيّ؛ عن الشّعبي، قال: غسّل عليّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم فكان يقول وهو يغسّله: بأبي أنت وأمّي؛ طبت حيّا وميّتا.
وأخرج أبو داود، وصحّحه الحاكم؛ عن عليّ قال: غسّلته صلى الله عليه وسلم فذهبت أنظر ما يكون من الميّت- أي: من الفضلات- فلم أر شيئا، وكان طيّبا حيّا وميّتا.
وكان العبّاس وابنه الفضل يعينانه في تقليب جسمه الشّريف، وقثم وأسامة بن زيد وشقران «مولاه صلى الله عليه وسلم» يصبّون الماء، وأعينهم جميعا معصوبة؛ من وراء السّتر.
وغسّل صلى الله عليه وسلم ثلاث غسلات: الأولى بالماء القراح، والثّانية: بالماء والسّدر، والثّالثة: بالماء والكافور. وجعل عليّ على يده خرقة، وأدخلها تحت القميص، ثمّ اعتصر قميصه، وحنّطوا مساجده ومفاصله، ووضّؤوا منه ذراعيه ووجهه وكفّيه وقدميه، وجمّروه عودا وندا.
وذكر ابن الجوزي أنّه روي عن جعفر الصّادق؛ قال: كان الماء يستنقع في جفون النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فكان عليّ يحسوه. (قلنا: يا رسول الله: فيم نكفّنك؟ قال:
«في ثيابي هذه) الّتي عليّ، (و) إن شئتم (في حلّة) - بضمّ الحاء المهملة، وشدّ اللّام-: ضرب من برود اليمن، وهي إزار ورداء، ولا تسمّى «حلّة» ، حتّى تكون ثوبين (يمانية) - بالألف وخفّة الياء؛ على الأفصح- لأنّ الألف بدل من ياء النّسب، فلا يجتمعان. انتهى. «زرقاني» .
(وفي) ثياب (بياض مصر» ) أي: في الثّياب البيض الّتي جاءته من مصر.
فقال: كيف الصّلاة عليك منّا؟ وبكينا، وبكى
…
ثمّ قال:
«مهلا غفر الله لكم، وجزاكم عن نبيّكم خيرا.
إذا غسّلتموني
…
روى ابن عبد الحكم أن المقوقس أهدى له عليه الصلاة والسلام عشرين ثوبا من قباطي مصر، وأنّها بقيت حتّى كفّن في بعضها.
وفي حديث عروة؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كفّن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحوليّة. أخرجه النّسائي من رواية عبد الرزّاق؛ عن معمر؛ عن الزّهريّ؛ عن عروة؛ عنها.
واتّفق عليه الأئمّة السّتّة؛ من طريق هشام بن عروة؛ عن أبيه؛ عن عائشة، بزيادة: من كرسف؛ ليس فيها قميص ولا عمامة.
وليس قوله «1» : «من كرسف» عند الترمذيّ، ولا ابن ماجه، وزاد مسلم في رواية عن عائشة: أما الحلّة! فإنما شبّه على النّاس فيها، أنّها اشتريت له ليكفّن فيها؛ فتركت الحلّة وكفّن في ثلاثة أثواب بيض سحوليّة، فأخذها عبد الله بن أبي بكر الصّدّيق، فقال: لأحبسنّها حتّى أكفّن فيها نفسي. ثمّ قال: لو رضيها الله لنبيّه؛ لكفّنه فيها!! فباعها وتصدّق بثمنها.
وهذا من عائشة يدلّ على أن قولها «ثلاثة أثواب» عن علم وإيقان؛ لا عن تخمين وحسبان.
وجاء في «طبقات ابن سعد» عن الشّعبيّ: بيان الثّلاثة الأثواب؛ بأنّها إزار ورداء ولفافة. وقال التّرمذيّ: روي في كفن النّبيّ صلى الله عليه وسلم روايات مختلفة، وحديث عائشة أصحّ الأحاديث في ذلك، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم؛ من الصّحابة، وغيرهم.
(فقال: كيف الصّلاة عليك منّا؟ وبكينا) ؛ حزنا على فراقه (وبكى) لبكائنا، (ثمّ قال: «مهلا غفر الله لكم، وجزاكم عن نبيّكم خيرا، إذا غسّلتموني
(1) الأحسن «قولها» عائد على عائشة. وإن ذكّر الضمير على إرادة «الراوي» فلا بأس به.
وكفّنتموني.. فضعوني على سريري هذا، في بيتي هذا على شفير قبري، ثم اخرجوا عنّي ساعة- فإنّ أوّل من يصلّي عليّ الله عز وجل هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ [الأحزاب: 43] .
ثمّ يأذن للملائكة في الصّلاة عليّ، فأوّل من يدخل عليّ من خلق الله ويصلّي عليّ.. جبريل، ثمّ ميكائيل، ثمّ إسرافيل، ثمّ ملك الموت مع جنود كثيرة، ثمّ الملائكة بأجمعها صلّى الله عليهم أجمعين،
…
وكفّنتموني؛ فضعوني على سريري هذا في بيتي هذا، هذا على شفير) - بشين معجمة وفاء- أي: حرف (قبري، ثمّ اخرجوا عنّي ساعة) : قدرا من الزّمان، (فإنّ أوّل من يصلّي عليّ) - بتشديد الياء- (الله عز وجل هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ) : يرحمكم (وَمَلائِكَتُهُ)[43/ الأحزاب] يستغفرون لكم.
قال السّدّي: قالت بنو إسرائيل لموسى: أيصلّي ربّنا؟ فكبر هذا الكلام على موسى، فأوحى الله إليه: أن قل لهم: إنّي أصلّي، وإنّ صلاتي رحمتي، وقد وسعت رحمتي كلّ شيء. ذكره البغويّ.
(ثمّ يأذن للملائكة في الصّلاة عليّ.
فأوّل من يدخل عليّ من خلق الله ويصلّي عليّ جبريل، ثمّ ميكائيل، ثمّ إسرافيل، ثمّ ملك الموت؛ مع جنود) جماعة (كثيرة.
ثمّ الملائكة) المأذون لها في الحضور للتّشييع (بأجمعها صلّى الله عليهم أجمعين.
ثمّ أنتم؛ فادخلوا عليّ أفواجا، فصلّوا عليّ أفواجا؛ زمرة زمرة، وسلّموا تسليما، ولا تؤذوني بتزكية ولا صيحة ولا رنّة، وليبدأ منكم الإمام، وأهل بيتي الأدنى.. فالأدنى، ثمّ زمرة النّساء، ثمّ زمرة الصّبيان.
ثمّ أنتم فادخلوا) للصلاة ( [عليّ] أفواجا) جمع فوج- بفتح فسكون- وجمع الجمع: أفاويج.
(فصلّوا عليّ أفواجا) ؛ أي: جماعات (زمرة زمرة) ؛ أي: جماعة بعد جماعة (وسلّموا تسليما، ولا تؤذنوا بتزكية) غير لائقة بي، ممّا هو من أوصاف الرّبّ جلّ وعلا، (ولا صيحة ولا رنّة) بنياحة.
(وليبدأ) بالصّلاة عليّ (منكم الإمام) ؛ أي: الخليفة وهو أبو بكر الصّدّيق.
(وأهل بيتي) : عليّ والعبّاس، و (الأدنى فالأدنى) ؛ أي: الأقرب فالأقرب يتقدّم.
(ثمّ زمرة النّساء) من أهل بيت النّبوّة، ثمّ نساء غيرهم.
(ثمّ زمرة الصّبيان) وفي حديث ابن عبّاس- عند ابن ماجه- لمّا فرغوا من جهازه صلى الله عليه وسلم يوم الثّلاثاء وضع على سريره في بيته، ثمّ دخل النّاس عليه صلى الله عليه وسلم أرسالا، يصلّون عليه، حتّى إذا فرغوا، دخل النّساء، حتى إذا فرغن؛ دخل الصّبيان، ولم يؤمّ النّاس على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد.
قال ابن كثير: هذا أمر مجمع عليه.
واختلف في أنّه تعبّد لا يعقل معناه، أو ليباشر كلّ واحد الصّلاة عليه، منه إليه؟.
وقال السّهيلي: قد أخبر الله أنّه وملائكته يصلّون عليه، وأمر كلّ واحد من
.........
المؤمنين أن يصلّي عليه، فوجب على كلّ أحد أن يباشر الصّلاة عليه منه إليه، والصّلاة عليه بعد موته من هذا القبيل، قال: وأيضا؛ فإنّ الملائكة لنا في ذلك أئمّة. انتهى.
وقال الشّافعيّ في «الأمّ» : وذلك لعظم أمره صلى الله عليه وسلم وتنافسهم فيمن يتولّى الصّلاة عليه، وروي أنّه لمّا صلّى أهل بيته، لم يدر النّاس ما يقولون؟ فسألوا ابن مسعود؛ فأمرهم أن يسألوا عليّا!! فقال لهم: قولوا إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [56/ الأحزاب] الآية، لبّيك اللهمّ ربّنا وسعديك، صلوات الله البرّ الرّحيم؛ والملائكة المقرّبين، والنّبييّن والصّدّيقين، والشّهداء والصّالحين؛ وما سبّح لك من شيء يا ربّ العالمين على محمّد بن عبد الله: خاتم النّبييّن، وسيّد المرسلين، وإمام المتّقين، ورسول ربّ العالمين، الشّاهد البشير، الدّاعي إليك بإذنك السّراج المنير، وعليه السّلام. ذكر ذلك الشّيخ زين الدّين بن الحسين المراغي في كتابه «تحقيق النّصرة لمعالم دار الهجرة» . انتهى زرقانيّ على «المواهب» .
وظاهر هذا: أنّ المراد ما ذهب إليه جماعة؛ أنّه لم يصلّ عليه الصّلاة المعتادة، وإنّما كان النّاس يأتون فيدعون.
قال الباجيّ: ووجهه: أنّه صلى الله عليه وسلم أفضل من كلّ شهيد، والشّهيد يغنيه فضله عن الصّلاة عليه!!. فهو صلى الله عليه وسلم أولى.
قال: وإنّما فارق الشّهيد في الغسل!! حذرا من إزالة الدّم عن الشّهيد، وهو مطلوب بقاؤه لطيبه، ولأنّه عنوان لشهادته في الآخرة، وليس على النّبيّ صلى الله عليه وسلم ما تكره إزالته؛ فافترقا. انتهى.
لكن قال القاضي عياض: الصّحيح الّذي عليه الجمهور: أنّ الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم كانت صلاة حقيقية؛ لا مجردّ الدّعاء فقط. انتهى.
وأجيب عمّا اعتلّ به الأوّلون بأنّ المقصود من الصّلاة عليه عود التّشريف على المسلمين، مع أنّ الكامل يقبل زيادة التّكميل، نعم؛ لا خلاف أنّه لم يؤمّهم أحد
قال: فمن يدخلك القبر؟ قال: «زمر من أهل بيتي
…
الأدنى فالأدنى مع ملائكة كثيرة لا ترونهم؛ وهم يرونكم،
…
- كما مرّ- لقول عليّ: هو إمامكم حيّا وميتا، فلا يقوم عليه أحد
…
الحديث.
رواه ابن سعد.
وأخرج التّرمذيّ أنّ النّاس قالوا لأبي بكر: أيصلّى على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال:
نعم. قالوا: وكيف نصلّي؟ قال: يدخل قوم فيكبّرون ويصلّون ويدعون، ثمّ يدخل قوم فيصلّون ويكبّرون ويدعون فرادى. انتهى.
(قال: فمن يدخلك القبر؟ قال: «زمر من أهل بيتي) : أقاربي (الأدنى..
فالأدنى) منهم، (مع ملائكة كثيرة لا ترونهم، وهم يرونكم» ) .
وقد اختلف فيمن أدخله قبره؟. وأصحّ ما روي أنّه نزل في قبره عمّه العبّاس، وعليّ، وقثم بن العبّاس، والفضل بن العبّاس، وكان آخر النّاس عهدا برسول الله صلى الله عليه وسلم قثم بن العبّاس؛ أي: أنّه تأخّر في القبر حتّى خرجوا قبله.
وروي أنّه بني في قبره تسع لبنات، وفرش تحته قطيفة نجرانيّة؛ كان يتغطّى بها ويجلس عليها، وهي كساء له خمل؛ أي: أهداب فرشها شقران مولاه صلى الله عليه وسلم في القبر، وقال: والله لا يلبسها أحد بعدك.
قال النّوويّ: وقد نصّ الشّافعيّ وجميع أصحابه؛ وغيرهم من العلماء: على كراهة وضع قطيفة؛ أو مضريّة؛ أو مخدّة، ونحو ذلك تحت الميّت في القبر.
وشذّ البغويّ من أصحابنا؛ فقال في كتابه «التّهذيب» : لا بأس بذلك، لهذا الحديث. والصّواب كراهة ذلك؛ كما قاله الجمهور.
وأجابوا عن هذا الحديث: بأنّ شقران انفرد بفعل ذلك، ولم يوافقه أحد من الصّحابة، ولا علموا بذلك، وإنّما فعله شقران! لما ذكرنا عنه؛ من كراهته أن يلبسها أحد بعد النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
انتهى كلام النّوويّ.
قوموا فأدّوا عنّي إلى من بعدي» . وقال عبد الله بن زمعة [رضي الله تعالى عنه] : جاء بلال في أوّل شهر ربيع الأوّل، فأذّن بالصّلاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
…
وفي كتاب «تحقيق النّصرة» : قال ابن عبد البرّ: ثمّ أخرجت يعني: القطيفة من القبر لمّا فرغوا من وضع اللّبنات التّسع، حكاه ابن زبالة.
قال العراقيّ في «ألفية السّيرة» :
وفرشت في قبره قطيفة
…
وقيل: أخرجت، وهذا أثبت
(قوموا فأدّوا عنّي) - ما سمعتم منّي- (إلى من بعدي» ) من أمّتي.
(و) في «الإحياء» : (قال عبد الله بن زمعة) بن الأسود بن المطّلب بن أسد بن عبد العزّى القرشي؛ الأسديّ، «ابن أخت أم سلمة، زوج النّبيّ صلى الله عليه وسلم» واسم أمّه: قريبة بنت أبي أمية. قال القاضي عياض في «المشارق» : زمعة بسكون الميم. وضبطناه عن ابن بحر: بفتح الميم؛ حيث وقع، وكلاهما قال الحافظ في «الفتح» : ووقع في «الكاشف» للذّهبيّ أنّه أخو سودة أمّ المؤمنين.
وهو وهم؛ يظهر صوابه من سياق نسبها.
قال البغويّ: كان يسكن المدينة وله أحاديث، ويقال: إنّه كان يأذن على النّبيّ صلى الله عليه وسلم قتل يوم الدّار سنة: خمس وثلاثين. وبه جزم أبو حسّان الزيادي، روى له الجماعة. انتهى ذكره في «شرح الإحياء» .
والحديث المذكور قال العراقي: رواه أبو داود بإسناد جيّد مختصرا؛ دون قوله «فقالت عائشة: إنّ أبا بكر رجل رقيق
…
الخ» ولم يقل في أوّل ربيع الأوّل!؟
وقال: «مروا من يصلّي بالنّاس» . وقال: «يأبى الله ذلك والمؤمنون، مرّتين» .
انتهى. ذكره في «شرح الإحياء» .
(جاء بلال) رضي الله عنه (في أوّل شهر ربيع الأوّل) قد علمت أنّ هذا ليس في رواية أبي داود (فأذّن بالصّلاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«مروا أبا بكر يصلّي بالنّاس» . فخرجت فلم أر بحضرة الباب إلّا عمر في رجال ليس فيهم أبو بكر، فقلت: قم يا عمر فصلّ بالنّاس، فقام عمر، فلمّا كبّر- وكان رجلا صيّتا- سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته بالتّكبير.. فقال:«أين أبو بكر؟ يأبى الله ذلك، والمسلمون» قالها ثلاث مرّات: «مروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس» ، فقالت عائشة رضي الله [تعالى] عنها: يا رسول الله؛ إنّ أبا بكر رجل رقيق، إذا قام في مقامك غلبه البكاء.
«مروا) - بضمّتين؛ بوزن: كلوا، أي: بلّغوا أمري- (أبا بكر) الصّدّيق.
وفي رواية أبي داود: «مروا من (يصلّي بالنّاس» ) ؛ أي: يؤمّهم.
قال: (فخرجت فلم أر بحضرة الباب إلّا عمر) بن الخطاب رضي الله تعالى عنه (في رجال ليس فيهم أبو بكر) الصّدّيق رضي الله تعالى عنه (؛ فقلت: قم يا عمر؛ فصلّ بالنّاس، فقام عمر) واصطفّ النّاس.
(فلمّا كبّر) للصّلاة؛ (وكان رجلا صيّتا) ؛ أي: جهير الصّوت، (سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته بالتّكبير) لقرب الحجرة الشّريفة من المسجد؛
(فقال: «أين أبو بكر!؟ يأبى الله ذلك، والمسلمون» !! قالها ثلاث مرّات) رواية أبي داود: «يأبى الله ذلك والمؤمنون» مرّتين.
(مروا أبا بكر فليصلّ) - بسكون اللّام الأولى، ويروي بكسرها مع زيادة ياء مفتوحة- (بالنّاس» ) إماما، وفي رواية لأبي داود، فقال:«لا.. لا، ليصلّ للنّاس ابن أبي قحافة» يقول ذلك تغضّبا.
(فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: يا رسول الله؛ إنّ أبا بكر رجل رقيق) بقافين- (إذا قام في مقامك غلبه البكاء؟!) لرقّة قلبه وغلبة دمعه، ولما يلاحظ من فقده صلى الله عليه وسلم وما كان يجد من فقد أنسه وأنواره.
فقال: «إنّكنّ صويحبات يوسف، مروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس» .
قال: فصلّى أبو بكر بعد الصّلاة الّتي صلّى عمر.
فكان عمر يقول لعبد الله بن زمعة بعد ذلك: ويحك، ماذا صنعت بي؟ والله لولا أنّي ظننت أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك.. ما فعلت، فيقول عبد الله: إنّي لم أر أحدا أولى بذلك منك.
(فقال) ؛ أي: النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعائشة (: «إنّكنّ صويحبات يوسف) النّبيّ صلى الله عليه وسلم في إظهار خلاف ما في الباطن.
والخطاب؛ وإن كان بلفظ الجمع؛ فالمراد به واحدة فقط؛ وهي عائشة رضي الله تعالى عنها كما أنّ «صويحبات» جمع؛ والمراد به زليخا فقط، على أن في رواية عند البخاريّ: أنّها قالت لحفصة: أن تقول ما قالت: أي: مر عمر فليصلّ بالنّاس، فقالت حفصة ذلك، فحينئذ قال ما قال!! وأقلّ الجمع اثنان، وقد تقدّم ( «مروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس» ) .
وفيه: ألايقدّم للإمامة؛ إلّا أفضل القوم فقها وقراءة وورعا وغيرها.
وفي تكرار أمره بتقديمه الدّلالة الظّاهرة عند من له إيمان على أنّ أبا بكر أحقّ النّاس بخلافته، وقد وافق على ذلك عليّ، وغيره من أهل البيت.
(قال) ؛ أي الرّاوي (: فصلّى أبو بكر بعد الصّلاة الّتي صلّى عمر) بالنّاس سبع عشرة صلاة- كما نقله الدّمياطيّ- (فكان عمر يقول لعبد الله بن زمعة بعد ذلك: ويحك؛ ماذا صنعت بي؟! والله لولا أنّي ظننت أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك، ما فعلت! فيقول عبد الله: إنّي لم أر أحدا أولى بذلك منك.)
والحديث من قوله «فقالت عائشة
…
الخ» في «الصّحيح» بلفظ: فقالت عائشة:
يا رسول الله؛ إنّ أبا بكر رجل رقيق، إذا قام مقامك لا يسمع النّاس من البكاء!!.
قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: وما قلت ذلك ولا صرفته عن أبي بكر إلّا رغبة به عن الدّنيا، ولما في الولاية من المخاطرة والهلكة وفي رواية: إذا قرأ القرآن؛ لا يملك دمعه؟.
قال: «مروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس» فعاودته مثل مقالتها، فقال:«إنّكنّ صواحبات يوسف! مروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس» رواه الشّيخان.
وفي رواية للشّيخين: إنّ أبا بكر رجل أسيف.
وفي رواية عند البخاري في «الصّلاة، والاعتصام» أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «مروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس» فقالت عائشة: إنّ أبا بكر إذا قام مقامك لم يسمع النّاس من البكاء، فمر عمر، فليصلّ بالنّاس!. فقال: مروا أبا بكر فليصلّ بالناس قالت:
قلت لحفصة: قولي له «إنّ أبا بكر؛ إذا قام في مقامك لم يسمع النّاس من البكاء، فمر عمر، فليصلّ بالنّاس» ففعلت حفصة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«مه! إنكن أنتنّ صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس» .
فقالت حفصة لعائشة: ما كنت لأصيب منك خيرا!!.
وفي «مسند الدّارمي» من وجه آخر: أنّ أبا بكر هو الّذي أمر عائشة أن تشير على النّبي صلى الله عليه وسلم أن يأمر عمر بالصّلاة.
قال الحافظ ابن حجر: لم يرد أبو بكر ما أرادت عائشة؛ بل قاله لعذره برقّة قلبه، أو لفهمه منها الإمامة العظمى، وعلم ما في تحمّلها من الخطر، وعلم قوّة عمر على ذلك؛ فاختاره، والظّاهر أنّه لم يطّلع على المراجعة، أو فهم من أمره بذلك تفويضه؛ سواء باشر بنفسه، أو استخلف.
(قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: وما قلت ذلك) الكلام (ولا صرفته) صلى الله عليه وسلم (عن) اختيار (أبي بكر) للإمامة (إلّا رغبة به) ؛ أي: أبي بكر (عن الدّنيا، و) أيضا (لما في الولاية من) الدّخول في (المخاطرة و) أسباب (الهلكة) -
إلّا من سلّم الله، وخشيت أيضا ألايكون النّاس يحبّون رجلا صلّى في مقام النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو حيّ أبدا- إلّا أن يشاء الله- فيحسدونه، ويبغون عليه، ويتشاءمون به، فإذا الأمر أمر الله، والقضاء قضاء الله تعالى، وعصمه الله تعالى من كلّ ما تخوّفت عليه من أمر الدّنيا والدّين.
وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها:
…
محرّكة؛ بوزن قصبة-: الهلاك (إلّا من سلّم) هـ (الله) وحفظه بعنايته السّابقة.
(وخشيت أيضا ألايكون النّاس يحبّون رجلا صلّى في مقام النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو) صلى الله عليه وسلم (حيّ أبدا، إلّا أن يشاء الله؛ فيحسدونه، ويبغون عليه، ويتشاءمون) - بشين معجمة والمد- (به، فإذا الأمر أمر الله، والقضاء قضاء الله تعالى) نفذ باختيار الصّدّيق؛ أي: اختاره الله تعالى، وجمع به كلمة المسلمين (وعصمه الله تعالى) ؛ أي: حفظه (من كلّ ما تخوّفت عليه؛ من أمر الدّنيا والدّين) .
رواه البخاريّ في «باب الوفاة» ، ومسلم في «الصّلاة» بلفظ: فلقد راجعته في ذلك؛ وما حملني على كثرة مراجعته إلّا أنّه لم يقع في قلبي أن يحبّ النّاس بعده رجلا قام مقامه أبدا، وما حملني على ذلك؛ إلّا أنّي كنت أرى أنّه لن يقوم أحد مقامه إلّا تشاءم النّاس به؛ فأردت أن يعدل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر.
وفي رواية لمسلم: قالت: والله ما بي إلّا كراهية أن يتشاءم النّاس بأوّل من يقوم مقامه صلى الله عليه وسلم، فراجعته مرّتين؛ أو ثلاثا.
(و) في «الإحياء» للغزالي رحمه الله تعالى: (قالت عائشة رضي الله تعالى عنها) - فيما رواه الطّبرانيّ في «الكبير» ؛ من حديث جابر، وابن عبّاس، مع اختلاف في حديث طويل- في نحو ورقتين كبار- وهو منكر؛ فيه عبد المنعم بن إدريس بن سنان؛ عن أبيه؛ عن وهب بن منبّه، قال أحمد: كان يكذب على وهب بن منبه، وأبوه إدريس أيضا متروك؛ قاله الدارقطني. وقد رواه أبو نعيم في
فلمّا كان اليوم الّذي مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.. رأوا منه خفّة في أوّل النّهار؛ فتفرّق عنه الرّجال إلى منازلهم وحوائجهم مستبشرين، وأدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنّساء، فبينا نحن على ذلك- لم نكن على مثل حالنا في الرّجاء والفرح قبل ذلك- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«اخرجن عنّي؛ هذا الملك يستأذن عليّ» . فخرج من في البيت غيري، ورأسه في حجري، فجلس، وتنحّيت في جانب البيت، فناجى الملك طويلا، ثمّ إنّه دعاني؛ فأعاد رأسه في حجري، وقال للنّسوة:«ادخلن» ، فقلت: ما هذا بحسّ جبريل عليه السلام؟
…
«الحلية» عن الطّبراني بطوله؛ قاله في «شرح الإحياء» . - وذكر الحديث بطوله:
(فلمّا كان اليوم الّذي مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وهو يوم الاثنين (رأوا منه خفّة في أوّل النّهار) ؛ أي: أنّه أصبح يوم الاثنين خفيف المرض.
(فتفرّق عنه الرّجال إلى منازلهم وحوائجهم؛ مستبشرين) بظهور علامة الشّفاء. وقال له أبو بكر: أراك يا رسول الله قد أصبحت بنعمة من الله وفضل كما نحبّ، واليوم يوم ابنة خارجة. أفاتيها؟! قال:«نعم» ، فذهب.
(وأخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنّساء، فبينا نحن على ذلك، لم نكن على مثل حالنا في الرّجاء والفرح قبل ذلك) ؛ إذ (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنّساء (: «أخرجن عنّي، هذا الملك) ؛ أي: ملك الموت (يستأذن عليّ» ) ؛ أي: يطلب الإذن بالدّخول عليّ.
(فخرج من في البيت) من النّسوة (غيري، ورأسه في حجري، فجلس) مستعدّا للقاء الملك، (وتنحّيت في جانب البيت) ؛ أي: صرت في ناحية منه، (فناجى الملك طويلا، ثمّ إنّه دعاني؛ فأعاد رأسه في حجري، وقال للنّسوة:
«ادخلن» . فقلت:) يا رسول الله؛ (ما هذا بحسّ جبريل عليه السلام؟.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أجل يا عائشة؛ هذا ملك الموت، جاءني فقال: إنّ الله عز وجل أرسلني، وأمرني أن لا أدخل عليك إلّا بإذن، فإن لم تأذن لي.. أرجع، وإن أذنت لي..
دخلت، وأمرني ألاأقبضك حتّى تأمرني، فماذا أمرك؟ فقلت:
«اكفف عنّي، حتّى يأتيني جبريل عليه السلام، فهذه ساعة جبريل» .
قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: فاستقبلنا بأمر لم يكن له عندنا جواب؛ ولا رأي، فوجمنا وكأنّما ضربنا بصاخّة- أي:
بصيحة- ما نحير إليه شيئا، وما يتكلّم أحد من أهل البيت؛ إعظاما لذلك الأمر، وهيبة ملأت أجوافنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أجل يا عائشة؛ هذا ملك الموت، جاءني، فقال: إنّ الله عز وجل أرسلني) إليك، (وأمرني ألاأدخل عليك إلّا بإذن، فإن لم تأذن لي، أرجع، وإن أذنت لي دخلت، وأمرني ألا أقبضك حتّى تأمرني، فماذا أمرك» ؟؟)
زاد في رواية: قال: «وتفعل ذلك يا ملك المو؟» قال: نعم، أمرت أن أطيعك في كلّ ما أمرتني.
( «فقلت: اكفف عنّي حتّى يأتيني جبريل عليه السلام، فهذه ساعة جبريل» .
قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: فاستقبلنا بأمر لم يكن له عندنا جواب؛ ولا رأي، فوجمنا) ؛ أي: اندهشنا (وكأنّما ضربنا بصاخّة) - بتشديد الخاء المعجمة-: وهي المصيبة الشّديدة، وقال المصنّف:(أي: بصيحة، ما نحير إليه شيئا) ؛ أي: ما نرجع، (وما يتكلّم أحد من أهل البيت؛ إعظاما لذلك الأمر، وهيبة ملأت أجوافنا.
قالت: وجاء جبريل في ساعته فسلّم، فعرفت حسّه، وخرج أهل البيت، فدخل فقال: إنّ الله عز وجل يقرأ عليك السّلام، ويقول: كيف تجدك؟ وهو أعلم بالّذي تجد منك، ولكن أراد أن يزيدك كرامة وشرفا، وأن يتمّ كرامتك وشرفك على الخلق، وأن تكون سنّة في أمّتك، فقال:«أجدني وجعا» . فقال: أبشر، فإنّ الله تعالى أراد أن يبلّغك ما أعدّ لك، فقال:«يا جبريل؛ إنّ ملك الموت استأذن عليّ..» وأخبره الخبر. فقال جبريل: يا محمّد؛ إنّ ربّك إليك مشتاق، ألم يعلمك الّذي يريد بك؟! لا والله قالت) ؛ أي عائشة (: وجاء جبريل) عليه السلام (في ساعته، فسلّم؛ فعرفت حسّه، وخرج أهل البيت، فدخل؛ فقال:
إنّ الله عز وجل يقرأ عليك السّلام؛ ويقول: كيف تجدك) ؛ أي: تجد نفسك في هذا الوقت- (وهو أعلم بالّذي تجد منك- ولكن أراد أن يزيدك كرامة وشرفا، وأن يتمّ كرامتك وشرفك على الخلق) ؛ تخصيصا لك، (وأن تكون سنّة في أمّتك) ؛ أي: إذا دخلوا على المريض فيقولون كذلك.
(فقال: «أجدني وجعا» ) - بكسر الجيم- أي: مريضا متألّما.
(فقال: أبشر، فإنّ الله تعالى أراد أن يبلّغك ما أعدّ لك) من الكرامة.
(فقال: «يا جبريل: إنّ ملك الموت استأذن عليّ»
…
وأخبره الخبر.
فقال جبريل: يا محمّد؛ إنّ ربّك إليك مشتاق) .
قال البيهقي: معنى اشتياق الله إليه إرادة لقائه، بأن يردّه من دنياه إلى معاده؛ زيادة في قربه وكرامته، وذلك لاستحالة المعنى الحقيقيّ الّذي هو نزوع النّفس إلى الشّيء في حقّه تعالى.
(ألم يعلمك) ؛ أي: ملك الموت بالأمر (الّذي يريد بك!! لا والله؛
ما استأذن ملك الموت على أحد قطّ ولا يستأذن عليه أبدا، ألا إنّ ربّك متمّ شرفك، وهو إليك مشتاق.
قال: «فلا تبرح إذا حتّى يجيء» .
وأذن للنّساء، فقال:«يا فاطمة؛ ادني» ، فأكبّت عليه، فناجاها، فرفعت رأسها وعيناها تدمع؛ وما تطيق الكلام، ثمّ قال:
«أدني منّي رأسك» ، فأكبّت عليه، فناجاها، فرفعت رأسها؛ وهي تضحك وما تطيق الكلام، وكان الّذي رأينا منها عجبا، فسألتها بعد ذلك
…
ما استأذن ملك الموت على أحد) قبلك (قطّ) ؛ أي: فيما مضى، (ولا يستأذن عليه) ؛ أي: على أحد بعدك (أبدا) ، فهو تخصيص لك على الجميع.
(ألا إنّ ربّك متمّ شرفك، وهو إليك مشتاق.
قال) ؛ أي النّبيّ صلى الله عليه وسلم لجبريل (: «فلا تبرح إذا) - أي: امكث عندي- (حتّى يجيء» ) ؛ أي: ملك الموت (وأذن) صلى الله عليه وسلم (للنّساء) فدخلن، وفيهنّ ابنته فاطمة رضي الله تعالى عنها.
(فقال: «يا فاطمة؛ ادني» )، أي: اقربي منّي (فأكبّت عليه) لازم، وثلاثيّة كبّ: متعدّ، عكس المشهور من قواعد التصريف؛ فهو من النّوادر.
(فناجاها) أي سارّها بشيء، (فرفعت رأسها وعيناها تذرفان) ؛ أي:
تسيلان دموعا، (وما تطيق الكلام) من شدّة الحزن.
(ثمّ قال) لها (: «ادني منّي رأسك» ، فأكبّت عليه فناجاها، فرفعت رأسها؛ وهي تضحك وما تطيق الكلام، وكان الّذي رأينا منها عجبا) من البكاء والضّحك في ساعة واحدة، (فسألتها بعد ذلك) ؛ أي: بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.
فقالت: أخبرني، وقال:«إنّي ميّت اليوم» ، فبكيت، ثمّ قال:
«إنّي دعوت الله أن يلحقك بي في أوّل أهلي، وأن يجعلك معي» فضحكت. وأدنت ابنيها منه فشمّهما.
(فقالت: أخبرني) أوّلا؛ (وقال: «إنّي ميّت اليوم» ، فبكيت) حزنا على فراقه (ثمّ قال) ثانيا (: «إنّي دعوت الله أن يلحقك بي في أوّل أهلي، وأن يجعلك معي» فضحكت) ؛ فرحا للحوقي به، (وأدنت) ؛ أي: قرّبت (ابنتها) أمّ كلثوم (منه) صلى الله عليه وسلم (فشمّها) وبرّك عليها.
وفي البخاري، ومسلم، والنّسائي؛ من طريق عروة؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: دعا النّبيّ صلى الله عليه وسلم فاطمة في شكواه الّتي قبض فيها، فسارّها بشيء فبكت، ثمّ دعاها فسارّها بشيء فضحكت! فسألناها عن ذلك؟ فقالت: سارّني النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه يقبض في وجهه الّذي توفّي فيه. فبكيت، ثمّ سارّني؛ فأخبرني أنّي أوّل أهله يتبعه، فضحكت.
وفي رواية «الصّحيحين» والنّسائي؛ عن مسروق؛ عن عائشة، قالت:
أقبلت فاطمة تمشي، كأنّ مشيتها مشية النّبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال لها:«مرحبا بابنتي» ثمّ أجلسها عن يمينه؛ أو عن شماله، ثمّ أسرّ إليها حديثا فبكت، فقلت لها: لم تبكين!؟ ثمّ أسرّ إليها حديثا فضحكت، فقلت: ما رأيت كاليوم فرحا أقرب من حزن!! فسألتها عمّا قال؟ فقالت: ما كنت لأفشي سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتّى قبض، فسألتها؟ فقالت: أسرّ إليّ «إنّ جبريل كان يعارضني القرآن، كلّ سنة مرّة، وإنّه عارضني الآن مرّتين، ولا أراه إلّا حضر أجلي، وإنّك أوّل أهلي لحاقا بي» . فبكيت. فقال: «أما ترضين أن تكوني سيّدة نساء أهل الجنّة؟ أو نساء المؤمنين؟» . فضحكت لذلك.
اتّفقت الرّوايتان على أنّ الّذي سارّها به أوّلا فبكت، هو إعلامه إيّاها؛ بأنّه يموت من مرضه ذلك؛ كما في المتن.
.........
واختلفت فيما سارّها به فضحكت؟ ففي رواية عروة: أنّه إخباره إيّاها بأنّها أوّل أهله لحوقا به، وهي موافقة لما في المتن، وفي رواية مسروق: أنّه إخباره إيّاها أنّها سيّدة نساء أهل الجنّة، وجعل كونه أوّل أهله لحاقا به مضموما إلى الأوّل، وهو إخباره بأنّه ميّت من وجعه.
وحديث مسروق هو الرّاجح، فإنّه يشتمل على زيادات ليست في حديث عروة. ومسروق من الثّقات الضّابطين، وزيادته مقبولة.
وفي رواية عروة الجزم أنّه ميّت من وجعه ذلك، وهي توافق ما في المصنف، بخلاف رواية مسروق، ففيها أنّه ظنّ ذلك؛ بطريق الاستنباط ممّا ذكره من معارضته القرآن مرّتين.
ويحتمل تعدّد القصّة؛ جمعا بين روايتي مسروق وعروة.
وقد يقال: لا منافاة بين الخبرين؛ إلّا بالزّيادة.
ولا يمتنع أن يكون إخباره بكونها أوّل أهله لحوقا به سببا لبكائها وضحكها معا؛ باعتبارين: فباعتبار أسفها على بقائها بعده مدّة بكت؛ وهو ما رواه مسروق، وباعتبار سرعة لحاقها به ضحكت؛ وهو ما رواه عروة، فذكر كلّ من الرّاويين ما لم يذكره الآخر، وهذا الجمع أولى من احتمال التّعدد؛ لأنّ الأصل عدمه.
وقد روى النّسائي؛ من طريق أبي سلمة بن عبد الرّحمن؛ عن عائشة في سبب البكاء: أنّه ميّت، وفي سبب الضّحك: الأمرين الأخيرين: أنها أوّل أهله لحاقا به، وأنّها سيّدة نساء أهل الجنّة، وهذا يؤيّد الجمع الثّاني.
وفي الحديث إخباره صلى الله عليه وسلم بما سيقع؛ فوقع كما قال، فإنّهم اتّفقوا على أنّ فاطمة أوّل من مات من أهل بيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعده بستّة أشهر- على الصّحيح- حتّى من أزواجه عليه الصلاة والسلام. انتهى من «المواهب اللدنية» للعلّامة القسطلّاني رحمه الله تعالى.
قالت: وجاء ملك الموت، واستأذن؛ فأذن له، فقال الملك:
ما تأمرنا يا محمّد؟ قال: «ألحقني بربّي الآن» ، فقال: بلى؛ من يومك هذا، أما إنّ ربّك إليك مشتاق، ولم يتردّد عن أحد تردّده عنك، ولم ينهني عن الدّخول على أحد إلّا بإذن غيرك، ولكنّ ساعتك أمامك. وخرج.
قالت: وجاء جبريل فقال: السّلام عليك يا رسول الله؛ هذا آخر ما أنزل فيه إلى الأرض أبدا، طوي الوحي وطويت الدّنيا، وما كان لي في الأرض حاجة غيرك، وما لي فيها حاجة إلّا حضورك، ثمّ لزوم موقفي.
(قالت: وجاء ملك الموت، واستأذن؛ فأذن له) فدخل؛
(فقال:) السّلام عليك أيّها النّبيّ، ورحمة الله وبركاته؛ إنّ ربّك يقرئك السّلام، ثمّ قال (الملك: ما تأمرنا يا محمّد؟ قال: «ألحقني بربّي الآن» .
فقال: بلى؛ من يومك هذا، أما إنّ ربّك إليك مشتاق، ولم يتردّد عن أحد تردّده عنك، ولم ينهني عن الدّخول على أحد إلّا بإذن غيرك، ولكنّ ساعتك أمامك.
وخرج، قالت: وجاء جبريل؛ فقال: السّلام عليك يا رسول الله؛ هذا آخر ما أنزل فيه إلى الأرض) ؛ أي: بالوحي (أبدا، طوي الوحيّ وطويت الدّنيا، وما كان لي في الأرض حاجة غيرك، وما لي فيها حاجة إلّا حضورك) ؛ أي:
الحضور عندك بالوحي (ثمّ لزوم موقفي)
فالمنفيّ نزوله بالوحي المتجدّد، فلا ينافي ما ورد في أحاديث: أنّه ينزل ليلة القدر، ويحضر قتال المسلمين مع الكفّار، ويحضر من مات على طهارة من المسلمين، ويأتي مكّة والمدينة بعد خروج الدّجال؛ ليمنعه من دخولها، وفي زمن عيسى عليه السلام؛ لا بشرع جديد، وتفصيل ذلك يطول.
لا والّذي بعث محمّدا بالحقّ؛ ما في البيت أحد يستطيع أن يحير إليه في ذلك كلمة، ولا يبعث إلى أحد من رجاله لعظم ما يسمع من حديثه، ووجدنا وإشفاقنا.
قالت: فقمت إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم حتّى أضع رأسه بين ثدييّ، وأمسكت بصدره، وجعل يغمى عليه حتّى يغلب، وجبهته ترشح رشحا ما رأيته من إنسان قطّ، فجعلت أسلت ذلك العرق، وما وجدت رائحة شيء أطيب منه، فكنت أقول له إذا أفاق: بأبي أنت وأمّي، ونفسي وأهلي؛ ما تلقى جبهتك من الرّشح؟
…
(لا والّذي بعث محمّدا) صلى الله عليه وسلم (بالحقّ؛ ما في البيت أحد يستطيع أن يحير إليه في ذلك كلمة) ؛ أي: يعيدها، (ولا يبعث إلى أحد من رجاله؛ لعظم ما يسمع من حديثه، و) ل (وجدنا) ؛ أي: حزننا، (وإشفاقنا) : خوفنا.
(قالت) ؛ أي: عائشة (: فقمت إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم حتّى أضع رأسه بين ثدييّ، وأمسكت بصدره، وجعل يغمى عليه) ؛ أي: يعتريه الغشيان (حتّى يغلب) ؛ لشدّة ما يحصل له من فتور الأعضاء عن تمام الحركة.
وفيه جواز الإغماء على الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام! قال ابن حجر في «شرح الشّمائل» : لكن قيّده الشّيخ أبو حامد- من أئمّتنا- بغير الطّويل، وجزم به البلقيني. قال السّبكيّ: ليس كإغماء غيرهم!؟ لأنّه إنّما يستر حواسّهم الظّاهرة؛ دون قلوبهم، لأنّها إذا عصمت من النّوم الأخفّ؛ فالإغماء أولى!! وقد تقدم الكلام على ذلك.
(وجبهته ترشح رشحا ما رأيته من إنسان قطّ، فجعلت أسلت ذلك العرق) ؛ أي: أزيله وأمسحه.
(وما وجدت رائحة شيء أطيب منه، فكنت أقول له إذا أفاق) من غشيته (: بأبي أنت وأمّي؛ ونفسي وأهلي، ما تلقى جبهتك من الرّشح!؟.
فقال: «يا عائشة؛ إنّ نفس المؤمن تخرج بالرّشح، ونفس الكافر تخرج من شدقيه كنفس الحمار» .
فعند ذلك ارتعنا، وبعثنا إلى أهلنا، فكان أوّل رجل جاءنا- ولم يشهده- أخي، بعثه إليّ أبي، فمات رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يجيء أحد، وإنّما صدّهم الله عنه؛ لأنّه ولّاه جبريل وميكائيل، وجعل إذا أغمي عليه.. قال:
…
فقال: «يا عائشة؛ إنّ نفس المؤمن) أي: روحه (تخرج بالرّشح، ونفس الكافر تخرج من شدقه؛ كنفس الحمار» ) .
فالرّشح من علامات الخير؛ روى الطّبراني في «الكبير» ، ومن طريقه أبو نعيم في «الحلية» ؛ من حديث ابن مسعود:«نفس المؤمن تخرج رشحا، وإنّ نفس الكافر تسيل، كما تسيل نفس الحمار» . ورواه في «الأوسط» بلفظ: «نفس المؤمن، تخرج رشحا، ولا أحبّ موتا كموت الحمار؛ موت الفجاءة، وروح الكافر تخرج من أشداقه» .
وفي رواية له قيل له: وما موت الحمار؟ قال: «روح الكافر تخرج من أشداقه» .
وروى التّرمذيّ، وابن ماجه، والحاكم وصحّحه، والبيهقي في «الشّعب» ؛ من حديث أبي هريرة:«المؤمن يموت بعرق الجبين» .
(فعند ذلك ارتعنا) ؛ أي: خفنا (وبعثنا إلى أهلنا؛ فكان أوّل رجل جاءنا؛ ولم يشهده- أخي) عبد الرّحمن بن أبي بكر (بعثه إليّ أبي) لينظر الحال.
(فمات رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يجيء أحد) من أهلي، (وإنّما صدّهم الله عنه، لأنّه ولّاه جبريل وميكائيل) عليهما السلام، (وجعل) صلى الله عليه وسلم (إذا أغمي عليه؛ قال:
«بل الرّفيق الأعلى» ، كأنّ الخيرة تعاد عليه، فإذا أطاق الكلام..
قال: «الصّلاة.. الصّلاة؛ إنّكم لا تزالون متماسكين ما صلّيتم جميعا، الصّلاة.. الصّلاة» ، كان يوصي بها حتّى مات؛ وهو يقول:«الصّلاة.. الصّلاة» .
قالت عائشة رضي الله تعالى عنها:
…
«بل الرّفيق الأعلى» ، كأنّ الخيرة) بين البقاء في الدّنيا والارتحال إلى الآخرة (تعاد عليه) مرة بعد أخرى.
قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صحيح يقول: «إنّه لم يقبض نبيّ حتّى يرى مقعده من الجنّة، ثمّ يحيا أو يخيّر، فلمّا اشتكى، وحضره القبض؛ ورأسه على فخذي، غشي عليه، فلمّا أفاق؛ شخص بصره نحو سقف البيت، ثمّ قال: «اللهمّ الرّفيق الأعلى» . فقلت: إذا لا يختارنا، فعرفت أنّه حديثه الذي كان يحدّثنا وهو صحيح. رواه «البخاري» .
وفي رواية له: «لا يموت نبيّ حتّى يخيّر بين الدّنيا والآخرة» .
(فإذا أطاق الكلام؛ قال: «الصّلاة الصّلاة) - أي: الزموها- (إنّكم لا تزالون متماسكين ما صلّيتم جميعا) ؛ أي: مع الجماعة (الصّلاة الصّلاة» كان يوصي بها حتّى مات؛ وهو يقول: «الصّلاة الصّلاة» ) .
روي ذلك من حديث أنس؛ أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «الصّلاة.. وما ملكت أيمانكم، الصّلاة.. وما ملكت أيمانكم» . رواه أحمد، وعبد بن حميد، والنّسائي، وابن ماجه، وابن سعد، وأبو يعلى، وابن حبّان، والطّبرانيّ، والضّياء. ورواه ابن سعد أيضا والطّبرانيّ؛ من حديث أمّ سلمة، ورواه الطّبراني أيضا؛ من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
(قالت عائشة رضي الله تعالى عنها) - كما في «الإحياء» -:
مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ارتفاع الضّحى، وانتصاف النّهار يوم الإثنين.
قالت فاطمة رضي الله تعالى عنها: ما لقيت من يوم الإثنين، والله لا تزال الأمّة تصاب فيه بعظيمة.
وقالت أمّ كلثوم
…
(مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ارتفاع الضّحى، وانتصاف النّهار يوم الاثنين) .
قال العراقي: رواه ابن عبد البرّ. انتهى.
وجزم موسى بن عقبة؛ عن الزّهري بأنّه صلى الله عليه وسلم مات حين زاغت الشّمس، وكذا لأبي الأسود؛ عن عروة. وروى ابن سعد؛ من طريق ابن أبي مليكة؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنّ دخول النّبيّ صلى الله عليه وسلم في بيتها كان يوم الاثنين، وموته يوم الاثنين» ؛ قاله في «شرح الإحياء» .
(قالت فاطمة) الزّهراء (رضي الله تعالى عنها) - كما في «الإحياء» -: (ما لقيت من يوم الاثنين! والله؛ لا تزال الأمّة تصاب فيه بعظيمة) !! أي: بمصيبة شديدة.
(و) في «الإحياء» للغزالي أيضا:
(قالت أمّ كلثوم) ابنة عليّ بن أبي طالب، وأمّها فاطمة الزّهراء رضي الله تعالى عنهم.
ولدت في عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم. قال أبو عمر ابن عبد البرّ: ولدت قبل وفاة النّبيّ صلى الله عليه وسلم. وروى ابن أبي عمر المدنيّ في «مسنده» قال: حدّثني سفيان؛ عن عمر؛ عن محمّد بن عليّ: أنّ عمر خطب من عليّ بنته أمّ كلثوم!! فذكر له صغرها، فقيل له: إنّه ردّك؛ فعاوده!! فقال له عليّ: أبعث بها إليك، فإن رضيت؛ فهي امرأتك فأرسل بها إليه فكشف عن ساقها، فقالت: مه!! لولا أنّك أمير المؤمنين لطمت عينك!!.
- يوم أصيب عليّ كرّم الله وجهه
…
وقال ابن وهب؛ عن عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم؛ عن أبيه؛ عن جدّه:
تزوّج عمر أمّ كلثوم على مهر أربعين ألفا، وقال الزّبير: ولدت لعمر ابنيه: زيدا ورقيّة.
وماتت أم كلثوم وولدها في يوم واحد. وذكر الدّارقطنيّ في كتاب «الأخوة» :
أنّه تزوّجها بعد موت عمر عون بن جعفر بن أبي طالب؛ فمات عنها، فتزوّجها أخوه محمّد؛ ثمّ مات عنها، فتزوّجها أخوه عبد الله بن جعفر؛ فماتت عنده.
قال ابن سعد: ولم تلد لأحد من بني جعفر.
(يوم أصيب عليّ كرّم الله وجهه) .
سئل العلّامة نور الدّين: الشّيخ عليّ الشّبراملسي الشّافعيّ رحمه الله تعالى بما نصّه: ما حكمة استعمال «كرّم الله وجهه» في حقّ عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه دون غيره؛ عوضا عن التّرضّي؟! وهل يستعمل ذلك لغيره من الصّحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. آمين؟؟.
فأجاب بقوله: حكمة ذلك: أنّ عليا رضي الله تعالى عنه، وكرّم وجهه، لم يسجد لصنم قطّ؛ فناسب أن يدعى له بما هو مطابق لحاله من تكرمة الوجه، والمراد به حقيقته أو الكناية عن الذّات؛ أي: حفظه عن أن يتوجّه لغير الله تعالى في عبادته.
ويشاركه في ذلك الصّدّيق رضي الله تعالى عنه وكرّم وجهه، فإنّه لم يسجد لصنم أيضا؛ كما حكي فناسب أن يدعى له بذلك أيضا، وإنّما كان استعمال ذلك في حقّ عليّ أكثر!! لأنّ عدم سجوده لصنم أمر مجمع عليه، لأنّه أسلم وهو صبيّ مميّز، وصحّ إسلامه حينئذ؛ على خلاف ما هو مقرّر في مذهبنا، لأنّ الأحكام وقت إسلامه كانت منوطة بالتّمييز، ثمّ بعد ذلك نسخ ذلك الأمر، فأنيطت بالبلوغ؛ كما بينّه البيهقيّ وغيره.
بالكوفة-
…
فإن قلت: كثير من الصّحابة لم يوجد منهم سجود لصنم، كالعبادلة ابن عبّاس، وابن عمر، وابن عمرو، وابن الزّبير، وغيرهم، ومع ذلك لا يقول النّاس فيهم ذلك؟ بل التّرضي كغيرهم!!.
قلت: هؤلاء ونظراؤهم إنّما ولدوا بعد اضمحلال الشّرك، وخمود نار الضّلالة والفتنة، فلم يشابهوا ذينك الإمامين؛ من تركهما أكبر فتن الشّرك من السّجود للصّنم، مع دعاية أهله للنّاس لذلك، ومبالغتهم في إيذاء من ترك ذلك، وكان في التّرك حينئذ مع مخالفة الآباء والأقارب، وتحمّل المشاقّ الّتي لا تطاق من الدّلالة على الصّدق؛ ما ليس فيه بعد ظهور الإسلام وزهوق الضّلال؛ فناسب حالهما أن يميّزا عن بقيّة الصّحابة بهذه الخصوصيّة العظمى رضي الله تعالى عنهما وكرّم وجهيهما. انتهى؛ نقلته من هوامش كتاب «إرشاد المهتدي إلى كفاية المبتدي» للشّيخ العلّامة عبد الحميد بن محمّد علي قدس المكيّ رحمه الله تعالى. آمين.
(بالكوفة) : مدينة كبرى بالعراق؛ وهي قبّة الإسلام، ومركز العلم، ودار هجرة المسلمين. قيل: مصّرها سعد بن أبي وقّاص، وبنى مسجدها، وكانت قبل ذلك منزل نوح عليه السلام، ويقال لها: كوفان. ويقال لها: كوفة الجند!! لأنّها اختطّت فيها خطط العرب أيام عثمان رضي الله عنه أو أيّام عمر رضي الله عنه.
تولّى تخطيطها السّائب بن الأقرع بن عوف الثّقفي رضي الله عنه، وهو الّذي شهد فتح نهاوند مع النّعمان بن مقرّن. قال ياقوت: لما بنى عبيد الله بن زياد مسجد الكوفة صعد المنبر؛ وقال: يا أهل الكوفة؛ إنّي قد بنيت لكم مسجدا لم يبن على وجه الأرض مثله، وقد أنفقت على كلّ أسطوانة: سبع عشر مائة، ولا يهدمه إلّا باغ؛ أو حاسد.
ويقال: إنّ مقدار الكوفة ستّة عشر ميلا وثلثا ميل، وأنّ فيها خمسين ألف دار للعرب؛ من ربيعة ومضر، وأربعة وعشرين ألف دار لسائر العرب، وستّة وثلاثين ألف دار لليمن، والحسناء لا تخلو من ذامّ.
مثلها: ما لقيت من يوم الإثنين، مات فيه جدّي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه قتل عمر، وفيه قتل أبي، فما لقيت من يوم الإثنين. وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: لمّا مات رسول الله صلى الله عليه وسلم.. اقتحم النّاس حين ارتفعت الرّنّة وسجّي رسول الله صلى الله عليه وسلم بثوبي؛ ف
…
والمسافة ما بين الكوفة والمدينة نحو عشرين مرحلة. انتهى ملخّصا من «شرح القاموس» .
(مثلها) ؛ أي: مثل هذه المقالة (ما) ؛ أي: أمر عظيم (لقيت من) الأحزان في (يوم الاثنين؟! مات فيه جدّي) أبو أمّي، وهو (رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه قتل عمر) بن الخطّاب: بعلي، (وفيه قتل) عليّ بن أبي طالب (أبي) رضي الله تعالى عنهم.
(فما لقيت من يوم الاثنين!؟) هكذا روي عنها، ولكن في قتل عمر اختلاف، فروى سالم بن أبي الجعد؛ عن معدان بن أبي طلحة: أن عمر أصيب يوم الأربعاء؛ لأربع بقين من ذي الحجّة سنة: ثلاث وعشرين.
وكذا قال: أبو معشر وغيره؛ عن زيد بن أسلم، وزاد إسماعيل بن محمّد بن سعد؛ عن زيد: أنّه دفن يوم الأحد؛ مستهلّ سنة: أربع وعشرين.
وقال اللّيث وجماعة: قتل يوم الأربعاء، لأربع بقين من ذي الحجّة؛
ذكره في «شرح الإحياء» .
(وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها) فيما ذكره في «الإحياء» .
وقال الوليّ العراقي فيه: إنّ هذا السّياق بطوله منكر؛ لم أجد له أصلا، لكن قال في «شرح الإحياء» : إنّه رواه ابن أبي الدّنيا؛ من حديث ابن عمر بن الخطّاب بسند ضعيف. انتهى. قالت:
(لمّا مات رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتحم النّاس) ؛ أي: دخلوا (حين ارتفعت الرّنّة) ؛ أي: صوت البكاء، (وسجّي) ؛ أي: غطّي (رسول الله صلى الله عليه وسلم بثوبي ف) - طاشت
اختلفوا، فكذّب بعضهم بموته، وأخرس بعضهم، فما تكلّم إلّا بعد البعد، وخلّط آخرون؛ فلاثوا الكلام بغير بيان، وبقي آخرون معهم عقولهم، وأقعد آخرون؛ فكان عمر بن الخطّاب فيمن كذّب بموته، وعليّ فيمن أقعد، وعثمان فيمن أخرس،
…
العقول، ووقع الصحابة في حيرة، و (اختلفوا!!
ف) منهم من خبّل، ومنهم من أقعد فلم يطق القيام، ومنهم من أخرس؛ فلم يطق الكلام، ومنهم من أضني.
و (كذّب بعضهم بموته) كعمر بن الخطّاب، (وأخرس) ؛ أي: منع من النّطق (بعضهم) كعثمان بن عفّان، (فما تكلّم إلّا بعد البعد.
وخلّط آخرون) منهم؛ (فلاثوا الكلام) ؛ أي: لووا كلامهم (بغير بيان) ؛ أي: إفصاح، أي: لم يبيّنوا كلامهم، ولم يوضّحوه بالإيضاح المعهود عنهم.
(وبقي آخرون) من الصّحابة (معهم عقولهم.
وأقعد آخرون؛ فكان عمر بن الخطّاب فيمن كذّب بموته) روى الإمام أحمد؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: سجّيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم ثوبا، فجاء عمر والمغيرة بن شعبة فاستأذنا؛ فأذنت لهما، وجذبت الحجاب، فنظر عمر إليه؛ فقال: واغشيتاه!! ثمّ قام، فقال المغيرة: يا عمر؛ مات. فقال: كذبت! إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يموت حتّى يفني الله المنافقين
…
الحديث.
(و) كان (عليّ) بن أبي طالب رضي الله عنه (فيمن أقعد) ؛ فلم يستطع حراكا.
(و) كان (عثمان) بن عفّان رضي الله تعالى عنه (فيمن أخرس) يذهب ويجيء؛ ولا يستطيع كلاما، وأضني- أي: مرض- عبد الله بن أنيس فمات كمدا.
وكان أثبتهم أبو بكر الصّدّيق رضي الله تعالى عنه وهو المحبّ الأكبر للنّبيّ صلى الله عليه وسلم.
فخرج عمر على النّاس؛ وقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمت، وليرجعنّه الله عز وجل، وليقطّعنّ أيدي وأرجل رجال من المنافقين يتمنّون لرسول الله صلى الله عليه وسلم الموت، إنّما واعده الله عز وجل كما واعد موسى؛ وهو آتيكم.
وفي رواية أنّه قال: يا أيّها النّاس؛ كفّوا ألسنتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنّه لم يمت، والله لا أسمع أحدا يذكر
…
(فخرج عمر) بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه (على النّاس) - وقد سلّ سيفه- (وقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمت)، وتوعّد بالقتل من يقول: مات؟
قال: (وليرجعنّه الله عز وجل، وليقطّعنّ أيدي وأرجل رجال من المنافقين) . زاد في رواية: وألسنتهم. وهذا قاله بناء على ما قام عنده، وأدّاه إليه اجتهاده؛ أنّه لا يموت حتّى يشهد على أمّته.
وفي «سيرة ابن إسحاق» ؛ عن ابن عبّاس، أنّ عمر قال له: إنّ الحامل له على هذه المقالة قوله تعالى وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [143/ البقرة] فظنّ أنّه صلى الله عليه وسلم يبقى في أمّته حتّى يشهد عليها.
قال عمر: والله ما كان يقع في نفسي إلّا ذلك، وليبعثه الله، فليقطّعنّ أيدي رجال من المنافقين وأرجلهم؛ (يتمنّون لرسول الله صلى الله عليه وسلم الموت) . وكانوا أظهروا الاستبشار، وفرحوا بموته، ورفعوا رؤوسهم؛ كما عند ابن أبي شيبة.
وكان يقول: (إنّما واعده الله عز وجل كما واعد موسى) عليه الصلاة والسلام؛ فلبث عن قومه أربعين ليلة (وهو آتيكم)
وهذا قاله اجتهادا بالقياس، ثمّ رجع عنه.
(وفي رواية أنّه قال: يا أيّها النّاس؛ كفّوا ألسنتكم عن) الكلام في موت (رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنّه لم يمت) وأشهر سيفه قائلا: (والله لا أسمع أحدا؛ يذكر
أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات.. إلّا علوته بسيفي هذا.
وأمّا عليّ: فإنّه أقعد فلم يبرح في البيت.
وأمّا عثمان: فجعل لا يكلّم أحدا؛ يؤخذ بيده فيجاء به، ويذهب به.
ولم يكن أحد من المسلمين في مثل حال أبي بكر والعبّاس، فإنّ الله عز وجل أيّدهما بالتّوفيق والسّداد، وإن كان النّاس لم يرعووا إلّا بقول أبي بكر، حتّى جاء العبّاس فقال:
…
أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات إلّا علوته) - أي: ضربته- (بسيفي هذا) لما حصل له من الدّهشة والحزن.
(وأمّا عليّ) بن أبي طالب رضي الله عنه (فإنّه أقعد؛ فلم يبرح في البيت) ولم يستطع حراكا.
(وأمّا عثمان) بن عفّان رضي الله عنه؛ (فجعل لا يكلّم أحدا) ، وإنّما (يؤخذ بيده؛ فيجاء به، ويذهب به) ، وهو لا يستطيع الكلام لعظم المصيبة الّتي نزلت بهم.
(ولم يكن أحد من المسلمين في مثل حال أبي بكر) الصّدّيق ثباتا؛ وهو المحبّ الأكبر!! وذلك أدلّ دليل على شجاعة الصّدّيق، فإنّ الشّجاعة حدّها:
ثبات القلب عند حلول المصائب. ولا مصيبة أعظم من موت النّبي صلى الله عليه وسلم!!.
(و) لم يكن أحد من المسلمين في مثل حال (العبّاس) بن عبد المطلب في الثّبات؛ بعد أبي بكر الصّديق رضي الله تعالى عنهما (فإنّ الله عز وجل أيّدهما بالتّوفيق والسّداد) أي: الصّواب في القول (وإن كان النّاس لم يرعووا) ؛ أي: لم ينكفّوا (إلّا بقول أبي بكر) الصّدّيق رضي الله تعالى عنه (حتّى) إنّه (جاء العبّاس؛ فقال) لهم: إنّه مات، فلم ينكفّوا إلّا بقول الصّدّيق.
والله الّذي لا إله إلّا هو؛ لقد ذاق رسول الله صلى الله عليه وسلم الموت، ولقد قال الله له وهو بين أظهركم: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ [الزمر: 30- 31] .
وبلغ أبا بكر الخبر- وهو في بني الحارث بن الخزرج-
…
وكان من جملة ما قال العبّاس رضي الله عنه: (والله الّذي لا إله إلّا هو؛ لقد ذاق رسول الله صلى الله عليه وسلم الموت، ولقد قال الله له وهو بين أظهركم) - أي: في حال حياته- (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)[الزمر] ) ؛ أي: ستموت ويموتون؛ فلا شماتة بالموت، (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ)(31)[الزمر] .
وروى ابن إسحاق وعبد الرزّاق والطّبراني: أنّ العبّاس قال لعمر: هل عند أحد منكم عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك؟ قال: لا. قال: فإنّه قد مات، ولم يمت حتّى حارب وسالم، ونكح وطلّق، وترككم على محجّة واضحة!!.
وهذا من موافقات العبّاس للصّدّيق رضي الله تعالى عنهما.
وأخرج البيهقي وأبو نعيم؛ من طريق الواقدي عن شيوخه: أنّهم شكّوا في موته صلى الله عليه وسلم؛! فقال بعضهم: قد مات، وقال بعضهم: لم يمت. فوضعت أسماء بنت عميس يدها بين كتفيه؛ فقالت: قد توفّي. قد رفع الخاتم من بين كتفيه.
وأخرجه ابن سعد؛ عن شيخه الواقدي أيضا، وذكر مغلطاي في «الزّهد» :
أنّ الحاكم روى في «تاريخه» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّها لمست الخاتم حين توفّي صلى الله عليه وسلم؛ فوجدته قد رفع. قال الشّامي: ولا إخاله صحيحا. قال الزّرقانيّ: وكان هذا من جملة ما عرف به موته صلى الله عليه وسلم وعرفه الصّدّيق بشمّ ريح الموت من فمه صلى الله عليه وسلم.
(وبلغ أبا بكر) الصّدّيق رضي الله تعالى عنه (الخبر؛ وهو) غائب بالسّنح (في بني الحارث بن الخزرج) قبيلة من الأنصار؛ كانت مساكنهم بالسّنح أي:
بالعوالي قرب المدينة المنوّرة؛ على ميل من المسجد النّبويّ، وكان أبو بكر قد
فجاء، ودخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إليه، ثمّ أكبّ عليه، فقبّله، ثمّ قال: بأبي أنت وأمّي يا رسول الله؛ ما كان الله ليذيقك الموت مرّتين، فقد- والله- توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثمّ خرج إلى النّاس فقال: أيّها النّاس؛ من
…
تزوّج حبيبة بنت خارجة بن زيد بن زهير بن مالك بن امرىء القيس بن مالك الأغرّ الأنصاريّة الخزرجيّة. صحابيّة بنت صحابيّ، وكان قد سكن بها هناك، وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم أصبح يوم الاثنين خفيف المرض؛ فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذّهاب إليها فذهب، فمات النّبيّ صلى الله عليه وسلم في غيبته.
(فجاء) على فرس لمّا بلغه خبر الوفاة (ودخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إليه، ثمّ أكبّ عليه؛ فقبّله) بين عينيه وبكى.
(ثمّ قال: بأبي أنت وأمّي يا رسول الله) الباء متعلّقة بمحذوف؛ أي: أنت مفديّ بأبي، فهو مرفوع: مبتدأ وخبر، أو [تفدى]«1» فعل، فما بعده نصب، أي:
فديتك. (ما كان الله ليذيقك الموت مرّتين) قيل: هو على حقيقته، وأشار بذلك إلى الرّدّ على من زعم أنه سيحيا فيقطع أيدي رجال، لأنّه لو صحّ ذلك للزم أن يموت موتة أخرى، إذ لا بدّ من الموت قبل يوم القيامة، فأخبر أنّه أكرم على الله أن يجمع عليه موتتين؛ كما جمعهما على غيره، كالّذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت. وهم قوم من بني إسرائيل؛ وقع الطّاعون ببلادهم ففرّوا، فقال لهم الله:
موتوا فماتوا، ثمّ أحياهم بعد ثمانية أيّام؛ أو أكثر، بدعاء نبيّهم حزقيل، فعاشوا دهرا عليهم أثر الموت؛ لا يلبسون ثوبا إلّا عاد كالكفن! واستمرّت في أسباطهم، وهذا أظهر الأجوبة، وأسلمها من الاعتراض.
(فقد والله؛ توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثمّ خرج إلى النّاس؛ فقال: أيّها النّاس؛ من
(1) أضفتها للإيضاح.
كان يعبد محمّدا فإنّ محمّدا قد مات، ومن كان يعبد ربّ محمّد فإنّه حيّ لا يموت. قال الله تعالى: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران: 144] .
فكأنّ النّاس لم يسمعوا هذه الآية إلّا يومئذ.
كان يعبد محمّدا فإنّ محمّدا قد مات!! ومن كان يعبد ربّ محمّد؛ فإنّه حيّ لا يموت) .
وقال إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)[الزمر]، و (قال الله تعالى وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ) ؛ أي: مضت (مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) رجعتم إلى الكفر. والجملة الأخيرة محلّ الاستفهام الإنكاريّ، أي: ما كان معبودا فترجعوا، نزلت لمّا أشيع يوم أحد أنّه صلى الله عليه وسلم قتل، وقال المنافقون: إن كان قتل فارجعوا إلى دينكم (.. الآية) اختصار من المصنّف، وإلّا؛ فهي متلوّة كلّها عند البخاريّ؛ فقال: مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وإنّما يضرّ نفسه وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)[آل عمران] نعمه بالثّبات.
وفي حديث ابن عبّاس عند البخاري: إنّ أبا بكر خرج وعمر بن الخطّاب يكلّم النّاس؛ فقال فقال أبو بكر: اجلس يا عمر، فأبى أن يجلس!! فأقبل النّاس إليه وتركوا عمر، فقال أبو بكر: أمّا بعد؛ فمن كان يعبد محمّدا فإن محمّدا قد مات؟! ومن كان يعبد الله؛ فإنّ الله حيّ لا يموت. قال الله تعالى وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [144/ آل عمران]، زاد في رواية البخاريّ إلى قوله الشَّاكِرِينَ قال ابن عبّاس: والله؛ لكأنّ النّاس لم يعلموا أنّ الله أنزل هذه الآية حتّى تلاها أبو بكر، فتلقّاها النّاس منه كلّهم، فما أسمع بشرا من النّاس إلّا يتلوها، كما قال المصنّف:
(فكأنّ) - بتشديد النّون- (النّاس لم يسمعوا هذه الآية إلّا يومئذ!!) أي: يوم إذ تلاها أبو بكر.
.........
قال الكرمانيّ: فإن قلت: ليس فيها أنّه صلى الله عليه وسلم قد مات؟ وأجاب: بأنّ أبا بكر تلاها لأجل أنّه صلى الله عليه وسلم قد مات.
وفي حديث ابن عمر؛ عند ابن أبي شيبة: أنّ أبا بكر مرّ بعمر وهو يقول:
ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يموت، حتّى يقتل الله المنافقين. قال: وكانوا أظهروا الاستبشار وفرحوا بموته؛ ورفعوا رؤسهم.
فقال أبو بكر لعمر: أيّها الرّجل؛ إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، ألم تسمع الله تعالى يقول إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ، وقال وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34)[الأنبياء] ثمّ أتى أبو بكر المنبر فصعد عليه، فحمد الله، وأثنى عليه، فذكر خطبته: أمّا بعد؛ من كان يعبد محمّدا؛ فإنّ محمّدا قد مات، ومن كان يعبد الله؛ فإنّ الله حيّ لا يموت، قال الله تعالى وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [144/ آل عمران] الآية.
وفي البخاري أنّ عمر قال: والله؛ ما هو إلّا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت، حتّى ما تقلّني رجلاي، وحتّى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها، وعلمت أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قد مات..
وفي هذا أدلّ دليل على شجاعة الصّدّيق، فإنّ الشّجاعة حدّها: ثبوت القلب عند حلول المصائب، ولا مصيبة أعظم من موت النّبيّ صلى الله عليه وسلم، إذ قال أكثر النّاس:
لم يمت رسول الله.
واضطرب الأمر فكشفه الصّدّيق بهذه الآية، وكشف عن النّاس اضطرابهم.
ففيه قوّة جأشه، وكثرة علمه، وثباته، وهو المحبّ الأكبر للنّبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد وافقه على ذلك العبّاس- كما تقدّم- ووافقه المغيرة؛ كما رواه ابن سعد، وابن أمّ مكتوم كما في «مغازي أبي الأسود» ؛ عن عروة، قال: إنّ ابن أمّ مكتوم كان يتلو إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)[الزمر] ، والنّاس لا يلتفتون إليه، وكان أكثر الصّحابة على خلاف ذلك.
وفي رواية: أنّ أبا بكر رضي الله تعالى عنه لمّا بلغه الخبر..
دخل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلّي على النّبيّ صلى الله عليه وسلم وعيناه تهملان، وغصصه ترتفع كقصع الجرّة.
و (الجرّة- بالكسر-) : ما تخرجه الإبل من كروشها، فتجترّه.
و (قصعها) : إخراجها مستقيمة من غير تقطيع وشدّة مضغ.
فيؤخذ منه: أنّ الأقلّ عددا في الاجتهاد قد يصيب؛ ويخطئ الأكثر، فلا يتعيّن التّرجيح بالأكثر، ولا سيّما إن ظهر أنّ بعضهم قلّد بعضا؛ قاله الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى.
(وفي رواية) - ذكرها في «الإحياء» ، قال العراقي: رواها ابن أبي الدّنيا في كتاب «القراء» ؛ من حديث ابن عمر بسند ضعيف-.
(أنّ أبا بكر رضي الله تعالى عنه لمّا بلغه الخبر) ؛ أي: خبر وفاته صلى الله عليه وسلم جاء ف (دخل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلّي على النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ وعيناه تهملان) - بضمّ الميم- أي: تسيلان بالدّموع وزفراته تتردّد، (وغصصه) - جمع غصّة بالضمّ؛ كغرف وغرفة- وهي: ما يغصّ به الإنسان من طعام أو غيظ؛ على التّشبيه، (ترتفع) ؛ أي: تتصاعد وتكثر (كقصع الجرّة، والجرّة- بالكسر-) ؛ أي:
بكسر الجيم، وتشديد الرّاء (: ما تخرجه الإبل من كروشها، فتجترّه) أي:
تمضغه مرّة بعد أخرى (وقصعها) هو: إخراج الجرّة من الجوف إلى الشّدق؛ ومتابعة بعضها بعضا، وقد قصعت النّاقة بجرّتها: ردّتها إلى جوفها، أو مضغتها، أو قصع الجرّة: هو شدّة المضع، وضمّ بعض الأسنان على بعض؛ نقله الجوهريّ عن أبي عبيد، وبكلّ ما ذكر فسّر الحديث أنه صلى الله عليه وسلم خطبهم على راحلته، وإنّها لتقصع بجرّتها. وقال أبو سعيد الضّرير: قصع النّاقة الجرّة: (إخراجها) من الجوف إلى الشّدق (؛ مستقيمة من غير تقطيع وشدّة مضغ) .
وهو في ذلك جلد الفعل والمقال، فأكبّ عليه، فكشف عن وجهه، وقبّل جبينه وخدّيه، ومسح وجهه وجعل يبكي ويقول:
بأبي أنت وأمّي ونفسي وأهلي، طبت حيّا وميتا،
…
وإنّما تفعل النّاقة ذلك إذا كانت مطمئنّة ساكنة لا تسير، فإذا خافت شيئا قطعت الجرّة؛ ولم تخرجها، قال: وأصل هذا من: تقصّع اليربوع التّراب، فجعل هذه الجرّة إذا دسعت بها الناقة بمنزلة التّراب الّذي يخرجه اليربوع من قاصعائه. انتهى؛ من «شرح القاموس» وغيره.
(وهو) ؛ أي: أبو بكر الصّدّيق (مع ذلك جلد الفعل والمقال) ؛ أي: ثابت العقل فيها، (فأكبّ عليه) وهو مسجّى (فكشف) الثّوب (عن وجهه، وقبّل جبينه وخدّيه، ومسح وجهه، وجعل) يقبّله و (يبكي، ويقول: بأبي أنت؛ وأمّي؛ ونفسي؛ وأهلي، طبت حيّا وميتا) .
فيه جواز التّفدية بالأب والأمّ، وقد يقال: هي لفظة اعتادت العرب أن تقولها، ولا تقصد معناها الحقيقيّ، إذ حقيقة التّفدية- بعد الموت- لا تتصوّر؛ قاله الحافظ ابن حجر.
ووقع في حديث ابن عبّاس؛ وعائشة عند البخاري: أنّ أبا بكر قبّل النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد ما مات. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: ففيه- كتقبيله [صلى الله عليه وسلم] لعثمان بن مظعون بعد موته- جواز تقبيل الميت تعظيما وتبرّكا. وفي رواية غير البخاري كذلك.
ووقع في رواية الإمام أحمد؛ عن عائشة: أنّ أبا بكر أتاه من قبل رأسه فحدر فاه؛ فقبّل جبهته، ثمّ قال: وانبيّاه!! ثمّ رفع رأسه فحدر فاه ثانيا؛ وقبّل جبهته، ثمّ قال: واصفيّاه!، ثمّ رفع رأسه فحدر فاه ثالثا؛ وقبّل جبهته، وقال:
واخليلاه!.
انقطع لموتك ما لم ينقطع لموت أحد من الأنبياء، فعظمت عن الصّفة، وجللت عن البكاء، وخصّصت حتّى صرت مسلاة، وعمّمت حتّى صرنا فيك سواء، ولولا أنّ موتك كان اختيارا منك؛ لجدنا لحزنك بالنّفوس، ولولا أنّك نهيت عن البكاء؛ لأنفدنا عليك ماء العيون.
وعند ابن أبي شيبة؛ عن ابن عمر: فوضع أبو بكر فاه على جبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقبّله، ويبكي، يقول: بأبي أنت وأمّي؛ طبت حيّا وميتا.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنّ أبا بكر دخل على النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد وفاته؛ فوضع فاه بين عينيه، ووضع يديه على صدغيه، وقال: وانبيّاه، واصفيّاه، واخليلاه!! أخرجه الحسن بن عرفة بن يزيد العبديّ؛
أبو علي البغداديّ، الصّدوق؛ المتوفّى سنة: سبع وخمسين ومائتين؛ وقد جاوز المائة. ذكره الطّبريّ في «الرّياض النّضرة» قال:
ولا تخالف بين هذا- على تقدير صحّته- وبين ما تقدّم؛ ممّا تضمّن ثبات أبي بكر الصّدّيق، بأن يكون قد قال ذلك من غير انزعاج ولا قلق؛ خافتا بها صوته، ثمّ التفت إليهم وقال ما قال.
(انقطع لموتك ما لم ينقطع لموت أحد من الأنبياء) قبلك، وهو النّبوّة والرّسالة، لأنك آخر الأنبياء، (فعظمت عن الصّفة) ؛ أي: النّعت، أي: إنّ كلّ صفة تقصر عنك، (وجللت عن البكاء) لأنّه لا يوازيك، (وخصّصت حتّى صرت مسلاة) ؛ أي: بحيث يتسلّون بك، (وعمّمت حتّى صرنا فيك سواء.
ولولا أنّ موتك كان اختيارا منك) إذ خيّرت بينه وبين الخلد (لجدنا- لحزنك- بالنّفوس، ولولا أنّك نهيت عن البكاء؛ لأنفدنا) : أفنينا (عليك ماء الشّؤون) ؛
فأمّا ما لا نستطيع نفيه عنّا.. فكمد وادّكار محالفان لا يبرحان، اللهمّ فأبلغه عنّا، اذكرنا يا محمّد- صلّى الله عليك- عند ربّك، ولنكن من بالك، فلولا ما خلّفت من السّكينة.. لم يقم أحد لما خلّفت من الوحشة، اللهمّ أبلغ نبيّك عنّا، واحفظه فينا.
وعن ابن عمر أنّه لمّا دخل أبو بكر رضي الله تعالى عنه البيت وصلّى وأثنى.. عجّ أهل البيت عجيجا سمعه أهل المصلّى؛ كلّما ذكر شيئا.. ازدادوا،
…
أي: مدامع العيون (فأمّا ما لا نستطيع نفيه عنّا) ؛ أي: لا نقدر على إزالته! (فكمد) - بفتح الكاف والميم- أي: حزن (وادّكار محالفان) أي: ملازمان (لا يبرحان.
اللهمّ؛ فأبلغه عنّا، اذكرنا يا محمّد- صلّى الله عليك- عند ربّك) تعالى، (ولنكن من بالك، فلولا ما خلّفت من السّكينة، لم يقم أحد لما خلّفت من الوحشة، اللهمّ أبلغ نبيّك عنّا؛ واحفظه فينا) ؛ ذكره الغزاليّ في «الإحياء» .
(و) أخرج سيف بن عمر التّميميّ في كتاب «الرّدة» له- كما في «شرح الإحياء» - عن سعيد بن عبد الله؛ (عن ابن عمر) بن الخطّاب رضي الله تعالى عنهما.
(أنّه لمّا دخل أبو بكر رضي الله تعالى عنه البيت) أي: حجرة عائشة رضي الله عنها (وصلّى وأثنى؛ عجّ أهل البيت عجيجا) أي: رفعوا صوتا (سمعه أهل المصلّى) ؛ وهم خارج المدينة المنوّرة، باعتبار ما كان في الزّمن النّبويّ.
(كلّما ذكر شيئا) من الثّناء (ازدادوا) نحيبا وبكاء.
أخرج ابن عساكر؛ عن أبي ذؤيب الهذليّ؛ الشّاعر المشهور، واسمه:
خويلد بن خالد، كان فصيحا كثير الغريب، عاش في الجاهليّة دهرا، وأدرك
فما سكّن عجيجهم إلّا تسليم رجل على الباب صيّت جلد؛ قال:
السّلام عليكم يا أهل البيت كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ [آل عمران: 185] .
إنّ في الله خلفا من كلّ أحد، ودركا لكلّ رغبة،
…
الإسلام؛ فأسلم، وعامّة شعره في حال إسلامه، قال:
بلغنا أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم عليل، فأوجس أهل الحيّ خيفة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وبتّ بليلة طويلة، حتّى إذا كان قرب السّحر نمت، فهتف بي هاتف في منامي؛ وهو يقول:
خطب أجلّ أناخ بالإسلام
…
بين النّخيل ومقعد الآطام
قبض النّبيّ محمّد فعيوننا
…
تذري الدّموع عليه بالتّسجام
قال: فوثبت من نومي فزعا، فنظرت إلى السّماء، فلم أر إلّا سعد الذّابح، فعلمت أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قبض؛ أو هو ميّت، فقدمت المدينة ولأهلها ضجيج بالبكاء كضجيج الحجيج؛ إذا أهلّوا بالإحرام، فقلت: مه؟! فقالوا: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى. ثمّ حضر أبو ذؤيب سقيفة بني ساعدة، وسمع خطبة أبي بكر الصّدّيق، ورثى النّبيّ صلى الله عليه وسلم بقصيدة منها:
كسفت لمصرعه النّجوم وبدرها
…
وتزعزعت آطام بطن الأبطح
(فما سكّن عجيجهم إلّا تسليم رجل) . ولفظ الحديث- كما في «شرح الإحياء» -: عن ابن عمر رضي الله عنه قال: لما توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء أبو بكر حتّى دخل عليه، فلمّا رآه مسجّى قال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، ثمّ صلّى عليه، فرفع أهل البيت عجيجا سمعه أهل المصلّى، فلمّا سكن ما بهم سمعوا تسليم رجل (على الباب صيّت) ؛ أي: جهير الصّوت (جلد) قويّ؛ (قال: السّلام عليكم يا أهل البيت) ورحمة الله وبركاته، فرددنا عليه مثل ذلك، فقال:
(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ) : جزاء أعمالكم (يَوْمَ الْقِيامَةِ)[185/ آل عمران]
…
(الآية) .
إنّ في الله خلفا من كلّ أحد) هالك (ودركا لكلّ رغبة) ؛ أي: مرغوب فيه
ونجدة من كلّ مخافة، فالله فارجوا، وبه فثقوا، فاستمعوا له وأنكروه، وقطعوا البكاء، فلمّا انقطع البكاء.. فقد صوته؛ فاطّلع أحدهم فلم ير أحدا، ثمّ عادوا فبكوا، فناداهم مناد آخر، لا يعرفون صوته: يا أهل البيت؛ اذكروا الله، واحمدوه على كلّ حال..
تكونوا من المخلصين، إنّ في الله عزاء من كلّ مصيبة، وعوضا من كلّ رغيبة، فالله فأطيعوا، وبأمره فاعملوا.
فقال أبو بكر: هذا الخضر واليسع عليهما السلام؛ قد حضرا النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
فائت، (ونجدة من كلّ مخافة، فالله فارجوا، وبه فثقوا) : اعتمدوا، فإنّ المصاب من حرم الثّواب.
(فاستمعوا له، وأنكروه، وقطعوا البكاء، فلمّا انقطع البكاء فقد صوته.
فاطّلع أحدهم) إلى الباب (فلم ير أحدا.
ثمّ عادوا فبكوا؛ فناداهم مناد آخر، لا يعرفون صوته: يا أهل البيت؛ اذكروا الله، واحمدوه على كلّ حال؛ تكونوا من المخلصين، إنّ في الله عزاء) : تسلية (من كلّ مصيبة، وعوضا من كلّ رغيبة، فالله فأطيعوا، وبأمره فاعملوا) . في شرح «الإحياء» بدله: وعوضا من كلّ هلكة؛ فبالله فثقوا، وإيّاه فأطيعوا، فإنّ المصاب من حرم الثّواب.
(فقال أبو بكر) الصّدّيق رضي الله تعالى عنه (: هذا الخضر) - بفتح الخاء، وكسر الضّاد المعجمتين- واسمه: بليا بن ملكان، (واليسع) .
قال العراقيّ: لم أجد فيه ذكر اليسع!!.
وفي «شرح الإحياء» : هذا الخضر وإلياس عليهما السلام قد حضرا) وفاة (النّبيّ صلى الله عليه وسلم .
.........
قال الحافظ ابن حجر في «الإصابة» ؛ بعد أن أورده: وسيف فيه مقال، وشيخه لا يعرف. انتهى.
قال «شارح الإحياء» قلت: هو سعيد بن عبد الله بن ضرار بن الأزور، روى عن أبيه وعن غيره، وفيه وفي أبيه مقال، وقد تقدّم قريبا.
ثمّ قال العراقيّ: وأمّا ذكر الخضر في التّعزية!! فأنكر النّوويّ وجوده في كتب الحديث، وقال: إنّما ذكره الأصحاب.
قلت «1» : بل قد رواه الحاكم في «المستدرك» من حديث أنس، ولم بصحّحه، ولا يصحّ. انتهى.
قلت: وجدت بخطّ الشّمس الداودي ما نصّه: قول الشّيخ «إنّ الحاكم لم يصحّحه» صحيح، لكنّه مشعر بكونه لم يضعّفه!! وليس كذلك، فإنّه ساقه من رواية عبّاد بن عبد الصّمد، ثمّ قال: وعباد ليس من شرط هذا الكتاب!. انتهى ملخّصا من «شرح الإحياء» فراجعه فيه، فإنّه ساق الحديث من وجوه عديدة من طريق أنس؛ وعليّ بن أبي طالب مرفوعا؛ ومرسلا بألفاظ مختلفة.
وما في هذا الحديث يدلّ على حياة الخضر، وقد أنكره جماعة؛ منهم ابن الجوزي، وقال: إنّه لو كان حيّا لاجتمع بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم ولو اجتمع به لورد!!
وقد ردّ النّاس على من أنكر ذلك. قال ابن الصّلاح: الخضر حيّ عند جماهير العلماء والصّالحين، وإنّما شذّ بإنكاره بعض المحدّثين.
وقال النّوويّ في «شرح مسلم» : جمهور العلماء أنّه حيّ موجود بين أظهرنا، وذلك متّفق عليه عند الصّوفيّة، وأهل الصّلاح والمعرفة. انتهى.
وألّف غير واحد كتبا في ذلك، آخرهم شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر
(1) الكلام للعراقي. والتي بعدها للمؤلف الشارح.
واستوفى القعقاع بن عمرو [رضي الله تعالى عنه] حكاية خطبة أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقال: قام أبو بكر في النّاس خطيبا حيث قضى النّاس عبراتهم بخطبة جلّها الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فحمد الله، وأثنى عليه على كلّ حال،
…
العسقلاني رحمه الله تعالى «1» . وقد ذكر الخضر في «الإصابة» وبسط الكلام فيه بما لا يوجد لغيره.
وقد ورد في عدّة أحاديث اجتماعة بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم! وعندي أنّها وإن كانت ضعيفة؛ فكثرة الطّرق والأخبار تقوّيها، وتعزيته للصّحابة عند موت النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقول عليّ بن أبي طالب «هذا الخضر» ، وسكوت الصّحابة على ذلك يكاد يكون إجماعا، وقصّة اجتماعه بعمر بن عبد العزيز: إسنادها صحيح. انتهى كلام السّيوطيّ في كتاب «تأييد الحقيقة العليّة وتشييد الطريقة الشاذلية» ص (88) رحمه الله تعالى.
قال في «الإحياء» : (واستوفى القعقاع بن عمرو) التّميميّ أخو عاصم (حكاية خطبة أبي بكر رضي الله تعالى عنه) ، وكان القعقاع من الفرسان الشّجعان، قيل: إنّ أبا بكر كان يقول: لصوت القعقاع في الجيش خير من ألف رجل! وله في قتال الفرس بالقادسيّة وغيرها بلاء عظيم، وهو الّذي غنم في فتح المدائن أدراع كسرى، وكان فيها درع لهرقل، ودرع لخاقان، ودرع للنّعمان، وسيفه، وسيف كسرى، فأرسلها سعد إلى عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما.
قال ابن عساكر: يقال: إنّ له صحبة! وكان أحد فرسان العرب وشعرائهم، شهد فتح دمشق، وأكثر فتوح العراق، وله في ذلك أشعار مشهورة.
وقال ابن السّكن: ويقال: هو القعقاع بن عمرو بن معبد التّميمي.
(فقال: قام أبو بكر في النّاس خطيبا حيث قضى النّاس عبراتهم بخطبة جلّها) ؛ أي: معظمها (الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم ثمّ بيّن نصّ الخطبة، فقال:
(فحمد الله، وأثنى عليه على كلّ حال) من الأحوال في السّرّاء والضّراء،
(1) بل ألف بعده: ملّا علي قاري رحمه الله.
وقال: أشهد ألاإله إلّا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده، فلله الحمد وحده.
وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله، وخاتم أنبيائه، وأشهد أنّ الكتاب كما نزل، وأنّ الدّين كما شرع، وأنّ الحديث كما حدّث، وأنّ القول كما قال، وأنّ الله هو الحقّ المبين.
(وقال: أشهد ألاإله إلّا الله) أعلم وأعتقد بقلبي، وأبيّن لغيري ألامعبود بحقّ في الوجود إلّا الله (وحده) حال كونه منفردا، (صدق وعده) بإظهار دينه، (ونصر عبده) محمّدا رسوله صلى الله عليه وسلم، (وغلب الأحزاب) : جماعات الكفّار الّذين تجمّعوا يوم الخندق لاستئصال النّبيّ صلى الله عليه وسلم والمسلمين؛ فهزمهم الله (وحده) بدون عدّة ولا عدد، (فلله الحمد وحده.
وأشهد) : أعلم وأعتقد بقلبي، وأبيّن لغيري (أنّ) سيّدنا (محمّدا عبده) إنّما قدّم الوصف بالعبودية على الوصف بالرّسالة!! امتثالا لقوله صلى الله عليه وسلم: «ولكن قولوا:
عبد الله ورسوله» . ومعنى العبودية: التّذلّل والخضوع، وهي: وصف شريف جليل، ولذا وصف بها في أشرف المقامات؛ كمقام الإسراء، فقال تعالى سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى [1/ الإسراء] ومقام إنزال الكتاب قال تعالى الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ [1/ الكهف](ورسوله) أرسله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدّين كلّه، (وخاتم أنبيائه) ورسله، قال تعالى وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ [40/ الأحزاب] ويلزم من ختم الأعمّ ختم الأخصّ.
(وأشهد أنّ الكتاب) القرآن (كما نزل) لم يقع فيه تغيير، ولا تبديل؛ بل هو كما أنزله الله حقّ وصدق، (وأنّ الدّين كما شرع) الله، وهو دين صحيح سماويّ، (وأنّ الحديث كما حدّث) ممّا تضمّنه القرآن، (وأنّ القول كما قال) ، فهو مطابق للواقع، (وأنّ الله هو الحقّ) المتحقّق الثّابت وجوده (المبين) : البيّن الظّاهر الّذي لا خفاء فيه.
اللهمّ؛ فصلّ على محمّد عبدك، ورسولك، ونبيّك، وحبيبك، وأمينك وخيرتك، وصفوتك.. بأفضل ما صلّيت به على أحد من خلقك.
اللهمّ؛ واجعل صلواتك، ومعافاتك، ورحمتك، وبركاتك.. على سيّد المرسلين، وخاتم
…
(اللهمّ) - بميم مشدّدة مزيدة آخرا؛ عوضا من حرف النّداء، إذ أصله: يا الله- قال الفاسي: هو توجّه للمطلوب، وطلب لحصول المرغوب بالتّوسّل بالاسم الأعظم الّذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى. وإنما جعل هذا الاسم العظيم في أوائل الأدعية غالبا!! لأنّه جامع لجميع معاني الأسماء الكريمة، وهو أصلها.
(فصلّ) ؛ أي: أثن عليه عند ملائكتك، أو شرّف وكرّم، أو عظّم أو اعتن وزد الخير، أو اجعل اللّطف والرّحمة المقترنة بالتّعظيم المنبعثة عن العطف والحنان (على محمّد عبدك؛ ورسولك؛ ونبيّك؛ وحبيبك؛ وأمينك) على وحيك، (وخيرتك) من خلقك، (وصفوتك) من عبادك (بأفضل ما صلّيت به على أحد من خلقك.
اللهمّ؛ واجعل صلواتك) جمع صلاة؛ أي: حنانك ورحمتك وعطفك، (ومعافاتك ورحمتك) بإفراد لفظ «رحمة» و «معافاة» ؛ وجمع ما سواهما.
وفيه دليل للدّعاء له صلى الله عليه وسلم بالرّحمة، لكن بالتّبع لغيرها؛ كما هنا.
(وبركاتك) جمع بركة؛ أي: خيراتك النّامية نازلة ومتوالية.
(على سيّد المرسلين) ؛ أي: رئيسهم وأفضلهم، أي: أفرغ وأحلل عليه، فيعمّه ويشمله من كلّ وجه، ويكون محلّا لهذه الفضائل.
(وخاتم) ؛ بفتح التّاء وكسرها، وقد قرىء بهما معا في قوله تعالى وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ [40/ الأحزاب] فبالفتح: اسم لما يختم به، فهو كالخاتم والطابع، الّذي هو آلة للختم الّذي يكون عند التّمام والانتهاء. وبالكسر: بمعنى
النّبيّين وإمام المتّقين، محمّد قائد الخير، وإمام الخير، ورسول الرّحمة.
أنّه ختم (النّبيّين) ؛ أي: جاء آخرهم، فلم يبق بعده نبيّ ولا معه.
(وإمام المتّقين) ؛ أي: قدوتهم. وأصل الإمام: المتّبع والهادي لمن اتّبعه، والمتقدّم بين يدي القوم، والشّفيع لمن خلفه.
والمتّقين: جمع متّق؛ وهو: الممتثل لأوامر الله تعالى المجتنب لنواهيه، ثم يتّقي الشّبهات، ثمّ الشهوات والفضلات، وكلّ ما يوجب النّقص؛ أو البعد عن الله، ثمّ يتّقي غير الله أن يساكنه باعتماد؛ أو ميل؛ أو استناد.
وهو صلى الله عليه وسلم أتقى الخلق لله، وأعرفهم به، وأشدّهم له خشية، وأكثرهم له طاعة، وأجهدهم في عبادته، وتقواه لا تدرك؛ ولا يبلغها التّعبير، ولا تدرى نهاية ما إليه بها يشير، فهو المتقدّم عليهم وقدوتهم وقائدهم إلى الصّراط المستقيم.
(محمّد قائد) ؛ اسم فاعل من قاده يقوده: جذبه من أمام، بسبب حسّي أو معنويّ ليتبعه (الخير) هو: كلّ أمر محمود لموافقته للغرض، والمراد: أنّه صلى الله عليه وسلم قائد إلى الصّراط المستقيم؛ الموصل إلى الأغراض؛ الموافقة في الآخرة، حيث النّفع الذي لا ضرر فيه، والحسن الّذي لا قبح معه، والمحبوب الّذي لا مكروه عنده، فكأنّ الإضافة على معنى اللّام، أي قائد إلى الخير.
(وإمام الخير) الإضافة على معنى «في» أي: إمام في الخير، أو بمعنى:
اللّام؛ أي: إمام موصل إلى الخير.
(ورسول الرّحمة) قال الله تعالى وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107)[الأنبياء] وقال تعالى بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128)[التوبة] وقال صلى الله عليه وسلم: «إنّما أنا رحمة مهداة» ، وقال:«إنّما بعثت رحمة، ولم أبعث عذابا» فبعثه الله تعالى رحمة لأمّته؛ ورحمة للعالمين، حتّى للكفّار بتأخير العذاب، وللمنافقين بالأمان، فمن
اللهمّ؛ قرّب زلفته، وعظّم برهانه، وكرّم مقامه، وابعثه مقاما محمودا
…
اتّبعه رحم به في الدّنيا بنجاته فيها من العذاب؛ والخسف والقذف والمسخ والقتل وذلّة الكفر والجزية؛ ورحم قلبه بالإيمان بالله، ونجا من صلاء نيران القطيعة عن الله. وفي الآخرة بنجاته فيها من العذاب المخلّد؛ والخزي المؤبّد، وبتعجيل الحساب؛ وتضعيف الثّواب، وحصوله على الخير الكثير والملك الكبير.
(اللهمّ) يا الله؛ (قرّب زلفته) ؛ أي: زده قربا، (وعظّم برهانه) : أي حجّته، أي: زدها عظاما. وتقوية وبهورا، (وكرّم مقامه) ؛ أي: زده تكريما ورفعة، (وابعثه) هو فعل دعاء؛ من بعثه يبعثه- مفتوح العين فيهما- بعثا، وهو: إثارة ساكن في حالة أو وصف أو حكم؛ كنوم أو موت أو أيّ حالة ووصف كان، وتحريكه نحو حالة ووصف آخر؛ كاليقظة والحياة والقيام ونحوها (مقاما) بفتح الميم الأولى-: اسم مصدر القيام، أو اسم مكانه.
وعلى الأوّل: يكون منصوبا على المفعول المطلق، لأنّ البعث والإثارة والإقامة بمعنى واحد.
وعلى الثّاني! فقيل: إنّه منصوب على الظّرفية بتقدير: ابعثه يوم القيامة؛ فأقمه. والقيام هنا بمعنى: الوقوف، أو بتضمين «ابعثه» معنى: أقمه.
وعلى كليهما!! يصحّ أن يكون منصوبا على أنّه مفعول به؛ على تضمين «ابعثه» معنى: أعطه، ويجوز أن يكون حالا، أي: ابعثه ذا مقام.
(محمودا) نعت للمقام، وهو من الإسناد المجازيّ؛ أي: محمودا صاحبه، أو القائم فيه، وهو النّبيّ صلى الله عليه وسلم لاختصاص الوصف بالحمد بذوي العلم، ولما جاء في الحديث: أنّه صلى الله عليه وسلم يحمده في هذا المقام الأوّلون والآخرون.
ونكّر «مقاما محمودا» !! قال الطّيبي: لأنّه أفخم وأجزل، كأنّه قيل: مقاما محمودا بكلّ لسان، وهو مطلق في كلّ ما يجلب الحمد من أنواع الكرامات.
يغبطه به الأوّلون والآخرون، وانفعنا بمقامه المحمود يوم القيامة، واخلفه فينا في الدّنيا
…
وقيّدوه بأنّه: الشّفاعة العظمى في فصل القضاء؛ أي: تعجيل الحساب، يحمده فيه الأوّلون والآخرون، وادّعوا على ذلك الإجماع!!
ويشهد لذلك الأحاديث الصّحيحة الصّريحة، والآثار عن الصّحابة والتّابعين.
(يغبطه) صلى الله عليه وسلم؛ من غبطه يغبطه: كضربه يضربه. وقال في «القاموس» :
كضربه وسمعه. والاسم: الغطبة- بكسر الغين-؛ وهو تمنّي حصول مثل النّعمة الحاصلة للمنعم عليه؛ من غير زوالها عنه. وقد نظم بعضهم هذا المعنى؛ فقال:
وقد غبطت المرء في أحواله
…
أغبطه- بالكسر- في أعماله
أعني: تمنّيت لنفسي مثل ما
…
له، ولا يسلب تلك النّعما
وقد يراد بالغبطة لازمها؛ وهو المحبّة والسّرور بما رآه فقط.
(به) أي: فيه، أي: في هذا المقام (الأوّلون) : جمع أوّل، (والآخرون) : جمع آخر، يعني: من الحاضرين في ذلك اليوم.
والأوّل: ما يترتّب عليه غيره، ويستعمل في التّقدّم الزّمانيّ؛ والرّياسيّ؛ والوضعيّ؛ والنّسبيّ؛ والنّظم الصّناعيّ.
والآخر: ما يترتّب على غيره، ويستعمل في جميع ذلك، لكن في التّأخّر.
(وانفعنا بمقامه المحمود) ؛ بتخفيف الهول والحساب، وتقصير مدّة المقام، وإدخال الجنّة دار السّلام (يوم القيامة) معمول ل «انفعنا» .
وسمّي «يوم القيامة» ! لقيام السّاعة فيه، وقيام الخلق فيه من قبورهم، وقيامهم لربّ العالمين ما شاء الله، وقيامهم للحساب وقيام الحجّة لهم وعليهم، وله نحو مائة اسم! انظرها- إن شئت- في «البدور السّافرة» و «الإحياء» .
وأوّله من النّفخة الثّانية إلى استقرار الخلق في الدّارين: الجنّة والنّار.
(واخلفه فينا) بأحسن الخلف؛ (في الدّنيا) بملازمة الطّاعة، والتّمسّك
والآخرة، وبلّغه الدّرجة والوسيلة في الجنّة.
اللهمّ؛ صلّ على محمّد، وعلى آل محمّد،
…
بالشّريعة، (والآخرة) بأن تقرّ عينه بنا إذ نوافيه سالمين من التّغيير والتّبديل.
(وبلّغه الدّرجة) ؛ أي: المنزلة، وهي على حذف النّعت؛ أي: الرّفيعة، وهي الرّتبة الزّائدة على سائر الخلائق: العالية الشّأن، السّامية المكانة والمكان.
(والوسيلة) هي: أعلى درجة في الجنّة. هكذا في الحديث، وفي آخر- عند ابن عساكر- عن الحسن بن علي:«فإنّ وسيلتي عند ربّي شفاعة لكم» .
وقيل: الوسيلة هي القربة.
وقال الشيخ أبو محمد عبد الجليل القصري في «شعب الإيمان» : إنّ وسيلته صلى الله عليه وسلم هو: أن يكون في الجنّة، في قربه من الله تعالى بمنزلة الوزير من الملك بغير تمثيل؛ لا يصل لأحد شيء إلّا بواسطته. انتهى.
وهو موافق لما تقدّم من تفسيرها بالشّفاعة لأمّته، ويفسّر العلوّ؛ في أنّها أعلى درجة في الجنّة بالعلوّ المعنويّ.
ومقتضى ما لابن كثير: أنّه فسّره بالعلوّ الحسّيّ؛ وهو قوله: الوسيلة علم على أعلى منزلة في الجنّة، وهي منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وداره في الجنّة، وهي أقرب أمكنة الجنّة إلى العرش. انتهى. وكلاهما صحيح. والله أعلم؛ قاله الفاسي.
(في الجنّة) هي دار الثّواب في الآخرة.
(اللهمّ) ؛ أي: يا الله (صلّ على محمّد) ؛ أي: ارحمه رحمة مقرونة بالتّعظيم، (وعلى آل محمّد) هم: بنو هاشم وبنو المطّلب عند الشّافعي. ويحتمل أنّه أراد ب «آله» كلّ تقيّ، كما اختاره جماعة من العلماء، وقيل: إنّ آله جميع أمّته.
وفي إعادة كلمة «على» ردّ على الشّيعة في قولهم «إنّ جمع الآل مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الصّلاة بكلمة- على- لا يجوز، ويجب ترك الفصل بينه وبين آله» ؟! وينقلون في ذلك حديثا لا يصحّ.
وبارك على محمّد، وعلى آل محمّد، كما صلّيت وباركت على إبراهيم،
…
(وبارك) أي: أفض بركات الدّين والدّنيا، أو أدم ما أعطيت من التّشريف؛ والكرامة والبركة، وكثرة الخير والكرامة، ونمائهما، والزّيادة منهما. أو هي:
الثّبات على ذلك، أو هي: التّطهير والتّزكية من المعائب، أو هي: الزّيادة في الدّين والذّريّة (على محمّد، وعلى آل محمّد.
كما) - الكاف للتّشبيه، وقيل: للتعليل. و «ما» : مصدريّة؛ أو موصولة- (صلّيت) جملة هي صلة الموصول، فلا محلّ لها.
(وباركت) معطوف على «صلّيت» (على إبراهيم) الخليل عليه الصلاة والسلام بالتّشبيه بإبراهيم عليه السلام.
وهنا سؤال يورده العلماء قديما وحديثا.
وهي: أنّ القاعدة أنّ المشبّه بالشّيء أعلى رتبة أن يكون مثله، وقد يكون أدنى، وأما أعلى! فلا يكون. ومن المعلوم المقرّر في القواعد: أنّ نبيّنا محمّدا صلى الله عليه وسلم أفضل من إبراهيم عليه السلام، فكيف يخرج عن ظاهر هذه الصّيغة الواردة في الحديث على القاعدة المقرّرة!؟
وقد أجابوا عن ذلك بأجوبة كثيرة؛ نذكر منها ما رأيناه أقرب.
منها أنّه: إنّما قيل ذلك لتقدّم الصّلاة على إبراهيم عليه السلام، وقول الملائكة في بيته: رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)[هود]، أي: كما تقدّمت منك الصّلاة على إبراهيم عليه السلام، فنسأل منك الصّلاة على محمّد عليه الصلاة والسلام بطريق الأولى، لأنّ الّذي ثبت للفاضل ثبت للأفضل؛ بطريق الأولى، ولذلك ختم بما ختم الآية؛ وهو قوله:«إنّك حميد مجيد» .
والتّشبيه إنّما هو لأصل الصّلاة بأصل الصّلاة؛ لا للقدر بالقدر. فهو كقوله تعالى* إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ [163/ النساء] ، وقوله تعالى كُتِبَ
.........
عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [183/ البقرة] ، وقوله تعالى وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [77/ القصص] .
ومنها أنّه قال ذلك تواضعا وشرعة لأمّته؛ ليكتسبوا به الفضيلة والثّواب.
ومنها أنّ الدّعاء للاستقبال، فما كان من خير قد أعطيه النّبيّ صلى الله عليه وسلم قبل الدّعاء لم يقع في التّشبيه، وإنّما وقع في التّشبيه الزائد على ما كان عنده، فطلب أن يكون له مثل ما كان لإبراهيم؛ زيادة على ما خصّه الله تعالى به قبل السّؤال.
ومنها دفع المقدّمة المذكورة أوّلا؛ وهي: أنّ المشبّه به يكون أرفع من المشبّه: بأنّ ذلك ليس مطّردا؟! بل قد يكون التّشبيه بالمثل؛ بل بالدّون!! كما في قوله تعالى مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ [35/ النور] ، وأين يقع نور المشكاة من نوره تعالى!؟
ولكن لمّا كان المراد من المشبّه به أن يكون شيئا ظاهرا واضحا للسّامع؛ حسن تشبيه النّور بالمشكاة، وكذا هنا: لمّا كان تعظيم إبراهيم عليه السلام وآل إبراهيم بالصّلاة عليهم واضحا مشهورا عند جميع الطّوائف؛ حسن أن يطلب لمحمّد وآل محمّد بالصّلاة عليهم مثل ما حصل لإبراهيم عليه السلام وآل إبراهيم عليه السلام.
ويؤيّد ذلك ختم الطّلب المذكور بقوله: في العالمين؛ كما جاء في رواية الصّلاة الإبراهيميّة، أي: كما أظهرت الصّلاة على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم في العالمين. فالتّشبيه المذكور ليس من باب إلحاق النّاقص بالكامل، لكن من إلحاق ما لم يشتهر بما اشتهر.
وقالوا أيضا؛ في خصوص التّشبيه بإبراهيم دون غيره من الأنبياء- على جميعهم الصّلاة والسّلام-: إنّ ذلك لأبوّته، فكان أقرب إليه من غيره.
ولأن التّشبيه بالآباء والفضائل مرغوب فيه، ولرفعة شأنه في الرّسل عليهم الصّلاة والسّلام، ولما هو معروف لهم في هذه الملّة الشّريفة؛ ممّا لا يحتاج إلى تعريف به، ولا بيان له؛ الّذي منه موافقته في معالم الملّة. وكأنّ هذا يلاحظ قوله تعالى مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ [78/ الحج] .
إنّك حميد مجيد.
يا أيّها النّاس؛ إنّه من كان يعبد محمّدا.. فإنّ محمّدا قد مات، ومن كان يعبد الله.. فإنّ الله حيّ لم يمت، وإنّ الله قد تقدّم إليكم في أمره فلا تدعوه
…
ولأنّه صلى الله عليه وسلم أراد أن يبقى ذلك كلّه إلى يوم الدّين، ويجعل له به لسان صدق في الآخرين، كما جعله لإبراهيم عليه الصلاة والسلام؛ مقرونا بما وهب الله تعالى له صلى الله عليه وسلم من ذلك، ولمشاركته له في التأذين بالحجّ وإجابة لدعائه بقوله وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84)[الشعراء] ، ولأنه صلى الله عليه وسلم أمر بالاقتداء به.
وممّا يعزى للشيخ أبي محمد المرجاني أنّه قال: سرّ التشبيه بإبراهيم؛ دون موسى عليهما السلام!! لأنه كان التجلّي له بالجلال؛ فخرّ موسى صعقا، والخليل إبراهيم كان التجلي له بالجمال، لأنّ المحبّة والخلّة من آثار التجلّي بالجمال، فأمرهم صلى الله عليه وسلم أن يصلّوا عليه كما صلى على إبراهيم، ليسألوا له التجلّي بالجمال؛ لا التسوية فيه، فيتجلّى لكل منهما بحسب مقامه ورتبته عنده.
(إنّك حميد) ؛ فعيل بمعنى مفعول، لأنّه حمد نفسه وحمده عباده. أو بمعنى فاعل، لأنه الحامد لنفسه؛ ولأعمال الطّاعات من عباده.
(مجيد) من المجد؛ وهو الشرف والرفعة وكرم الذات والفعال التي منها كثرة الأفضال، والمعنى إنّك أهل الحمد والفعل الجميل والكرم والإفضال؛ فأعطنا سؤلنا ولا تخيّب رجاءنا.
(يا أيّها النّاس؛ إنّه من كان يعبد محمّدا؛ فإنّ محمّدا قد مات، ومن كان يعبد الله؛ فإنّ الله حيّ لم يمت، وإنّ الله تقدّم إليكم في أمره)، أي: قدّم لكم في كلامه إذ قال وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ [34/ الأنبياء]، (فلا تدعوه) : تتركوا العمل به
جزعا، فإنّ الله عز وجل قد اختار لنبيّه صلى الله عليه وسلم ما عنده على ما عندكم، وقبضه إلى ثوابه، وخلّف فيكم كتابه وسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم، فمن أخذ بهما.. عرف، ومن فرّق بينهما..
أنكر. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ [النساء: 135] .
ولا يشغلنّكم الشّيطان بموت نبيّكم، ولا يفتننّكم عن دينكم، وعاجلوا الشّيطان بالخير تعجزوه، ولا تستنظروه فيلحق بكم ويفتنكم.
(جزعا) ؛ لأجل الجزع، أي: شدّة الحزن الذي أصابكم بموته.
(فإنّ الله عز وجل قد اختار لنبيّه صلى الله عليه وسلم ما عنده) من الكرامة في الآخرة؛ (على ما عندكم) من متاع الحياة الدنيا، (وقبضه إلى ثوابه) وجنّته؛ بعد أن ترككم على المحجّة البيضاء.
(وخلّف فيكم كتابه) القرآن، (وسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم ؛ أي: جعلهما يخلفانه في استفادة الأحكام الشرعية فتمسّكوا بهما، (فمن أخذ) ؛ أي: تمسّك (بهما) ؛ أي: الكتاب والسنّة وعمل بما فيهما (عرف) ؛ أي: فعل أمرا معروفا في الشرع وصار من العارفين. (ومن فرّق بينهما أنكر) أي: أتى أمرا منكرا، لأن السنة بيان للكتاب، فهما متلازمان في تطبيق الأحكام الشرعية لا تناقض بينهما ولا تخالف.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ) ؛ أي مديمين القيام (بِالْقِسْطِ)[135/ النساء] : بالعدل، فمن عدل مرة أو مرتين لا يكون قوّاما.
(ولا يشغلنّكم الشّيطان بموت نبيّكم) عن الاستقامة على الحقّ، (ولا يفتننّكم) الشيطان بالرجوع (عن دينكم، وعاجلوا الشّيطان بالخير) ؛ أي:
تحصنوا منه بعمل الخير (تعجزوه) ؛ أي: يندفع عنكم، (ولا تستنظروه) :
تمهلوه حتى يتمكّن منكم (فيلحق بكم ويفتنكم) .
رواه بطوله سيف بن عمر التميمي في كتاب «الفتوح» له؛ عن عمرو بن تمام؛ عن أبيه؛ عن القعقاع.
وقال ابن عبّاس: لمّا فرغ أبو بكر من خطبته.. قال:
يا عمر؛ أنت الّذي بلغني أنّك تقول: (ما مات نبيّ الله صلى الله عليه وسلم؟!) أما ترى أنّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال يوم كذا: كذا وكذا، ويوم كذا: كذا وكذا، وقال الله تعالى في كتابه:
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر: 30] . فقال: والله؛ لكأنّي لم أسمع بها في كتاب الله قبل الآن لما نزل بنا، أشهد أنّ الكتاب كما نزل، وأنّ الحديث كما حدّث، وأنّ الله حيّ لا يموت،
…
قال ابن أبي حاتم: سيف متروك.
وأخرجه ابن السّكن من طريق إبراهيم بن سعد؛ عن سيف بن عمر؛ عن عمرو عن أبيه. وقال: سيف بن عمر ضعيف.
قلت: هو من رجال الترمذي! وهو؛ وإن كان ضعيفا في الحديث؛ فهو عمدة في التاريخ مقبول النقل؛ قاله في «شرح الإحياء» .
(و) في «الإحياء» للغزالي: (قال ابن عبّاس) رضي الله تعالى عنهما (: لمّا فرغ أبو بكر من خطبته؛ قال: يا عمر؛ أنت الّذي بلغني) عنك (أنّك تقول: ما مات نبيّ الله صلى الله عليه وسلم!! أما ترى [أنّ] نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال يوم كذا: كذا وكذا، ويوم كذا: كذا وكذا!! وقال الله تعالى في كتابه إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)[الزمر] ) . فأخبر بأنه سيموت فكيف تنكره؟!!.
(فقال) أي: عمر رضي الله عنه (: والله؛ لكأنّي لم أسمع بها!!) ؛ أي:
هذه الآية (في كتاب الله قبل الآن لما نزل بنا) من الدّهشة والحيرة بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(أشهد أنّ الكتاب كما نزل، وأنّ الحديث كما حدّث، وأنّ الله حيّ لا يموت،
إنّا لله وإنّا إليه راجعون، وصلوات الله على رسوله، وعند الله نحتسب رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثمّ جلس إلى أبي بكر.
إنّا لله) ملكا وعبيدا؛ يفعل بنا ما يشاء. (وإنّا إليه راجعون) في الآخرة فيجازينا.
(وصلوات الله) تعالى متتابعة (على رسوله) صلى الله عليه وسلم، (وعند الله نحتسب رسوله صلى الله عليه وسلم، ثمّ جلس إلى أبي بكر) الصديق.
ثم رجع عمر عن مقالته التي قالها؛ كما ذكره أبو نصر: عبد الله الوائلي؛ في كتاب «الإبانة» ؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: «أنه سمع عمر بن الخطاب حين بويع أبو بكر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم واستوى على منبره؛ تشهّد عمر ثم قال:
أمّا بعد؛ فإنّي قلت لكم أمس مقالة، وإنّها لم تكن كما قلت، وإنّي والله، ما وجدت المقالة الّتي قلت لكم في كتاب الله؛ ولا في عهد عهد لي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولكنّي كنت أرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى يدبرنا- أي: يكون آخرنا موتا- فاختار الله عز وجل لرسوله الّذي عنده على الّذي عندكم. وهذا الكتاب الّذي هدى الله به رسوله؛ فخذوا به تهتدوا لما هدي له رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى.
وفي آخر هذا الخبر عند ابن إسحاق: فبايع النّاس أبا بكر البيعة العامّة بعد بيعة السّقيفة، ثمّ تكلّم أبو بكر»
…
الحديث؛
قال أبو نصر الوائلي: المقالة التي قالها عمر ثم رجع عنها هي قوله «إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يمت ولن يموت حتّى يقطع أيدي وأرجل رجال من المنافقين» . وكان ذلك لعظيم ما ورد عليه، وخشي الفتنة وظهور المنافقين. فلما شاهد عمر قوّة يقين الصدّيق الأكبر، وتفوّهه بقول الله عز وجل كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [185/ آل عمران] .
وقوله: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [30/ الزمر] ، وخرج الناس يتلونها في سكك المدينة المنوّرة؛ كأنّها لم تنزل قطّ إلّا ذلك اليوم؛ رجع عن تلك المقالة، والله أعلم.
.........
قال في «المواهب» : ولما تحقّق عمر بن الخطاب موته صلى الله عليه وسلم بقول أبي بكر الصديق، ورجع إلى قوله؛ قال عمر وهو يبكي: بأبي أنت وأمّي يا رسول الله؛ لقد كان لك جذع تخطب النّاس عليه، فلمّا كثروا واتّخذت منبرا لتسمعهم فحنّ الجذع لفراقك؛ حتّى جعلت يدك عليه فسكن، فأمّتك أولى بالحنين عليك حين فارقتهم.
بأبي أنت وأمّي يا رسول الله؛ لقد بلغ من فضيلتك عند ربّك أن جعل طاعتك طاعته، فقال مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [80/ النساء] .
بأبي أنت وأمّي يا رسول الله؛ لقد بلغ من فضيلتك عنده أن بعثك آخر الأنبياء، وذكرك في أوّلهم؛ فقال تعالى وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ [7/ الأحزاب] .
بأبي أنت وأمّي يا رسول الله؛ لقد بلغ من فضيلتك عنده أنّ أهل النّار يودّون أن يكونوا أطاعوك وهم بين أطباقها يعذّبون، يقولون: يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرّسول.
بأبي أنت وأمّي يا رسول الله؛ لئن كان موسى بن عمران أعطاه الله حجرا تنفجر منه الأنهار، فما ذاك بأعجب من أصابعك حين نبع منها الماء؛ صلّى الله عليك.
بأبي أنت وأمّي يا رسول الله؛ لئن كان سليمان بن داود أعطاه الله ريحا غدوّها شهر ورواحها شهر، فما ذاك بأعجب من البراق حين سريت عليه إلى السّماء السّابعة؛ ثمّ صلّيت الصّبح من ليلتك بالأبطح، صلّى الله عليك.
بأبي أنت وأمّي يا رسول الله؛ لئن كان عيسى بن مريم أعطاه الله تعالى إحياء الموتى، فما ذاك بأعجب من الشّاة المسمومة حين كلّمتك وهي مسمومة؛ فقالت:
لا تأكلني؛ فإنّي مسمومة.
بأبي أنت وأمّي يا رسول الله؛ لقد دعا نوح على قومه؛ فقال: ربّ لا تذر على
وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: لمّا اجتمعوا لغسله..
قالوا: والله ما ندري كيف نغسّل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أنجرّده عن ثيابه كما نصنع بموتانا، أم نغسّله في ثيابه؟
قالت: فأرسل الله عليهم النّوم حتّى ما بقي منهم رجل إلّا واضع لحيته على صدره نائما، ثمّ قال قائل لا يدرى من هو: غسّلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه ثيابه؛ فانتبهوا، ففعلوا ذلك، الأرض من الكافرين ديّارا. ولو دعوت مثلها علينا لهلكنا عن آخرنا، فلقد وطئ ظهرك، وأدمي وجهك، وكسرت رباعيتك؛ فأبيت أن تقول إلّا خيرا، فقلت:
اللهمّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون.
بأبي أنت وأمّي يا رسول الله؛ لقد اتّبعك في أحداث سنّك وقصر عمرك ما لم يتّبع نوحا في كبر سنّه وطول عمره، فلقد آمن بك الكثير؛ وما آمن معه إلّا قليل.
بأبي أنت وأمّي يا رسول الله؛ لو لم تجالس إلّا كفؤا لك ما جالستنا، ولو لم تنكح إلّا كفؤا لك ما نكحت إلينا، ولو لم تؤاكل إلّا كفؤا ما آكلتنا؛ ولبست الصّوف، وركبت الحمير، ووضعت طعامك بالأرض، ولعقت أصابعك؛ تواضعا منك، صلّى الله عليك. انتهى. الحديث بطوله وتتمته من «المدخل» لابن الحاج المالكي رحمه الله تعالى.
(وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها) - فيما رواه البيهقي في «دلائل النبوة» -: (لمّا اجتمعوا لغسله) صلى الله عليه وسلم؛ (قالوا: والله ما ندري كيف نغسّل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنجرّده عن ثيابه كما نصنع بموتانا، أم نغسّله في ثيابه؟!.
قالت: فأرسل الله) ؛ أي: ألقى (عليهم النّوم حتّى ما بقي منهم رجل إلّا واضع لحيته على صدره نائما.
ثمّ قال قائل) أي: كلّمهم مكلّم من ناحية البيت؛ (لا يدرى من هو: غسّلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه ثيابه؛ فانتبهوا) من النوم (ففعلوا ذلك.
فغسّل رسول الله صلى الله عليه وسلم في قميصه؛ حتّى إذا فرغوا من غسله.. كفّن. وقال عليّ كرّم الله وجهه: أردنا خلع قميصه فنودينا: لا تخلعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثيابه، فأقررناه، فغسّلناه في قميصه كما نغسّل موتانا مستلقيا، ما نشاء أن يقلب لنا منه عضو لم يبالغ فيه.. إلّا قلب لنا حتّى نفرغ منه، وإنّ معنا لحفيفا في البيت كالرّيح الرّخاء، ويصوّت بنا: ارفقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنّكم ستكفون.
فغسّل رسول الله صلى الله عليه وسلم في قميصه) ؛ يضعون الماء فوق القميص ويد لكونه بالقميص، (حتّى إذا فرغوا من غسله كفّن) ؛ أي: في ثلاثة أثواب بيض سحوليّة، ليس فيها قميص ولا عمامة. قال البيهقي في «الخلافيات» : قال أبو عبد الله- يعني الحاكم-:
تواترت الأخبار عن علي وابن عبّاس وعائشة وابن عمر وجابر وعبد الله بن مغافل؛ في تكفين النّبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب؛ ليس فيها قميص ولا عمامة. انتهى.
(و) في «الإحياء» : (قال عليّ «كرّم الله وجهه» ) - تقدم الكلام قريبا على الحكمة في تخصيص علي بن أبي طالب رضي الله عنه بقولهم «كرم الله وجهه» (: أردنا خلع قميصه) حال الغسل (فنودينا) من ناحية البيت: (لا تخلعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثيابه، فأقررناه)، أي: لم نجرّده عن القميص، (فغسّلناه في قميصه كما تغسّل موتانا مستلقيا، ما نشاء أن يقلب لنا منه عضو لم يبالغ فيه؛ إلّا قلب لنا) بسهولة (حتّى نفرغ منه) .
ثمّ عند تكفينه نزع منه ذلك القميص الذي غسّل فيه، (وإنّ معنا لحفيفا) ؛ أي: شيئا خفيفا (في البيت كالرّيح الرّخاء) - بضمّ الرّاء-: الريح اللينة؛ قاله في «القاموس» ، وفي «الأساس» : هي طيبة الهبوب؛ (ويصوّت) ذلك الشيء الخفيف الشبيه بالريح الرّخاء (بنا) ؛ أي: يكلّمنا بصوت مسموع قائلا: (ارفقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنّكم ستكفون) قال في «شرح الإحياء» : وقد صح أنه غسل صلى الله عليه وسلم
فهكذا كانت وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يترك سبدا ولا لبدا إلّا دفن معه.
قال أبو جعفر: فرش لحده بمفرشه وقطيفته، وفرشت ثيابه الّتي كان يلبس يقظان على القطيفة والمفرش، ثمّ وضع عليها في أكفانه.
ثلاث غسلات: الأولى بالماء القراح، والثانية بالماء والسدر، والثالثة بالماء والكافور؛ وغسله عليّ، والعبّاس وابنه الفضل يعينانه؛ وقثم وأسامة وشقران «مولاه صلى الله عليه وسلم» يصبّون الماء؛ وأعينهم معصوبة من وراء السّتر، لحديث علي:«لا يغسّلني إلّا أنت، فإنّه لا يرى أحد عورتي إلّا طمست عيناه» . رواه البزار والبيهقي.
(فهكذا كانت وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يترك سبدا) ؛ السّبد- بفتحتين-:
القليل من الشّعر؛ (ولا لبدا) اللّبد- بفتحتين-: الصوف، ومن ذلك قولهم «فلان ما له سبد ولا لبد» ؛ محركان، أي: لا قليل ولا كثير؛ وهذا قول الأصمعي، وهو مجاز؛ أي لا شيء له، وفي «اللّسان» ، أي: ماله ذو وبر ولا صوف متلبّد، يكنّى بهما عن الإبل والغنم. وكان مال العرب الخيل، والإبل، والغنم، والبقر، فدخلت كلّها في هذا المثل؛ وقوله:(إلّا دفن معه) . كذا في «الإحياء» ، ولم يتكلّم عليه شارحه بشيء!!
(قال أبو جعفر) محمد الباقر بن علي «زين العابدين» بن الحسين «السّبط» بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم (: فرش لحده بمفرشه وقطيفته) - بفتح القاف وكسر الطاء المهملة وسكون التّحتيّة ففاء-: كساء له خمل؛ أي: أهداب: أطراف. فرشها شقران «مولاه صلى الله عليه وسلم» ، وقال:«والله لا يلبسها أحد بعدك» ؛ وهي النجرانيّة الحمراء التي كان يتغطّى بها ويجلس عليها.
(وفرشت ثيابه الّتي كان) صلى الله عليه وسلم (يلبس) وهو (يقظان) ؛ أي: في حال حياته (على القطيفة والمفرش) أي: فوقهما، (ثمّ وضع عليها) ؛ أي: على القطيفة والمفرش والثياب، وهو ملفوف (في أكفانه) .
.........
لكن حديث عروة؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «كفّن صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب سحوليّة بيض»
…
الذي أخرجه النّسائي؛ من رواية عبد الرزاق؛ عن معمر؛ عن الزهري؛ عن عروة؛ واتفق عليه الأئمة السّتة من طريق: هشام بن عروة؛ عن أبيه؛ عن عائشة بزيادة: «من كرسف، ليس فيها قميص ولا عمامة» ، وليس قوله «من كرسف» عند الترمذي، ولا ابن ماجه.
زاد مسلم: أمّا الحلّة! فإنّما تشبه على النّاس؛ إنّها اشتريت له ليكفّن فيها، فتركت الحلّة وكفّن في ثلاثة أثواب بيض سحوليّة، فأخذها عبد الله بن أبي بكر الصّديق؛ فقال: لأحبسنّها حتّى أكفّن فيها نفسي، ثمّ قال: لو رضيها الله لنبيّه لكفّنه فيها!! فباعها، فتصدّق بثمنها.
هذا الحديث فيه دلالة ظاهرة على أنّ القميص الذي غسل فيه النبي صلى الله عليه وسلم نزع عنه عند تكفينه؛ قال النّووي في «شرح مسلم» : وهذا هو الصّواب الذي لا يتّجه غيره، لأنّه لو أبقي مع رطوبته؛ لأفسد الأكفان!!
قال: وأمّا الحديث الذي في «سنن أبي داود» ؛ عن ابن عباس: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كفّن في ثلاثة أثواب وقميصه الّذي توفّي فيه!! فضعيف؛ لا يصحّ الاحتجاج به، لأنّ يزيد بن زياد- أحد رواته- مجمع على ضعفه، لا سيما وقد خالف بروايته الثّقات. انتهى.
كما أنّ حديث عائشة المذكور يدلّ على نفي ما عدا الثّلاثة الأثواب!!
قال الترمذي: روي في كفن النبي صلى الله عليه وسلم روايات مختلفة؛ وحديث عائشة أصحّ الأحاديث في ذلك، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من الصحابة وغيرهم.
انتهى.
ونقل الزّين المراغي في «تحقيق النصرة» ؛ عن ابن عبد البر أنّه قال: أخرجت
.........
- يعني: القطيفة- من القبر لما فرغوا من وضع اللّبنات التّسع؛ حكاه ابن زبالة «1» .
قال العراقي في «ألفيّة السيرة» :
وفرشت في قبره قطيفة
…
وقيل: أخرجت. وهذا أثبت
وحفر أبو طلحة لحد رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضع فراشه حيث قبض.
وقد اختلف فيمن أدخله قبره!! وأصحّ ما روي أنه نزل في قبره عمّه العبّاس، وعلي، وقثم بن العبّاس؛ وكان آخر الناس عهدا برسول الله صلى الله عليه وسلم قثم بن العبّاس؛ أي: أنّه تأخّر حتى خرجوا قبله؛ وروي أنّه وضع في قبره تسع لبنات.
قال رزين: ورشّ قبره صلى الله عليه وسلم، رشّه بلال بن رباح بقربة؛ بدأ من قبل رأسه؛ حكاه ابن عساكر، وجعل عليه من حصباء العرصة حمراء، وبيضاء، ورفع قبره عن الأرض قدر شبر.
ولما توفي عليه الصلاة والسلام قالت فاطمة: يا أبتاه؛ أجاب ربّا دعاه؛ يا أبتاه؛ من جنّة الفردوس مأواه، يا أبتاه؛ من إلى جبريل ننعاه. رواه البخاري؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه من أفراده.
زاد الطبراني والإسماعيلي: يا أبتاه؛ من ربّه ما أدناه.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: يؤخذ منه أنّ تلك الألفاظ إذا كان الميت متّصفا أنّه لا يمنع ذكره بها بعد موته، بخلاف ما إذا كانت فيه ظاهرا؛ وهو في الباطن بخلافه، أو لا يتحقّق اتصافه بها؛ فتدخل في المنع. انتهى.
قال البخاريّ؛ في حديث أنس المذكور بعد ما سبق: فلمّا دفن قالت فاطمة:
أطابت نفوسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التّراب!!.
(1) كذبوه، مات سنة 200، قيل: كنيته أبو الحسن المدني، وهو مخزومي. (هامش الأصل) . قلت: وهو محمد بن الحسن؛ إخباري مشهور.
فلم يترك بعد وفاته مالا، ولا بنى في حياته لبنة على لبنة، ولا وضع قصبة على قصبة؛
…
قال الحافظ: هذا من رواية أنس عن فاطمة؛ وأشارت بذلك إلى عتابهم على إقدامهم على ذلك، لأنه يدلّ على خلاف ما عرفته منهم من رقّة قلوبهم عليه لشدّة محبّتهم له؛ وسكت أنس عن جوابها!! رعاية لها؛ ولسان حاله يقول: لم تطب أنفسنا بذلك، إلّا أنّا قهرنا على فعله! امتثالا لأمره. انتهى.
وأخذت فاطمة رضي الله عنها من تراب القبر الشريف، ووضعتها على عينيها وبكت، ثم أنشأت تقول:
ماذا على من شمّ تربة أحمد
…
ألايشمّ مدى الدّهور غواليا
صبّت عليّ مصائب لو أنّها
…
صبّت على الأيّام عدن لياليا
وروي أنّها قالت:
اغبرّ آفاق السّماء وكوّرت
…
شمس النّهار وأظلم العصران
والأرض من بعد النّبيّ كئيبة
…
أسفا عليه كثيرة الرّجفان
فليبكه شرق البلاد وغربها
…
وليبكه مضر وكلّ يماني
وقد عاشت فاطمة بعده صلى الله عليه وسلم ستة أشهر، فما ضحكت تلك المدة!! وحقّ لها ذلك.
على مثل ليلى يقتل المرء نفسه
…
وإن كان من ليلى على الهجر طاويا
(فلم يترك بعد وفاته) صلى الله عليه وسلم (مالا، ولا بنى في حياته لبنة على لبنة، ولا وضع قصبة على قصبة) .
أخرج ابن حبان في «الثقات» ، وأبو نعيم في «الحلية» ؛
عن الحسن مرسلا: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يضع لبنة على لبنة، ولا قصبة على قصبة؛ قاله الحافظ العراقي.
ففي وفاته عبرة تامّة،
…
(ففي وفاته عبرة تامّة) للناظرين، وتبصرة للمستبصرين؛ إذ لم يكن أحد أكرم على الله منه، إذ كان خليل الله وحبيبه ونجيّه، وكان صفيّة ورسوله ونبيّه؛ فانظر، هل أمهله ساعة عند انقضاء مدته!؟ وهل أخّره لحظة بعد حضور منيّته!؟
لا؛ بل أرسل إليه الملائكة الكرام، الموكّلين بقبض أرواح الأنام؛ فجدّوا بروحه الزكية الكريمة لينقلوها، وعالجوها ليرحلوا بها عن جسده الطاهر إلى رحمة ورضوان، وخيرات حسان، بل إلى مقعد صدق في جوار الرحمن، فاشتدّ مع ذلك في النزع كربه؛ وظهر أنينه، وترادف قلقه؛ وارتفع حنينه، وتغيّر لونه وعرق جبينه، واضطربت في الانقباض والانبساط شماله ويمينه، حتى بكى لمصرعه من حضره، وانتحب لشدّة حاله من شاهد منظره؛ فهل رأيت منصب النّبوّة دافعا عنه مقدورا!! وهل راقب الملك فيه أهلا وعشيرا! وهل سامحه إذ كان للحق نصيرا؛ وللخلق بشيرا ونذيرا!!؟
هيهات؛ بل امتثل ما كان به مأمورا، واتّبع ما وجده في اللوح مسطورا، فهذا كان حاله وهو عند الله ذو المقام المحمود، والحوض المورود، وهو أوّل من تنشقّ عنه الأرض، وهو صاحب الشفاعة يوم العرض، فالعجب أنّا لا نعتبر به، ولسنا على ثقة فيما نلقاه، بل نحن أسراء الشّهوات، وقرناء المعاصي والسّيّئات، فما بالنا لا نتّعظ بمصرع محمّد سيّد المرسلين، وإمام المتقين، وحبيب رب العالمين!!.
لعلنا نظنّ أنّنا مخلّدون! أو نتوهّم أنّا مع سوء أفعالنا عند الله مكرّمون!! هيهات هيهات؛ بل نتيقّن أنّا جميعا على النّار واردون، ثم لا ينجو منها إلّا المتّقون، فنحن للورود مستيقنون؛ وللصدور عنها متوهّمون.
لا؛ بل ظلمنا أنفسنا أن كنّا كذلك لغالب الظّن منتظرين، فما نحن والله من المتقين، وقد قال الله ربّ العالمين وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72)[مريم] .
وللمسلمين أسوة حسنة) انتهى.
فلينظر كلّ عبد إلى نفسه أنّه إلى الظالمين أقرب أم إلى المتّقين!! فانظر إلى نفسك بعد أن تنظر إلى سيرة السّلف الصالحين، فلقد كانوا مع ما وفّقوا له من الخائفين، ثم انظر إلى سيّد المرسلين؛ فإنه كان من أمره على يقين، إذ كان سيّد النبيين، وقائد المتقين.
واعتبر كيف كان كربه عند فراق الدنيا، وكيف اشتدّ أمره عند الانقلاب إلى جنّة المأوى؟!.
(و) اتّبع من القول أحسنه، وتأسّ برسول الله صلى الله عليه وسلم ففيه (للمسلمين أسوة حسنة. انتهى) ؛ أي: كلام الإمام الغزالي في «الإحياء» .
قال أبو الجوزاء: كان الرجل من أهل المدينة إذا أصابته مصيبة جاء أخوه فصافحه؛ وقال: يا عبد الله؛ اتق الله، فإن في رسول الله أسوة حسنة.
أخرج ابن ماجه في «سننه» ؛ أنّه صلى الله عليه وسلم قال في مرضه: «أيّها النّاس؛ إن أحد من النّاس- أو من المؤمنين- أصيب بمصيبة فليتعزّ بمصيبته بي عن المصيبة الّتي تصيبه بغيري، فإنّ أحدا من أمّتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشدّ عليه من مصيبتي» .
وروى بقيّ بن مخلد، والباوردي، وابن شاهين، وابن قانع، وأبو نعيم؛ كلهم في «المعرفة» ؛ عن عبد الرحمن بن سابط عن أبيه رفعه:«من أصيب بمصيبة فليذكر مصيبته بي فإنّها أعظم المصائب» . ولله درّ القائل:
اصبر لكلّ مصيبة وتجلّد
…
واعلم بأنّ المرء غير مخلّد
واصبر كما صبر الكرام فإنّها
…
نوب تنوب اليوم تكشف في غد
وإذا أتتك مصيبة تشجى بها
…
فاذكر مصابك بالنّبيّ محمّد
ويرحم الله تعالى القائل:
تذكّرت لمّا فرّق الدّهر بيننا
…
فعزّيت نفسي بالنّبيّ محمّد
وقلت لها: إنّ المنايا سبيلنا
…
فمن لم يمت في يومه مات في غد
.........
وقد رثي صلى الله عليه وسلم بمراث كثيرة؛ منها:
قول عمّته صفيّة بنت عبد المطّلب، رضي الله تعالى عنها:
ألا يا رسول الله كنت رجاءنا
…
وكنت بنا برّا ولم تك جافيا
وكنت رحيما هاديا ومعلّما
…
ليبك عليك اليوم من كان باكيا
لعمرك ما أبكي النّبيّ لفقده
…
ولكنّني أخشى من الهجر آتيا
كأنّ على قلبي لذكر محمّد
…
وما خفت من بعد النّبيّ المكاويا
أفاطم؛ صلّى الله ربّي بحمده
…
على جدث أمسى بيثرب ثاويا
فدى لرسول الله أمّي وخالتي
…
وعمّي وخالي، ثمّ نفسي وماليا
فلو أن ربّ النّاس أبقى نبيّنا
…
سعدنا، ولكن أمره كان ماضيا
عليك من الله السّلام تحيّة
…
وأدخلت جنّات من العدن راضيا
أرى حسنا أيتمته وتركته
…
يبكّي ويدعو جدّه اليوم نائيا
ورثاه ابن عمّه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه فقال:
أرقت، فبات ليلي لا يزول
…
وليل أخي المصيبة فيه طول
وأسعدني البكاء، وذاك فيما
…
أصيب المسلمون به قليل
لقد عظمت مصيبتنا وجلّت
…
عشيّة قيل: قد قبض الرّسول
وأضحت أرضنا ممّا عراها
…
تكاد بنا جوانبها تميل
فقدنا الوحي والتنزيل فينا
…
يروح به ويغدو جبرئيل
وذاك أحقّ ما سالت عليه
…
نفوس النّاس أو كادت تسيل
نبيّ كان يجلو الشّكّ عنّا
…
بما يوحى إليه وما يقول
ويهديناا، فلا نخشى ضلالا
…
علينا؛ والرّسول لنا دليل
أفاطم؛ إن جزعت فذاك عذر
…
وإن لم تجزعي ذاك السّبيل
فقبر أبيك سيّد كلّ قبر
…
وفيه سيّد النّاس الرّسول
.........
ورثاه سيّدنا أبو بكر الصدّيق رضي الله تعالى عنه بقوله:
لمّا رأيت نبيّنا متجدّلا
…
ضاقت عليّ بعرضهنّ الدّور
فارتاع قلبي عند ذاك لهلكه
…
والعظم منّي ما حييت كسير
أعتيق؛ ويحك إنّ حبّك قد توى
…
فالصّبر عنك لما بقيت يسير
يا ليتني من قبل مهلك صاحبي
…
غيّبت، في جدث عليّ صخور
فلتحدثنّ بدائع من بعده
…
تعيا بهنّ جوانح وصدور
ورثاه الصدّيق رضي الله تعالى عنه أيضا بقوله:
ودعنا الوحي إذ ولّيت عنّا
…
فودّعنا من الله الكلام
سوى ما قد تركت لنا رهينا
…
تضمّنه القراطيس الكرام
ولقد أحسن حسّان بن ثابت رضي الله تعالى عنه بقوله يرثيه:
بطيبة رسم للرّسول ومعهد
…
مبين، وقد تعفو الرّسوم وتهمد «1»
ولا تنمحي الآيات من دار حرمة
…
بها منبر الهادي الّذي كان يصعد
واضح آيات وباقي معالم
…
وربع له فيه مصلّى ومسجد
بها حجرات كان ينزل وسطها
…
من الله نور يستضاء ويوقد
معارف لم تطمس على العهد آيها
…
أتاها البلى فالآي منها تجدّد «2»
عرفت بها رسم الرّسول وعهده
…
وقبرا بها واراه في التّرب ملحد
ظللت بها أبكي الرّسول فأسعدت
…
عيون ومثلاها من الجنّ تسعد
تذكّرت آلاء الرّسول وما أرى
…
لها محصيا نفسي، فنفسي تبلد
مفجّعة قد شقّها فقد أحمد
…
فظلّت لآلاء الرّسول تعدّد
وما بلغت من كلّ أمر عشيره
…
ولكن لنفسي بعد هذا توجّد
أطالت وقوفا تذرف الدّمع جهدها
…
على طلل القبر الّذي فيه أحمد
(1) أي: تبلى.
(2)
أي: تتجدد.
.........
فبوركت يا قبر الرّسول، وبوركت
…
بلاد ثوى فيها الرّشيد المسدّد
وبورك لحد منك ضمّن طيّبا
…
عليه بناء من صفيح منضّد
تهيل عليه الترب أيد وأعين
…
تباكت، وقد غارت بذلك أسعد
لقد غيّبوا حلما وعلما ورحمة
…
عشية علّوه الثّرى لا يوسّد
وراحوا بحزن ليس فيهم نبيّهم
…
وقد وهنت منهم ظهور وأعضد
يبكّون من تبكي السّماوات موته
…
ومن قد بكته الأرض فالنّاس أكمد
فهل عدلت يوما رزيّة هالك
…
رزيّة يوم مات فيه محمّد
تقطّع فيه منزل الوحي عنهم
…
وقد كان ذا نور يغور وينجد
يدلّ على الرّحمن من يقتدي به
…
وينقذ من هول الخزايا ويرشد
إمام لهم يهداهم الحقّ جاهدا
…
معلّم صدق، إن يطيعوه يسعدوا
عفوّ عن الزّلّات؛ يقبل عذرهم
…
وإن يحسنوا، فالله بالخير أجود
وإن ناب أمر لم يقوموا بحمله
…
فمن عنده تيسير ما يتشدّد!
فبينا هم في نعمة الله بينهم
…
دليل به نهج الطّريقة يقصد
عزيز عليه أن يجوروا عن الهدى
…
حريص على أن يستقيموا ويهتدوا
عطوف عليهم لا يثنّي جناحه
…
إلى كنف يحنو عليهم ويمهد
فبيناهم في ذلك النّور إذ غدا
…
إلى نورهم سهم من الموت يقصد
فأصبح محمودا إلى الله راجعا
…
تبكّيه جفن المرسلات ويجمد
وأمست بلاد الحرم وحشا بقاعها
…
لغيبة ما كانت من الوحي تعهد
قفارا سوى معمورة اللّحد ضافها
…
فقيد يبكّيه بلاط وغرقد
ومسجده كالموحشات لفقده
…
خلاء له فيه مقام ومقعد
فيا جمرة الكبرى له ثمّ أوحشت
…
ديار وعرصات وربع ومولد
فبكّي رسول الله يا عين جهرة
…
ولا أعرفنك الدّهر دمعك يجمد
وما لك لا تبكين ذا النّعم الّتي
…
على النّاس منها سابغ يتغمّد
فجودي عليه بالدّموع وأعولي
…
لفقد الّذي لا مثله الدّهر يوجد
.........
وما فقد الماضون مثل محمّد
…
ولا مثله حتّى القيامة يفقد
أعفّ وأوفى ذمّة بعد ذمّة
…
وأقرب منه قائلا لا ينكّد
وأبذل منه للطّريف وتالد
…
إذا ضنّ ذو مال بما كان يتلد
وأكرم بيتا في البيوت إذا انتمى
…
وأكرم جدّا أبطحيّا يسوّد
وأمنع ذروات وأثبت في العلا
…
دعائم عزّ شامخات تشيّد
وأثبت فرعا في الفروع ومنبتا
…
وعودا كعود المزن فالعود أغيد
رباه وليدا فاستتمّ تمامه
…
على أكرم الخيرات ربّ ممجّد
تناهت وصاة المسلمين بكفّه
…
فلا العلم محبور ولا الرّأي يفند
أقول ولا يلقى لقولي عائب
…
من النّاس إلا عازب العقل مبعد
وليس هواي نازعا عن ثنائه
…
لعلّي به في جنّة الخلد أخلد
مع المصطفى أرجو بذاك جواره
…
وفي نيل ذاك اليوم أسعى وأجهد
ورثاه حسّان رضي الله عنه أيضا بقوله:
كنت السّواد لناظري
…
فعمي عليك النّاظر
من شاء بعدك فليمت
…
فعليك كنت أحاذر
ولا يرد على هذا كلّه ما رواه ابن ماجه- وصحّحه الحاكم-؛ عن ابن أبي أوفى: أنّه صلى الله عليه وسلم نهى عن المراثي!!
لأن المراد مراثي الجاهلية، وهي ندبهم الميت بما ليس فيه؛ نحو «والهفاه، واجبلاه» لا مطلقا. فقد رثى حسّان حمزة وجعفرا وغيرهما في زمنه صلى الله عليه وسلم؛ ولم ينهه!! قاله الزرقاني؛ على «المواهب» .
(و) أخرج الترمذي في «الجامع» و «الشمائل» - وقال في الجامع: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلّا من حديث عبد الله بن بارق، وقد روى عنه غير واحد من الأئمة-:
وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: أنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
«من كان له فرطان من أمّتي.. أدخله الله تعالى بهما الجنّة» ، فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: فمن كان له فرط من أمّتك؟
قال: «ومن كان له فرط يا موفّقة» ، قالت: فمن لم يكن له فرط من أمّتك؟
قال: «فأنا فرط لأمّتي،
…
(عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما أنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: فمن كان له فرط من أمّتك؟) أي:
ما حكمه هل هو كذلك!
(قال: «ومن كان له فرط) - أي: يدخله الله الجنة بسببه كالذي له فرطان- (يا موفّقة» ) ؛ أي: لاستكشاف المسائل الدينيّة؛ وهذا تحريض منه صلى الله عليه وسلم لها على كثرة السّؤال، فلذلك كرّرته حيث
(قالت: فمن لم يكن له فرط من أمّتك؟) ؛ أي: فما حكمه.
(قال: «فأنا فرط لأمّتي) : أمة الإجابة، فهو صلى الله عليه وسلم سابق مهيّء لمصالح أمّته.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: «أنا فرطكم على الحوض» . أي: سابقكم لأرتاد لكم الماء، وقال صلى الله عليه وسلم:«إذا أراد الله بأمّة خيرا قبض نبيّها قبلها، فجعله لها فرطا وسلفا بين يديها، وإذا أراد هلكة أمّة عذّبها؛ ونبيّها حيّ، فأهلكها وهو ينظر، فأقرّ عينه بهلكها حين كذّبوه وعصوا أمره» .
لن يصابوا بمثلي» . و (الفرط- في الأصل-) : السّابق من القوم المسافرين ليهيّىء لهم الماء والكلأ وما يحتاجونه، والمراد به هنا:
الصّغير الّذي يموت قبل أحد أبويه، فإنّه يشبهه في تهيئة ما يحتاج إليه يوم القيامة من المصالح.
ثم استأنف بقوله: (لن يصابوا بمثلي» ؛) على وجه التّعليل لقوله: «أنا فرط لأمّتي» . أي: لم يبلغوا مصيبة مثل مصيبتي، فإنّي عندهم أحبّ من كلّ والد وولد، فمصيبتي عليهم أشدّ من جميع المصائب، فأكون أنا فرطهم؛ وهو شامل لمن أدرك زمانه ومن لم يدركه، كما يدلّ عليه تعبيره ب «أمّتي» .
قال الباجوري؛ في «حاشية الشمائل» : (والفرط) - بفتحتين- والفارط (في الأصل) ؛ أي: أصل معناه في اللغة هو (: السّابق) ؛ أي: المتقدم (من القوم المسافرين ليهيّىء لهم) الأرشاء «1» والدّلاء ويمدر الحياض؛ ويستقي لهم (الماء، و) يهيء لدوابّهم (الكلأ) - مهموز: العشب؛ رطبا كان أو يابسا، فإن كان رطبا! يقال له: خلاء، واليابس يقال له: حشيش؛ والكلأ يعمّهما- (و) يهيّىء لهم (ما يحتاجونه) من منزل ونزل، ويزيل ما يخافون منه، ويأخذ الأمن فيه للمتأخّر عنه؛ فهو فعل بمعنى فاعل؛ كتبع بمعنى تابع، يقال: رجل فرط وقوم فرط.
(والمراد به هنا) في الحديث: الولد (الصّغير الّذي يموت قبل أحد أبويه، فإنّه) أي: الولد الصغير (يشبهه) ؛ أي: يشبه فرط المسافرين (في تهيئة ما يحتاج) - بضمّ أوّله مبنيّا للمفعول-؛ أي: ما يحتاج (إليه) أبواه، فكما أنّ فرط القافلة يتقدّمهم إلى المنازل فيعدّ لهم ما يحتاجونه من سقي الماء وضرب الخيمة ونحوهما؛ كذلك الطفل الصغير الذي يموت قبل أحد أبويه فإنه يهيء لهما (يوم القيامة) ما يحتاجان (من المصالح) ؛ وهو نزل ومنزل في الجنّة.
(1) جمع رشاء؛ وهو الحبل، وأفصح من هذه الصيغة للجمع: أرشية!!.
وعن عمرو بن الحارث- أخي جويرية أمّ المؤمنين رضي الله تعالى عنهما- قال: ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلّا سلاحه وبغلته وأرضا جعلها صدقة.
(و) أخرج البخاريّ، والنّسائيّ، والترمذيّ في «الشّمائل» ؛ (عن عمرو بن الحارث) المصطلقي (أخي جويرية) - بالتصغير- (أمّ المؤمنين) له صحبة، خرّج له الجماعة (رضي الله تعالى عنهما) ؛ أي: عمرو وجويرية.
(قال: ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلّا) الحصر في الثلاثة المذكورة في هذا الخبر إضافيّ؛ فقد ترك ثيابه ومتاع بيته، ولكنها لما كانت بالنسبة للمذكورات يسيرة لم تذكر.
وقال ابن سيّد الناس: وترك صلى الله عليه وسلم يوم مات ثوبي حبرة وإزارا عمانيّا، وثوبين صحاربين، وقميصا صحاريا، وآخر سحوليّا، وجبّة يمنيّة، وخميصة وكساء أبيض، وقلانس صغارا لاطية «ثلاثا؛ أو أربعا» وملحفة مورّسة، أي: مصبوغة بالورس.
(1- سلاحه) الذي كان يختصّ بلبسه واستعماله؛ من نحو: سيف ورمح ودرع ومغفر وحربة.
(و 2- بغلته) البيضاء واسمها «دلدل» ، وعاشت بعده صلى الله عليه وسلم حتى كبرت وذهبت أسنانها، وكان يجرش لها الشعير، وماتت في ينبع، ودفنت في جبل رضوى، وكان له بغال غيرها.
(و 3- أرضا) لم يضفها له، لعدم اختصاصها به كسابقتها، لأنّ غلّتها كانت عامّة له ولعياله ولفقراء المسلمين، وهي نصف أرض فدك، وثلث أرض وادي القرى، وسهمه من خمس خيبر، وحصّة من أرض بني النضير؛ (جعلها) ؛ أي: الأرض (صدقة) في حياته على أهله وزوجاته وخدمه وفقراء المسلمين، وليس المراد أنّها صارت صدقة بعد موته كبقية مخلّفاته؛ فإنّها صارت كلّها صدقة بعد وفاته على المسلمين.
وروى كثير من الصّحابة رضي الله تعالى عنهم
…
وقد أغنى الله قلبه كلّ الغنى، ووسّع عليه غاية السّعة؛ وأيّ غنى أعظم من غنى من عرضت عليه مفاتيح خزائن الأرض فأباها!! وجاءت إليه الأموال فأنفقها كلّها؛ وما استأثر منها بشيء!!
ولم يتّخذ عقارا، ولا ترك شاة، ولا بعيرا، ولا عبدا، ولا أمة، ولا دينارا، ولا درهما غير ما ذكر؛ كذا في الباجوري؛ على «الشمائل» .
(وروى كثير من الصّحابة رضي الله تعالى عنهم) ؛ وهو حديث متواتر، قال السيوطي؛ في «الأزهار المتناثرة» : حديث «لا نورث؛ ما تركناه صدقة» ؛
أخرجه الشيخان؛ عن عمر وعثمان وعليّ وسعد بن أبي وقّاص والعبّاس.
وأخرجه مسلم؛ عن أبي بكر الصدّيق وعبد الرحمن بن عوف، والزّبير بن العوّام وأبي هريرة.
وأخرجه أبو داود؛ عن عائشة. وأخرجه النّسائي؛ عن طلحة.
وأخرجه الطّبراني؛ عن حذيفة وابن عبّاس؛ فقد رواه من العشرة المشهود لهم بالجنة ثمانية نظير حديث: «من كذب عليّ» . انتهى.
وذكره في «كنز العمال» بلفظ «لا نورث؛ ما تركناه صدقة» .
ورمز له برمز الإمام أحمد و «الصحيحين» ، والثلاثة؛ عن عمر، وعن عثمان وسعد وطلحة والزّبير وعبد الرحمن بن عوف.
ورمز له برمز الإمام أحمد و «الصحيحين» ؛ عن عائشة.
ورمز له برمز مسلم. والترمذي؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
وذكره في «كنز العمال» أيضا بلفظ: «لا نورث؛ ما تركناه صدقة، وإنّما يأكل آل محمّد في هذا المال» . ورمز له برمز الإمام أحمد و «الصحيحين» ،
.........
وأبي داود والنسائي؛ عن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه.
وذكره في «كنز العمال» أيضا بلفظ: «إنّا لا نورث؛ ما تركناه صدقة» .
ورمز له برمز الإمام أحمد؛ عن عبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعد رضي الله تعالى عنهم.
وفي «تلخيص الحبير» للحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: أمّا حديث «إنّ الأنبياء لا يورثون» !! فمتفق عليه؛ من حديث أبي بكر الصديق؛ أنه صلى الله عليه وسلم قال:
وللنّسائي في أوائل الفرائض من «السنن الكبرى» : «إنّا معشر الأنبياء لا نورث؛ ما تركناه صدقة» . وإسناده على شرط مسلم.
ورواه النسائي؛ عن عائشة رضي الله عنها: أنّ أزواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم أردن أن يبعثن عثمان إلى أبي بكر؛ فيسألنه ميراثهنّ من رسول الله!! فقالت لهنّ عائشة: أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يورث نبيّ؛ ما تركنا صدقة» !!. لكن رواه في الفرائض من «السنن الكبرى» بلفظ: «لا نورث، ما تركنا صدقة» . ليس فيه «نبيّ» ؛ فالله أعلم!. وكذا هو في «الصحيحين» .
وفي «الصحيحين» مثل حديث أبي بكر عن عمر أنّه قال لعثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد وعلي والعباس: أنشدكم بالله
…
فذكره؛ وفيه أنهم قالوا: «نعم» . زاد النّسائي فيهم طلحة.
وأخرجه الحميدي في «مسنده» ؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّا معشر الأنبياء لا نورث؛ ما تركنا فهو صدقة» .
وذكر الدارقطنيّ في «العلل» حديث الكلبي عن أبي صالح؛ عن أم هانىء؛ عن فاطمة أنّها دخلت على أبي بكر فقالت: لو متّ من يرثك؟ قال: ولدي وأهلي؛ قالت: فما لنا لا نرث النّبيّ صلى الله عليه وسلم؟ قال: سمعته يقول: «إنّ الأنبياء لا يورثون؛ ما تركوه فهو صدقة» .
قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث؛
وفي الباب عن حذيفة؛ أخرجه أبو موسى في كتاب له اسمه «براءة الصدّيق» ؛ من طريق فضيل بن سليمان؛ عن أبي مالك الأشجعي؛ عن ربعي عنه. وهذا إسناد حسن. انتهى كلام الحافظ ابن حجر في «التلخيص» .
(قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «نحن) - نقل الزرقاني؛ في «شرح المواهب» عن الحافظ ابن حجر ما نصّه: والحاصل أنه لم يوجد بلفظ «نحن» ووجد بلفظ «إنّا» ، ومفادهما واحد، فلعل من ذكره ذكره بالمعنى؛ وهو في «الصحيحين» ؛ عن أبي بكر رضي الله عنه، سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول:«لا نورث، ما تركنا صدقة» .
بحذف «إنّا» . وكذا في «السنن الثلاث» . انتهى-
(معاشر الأنبياء) نصب على الاختصاص؛ أو المدح. والمعشر: كلّ جمع أمرهم واحد، فالإنس معشر، والجن معشر، والأنبياء معشر؛ وهو معنى قول جمع: المعشر، الطائفة الذين يشمهلم وصف.
(لا نورث) - بضم النون وسكون الواو وفتح الراء- قال القرطبي: جميع رواة هذه اللفظة في «الصحيحين» وغيرهما يقولون «لا نورث» بالنّون، وهي نون جماعة الأنبياء؛ أي: ما تركناه إنّما نتركه صدقة، لا يختصّ به الورثة.
والمراد: المال وما في حكمه؛ فلا يعارضه قوله فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي [5- 6/ مريم] الآية؛ ولا وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ [16/ النمل] !! لأنه وارثه نبوّة وعلما.
وليس لك أن تقول معنى «لا نورث» من النّبوة!! لأنّ الصّحابة فهموا أنّ المراد المال، وهم أعلم بالحال، فلا مجال لهذا الاحتمال.
قال في «جمع الوسائل» : والحكمة في أنّ الأنبياء لا يورثون: 1- أن لا يتمنّى بعض الورثة موتهم؛ فيهلك. و 2- ألايظنّ بهم أنّهم راغبون في الدنيا ويجمعون المال لورثتهم. و 3- ألايرغب الناس بجمعها؛ بناء على ظنّهم أن
ما تركناه صدقة» .
الأنبياء كانوا كذلك!! و 4- لئلّا يتوهّموا أن فقر الأنبياء لم يكن اختياريا. انتهى.
(ما) موصولة: مبتدأ؛ أي: الذي (تركناه) من المال (صدقة) بالرفع:
خبر المبتدأ الذي هو «ما تركنا» ، ودخلته الفاء! [كما في بعض طرقه- «ما تركنا فهو صدقة» ]«1» ؛ لتضمّن المبتدأ معنى الشّرط.
والجملة جواب سؤال مقدّر تقديره: إذا لم تورثوا؛ فما يفعل بمخلّفكم؟
فأجاب بقوله: «ما تركناه صدقة» . والكلام حينئذ جملتان: الأولى فعلية، وهي قوله «لا نورث» ، والثانية اسمية، وهي قوله «ما تركناه» .
قال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» : ويؤيّده وروده في بعض طرق «الصّحيح» : «ما تركنا فهو صدقة» ؛ وحرّفه الإماميّة- أي: الروافض فقالوا:
لا يورث، - بالمثنّاة التحتية بدل النّون- و: صدقة نصب على الحال.
و «ما تركنا» : مفعول لما لم يسم فاعله، فجعلوا الكلام جملة واحدة، ويكون المعنى: إن ما يترك صدقة لا يورث. وهذا تحريف يخرج الكلام عن نمط الاختصاص الذي دلّ عليه قوله عليه الصلاة والسلام في بعض الطرق: «إنّا معاشر الأنبياء لا نورث» .
ويعود الكلام بما حرّفوه إلى أمر لا يختصّ به الأنبياء، لأن آحاد الأمّة إذا وقفوا أموالهم أو جعلوها صدقة انقطع حقّ الورثة عنها، فهذا من تحاملهم أو تجاهلهم.
وقد أورده بعض أكابر الإماميّة على القاضي شاذان «صاحب القاضي أبي الطيب» ، فقال القاضي شاذان- وكان ضعيف العربيّة؛ قويّا في علم الخلاف-: لا أعرف نصب «صدقة» من رفعها!! ولا أحتاج إلى علمه؛ فإنه لا خفاء بي وبك: أنّ فاطمة وعليّا من أفصح العرب لا تبلغ أنت ولا أمثالك إلى ذلك منهما، فلو كانت لهما حجّة فيما لحظته لأبدياها حينئذ لأبي بكر؟! فسكت، ولم يحر جوابا.!
(1) أضفتها للإيضاح.
.........
وإنّما فعل الإمامية ذلك!! لما يلزمهم على رواية الجمهور من فساد مذهبهم، لأنهم يقولون ب «أنه صلى الله عليه وسلم يورث كما يورث غيره من المسلمين» لعموم الآية الكريمة.
وذهب النّحاس إلى أنه يصحّ النّصب في «صدقة» على الحال، وأنكره القاضي عياض لتأييده مذهب الإمامية، لكن قدر ابن مالك «ما تركناه- متروك- صدقة» فحذف الخبر وبقي الحال كالعوض منه؛ ونظيره قراءة بعضهم وَنَحْنُ عُصْبَةٌ [14/ يوسف]- بالنصب «1» -. انتهى. من «شرح القسطلاني على البخاري» .
قال الزرقاني؛ في «شرح المواهب» متعقبا: لكن في التوجيه نظر، إذ لم تأت رواية بالنصب حتى توجّه، بل الذي توارد عليه أهل الحديث؛ في القديم والحديث: بالنون ورفع «صدقة» ، ولأنّه لم يتعين حذف الخبر، بل يحتمل ما قاله الإمامية، ولذا أنكره عياض؛ وإن صحّ في نفسه. انتهى.
تنبيه: قال الحافظ ابن حجر: الذي يظهر أن ما ترك النبي صلى الله عليه وسلم بعده من جنس الأوقاف المطلقة ينتفع بها من يحتاج إليها وتقرّ تحت يد من يؤتمن عليها، ولهذا كان له عند سهل قدح، وعند أنس قدح آخر، وعند عبد الله بن سلام قدح آخر، وكان الناس يشربون منها تبرّكا، وكانت جبّته عند أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنها
…
إلى غير ذلك مما هو معروف. انتهى. نقله المناوي؛ في «شرح الشّمائل» رحمه الله تعالى.
(1) وهي قراءة شاذّة.