الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجزء الرابع
[تتمة الباب السابع]
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه الإعانة
[
(حرف الميم) ]
(حرف الميم) 187- «ماء زمزم.. لما شرب له» .
(حرف الميم) 187- ( «ماء زمزم) بمنع الصرف؛ للعلميّة والتّأنيث، وهو سيّد المياه وأشرفها، وأجلّها قدرا، وأحبّها إلى النفوس. ولها أسماء كثيرة «زمزم» ، و «مكتومة» ، و «مضنونة» ، و «شبّاعة» ، و «سقيا الدواء» ، و «ركضة جبريل» ، و «هزمة جبريل» ، و «شفاء سقم» ، و «طعام طعم» ، و «سقيا إسماعيل» ، و «حفيرة عبد المطّلب» ؛ ذكره في «شرح القاموس» . قال:
وقد جمعت أسماءها في نبذة لطيفة فجاءت على ما ينيّف على ستّين اسما ممّا استخرجتها من كتب الحديث واللّغة.
(لما شرب له» ) ، فإن شربته تستشفي شفاك الله، وإن شربته لجوع أشبعك الله، وإن شربته لظمإ أرواك الله، لأنّه سقيا الله وغياثه لولد خليله، فبقي غياثا لمن بعده، فمن شربه بإخلاص وجد ذلك الغوث» .
قال الحكيم الترمذي: هذا جار للعباد على مقاصدهم وصدقهم في تلك المقاصد والنيّات، لأن الموحّد إذا رابه أمر فشأنه الفزع إلى ربّه، فإذا فزع إليه واستغاث به؛ وجد غياثا، وإنّما يناله العبد على قدر نيّته.
قال سفيان الثّوري: إنّما كانت الرّقى والدّعاء بالنية!! لأن النية تبلغ بالعبد عناصر الأشياء، والنيّات على قدر طهارة القلوب وسعيها إلى ربّها؛ وعلى قدر
.........
العقل والمعرفة يقدر القلب على الطيران إلى الله تعالى، فالشارب لزمزم على ذلك.
وهو أفضل المياه بعد الماء النابع من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم.
وقد نظم ذلك بعضهم؛ فقال:
وأفضل المياه ماء قد نبع
…
أي من أصابع النّبيّ المتّبع
يليه ماء زمزم فالكوثر
…
فنيل مصر ثمّ باقي الأنهر
قال الإمام النووي في «الإيضاح» : يستحبّ الشّرب من ماء زمزم والإكثار منه. ثبت في «صحيح مسلم» ؛ عن أبي ذر رضي الله عنه: أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قال في ماء زمزم: «إنّها مباركة وإنّها طعام طعم» . وروّينا عن جابر رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ماء زمزم لما شرب له» وقد شرب جماعة من العلماء ماء زمزم لمطالب لهم جليلة فنالوها. انتهى.
وقد شربه الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى ليكون في الحديث مثل الحافظ الذّهبي فنال ذلك وأعلى من مرتبة الذّهبيّ، وشربه الحافظ السيوطيّ لأمور؛ منها أن يصل في الفقه إلى رتبة الشيخ سراج الدّين البلقينيّ، وفي الحديث إلى رتبة الحافظ ابن حجر العسقلاني فنال رتبة عالية، ونقل عنه أنّه ادّعى الاجتهاد المطلق، وقال: ما جاء بعد السبكيّ مثلي.
وأعلى المطالب التي يشرب لأجلها ماء زمزم الموت على الإسلام، ورؤية الله تعالى في دار السّلام.
ويطلب عند شربها أن يقال ما كان يقول ابن عبّاس رضي الله عنهما: اللهمّ؛ إنّي أسألك علما نافعا، ورزقا واسعا، وشفاء من كلّ داء.
قال الإمام النوويّ في «الإيضاح» : فيستحبّ لمن أراد الشرب للمغفرة؛ أو الشّفاء من مرض ونحوه أن يستقبل القبلة، ثمّ يذكر اسم الله تعالى، ثمّ يقول:
.........
اللهمّ؛ إنّه بلغني أنّ رسولك محمدا صلى الله عليه وسلم قال «ماء زمزم لما شرب له» .
اللهمّ؛ وإنّي أشربه لتغفر لي، اللهمّ؛ فاغفر لي؛ أو اللهمّ؛ إنّي أشربه مستشفيا به من مرضي، اللهمّ فاشفني
…
ونحو هذا.
ويستحبّ أن يتنفّس ثلاثا، ويتضلّع منه؛ أي: يمتلئ، فإذا فرغ حمد الله تعالى. انتهى. وكان بعضهم يقول: إنّي أشربه لظمأ يوم القيامة.
وفي «المقاصد الحسنة» للحافظ السخاوي- ومثله في «كشف الخفا» للعجلوني-: يذكر على بعض الألسنة أنّ فضيلة ماء زمزم ما دام في محلّه، فإذا نقل تغيّر وهو شيء لا أصل له. فقد كتب النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى سهيل بن عمرو:«إن جاءك كتابي ليلا، فلا تصبحنّ، أو نهارا؛ فلا تمسينّ، حتّى تبعث إليّ بماء زمزم» .
وفيه أنّه بعث له بمزادتين، وكان بالمدينة قبل أن تفتح مكّة؛ وهو حديث حسن لشواهده، وكذا كانت عائشة رضي الله عنها تحمله وتخبر: أنّه صلى الله عليه وسلم كان يفعله ويحمله في الأداوي والقرب فيصبّ منه على المرضى ويسقيهم، وكان ابن عبّاس إذا نزل به ضيف أتحفه من ماء زمزم. وسئل عطاء عن حمله؛ فقال: حمله النبي صلى الله عليه وسلم، والحسن والحسين. انتهى.
وهذا الحديث أعني حديث «ماء زمزم لما شرب له» ؛ قال المناوي: فيه خلاف طويل وتأليفات مفردة. قال ابن القيّم رحمه الله تعالى: والحقّ أنّه حسن، وجزم البعض بصحّته والبعض بوضعه!! مجازفة. انتهى.
وفي «الحاوي» للسيوطي؛ في «الفتاوى الحديثية» : حديث «ماء زمزم لما شرب له» ؛ أخرجه ابن ماجه في «سننه» ؛ من حديث جابر بإسناد جيد، ورواه الخطيب في «تاريخ بغداد» بإسناد قال فيه الحافظ شرف الدّين الدّمياطيّ: إنّه على رسم الصحيح.
وقد ألّف الحافظ ابن حجر جزآ في حديث «ماء زمزم لما شرب له» وتكلم
188-
«ما آمن بالقرآن.. من استحلّ محارمه» .
عليه في تخريج أحاديث الأذكار النوويّة فاستوعب.
وحاصل ما ذكره أنّه مختلف فيه، فضعّفه جماعة وصحّحه آخرون؛ منهم الحافظ المنذريّ في «الترغيب» والحافظ الدّمياطيّ قال: والصّواب أنّه حسن لشواهده.
ثمّ أورده من طرق من حديث جابر وابن عباس وغيرهما، قال: وحديث جابر مخرج في «مسند أحمد» و «مسند أبي بكر بن أبي شيبة» و «مصنفه» ، و «سنن ابن ماجه» ، و «سنن البيهقي» ، و «شعب الإيمان» له، وحديث ابن عباس «في سنن الدارقطني» و «مستدرك» الحاكم، وأخرجه البيهقيّ أيضا من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا؛ لكنّ سنده مقلوب، وورد هذا اللّفظ أيضا عن معاوية، موقوفا بسند حسن لا علّة له.
وله شواهد أخر مرفوعة وموقوفة، تركتها خشية الإطالة. انتهى.
وقال في «شرح الأذكار» : وقد كثر في كلام الحفاظ الاختلاف في مرتبة هذا الحديث. وقد ألّفت فيه جزآ أسميته «النّهج الأقوم في الكلام على حديث ماء زمزم» وأودعته كتاب «درر القلائد؛ فيما يتعلّق بزمزم والسقاية من الفوائد» ، وحاصل ما فيه تصحيح الحديث، والله أعلم. انتهى.
غريبة: في «تاريخ المدينة الشريفة» للعلامة السيّد السّمهودي: إنّ بالمدينة المنورة بئرا تعرف بزمزم- لم يزل أهلها يتبرّكون بها، قديما وحديثا، وينقل ماؤها للآفاق كزمزم. من المناوي على «الجامع الصغير» . انتهى.
188-
( «ما آمن بالقرآن من استحلّ محارمه» ) أي: فهو كافر؛ لاستحلاله الحري ي ي ام المنصوص عليه في القرآن وخصّ القرآن لعظمه؛ وإلّا فمن استحلّ المجمع على تحريمه المعلوم ضرورة كافر أيضا؛ كذا قاله الحفني.
والحديث ذكره في «الجامع الصغير» مرموزا له برمز التّرمذيّ عن صهيب
189-
«ما أعطي عبد شيئا.. شرّا من طلاقة في لسانه» .
190-
وقال: ليس إسناده قويّا. وقال البغويّ حديث ضعيف. انتهى. مناوي على «الجامع» .
189-
( «ما أعطي عبد شيئا شرّا من طلاقة في لسانه» ) بالخصام في الباص؛ بحيث يكون ماهرا؛ يزيّن بشقشقته الباطل بصورة الحق. والحديث ذكره المناوي في «كنوز الحقائق» مرموزا برمز الدّيلميّ في «الفردوس» .
190-
( «ما تشاور قوم) قال العامريّ في «شرح الشهاب» : حقيقة المشاورة: استخراج صواب رأيه، واشتقاق الكلمة من قولهم «شوّر العس» استخلصه من موضعه، وصفّاه من الشمع (إلّا هدوا» ) إلى الصواب، وتكلّلوا بالنجّاح في أمورهم.
وفيه إلماح بطلب الإستشارة المأمور بها في قوله تعالى وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [159/ آل عمران] وقيل: المشاورة حصن من النّدامة وأمن وسلامة، ونعم الموازرة المشاورة، وفي بعض الآثار:«نقّحوا عقولكم بالمذاكرة واستعينوا على أموركم بالمشاورة» . وقال الحكماء: من كمال عقلك استظهارك على عقلك.
وقالوا: إذا أشكلت عليك الأمور وتغيّر لك الجمهور؛ فارجع إلى رأي العقلاء، وافزع إلى استشارة الفضلاء، ولا تأنف من الاسترشاد، ولا تستنكف من الاستمداد.
وقال بعض العارفين: الاستشارة بمنزلة تنبيه النّائم، أو الغافل؛ فإنّه يكون جازما بشيء يعتقد أنّه صواب وهو بخلافه. وقال بعضهم:
إذا عزّ أمر فاستشر فيه صاحبا
…
وإن كنت ذا رأي تشير على الصّحب
فإنّي رأيت العين تجهل نفسها
…
وتدرك ما قد حلّ في موضع الشّهب
191-
«ما جمع شيء إلى شيء.. أحسن من حلم إلى علم» .
وقال الأرّجاني:
شاور سواك إذا نابتك نائبة
…
يوما؛ وإن كنت من أهل المشورات
فالعين تبصر منها ما نأى ودنا
…
ولا ترى نفسها إلّا بمرآة
تنبيه: قال بعضهم: لا يستشار المحبّ؛ لغلبة هوى محبوبه عليه، ولا المرأة، ولا المتجردّ عن الدّنيا في شيء من أمورها، لعدم معرفته بذلك، ولا المنهمك على حبّ الدّنيا، لأنّ استيلاءها عليه يظلم قلبه فيفسد رأيه، ولا البخيل، ولا المعجب برأيه.
فائدة: أخرج الشافعي؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: ما رأيت أحدا أكثر مشاورة لأصحابه من المصطفى صلى الله عليه وسلم، أما إنّ الله ورسوله ليغنيان عنها، لكن «جعلها الله رحمة لأمّتي، فمن استشار منهم لم يعدم رشدا، ومن تركها لم يعدم غيّا» . قال ابن حجر: غريب. انتهى «فيض القدير» .
والحديث ذكره في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الطبري.
191-
( «ما جمع شيء إلى شيء أحسن) بالرفع، صفة ل «شيء» الأول، والجر صفة ل «شيء» الثاني. انتهى؛ «حفني» . وفي رواية «أفضل (من حلم) باللام (إلى علم» ) إذ باجتماعهما تحصل الكمالات، والنّجاة من الوقوع في المهلكات، وذلك لأنّ الحلم سعة الأخلاق، وإذا كان هناك علم؛ ولم يكن هناك حلم ساء خلقه وتكبّر بعلمه، لأنّ للعلم حلاوة، ولكل حلاوة شرة، فإذا ضاقت أخلاقه لم ينتفع بعلمه. انتهى «عزيزي» .
والحديث ذكره في «الجامع» ورمز له برمز الطبراني؛ في «الأوسط» عن علي أمير المؤمنين. وأخرجه العسكري في «الأمثال» ؛ عن علي بزيادة: «وأفضل الإيمان؛ التّحبّب إلى النّاس» .
«ثلاث من لم تكن فيه فليس منّي ولا من الله: حلم يردّ به جهل الجاهل،
192-
«ما خاب.. من استخار، ولا ندم.. من استشار، ولا عال.. من اقتصد» .
193-
«ما رآه المسلمون حسنا.. فهو حسن عند الله» .
وحسن خلق يعيش به في النّاس، وورع يحجزه عن معاصي الله» .
وعند العسكريّ أيضا؛ من حديث جابر مرفوعا: «ما أوتي شيء إلى شيء أحسن من حلم إلى علم، وصاحب العلم غرثان إلى حلم» .
ولأبي الشيخ؛ عن أبي أمامة مرفوعا: «ما أضيف شيء إلى شيء أفضل من حلم إلى علم» . وأخرجه ابن السني أيضا. انتهى. «كشف الخفا» ، ونحوه في «المواهب» مع الزرقاني.
192-
( «ما خاب من استخار) الله تعالى؛ أي: دعا وطلب من الله تعالى خير الأمرين المباحين؛ أو المندوبين.
أما الواجب! فلا كلام فيه. والأولى أن يكون بعد صلاة ركعتين؛ قاله الحفني.
وكان صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يقول «اللهمّ خر لي واختر لي» . وشمل العموم العظيم والحقير، فربّ حقير يترتّب عليه أمر عظيم (ولا ندم من استشار) غيره ممّن له تبصّر ونصيحة.
ويستحبّ تقديم الاستشارة على الاستخارة؛ كما في «المدخل» .
(ولا عال من اقتصد» ) أي: ما افتقر من توسّط في النفقة على عياله.
والحديث أخرجه الطبراني في معجمه «الأوسط» و «الصغير» ، وكذا القضاعيّ؛ كلّهم عن أنس رضي الله تعالى عنه رفعه بإسناد ضعيف جدا؛ كما في الزّرقاني والمناوي وغيرهما.
193-
( «ما رآه المسلمون حسنا فهو حسن عند الله» ) أخرجه الإمام أحمد في
194-
كتاب «السنة» - وليس في «مسنده» ؛ كما توهّمه بعضهم- عن ابن مسعود بلفظ:
وأخرجه البزّار، والطّيالسيّ، والطّبرانيّ، وأبو نعيم، والبيهقي في «الاعتقاد» ؛ عن ابن مسعود أيضا. انتهى «كشف الخفا» .
قال العلائيّ: ولم أجده مرفوعا في شيء من كتب الحديث أصلا؛ ولا بسند ضعيف بعد طول البحث، انتهى «شرح قواعد الفقه» .
194-
( «ما ضاق مجلس بمتحابّين» ) بالتثنية؛ أي: لأنّ المحبة تقتضي عدم ضيق الصّدر لما يوجب من السّرور باجتماع الأحباب، ولذا قيل:
رحب الفلاة مع الأعداء ضيّقة
…
سمّ الخياط مع الأحباب ميدان
قال الحفني: وقد دخل الأصمعي على الخليل بن أحمد، وهو جالس على حصير ضيق فقال له: اجلس. فقال: أضيّق عليك. فقال له: مه، الدّنيا تضيق بمتباغضين وما ضاق مجلس بمتحابّين. ومما يعزى لإمامنا الشافعي رضي الله عنه:
من لم يكن بين إخوان يسرّ بهم
…
فإنّ أوقاته نقص وخسران
وأطيب الأرض ما للنّفس فيه هوى
…
سمّ الخياط مع الأحباب ميدان
وأخبث الأرض ما للنّفس فيه أذى
…
خضر الجنان مع الأعداء نيران
لكن ينبغي إذا كان في المجلس سعة أن يكون بين كل اثنين ثلثا ذراع، لأنّه الأدب. انتهى.
أمّا في الشّتاء، أو الصلاة، أو الجهاد!! فينبغي الالتصاق.
195-
«ما قلّ وكفى.. خير ممّا كثر وألهى» .
196-
«ما كان الرّفق في شيء.. إلّا زانه» .
والحديث ذكره في «الجامع» مرموزا له برمز الخطيب عن أنس بن مالك مرفوعا، ورواه عنه الدّيلمي بلا سند مرفوعا.
وأخرجه البيهقي في «الشعب» من قول ذي النون بلفظ: ما بعد طريق أدّى إلى صديق، ولا ضاق مكان من حبيب. انتهى «كشف» .
195-
( «ما قلّ وكفى) - من الدّنيا- (خير ممّا كثر) - منها- (وألهى» ) عن طاعة الله تعالى، وهذا من طرق الاقتصاد المحمود الممدوح، فينبغي للمرء أن يقلّل أسباب الدّنيا ما أمكن؛ فإنّ قليلها يلهي عن كثير من الآخرة، فالكثير يلهي القلب عن الرّبّ وعن الآخرة بما يحدث له؛ من الكبر والطّغيان على الحق كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7)[العلق] .
قال بعضهم: خذ من الدّنيا ما شئت؛ وخذ من الهمّ أضعافه. وسمّى الدّنيا لهوا؛ لأنها تلهي القلب عن كل خير، وتلهو بكل شرّ. انتهى «مناوي» .
وهذا الحديث ذكره في «الجامع الصغير» وقال: رواه أبو يعلى، والضياء المقدسي في «المختارة» ، والعسكريّ في «الأمثال» ؛ كلهم عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على الأعواد يقول ذلك.
قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، غير صدقة بن الرّبيع؛ وهو ثقة، وهو قطعة من حديث:«أمّا بعد؛ فإنّ أصدق الحديث كتاب الله» الحديث. انتهى «كشف ومناوي» .
196-
( «ما كان الرّفق) - أي: اللّطف- (في شيء إلّا زانه) ؛ لأنّ به تسهل الأمور ويأتلف ما تنافر، وهو مؤلّف الجماعات، وجامع الطّاعات؛ ومنه أخذ أنّه ينبغي للعالم إذا رأى من يخلّ بواجب، أو يفعل محرّما أن يترفق في
197-
«ما كان الفحش في شيء.. إلّا شانه» .
إرشاده، ويتلطّف به؛ ولذا لمّا جاء شابّ إليه صلى الله عليه وسلم وقال: ائذن لّي في الزّنا! فدعاه صلى الله عليه وسلم إلى الجلوس بقربه، وقال له:«أتحبّ أن يزنى بأمّك!» فقال: لا.
فقال: «بابنتك!» فقال: لا. وهكذا عدّد عليه في عمّته، وخالته، وهو يقول:
لا. فقال: «إذن لا تفعل ما تكره أن يفعل بأقاربك» . فترك الزنا، ولم يخطر بباله من ذلك الوقت، وسببه رفقه صلى الله عليه وسلم به انتهى. «حفني»
والحديث ذكره في «الجامع الصغير» بلفظ: «ما كان الرّفق في شيء إلّا زانه، ولا نزع من شيء إلّا شانه» وقال: أخرجه عبد بن حميد، والضّياء المقدسيّ في «المختارة» ؛ عن أنس بن مالك.
وهو في مسلم بلفظ: «وما كان الخرق في شيء قطّ إلّا شانه» وبقية المتن بحاله.
ورواه البزّار عن أنس أيضا بلفظ: «ما كان الرّفق في شيء قطّ إلّا زانه، وما كان الخرق في شيء قطّ إلّا شانه، وإنّ الله رفيق يحبّ الرّفق» . قال المنذري:
إسناده ليّن. انتهى مناوي على «الجامع» .
وقال في «الكشف» : رواه ابن حبّان عن أنس رضي الله تعالى عنه؛ أي:
باللفظ الذي في «الجامع الصغير» .
197-
( «ما كان الفحش) أي: قبح اللّسان، وتكلّمه بما لا يليق (في شيء) من حيوان؛ أو حجر، فإن الشيء يشمل الجماد (إلّا شانه» ) أي: عابه، إذ الشّين: العيب، أي: لو فرض ذلك في حجر لكان معيبا فكيف بالإنسان!!
وأشار بهذا إلى أنّ الأخلاق الرّذلة مفتاح كلّ شر، بل هي الشرّ كلّه.
قال ابن جماعة: وقد بلي بعض أصحاب النّفوس الخبيثة؛ من فقهاء الزّمان بالفحش، والحسد، والعجب، والرياء، وعدم الحياء. انتهى.
وأقول: ليت ابن جماعة عاش إلى الآن؛ حتى رأى علماء هذا الزمان!! انتهى مناوي على «الجامع» .
198-
199-
«ما هو بمؤمن.. من لا يأمن جاره بوائقه» .
وهذا في زمانهما، فكيف لو رأيا زماننا؟! فلا حول ولا قوة إلّا بالله العليّ العظيم.
والحديث ذكره في «الجامع» مرموزا له برمز الإمام أحمد، والبخاريّ في «الأدب» ، والترمذي في «البر» ، وابن ماجه؛ كلّهم عن أنس بن مالك: قال التّرمذي: حسن غريب. انتهى مناوي على «الجامع» ، وفي «العزيزي» : إن إسناده صحيح.
198-
( «ما هلك امرؤ عرف قدره» ) يعني: أنّ من عرف مقدار نفسه، ونزّلها منزلتها؛ نجا في الدّنيا والآخرة من الهلاك، ومن تعدى طوره؛ فتكبّر، ورفع نفسه فوق حدّه؛ هلك. وهو ظاهر.
والحديث ذكره في «الشّفاء» قال السّيوطي: قال السمعاني: رحمه الله تعالى إنّه: حديث روي مسندا عن عليّ كرّم الله وجهه، وفي سنده من لا يعرف حاله.
وقال التّجاني: لا أعرف له سندا صحيحا إلى النّبي صلى الله عليه وسلم! وإنما هو من كلام أكثم بن صيفي في وصيته، فإن ثبت عن النّبي صلى الله عليه وسلم فلعله تمثّل به.
وأكثم هذا بالمثلّثة: من بلغاء العرب وعدّه بعضهم في الصّحابة، والأكثر على خلافه.
وفي كتاب «جوامع الكلم وبدائع الحكم» : هو من كلامه صلى الله عليه وسلم وذكره مسندا انتهى «شهاب» .
قال القاري: ويقرب منه ما روي عن عليّ أمير المؤمنين رضي الله عنه وكرّم وجهه في الجنّة: ما ضاع امرؤ عرف قدره. لأن الضائع بمنزلة الهالك. انتهى.
199-
( «ما هو بمؤمن) كامل (من لا يأمن جاره بوائقه» ) أي: شره؛ كما
200-
201-
«المجالس.. بالأمانة» .
جاء مبينا في الحديث؛ في بعض الروايات. يعني: لا يكون المؤمن كامل الإيمان حتى يأمن جاره من إيذائه؛ وذلك لأن إيذاء المسلم كبيرة، فكيف إذا كان جارا!! فإيذاؤه أغلظ إثما، وذلك شامل للجار الذّمّي، فإنه لا يجوز إيذاؤه أيضا؛ وفاء بذمّته، حيث انقاد لأحكام الإسلام.
والحديث ذكره «في كنوز الحقائق» مرموزا له برمز أبي يعلى.
200-
( «مت مسلما ولا تبال» ) هكذا ذكره في «كنوز الحقائق» ؛ مرموزا له برمز الدّيلمي في «الفردوس» . لكن قال في «المقاصد» : لا أعلمه بهذا اللفظ! والأحاديث في «من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنّة» كثيرة، منها ما للشّيخين: البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه، ومنها ما لمسلم عن عثمان بلفظ:«من مات يشهد ألاإله إلا الله دخل الجنّة» . وقال القاري: معناه صحيح، لقوله تعالى وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) [آل عمران] ويناسب هذا قول بعضهم:
كن كيف شئت فإنّ الله ذو كرم
…
وما عليك إذا أذنبت من باس
إلّا اثنتين فلا تقربهما أبدا
…
الشّرك بالله والإضرار بالنّاس
201-
( «المجالس) أي: ما يقع فيها قولا وفعلا ملحق (بالأمانة» ) فيجب حفظها فلا يشيع أحد حديث جليسه لأنّه غيبة، أو نميمة.
نعم يجوز؛ بل يجب فيما إذا كان فيه ضرر، كما لو أسرّ لك جليسك أنّه يريد قتل فلان، أو الزّنا بزوجته، أو أخذ ماله مثلا، فيجب عليك إخباره ليحذر منه، كما أشار لذلك في الحديث بقوله «إلّا ثلاثة مجالس: سفك دم حرام، أو فرج حرام، أو اقتطاع مال بغير حقّ» انتهى «حفني» .
قال ابن رسلان: الباء تتعلّق بمحذوف لا بدّ منه ليتمّ به الكلام؛ والتّقدير
.........
المجالس تحسن، أو حسن المجالس وشرفها بأمانة حاضريها لما يحصل في المجالس، ويقع في الأقوال والأفعال. فكأنّه صلى الله عليه وسلم يقول: ليكن صاحب المجلس أمينا لما يسمعه؛ أو يراه، فيحفظه أن ينتقل إلى من غاب عنه؛ انتقالا يحصل به مفسدة.
وفائدة الحديث: النّهي عن النّميمة الّتي ربما تؤدّي إلى القطيعة، انتهى «عزيزي» .
وقال العسكري: أراد صلى الله عليه وسلم أنّ الرّجل يجلس إلى القوم فيخوضون في الحديث، ولعلّ فيه ما إن نمي كان فيه ما يكرهون؛ فيأمنونه على أسرارهم!! فيريد: أنّ الأحاديث الّتي تجري بينهم كالأمانة، الّتي لا يجب أن يطلع عليها، فمن أظهرها فهو قتّات، وفي التّنزيل هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) [القلم] . وقال صلى الله عليه وسلم:«لا يدخل الجنّة قتّات- أي: نمّام-» وروي مرفوعا، ألا إنّ من الخيانة أن يحدّث الرّجل أخاه بالحديث فيفشيه. انتهى.
ولعبد الرزاق مرفوعا: «إنّما يتجالس المتجالسون بأمانة الله، فلا يحلّ لأحد أن يفشي عن صاحبه ما يكره» . وقال ابن الأثير: هذا ندب إلى ترك إعادة ما يجري في المجلس؛ من قول أو فعل، فكأنّ ذلك أمانة عند من سمعه أو رآه، والأمانة تقع على الطّاعة والعبادة والوديعة والثّقة والأمان، وقد جاء في كلّ منها حديث انتهى «شروح الجامع» ، ومن الزرقاني.
والحديث رواه ابن ماجه عن جابر رضي الله تعالى عنه مرفوعا.
ورواه الديلمي والعسكري والقضاعي والعقيلي والخطيب؛ كلهم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه رفعه.
ورواه أبو داود والعسكري؛ عن جابر بن عبد الله مرفوعا بزيادة: «إلّا ثلاثة مجالس: سفك دم حرام، أو فرج حرام، أو اقتطاع مال بغير حقّ» انتهى.
«زرقاني» وغيره، رحمهم الله تعالى
202-
«محرّم الحلال.. كمحلّ الحرام» .
203-
204-
202-
( «محرّم الحلال كمحلّ الحرام» ) في الإثم، فكما يحرم على المكلّف تحريم ما أحلّ الله؛ كذلك يحرم عليه تحليل ما حرّم الله، فإن كان ذلك المحرّم الّذي أحلّه محرّما بالإجماع، معلوما من الدّين بالضرورة؛ كتحليل الزّنا، وشرب الخمر، فتحليله كفر، وكذا الحلال؛ إن كان حلالا مجمعا على حلّه، معلوما من الدّين بالضرورة؛ كالبيع، والنّكاح، فتحريم ذلك كفر، وخروج عن ملّة الإسلام؛ تجب الاستتابة من ذلك، وإلّا! قتل كافرا، ورميت جيفته للكلاب.
هذا إن اعتقد تحليل المحرّم بالإجماع، أو اعتقد تحريم الحلال بالإجماع، وإلّا! فلا. والله أعلم.
والحديث ذكره في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الطّبراني.
203-
( «المرء) قليل بمفرده (كثير بأخيه» ) في النّسب، أو في الدّين.
قال العسكريّ: أراد أنّ الرّجل؛ وإن كان قليلا في نفسه حين انفراده؛ كثير باجتماعه معه، فهو كخبر:«اثنان فما فوقهما جماعة» انتهى.
وهذا كما ترى ذهاب منه إلى أنّ المراد الأخوّة في الإسلام! نزّله الماوردي على أنّها أخوّة النّسب. ووجهه بأنّ تعاطف الأرحام، وحمية الأقارب؛ يبعثان على التّناصر والألفة، ويمنعان من التّخاذل والفرقة؛ أنفة من استعلاء الأباعد على الأقارب، وتوقّيا من تسلّط الغرباء الأجانب انتهى «مناوي» .
والحديث ذكره في «الجامع» ؛ وقال: أخرجه ابن أبي الدّنيا أبو بكر القرشيّ في كتاب «الإخوان» ، وكذا العسكريّ؛ كلاهما عن سهل بن سعد الساعديّ، ورواه الديلمي والقضاعي عن أنس، قال شارحه العامريّ: وهو غريب. انتهى «مناوي» .
204-
( «مداراة) بغير همزة (النّاس صدقة» ) قال العامريّ: المداراة اللّين
.........
والتعطّف، ومعناه: أنّ من ابتلي بمخالطة النّاس؛ معاملة ومعاشرة؛ فألان جانبه وتلطّف، ولم ينفّرهم كتب له صدقة.
قال ابن حبّان: المداراة الّتي تكون صدقة للمداري: تخلّقه بأخلاقه المستحسنة مع نحو عشيرته؛ ما لم يشبها بمعصية.
والمداراة محثوث عليها مأمور بها، ومن ثمّ قيل: اتّسعت دار من يداري، وضاقت أسباب من يماري.
وفي «شرح البخاري» : قالوا:
المداراة: الرفق بالجاهل في التّعليم، وبالفاسق بالنّهي عن فعله، وترك الإغلاظ عليه. والمداهنة: معاشرة الفاسق، وإظهار الرضى بما هو فيه.
والأولى مندوبة، والثّانية محرّمة.
وقال حجّة الإسلام: النّاس ثلاثة: أحدهم مثل الغذاء؛ لا يستغنى عنه.
والآخر مثل الدواء؛ يحتاج إليه في وقت دون وقت. والثّالث مثل الداء لا يحتاج إليه، لكنّ العبد قد يبتلى به، وهو الذي لا أنس فيه ولا نفع، فتجب مداراته إلى الخلاص منه. انتهى «مناوي» .
والحديث ذكره في «الجامع» مرموزا له برمز ابن حبّان، والطّبراني في «الكبير» ، والبيهقيّ في «شعب الإيمان» ؛ عن جابر بن عبد الله.
وهو حديث له طرق عديدة، وهذا الطّريق- كما قاله العلائي وغيره-:
أعدلها.
وفيه يوسف بن أسباط الراهب! أورده الذّهبي في «الضّعفاء» !! وقال الهيثمي: فيه عند الطّبراني يوسف بن محمد بن المنكدر متروك، وقال الحافظ في «الفتح» بعد ما عزاه لابن عدي والطّبرانيّ في «الأوسط» : فيه يوسف بن محمّد بن المنكدر ضعّفوه، وقال ابن عدي: لا بأس به. قال الحافظ: وأخرجه
205-
206-
«المستشار.. مؤتمن» .
ابن أبي عاصم في «آداب الحكماء» بسند أحسن منه. انتهى «مناوي» .
205-
( «المرء مع من أحبّ» ) في الجنّة بحسن نيّته من غير زيادة عمل، لأنّ محبّته لهم لطاعتهم، والمحبّة من أفعال القلوب، فأثيب على ما اعتقده؛ لأن الأصل النيّة والعمل تابع لها، ولا يلزم من المعيّة استواء الدّرجات، بل ترفع الحجب حتّى تحصل الرؤية والمشاهدة، وكلّ في درجته؛ قاله القسطلّاني.
وهذا الحديث متواتر، قال في «الفتح» : جمع أبو نعيم الحافظ طرقه في كتاب «المحبين مع المحبوبين» ، وبلغ عدد الصّحابة فيه نحو العشرين، وفي رواية أكثرهم «المرء مع من أحبّ» ،
وفي بعضها بلفظ حديث أنس: «أنت مع من أحببت» . انتهى.
قال أنس: فما فرح المسلمون بشيء فرحهم بهذا الحديث؛ وفي ضمنه حثّ على حبّ الأخيار؛ رجاء اللّحاق بهم في دار القرار، والخلاص من النّار، والقرب من الغفّار، والترغيب في الحبّ في الله، والترهيب من التّباغض بين المسلمين؛ لأن من لازمه فوات هذه المعية؛ وفيه رمز إلى أنّ التّحابب بين الكفار ينتج لهم المعيّة في النّار، وبئس القرار، قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)[إبراهيم] .
والحديث رواه الشيخان في «الأدب» وغيرهما؛ عن أنس وأبي موسى وابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين.
206-
( «المستشار مؤتمن» ) أي: أمين على ما استشير فيه، فمن أفضى إلى أخيه بسرّه وأمّنه على نفسه؛ فقد جعله بمحلّها، فيجب عليه ألايشير عليه، إلّا بما يراه صوابا، فإنّه كالأمانة للرجل الّذي لا يأمن على إيداع ماله إلّا ثقة.
والسرّ الّذي قد يكون في إذاعته تلف النّفس؛ أولى بأن لا يجعل إلّا عند موثوق
.........
به، ولذا احتاج المشير والنّاصح إلى كونه أمينا مجرّبا، حازما ناصحا، ثابت الجأش، غير معجب بنفسه، ولا متلوّن في رأيه، ولا كاذب في مقاله، فارغ البال وقت الاستشارة.
ولذا قيل: إنهما يحتاجان إلى علم كبير كثير، فيحتاج أولا إلى علم الشّريعة، وهو العلم المتضمّن لأحوال النّاس، وعلم الزّمان والمكان، وعلم التّرجيح إذا تقابلت هذه الأمور، فقد يكون ما يصلح الزّمان يفسد الحال أو المكان، وهكذا فينظر إلى التّرجيح، فيفعل بحسب الأرجح عنده.
مثاله: أن يضيق الزّمن عن فعل أمرين اقتضاهما الحال، فيشير بأهمهما.
وإذا عرف من حال إنسان بالمخالفة؛ وأنه إذا أرشده لشيء فعل ضدّه! أشار عليه بما لا ينبغي؛ ليفعل ما ينبغي، وهذا يسمّى علم السّياسة، فإنه يسوس بذلك النّفوس الجموحة الشّاردة عن طريق مصالحها، فلذا يحتاج المشير والنّاصح إلى علم وعقل وفكر صحيح، ورويّة حسنة واعتدال مزاج، وتؤدة وتأنّ. فإن لم يجمع هذه الخصال!؟ فخطؤه أسرع من إصابته؛ فلا يشير ولا ينصح. قالوا: وما في مكارم الأخلاق أدقّ، ولا أخفى، ولا أعظم من النّصيحة. انتهى «زرقاني» ، ومناوي على «الجامع» .
والحديث أخرجه الإمام أحمد؛ من حديث ابن مسعود بزيادة: «وهو بالخيار إن شاء تكلّم وإن شاء سكت، فإن تكلّم فليجتهد رأيه» .
وأخرجه أصحاب «السنن الأربعة» ؛ عن أبي هريرة، والتّرمذيّ؛ عن أمّ سلمة، والطّبراني في «الأوسط» و «الكبير» ؛ عن سمرة بزيادة:«إن شاء أشار، وإن شاء لم يشر» .
والقضاعي عن سمرة بلفظ: «المستشار مؤتمن، فإن شاء أشار وإن شاء سكت، فإن أشار فليشر بما لو نزل به لفعله» .
207-
«المسلم.. أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه» .
والطّبراني في «الأوسط» ؛ عن علي وزاد: «فإذا استشير فليشر بما هو صانع لنفسه» .
وللعسكريّ؛ عن عائشة: «المستشير معان، والمستشار مؤتمن، فإذا استشير أحدكم فليشر بما هو صالح لنفسه» .
وفي الباب جابر بن سمرة، وأبو الهيثم، وابن عباس، وآخرون. قال السّيوطي: وهو متواتر. انتهى «زرقاني» .
وقد تقدّم الكلام على هذا الحديث في الباب الرّابع في صفة أكله صلى الله عليه وسلم.
207-
( «المسلم) حرا كان؛ أو قنا، بالغا أو صبيّا (أخو المسلم) أي:
يجمعهما دين واحد إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [10/ الحجرات] ، فهو كالأخوّة الحقيقية، وهي أن تجمع الشّخصين ولادة من صلب أو رحم؛ أو منهما. بل الأخوّة الدينيّة أعظم من الحقيقيّة، لأنّ ثمرة هذه دنيويّة وثمرة تلك أخرويّة.
(لا يظلمه ولا يسلمه» ) بضم أوله، يقال:«أسلم فلان فلانا» ؛ إذا ألقاه إلى الهلكة ولم يحمه من عدوّه، وهو عامّ في كلّ من أسلم لغيره، لكن غلب في الإلقاء إلى الهلكة؛ أي لا يتركه مع من يؤذيه؛ ولا فيما يؤذيه، بل ينصره، ويدفع عنه، ولا يترك نصرته المشروعة؛ سيما مع الاحتياج، أو الاضطرار إليها، لأن من حقوق أخوّة الإسلام التّناصر.
قال تعالى وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى [2/ المائدة]، وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ [72/ الأنفال] . وقال صلى الله عليه وسلم:«انصر أخاك ظالما أو مظلوما» . فقوله «ظالما» ؛ أي: بأن تكفّه عن ظلمه. وقوله «مظلوما» ؛ أي: بأن تدفع عنه من يظلمه، فخذلانه محرّم شديد التّحريم دنيويّا؛ كأن مثل أن يقدر على دفع عدوّ يريد أن يبطش به ولا يدفعه، أو دينيّا مثل أن يقدر على نصحه عن غيّه، بنحو وعظ فيترك.
208-
«المسلم.. من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر.. من هجر ما حرّم الله» .
والحديث أخرجه البخاري في «المظالم والإكراه» ، وأبو داود في «الأدب» ، والتّرمذي في «الحدود» ؛ عن ابن عمر بن الخطاب. وأخرجه مسلم في «الأدب» ؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وقال:«لا يخذله» بدل «يسلمه» .
208-
( «المسلم) الكامل في الإسلام (من) - أي: إنسان؛ ذكرا كان أو أنثى- أتى بأركان الدّين، و (سلم المسلمون) وغيرهم؛ من أهل الذمّة، فالتّقييد غالبيّ كالتّعبير بجمع المذكّر السّالم (من لسانه ويده) وبقيّة أعضائه؛ بأن لا يتعرّض لهم بما حرم من دمائهم وأموالهم وأعراضهم.
وخصّ هذين العضوين! لأن الأذى بهما أغلب.
وقدّم اللّسان! لأكثريّة الأذى به، ولكونه المعبّر عمّا في الضّمير.
وعبّر باللّسان دون القول! ليشمل من أخرج لسانه استهزاء.
وعبّر باليد دون بقيّة الجوارح! ليدخل اليد المعنويّة كالاستيلاء على حقّ الغير ظلما.
فإن قيل: هذا يستلزم أنّ من اتّصف بهذا خاصّة كان كاملا!!
ويجاب بأنّ المراد أتى بذلك مع مراعاة بقيّة أركان الإسلام، فهذا إنّما ورد على سبيل المبالغة؛ تعظيما لترك الإيذاء. كأنّ ترك الإيذاء؛ هو نفس الإسلام الكامل، وكأنّه محصور فيه، على سبيل الادّعاء للمبالغة!!.
قال الخطّابي: أفضل المسلمين من جمع إلى أداء حقوق الله تعالى حقوق المسلمين، ويحتمل أن يكون المراد بذلك الإشارة إلى الحثّ على حسن معاملة العبد مع ربّه، لأنّه إذا أحسن معاملة إخوانه، فالأولى أن يحسن معاملة ربّه، من باب التّنبيه بالأدنى على الأعلى. انتهى شروح «الجامع الصغير» .
(والمهاجر) هجرة كاملة ممدوحة (من هجر) ؛ أي: ترك (ما حرّم الله» ) عليه، أي: ليس المهاجر حقيقة من هاجر من بلاد الكفر، بل من هجر نفسه،
209-
وأكرهها على الطّاعة، وحمّلها تجنّب المنهيّ، لأن النّفس أشدّ عداوة من الكافر؛ لقربها وملازمتها وحرصها على منع الخير.
فالمجاهد الحقيقيّ من جاهد نفسه، واتبع سنّة نبيّه، واقتفى طريقه؛ في أقواله وأفعاله على اختلاف أحواله بحيث لا يكون له حركة ولا سكون إلّا على السّنّة، وهذه الهجرة العليا لثبوت فضلها على الدوام.
قال العلقمي: الهجرة ضربان: ظاهرة، وباطنة.
فالباطنة: ترك ما تدعو إليه النّفس الأمّارة بالسّوء والشّيطان.
والظّاهرة: الفرار بالدّين من الفتن.
وكأنّ المهاجرين خوطبوا بذلك لئلا يتّكلوا على مجرّد التحوّل من دارهم حتّى يمتثلوا أوامر الشّرع ونواهيه.
ويحتمل أن يكون ذلك قيل بعد انقطاع الهجرة لمّا فتحت مكّة؛ تطييبا لقلوب من لم يدرك ذلك؛ بأنّ حقيقة الهجرة تحصل لمن هجر ما حرّم الله!! فاشتملت هاتان الجملتان على جوامع من معاني الحكم والأحكام. انتهى شروح «الجامع الصغير» .
والحديث ذكره في «الجامع» مرموزا له برمز البخاري في «كتاب الإيمان» لكن بلفظ: «ما نهى الله عنه» ، وأبو داود في «الجهاد» ، والنّسائي في «الإيمان» ، وهذا لفظه؛ كلهم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رفعه، ولم يخرّجه مسلم؛ قاله المناوي على «الجامع» .
209-
( «مع كلّ فرحة ترحة» ) في «النهاية» الترح ضد الفرح. انتهى؛ أي: مع كلّ سرور حزن؛ أي: يعقبه. حتّى كأنّه معه؛ أي: جرت عادة الله بذلك؛ لئلا تسكن نفوس العقلاء إلى نعيمها، ولا تعكف قلوب المؤمنين على فرحاتها؛ فيمقتها الله سبحانه عند هجوم ترحاتها، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) [القصص] قال بعضهم:
210-
«مفتاح الجنّة.. لا إله إلّا الله» .
ثمانية تجري على سائر الورى
…
ولا بدّ للمرء يذوق الثّمانيه
ففرح وكره واجتماع وفرقة
…
وعسر ويسر ثمّ سقم وعافيه
والحديث ذكره في «الجامع» و «الكنوز» مرموزا له برمز الخطيب في ترجمة أبي بكر الشّيرازي؛ عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه. وفيه حفص بن غياث، أورده الذّهبي في الضّعفاء، وقال: مجهول. انتهى «مناوي» .
210-
( «مفتاح الجنّة) أي: مبيح دخولها (لا إله إلّا الله» ) أي؛ وأنّ محمّدا رسول الله، وفيه استعارة لطيفة، لأن الكفر لما منع من دخول الجنّة، شبّه بالغلق المانع من دخول الدّار ونحوها؛ والإتيان بالشّهادة لمّا رفع المانع؛ وكان سبب دخولها شبّه بالمفتاح.
وفي البخاري؛ عن وهب أنّه قيل له: أليس مفتاح الجنّة لا إله إلّا الله قال:
بلى؛ ولكن ليس مفتاح إلّا وله أسنان، فإن أتيت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلّا! فلا. فجعل الأعمال الصالحة الّتي هي ثمرة الشهادة بمنزلة أسنان المفتاح. انتهى مناوي على «الجامع» .
وقال الشريف الرضي: المراد أنّ هذا القول به يوصل إلى دخول الجنة، فجعله عليه الصلاة والسلام بمنزلة المفتاح الّذي به يستفتح الغلق؛ ويستفرج الباب.
وأراد عليه الصلاة والسلام هذه الكلمة وما يتبعها من شعائر الإسلام وقوانين الإيمان، إلّا أنّه صلى الله عليه وسلم عبّر عن جميع ذلك بهذه الكلمة، لأنّها أوّل لتلك الشعائر، وسائرها تابع لها ومتعلّق بها، فهي لها كالزّمام القائد والمتقدّم الرّائد، وذلك كما يعبّرون عن حروف المعجم ببعضها، فيقال:«ألف باء تاء ثاء» والمراد جميعها، وكذلك يقولون هو في «أبجد» ويريدون سائر هذه الحروف، إلّا أنّ هذه الحروف لمّا كانت أوّلة لباقيها ومتقدّمة لما يليها، حسن أن يعبّر بها عن جميعها. انتهى.
والحديث ذكره في «كشف الخفاء» باللّفظ الّذي أورده المصنّف؛ وقال: رواه الإمام أحمد عن معاذ رفعه، قال النجم: وفي لفظ «مفاتيح الجنّة» . وضعّفوه،
211-
لكن عند البخاري عن وهب ما يشهد له. انتهى.
وذكره «في كنوز الحقائق» ، مرموزا له برمز الديلمي في «الفردوس» ، وذكره في «الجامع» بلفظ «مفاتيح الجنّة شهادة ألاإله إلّا الله» ، ورمز له برمز الإمام أحمد؛ عن معاذ بن جبل، قال الهيثمي: رجاله وثّقوا، إلّا أنّ شهرا لم يسمع من معاذ. انتهى مناوي على «الجامع» . وفي «فيض القدير» للمناوي:
تنبيه:
قد جعل الله لكلّ مطلوب مفتاحا يفتح به؛ فجعل مفتاح الصّلاة الطّهور، ومفتاح الحجّ الإحرام، ومفتاح البرّ الصّدقة، ومفتاح الجنّة التّوحيد، ومفتاح العلم حسن السؤال والإصغاء، ومفتاح الظّفر الصّبر، ومفتاح المزيد الشّكر، ومفتاح الولاية والمحبّة الذّكر، ومفتاح الفلاح التّقوى، ومفتاح التّوفيق الرّغبة والرّهبة، ومفتاح الإجابة الدّعاء، ومفتاح الرّغبة في الآخرة الزّهد في الدّنيا، ومفتاح الإيمان التفكّر في مصنوعات الله، ومفتاح الدّخول على الله استسلام القلب والإخلاص له في الحبّ والبغض، ومفتاح حياة القلوب تدبّر القرآن والضّراعة بالأسحار وترك الذّنوب، ومفتاح حصول الرّحمة الإحسان في عبادة الحقّ؛ والسّعي في نفع الخلق؛ ومفتاح الرزق السّعي مع الاستغفار، ومفتاح العزّ الطّاعة، ومفتاح الاستعداد للآخرة قصر الأمل، ومفتاح كلّ خير الرّغبة في الآخرة، ومفتاح كلّ شرّ حبّ الدّنيا وطول الأمل. وهذا باب واسع من أنفع أبواب العلم، وهو معرفة مفاتيح الخير والشر، ولا يقف عليه إلّا الموفّقون. انتهى.
211-
( «ملاك) - بكسر الميم وفتحها- (الدّين) - أي: قوامه، ونظامه، وما يعتمد عليه فيه- هو:(الورع» ) بالكفّ عن التّوسّع في الأمور الدّنيويّة؛ المشغلة عن ذكر الله ودوام مراقبته.
والورع أصله: النّظر البالغ في كلّ شيء، والبحث التّام عن كلّ شيء هو بصدده.
212-
«المكر والخديعة.. في النّار» .
وأصل الملاك استحكام القدرة؛ يعني أنّ إحكام الدّين يكون بالورع، بمعنى أنه إذا وجد كان الدّين على غاية من الكمال، وذلك لأن الورع دائم المراقبة للحقّ، مستديم الحذر أن يمزج باطلا بحقّ؛ كما قال الحبر ابن عباس: كان عمر كالطّير الحذر.
والحديث أخرجه أبو الشيخ ابن حيان، والدّيلمي؛ كلاهما عن عبادة بن الصّامت. وأخرجه الخطيب وابن عبد البرّ؛ كلاهما عن ابن عباس. وأخرجه ابن عبد البر؛ عن أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين. وذكره في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز أبي الشيخ بن حيّان.
212-
( «المكر) : إضمار السوء لغيره (والخديعة) : إيصال المكروه للغير، من حيث لا يعلم (في النّار» ) ومعناه- كما قال العسكري-: أنّ صاحب المكر والخداع لا يكون تقيّا، ولا خائفا لله، لأنه إذا مكر غدر، وإذا غدر خدع، وإذا فعلهما أوبق نفسه، وهذا لا يكون في تقي، فكلّ خلّة جانبت التّقى فهي في النّار؛ أي صاحبها. انتهى.
ومقتضى هذا تغاير المكر للخديعة، لأنّه جعل المكر سبب الغدر، وهو سبب الخديعة؛ والسبب مغاير للمسبب!! وفي «القاموس» وغيره: المكر الخديعة!!
والجواب: أنّه جرد المكر عن معناه، كما ذكرناه؛ فلا يخالف ترادفهما.
وقال الرّاغب: المكر والخديعة متقاربان، وهما اسمان لكلّ فعل يقصد فاعله في باطنه خلاف ما يقتضيه ظاهره؛ ويكون سيّئا، كقصد إنزال مكروه بالمخدوع.
وإيّاه قصد صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث، ومعناه يؤدّيان بقاصدهما إلى النّار، ويكون حسنا؛ وهو أن يقصد فاعلهما مصلحة بالمخدوع والممكور به، كما يفعل بالصّبي إذا امتنع من فعل خير، ولكونهما ضربين قال تعالى وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)[فاطر] ، ووَ لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [43/ فاطر] ووصف نفسه بالمكر الحسن؛ فقال وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (54)[آل عمران] . انتهى زرقاني على «المواهب» .
213-
«من أبطأ به عمله.. لم يسرع به نسبه» .
214-
«من اتّقى الله.. كلّ لسانه، ولم يشف غيظه» .
والحديث ذكره في «المواهب» وقال: رواه الديلمي؛ عن أبي عن أبي هريرة، والقضاعي؛ عن ابن مسعود وزاد:«من غشّنا فليس منّا» . وفي الباب غيرهما، ونحو «ليس منّا من ضارّ مسلما وما كره» رواه الترمذي. انتهى مع زيادة من «شرح الزرقاني» .
213-
( «من أبطأ) - بألف قبل الموحدة ودونها: روايتان، وهما بمعنى، إلّا أنّ السّخاوي ادّعى أنّ لفظ مسلم بلا ألف، وأنّ رواية القضاعي «أبطأ» بألف- (به عمله) - أي: أخّره عمله السّيء، أو تفريطه في العمل الصّالح؛ بأن لم يأت به على الوجه الأكمل- (لم يسرع به نسبه» ) - أي: لا ينفعه في الآخرة شرف النّسب؛ فلا يعجل به إلى منازل السعداء. والحديث رواه مسلم، وأبو داود، والتّرمذي، وابن ماجه، وأحمد، والعسكري، والقضاعي؛ كلهم من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه؛ في آخر حديث لفظه: «من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدّنيا
…
» الخ. انتهى «زرقاني» .
214-
( «من اتّقى الله) - أي: أطاعه في أمره ونهيه بقدر الاستطاعة- (كلّ) بفتح الكاف وشدّ اللام؛ أي: تعب وأعيا- (لسانه، ولم يشف غيظه» ) ممّن فعل به مكروها، لأنّ التّقوى عبارة عن امتثال أوامر الله؛ وتجنّب نواهيه.
ولن يصل العبد إلى القيام بأوامره، إلّا بمراقبة قلبه وجوارحه في لحظاته وأنفاسه؛ بحيث يعلم أنّه مطّلع عليه وعلى ضميره، ومشرف على ظاهره وباطنه؛ محيط بجميع لحظاته وخطراته وخطواته، وسائر حركاته وسكناته، وذلك مانع له مما ذكر.
فمن زعم أنّه من المتقين؛ وهو ذرب اللّسان، منتصر لنفسه، مشف لغيظه؛ فهو من الكاذبين، لا بل من الهالكين.
215-
«من اتّقى الله.. وقاه كلّ شيء» .
216-
«من أحبّ أن يعلم منزلته عند الله.. فلينظر منزلة الله عنده» .
والحديث ذكره في «الجامع» ؛ وقال: أخرجه ابن أبي الدّنيا في «كتاب التّقوى» ؛ عن سهل بن سعد. ورواه عنه أيضا الدّيلميّ في «مسند الفردوس» قال الحافظ العراقي: وسنده ضعيف، قال: ورأيناه في «الأربعين البلدانية» للسّلفي.
انتهى مناوي على «الجامع» .
215-
( «من اتّقى الله وقاه كلّ شيء» ) يخافه أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)[يونس] ، فأعظم بخصلة تضمّنت موالاة الله وانتفاء الخوف والحزن، وحصول البشرى في الدّنيا والعقبى!! فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)[التوبة] ، أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ [62- 64/ يونس] .
والحديث ذكره في «الجامع الصغير» ؛ وقال: أخرجه ابن النّجّار في «تاريخه» ؛ عن ابن عباس، ورواه عنه أيضا الخطيب في «تاريخه» باللفظ المزبور. انتهى مناوي على «الجامع» .
216-
( «من أحبّ أن يعلم منزلته عند الله) - أي: هل هو من النّاجين المحبوبين لله؛ أم لا- (فلينظر) - كيف- (منزلة الله عنده» ) من الوقار والإجلال المستلزمين لامتثال الأوامر واجتناب النّواهي، فمنزلة الله عند العبد في قلبه على قدر معرفته إيّاه؛ وعلمه به وإجلاله وتعظيمه، والحياء والخوف منه، وإقامة الحرمة لأمره ونهيه، والوقوف عند أحكامه بقلب سليم ونفس مطمئنة، والتّسليم له روحا وبدنا وقلبا، ومراقبة تدبيره في أموره، ولزوم ذكره، والنّهوض بأثقال نعمته ومنّته، وترك مشيئة نفسه لمشيئته وحسن الظّنّ به، والنّاس في ذلك درجات، وحظوظهم بقدر حظوظهم من هذه الأشياء؛ فأوفرهم حظّا منها أعظمهم درجة عنده، وعكسه بعكسه.
.........
قال ابن عطاء الله: إذا أردت أن تعرف مقامك عنده؛ فانظر ما أقامك فيه! فإن كان في الخدمة؛ فاجتهد في تصحيح عبوديتك، ودوام المراقبة في خدمتك، لأنّ شرط العبوديّة المراقبة في الخدمة لمراد المولى؛ وهي المعرفة، لأنك إذا عرفت أنّه أوجدك وأعانك واستعملك فيما شاء- وأنت عاجز- عرفت نفسك، وعرفت ربّك، ولزمت طاعته.
إذا أردت أن ترى مقامكا
…
لديه فلتنظر بما أقامكا
فقيمة الإنسان عند ربّه
…
بقدر ما شغله الرّبّ به
قال بعض العارفين: إن أردت أن تعرف قدرك عنده؛ فانظر فيم يقيمك.
متى رزقك الطّاعة والغنى به عنها؛ فاعلم أنّه أسبغ نعمه عليك ظاهرة وباطنة.
وخير ما تطلبه منه ما هو طالبه منك.
متى رزقت طاعة مع الغنى
…
عنها بمولاك فقد نلت المنى
إذ أسبغ الله عليك نعمه
…
ظاهرة باطنة وكرمه
أجلّ ما تطلبه من ربّكا
…
ما هو طالب له من نفسكا
والحديث ذكره المناويّ في «الطّبقات» ، وقال في «العزيزي» : رواه الحاكم بلفظ: «من كان يحبّ أن يعلم منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله عنده، فإنّ الله ينزل العبد منه حيث أنزله من نفسه» . وذكره في «الجامع الصغير» بلفظ:
«من أراد أن يعلم ماله عند الله فلينظر ما لله عنده» ورمز له برمز الدارقطني في «الأفراد» ؛ عن أنس بن مالك، وأخرجه أبو نعيم في «الحلية» ؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ وعن سمرة بلفظ: «من سرّه أن يعلم
…
الخ» وقال: إنه غريب من حديث صالح المرّي. وصالح المرّي. وصالح المرّي ذكره الذّهبي في الضعفاء؛ وقال فيه: قال النّسائي وغيره: متروك.
ورواه الحاكم عن جابر بلفظ: «من أراد أن يعلم ما له عند الله فلينظر ما لله
217-
«من أحبّ دنياه.. أضرّ باخرته، ومن أحبّ آخرته..
أضرّ بدنياه؛ فاثروا ما يبقى على ما يفنى» .
عنده، فإنّ الله ينزل العبد منه حيث أنزله من نفسه» انتهى مناوي على «الجامع الصغير» .
217-
( «من أحبّ دنياه أضرّ باخرته) لأن حبّها يشغله عن تفريغ قلبه لحبّ ربّه ولسانه لذكره؛ فتضرّ آخرته (ومن أحبّ آخرته أضرّ بدنياه) فهما ككفّتي الميزان؛ إذا رجحت إحداهما خفّت الآخرى.
قال الإمام علي رضي الله عنه: الدّنيا والآخرة كالمشرق والمغرب؛ إذا قربت من إحداهما بعدت عن الآخرى، فالجمع بين الدّنيا والدّين على الكمال لا يكاد يقع، إلّا لمن سخّره الله لتدبير خلقه في معاشهم ومعادهم؛ وهم الأنبياء.
أمّا غيرهم! فإذا شغلت قلوبهم بالدّنيا انصرفت عن الآخرة، وذلك أنّ حبّ الدّنيا سبب لشغله بها والانهماك فيها؛ وهو سبب للشّغل عن الآخرة، فتخلو عن الطّاعة، فيفوت الفوز بدرجاتها؛ وهو عين المضرّة.
بنى ملك من الملوك مدينة وتأنّق فيها، ثمّ صنع طعاما ونصب ببابها من يسأل عنها. فلم يعبها إلّا ثلاثة، فسألهم فقالوا: رأينا عيبين. قال: وما هما؟ قالوا:
تخرب ويموت صاحبها. قال: فهل ثمّ دار تسلم منها؟! قالوا: نعم، الآخرة، فتخلّى عن الملك وتعبّد معهم، ثمّ ودّعهم، فقالوا: هل رأيت منا ما تكره!!.
قال: لا، لكن عرفتموني فأكرمتموني، فأصحب من لا يعرفوني. انتهى «مناوي» .
(فاثروا) أي: إذا علمتم ذلك فقدّموا (ما يبقى على ما يفنى» ) فقد ذمّ الله من يحبّ الدّنيا، ويؤثرها على الآخرة، بقوله كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21)[القيامة] وذمّ حبّها يستلزم مدح بغضها. انتهى «مناوي» .
والحديث ذكره في «الجامع» مرموزا برمز الإمام أحمد، والحاكم؛ عن
218-
«من أحبّ شيئا.. أكثر من ذكره» .
219-
«من أحبّ قوما.. حشره الله في زمرتهم» .
أبي موسى الأشعري، قال الحاكم: على شرطهما، وردّه الذّهبي، وقال: فيه انقطاع. انتهى. وقال المنذري والهيثمي: رجال أحمد ثقات. انتهى. وفي «العزيزي» : إنّه حديث صحيح. انتهى.
218-
( «من أحبّ شيئا أكثر من ذكره» ) أي: علامة صدق المحبّة إكثار ذكر المحبوب، ولهذا قال أبو نواس:
فبح باسم من تهوى ودعني من الكنى
…
فلا خير في اللّذّات من دونها ستر
قال في «الرعاية» : علامة المحبّين كثرة ذكر المحبوب على الدّوام؛ لا ينقطعون، ولا يملّون، ولا يفترون، فذكر المحبوب هو الغالب على قلوب المحبّين؛ لا يريدون به بدلا، ولا يبغون عنه حولا، لو قطعوا عن ذكر محبوبهم فسد عيشهم!.
وقال بعضهم: علامة المحبّة ذكر المحبوب على عدد الأنفاس. انتهى مناوي على «الجامع» .
والحديث رواه أبو نعيم، والديلمي؛ عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا.
219-
( «من أحبّ قوما حشره الله في زمرتهم» ) ، فمن أحبّ أولياء الرّحمن فهو معهم في الجنان، ومن أحب حزب الشّيطان فهو معهم في النيران.
وفيه بشارة عظيمة لمن أحب الصوفيّة؛ أو تشبّه بهم، وأنّه يكون مع تفريطه بما هم عليه معهم في الجنّة.
والحديث أخرجه الطّبراني في «الكبير» ، والضياء المقدسي؛ عن أبي قرصافة بكسر القاف فسكون الراء فصاد مهملة ففاء- واسمه: حيدة، قال الهيثمي: وفيه من لم أعرفهم! فقال السخاوي: فيه إسماعيل بن يحيى التيمي ضعيف. انتهى مناوي؛ على «الجامع» .
220-
«من أحبّ لقاء الله.. أحبّ الله لقاءه» .
قال في «كشف الخفا» ، ويشهد له حديث:«المرء مع من أحبّ» .
انتهى» .
220-
( «من أحبّ لقاء الله) أي: المصير إلى الدار الآخرة، بمعنى أن المؤمن عند الغرغرة يبشر برضوان الله؛ فيكون موته أحبّ إليه من حياته (أحبّ الله لقاءه» ) أي: أفاض عليه فضله وأكثر عطاياه. وتمام الحديث: «ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه» .
قالت عائشة؛ أو بعض أزواجه: إنّا لنكره الموت!.
قال النّوويّ: هذا الحديث يفسّر آخره أوّله، ويبيّن المراد بباقي الأحاديث المطلقة: من أحب لقاء الله ومن كره لقاء الله.
ومعنى الحديث: أنّ الكراهة المعتبرة هي التّي تكون عند النّزع؛ في حالة لا تقبل فيها توبة، ولا غيرها، فحينئذ يبشّر كلّ إنسان بما هو صائر إليه، وما أعدّ له، ويكشف له عن ذلك، فأهل السّعادة يحبّون الموت ولقاء الله؛ لينقلوا إلى ما أعدّ لهم، ويحبّ الله لقاءهم فيجزل لهم العطاء والكرامة، وأهل الشقاء يكرهون لقاءه؛ لما علموا من سوء ما ينقلبون إليه ويكره الله لقاءهم، أي: يبعدهم عن رحمته وكرامته، ولا يريد ذلك بهم، وهذا معنى كراهته سبحانه وتعالى لقاءهم.
وليس معنى الحديث: أنّ سبب كراهة الله تعالى لقاءهم كراهتهم ذلك!! ولا أنّ حبّه لقاء الآخرين حبّهم ذلك!! بل هو صفة لهم. انتهى.
والحديث متفق عليه من حديث أبي موسى وعبادة بن الصّامت: البخاري في
221-
«من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه.. فهو ردّ» .
«الرّقاق» ، ومسلم في «الدّعوات» عنهما، وعن أبي هريرة، وعن عائشة رضي الله تعالى عنهم.
و «في كشف الخفا» : أنّه أخرجه الإمام أحمد، والبيهقي، والتّرمذي في «الزّهد» ، والنّسائي في «الجنائز» ؛ عن عائشة، وعن عبادة رضي الله تعالى عنهما.
قال في «الكشف» : وروى مالك، والبخاري- واللفظ له-، ومسلم، والتّرمذي؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: قال الله تعالى: «إذا أحبّ عبدي لقائي أحببت لقاءه، وإذا كره لقائي كرهت لقاءه» . انتهى.
221-
( «من أحدث) أي: أنشأ واخترع وأتى بأمر حديث من قبل نفسه (في أمرنا) أي: شأننا الذي نحن عليه، وهو ما شرعه الله تعالى ورسوله، واستمرّ العمل به، وهو دين الإسلام، عبّر عنه بالأمر تنبيها على أنّ هذا الدّين هو أمرنا الّذي نهتمّ به، ونشتغل به؛ بحيث لا يخلو عنه شيء من أقوالنا، ولا من أفعالنا.
(هذا) موضوع ليشار به لمحسوس مشاهد، وهو هنا مشار به للدّين المعقول، لتنزيله منزلة المحسوس المشاهد؛ اعتناء بشأنه وإشارة إلى جلالته ومزيد رفعته، وتعظيمه بالقرب؛ تنزيلا له باعتبار جلالته منزلة القريب، لأن الأمر العظيم من شأنه أن يطلب القرب منه وتتوجّه الهمم إلى الوصول إليه.
قال الطّيبيّ: وفي وصف الأمر ب «هذا» إشارة إلى أنّ أمر الإسلام كمل، واشتهر وشاع وظهر ظهورا محسوسا؛ بحيث لا يخفى على كل ذي بصر وبصيرة.
انتهى.
(ما) أي: شيئا (ليس منه) أي: ليس له في الكتاب أو السّنّة عاضد ظاهر، أو خفيّ ملحوظ أو مستنبط، (فهو ردّ» ) أي: مردود على فاعله، لبطلانه وعدم
.........
الاعتداد به؛ من إطلاق المصدر على اسم المفعول، كخلق ومخلوق ونسج ومنسوج، سواء كانت منافاته لما ذكر 1- لعدم مشروعيّته بالكليّة؛ كنذر القيام وعدم الاستضلال. أو 2- للإخلال بشرطه، أو ركنه؛ عبادة كانت أو عقدا، فلا ينقل الملك مطلقا، أو للزّيادة على المشروع فيه نحو الزّيادة في الصّلاة دون الوضوء. أو 3- لارتكاب منهياته، كذبح المحرم للصيد، ولبسه للخفّ بلا عذر؛ فلا يمسح عليه، وجماع الصائم، وجماع الحاجّ قبل التّحلّل الأول.
أمّا ما عضده عاضد؛ بأن شهد له شيء من أدلة الشرع، أو قواعده!! فليس بردّ على فاعله، بل هو مقبول منه؛
كبناء نحو الرّبط والمدارس وسائر أنواع البرّ الّتي لم تعهد في الصّدر الأول، فإنّه موافق لما جاءت به الشريعة؛ من اصطناع المعروف والمعاونة على البّر والتقوى.
وكالتّصنيف في جميع العلوم النافعة الشرعية؛ على اختلاف فنونها، وتقرير قواعدها، وكثرة التفريعات، وفرض ما لم يقع، وبيان حكمه، وتفسير القرآن والسّنّة، والكلام على الأسانيد والمتون، وتتبع كلام العرب؛ نثره ونظمه، وتدوين كلّ ذلك، واستخراج علوم اللّغة؛ كالنّحو، والمعاني، والبيان، والأوزان، فذلك كلّه وما شاكله معلوم حسنه، ظاهرة فائدته، معين على معرفة كتاب الله تعالى، وفهم معاني كتابه وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فيكون مأمورا به.
وكتفريع الأصول والفروع، وما يحتاجان إليه من الحساب وغيره من العلوم الآليّة، وككتابة القرآن في المصاحف، ووضع المذاهب وتدوينها، وتصنيف الكتب ومزيد إيضاحها وتبيينها، وغير ذلك ممّا مرجعه ومنتهاه إلى الدّين بواسطة أو وسائط، فإنّه مقبول من فاعله، مثاب ممدوح عليه.
ومن ثمّ استجاز كثيرا منه الصّحابة رضوان الله عليهم؛ كما وقع لأبي بكر وعمر وزيد بن ثابت رضي الله تعالى عنهم في جمع القرآن، فإنّ عمر أشار به على
.........
أبي بكر؛ خوفا من اندراس القرآن بموت الصّحابة رضي الله تعالى عنهم لمّا كثر فيهم القتل يوم اليمامة وغيره، فتوقف لكونه صورة بدعة، ثمّ شرح الله صدره لفعله، لأنّه ظهر له أنه يرجع إلى الدّين، فإنّه غير خارج عنه.
ومن ثمّ لمّا دعا زيد بن ثابت وأمره بالجمع قال له: كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله!! فقال: والله إنّه حقّ. ولم يزل يراجعه حتّى شرح الله صدره للّذي شرح له صدرهما.
وكما وقع لعمر رضي الله عنه في جمع النّاس لصلاة التّراويح في المسجد، مع تركه صلى الله عليه وسلم لذلك بعد أن كان فعله ليالي، وقال- أعني عمر-: نعمت البدعة هي.
أي: لأنها؛ وإن أحدثت ليس فيها ردّ لما مضى، بل موافقة له، لأنّه صلى الله عليه وسلم علّل التّرك بخشية الافتراض، وقد زال ذلك بوفاته صلى الله عليه وسلم.
وقال الشّافعي رضي الله عنه:
ما أحدث فخالف كتابا أو سنّة أو إجماعا أو أثرا؛ فهو البدعة الضالّة، وما أحدث من الخير ولم يخالف شيئا من ذلك؛ فهو البدعة المحمودة.
والحاصل: أنّ البدعة الحسنة متّفق على ندبها، وهي ما وافق شيئا مما مرّ؛ ولم يلزم من فعله محذور شرعيّ. ومنها ما هو فرض كفاية، كتصنيف العلوم ونحوها ممّا مرّ. انتهى. من «الفتح المبين» للشيخ أحمد بن حجر الهيتمي رحمه الله تعالى.
والحديث أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجه؛ كلّهم عن عائشة رضي الله تعالى عنها مرفوعا. وفي رواية لمسلم:«من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردّ» أي: مردود عليه، وإن لم يكن هو المحدث له. فاستفيد منه زيادة على ما مرّ- وهي الردّ- لما قد يحتجّ به بعض المبتدعة؛ من أنّه لم يخترع، وإنّما المخترع من سبقه!! ويحتجّ بالرّواية الأولى فيردّ عليه بهذه الرّواية الصّريحة في ردّ
222-
«من أرضى النّاس بسخط الله.. وكله الله إلى النّاس» .
223-
224-
«من أعان ظالما.. سلّطه الله عليه» .
المحدثات المخالفة للشّريعة؛ بالطريقة الّتي قدّمناها، سواء أحدثها الفاعل؛ أو سبق بإحداثها.
وفي الحديث دلالة للقاعدة الأصولية أنّ مطلق النّهي يقتضي الفساد، لأنّ المنهي عنه ليس من الدّين، بل مخترع محدث، وقد حكم عليه بالردّ المستلزم للفساد.
وفيه دلالة على إبطال جميع العقود المنهيّة، وعدم وجود ثمراتها المترتّبة عليها، وهو حديث عظيم معدود من أصول الإسلام، وقاعدة من قواعده.
قال النّوويّ: ينبغي حفظه واستعماله في إبطال المنكرات، وإشاعة الاستدلال به لذلك. انتهى.
222-
( «من أرضى النّاس بسخط الله) كأن وافقهم على غيبة شخص (وكله الله إلى النّاس» ) ومن وكله إليهم وقع في المهلكات؛ لأنّه لما رضي لنفسه بولاية من لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا؛ وكله إليه.
وتمام الحديث: «ومن أسخط النّاس برضاء الله كفاه الله مؤنة النّاس» . ذكره في «الجامع الصغير» ورمز له برمز الترمذي، وأبي نعيم في «الحلية» ؛ عن عائشة رضي الله عنها، ورواه عنها أيضا الدّيلمي والعسكري. انتهى «مناوي» . قال في «العزيزي» : وإسناده حسن.
223-
( «من أطاع الله فاز» ) ذكره في «الكنوز» مرموزا له برمز الإمام أحمد.
224-
( «من أعان ظالما) على ظلمه (سلّطه الله عليه» ) ؛ عدلا منه سبحانه
225-
226-
«من بورك له في شيء.. فليلزمه» .
وتعالى، فإنّه أحكم الحاكمين. والحديث ذكره في «الكنوز» و «الجامع» مرموزا له برمز ابن عساكر في «التاريخ» ؛ عن ابن مسعود رفعه، وهو حديث ضعيف- كما في «العزيزي» - بل قال المناوي كغيره: في سنده زكريا العدوي متّهم بالوضع!! أي: فيكون على هذا ضعيفا شديد الضّعف.
225-
( «من بثّ) أي: أذاع ونشر وشكا مصيبته للنّاس (لم يصبر» ) أي:
لأنّ الشّكوى منافية للصّبر إذا كانت الشكوى على جهة الجزع.
والحديث ذكره في «الكنوز» مرموزا له برمز ابن عساكر، وفي «الجامع» ذكره من حديث تمّام؛ عن ابن مسعود، وهو قطعة من حديث أوّله «ثلاث من كنوز البرّ
…
الخ» .
226-
( «من بورك له في شيء) من نحو صناعة، أو حرفة، أو تجارة (فليلزمه» ) أي: من جعلت معيشته في شيء من ذلك؛ فلا ينتقل عنه حتى يتغيّر، لأنه قد لا يفتح عليه في المنتقل إليه فهو خلقك لما شاء؛ لا لما تشاء، فكن مع مراد الله فيك؛ لا مع مرادك لنفسك.
قال في «الحكم» : من علامة إقامة الحقّ لك في الشي إدامته إياك فيه مع حصول النّتائج. قال النّاظم:
نتيجة الشّيء والاستقامه
…
فيه دواما آية الإقامة
والحديث أخرجه ابن ماجه؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه مرفوعا، وذكره في «الكنوز» .
وأخرجه البيهقي في «الشعب» ، والقضاعي عنه بلفظ:«من رزق» .
وفي لفظ للبيهقي: «من رزقه الله رزقا في شيء فليلزمه» .
227-
«من تأنّى.. أصاب أو كاد، ومن عجل.. أخطأ أو كاد» .
ولابن ماجه؛ عن نافع قال:
كنت أجهّز إلى الشّام وإلى مصر فجهّزت إلى العراق، فأتيت أمّ المؤمنين عائشة فقلت لها: يا أمّ المؤمنين؛ كنت أجهّز إلى الشّام وإلى مصر، فجهّزت إلى العراق!! فقالت: لا تفعل، مالك ولمتجرك!؟ فإنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
«إذا سبّب الله لأحدكم رزقا من وجه؛ فلا يدعه حتّى يتغيّر له؛ أو يتنكّر» .
ورواه البيهقي أيضا؛ عنه بسند ضعيف بلفظ: «إذا قسم لأحدكم رزق فلا يدعه حتّى يتغيّر أو يتنكّر له» .
وبلفظ: «إذا فتح لأحدكم رزق من باب فليلزمه» .
ورواه أحمد؛ عن جابر أيضا بسند ضعيف، ورواه في «الإحياء» بلفظ:«من جعلت معيشته في شيء؛ فلا ينتقل عنه حتّى يتغيّر» انتهى. من «كشف الخفا» للعجلوني.
227-
( «من تأنّى) في أموره (أصاب) الحقّ ونال المطلوب (أو كاد) أن يصيب؛ أي: قارب الإصابة (ومن عجل) - بكسر الجيم- (أخطأ، أو كاد» ) أن يخطئ؛ أي: قارب الخطأ، لأن العجلة شؤم الطبع، فجاء المشرّع بضدّ الطّبع، وجعل في التأنّي اليمن والبركة، فإذا ترك شؤم الطّبع وأخذ بأمر الشّرع أصاب الحقّ، ونال المراد أو قارب؛ لتعرّضه لرضا ربّه.
قال الغزالي: الاستعجال هو الخصلة المفوّتة للمقاصد؛ الموقعة في المعاصي، ومنها تبدو آفات كثيرة، وفي المثل السائر: إذا لم تستعجل تصل.
قال:
228-
قد يدرك المتأنّي بعض حاجته
…
وقد يكون مع المستعجل الزّلل
ومن آفاته أنّه مفوّت للورع، فإنّ أصل العبادات وملاكها الورع، والورع أصله النّظر البالغ في كلّ شيء، والبحث التّام عن كلّ شيء هو بصدده، فإن كان المكلّف مستعجلا، لم يقع منه توقّف ونظر في الأمور كما يجب، ويتسارع إلى كلّ طعام فيقع في الزّلل والخلل. انتهى «مناوي» .
والحديث ذكره في «الجامع» مرموزا له برمز الطّبراني في «الكبير» ، وكذا في «الأوسط» كلاهما؛ عن عقبة بن عامر بإسناد حسن، كما قال العزيزي: وقضيّة كلام المناوي أنّه ضعيف.
228-
( «من تشبّه بقوم) - أي: تزيّا في ظاهره بزيّهم، وفي تعرّفه بفعلهم، وفي تخلّقه بخلقهم، وسار بسيرتهم وهداهم في ملبسهم وبعض أفعالهم، أي:
وكان التشبّه بحقّ قد طابق فيه الظّاهر الباطن-
(فهو منهم» ) وقيل: المعنى من تشبّه بالصّالحين فهو من أتباعهم؛ يكرم كما يكرمون، ومن تشبّه بالفسّاق يهان ويخذل مثلهم، ومن وضع عليه علامة الشّرف أكرم؛ وإن لم يتحقّق شرفه.
وفيه أنّ من تشبّه من الجنّ بالحيّات وظهر بصورتهم قتل، وأنّه لا يجوز في زماننا لبس العمامة الصفراء أو الزرقاء؛ إذا كان مسلما. كذا ذكره ابن رسلان.
وبأبلغ من ذلك صرّح القرطبيّ فقال: لو خصّ أهل الفسوق والمجون بلباس منع لبسه لغيرهم، فقد يظنّ به من لا يعرفه أنّه منهم! فيظنّ به ظنّ السّوء؛ فيأثم الظّانّ والمظنون فيه بسبب العون عليه.
وقال بعضهم: قد يقع التشبّه في أمور قلبية، من اعتقادات وإرادات وأمور خارجية من أقوال وأفعال، قد تكون عبادات، وقد تكون عادات؛ في نحو طعام ولباس، ومسكن ونكاح، واجتماع وافتراق، وسفر وإقامة وركوب وغيرها.
.........
وبين الظّاهر والباطن ارتباط ومناسبة، وقد بعث الله المصطفى صلى الله عليه وسلم بالحكمة، الّتي هي سنّة، وهي الشّرعة والمنهاج الذي شرعه له، فكان ممّا شرعه له من الأقوال والأفعال ما يباين سبيل المغضوب عليهم والضّالّين، فأمر بمخالفتهم في الهدي الظّاهر في هذا الحديث؛ وإن لم يظهر فيه مفسدة، لأمور؛
منها أنّ المشاركة في الهدي الظّاهر تؤثّر تناسبا وتشاكلا بين المتشابهين، تعود إلى موافقة ما في الأخلاق والأعمال، وهذا أمر محسوس، فإنّ لابس ثياب العلماء مثلا، يجد من نفسه نوع انضمام إليهم؛ ولابس ثياب الجند المقاتلة مثلا، يجد من نفسه نوع تخلّق بأخلاقهم، وتصير طبيعته منقادة لذلك إلّا أن يمنعه مانع.
ومنها أنّ المخالفة في الهدي الظّاهر توجب مباينة ومفارقة؛ توجب الانقطاع عن موجبات الغضب وأسباب الضّلال، والانعطاف على أهل الهدي والرّضوان.
ومنها أنّ مشاركتهم في الهدي الظّاهر توجب الاختلاط الظّاهر؛ حتّى يرتفع التّمييز ظاهرا بين المهديّين المرضيّين، وبين المغضوب عليهم والضّالين
…
إلى غير ذلك من الأسباب الحكميّة الّتي أشار إليها هذا الحديث وما أشبهه.
وقال ابن تيميّة: هذا الحديث أقلّ أحواله أن يقتضي تحريم التشبّه بأهل الكتاب!! وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم، كما في قوله تعالى وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [51/ المائدة] .
وهو نظير قول ابن عمر «ومن بنى بأرض المشركين وصنع نيروزهم، ومهرجانهم، وتشبّه بهم حتّى يموت؛ حشر يوم القيامة معهم» فقد حمل هذا على التشبّه المطلق، فإنّه يوجب الكفر، ويقتضي تحريم أبعاض ذلك.
وقد يحمل منهم في القدر المشترك الذي شابههم فيه؛ فإن كان كفرا، أو معصية، أو شعارا لها؛ كان حكمه كذلك. انتهى «مناوي» .
والحديث ذكره في «الكشف» ك «الجامع» وقال: رواه أحمد وأبو داود
229-
والحاكم والطّبراني في «الكبير» ؛ عن ابن عمر رفعه، وفي سنده ضعيف كما في «اللآلي» و «المقاصد» . لكن قال العراقي: سنده صحيح.
وله شاهد عند البزار؛ عن حذيفة وأبي هريرة، وعند أبي نعيم في «تاريخ أصبهان» ؛ عن أنس، وعند القضاعي؛ عن طاووس مرسلا، وصححه ابن حبّان.
وتقدّم في «إنّما العلم بالتّعلّم» في أثر عن الحسن: قلّما تشبّه رجل بقوم إلّا كان منهم. وقال النّجم: قلت: روى العسكري عن حميد الطّويل؛ قال: كان الحسن يقول: إذا لم تكن حليما فتحلّم، وإذا لم تكن عالما فتعلّم؛ فقلّما تشبّه رجل بقوم إلا كان منهم. انتهى.
229-
( «من تعلّق بشيء) - قال في «النّهاية» : أي: من علّق على نفسه شيئا من التّعاويذ والتّمائم وأشباهها، معتقدا أنها تجلب نفعا، أو تدفع عنه ضرّا- (وكل إليه» ) أي: وكلّ الله شفاءه إلى ذلك الشّيء فلا ينفع.
أما إذا اعتقد أنّ الشّفاء من الله تعالى حقيقة، وأنّ هذا الدواء أو هذه التميمة أسباب عادية!! فلا بأس به، إذ الأسباب لا تنافي التّوكّل؛ قاله الحفني.
وكذلك من علّق شيئا من أسماء الله الصريحة، فهو جائز بل مطلوب محبوب، فإن من وكّل إلى أسماء الله أخذ الله بيده.
وأمّا قول ابن العربي «السنّة في الأسماء والقرآن الذكر؛ دون التعليق» !! فممنوع. انتهى «مناوي» .
والحديث ذكره في «الجامع» مرموزا له برمز الإمام أحمد والتّرمذي والحاكم؛ عن عبد الله بن عليم- بالتصغير- الجهني، أبو سعيد الكوفي، أدرك المصطفى صلى الله عليه وسلم ولم يره، فروى عن عمر وغيره، وقد سمع كتاب النّبي صلى الله عليه وسلم إلى جهينة. انتهى «مناوي» .
230-
«من حسن إسلام المرء.. تركه ما لا يعنيه» .
230-
( «من حسن) فائدة الإتيان به!! الإشارة إلى أنّه لا عبرة بصور الأعمال فعلا وتركا، إلّا إذا اتّصفت بالحسن، بأن وجدت شروط مكمّلاتها؛ فضلا عن مصحّحاتها، وجعل ترك ما لا يعني من الحسن مبالغة ذلك، لأنّ الحسن من وصف الملكات؛ والترك عدميّ، فوصفه بوصف الملكات مبالغة.
(إسلام المرء) آثره على الإيمان!! لأنّه الأعمال الظّاهرة، والفعل والترك إنّما يتعاقبان عليها، لأنّها حركات اختيارية يتعاقبان فيها اختيارا، وأمّا الباطنة الرّاجعة للإيمان! فهي اضطرارية؛ تابعة لما يخلقه الله تعالى في النّفوس، ويوقعه فيها.
وهذا من المواضع الّتي يجب فيها تقديم الخبر على المبتدأ، لئلّا يعود الضّمير فيه على المتأخّر لفظا ورتبة، لما في المبتدأ من ضمير يعود على متعلّق الخبر؛ فهو من باب «على التّمرة مثلها زبدا» ، فقوله:«من حسن إسلام المرء» ، خبر مقدّم، والمبتدأ هو قوله (تركه) - مصدر مضاف لفاعله- (ما) - أي: شيئا، أعمّ من أن يكون قولا أو فعلا- (لا يعنيه» ) بفتح أوله؛ من «عناه الأمر» ؛ إذا تعلقت عنايته به، وكان من غرضه وإرادته.
ومفهومه: أنّ من قبح إسلام المرء أخذه فيما لا يعنيه.
والّذي «لا يعني» هو: الفضول كلّه على اختلاف أنواعه.
والّذي «يعني» الإنسان من الأمور: ما تعلّق 1- بضرورة حياته في معاشه؛ مما يشبعه من جوع، ويرويه من عطش، ويستر عورته، ويعفّ فرجه، ونحو ذلك مما يدفع الضّرورة؛ دون ما فيه تلذّذ وتنعّم واستكثار.
و2- سلامته في معاده، وهو الإسلام والإيمان والإحسان، فإذا اقتصر على ما يعنيه سلم من سائر الآفات، وجميع الشرور، والمخاصمات، وكان ذلك من الفوائد الدّالّة على حسن إسلامه، ورسوخ إيمانه، وحقيقة تقواه، ومجانبته لهواه، ومعاناة ما عداه ضياع للوقت النّفيس، الّذي لا يمكن أن يعوّض فائته فيما
231-
«من رتع
…
لم يخلق لأجله. فمن عبد الله على استحضار قربه من ربه، أو قرب ربّه منه؛ فقد حسن إسلامه- كما مرّ-.
وأخذ النّووي من هذا الخبر: أنّه يكره أن يسأل الرّجل فيم ضرب امرأته.
قال بعضهم: وممّا لا يعني العبد تعلّمه ما لا يهمّ من العلوم وتركه أهمّ منه، كمن ترك تعلّم العلم الذي فيه صلاح نفسه، واشتغل بتعلّم ما يصلح به غيره، كعلم الجدل؛ ويقول في اعتذاره «نيتي نفع النّاس» ، ولو كان صادقا؛ لبدأ باشتغاله بما يصلح نفسه وقلبه، من إخراج الصّفات المذمومة؛ من نحو حسد ورياء، وكبر وعجب، وتطاول على الأقران، ونحوها من المهلكات. انتهى «مناوي على «الجامع» ، ومن شرح ابن حجر على «الأربعين النوويّة» .
والحديث ذكره في «الجامع» ، و «الأربعين النووية» ، و «كشف الخفا» ؛ وقالوا: رواه الإمام أحمد، والتّرمذي، وابن ماجه، وأبو يعلى؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه.
ورواه الإمام أحمد، والطبراني؛ عن الحسن بن علي. ورجالهما ثقات.
ورواه الحكيم في «الكنى والألقاب» ؛ عن أبي بكر، والشيرازيّ؛ عن أبي ذر، والعسكري، والحاكم في «تاريخ نيسابور» ؛ عن علي بن أبي طالب، والطّبرانيّ في «الأوسط» ، عن زيد بن ثابت، وابن عساكر في «التّاريخ» ؛ عن أبي عبد الرحمن: الحارث بن هشام بن المغيرة المخزوميّ المكيّ رفعوه، وقد أوضحه السّخاوي في تخريج أحاديث «الأربعين النووية» .
قال المناوي على «الجامع» : وأشار باستيعاب مخرجيه!! إلى تقوّيه وردّ زعم جمع ضعّفه، ومن ثمّ حسّنه النّووي، بل صحّحه ابن عبد البر، وبذكره خمسة من الصّحابة إلى ردّ قول آخرين لا يصح إلّا مرسلا. انتهى.
231-
( «من رتع) بفتح المثناة الفوقية فيه وفي مضارعه، أي: رعى مواشيه
حول الحمى.. يوشك أن يواقعه» .
232-
«من رضي بقسمة الله.. استغنى» .
(حول) - يعني جانب- (الحمى) - بكسر الحاء المهملة وفتح الميم مخففة، أي: المكان المحميّ، والمراد به موضع الكلأ الذي منع منه الغير، وتوعّد من رعى فيه- (يوشك) - بكسر الشين مضارع «أوشك» بفتحها أي: يقرب- (أن يواقعه» ) ؛ أي: تأكل ماشيته منه؛ فيعاقب.
شبّه أخذ الشهوات بالراعي، والمحارم بالحمى، والشّبهات بما حوله، فكما أنّ الرّاعي الخائف من عقوبة السلطان يبعد، لأنّه يلزم من القرب منه الوقوع وإن كثر الحذر؛ فيعاقب، كذلك حمى الله تعالى؛ أي: محارمه الّتي حظرها لا ينبغي قرب حماها؛ فضلا عنها، لغلبة الوقوع فيها حينئذ فيستحقّ العقوبة، وأنّ الّذي ينبغي تحرّي البعد عنها، وعمّا يجرّ إليها من الشّبهات ما أمكن، حتّى يسلم من ورطتها.
ومن ثمّ قال تعالى تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها [187/ البقرة] ، نهى عن المقاربة حذرا من المواقعة! والقصد إقامة البرهان على تجنّب الشّبهات، لأنّه لمّا كان حمى الله لا يدركه إلّا ذو البصائر؛ كان فيه نوع خفاء فضرب له المثل بالمحسوس، بخلاف حمى الملوك، فإنّه محسوس يحترز عنه كلّ بصير. انتهى ابن حجر «شرح الأربعين» ، ومناوي على «الجامع» .
وهذا قطعة من حديث أخرجه أهل الكتب السّتّة: البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه؛ عن النّعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما، وله فوائد جمّة أفردت بالتّأليف، حتى قال بعضهم: إنّه عليه نور النّبوة، عظيم الموقع من الشّريعة.
232-
( «من رضي بقسمة الله) - تعالى أي: قنع بما أعطاه الله تعالى؛ ولم يتضجّر، ولم يتسخّط، وشكر الله- (استغنى» ) : اتّصف بالغنى الحقيقي الّذي هو الغنى عن الشّيء؛ لا به، وهو القناعة المحمودة، الّتي توجد في أفراد من النّاس، فليحمد الله على ما أكرمه الله به.
233-
«من رضي عن الله.. رضي الله عنه» .
والحديث ذكره في «الكنوز» مرموزا له برمز أبي الشيخ بن حيّان.
233-
( «من رضي عن الله) ؛ بأن سلّم لقضائه وقدره، من ضيق عيش وبلاء بدن، وفقد ولد؛ مثلا، فلا يتسخّط ولا يتشكّى- رضي الله عنه» ) أي: أثابه وأدخله الجنّة ونعمه. قال الطّيبي: ولعلوّ هذه المرتبة التي هي الرّضا من الجانبين خصّ الله كرام الصّحب بها، حيث قال رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [8/ البينة] .
قال بعضهم: رضا العبد عن الله: ألايختلج في سرّه أدنى حزازة من وقوع قضاء من أقضيته، بل يجد في قلبه لذلك برد اليقين، وثلج الصّدور، وشهود المصلحة، وزيادة الطّمأنينة.
ورضا الله عن العبد: تأمينه من سخطه، وإحلاله دار كرامته.
وقال السهروردي: الرّضا يحصل لانشراح القلب، وانفساحه، وانشراح القلب من نور اليقين، فإذا تمكّن النّور من الباطن؛ اتّسع الصّدر، وانفتحت عين البصيرة، وعاين حسن تدبير الله، فينزع السّخط والتّضجّر، لأنّ انشراح الصّدر؛ يتضمن حلاوة الحب، وفعل المحبوب، بموقع الرّضا عند المحبّ الصّادق، لأنّ المحبّ يرى أنّ الفعل من المحبوب مراده واختياره، فيفنى في لذّة اختيار المحبوب عن اختيار نفسه.
وقال بعض العارفين: الرّضا عن الله باب الله الأعظم وجنّة الدّنيا ولذّة العارفين، والرّاضوان عن الله في الجنّة، وهم في الدّنيا راضون عنه؛ متلذّذون بمجاري أقضيته، سليمة صدورهم من الغل، مطهّرة قلوبهم عن الفساد، لا يتحاسدون ولا يتباغضون. انتهى مناوي على «الجامع» .
والحديث ذكره في «الجامع» ، وقال: أخرجه ابن عساكر في «تاريخه» ، عن عائشة رضي الله عنها.
234-
«من سرّته حسنته وساءته سيّئته.. فهو مؤمن» .
234-
( «من سرّته حسنته) ؛ أي: فرح بها لكونه راجيا ثوابها موقنا بنفعها، (وساءته سيّئته) ؛ أي: حصل له همّ وغمّ بارتكابها؛ (فهو مؤمن» ) كامل الإيمان، لأنّ هذا شأن من أيقن أنّ الله تعالى لا يخفى عليه شيء، وأنّه يجازيه بعمله، وأمّا من لا يرى للحسنة فائدة ولا للمعصية آفة؛ فذلك يكون من استحكام الغافلة على قلبه، فإيمانه ناقص، ولهذا قال ابن مسعود- فيما خرّجه الحكيم التّرمذي-:
بأنّ المؤمن إذا أذنب فكأنّه تحت صخرة يخاف أن تقع عليه فتقتله، والمنافق يرى ذنبه كذباب مرّ على أنفه.
فعلامة المؤمن أن توجعه المعصية حتّى يسهر ليله فيما حلّ بقلبه من وجع الذّنب، ويقع في العويل كالّذي فارق محبوبه من الخلق بموت أو غيره، فيتفجّع لفراقه فيقع في النّحيب.
نعم السّرور بالحسنة مقيّد في أخبار أخر؛ بأنّ شرطه ألاينتهي إلى العجب بها، فيسرّ بما يرى من طاعته فيطمئنّ بأفعاله؛ غافلا عن منّة الله فيها، فيكون قد انصرف عن الله إلى نفسه العاجزة الحقيرة الضّعيفة الأمّارة اللّوّامة، فيهلك. ولهذا قال بعض العارفين: ذنب يوصل العبد إلى الله تعالى خير من عبادة تصرفه عنه، وخطيئة تفقره إلى الله خير من طاعة تغنيه عن الله تعالى.
معصية أورثت افتقارا
…
خير من الطّاعة واستكبارا
والحديث ذكره المناوي في «كنوز الحقائق» ، والسيّوطي في «الجامع الصغير» مرموزا له برمز الطّبراني في «الكبير» ؛ عن أبي موسى الأشعري بإسناد ضعيف.
ورواه الطّبراني عن أبي أمامة باللّفظ المذكور، قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. وأخرجه النّسائي في «الكبرى» باللفظ المزبور؛ عن عمر، فساق
235-
بإسناده إلى جابر بن سمرة: أنّ عمر خطب النّاس فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سرّته
…
» الخ.
قال الحافظ العراقي في «أماليه» : صحيح على شرط الشّيخين.
وأخرجه أحمد في «المسند» بلفظ: «من ساءته سيّئته وسرّته حسنته فهو مؤمن» قال- أعني العراقي-: حديث صحيح. انتهى مناوي على «الجامع» .
235-
( «من صمت) ؛ أي: سكت عن النطق بما لا يعنيه، أي:
ما لا ثواب فيه، (نجا» ) من العقاب والعتاب يوم الماب، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: «كفّ عنك هذا، وهل يكبّ النّاس
…
» الحديث، ولذا جعل للّسان حبسان: الأسنان والشّفتان.
قال الغزالي: هذا من فصل الخطاب وجوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، وجواهر حكمه، ولا يعرف ما تحت كلماته من بحار المعاني؛ إلّا خواصّ العلماء، وذلك أنّ خطر اللّسان عظيم، وآفاته كثيرة؛ من نحو كذب، وغيبة، ونميمة، ورياء، ونفاق، وفحش، ومراء، وتزكية نفس، وخوض في باطل، ومع ذلك إنّ النّفس تميل إليها لأنها سبّاقة إلى اللّسان، ولها حلاوة في القلب، وعليها بواعث من الطّبع والشّيطان، فالخائض فيها قلّما يقدر على أن يلزم لسانه، فيطلقه فيما يحبّ، ويكفّه عما لا يحبّ، ففي الخوض خطر، وفي الصّمت سلامة؛ مع ما فيه من جمع الهمّ، ودوام الوقار، وإفراغ الفكر للعبادة، والذكر، والسّلامة من تبعات القول في الدّنيا، ومن حسابه في الآخرة.
قال ابن حجر رحمه الله تعالى: الأحاديث الواردة في الصمت وفضله؛ ك «من صمت نجا» ، وحديث ابن أبي الدّنيا بسند رجاله ثقات:«أيسر العبادة الصّمت» !! لا تعارض حديث ابن عباس الّذي جزم بقضيّته الشّيخ في «التّنبيه» من النّهي عن صمت يوم إلى اللّيل، لاختلاف المقاصد في ذلك، فالصّمت المرغّب فيه
236-
«من ضمن لي ما بين لحييه، وما بين رجليه ضمنت له على الله الجنّة» .
ترك الكلام الباطل، وكذا المباح؛ إن جرّ إليه، والصّمت المنهيّ عنه ترك الكلام في الحقّ لمن يستطيعه، وكذا المباح المستوي الطّرفين. انتهى مناوي على «الجامع الصغير» .
والحديث ذكره في «الجامع الصغير» مرموزا له برمز الإمام أحمد، والتّرمذي في الزّهد؛ عن ابن عمرو بن العاص، وقال: غريب لا نعرفه، إلّا من حديث ابن لهيعة.
قال النّووي في «الأذكار» بعد ما عزاه للتّرمذي: إسناده ضعيف، وإنّما ذكرته!! لأبيّنه لكونه مشهورا.
وقال الزّين العراقي: سند التّرمذي ضعيف، وهو عند الطّبراني بسند جيّد.
وقال المنذري: رواة الطّبراني ثقات. انتهى. وقال ابن حجر: رواته ثقات.
انتهى مناوي على «الجامع» .
236-
( «من ضمن لي) - من الضمان بمعنى الوفاء بترك المعصية، فأطلق الضّمان وأراد لازمه وهو أداء الحقّ الّذي عليه-
(ما بين لحييه) ؛ بفتح اللّام وسكون المهملة، والتّثنية: هما العظمان بجانبي الفمّ، وأراد بما بينهما اللّسان وما يتأتّى به النّطق.
(وما بين رجليه) ؛ أي: الفرج، ترك التّصريح به استهجانا له واستحياء، لأنّه كان أشدّ حياء من العذراء في خدرها.
والمعنى: من أدّى الحقّ الّذي على لسانه، من النّطق بما يجب عليه أو الصّمت عما لا يعنيه، وأدّى الحقّ الّذي على فرجه من وضعه في الحلال، وكفّه عن الحرام.
(ضمنت له على الله الجنّة» ) أي: دخوله إياها؛ قاله الحافظ وغيره.
وقال الدّاودي أحمد بن نصر المالكي: المراد بما بين اللّحيين الفم بتمامه،
.........
فيتناول الأقوال كلّها والأكل والشّرب وسائر ما يتأتّى بالفم من النّطق، والفعل؛ كتقبيل وعضّ وشتم.
قال- أعني الدّاودي-: ومن تحفّظ من ذلك أمن من الشرّ كلّه، لأنّه لم يبق إلّا السّمع والبصر. قال الحافظ: وخفي عليه أنّه بقي البطش باليدين؛ وإنّما محمل الحديث على أنّ النّطق باللّسان أصل في حصول كل مطلوب، فإذا لم ينطق به إلّا في خير سلم.
وقال ابن بطّال: دلّ الحديث على أنّ أعظم البلايا على المرء في الدّنيا لسانه وفرجه، فمن وقي شرّهما وقي أعظم الشّرّ. انتهى. يعني فخصّهما بالذكر لذلك.
وقال الطّيبي أصل الكلام: من يحفظ ما بين لحييه من اللّسان والفم فيما لا يعنيه من الكلام والطّعام يدخل الجنّة، فأراد أن يؤكّد الوعد تأكيدا بليغا، فأبرزه في صورة التّمثيل ليشير بأنّه واجب الأداء؛ فشبّه صورة حفظ المؤمن نفسه، بما وجب عليه من أمر النّبي صلى الله عليه وسلم ونهيه، وشبّه ما يترتّب عليه من الفوز بالجنّة، وأنّه واجب على الله تعالى بحسب الوعد أداؤه، وأنّه صلى الله عليه وسلم هو الواسطة والشّفيع بينه وبين الله تعالى بصورة شخص له حقّ واجب الأداء على آخر، فيقوم به ضامن منّا يتكفّل له بأداء حقّه، وأدخل المشبّه في جنس صورة المشبّه به، وجعله فردا من أفراده، ثمّ ترك المشبّه به، وجعل القرينة الدّالة عليه ما يستعمل فيه من الضّمان؛ ونحوه في التمثيل إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [111/ التوبة] انتهى. شرح الزّرقاني على «المواهب» ، وشروح «الجامع الصغير» .
والحديث ذكره في «كشف الخفا» ، وفي «المواهب» وقالا: رواه جماعة؛ منهم العسكري عن جابر بهذا اللّفظ مرفوعا.
وأخرجه البخاري في «الرّقاق» و «المحاربين» ، والتّرمذيّ في «الزّهد» ؛ وقال: حسن صحيح غريب؛ كلاهما عن سهل بن سعد السّاعدي بلفظ:
237-
«من عمل بما علم.. ورّثه الله علم ما لم يعلم» .
«من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنّة» . وفي لفظ عند الطّبراني بسند جيد؛ عن أبي رافع: «من توكّل لي ما بين فقميه ورجليه أتوكّل له بالجنّة» ، وفي لفظ آخر:«من تكفّل لي تكفّلت له» . وتكلّم عليها العسكري.
وروى التّرمذي وابن حبّان والحاكم؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه:
«من وقاه الله شرّ ما بين لحييه وشرّ ما بين رجليه دخل الجنّة» ، وفي لفظ عنه «من حفظ ما بين لحييه» .
وللدّيلمي والبيهقي بسند ضعيف؛ عن أنس رفعه:
«من وقي شرّ قبقبه وذبذبه ولقلقه وجبت له الجنّة» .
ولفظ الإحياء «فقد وقي» ؛ بدل «وجبت له الجنّة» .
وفي الباب عن ابن عبّاس وآخرين.
«وقبقبه» - بقافين مفتوحتين وموحدتين؛ أولاهما ساكنة-: البطن؛ من القبقبة، وهي صوت يسمع من البطن.
«وذبذبه» - بذلين معجمتين مفتوحتين وموحّدتين؛ أولاهما ساكنة-:
الذكر.
«ولقلقه» - بلامين مفتوحتين وقافين؛ أولاهما ساكنة-: اللّسان، ويجوز أن يكون القبقبة كناية عن أكل الحرام؛ وفي هذا كلّه تحذير عظيم من شهوتي البطن والفرج، وأنّهما مهلكة ولا يقدر على كسر شهوتهما إلّا الصّدّيقون. انتهى «كشف الخفا» ، وزرقاني على «المواهب» .
237-
( «من عمل بما علم ورّثه الله علم ما لم يعلم» ) أي: العلم اللّدنيّ، الّذي هو موهبة من الله؛ يدرك به العبد ما للنفس من الحظوظ، وما للحقّ من الحقوق، فيترك ما لها من الحظوظ، ويقوم بما للحقّ من الحقوق، وهو معنى قول
.........
وقد ثبت أنّ دقائق علوم الصّوفيّة منح إلهيّة، ومواهب اختصاصيّة؛ لا تنال بمعتاد الطلب.
فلزم مراعاة وجه تحصيل ذلك؛ وهو ثلاث:
الأوّل: العمل بما علم على قدر الاستطاعة.
الثّاني: اللجأ إلى الله تعالى على قدر الهمّة.
الثّالث: إطلاق النّظر في المعاني حال الرجوع لأهل السّنّة، ليحصل الفهم وينتفي الخطأ، ويتيسّر الفتح.
وقد أشار لذلك الجنيد بقوله: ما أخذنا التّصوّف عن القيل والقال، والمراء والجدال، بل عن الجوع والسّهر ولزوم الأعمال.
قال الغزالي: من انكشف له ولو الشيء اليسير؛ بطريق الإلهام والوقوع في القلب من حيث لا يدري؛ فقد صار عارفا بصحّة الطّريق، ومن لم ير ذلك من نفسه! فينبغي أن يؤمن به، فإنّ درجة المعرفة عزيزة جدا.
ويشهد لذلك شواهد الشّرع والتّجارب والوقائع، فكلّ حكم يظهر في القلب بالمواظبة على العبادة من غير تعلّم؛ فهو بطريق الكشف والإلهام.
وقال حجّة الإسلام: يتعيّن أن يكون أكثر الاهتمام بعلم الباطن، ومراقبة القلب، ومعرفة طريق الآخرة وسلوكه، وصدق الرّجاء في انكشاف ذلك من المجاهدة والمراقبة، فإنّ المجاهدة تقضي إلى المشاهدة، فجاهد تشاهد دقائق علم القلوب، وتنفجر منها ينابيع الحكمة من القلب.
.........
أما الكتب في التعليم فلا تفي بذلك، بل الحكمة الخارجة عن الحصر والحدّ، إنّما تنفتح بالمجاهدة، قال: وكم من متعلم طال تعلّمه، ولم يقدر على مجاوزة مسموعه بكلمة، وكم من مقتصر على المهمّ في التّعلّم، ومتوفّر على العمل، ومراقبة القلب؛ فتح الله [له]«1» من لطائف الحكم ما تحار فيه عقول ذوي الألباب. انتهى.
هذا؛ وقد سئل الشيخ عز الدين عن معنى قوله صلى الله عليه وسلم «من عمل بما علم ورّثه الله علم ما لم يعلم» : وما العلم الّذي إذا عمل به ورث؟، وما العلم الموروث؟، وما صفة التّوريث؛ أهو العلم أو غيره؟! فبعض النّاس قال: إنّما هذا مخصوص بالعالم- يعني: أنّه إذا عمل بعلمه ورّث ما لم يعلم، بأن يوفّق ويسدّد إذا نظر في الوقائع-، فهل يصحّ هذا الكلام أم لا.
أجاب: معنى الحديث أنّ من عمل بما يعلمه، من واجبات الشّرع ومندوباته، واجتناب مكروهاته ومحرماته؛ أورثه الله من العلم الإلهي ما لم يعلمه من ذلك، كقوله تعالى وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا
[69/ العنكبوت] . هذا هو الظّاهر من الحديث المتبادر إلى الفهم، ولا يجوز حمله على أهل النّظر في علوم الشّرع، لأنّ ذلك تخصيص للحديث بغير دليل، وإذا حمل على ظاهره وعمومه دخل فيه الفقهاء وغيرهم. انتهى.
وقال الإمام مالك: علم الباطن لا يعرفه إلّا من عرف علم الظّاهر، فمن علم الظّاهر وعمل به فتح الله عليه علم الباطن، ولا يكون ذلك إلّا مع فتح قلبه وتنويره.
وقال: ليس العلم بكثرة الرّواية، وإنّما العلم نور يقذفه الله في القلب. يشير إلى علم الباطن.
قال يحيى بن معاذ: التقى ابن أبي الحواري وأحمد بن حنبل، فقال أحمد:
حدّثنا بحكاية سمعتها من أستاذك الدّاراني. فقال: يا أحمد؛ قل: سبحان الله وطوّلها بلا عجب. قال: سبحان الله وطوّلها بلا عجب.
(1) زيادة يقتضيها السياق.
238-
قال: سمعته يقول: إذا اعتقدت النّفس على ترك الآثام جالت في الملكوت، وعادت إلى ذلك العبد بطرائف الحكمة؛ من غير أن يؤدي إليها عالم علما.
فقام أحمد وقعد «ثلاثا» ؛ وقال: ما سمعت في الإسلام بحكاية أعجب من هذه. ثمّ ذكر حديث «من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم» .
قال التّونسيّ: اجتمع العارف علي وفا والإمام البلقيني، فتكلّم عليّ معه بعلوم بهرت عقله. فقال البلقيني: من أين لك هذا؛ يا علي! قال: من قوله تعالى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [282/ البقرة] فأسكت. انتهى. من شروح «الجامع الصغير» .
والحديث ذكره في «كنوز الحقائق» ؛ مرموزا له برمز الطّبراني، وذكره في «الكشف» ، وقال: رواه أبو نعيم؛ عن أنس رضي الله عنه.
238-
( «من غشّنا) - أي: لم ينصحنا وزيّن لنا غير المصلحة- (فليس منّا» ) أي: ليس على طريقتنا ومنهاجنا، لأن طريقتنا الزّهد في الدّنيا، والرّغبة عنها، وعدم الرّغبة والطّمع الباعثين على الغشّ.
قال الطّيبي: لم يرد نفيه عن الإسلام، بل نفي خلقه عن أخلاق المسلمين.
أي: ليس هو على سنّتنا وطريقتنا من مناصحة الإخوان، كما يقول الإنسان لصاحبه (أنا منك) يريد الموافقة والمتابعة، قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي [36/ إبراهيم] .
وهذا قاله صلى الله عليه وسلم لمّا مرّ على صبرة طعام فأدخل يده فيها؛ فابتلّت أصابعه.
فقال: «ما هذا» ! قال: أصابته السماء. قال: «أفلا جعلته فوق الطّعام ليراه النّاس» ! فذكر الحديث.
رواه مسلم في «صحيحه» ؛ من حديث أبي هريرة بزيادة: «ومن حمل علينا السّلاح فليس منّا» . وفي رواية له أيضا: «من غشّ فليس منّي» .
239-
«من فارق الجماعة شبرا.. فقد خلع ربقة الإسلام» .
وأخرجه العسكري بلفظ التّرجمة، وزاد «قيل يا رسول الله؛ ما معنى ليس منّا!! - قال- ليس مثلنا» . وعند أبي نعيم والطّبراني في «الكبير» و «الصغير» برجال ثقات؛ عن ابن مسعود رفعه:«من غشّنا فليس منّا، والمكر والخداع في النّار» ؛ أي: صاحبهما يستحقّ دخول النّار إن لم يعف الله عنه، لأن الداعي إلى ذلك الحرص والشّحّ والرغبة في الدّنيا، وذلك يجرّ إلى النّار. وأخذ الذّهبي أنّ الثلاثة من الكبائر، فعدّها منها. وللدّارقطني بسند ضعيف؛ عن أنس:«من غشّ أمّتي فعليه لعنة الله» انتهى زرقاني على «المواهب» .
239-
( «من فارق) بقلبه ولسانه واعتقاده، أو ببدنه ولسانه (الجماعة) المعهودين؛ وهم جماعة المسلمين.
قال العامريّ في «شرح الشهاب» : لفظ الجماعة ينصرف لجماعة المسلمين لما اجتمع فيهم من جميل خصال الإسلام، ومكارم الأخلاق، وترقّي السّابقين منهم إلى درجة الإحسان؛ وإن قلّ عددهم، حتّى لو اجتمع التّقوى والإحسان في واحد كان هو الجماعة. انتهى.
(شبرا) أي: قدر شبر. كنى به عن ترك السّنّة والتمسّك بالبدعة؛ ولو بأدنى نوع من أنواع التّرك، أو بأقلّ سبب من أسباب الفرقة؛
(فقد خلع ربقة الإسلام» ) من عنقه، أي: أهمل حدود الله وأوامره ونواهيه، وتركها بالكليّة. قال في «النّهاية» : مفارقة الجماعة ترك السّنّة واتّباع البدعة، والرّبقة- في الأصل-: عروة تجعل في عنق البهيمة أو يدها، تمسكها. فاستعارها للإسلام، يعني: ما يشدّ به المسلم نفسه من عرى الإسلام؛ أي: حدوده وأحكامه وأوامره ونواهيه. انتهى.
والحديث ذكره في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الإمام أحمد، وأبو داود والحاكم؛ عن أبي ذرّ.
240-
«من كثّر سواد قوم.. فهو منهم» .
وأخرجه الإمام أحمد؛ عن رجل من أصحاب النّبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأنا آمركم بخمس إلى أن قال: «فمن خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من رأسه» الحديث، ورجاله ثقات رجال الصّحيح، خلا عليّ بن إسحاق السّلمي وهو ثقة. ورواه الطّبراني باختصار؛ إلّا أنّه قال «من فارق الجماعة قيد قوس، لم تقبل منه صلاة ولا صيام، وأولئك هم وقود النّار» .
ورواه الطّبراني؛ عن معاذ بن جبل قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا إنّ الجنّة لا تحلّ لعاص- إلى أن قال- ومن خرج من الجماعة قيد شبر متعمّدا؛ فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه»
…
الحديث. وفي سنده عمرو بن واقد وهو متروك.
وأخرجه الطّبراني؛ عن أبي الدّرداء قال: قام فينا رسول الله- إلى أن قال:
«ومن خرج من الطّاعة شبرا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه»
…
الحديث، وفي سنده عمرو بن رويبه. وهو متروك.
وأخرجه البزّار والطّبراني في «الأوسط» ؛ عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من فارق الجماعة قياس- أو قيد- شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه»
…
الحديث. وفي سنده خليد بن دعلج، وهو ضعيف؛ ذكره في «مجمع الزوائد» .
240-
( «من كثّر سواد قوم) ؛ بأن عاشرهم وناصرهم وسكن معهم (فهو منهم» ) وإن لم يكن من قبيلتهم أو بلدهم؛ يعني: أنّ له حكمهم من صلاح وغيره، وفيه تلميح إلى مجانبة أعداء الله ومباعدتهم، والتحرّز عن مخالطتهم، وعن التشبّه بهم إذ صدور ذلك من المسلم دالّ على ضعف إيمانه، لأنّ المشابهة والمشاكلة في الأمور الظّاهرة توجب مشابهة ومشاكلة في الأمور الباطنة، والمشاركة في الهدي الظّاهر توجب مناسبة وائتلاف؛ وإن بعد المكان والزّمان، وهذا أمر محسوس،
241-
«من كنت مولاه.. فعليّ مولاه» .
فمرافقتهم ومساكنتهم- ولو قليلا- سبب ومظنة لاكتساب أخلاقهم وأفعالهم المذمومة، بل هي سبب لمشابهتهم في نفس الاعتقادات، فيصير مساكن الكافر مثله.
وأيضا المشاركة في الظّاهر تورث نوع مودّة ومحبّة وموالاة في الباطن، كما أنّ المحبّة في الباطن تورّث المشابهة، وهذا مما يشهد به الحس، فإن الرّجلين إذا كانا من بلد؛ واجتمعا في دار غربة كان بينهما من المودّة والائتلاف أمر عظيم بموجب الطبع، وإذا كانت المشابهة في أمور دنيوية تورّث المحبّة والموالاة؛ فكيف المشابهة في الأمور الدينية!! انتهى «مناوي» .
والحديث ذكره في «كشف الخفا» ؛ وقال: رواه أبو يعلى، وعلي بن معبد في «كتاب الطاعة» أنّ رجلا دعا ابن مسعود إلى وليمة، فلما جاء ليدخل سمع لهوا؛ فلم يدخل، فقيل له!! فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كثّر سواد قوم فهو منهم، ومن رضي عمل قوم كان شريك من عمل» . وهكذا عند الدّيلمي بهذه الزيادة.
ولابن المبارك في «الزّهد» ؛ عن أبي ذرّ نحوه موقوفا، وشاهده حديث:
«من تشبّه بقوم فهو منهم» وتقدّم. انتهى. وذكره في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز أبي يعلى.
241-
( «من كنت مولاه) أي: وليّه وناصره (فعليّ مولاه» ) .
قال الشّافعي: أراد بذلك ولاء الإسلام، لقوله تعالى ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (11)[محمد] انتهى «عزيزي» .
وخصّ سيدنا عليّا لمزيد علمه، ودقائق مستنبطاته وفهمه، وحسن سيرته، وصفاء سريرته، وكرم شيمته، ورسوخ قدمه.
قيل: سببه أنّ أسامة قال لعلي: لست مولاي، إنّما مولاي رسول الله صلى الله عليه وسلم!.
242-
فقال النّبي صلى الله عليه وسلم: «من كنت مولاه فعليّ مولاه» .
قال ابن حجر: حديث كثير الطّرق جدا استوعبها ابن عقدة في كتاب مفرد؛ منها صحاح، ومنها حسان، وفي بعضها: قال ذلك يوم غدير خمّ.
وزاد البزّار في رواية: «اللهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه، وأحبّ من أحبّه، وأبغض من أبغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله» .
ولا حجّة في ذلك على تفضيله على الشّيخين؛ كما هو مقرّر في محلّه من فن الأصول. انتهى مناوي على «الجامع» .
وذكره «في كشف الخفا» وقال: رواه الطّبراني، وأحمد، والضياء في «المختارة» ؛ عن زيد بن أرقم وعليّ وثلاثين من الصّحابة بلفظ:«اللهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه» . فالحديث متواتر؛ أو مشهور. انتهى.
وذكره في «الجامع الصغير» ، وفي «الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة» للجلال السّيوطي رحمه الله تعالى.
242-
( «من لا يرحم) بالبناء للفاعل ( «لا يرحم» ) بالبناء للمفعول، أي:
من لا يكون من أهل الرّحمة لا يرحمه الله، أو من لا يرحم النّاس بالإحسان لا يثاب من قبل الله هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ (60)[60/ الرحمن] .
قال ابن أبي جمرة: يحتمل أن يكون المعنى: من لا يرحم نفسه بامتثال أوامر الله تعالى واجتناب نواهيه؛ لا يرحمه الله في الآخرة. انتهى.
وهو بالرّفع فيها [يرحم؛ يرحم]«1» على الخبر، وبالجزم [يرحم، يرحم]«1» على أنّ «من» موصولة أو شرطيّة، ورفع الأول وجزم الثاني [يرحم، يرحم]«1» وعكسه [يرحم، يرحم]«1» .
(1) إضافة اقتضاها الإيضاح. (عبد الجليل) .
243-
«من لم يكن ذئبا.. أكلته الذّئاب» .
244-
قال ابن بطّال: وفيه الحضّ على استعمال الرّحمة لجميع الخلق، فيدخل المؤمن والكافر والبهائم، ويدخل في الرّحمة التّعاهد بالإطعام والسّقي، والتّخفيف من الحمل، وترك التعدي بالضرب، انتهى شروح «الجامع الصغير» .
والحديث أخرجه الشيخان وغيرهما؛ عن أبي هريرة وجرير بن عبد الله البجلي وغيرهما: البخاري في «كتاب الأدب؛ باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته» ، وفي «باب رحمة النّاس والبهائم» واللّفظ له، ومسلم في كتاب الفضائل؛ باب رحمته صلى الله عليه وسلم الصّبيان وتواضعه وفضل ذلك
…
الخ
وهو حديث متواتر ذكره السّيوطي في «الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة» عن عدّة من الصّحابة رضوان الله عليهم.
وسببه أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قبّل الحسين، فقال الأقرع بن حابس: لي عشرة من الولد ما قبّلت منهم أحدا! فنظر إليه
…
فذكر الحديث. انتهى.
وبمعناه حديث الرحمة المسلسل بالأولية، وهو قوله عليه الصلاة والسلام:«الرّاحمون يرحمهم الرّحمن تبارك وتعالى، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السّماء» .
وقد ذكرت من أخرجه في رسالتي «إعانة رب البرية على تراجم رجال الحديث المسلسل بالأولية» مع ذكر إسنادي المسلسل به؛ فليراجع ذلك من شاء فيها. والله أعلم.
243-
( «من لم يكن ذئبا أكلته الذّئاب» ) ؛ أخرجه الطّبراني في «الأوسط» ؛ عن أنس رفعه بلفظ: «يأتي على النّاس زمان هم ذئاب، فمن لم يكن ذئبا أكلته الذّئاب» .
قال الحافظ الهيثمي في «مجمع الزوائد» : وفيه من لم أعرفهم. انتهى.
244-
( «من مزح استخفّ به» ) أي: هان على النّاس، ونظروا إليه بعين
245-
«من نوقش الحساب
…
الاحتقار والهوان فاحفظ لسانك منه، فإنّه يسقط المهابة، ويريق ماء الوجه، ويستجرّ الوحشة، ويؤذي القلوب، وهو مبدأ اللّجاج والغضب والتّضارب، ومغرس الحقد في القلوب، فإن مازحك غيرك! فأعرض عنهم حتّى يخوضوا في حديث غيره، وكن من الّذين إذا مرّوا باللّغو مروا كراما. انتهى.
وقال في الأذكار: المزاح المنهيّ عنه ما فيه إفراط ومداومة، فإنّه يورّث الضّحك والقسوة ويشغل عن الذّكر والفكر في مهمات الدّين؛ فيورّث الحقد، ويسقط المهابة والوقار، وما سلم من ذلك هو المباح الّذي كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يفعله، فإنّه إنّما كان يفعله نادرا لمصلحة، كموانسة وتطييب نفس المخاطب، وهذا لا منع منه قطعا، بل هو مستحبّ. انتهى.
والحديث ذكره في «الكنوز» مرموزا له برمز ابن عساكر، وذكره في «الجامع الصغير» مرموزا له برمز الدّيلمي، في «مسند الفردوس» ؛ عن أنس رضي الله عنه؛ لكن بلفظ:«الصّمت سيّد الأخلاق، ومن مزح استخفّ به» .
قال المناوي: وتمامه «ومن حمل الأمر على القضاء استراح» . انتهى.
وفي كتاب «كشف الخفا» للعجلوني: الصّواب أنّه من قول عمر، وأنّ الأحنف قال: قال لي عمر: يا أحنف؛ من كثر ضحكه قلّت هيبته، ومن مزح استخفّ به، ومن أكثر من شيء عرف به، ومن كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه قل حياؤه، ومن قل حياؤه قل ورعه، ومن قلّ ورعه مات قلبه.
ورواه ابن عساكر وقال: غريب الإسناد والمتن عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: «من كثر ضحكه استخفّ بحقّه، ومن كثرت دعابته ذهبت جلالته، ومن كثر مزاحه ذهب وقاره، ومن شرب الماء على الرّيق ذهب بنصف قوّته، ومن كثر كلامه كثرت خطاياه، ومن كثرت خطاياه فالنّار أولى به» . انتهى.
245-
( «من نوقش) بضم النّون وكسر القاف (الحساب) - بالنّصب؛ بنزع
عذّب» .
الخافض، أي: من ضويق في حسابه بحيث سئل عن كل شيء؛ فاستقصي في حسابه حتّى لم يترك منه شيء من الكبائر ولا من الصّغائر إلّا وأوخذ به (عذّب» ) بضمّ أوّله وكسر الذّال المعجمة- أي: تكون تلك المضايقة عذابا، لما فيها من التّوبيخ، أو إنها سبب يفضي إلى العذاب، لأنّ التّقصير غالب على العباد، فمن استقصي عليه ولم يسامح هلك وعذب؛ أي: ومن لم يناقش الحساب لا يعذب، بل يحاسب حسابا يسيرا، أو لا يحاسب أصلا.
قال الحكيم التّرمذي: يحاسب المؤمن في القبر ليكون أهون عليه في الموقف فيمحّص في البرزخ؛ فيخرج وقد اقتصّ منه. انتهى مناوي وحفني على «الجامع» .
والحديث أخرجه البخاري ومسلم، وأبو داود والتّرمذي؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها وتمامه: قالت عائشة: فقلت أليس يقول الله فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8)[الانشقاق] ؛ أي: سهلا هيّنا بأن يجازى على الحسنات الّتي صدرت منه في حياته، ويتجاوز عن سيئاته!؟ قال:«ذلك- بكسر الكاف- العرض» - بفتح العين المهملة وسكون الرّاء- أي: عرض أعمال المؤمن عليه حتى يعرف منّة الله تعالى عليه في سترها عليه عن النّاس في الدّنيا، وفي عفوه عنها في الآخرة، فله الحمد على منّته على عباده المؤمنين وإتحافهم بسعادتهم في الدّارين.
وللإمام أحمد من وجه آخر؛ عن عائشة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بعض صلاته «اللهمّ حاسبني حسابا يسيرا» فلما انصرف قلت: يا رسول الله؛ ما الحساب اليسير؟! قال: «أن ينظر في كتابه فيتجاوز له عنه، إنّ من نوقش الحساب يا عائشة يومئذ هلك» انتهى.
فعائشة رضي الله عنها فهمت أنّ الحديث معارض للآية!! لأنّ «من» من صيغ العموم، فظنّت أنّ كلّ من حوسب معذّب؛ مع أنّ ظاهر قوله تعالى فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8)[الانشقاق] دالّ على أنّ الحساب لا يستلزم العذاب فأزال صلى الله عليه وسلم الإشكال
246-
«منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب دنيا» .
عنها بقوله «ذلك العرض» ، فاقتنعت، مع أنّها رضي الله عنها لو تأمّلت في قوله «من نوقش الحساب» لعلمت أنّ هذا الحديث لا يعارض قوله تعالى فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8)[الانشقاق] ، لأن الآية خاصّة بمن أوتي كتابه بيمينه دون غيره، فلذلك وصف تعالى حسابه بكونه حسابا يسيرا، والحساب غير المناقشة، بل هو العرض الّذي تقدّم معناه، ولذلك أجابها النّبي صلى الله عليه وسلم بقوله «ذلك العرض» ، هذا ما تبادر للذّهن.
قال شيخ مشايخنا في «زاد المسلم في ما اتفق عليه البخاري ومسلم» قال:
وبنحوه ساق الأبّي كيفيّة جوابه صلى الله عليه وسلم لها على مقتضى القواعد المنطقيّة حيث قال في شرح هذا الحديث: فهمت رضي الله عنها أنّ الحديث معارض للآية، لأنّ الحديث في قوّة موجبة كلية؛ أي: كلّ من نوقش الحساب عذّب، والآية في قوة سالبة جزئية، أي: تعطي أنّ من يحاسب ليس بمعذّب.
وحاصل جوابه: أنّه لم يتّحد الموضوع، لأنّه في الكلّيّة من نوقش. وفي الجزئيّة من حوسب، والمناقشة غير المحاسبة. انتهى.
246-
( «منهومان) تثنية منهوم، وهو: شديد الشّهوة المنكبّ على الشّيء طلبا لحيازته (لا يشبعان)، لعدم انتهاء حرصهما وهما:(طالب علم، وطالب دنيا) . فمن كان شديد الشّهوة لجمع المال أو طلب العلم لا يشبع من ذلك، إذ ليس للعلم غاية ينتهي إليها، ولا للمال غاية ينتهي إليها فلهذا لا يشبعان.
قال بعضهم: ما استكثر أحد من شيء إلّا ملّه وثقل عليه إلّا العلم والمال، فإنّه كلما زاد اشتهى له، ولكنهما لا يستويان، أمّا صاحب الدّنيا فيتمادى في الطّغيان، وأمّا صاحب العلم فيزداد من رضا الرّحمن. انتهى شروح «الجامع الصغير» .
والحديث ذكره في «كشف الخفا» وقال: رواه الطّبراني في «الكبير» والقضاعي؛ عن ابن مسعود رفعه.
247-
وهو عند البيهقي في «المدخل» ؛ عن ابن مسعود أنّه قال: «منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب دنيا؛ ولا يستويان، أمّا صاحب الدّنيا فيتمادى في الطّغيان، وأمّا صاحب العلم فيزداد من رضا الرّحمن» ثم قرأ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7)[العلق]، وقوله إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [28/ فاطر] وقال: إنّه موقوف ومنقطع، ثمّ ساقه عن أنس مرفوعا بلفظ:«منهومان لا يشبعان: منهوم في العلم لا يشبع منه، ومنهوم في الدّنيا لا يشبع منها» .
قال: وروي عن كعب الأحبار من قوله، ورواه البزّار، من حديث ليث بن أبي سليم عن طاووس- أو مجاهد- عن ابن عباس مرفوعا بلفظ التّرجمة. وقال:
لا نعلمه يروى من وجه أحسن من هذا.
ورواه العسكري عنه بلفظ: «منهومان لا يقضي واحد منهما نهمته: منهوم في طلب العلم، ومنهوم في طلب الدّنيا» .
وأخرجه العسكريّ أيضا عن أبي سعيد رفعه: «لن يشبع المؤمن من خير سمعه حتّى يكون منتهاه الجنّة» . ورواه أيضا عن الحسن قال:
بلغني أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أيّها النّاس؛ إنّهما منهومان، فمنهوم في العلم لا يشبع، ومنهوم في المال لا يشبع» .
وفي الباب عن ابن عمر، وأبي هريرة، وهي؛ وإن كانت مفرداتها ضعيفة؛ فبمجموعها يتقوّى الحديث. انتهى كلام «كشف الخفا» ، ونحوه في «المقاصد الحسنة» للحافظ السخاوي.
247-
( «المؤمن مرآة) بهمزة ممدودة (المؤمن» ) ؛ أي: يرى فيه عيوبه كما يراها في المرآة، ثمّ يميطها عنه بوجه حسن، فإذا أبصرت عيبا في أخيك؛ فأخبره به، وانصحه بما يقتضي إذهابه عنه بلطف أو عنف؛ إن اقتضى الحال ذلك.
انتهى حفني.
248-
«المؤمن.. من أمنه النّاس على أنفسهم وأموالهم» .
249-
ولبعضهم في معنى الحديث:
صديقي مرآة أميط بها الأذى
…
وعضب حسام إن منعت حقوقي
وإن ضاق أمري أو ألمّت ملمّة
…
لجأت إليه دون كلّ شقيق
والحديث أخرجه الطّبراني في «الأوسط» والضّياء والقضاعي والبزّار؛ عن أنس رضي الله عنه.
وأخرجه أبو داود والبخاري في «الأدب المفرد» ؛ عن أبي هريرة رفعه، والعسكري من طرق؛ عن أبي هريرة، ولفظه في بعضها:«إنّ أحدكم مرآة أخيه، فإذا رأى شيئا فليمطه» .
وأخرجه ابن المبارك؛ عن الحسن من قوله، وقال في «اللآلئ» أخرجه أبو داود في «سننه» ؛ عن أبي هريرة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«المؤمن مرآة المؤمن، والمؤمن أخو المؤمن، يكفّ عنه ضيعته ويحوطه من ورائه» . وفي إسناده كثير بن زيد مختلف في عدالته. انتهى «كشف الخفا» ، ومناوي على «الجامع» . قال المناوي نقلا عن العراقي: إنّ حديث أبي هريرة إسناده حسن. انتهى.
248-
( «المؤمن من أمنه النّاس على أنفسهم وأموالهم» ) أي: حقه أن يكون متّصفا بذلك، وقال العلقمي: هو محمول على المؤمن الكامل. انتهى «عزيزي» .
وتمام الحديث: «والمهاجر من هجر الخطايا والذّنوب» . أخرجه ابن ماجه؛ عن فضالة بن عبيد. قال المناوي: ورواه عنه أيضا التّرمذيّ وحسّنه، وقال في «الكشف» : رواه الدّيلميّ عن أنس رضي الله عنه. انتهى.
249-
( «المؤمن يسير المؤنة» ) أي: قليل الكلفة على إخوانه، والحديث
250-
ذكره في «الجامع» مرموزا له برمز أبي نعيم في «الحلية» ، والبيهقي في «شعب الإيمان» ؛ كلاهما عن أبي هريرة رضي الله عنه. قال العزيزي: وإسناده ضعيف.
وقال في «كشف الخفا» : موضوع؛ كما قاله الصغاني، لكن معناه صحيح.
انتهى.
250-
( «المؤمنون كرجل واحد) ؛ إن اشتكى رأسه اشتكى كلّه، وإن اشتكى عينه اشتكى كلّه» . هذا تمام الحديث كما في «الجامع» .
قال المناوي: أفاد تعظيم حقوق المسلمين بعضهم على بعض، وحثّهم على التّراحم والتّعاضد في غير إثم ولا مكروه ونصرتهم، والذبّ عنهم وإفشاء السّلام عليهم، وعيادة مرضاهم، وشهود جنائزهم وغير ذلك.
وفيه مراعاة حقّ الأصحاب والخدم والجيران والرفقاء في السفر، وكلّ ما تعلّق بهم بسبب، حتّى الهرة والدّجاجة؛ ذكره الزمخشري.
قال ابن عربي: ومع هذا التمثيل فأنزل كلّ أحد منزلته، كما تعامل كلّ عضو منك بما يليق به وما خلق له؛ فتغض بصرك عن أمر لا يعطيه السمع، وتفتح سمعك لشيء لا يعطيه البصر، وتصرف يدك في أمر لا يكون لرجلك، وكذا جميع قواك، فنزّل كلّ عضو منك فيما خلق له، وإذا ساويت بين المسلمين فأعط العالم حقّه من التّعظيم والإصغاء لما يأتي به، والجاهل حقّه من تذكيره وتنبيهه على طلب العلم والسّعادة، والغافل حقّه بأن توقظه من نوم غفلته بالتذكّر لما غفل عنه، ممّا هو عالم له غير مستعمل لعلمه فيه، والسّلطان حقّه من السّمع والطّاعة فيما يباح، والصّغير حقّه من الرّفق به؛ والرّحمة؛ والشّفقة، والكبير حقّه من الشّرف؛ والتّوقير.
انتهى.
والحديث ذكره في «الجامع» بالزيادة التي ذكرناها، مرموزا له برمز الإمام أحمد، ومسلم؛ عن النّعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما.
251-
«من كان آخر كلامه (لا إله إلّا الله) .. دخل الجنّة» .
251-
( «من كان آخر) قال أبو البقاء: بالرفع اسم «كان» ، وكلمة التّوحيد في موضع نصب خبر «كان» ويجوز عكسه. انتهى (كلامه) في الدنيا (لا إله إلّا الله) بأن لم يتكلّم بعدها بشيء (دخل الجنّة» ) أي: مع السابقين. انتهى «حفني» .
وقال ابن رسلان: معنى ذلك أنّه لا بدّ له من دخول الجنّة، فإن كان عاصيا غير تائب؛ فهو في أوّل أمره في خطر المشيئة: يحتمل أن يغفر الله له، ويحتمل أن يعاقبه، ويدخل الجنّة بعد العقاب، ويحتمل أن يكون من وفّق لأن يكون آخر كلامه لا إله إلّا الله؛ يكون ذلك علامة على أنّ الله تعالى يعفو عنه، فلا يكون في خطر المشيئة؛ تشريفا له على غيره ممّن لم يوفق أن يكون آخر كلامه ذلك. فنسأل الله أن يجعلنا في الخاتمة من أهل لا إله إلّا الله حالا ومقالا، وظاهرا وباطنا، حتى نودّع الدّنيا غير ملتفتين إليها، بل متبرّمين منها ومحبّين للقاء الله تعالى. انتهى شروح «الجامع الصغير» .
والحديث ذكره في «الجامع» مرموزا له برمز الإمام أحمد، وأبي داود في الجنائز، والحاكم فيه؛ كلّهم عن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه. وقال الحاكم: صحيح. وأعلّه ابن القطّان! ولكن انتصر له التّاج السبكي؛ وقال:
حديث صحيح. انتهى مناوي على «الجامع الصغير» .