الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المائدة، وقد بيَّنا بطلانَ استدلاله في تفسير الآية. والله أعلم.
وأما السنة فاستدلَّ الجيراجي
(1)
منها بحديث الصحيحين
(2)
: "ما حقُّ امرئ له شيءٌ يُوصي فيه يبيتُ ليلةً أو ليلتين إلّا ووصيته مكتوبة عنده".
ولا دليلَ فيه؛ لأن الوصية ليست قاصرة على الوصية التوريثية، بل من المشروع أن يُوصي الإنسانُ بما له وعليه من الديون والحقوق، وعليه يُحمل الحديث.
وبحديث ابن ماجه
(3)
: "من ماتَ على وصيةٍ مات على سبيلٍ وسنةٍ". وسنده ضعيف، ومع ذلك فلا دليلَ فيه أيضًا.
ثم لو فُرِض أنه ثبتَ شيء من السنة ينصُّ على الوصية التوريثية فهو محمول على أنه كان قبل نسخها، فيكون منسوخًا بما نُسِخت به الآية، والله أعلم.
أدلة النسخ من السُّنَّة:
عن ابن عباس قال: "كان المال للولد، وكانت الوصية للوالدين، فنسخَ الله من ذلك ما أحبَّ، فجعل للذكر مثلَ حظِّ الأنثيين، وجعل للأبوين لكلِّ واحدٍ منهما السدسَ، وجعل للمرأة الثُّمنَ والربعَ، وللزوج الشَّطْرَ والربع"
(1)
"الوراثة في الإسلام"(ص 2).
(2)
البخاري (2738) ومسلم (1627) عن ابن عمر.
(3)
رقم (2701) عن جابر بن عبد الله. قال البوصيري في الزوائد: في إسناده بقية، وهو مدلِّس. وشيخه يزيد بن عوف لم أر مَن تكلم فيه.
رواه البخاري في "صحيحه"
(1)
من طريق عطاء عن ابن عباس.
قال الحافظ في "الفتح"
(2)
: وهو موقوف لفظًا، إلّا أنه في تفسيره إخبارٌ بما كان من الحكم قبل نزول القرآن، فيكون في حكم المرفوع بهذا التقرير
…
وقد أخرجه ابن جرير
(3)
من طريق مجاهد بن جبر عن ابن عباس ....
وفي "سنن" أبي داود
(4)
من طريق عكرمة عن ابن عباس: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} ، فكانت الوصية لذلك حتى نسختْها آية المواريث.
وفي "الدر المنثور"
(5)
: وأخرج أبو داود والنحاس معًا في "الناسخ والمنسوخ" وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} قال: كان ولد الرجل يورثونه
(6)
، و {لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} قال: كان الوصية لهما، فنسختْها {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} الآية.
وأخرج وكيع وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر
(1)
رقم (2747، 4578، 6739). وقد سبق في أول الرسالة.
(2)
(5/ 372).
(3)
في "تفسيره"(6/ 459).
(4)
رقم (2869). وأخرجه أيضًا البيهقي في "السنن الكبرى"(6/ 265).
(5)
(2/ 164، 165). والأثر في "الناسخ والمنسوخ" للنحاس (ص 88، 89) و"تفسير ابن أبي حاتم"(1/ 299).
(6)
في "الدر المنثور": "يَرِثونه".
والبيهقي
(1)
عن ابن عمر أنه سُئل عن هذه الآية {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} ، قال: نسختْها آية الميراث.
وعن جابر قال: عادني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبو بكر في بني سلمة ما شيَيْنِ، فوجدني النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا أعقِلُ شيئًا، فدعا بماءٍ فتوضأ، ثم رشَّ عليَّ، فأفقتُ، فقلتُ: ما تأمرُ أن أصنع في مالي؟ فنزلت {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} متفق عليه
(2)
.
وله رواياتٌ قد تقدَّم الإشارةُ إلى بعضها في الكلالة. وفي رواية الإمام أحمد والنسائي
(3)
من طريق أبي الزبير عن جابر قال: اشتكيتُ، فدخلَ عليَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت: يا رسولَ الله، أُوصِي لأخواتي بالثلث؟ قال: أحسن، قلتُ: بالشَّطْر؟ قال: أحسن. ثم خرج، ثم دخل عليَّ فقال:"لا أراكَ تموتُ في وجعك هذا، إن الله أنزل وبيَّنَ ما لأخواتك، وهو الثلثان".
فكان جابر يقول: نزلتْ هذه الآية فيَّ: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} .
فجابر رضي الله عنه أراد أن يوصي بناءً على آية الوصية، ولكنه استشار النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم، فأنزل الله عز وجل الميراث.
(1)
العزو إليهم في "الدر المنثور"(2/ 165). وانظر "مصنّف" ابن أبي شيبة (11/ 209) و"تفسير" الطبري (3/ 131، 132) و"السنن الكبرى" للبيهقي (6/ 265).
(2)
البخاري (194، 4577) ومسلم (1616).
(3)
"المسند"(14998) و"السنن الكبرى" للنسائي (6324، 7513). وأخرجه أيضًا أبو داود (2887) وإسناده صحيح.
وعن سعد بن أبي وقّاص قال: مرضتُ عامَ الفتح مرضًا أَشْفَيْتُ [منه] على الموت، فأتاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعودني، فقلتُ: يا رسولَ الله، إنّ لي مالاً كثيرًا وليس يَرِثني إلا ابنتي، أفأُوصي بمالي كلِّه؟ قال: لا، قلت: فثُلثَي مالي؟ قال: لا، قلت: فالشطر؟ قال: لا، قلتُ: فالثلث؟ قال: "الثلث، والثلث كثير، إنك أن تَذَرَ ورثتَك أغنياءَ خيرٌ من أن تَذَرَهم عالةً يتكفَّفُون الناسَ" متفق عليه
(1)
.
فسعدٌ سأل عن الوصية لغير الورثة، ولم يتعرض لذكر الورثة، فلو كان حكم الوصية التوريثية باقيًا لما سكت عن ذلك، ولمَا أقرَّه النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي رواية الترمذي
(2)
عن سعد قال: عادني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا مريض، فقال:"أوصيتَ؟ " قلت: نعم، قال:"بكم؟ " قلت: بمالي كلِّه في سبيل الله، قال:"فما تركت لولدِك؟ " قلت: هم أغنياء بخير، فقال:"أَوصِ بالعُشر" فما زلتُ أناقِصُه حتى قال: "أوصِ بالثلث، والثلث كثير".
ففيها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سألَه أوصيتَ، ففهمَ سعد أن المراد الوصية لغير الورثة، كما يدلُّ جوابُه، ولو كانت الوصية للورثة باقيةً لكانت أول ما يتبادر إلى ذهنه.
وعن النعمان بن بشير قال: أعطاني أبي عطيةً، فقالت عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تُشْهِدَ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني أعطيتُ ابني من عمرة بنت رواحة عطيةً، فأمرتْني أن أُشْهِدَك يا رسولَ الله، قال:"أعطيتَ سائرَ ولدِك مثلَ هذا؟ " قال: لا، قال: "فاتقوا الله واعدِلوا بين
(1)
البخاري (6733) ومسلم (1628).
(2)
رقم (975).
أولادكم"، قال: فرجعَ فردَّ عطيتَه. وفي روايةٍ أنه قال: "لا أشهد على جورٍ" متفق عليه
(1)
.
قال الحافظ في "الفتح"
(2)
: تمسَّك به من أوجبَ التسوية في عطية الأولاد، وبه صرَّح البخاري، وهو قول طاوس والثوري وأحمد وإسحاق، وقال به بعض المالكية. ثم المشهور عن هؤلاء أنها باطلة.
وإذا امتنع التفضيلُ في حال الصحة في حين لو أعطى المورث أجنبيًّا لجازت عطيته، فكيف في حال المرض حين يُحْجَر على المورث فيما زاد عن الثلث، كما جاء من حديث أبي بكر
(3)
وعلي
(4)
، وسعد بن أبي وقاص وقد تقدم، وابن عمر
(5)
وابن عباس
(6)
ومعاذ
(7)
وأبي هريرة
(8)
وأبي
(1)
البخاري (2587) ومسلم (1623). والرواية الأخرى عند مسلم (1623/ 14).
(2)
(5/ 214).
(3)
أخرجه ابن عدي في "الكامل"(2/ 794). وفي إسناده حفص بن عمر بن ميمون، وهو ضعيف.
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(11/ 202) موقوفًا عليه.
(5)
أخرجه ابن ماجه (2710). قال البوصيري في "الزوائد": في إسناده مقال؛ لأن صالح بن محمد بن يحيى لم أر لأحدٍ فيه كلامًا لا بجرح ولا غيره. ومبارك بن حسان، وثقَّه ابن معين، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال أبو داود: منكر الحديث. وذكره ابن حبان في الثقات وقال: يخطئ ويخالف. وقال الأزدي: متروك.
(6)
أخرجه البخاري (2743) ومسلم (1629).
(7)
أخرجه الطبراني في "الكبير"(20/ 54) والدارقطني في "السنن"(4/ 150). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(4/ 212): فيه عتبة بن حميد الضبي، وثقَّه ابن حبان وغيره، وضعَّفه أحمد. وفيه أيضًا إسماعيل بن عياش، وهو ضعيف في روايته عن غير أهل بلده.
(8)
أخرجه ابن ماجه (2709). وفي إسناده طلحة بن عمرو الحضرمي، وهو متروك.
الدرداء
(1)
وأبي أمامة
(2)
وشدَّاد بن أوس
(3)
وعمران بن حصين
(4)
وأبي زيد الأنصاري
(5)
وخالد بن عبيد الله السلمي
(6)
. وفي بعضها التصريحُ بإبطال الوصية فيما زاد عن الثلث، وذلك فيما رُوي عن عمران بن حصين أن رجلًا أعتق ستةَ مملوكين له عند موته، لم يكن له مالٌ غيرُهم، فدعا بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فجزَّأهم أثلاثًا، ثم أقرعَ بينهم، فأعتقَ اثنين وأرقَّ أربعةً، وقال له قولًا شديدًا. رواه مسلم
(7)
.
(1)
أخرجه أحمد في "المسند"(27482) والبزار (1382 ــ زوائد) والطبراني في "مسند الشاميين"(1484). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(4/ 212): فيه أبو بكر بن أبي مريم، وقد اختلط.
(2)
أخرجه الطبراني في "الأوسط"(8665). قال الهيثمي (4/ 211): "فيه توبة بن نمير [كذا، والصواب: نَمِر]، ولم أجد من ترجمه. وفيه عبد الله بن صالح كاتب الليث، وقد ضُعِّف ووُثِّق. وبقية رجاله ثقات" اهـ.
أما توبة بن نمر، فكان فاضلًا عابدًا تولَّى قضاء مصر، كما في "تعجيل المنفعة"(ص 61).
وأما عبد الله كاتب الليث فقد تابعه الإمام الثقة الثبت سعيد بن أبي مريم عند الدارقطني (4/ 234).
(3)
أخرجه الطبراني في "الكبير"(7171). قال الهيثمي (4/ 213): فيه الوليد بن محمد الموقري، وهو متروك.
(4)
أخرجه مسلم (1668).
(5)
أخرجه أحمد (22891) وأبو داود (3960) والنسائي في الكبرى (4973). وفي إسناده انقطاع بين أبي قلابة وأبي زيد.
(6)
أخرجه الطبراني في "الكبير"(4129). قال الهيثمي (4/ 212): إسناده حسن.
(7)
رقم (1668).
وفي رواية أبي داود
(1)
أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال في هذا المعتق: "لو شهدتُه قبلَ أن يُدفَن لم يُدفَنْ في مقابر المسلمين".
ومن الحكمة ــ والله أعلم ــ في هذا أن الإنسان في حال صحته شحيحٌ، يأملُ طولَ الحياة ويخشى الفقرَ، فاكتفى الشرع بوازعِه الطبعي عن أن يَحجُر عليه، مع أنه إن أعطى لا يُعطي إلّا بسببٍ شديد يُجبِره على عصيانِ شُحِّ نفسِه. ولكن هذا بالنسبة إلى الأجانب، فأما بالنسبة إلى ولده فإنه يُؤثِرهم على نفسه، فمنعَ الله عز وجل من تفضيل بعضهم على بعضٍ سدًّا للذريعة.
وأما حالة المرض فإن المرء يخِفُّ شُحُّه، ويَضعُفُ أملُه، وكثيرًا ما يكون له هوًى غيرُ مشروعٍ في أجنبي، أو بُغضٌ لوارثه، فيحمله ذلك على إعطاء الأجنبي وحرمان الوارث، وكثيرًا ما يكون لبعض الأجانب عليه حقوق عظيمة لم يتمكن من أدائها حالَ صحتِه، فجعلَ الله عز وجل له الثلث يُوصِي به حيث أراد، مع التصريح بكراهية ذلك في قوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا
…
} كما تقدم، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:"والثلث كثير"، وأحاديث كثيرة في هذا المعنى.
عن عمرو بن خارجة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطبَ على ناقته وأنا تحتَ جِرانِها، وهي تَقْصَعُ بجِرَّتها وإنّ لُعابَها يَسِيل بين كَتِفَيَّ، فسمعته يقول:"إن الله قد أعطى كلَّ ذِي حقٍّ حقَّه، فلا وصيةَ لوارِثٍ" رواه الإمام أحمد والترمذي وحسَّنه، والنسائي وابن ماجه والدارقطني والبيهقي
(2)
.
(1)
رقم (3960) من حديث أبي زيد الأنصاري. وأخرجه أيضًا النسائي في "الكبرى"(4973).
(2)
انظر "المسند"(17664، 18081) والترمذي (2121) والنسائي (6/ 247) وابن ماجه (2712) والدارقطني (4/ 152) والبيهقي (6/ 264). وفي إسناده شهر بن حوشب وهو ضعيف، ولكن الحديث صحَّ من طرقٍ أخرى.
وعن أبي أمامة قال: سمعتُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "إنَّ الله قد أعطى كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، فلا وصيةَ لوارث". رواه الإمام أحمد والترمذي وحسَّنه، وأبو داود وابن ماجه
(1)
، وحسَّنه الحافظ ابن حجر أيضًا
(2)
. وفي سنده إسماعيل بن عياش، رُمي بالتدليس، ولكنه هنا صرَّح بالتحديث. وغمزه بعض الأئمة، ولكن بيَّن حالَه جماعةٌ من الأئمة أنه إنما يُضعَّف إذا روى عن الحجازيين، قال بعضهم: لأن كتابه عنهم ضاع، فخلّط في حفظه، أما إذا روى عن الشاميين فأكثر الأئمة يُقَوُّون حديثه، ومنهم من يصححه، منهم: الإمام أحمد وابن معين وابن المديني والفلَّاس والبخاري ويعقوب بن سفيان وصالح بن محمد الأسدي والترمذي والنسائي وأبو أحمد الحاكم والبرقي والساجي والدولابي
(3)
.
وقد رُوِي الحديث موصولًا من أوجهٍ ضعيفةٍ عن علي
(4)
وابن عباس
(5)
وجابر
(6)
وعبد الله بن عمرو
(7)
، ومرسلًا عن مجاهد
(8)
وعطاء
(1)
انظر "المسند"(22294) والترمذي (2120) وأبو داود (3565) وابن ماجه (2713).
(2)
انظر "فتح الباري"(5/ 372).
(3)
انظر "تهذيب التهذيب"(1/ 322 وما بعدها).
(4)
أخرجه الدارقطني (4/ 97). وفي إسناده يحيى بن أبي أنيسة الجزري وهو ضعيف.
(5)
أخرجه الدارقطني (4/ 98). وفي إسناده عبد الله بن ربيعة مجهول.
(6)
أخرجه الدارقطني (4/ 97). وقال: الصواب مرسل.
(7)
أخرجه الدارقطني (4/ 98). وفي إسناده سهل بن عمار، كذَّبه الحاكم.
(8)
أخرجه الشافعي في "الرسالة"(ص)، وهو ضمن كتاب "الأم"(1/ 60، 61) ط. دار الوفاء.
الخراساني
(1)
، وأما الموقوفات والمقطوعات فكثيرة في هذا الباب.
وقد مال الشافعي إلى تواتر حديث "لا وصية لوارث"
(2)
. وكثير من العلماء يقول بأن خبر الآحاد ينسخ القرآن، وحجتهم قوية؛ لأن النسخ إنما هو بيان انتهاء مدَّة الحكم، وهذا إنما يعارض دوامه، ودوامه ظنّي، فكيف لا يكفي في معارضته ظنّي؟
على أنك إذا تأملت ما تقدَّم، وتتبَّعتَ المواريث التي قُسِمتْ في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأحوال الصحابة، وأنه لم يُوصِ أحدٌ منهم وصيةً توريثية= علمتَ أن معنى الحديث متواتر. والله أعلم.
الإجماع:
الإجماع على نسخ حكم الوصية معلوم، فلا حاجةَ لتعداد أسماء ناقليه. والاختلاف في الناسخ لا يلزم منه الاختلاف في النسخ كما لا يخفى. والله أعلم.
* * * *
(1)
أخرجه الدارقطني (4/ 98).
(2)
"الرسالة"(ص 140).
(ذوو الفروض)
قال
(1)
: "جعل الفقهاء أولاد الأم من ذوي الفروض، وألحقوا بني الأعيان والعلات بالعصبة، واستدلُّوا عليه بقول الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً
…
}
…
".
أقول: قد مرَّ في تفسير هذه الآية ما يُغنِي عن الإعادة.
قال
(2)
: "فنقول: إن من الأقسام الثلاثة للإخوة والأخوات أولادهم بالميراث بنو الأعيان ثم بنو العلَّات، كما جاء في الحديث: "إنّ أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلَّات"
(3)
، لأن قرابة بني الأعيان إلى المورث من جهتي الأب والأم معًا، فهم أقربون
(4)
إليه من بني العلَّات الذين ليس اتصالهم به إلّا من جهة الأب وحده، وأما أولاد الأم فهم أبعدُ الكلِّ، لأنهم ربما لا يكونون من أولاد آباء المورث، بل من عائلاتٍ أخر".
أقول: قوله: "فهم أقربون إليه من بني العلّات" يريد به الاستدلال على حَجْبهم لهم بقوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} . ولكنه
(1)
"الوراثة في الإسلام"(ص 8).
(2)
المصدر نفسه (ص 11).
(3)
أخرجه الترمذي (2095) من حديث علي بن أبي طالب. وفي إسناده الحارث الأعور وهو ضعيف. وقال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث أبي إسحاق عن الحارث عن علي، وقد تكلم بعض أهل الحديث في الحارث.
(4)
وضع المعلمي في الهامش علامة استفهام (؟) على هذه الكلمة؛ لأنها خطأ في العربية.
فسَّر "الأقربين" في الحجب بقوله
(1)
: "والمراد بالأقرب أن لا تكون واسطةٌ بينه وبينَ المورث، إما مطلقًا أو كانت لكن انتفتْ قبل وفاة المورث". وسيأتي تمام البحث في الحجب إن شاء الله تعالى.
قال
(2)
: "فالفقهاء ظلموا الأقرباء؛ لأنهم جعلوا الأباعدَ من أولاد الأم ذوي فرض، والأقربين من بني الأعيان والعلَّات عصبةً، التي لا يُصيبها إلّا ما بقي بعد ذوي الفروض".
أقول: إذا تأملتَ ما قدَّمنا في تفسير الآية علمتَ أن الفقهاء لم يأتوا بشيء من عند أنفسهم، وإنما قبلوا ما جاءهم عن الله عز وجل وآمنوا به. ومع ذلك فندفع شبهته بمعونة الله عز وجل.
قد قدَّمنا في تفسير الآيات أن مدار المواريث على أمرين: استحقاق الصلة والتعصيب، وجعل الفروض المعيَّنة بإزاء الأول، وما يبقى بإزاء الثاني، وفصَّلنا هناك بعض التفصيل. ونزيد هنا أن الضرب الأول هم الذين يستحقون المالَ حقيقةً، وأما الضرب الثاني فغاية الأمر أنه إذا لم يكن هناك أحدٌ يستحقُّ المالَ كانوا أولى من غيرهم.
فالحاصل أن استحقاق الضرب الأول آكدُ من الضرب الثاني، وقد يكون الشخص الواحد مستحقًّا للصلة ومن العصبة، وهذا قد يكون أضعفَ استحقاقًا ممن هو من الضرب الأول. كان ذلك ــ والله أعلم ــ لأنَّ من لم يكن من العصبة فلا يحتمل النقصَ ولا الحرمان، بخلاف مَن كان من
(1)
"الوراثة في الإسلام"(ص 25).
(2)
المصدر نفسه (ص 12).
العصبة، فإنه يحتمل ذلك، لأنّ من شأنِه المحاماةَ عن مولاه والدفاع عنه بدون التماس مقابل، فينبغي أن يكون من شأنه الحرصُ على أداء الحقوق اللازمة لمولاه ولو من ماله، أعني العصبة، فضلًا عن المسامحة بما يستحقُّه على المولى. ومما يؤيد هذا حكمُ الشرع بدية الخطأ على عاقلة الجاني.
ثم إن للأخ من الأم حقًّا آكدَ من حقِّ الأخ للأب، وذلك أولًا من حيثُ كونُه ولدَ الأمّ التي أُمِرْنا بصلتها أكثرَ من الأب، فوردَ:"بِرَّ أمَّك ثمَّ أمَّك ثمَّ أمَّك ثم أباك"
(1)
أو كما قال. ووردَ أن مِن بِرِّ الوالدين بِرَّ القرابة التي كانت قرابةً بواسطتهما، وبِرَّ أهلِ وُدِّهما
(2)
.
فُضِّلت على الأب [في الميراث] أيضًا، فجُعل فرضها ......... عدم الولد الثلث، وليس للأب إلّا ما بقي، فنتجَ من ذلك أن تنالَ ضِعفَه إذا كان معهما زوج. وهذا صريح القرآن، وخلاف ذلك خطأ.
وسِرُّ المسألة أن الأب جامع بين السببين اللذين أوضحناهما أولَ هذا البحث، أعني استحقاق الصلة والعصوبة، فاستحقاق الصلة غايته السُّدس، ففُرِض له مع الولد خشيةَ أن ينقصَ منه، ولم يُفرَض له مع عدم الولد لأنه لا يَنقُص عنه. وعلى هذا فأخذُه أكثرَ من الأمّ في بعض الصور ليس تفضيلًا له عليها من حيث استحقاق الصلة، وإنما بقي هناك شيء غير مستحق، والعصبة أولى به، والأب أولى عصبةً هنا.
وإذا ثبت أن الأم آكد استحقاقًا من الأب، فكذا يكون ولدها بالنسبة إلى
(1)
سبق تخريجه.
(2)
أخرجه مسلم (2552) من حديث ابن عمر.
ولده، فأما الأشقَّاء فلأنهم جامعون بين الوجهين: الاستحقاق من حيث الصلة والعصبية، وقد تقدم أولَ البحث أن الجامع بين الوجهين أضعفُ حقًّا من المنفرد بالاستحقاق من حيث الصلة، وبيَّنا حكم ذلك بحمد الله تعالى
…
فإن قلت: يستلزم من هذا أن الإخوة للأم إذا كانوا من العصبة بأن كانوا أبناءَ عم مثلًا يفضلوا على الأشقَّاء؟
قلت: كلّا، فإن العصوبة هنا لا حكم لها؛ لأن ابن العم لا يُعتَدُّ بعصوبته مع وجود الأخ.
وثانيًا: الغالب أن الرجل لا يواصل في حياته أخاه لأمه كما ينبغي، بل هو عنده في عداد الأجانب.
وثالثًا: يريد الله عز وجل التأليف بين الناس، ولاسيَّما بين أولاد الأم الواحدة، وإنما يتم هذا بأن يعلموا أن لأحدهم حقًّا على الآخر قد يكون آكدَ من حقِّ الشقيقِ، فضلًا عن الأخ لأب، لعلَّهم إذا علموا هذا قوِيَ ارتباطُهم وتمكَّن اتصالُهم، بخلاف الأشقَّاء والإخوة لأبٍ، فإن الارتباط بينهم مألوف، سواء طمعوا في الميراث أم لا.
فإن قلت: فلِمَ لم يُفضِّل الأخ لأم على الشقيق، أو الأخ لأب مطلقًا؟
قلت: الأخ لأم له حقٌّ محدود، لا ينبغي أن يُزاد عليه ولا يُنقَص، وهكذا سائر أصحاب الفروض. وأما العاصب فليس له حقٌّ مبتوت، وإنما له ما فضَلَ، فأصحاب الفروض كأصحاب الديون.
فلما جاء الإسلام ..................................................
وبنى المواريث على أصول أخرى يطولُ بيانُها، وإنما نذكر بعون الله عز وجل أمثلةً منها:
الزوج:
الزوج: مكلَّفٌ بتسليم مَهْر زوجته ونفقتها طولَ حياتها، وحاملُ المشقَّات في التماسِ رضاها، والصبر على عِوَجها وكفرانها، الذي شهد به النبي صلى الله عليه وآله وسلم
(1)
. وبهذه الأمور وغيرها جُعِلَ نصيبُه فرضًا لا يسقط بحالٍ.
والزوجة تشبه الزوج في بعض الأمور المتقدمة، ولكنها دونه، فجُعِلت على النصف منه مع المحافظة على أن لا تسقط.
الأب:
الغالب أن يكون ابنه قد بَرَّه وواساه وخَدَمه في حياته بما يستطيع، فلم يكن حقه بمؤكَّدٍ كالزوج، ولكن يكون مؤكَّدًا في الجملة في الأحوال التي يُخشى فيها من سقوط؟
الابن:
هو أحقُّ الورثة لأسبابٍ عديدة، ولكن لم يجعل له الله عز وجل فرضًا لأنه آمِنٌ من السقوط.
البنت:
هي آكدُ حقًّا من الابن لضعفها وعجزها، فلذلك رُجِّحتْ عليه بأن جُعِل لها فرضٌ لا يُنْقَص عنه. ولكن إذا كان لها أخٌ فإنها ترجع عصبةً، وذلك
(1)
كما في الحديث الذي أخرجه البخاري (3331) ومسلم (1468) عن أبي هريرة.
لاشتدادِ ساعدِها وانجبارِ ضعفِها ووهنِها، فصارت في حكم الابن.
الأخ:
حق الأخ ضعيف؛ إذ ليس مكلَّفًا بشيء مما تقدم، ولكن له حقٌّ في الجملة، فجعله الله عز وجل عاصبًا، أي إذا بقي شيء بعد الحقوق أخذه.
أخت:
لها حقٌّ آكدُ من حقّ الأخ؛ لأنها تكون في حياتها أحنَى وأشفقَ على أخيها من الأخ على أخيه، وأيضًا هي أنثى ضعيفةٌ تستحق المواساة في الحياة وبعد الوفاة، فلذلك سمَّى لها الله عز وجل فرضًا يُؤْمَنُ من سقوطه، إلّا إذا كان هناك أبٌ للميت، لأنه أبوها، فوجوده يَشُدُّ من عضدها ويتكفَّلُ بمواساتها، وجَعْلُ المالِ في يده أولى من جعلهِ في يدها.
وكذا إذا كان هناك ابنٌ للميت، أولًا لأن حقَّ الابن آكدُ، وثانيًا لأنها عمَّتُه، فهو أيضًا مكلَّفٌ بصلتها ومواساتها.
ولم يُحْرَم الزوج مع الأب؛ لأن الزوج لا يبقى صلةٌ بينه وبين أبي زوجته بعد وفاتها، ولم يُحرم الزوج مع الولد، لأنه إن كان ابنه فالأمر ظاهر، وإن كان ابنَ غيره فلأنه لا صلةَ بينهما. فإذا وَرِث مع الأخت أخ شقيق فإنها تُجعَل عصبةً؛ لأنها بوجود شقيقٍ لها انجبر ضعفُها وكسْرُها، فصارت في حكم الأخ.
قال
(1)
: "ومن نتائجه أن في بعض الأحيان تَرِث أولاد الأم ويُحرَم بنو
(1)
"الوراثة في الإسلام"(ص 12).
الأعيان والعلَّات مثلًا" ثم ذكر المسألة المشتركة، ثم قال: "كيف يجوز ..... " (ص 97)
(1)
.
* * * *
(1)
بعده بياض في الصفحة في الأصل.
(العصبة)
نبدأ فنسوقُ أدلة القول بالتعصيب، ثم نعطف على اعتراضات الجيراجي إن شاء الله تعالى.
قد قدَّمنا أن مدار الوراثة على أمرين: استحقاق الصلة والعصبية، وأن الأول هو مدار الفروض، والثاني مدار ما يبقى. ولنبسط هنا الكلامَ على هذا الأصل وإن وقعَ تكرارٌ لبعض ما تقدم.
أَجَلْنا النظرَ في المواريث المبيَّنة في كتاب الله تعالى فإذا هي فروضٌ مقدَّرة وإرثٌ مطلق، بيَّنت السنة ثم اتفقت الأمة أن المراد بإطلاقه أن جميع المال عند عدم الفروض، والباقي بعد الفروض عند وجودها.
ثم أَجَلْنا النظرَ في ذوي الفروض، فإذا هم إما إناث وإما رجال، ليسوا من رجال عشيرة المورث الذين يغضبون له ويعصبون حوله، ولم يخرج من ذلك إلّا الأب عند وجود الولد.
وأَجَلْنا النظر في الضرب الآخر، فإذا هم كلهم من عشيرة المورث بلا استثناء، ثم نظرنا فإذا هم إما رجالٌ فقط، وإما رجالٌ مع أخواتهم، ولم يخرج من ذلك إلا الأخوات مع البنات.
فتبين لنا أن مدار الفروض على استحقاق الصلة، ومدار ما يبقى على العصبية. ولكن من الورثة مَن يجمع الأمرين، فاقتضت الحكمة في هذا أنه إذا لم يُخشَ من سقوطه لم يُفرض، وذلك الابن والأب عند عدم الولد، وإذا خُشِي سقوطُه فُرِض له، وذلك الأب عند وجود الولد.
ومن الورثة مَن يكون من نساء العصبة، ولها حالات:
إحداها: أن لا يكون معها أحدٌ من رجال العصبة ولا من ذوي الحقوق، ففي هذه الحال لها فرض معين بمقتضى استحقاقها، كالبنات والأخوات الشقائق والأخوات لأبٍ، إذا انفرد كلٌّ من ثلاثة الأنواع عما تقدم.
الحال الثانية: أن يكون معها ذو حقّ، فلا يخلو أن يكون الاستحقاقان سواءً أو أحدهما أولى، فإن استويا فلكلٍّ فرضُه، ويشتركون، وإن جرَّ ذلك إلى العَول. وإن كان أحدهما أولى فلابدَّ من تنفيذه، ثم إن كانا من نوعٍ واحد فُرِض للمرجوح ما بقي من استحقاق النوع إن كان، وهذا حال بنت الابن مع البنت، والأخت لأب مع الشقيقة. وإن كانا من نوعين قُدِّم الراجح وما يساويه من الحقوق، فإن بقي شيء فللمرجوح. وهذا حال الأخوات مع البنات.
الحال الثالثة: أن يكون معها أحدٌ من رجال العصبة، فإنها في هذه الحال تتقوَّى به، ويشتدُّ جانبها، وينجبر ضعفُها. ثم إن كان ذلك العاصب أضعفَ منها، بحيث إنها تُقدَّم عليه لو كانت ذكرًا، فإن كان لها فرض تناله، فإنها تستوفي فرضَها كاملًا، وهذا كالبنت مع ابن الابن، وكالأخت الشقيقة مع الأخ لأب. وإن لم يكن لها فرض فإنها تكون معه عصبةً، للذكر مثل حظّ الأنثيين، وهذه مسألة التشبيب.
وإن كان مساويًا لها فإنها تتحوَّل عن فرضها، وترجع معه عصبةً، للذكر مثل حظّ الأنثيين، كالبنت مع الابن، والشقيقة مع الشقيق، والأخت لأب مع الأخ لأب، وبنت الابن مع ابن الابن.
وإن كان أولى منها فإنه يُسقِطها، وهذا كبنت الابن مع الابن، وبنت ابن الابن مع ابن الابن، وكالأخت مع الأب والابن وابن الابن، وكالأخت لأبٍ مع الشقيق.
ويبقى النظر بين الجدّ والأخت: أهما متساويان أم أحدهما أولى من الآخر؟
فتبيَّن لنا أن الإرث المطلق مداره على الرجال من العشيرة، وإنما يكون للنساء بالعرض ولنساءٍ مخصوصات، وهن ذوات الاستحقاق الذي ثبت الفرض لهنّ من حين انفرادهن، أعني البنات والأخوات.
ثم نظرنا في التعصيب الأصلي، فإذا هو مرتَّبٌ على الأولوية الذكرية: الابن فالأب فالأخ.
ونظرنا في مدارِه ــ وهي العصبية ــ فإذا هي ثابتة فيما بعدُ لبني الإخوة والأعمام وبني الأعمام ثبوتًا لا شكَّ فيه، بحيث يكاد يُساوي عصبية الإخوة بالنسبة إلى الأجنبي. ففهمنا من هذا أن السلسلة ستستمر على الترتيب المذكور: الأولوية الذكرية.
ونظرنا في مدار الفروض ــ وهي استحقاق الصلة ــ فوجدناها قويةً في بنات البنين وضعيفة فيما عداهن، فعلمنا من ذلك أن السلسلة الفرضية مستمرة في بنات البنين على الترتيب، وأما فيما عداهن كبنات الأخ والعمَّات وبنات الأعمام فلا، وإذا لم يكن هؤلاء مستحقاتِ فرضٍ فلا يمكن أن يُشاركن إخوتهن في التعصيب.
ونظرنا في الفروض المقدرة فإذا هي مبنية على الاستحقاق كما مرَّ، وكلٌّ من أهلها قد فُرِض له ما يستحقه، ولم يبقَ له حقٌّ في الباقي، لأن المال
إنما يُستَحقُّ باستحقاقِ صلةٍ وقد استوفاها، أو بتعصيبٍ وليس بعصبة، فلا ينبغي أن يُزَاد لذلك المستَحَقّ الذي قد استوفى استحقاقه شيءٌ ما دام هناك عصبة، وذلك في مثل: بنت، ابن عم.
هذا مقتضى النظر المستند إلى الأصول القطعية، وجاءت النصوص طِبْقَه، فروى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:"أَلْحِقوا الفرائضَ بأهلها، فما بقي فهو لأَولَى رَجلٍ ذكر" متفق عليه
(1)
.
وفهم منه جماعة أن المراد بالفرائض الفروض المقدَّرة، وعلى هذا التفسير بنى الجيراجي اعتراضاتِه في:
(1)
أم
…
بنت
…
ابن
(2)
أم
…
بنت
…
أخت
…
أخ
(3)
بنتان
…
أخت
…
ابن الأخ
(2)
قائلًا: إن هذه الثلاثة الأمثلة تَنقُض هذا الأصل
(3)
.
فأقول: بل المراد بالفرائض المواريث المبيَّنة في كتاب الله تعالى أو في سنةِ رسولِه غيرِ هذا الحديث، ويدلُّ على ذلك ما في بعض الروايات الصحيحة
(4)
: "اقْسِمُوا المالَ بين أهل الفرائض على كتاب الله تبارك وتعالى، فما تركتِ الفرائضُ فلأَولَى رجلٍ ذكرٍ".
(1)
البخاري (6732) ومسلم (1615).
(2)
في الأصل: "أخ". والتصويب من كتاب الجيراجي.
(3)
"الوراثة في الإسلام"(ص 16، 17).
(4)
عند مسلم (1615/ 4).
وهذا الاستعمال هو المعروف، قال الله عز وجل:{لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} إلى قوله: {نَصِيبًا مَفْرُوضًا} {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} . وكثُر في الأحاديث إطلاقُ الفرائض على مطلق المواريث، واتفقت الأمة على تسمية علم المواريث بالفرائض.
ثم إن كان اشتقاقها من الفرض بمعنى الإيجاب ــ أي لأن الله عز وجل أوجبها بعد أن كانت موكولةً إلى اختيار المورث ــ فظاهرٌ، وكذا إذا كان من الفرض بمعنى الإنزال أو التبيين أو الإعطاء بغير عوض.
وإن كان من الفرض بمعنى التقدير والتحديد فلأن جميع المواريث مقدَّرة محدَّدة، إن لم تكن بأحد الكسور الستة فبغيرها، وإن لم تكن بالتصريح فباللزوم، فالابن إذا انفرد فرضُه الجميع، وإذا كان مع زوج فله ثلاثة أرباعٍ، أو مع زوجةٍ فسبعةُ أثمانٍ، وهكذا، وجميعها مقدَّرة محدودة.
وعلى هذا فلا تَرِدُ الأمثلةُ التي اعترض بها الجيراجي؛ لأنها كلَّها من الفرائض المبينة في كتاب الله تعالى وسنة رسوله، فدخلتْ تحت قوله:"ألْحِقوا الفرائضَ بأهلها". ففي المثال الثالث ألحقنا الثلثينِ بالبنتين لأنه فرضُهما بنصّ القرآن، وألحقنا الباقي بالأخت لأنه مفروضٌ لها بمقتضى السنة، ولم يبقَ شيء حتى نجعله لأولى رجلٍ ذكرٍ، وهو ابن الأخ.
ومع هذا فمَن يقول بالتفسير الأول يُجيب عن تلك الأمثلة بأنها مما خُصِّص فيه عمومُ هذا الحديث، المثال الأول والثاني بالقرآن، والثالث بالسنة، وتخصيص العموم غير مستنكر، فلا معنى لقول الجيراجي: "يقعُ
مباينًا للقرآن ومناقضًا لما أجمع الفقهاء عليه"
(1)
إلّا أنه يمكن أن يناقش في هذا التخصيص، وكيف كان أولى من عكسه، وغير ذلك. ولا حاجة لبسط الاعتراض والجواب، إذ كان المعنى الأول هو الراجح.
وقد تأوَّل الحديث بقوله: "وعندي أنه ليس بحكمٍ كلِّيٍ، بل قضَى به صلى الله عليه وآله وسلم في قضيةٍ خاصة
…
"
(2)
.
أقول: أولًا هذا مجرد احتمال
…
(ص 94).
وسيأتي في الحجب في بحث ميراث الإخوة أدلةٌ أخرى إن شاء الله تعالى. وقد ثبت في الصحيحين
(3)
وغيرهما مطالبةُ العباس رضي الله عنه بميراثه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم ينكر عليه أحدٌ بحجة أن العمّ لا يرث مع البنت، وإنما دفعوه بحجة أخرى، وإجماع الأمة بعد ذلك، والله أعلم.
قال الجيراجي
(4)
: "ومن أجل اعتبار العصوبة يقع في مسائل الوراثة خلل عظيم نوضّحها (؟ )
(5)
بالأمثلة:
(1)
عشْرُ بنات
…
وابن
10
…
2
ولو كان مكان الابن أخت أو أخ أو ابنه لأخذ ثلثَ التركة بالعصوبة، أي
(1)
"الوراثة في الإسلام"(ص 16).
(2)
المصدر نفسه (ص 16).
(3)
البخاري (6725) ومسلم (1759/ 53) عن عائشة رضي الله عنها.
(4)
"الوراثة في الإسلام"(ص 15).
(5)
علامة الاستفهام من المعلمي استنكارًا لتأنيث الضمير الذي يرجع إلى المذكر.
ضِعْفَ ما أخذه الابن، فكأن كلًّا من هؤلاء أكبر وارث (؟ )
(1)
عند الفقهاء من ابن المورث".
أقول: إن الشرع جعل البنين شيئًا واحدًا، فالابن الواحد والمئة سواء، فلا يصح أن يُفرَد نصيب واحد من جملة العدد ويُوازَن بينه وبين الأخ مثلًا. وقد فرض الله عز وجل للبنات إذا لم يكن ابنٌ الثلثينِ بنصّ كتابه، وفرضَ إذا كان ابنٌ أن يكون للذكر مثل حَظّ الأنثيين. فهلَّا اعترض الجيراجي على هذين الحكمين، بأنه في مثاله المذكور أخذت البناتُ أكثر من الثلثين مع أنَّ معهنَّ ابنًا، وأنه لو كان بدلَ الابنِ أبٌ لما أخذنَ إلّا الثلثين. وأيضًا أخذ الابنُ في المثال سدسًا، ولو كان بدلَه أبٌ أخذ ثلثًا.
والمقصود أن نقص الابن في المثال إنما جاءه من زيادة نصيب أخواته على الثلثين، فإن كان للجيراجي اعتراض فليعترضْ على هذا.
وخذْ مثالاً آخر: ثلاثون بنتًا ابن
للابن هنا نصف الثُّمُن، ولو كانت مكانَه زوجةٌ لحازت الثمنَ، أو زوجٌ لحازَ الربعَ، أو أمٌّ لحازت السدسَ، أو أبٌ لحاز الثلثَ. هذا، مع أن نصيب الزوج لا يجاوز النصفَ، والزوجة الربع، أما الأخ فقد يكون نصيبه الكلّ.
ثم إن هذا الحكم ــ أعني كون الأخت أو الأخ أو ابنه يحوز الباقي ــ ثابت بالأدلة المتقدمة، وسيأتي نصٌّ في الأولينِ في بحث ميراث الإخوة من الحجب إن شاء الله تعالى.
(1)
استفهام إنكاري من المعلمي.
قال
(1)
: " (2) زوج
…
أب
…
أم
…
ابنان
3
…
2
…
2
…
5
لو كان ههنا مكانَ الابنين بنتانِ لأخذتا ثُلثين من المال، أي أزيد بكثير من الابنين، والله تعالى جعل حظّ الأنثى نصفًا من الذكر".
أقول: هذا الاعتراض يحسُن إيرادُه على العَوْل لا على التعصيب، لأنك تُوافِق أن الابنين ليس لهما إلّا ما بقي، وتُوافِق على أن للبنتين الثلثينِ، وإنما تُخالِف في العَوْل، فتقول: إن نصيب الزوج يخرج من الرأس، ثم تُقسَم التركة على حسب الفرائض فيكون القَسْم عندك على ما يأتي:
زوج
…
أب
…
أم
…
ابنان
2
…
1
…
1
…
4
وكذا لو كان بدلَ الابنين ابنتانِ.
وسيأتي إن شاء الله تعالى نقضُ اختراعِك هذا، وبيانُ فساده ومخالفتِه لكتاب الله عز وجل، في فصل العَوْل. وإنما نقول هنا: إنّ غاية ما فيه مساواة البنتين والابنين، فأينَ فيه جَعْلُ حظِّ الأنثى نصفًا من الذكر.
قال
(2)
: "مسألة"، وذكر مسألة التشبيب، وسيأتي الجواب في بحث ميراث الأولاد مع أولاد الأولاد من الحجب إن شاء الله تعالى.
* * * *
(1)
"الوراثة في الإسلام"(ص 15).
(2)
المصدر نفسه.
(ذوو الأرحام)
قال في فصل العصبة
(1)
: "والناس كلهم من أولاد آدم عليه السلام، فلا يمكن أن يخلو ميتٌ من عصبة، فذوو الأرحام ــ الذين يرثون عندهم إذا لم يكن للميت عصبةٌ ــ لا تصل إليهم التركة أبدًا".
أقول: هم لا يريدون بقولهم: "إن ذوي الأرحام لا يرثون إلّا إذا لم يكن هناك عصبة" انتفاءَ العصبة في نفس الأمر، بل انتفاء العلم بها، وأنت خبير أن الغالب في الناس جهل الأنساب بعد بضعة آباء، فحينئذٍ يكون الغالب الجهل بالعصبة البعيدة. ولا تحسبنّ هذا الحكم خاليًا عن الحكمة، بل الحكمة فيه بيِّنة، وهو أن العصبة إنما يَرِث لمكان العصبية، أعني كونه يغضب للمتوفى، ويَحمي عنه، ويبذل دمه وماله في الذبّ عنه، وطبعًا إن هذا إنما يكون فيمن يعلم أنه عصبته، أعني أنه ابن عمه أو ابن عمّ أبيه مثلًا، فأما عند الجهل فهذا السبب مفقود، فليسقط اعتبار ما بُني عليه من الميراث.
ثم استدل بالآيات التي سبق تفسيرها وإبطالُ ما ادَّعى دلالتها عليه، ثم قال
(2)
: "وكان عمر رضي الله عنه يتعجب من أن العمة تورث ولا ترث".
أقول: تعجبُ عمر من ذلك دليلٌ على أنها لا ترث، وبيانه أنه رضي الله عنه كان إمامًا صارمًا لا تأخذه في الله لومةُ لائم، فما بالُه يتعجب هنا تعجبًا؟ والتعجب إنما يكون عند رؤية شيء عجيب، والعجيب في الأحكام على وجهين:
(1)
"الوراثة في الإسلام"(ص 14، 15).
(2)
المصدر نفسه (ص 19).
الأول: ما يُعلَم أنه منافٍ للحكمة ومخالفٌ لها.
الثاني: ما لم يُدرِك المتعجب حكمتَه مع إيمانه بأن له حكمة.
والأول لا يجيء هنا؛ لأن عمر رضي الله عنه كان إمامًا صارمًا لا تأخذه في الحق لومةُ لائم، فلو علم أن هذا الحكم خطأ بأن كان من حكم أبي بكر أو غيره من الصحابة لخالفهم، كما خالفهم في أحكام كثيرة، فإذْ لم يخالف هذا الحكم علمنا أنه يعلم أنه حكم ممن لا يجوز عليه الخطأ، ولا تنبغي مخالفته، فيكون قد علمه من حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولم تتبيَّن له حكمته، فكان يتعجب لذلك.
ومع هذا فإننا لا نرى عجبًا في هذا الحكم:
أولًا: لأننا نقول: إن العمة ترِث في الجملة، وذلك إذا لم يستغرق الفروض ولم يُعلَم العصبة، وهذا كافٍ في المقابلة، كما أن الأخت ترِث من أخيها النصف فرضًا، ولا يرِث منها إلّا ما أَبْقَت الفروضُ تعصيبًا.
وثانيًا: الوراثة ليست مبنيةً على المقابلة، بل على الأسباب، فأيُّ مانعٍ أن يثبت لزيدٍ حقٌّ على عمرو ولا يثبت لعمرو حقٌّ على زيد؟ وهذا واضح هنا، فإن عصبية ابن الأخ لعمتِه ظاهرة بيِّنة، واستحقاقها صلته ضعيف، وانظر هذا المثال:
لو أن أخوينِ أحدهما منقطع، والآخر ذو ولد، فلو مات المنقطع لَورِثه ذو الولد، ولو مات ذو الولد لم يكن لذلك المنقطع شيء.
وأنت ترى أن فرض الزوج من زوجته ضِعْفُ فرضها منه وفرض الأب من بنته ثُلُثُ فرضِها منه. وإذا جاز الاختلاف زيادةً ونقصًا جاز وجودًا وعدمًا.
وقد تقدم حديث ابن عباس: "ألِحقوا الفرائضَ بأهلها، فما بقي فلأولَى رجلٍ ذكر". وفي "الفتح"
(1)
: قال الخطابي: إنما كَرَّر البيانَ في نعتِه بالذكورة ليُعْلَم أن العصبة إذا كان عمًّا أو ابنَ عمٍّ مثلًا، وكان معه أختٌ له، أن الأخت لا ترِث، ولا يكون المال بينهما للذكر مثل حظّ الأنثيين.
ولا يُعتَرض بأن هذا معلوم من لفظ "ذكر"، لأننا نقول: أكَّده لدفع التجوُّز والتغليب، والله أعلم.
وقد جاءت أحاديث في نفي ميراث العمة والخالة، انظرها في "تلخيص الحبير"
(2)
.
وقد ثبت في الصحيحين
(3)
وغيرهما في كتب الحديث والسير والتاريخ مطالبةُ العباس عمِّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بميراثه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يُنقَل البتةَ أن صفيَّة عمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طالبت لا هي ولا ورثتُها، ولا ذُكِرتْ في تلك المحاورات، وهي إنما توفيت في خلافة عمر رضي الله عنه.
قال
(4)
: "ولو رأى الفقه اليوم لازداد عجبًا، فإن فيه ابن البنت يورث ولا يرِث، وأمّ الأمّ ترِث ولا تورث".
أقول: هذه صورة واحدة جعلَها صورتين، فإن ابن البنت إنما ترِثه أمُّ أمِّه لا أبو أمِّه. وقد علمتَ الجوابَ مما تقدم، فابن البنت يرث من ميراث ذوي
(1)
(12/ 12). وكلام الخطابي في "أعلام الحديث"(4/ 2289).
(2)
(3/ 94).
(3)
البخاري (6725) ومسلم (1759/ 53) عن عائشة.
(4)
"الوراثة في الإسلام"(ص 19).
الأرحام، فلا وجه لنفي إرثِه. وسيأتي ما يتعلق بهذا في بحث ميراث أولاد الأولاد من الحجب إن شاء الله تعالى.
قال
(1)
: "وكذلك ابن الابن مع ابن الميت لا يَرِث عن جدّه، وجدُّه يَرِث عنه".
أقول: أما هذه فهي كمسألة الأخوين المنقطع وذي الولد، وقد تقدمت. وسيأتي بَسْط هذا في الحجب إن شاء الله تعالى.
(العول)
(2)
(1)
المصدر نفسه (ص 19).
(2)
بعده بياض في الأصل بمقدار نصف صفحة.
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تبارك وتعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11].
قوله: {وَلِأَبَوَيْهِ} أي المتوفى، فيعمُّ كلَّ متوفى كما لا يخفى، وهذا خبر، والظاهر أن مبتدأه محذوف، تقديره:"إرث" أو نحوه. وقدَّره بعضهم "الثلث". وقال بعضهم: المبتدأ هو
(1)
قوله: {السُّدُسُ} ، وقوله:{لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا} بدل بعض. وقد رُدَّ هذا القول الأخير وأجيبَ عن الرد كما في "روح المعاني"
(2)
. ولا أرى الجواب مُقنِعًا، ثمّ كلٌّ من القولين الأخيرين يقتضي أن الكلام انتهى عند قوله:{إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} ، ثم استأنف ما بعده. والظاهر هو القول الأول، فيكون قوله:{لِكُلِّ وَاحِدٍ} إلى قوله: {أَوْ دَيْنٍ} تفصيل
(3)
لقوله: {وَلِأَبَوَيْهِ} أي إرثٌ. كما أن قوله في أول الآية: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} تقديره على الصواب: "في توريث أولادكم"، ثم فصَّله بما بعده.
وقوله: {لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} ظاهر،
(1)
في الأصل: "بعد". سبق قلم.
(2)
(4/ 223 ــ 224).
(3)
كذا في الأصل مرفوعًا، والوجه النصب.
ومنطوق الآية خاص بحكم الأبوين عند اجتماعهما معًا مع الولد، ويؤخذ منها بمفهوم الموافقة أنه إذا انفرد أحدهما مع الولد فله السدس. أما أنه لا ينقص عنه فلأنه إذا لم ينقص عنه مع وجود الآخر فكذلك عند فقده، إذ لا يُعرف في الفرائض ذَوا فرضٍ ينقص أحدهما عن فرضه بسبب فقدان الآخر. وأما أنه لا يزيد عليه فلأن سبب النقص هو الولد، وهو موجود، فينقص أحدهما كما ينقص كلّ واحدٍ منهما.
ويؤخذ منها بمفهوم المخالفة أنه إذا لم يكن ولدٌ فللأبوين حكم آخر. هذا، ومع وجود الولد والأبوين أو أحدهما قد لا يبقى شيء، كأن يكون الولد ذكرًا. وقد يبقى شيء، كبنتٍ وأبوين، أو وأب فقط. وفي هذه الحال قد يكون ذو فرضٍ كأحد الزوجين، فيأخذ فرضه، فإن لم يكن، أو كان وبقي بعد فرضه شيء ــ كبنتٍ وأبوين فقط يبقى السدس، أو مع زوجة يبقى ربع السدس ــ فالجمهور أن ما بقي فللأب، يأخذه بحق العصوبة، لحديث الصحيحين وغيرهما عن ابن عباس مرفوعًا:"ألحِقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولَى رجلٍ ذكر". وحُكي عن الإمامية أن الباقي يُردّ على الورثة ــ أي دون الزوجة فيما يظهر ــ على حسب سهامهم. وهو خلاف ما دلَّت عليه السُّنَّة ومضى عليه الجمهور.
فإن قيل: فإن القرآن وكَّد أن للأب مع الولد السدس، ومفهوم ذلك أنه ليس له غيره.
قلت: وكذلك يقال في الرد في صورة أبوين وبنت: قد نصَّ القرآن أن للبنت النصف، وللأبوين السدسان، فمفهوم ذلك أن لا يُزاد أحد منهم. والحق أن نصَّ القرآن إنما هو في الفرض المحتوم، فلا ينافي أن يؤخذ غيره
بغير طريق الفرض تعصيبًا أو ردًّا على ما يقتضي الدليل.
ثم بيَّن تعالى ما أجملَه بمفهوم قوله: {إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} ، فقال:{فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} . فقوله: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ} أي: وبقية القضية بحالها، وهي اجتماع الأبوين كما هو ظاهر، فقد يستشكل قوله مع ذلك:{وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} .
والجواب يختلف باختلاف المذهب، أو يختلف باختلافه المذهب. وهنا مذهبان:
الأول: مذهب الجمهور أنه إذا لم يكن ولدٌ ولا إخوةٌ، وكان أبوانِ، فللأمّ ثلثُ ما يأخذانِه، فإن لم يكن معهما أحد الزوجين أخذتْ ثلثَ التركة، وإن كان معهما زوجة أخذت الأمُّ ثلثَ الباقي، وهو الربع، وإن كان بدل الزوجة زوج
(1)
لم يكن للأم إلا السدس.
الثاني: مذهب ابن عباس، وهو أن للأم ثلث التركة في الصور الثلاث.
فلنبدأ بالجواب الموافق لمذهب ابن عباس فنقول ــ على فرض التزامنا مذهبَه ــ: قوله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} تأكيد، وحَسُن لأنه لو قيل:"فإن لم يكن له ولد فلأمه الثلث" لقال قائل: هذا إذا لم يكن معها أبٌ، زاعمًا أن هذه الجملة مستقلة عما قبلها، فلا يلزم موافقتها لها في كونها في اجتماع الأبوين. ويؤيد قوله بأن هذه لو كان المعْنِيَّ فيها على اجتماع الأبوين لبيَّن حكم الأب، فلما اقتصر على بيان حكم الأمّ دلَّ أن هذه الجملة إنما هي في حكم الأم عند عدم الأب.
(1)
في الأصل: "زوجة" سبق قلم.
فإن قيل: بناء الجملة على ما قبلها ظاهر، ولو قيل: إنها في حكم الأم عند انفرادها عن الأب، رُدَّ ذلك بأن هذا القيد ــ وهو قولكم:"عند انفرادها عن الأب" ــ لا دليلَ عليه، فغاية ما هناك أن يكون قوله:{فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ [وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ] فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} على إطلاقه، فيعُمُّ الحالين معًا، أعني أن يكون معها أب أو لا يكون، والحكم في ذلك صحيح، فإنها إذا كانت أمٌّ ولا ولد فلها الثلث، سواء أكان الأب موجودًا أم لا. وعلى هذا فلا محذورَ من أن يُفهم هذا، بل قد يقال: إن في فهم ذلك زيادة فائدة صحيحة، وعلى هذا فلا مقتضي للتوكيد. وأما سكوته عن بيان نصيب الأب فلا يدلّ على عدم دخوله في الكلام، إذ قد يترك لأن المعنى: أن الباقي له، أو لأن حكمه يختلف. وعلى فرض الإصرار على دعوى الدلالة فلا محذور فيها كما تقدم.
فالجواب أن أكثر أهل العلم قامت عندهم شبهاتٌ نظرية ألجأتْهم إلى القول بأنّ فرض الأم مع الأب والزوج السدس، ومع الأب والزوجة الربع. ولا ندري لعله لولا قوله:{وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} لقالوا: فرضُ الأم مع الأب السدسُ أبدًا. ولعلهم لا يُسلِّمون عمومَ قوله لو قيل: "فإن لم يكن له ولد فلأمه الثلث" لحال وجود الأب، بل يخصُّونها بحالِ انفراد الأم، ويُقوُّون ذلك بعدم ذكر ما للأب. ففائدة التأكيد هي دفع تلك الشبهات، وإثبات أن للأم مع الأب عند عدم الولد والإخوة الثلث مطلقًا، أي سواء كان هناك أحد الزوجين أم لا، كما هو مذهب ابن عباس ومَن وافقه.
فإن قيل: الذي حملَ الجمهورَ على ما ذكرتم إنما هو استبعاد أن تفضُلَ الأمُّ الأبَ في مسألة أبوين وزوج، وإنما قالوا في أبوين وزوجة أن للأمّ الربع
لما حملوا عليه الآية كما يأتي. والظاهر أنه لو لم يقل: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} لما زادوا على قولهم، وهو أن يكون للأم مثل نصف ما للأب حيث لم يكن ولد ولا إخوة، فلو أريد دفعُ ما قام لديهم من النظر لصرَّح بأن للأم مع الأب الثلث مع وجود الزوج مثلًا.
فالجواب أن سنة الله عز وجل في إيراد الحجج الاكتفاء في أكثرها بالتنبيه عليها تنبيهًا كافيًا، لمن حَرَصَ على الحق وأنعمَ النظر ووُفِّق للصواب وما تقتضي الحكمة من ترجيح مقابله في نفسه، وأن يدع مناصًا لمن كان له هوًى أو قصَّر، ومجالًا لما قد تقتضيه الحكمة في بعض الجزئيات من ترجيح الله عز وجل في فهم القاضي خلاف الراجح، لاقتضاء الحكمة ذلك في تلك الجزئية، وهذا موضَّح في موضع آخر.
وههنا تنبيه كافٍ، فإن التأكيد بقوله:{وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} قد دلَّ على شدّة العناية بتثبيت أن الكلام في حال اجتماع الأبوين، وإنما يكون ذلك لما ذكرنا، ثم قد عمَّت الآية الحالين، أعني أن يكون هناك أحد الزوجين أو لا، ونصَّت نصًّا قاطعًا على ذلك في الجملة، فكانت منه صورة قطعية، وهي أن ينفرد الأبوان وليس معهما أحد الزوجين، ولزم من ذلك أن يكون الحكم كذلك عند وجود أحد الزوجين، إذ المعروف في الفرائض أن الوارث إذا نقصَ فرضُه بسبب وارثٍ آخر كان وجوده ناقصًا لذاك باطّراد، كالولد مع الأم أو الأب أو أحد الزوجين ينقُصُهم على كلّ حال، وكالإخوة مع الأم ينقصونها على كل حال، ففي أبوين وأحد الزوجين من ينقص الأم؟ لا يمكن أن يكون الأب، فإنه إذا لم يكن أحد الزوجين لم ينقصها قطعًا، ولا يمكن أن يكون أحد الزوجين لأن أحدهما لا ينقصها عند عدم الأب.
فإن قيل: نختار أن الذي ينقصها الأب، ولكن نقْصَه لها مشروط بوجود أحد الزوجين، كما أنه ينقصها بوجود الإخوة.
فالجواب أنه في صورة أبوين وإخوة لم ينقصها الأب، وإنما الذي نقصَها الإخوة، كما ينقصونها عند عدم الأب.
فإن قيل: فإن الإخوة لا يرثون مع الأب شيئًا.
قلنا: قد نُقِل عن صاحبنا ــ أعني ابن عباس رضي الله عنه ــ أن الإخوة مع الأب والأم يأخذون السدس الذي نقصتْه الأم، ولا يلزمه أن يورثهم مع الأب حيث لا أمّ، لأنهم إنما يأخذون ما لو فُرِض عدمُهم لم يأخذه الأب، وهو ذاك السدس الذي نقصته الأم، فإنه لولاهم لكان لها لا للأب.
فإن لم نقل به وقلنا: لا يأخذ الإخوة شيئًا، فعنه جوابان:
الأول: أنهم نقصوها والأب حجَبَهم.
فإن قيل: لا نظير لهذا في الفرائض ..... مذهب الجمهور فلها نظير، وهو الجد مع الأم لا ينقصها عن الثلث مع أحد الزوجين، فإن كان جدٌّ وأمٌّ وإخوةٌ لأمّ نقصَ الإخوةُ أمَّهم إلى السدس وحجبهم الجدُّ. وأما على مذهب صاحبنا ــ أعني ابن عباس ــ فلا يجيء هذا السؤال من أصله لما مرَّ أنه يجعل السدس المنقوص للإخوة، فلا يحجبهم الأب والجدُّ عنه.
الجواب الثاني: أن ذلك السدس في الاستحقاق لهم، ولكن الأب يأخذه كِفاءَ ما أنفقه أو يُنفقه عليهم، كما قال قتادة: كان أهل العلم يرون أنهم إنما حجبوا أمَّهم من الثلث لأن أباهم يَلِيْ نكاحَهم والنفقةَ عليهم دون أمِّهم. "تفسير ابن جرير"(4/ 174)
(1)
.
(1)
(6/ 468) ط. التركي.
فإن قيل: فالإخوة لأمّ ينقصونها السدس ولا يُعطَونه، فكيف يأخذه أبو الميت وهو لا يلي نفقة هؤلاء الإخوة ولا نكاحهم؛ لأن لهم أبًا غيره؟
فالجواب: قد قال الزيدية ومَن وافقهم: إن الإخوة للأم لا ينقصونها، وهذا بعيد، والأولى مذهب صاحبنا أن السدس يكون للإخوة، فإن لم يقْوَ قولُه في الأشقاء أو لأب فهو قوي في بني الأم.
فأما على القول بأنهم ينقصونها ولا يعطون شيئًا، فالجواب: أن سبب نقصانها معهم غير سبب نقصانها مع الأشقاء أو لأب. وبيانه: أن بني الأم إن كانوا كبارًا فقد اعتضدتْ بهم أمهم، واستغنت بمعونتهم، فضعُفَ استحقاقُها، وإن كانوا صغارًا فالغالب أن يكون أبو الميت فارقها، فنكحت أباهم وثبتت قدمُها عنده بولادتها له أولادًا، فضعُفَ استحقاقها من ابنها الميت من جهتين: الأول: فراقها لابنه، الثانية: استغناؤها ببعلها الثاني.
فإن قيل: فلمن يكون السدس الذي نقصتْه؟
قلنا: هو باقٍ بعد الفرائض، فيأخذه الأب تعصيبًا.
فإن قيل: حاصل هذا الجواب أنه لم ينقصها الأب ولا بنوها، وإنما نقَصَها نقْصُ استحقاقها، فيُقْلَب سؤالكم عليكم، فيقال: لو كان نقصُ استحقاقها ينقصُها لنَقَصَها على كل حال.
فالجواب: أما في الحكم فنقصَها بنوها، وأما في الحكمة فنقَصَها نقْصُ استحقاقها، ولكنه لا ينضبط، فضبطه الشرع بوجود الإخوة، فيُقتَصر عليه، كما أن أهل العلم يُعلِّلون شرعَ قَصْر الصلاة في السفر بالمشقَّة، قالوا: ولكن المشقّة لا تنضبط، فضبطها الشرع بالسفر المخصوص، وصار الحكم مقصورًا عليه. على أنه لا يلزم فيمن نقصَ وارثًا عن فرضه أن يكون ذلك
المنقوص له، ألا ترى إلى مسألة بنت وأم وعصبة، فالبنت تنقص الأم السدس، ولا يكون ذاك السدس لها، بل لو استوفت الأمُّ الثلث لما نقصَ على البنت شيء. فالبنت نقَصَت الأمَّ، والعصبة أخذ.
فإن قيل: لكنها تظهر الفائدة إذا كثر الورثة، كبنات وزوج وأم، لو كمل للزوج النصف وللأم الثلث لعالت المسألة، فيكون أصلها ستة وتعول إلى تسعة، فينقص نصيب البنات؛ إذ يكون لهن ثمانية من ثمانية عشر، وبالنقصان صار لهن ثمانية من ثلاثة عشر.
قلنا: أما على رأي صاحبنا ــ أعني ابن عباس ــ فلا عول، وأما على رأي الجمهور فلو كان الأصل الذي نفيناه معتبرًا لاقتصر به على ما إذا لزم العول، ولا عول في المسألة التي فرضناها، وهي: بنت وأم وعصبة.
فإن قيل: إن الأب يحجب الإخوة، والإخوة ينقصون الأم، فيلزم أن يكون الأب ينقص الأم، لأنه إذا حجب من ينقصها فلأن ينقصها هو أولى.
قلنا: هذا منقوض بمسألة الأبوين عند انفرادهما، وبالجدّ يحجب الإخوة لأم، ولا ينقص الأم إذا انفرد معها، أو كان معهما أحد الزوجين والله الموفّق.
فصل
وأما على مذهب الجمهور فإذا التزمناه قلنا: ما تقدم من الجواب الموافق لمذهب ابن عباس حاصلُه أن قوله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} تأكيد، وله عندنا محامل أخرى يكون لكلٍّ منها تأسيسًا، والتأسيس أولى من التأكيد، وبذلك يندفع الإشكالُ البتةَ، وهاك المحامل:
الأول: أن قوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} توطئة لما بعده، ليُفهم أن المراد بقوله:{فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} الثلثُ مما وَرِثاه، ولولا قوله:{وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} لما فُهِم ذلك.
أقول: هذا القول بعيد.
أولًا: لأن المطَّرد في الأنصباء التي تُذكَر في الفرائض في الكتاب والسنة أنها منسوبة إلى أصل التركة، وليس في قوله:{وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} ما يَصْرِف عن ذلك، غاية الأمر أن يقال: لو لم يقصد به ذلك لكان فضلًا أو تأكيدًا على ما تقدم، والتأسيس أولى منه. وأقول: التأكيد الواضح أولى من هذا التأسيس الذي لا يفهمه أحد، ولولا أن صاحب هذا القول اعتقدَ أن للأم ثلث الباقي ــ حيثُ كانت مع الأب وأحد الزوجين ــ لما وقعَ له هذا الفهم. وقاعدة "التأسيس أولى من التأكيد" محلُّها حيث يتعادل الاحتمالان، فأما حيث يكون احتمالُ التأسيس تعسُّفًا واحتمالُ التأكيد ظاهرًا فالتأكيد أولى.
المحمل الثاني: أن المراد بقوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} أن يَرِثاه فقط، بأن لا يكون معهما وارثٌ آخر، قالوا: والحصر مأخوذ من التخصيص الذكري كما تدلُّ عليه الفحوى.
أقول: لا شكَّ أن التخصيص الذكري قد يفيد الحصر، ولكنَّ محلَّ ذلك حيث يكون المقام مقتضيًا للاستيعاب، كأن يقال: مَن ورِثَ زيدًا؟ أو أخبِرْني بمن ورث زيدًا، فيقال: ورثه أبواه، فإن الاستخبار ههنا عامٌّ عن جميع الورثة، والأصل أن يكون الجواب مطابقًا للسؤال، فيظهر بذلك أن الجواب مستغرقٌ لجميع الورثة. غاية الأمر أن يقال: لو لم يقصد بقوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} الحصر لكان فضلًا أو تأكيدًا، وقد تقدم الجواب عنه.
المحمل الثالث ــ ولم أرَ مَن تعرَّض له ــ: أن الإرث إذا أُطلِق في القرآن ولم يُبيَّن النصيب فالمعنى على أنه تعصيب، قال تعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11]، فلم يبيِّن كم لهم لأنهم عصبة، ثمَّ بيَّن حكم البنات إذا انفردنَ وسمَّى نصيبهن، لأنهنَّ ذوات فرضٍ. وقال تعالى في الأخ وأخته:{وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176]، فلم يُسمِّ له نصيبًا لأنه عصبة.
إذا تقرر هذا فنقول: قال تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} ولم يُسمِّ لهما نصيبًا، فالمعنى أنهما عصبة، وإذا كانا عصبةً فقاعدة العصبة أن للذكر مثلَا
(1)
حظّ الأنثى. وأما قوله بعدُ: {فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} فالمراد ثلث التركة كما هو ظاهر، ولكن قد دلَّ كونهما عصبة على أن هذا إنما يكون حيث يبقى للأب مِثلَا ذلك، وذلك إذا لم يكن معهم أحد الزوجين. ودلَّ ذلك أنه إذا كان معهما أحد الزوجين كان الباقي بينهما، له سهمان ولها سهم.
أقول: الظاهر أن القاعدة صحيحة، ولكن بناء قوله تعالى:{وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} عليها على النهج المذكور ليس هناك، لأنه قد سمَّى نصيبَ الأم، فلم يبقَ إلّا أن يكون الأب عصبةً، وهو متفق عليه، ولا يفيد ما تقدم.
نعم، قد يقال: إنما سمَّى نصيبَ الأمّ بعد أن استقر أنها عصبة، وذلك أنه قال:{وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} ، ولم يُسمِّ إرثهما معًا، فثبت بمقتضى القاعدة أنهما عصبة، ولا ينقضه تسميةُ نصيب الأمّ بعد ذلك.
(1)
الوجه: "مثلَي" منصوبًا.
وفيه نظر، إذ يقال: لم يقصد بقوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} إثبات إرثهما ولا بيان مالهما، وإنما المقصود به بيان وجودهما معه، كقوله:{وَلَهُ أُخْتٌ} من قوله: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ} إلّا أنه قد يُخدَش في هذا بأنه لو كان هذا هو المقصود لقيل: "وله أبوان" مع أن وجود الأبوين معروف في الكلام بدون هذه الزيادة كما تقدم، وقد يُجاب عن هذا بأنه إنما عدل عن قوله:"وله أبوان" لأن التعبير بقوله: "وله كذا" إنما يَحسُن فيما قد يكون وقد لا يكون، كالولد والإخوة، فأما الأبوان فكلُّ إنسانٍ غير آدم وحواء وعيسى له أبوان.
وقد يُخدَش في هذا بأنه حيث جاء في آيات الفرائض "وله ولد""وله إخوة" المقصود منها وجود من ذُكِرَ حيًّا غيرَ ممنوعٍ من الإرث، فلو قيل:"وله أبوان" لكان: وله أبوان حيَّان غير ممنوعَيْنِ، وهذا صحيح في حقّ كل إنسان.
وقد يُجاب بأن الأمر كذلك، ولكن الصورة الظاهرة من قوله:"وله أبوان" قد تُوهِم أن من الناس مَن ليس له أبوان مطلقًا، وهذا مما تقتضي البلاغة اجتنابه.
بلى، قد يقال: المعنيانِ محتملانِ، أن يكون المعنى:"وله أبوان"، أو يكون:"وورثه أبواه جميعَ ماله"، أو غير ذلك، ولم يُسمَع بما ذكرنا. وإذا كان الأمر كذلك فالتأسيس أولى من التأكيد.
أقول: على كل حال، ليس هذا المحملُ بذاك، والله أعلم.
المحمل الرابع ــ ولم أرَ مَن تعرَّض له أيضًا ــ: "ورث" ونحوه مما اشتقّ من الإرث قد يُعدَّى إلى المال ونحوه مما كان للموروث منه بدون ذكر
الموروث منه، وهذا هو الغالب في القرآن، كقوله تعالى:{أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} ، وقوله:{الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} وغير ذلك في نحو عشرين موضعًا من القرآن، ومنه في قول أكثر المفسرين من الصحابة وغيرهم وعليه سبب النزول قوله تعالى:{لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} ، ففي "صحيح البخاري"
(1)
وغيره عن ابن عباس: "كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحقَّ بامرأته، إن شاء بعضهم تزوَّجَها، وإن شاءوا زوَّجوها، وإن شاءوا لم يُزوِّجوها، وهم أحقُّ بها من أهلها، فنزلت هذه الآيات". فالحاصل أنهم كانوا يَعدُّون امرأة المتوفَّى من جملة تركتِه، فحكمها عندهم حكم المال، يَرِثونها كما يرثون المال.
وقد يُعدَّى إلى الموروث منه فقط، فيعدَّى إليه تارةً بنفسه وتارةً بـ "مِن"، كقوله تعالى فيما قصَّه عن زكريا:{فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم: 5 ــ 6]. وقد يُعدَّى بـ "عن"، كقول عمرو بن كلثوم
(2)
:
وَرِثنا المجدَ عن آباءِ صدقٍ
…
ونُورِثُه إذا مِتْنا بَنِينا
وقد يُعدَّى إلى الاثنين معًا، قال تعالى:{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} إلى قوله: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا} [مريم: 77 ــ 80].
(1)
رقم (4579). وأخرجه أيضًا أبو داود (2089) والنسائي في "الكبرى"(11094) والبيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 138) وغيرهم.
(2)
في معلقته، انظر "شرح المعلقات" للزوزني (ص 132).
والمعروف بين أهل اللغة وغيرهم أن حقَّه أن يتعدى إلى مفعولين، الأول: مَن كان له المال أو نحوه، الثاني: المال أو نحوه، على حدّ قوله تعالى:{وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} أي: ونرِثه مالَه وولده، ولكنه قد يُترك ذِكْر أحد المفعولين لعلَّةٍ تقتضي ذلك، ولم يُفرِّقوا بين وَرِثتُه ووَرِثتُ منه ووَرِثتُ عنه. هذا هو المعروف عنهم، ولكننا نُدرِك بذوقنا أن قولك:"ورثَ زيدًا أبواه" يدلُّ على إحاطتهما بإرثه، وأنه إذا أُرِيد خلافُ ذلك قيل:"ورِثَ منه أبواه"، ونُدرِك ذلك في قولِ زكريا:{يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} وأنه أراد: يرِثني كل ما هو لي أي من العلم والإمامة في الدين ونحو ذلك، ويَرِث بعضَ ما كان لآل يعقوب.
ثم وجدتُ أهل العلم قد أدركوا ذلك في الجملة، ففي "فتح الباري"
(1)
ــ كتاب الفرائض: باب {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} ــ: وقال السهيلي: ومن العجب أن الكلالة في الآية الأولى من النساء لا يرِث فيها الإخوة مع البنت، مع أنه لم يقع فيها التقييد بقوله:"ليس له ولد"، وقيَّد به في الآية الثانية مع أن الأخت فيها ورثتْ مع البنت. والحكمة فيها أن الأولى عبّر فيها بقوله تعالى:{وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ} ، فإن مقتضاه الإحاطة بجميع المال، فأغنى لفظُ "يُورَث" عن القيد، ومثله قوله تعالى:{وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} أي يُحيط بميراثها. وأما الآية الثانية فالمراد بالولد فيها الذكر كما تقدم تقريره، ولم يُعبَّر فيها بلفظ "يورث"، فلذلك ورثت الأخت مع البنت.
(1)
(12/ 26). وقول السهيلي في كتاب "الفرائض وشرح آيات الوصية"(ص 74، 75).
أقول: وتقرر في قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً} أن الكلالة مصدر بمعنى القرابة بغير الأصلية والفرعية، ويُطلق على الأقارب بغير الأصلية والفرعية، فكأنه قيل:"وإن كان رجلٌ يرثه ذوو كلالة" أو "يرثه كلالة". وهذا لفظ الآية: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12].
فيقال: المراد بالإخوة هنا الإخوة لأم كما قُرِئ به وأُجمِع عليه، وفي القرآن المتلو
(1)
دلالةٌ عليه كما هو معروف في موضعه، فإذا كان المعنى "يرثه ذوو كلالة" فليس فيه تعرضٌ لعدم البنت، لأن ذوي الكلالة قد يرثون معها. وإذا كان كذلك فالآية تعمُّ مَن لم يكن له بنت ومن كانت له بنت، لأن الكلالة اسم للقرابة المذكورة أو ذويها على كل حال، حتى مع وجود الولد والوالد، مع أن الأخوة لأم تحجبهم البنت، فقد كانت هذه الآية أحقَّ بأن يُقيَّد فيها بعد الولد.
والجواب أن معنى {يُورَثُ كَلَالَةً} أي يرثه كلالة أو ذوو كلالة، ومعنى يرثه هؤلاء: يحيطون بميراثه، وإنما يحيطون بميراثه إذا لم يكن وارث غيرهم.
وأما الآية الثانية فلفظها: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
(1)
في الأصل: "المدلو".
الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [خاتمة النساء].
والكلام عليها يطول، والمقصود هنا أمران:
الأول: أنه قال فيها: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} ، وهو يعمُّ كلَّ هالك، لا يخصُّ من يحيط ذوو الكلالة بإرثه، كما كان في الآية الأولى، فلهذا قيّدها بقوله:{لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} . وأما ميراث الأخوات مع البنات فهو على وجه التعصيب، وهو غير الإرث المذكور في الآية، إذ المذكور فيها الفرض.
الثاني: قوله: {وَهُوَ يَرِثُهَا} ، وقد قال السهيلي: إنه على الإحاطة، ووافقه غيره. قال أبو السعود
(1)
: فالمراد بإرثه لها إحراز جميع مالها، إذ هو المشروط بانتفاء الولد بالكلية، لا إرثه لها في الجملة، فإنه يتحقق مع وجود بنتها.
أقول: وفيه نظر؛ لأن الإحاطة يَمنعُ منها أيضًا غيرُ البنت، كالزوج والأم والإخوة لأم. فالأَولى ــ إذا ثبت أن قولنا:"وَرِث زيدٌ عمرًا" يقتضي الإحاطة ــ أن يقال: هذا هو الأصل، وقد يُتوسَّع فيُطلَق في ما يقارب الإحاطة، وهو إرث العصبة، فإنه يحيط بالمال إذا انفرد، وكونه ليس له نصيب معيَّن يقتضي إطلاقَ إرثه، على ما تقدم في المحمل الثالث.
هذا، وقد تُوجَّه دلالة "وَرِث فلانٌ فلانًا" على الإحاطة بأربعة أوجه:
الأول: أن يقال: إن الذوق وكثرة الاستعمال ومواقعه يدلُّ أن حقَّ الإرث أن يُعدَّى فعلُه بنفسه إلى المال ونحوه، وأن يُعدَّى إلى من كان له
(1)
في تفسيره "إرشاد العقل السليم"(2/ 264).
المال ونحوه بـ "عن" أو "من" الابتدائية. وإنما يقال: "ورِثَ فلان فلانًا" على حذفِ مضافٍ، والتقدير في ميراث المال: ورِثَ فلانٌ مالَ فلانٍ. وإذا كان التقدير ذلك فالإحاطة واضحة، لا لعموم الإضافة فحسب، بل لأن الحكم المفرد بما لا يقل شموله لجميع أجزائه يقتضي العموم فيها، كما في: اشتريتُ عبدًا أو دارًا، أو العبد والدار، أو هذا العبد وهذه الدار، فإنما هذا الكلام يدلُّ على شمول الشراء لجميع العبد والدار، فأما حيثُ يقلُّ الشمول أو يندر أو يمتنع مثل ضربتُ زيدًا، فإنه لا يُفهم منه الشمول، ولكن صرَّح ابن جني وغيره بأنه مجاز، أي وقرينته العادة، وناقش فيه بعض الأجلّة مع عدم إنكاره أن نحو اشتريت عبدًا أو دارًا يدلُّ على العموم.
فإن قيل: لو كان التقدير في ورثتُ زيدًا: ورثتُ مالَ زيدٍ، لما صحَّ ورثتُ زيدًا مالاً، وقد قال تعالى:{وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} ، ونحو ذلك وارد في كلامهم.
فالجواب: أنه قد يكون بتضمين "ورث" معنى فعلٍ آخر، مثل سلب، وذلك ظاهر في قوله تعالى:{وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} ، وقد يكون "مالًا" في "ورثتُ زيدًا مالًا" بدلاً لا مفعولًا ثانيًا، وقد يكون "زيدًا" منصوبًا بنزع الخافض، والأصل: ورثتُ من زيد مالًا.
فإن قيل: فإذا كان "ورث" أن لا يتعدى إلى زيد مثلًا بنفسه، فكيف يُعدَّى إليه؟
قلت: بـ"عن" أو "من" الابتدائية.
فإن قيل: سبق لك في الكلام عن قول زكريا: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} ما يقتضي أنها تبعيضية.
قلت: ذاك الظاهر هناك، وكان أصل الكلام:"ويَرِث مِن ما هو لآل يعقوب". وعلى هذا فإذا عدِّي بـ "من" فالظاهر أنها تبعيضية والكلام على حذف مضاف، ويحتمل أنها ابتدائية.
الوجه الثاني: أن يكون الأصل "ورثتُ مالَ زيدٍ" أيضًا، ولكن نزَّلتَ تملُّكَك مالَ زيدٍ كلّه منزلةَ تملُّكِك زيدًا نفسه. وهذا قريب من الذي قبله.
الوجه الثالث: أن يكون الأمر كما جرى عليه أهل اللغة أن "ورِث" يتعدى إلى مفعولين، ولكن إذا لم يذكر الثاني دلَّ على شمول الإرث لجميع ما كان للموروث منه، لأن حذف المعمول يُؤذن بالعموم كما صرَّحوا به.
الرابع: أن يُدَّعى أن مادة الإرث تقتضي الإحاطة وضعًا، كما يدلُّ عليه التبادر عندما يقال: ورثَ فلانًا أبواه، ونحو ذلك. وتدلُّ عليه الشواهد المتقدمة وغيرها.
فإن قيل: أما الوجهان الأولان فيكفي في ردِّهما مخالفتهما لما عليه أهل العربية وغيرهم، من أن "ورِث" يتعدى بنفسه إلى مفعولين. وأما الثالث فقولهم:"حذف المعمول يُؤذِن بالعموم" ليس على إطلاقه، وإنما محلُّه حيث يكون المقام مقامَ ذكر المعمول لو كان خاصًّا، كقوله تعالى:{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} [يونس: 25] ونحو ذلك، وقولُه في الآية:{وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} ليس كذلك، والكلام على نحو ما تقدم في المحمل الثالث. وأما الوجه الرابع فلا نُسلِّم التبادر، وإن سلَّمناه فلنا أن نقول: لعل ذلك لوجهٍ آخر، لا لأن الوضع من أصله يقتضي الإحاطة، وكذلك يقال في الشواهد.
فالجواب: أنه يجوز أن يكون المصرّحون بأن "ورِث" ينصب مفعولين
بنوا على الظاهر في نحو {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} ، ولم يراعوا صلب المعنى، ودخول قوله:{وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} في قاعدة حذف المعمول قد سبق الكلام فيه في المحمل الثالث. ومَنْعُكم الرابع مع تسليم التبادر لا يضرُّنا، فإن مقصودنا أن قول القائل:"ورِث زيدًا أبواه" تُفهَم منه الإحاطة، وهذا أمرٌ ندركه بذوقنا العربي، وكلُّ ممارسٍ للعربية حقَّ الممارسة لابدَّ أن يجده كما وجدناه. فإن صحت الأوجه المذكورة أو بعضها فذاك، وإلّا كفانا الفهم.
ثم إننا قد أثبتنا أن غيرنا ممن تقدم قد فهم ذلك كما فهمناه، وأوضحُ من ذلك أن الصحابة وعامة علماء الأمة فهموا من قوله تعالى:{وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} نحو ما فهمنا، ولم يصحّ خلافُ أحدٍ منهم غير ابن عباس، مع أنه لم يدَّعِ في دلالة الآية خلافَ ذلك، فقد صحَّ عن مولاه عكرمة قال
(1)
: [أرسلني ابن عباس إلى زيد بن ثابت أسألُه عن زوج وأبوين، فقال زيد: للزوج النصف، وللأم ثلث ما بقي، وللأب بقية المال. فأرسل إليه ابن عباس: أفي كتاب الله تجد هذا؟ قال: لا، ولكن أكره أن أفضِّل أمًّا على أب. قال: وكان ابن عباس يُعطي الأمَّ الثلث من جميع المال].
وهذا فصل الخطاب في الآية، فإن زيدًا ــ وهو أفرضُ الأمة ــ وابن عباس ــ وهو حبر الأمة، وهو المخالف في المسألة ــ اعترفا بأنه ليس في كتاب الله تعالى حجةٌ على بيان نصيب الأمّ في الغرَّاوينِ، وأنهما إنما قالا بالرأي. ومعنى ذلك أن الآية محتملةٌ عندهما للمعنيين، فقوله تعالى:
(1)
لم يذكر النص في الأصل. وراجع له "مصنف عبد الرزاق"(19020) و"السنن الكبرى" للبيهقي (6/ 228).
{وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} يحتمل أن يكون بمعنى: "وله أبوانِ" على ما قدَّمنا على مذهب ابن عباس، ويحتمل أن يكون على معنى الإحاطة بالتركة، أو غيره من المحامل التي تقدمت على مذهب الجمهور، فرجعا إلى النظر، فاقتضى نظر ابن عباس ما رجَّح عنده المعنى الأول، واقتضى نظرُ غيره ما رجَّح عندهم المعنى الثاني، فعلينا أن نتدبَّر جهتَي النظر.
أما نظر ابن عباس فالظاهر أنه ما قدمناه من أن المعهود في الفرائض أن من نقصَ وارثًا نقصَه على كل حال، فلو كان الأب ينقُصُ الأمَّ لنَقَصَها على كل حال، وقد ثبت أنه لا ينقُصُها إذا لم يكن ولدٌ ولا إخوة ولا أحد الزوجين، فلا ينقُصُها في غير ذلك. وأما نقصُها مع الإخوة فإنما نقَصَها الإخوة، وهم ينقصُونها على كل حالٍ كما تقدم.
وأما نظر الجمهور فأشار إليه زيد بن ثابت بقوله: "لا أُفضِّلُ أمًّا على أبٍ". وبيانه أنه في المسألة المنصوصة والمتفق عليها نجد الأب إما مساويًا للأم وإما زائدًا عليها، فمع الولد الذكر ومع البنتين لكل من الأبوين السدس، ومع البنت الواحدة للأمّ السدس وللأب الثلث. وكذلك الحال مع أولاد الابن. وعند انفراد الأبوين للأم الثلث وللأب الثلثان، وعند انفرادهما مع إخوة للأم السدس وللأب الباقي. فالمعهود في الفرائض أن لا تفضل الأم على الأب، وقد ثبت أنه لا تَفْضُلُه في غير الغرَّاوينِ، فلا تفضُلُه فيهما.
فهذان نظرانِ متعارضان، وقد يُرجَّح نظر ابن عباس بأوجهٍ:
الأول: أن استحقاق الأم آكَدُ؛ لأن تعبَها في شأن الولد أشدّ.
الثاني: أن بِرَّها آكَدُ، ففي الحديث الصحيح
(1)
: "بِرَّ أمَّك ثمَّ أمَّك ثمَّ أمَّك، ثم أباك"، فجعل للأم ثلاثة حقوق من البر، وللأب واحدًا.
الثالث: أن الأم ذات فرض، والأب عصبة، ومن شأن صاحب الفرض أن يلزم فرضه، والعصبة يختلف حاله زيادةً ونقصًا، فيأخذ جميعَ المال تارةً، ولا يبقى له إلا شيء يسيرٌ تارةً، ولا يبقى له شيء أخرى، كالأخ الشقيق يأخذ جميع المال إذا انفرد، ولا يبقى له إلا نصفُ السُّدُس مع بنت وأم وزوج، ولا يبقى له شيء مع بنتين وأم وزوج.
وقد يُخدَش في هذه الأوجه:
أما الأول: فإن الأب يتعب في السعي على الأم والولد معًا، فقد تعب في تحصيل مهر الأم وفي إسكانها والإنفاق عليها وإخدامِها وحفظِها وغير ذلك، ثم في شأن الولد وتأديبه والإنفاق عليه وتزويجه.
وأما الثاني: فقد يقال: إن تأكيد الأمر ببرِّ الأمّ ليس هو لكونه آكَدَ من برِّ الأب، وإنما هو لأنه مظنَّة الإهمال، فإن الولد يحترم أباه لعلمِه بمزيَّتِه عليه في العقل غالبًا، ولاحتياجه إليه في مصالح دنياه، وخوف ملامة الناس، وقد يتهاون بأمر أمِّه، يقول: إنما هي امرأة ضعيفة العقل، ولا يحتاج إليها غالبًا، ويكثُر أو يغلب أن يقع بينها النزاع وبين زوجته وأن تتعنَّت في ذلك.
وأما الثالث: فإن الأب ذو فرضٍ كالأم، وإنما لم يُسَمَّ له فرضٌ مع عدم الولد لأن الفرائض قد رُتِّبتْ ترتيبًا يُعلَم منه أنه لا ينقص فيه بل يزيد، كما هو الحال في الابن، فلم يُسَمَّ له فرضٌ بل جُعِل عصبةً، ولكن جُعِل ناقصًا لكثير
(1)
البخاري (5971) ومسلم (2548) عن أبي هريرة نحوه.
من الورثة، فغاية ما ينقص في زوج وأبوين، يبقى له النصف إلّا نصف السدس.
ثمَّ يُرجَّح نظرُ الجمهور بأوجهٍ:
الأول: أنه نظر في حال الأبوين أنفسهما، فقاس ما اشتبه من أمرهما على ما تبيَّن، فهو ألصقُ بمحلِّ النزاع من النظر الآخر الذي نظر في حال الورثة إجمالًا.
الوجه الثاني: أن المعنى فيه ظاهر، وهو أنه دلَّ على أن استحقاق الأب للمال لا ينقص عن استحقاق الأم، بل يزيد عليها غالبًا.
الثالث: أن الأب وإن لم يتحقق أنه ينقص الأمَّ كما ينقص الولد، لكنه مظنة ذلك، بدليل أنه في مسألة أبوين وإخوة تأخذ الأم السدس، ويأخذ هو الباقي. والجواب عن هذا بما تقدم لا يدفع الترجيح به.
الرابع: أن الأم مظنَّة أن تكون مع الابن عصبةً أو شبيهةً بالعصبة، وتحقُّقُ أنها ليست كذلك في بعض الصور لا يدفع أن تكون كذلك في غيرها، كما قالوه في: بنتين وبنتِ ابنٍ وابنِ ابنِ ابنٍ، أن بنت الابن تكون عصبة مع ابنِ ابنِ أخيها، ولا تكون عصبةً معه في: بنت وبنت ابن وابنِ ابنِ ابنٍ.
فصل
أما أنا فالذي ترجح عندي هو نظر الجمهور، وعليه فيختصُّ منطوق الآية بما إذا أحاط أبواه بميراثه، وتدلُّ بمفهومها على أنه إذا كان معهما أحد الزوجين فليس للأم الثلث، وأقرب ما يُحمل عليه أن يكون للأبوين الباقي: له سهمان ولها سهم كما هو مذهب الجمهور، فأما من قال: إن لها في أبوين
وزوجٍ السدس، وفي أبوين وزوجة الثلث، فليس قوله بشيء؛ لأنه اعتمد على النظر من حيث هو، وخرج عن الآية بمعنيَيْها، والصواب إنما هو أن يجعل النظر مرجِّحًا لأحد المعنيين في الآية، ثم يُعمَل بالمعنى الراجح. والله أعلم.
ثم قيَّد سبحانه وتعالى ما أطلق أولًا من أن الأبوين إذا أحاطا بالميراث كان للأمّ الثلث بقوله: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} ، وفي كلمة "إخوة" أبحاث:
الأول: أنها جمع، ورُوي عن ابن عباس أنه قال لعثمان: فالأخوانِ بلسان قومك ليسا بإخوة، فقال عثمان: لا أستطيع أن أردّ ما كان قبلي، ومضى في الأمصار، وتوارث به الناس. وسُئل عنها زيد بن ثابت فقال:"إن العرب تسمِّي الأخوين إخوة". راجع "سنن" البيهقي (6/ 227).
والذي يظهر من هذين الأثرين أن من العرب مَن يُطلق على الأخوينِ "إخوة"، فإن قول ابن عباس لعثمان:"في لسان قومك" يُفهِم بأن من العرب مَن يقول للأخوينِ إخوة، وإلّا لما خصّ ابن عباس لسانَ قريش، بل يقول: الأخوان ليسا إخوة.
فإن قيل: لعله أراد بقومه العرب.
قلت: هذا بعيد جدًّا، فإن القوم لم يكونوا يعرفون غير العربية، ولا يُتوهَّم أن يراعوا العجمية فيحملوا القرآن عليها دون العربية. ومع بُعْدِ هذا فلو كان المرادَ لكان الظاهر أن يقال:"في لسان العرب". وقد أكدَّ هذا ما رُوِي عن زيد، فإنه أثبت أن العرب تُسمِّي الأخوين إخوة، وقد خرجت من ذلك قريش بأثر ابن عباس. فإما أن يكون ما ذكره زيد لسان الأنصار فقط،
وإما أن يكون يوافقهم بعضُ القبائل من غيرهم. وعلى الأول فإنما عدلَ زيدٌ عن "الأنصار"، وقال:"العرب"، إشارةً إلى دفع اعتراض، فإنه لو قال "الأنصار" لقيل له: إن القرآن نزل بلسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو قرشيّ. فيُحتاج إلى دفعه بأن الأنصار من العرب، والقرآن نزل بلغة العرب عامّةً، وإنما اختار منها ما اقتضت الحكمة اختياره.
وأما ما جاء عن بعض الصحابة وغيرهم من أن القرآن نزل بلغة قريش، أو بلغتهم ولغة خزاعة، أو ولغة هوازن ونحو ذلك، فإنما ذلك بالنظر إلى معظمه، فقد جاء عنهم في كلماتٍ كثيرة أنها بلغة اليمن أو بلغة أزد عُمان أو غيرهم، بل وفي كلمات كثيرة أنها بالرومية أو الحبشية أو غيرها
(1)
.
وقد يُدفَع بأوجُهٍ:
الأول: ما احتج به مَن قال: أقلُّ الجمع ثلاثة، وهو أن اللغة خصَّت الاثنين بصيغةٍ غير صيغة الجمع، فيقال هنا: كيف يكون من العرب من يُطلِق الجمع ويريد به اثنين على غير سبيل التجوز، أو كراهية الثقل في نحو {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} ، ومبنى لغتهم على الفرق؟
الثاني: أن أئمة اللغة لم ينقلوا عن قبيلة من قبائل العرب أنها تُطلِق الجمع على اثنين مطلقًا، ولا يوجد ذلك في أشعارهم المحفوظة.
الثالث: أن أئمة التفسير قد كان منهم كثير من أئمة العربية، وتكلموا على هذه الكلمة، ولا نعلم أحدًا منهم قال: إن من العرب من يُطلِق الجمع على الاثنين.
(1)
جمعها السيوطي في كتابين: "المهذب" و"المتوكلي" وكلاهما مطبوع.
أقول: قد يُجاب عن الأول بأنه قد يكون مَن يطلق من العرب الجمعَ على الاثنين رأى أن صيغة المثنَّى جُعِلت للنصّ على الاثنين، فلا يلزم من ذلك المنعُ من إطلاق الجمع على ما يصدق بالاثنين فأكثر كما في الآية، إذ المقصود بإخوة اثنان فأكثر.
ونظيره ما أطبق عليه الفقهاء أنه لو قال: لفلان عندي عبيدٌ، ثم فسَّرهم بثلاثةٍ قُبِل، مع أن "عَبيد" جمع كثرة، وقد خصَّت العرب العشرة فما دونها بصيغ خاصة هي جمع القلة كأَعْبُدٍ، ووافقهم بعض أهل اللغة، ووجَّهوا ذلك بأن جمع القلة إنما جُعِل ليُستَعمل عند إرادة التنصيص على القلة، وجمع الكثرة يصلح للقليل والكثير.
وأوضح منه لفظ "بِضْع" في العدد، فإنه [يَصدُق] بثلاثة، وإن كان قد وضع لثلاثةٍ لفظٌ خاصٌّ. وكذلك "الإنسان" يَصُدق بالصبي، وإن كان قد وُضِع للصبي لفظ خاصّ، وأمثال ذلك.
وعن الثاني: بأن الشعراء الذين حُفِظتْ أشعارهم هم المشاهير، وكانوا يتحرَّون في أشعارهم أن تكون موافقةً لأشهر لغات العرب، ليَعُمَّ حفظُها وتناشدُها، فيتمُّ غرضُهم من الشهرة وبُعد الصيت، ولهذا نجد المحفوظ من شعر شعراء اليمن لا تكاد توجد فيها كلمة لا تعرِفُها مضر.
وعن الثالث: بأننا قد أثبتنا النقل، ودلالته واضحة، ومن نقله من أهل الحديث والتفسير فقد نقل أن العرب تُسمِّي الأخوين إخوة، وذلك كافٍ.
لكن هذا كلّه لا يكفي، لأن غايته إثبات لغة غير مشهورة ولا متبادرة إلى الفهم، بل المتبادر خلافها، فحملُ الآية عليها يحتاج إلى دليل.
وعلى هذا فقد يقال: سواء أثبتت تلك اللغة أم لم تثبت، فإنها إن لم تثبت لم يمتنع أن يصح ذاك الاحتمال في الآية على أنه مجاز بأن تُجوِّز بصيغة الجمع عن مطلق ما يدلُّ على التعدد، فيشمل الاثنين وأكثر
(1)
.
(1)
بعدها بياض في الأصل بقدر نصف صفحة.
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تبارك وتعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11].
قوله: {وَلِأَبَوَيْهِ} أي المتوفى، وقد يجتمعان، وقد يكون أحدهما فقط، ومنطوق الآية إنما هو حال اجتماعهما، أما في الجملة الأولى والثانية فظاهر، وأما الثالثة فلأنها مبنية على ما قبلها، ولكن الحكم فيما إذا كان أحدهما فقط يؤخذ من مفهوم الآية وغيره من الأدلة.
فأما الجملة الأولى أعني قوله: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} ، فإنها تُثبت حكمَ الأبوين إذا اجتمعا مع الولد، وهو أن لكل منهما السدس، فأما الباقي فالحكم فيه معروف، لم يعلم فيه خلاف إلا في صورة ما إذا كان الولد بنتًا واحدة، وليس معهم أحد الزوجين، فإن البنت تأخذ النصف كما نصّ عليه في أول الآية، ويأخذ الأبوان السدسين، فيبقى سدس، والجمهور أن هذا السدس الباقي يكون للأب على وجه التعصيب، لحديث "ألحِقوا الفرائض بأهلها". وخالف فيها الإمامية، فقالوا بردّ هذا السدس على الأم والبنت، وكذلك إذا كان مع من ذُكِر زوجة، فإنها تأخذ الثمن كما نصّ عليه في آخر الآية، فيبقى ربع السدس.
وأما إذا كان أحد الأبوين مع الولد فالحكم أن له السدس فرضًا، وقد فُهم ذلك من الآية، أما أنه لا ينقص عنه فلأنه إذا لم ينقص عنه مع وجود
الآخر فكذلك لا ينقص عنه مع فقده، وأما أنه لا يُزاد عليه فلأن الولد إذا قصر كلًّا من الأبوين على السدس في حال اجتماعهما فكذلك ينبغي أن يقصر عليه أحدهما عند انفراده. وتفصيل الأحكام معروف.
وأما الجملة الثانية أعني قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} فهذه الجملة في بيان حكم الأبوين إذا اجتمعا ولا ولد، أي ولا إخوة كما بيَّنته الجملة الثالثة، وكونها في حال اجتماعها واضح، أولًا لأن الجملة مبنية على الجملة قبلها، وهي كذلك كما مرَّ. ثانيًا لقوله:{وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} ، مع أنه لو ترك قوله:{وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} وجُعِلت الجملة غير مبنية على ما قبلها لكانت الجملة مفيدةً بعمومها لحكم اجتماعهما.
فيقع السؤال هنا: ما الحكمة في هذا الاعتناء الشديد ببيان حال اجتماعهما؟ ومحطُّ السؤال أن يقال: ما الحكمة في زيادة قوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} مع أنها لو تركت لكان ذلك معروفًا ببناء هذه الجملة على التي قبلها؟ فإن ادُّعي أنها مستقلة عن التي قبلها، قلنا: فلو تُرِكت هذه الزيادة لكانت الجملة شاملة بعمومها لحال الاجتماع أيضًا، وتزداد الفائدة بشمولها لحال انفراد أحدهما. وقد تبيَّن من مفهوم الآية وأقوال أهل العلم أن الحكم لا يختلف، فإذا كان للميت أُم وليس له أب ولا ولد ولا إخوة كان فرض الأم الثلث، فالذي يتراءى أن قوله:{وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} لا تظهر لها فائدة، بل يظهر أنها نقصت الفائدة، ويستند ذلك على مذهب الجمهور القائلين أنهما إذا اجتمعا لم يكن للأم الثلث إلا في حال واحدة، وهي أن لا يكون معهما زوج ولا زوجة.
والجواب على مذهب ابن عباس ــ القائل: إن فرض الأم مع الأب وأحد الزوجين ثلث التركة ــ أن الفائدة لقوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} هي التنصيص على حال الاجتماع، ليعلم أن وجود الأب لا ينقص الأمَّ عن الثلث بحال، إذ لو لم يذكر ذلك وقيل:"فإن لم يكن له ولد فلأمه الثلث" لقال قائل: هذا في حال انفرادها عن الأب، وكان سهلًا عليه أن يدعي أن الجملة الوسطى مستقلَّة عن الأولى ليست مبنية عليها، ويؤيد قوله بأنها إنما بيَّنت فرض الأم، فلو كان المعنى فيها على اجتماع الأبوين لكان الظاهر أن يبيِّن ما للأب.
وأما الجمهور فعنهم أجوبة:
الأول: أن قوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} تمهيد لما بعدها، ليعلم أن المراد بالثلث في قوله:{فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} ثلث ما ورثاه، ولو قيل:"فإن لم يكن له ولد فلأمه الثلث" لكان صريحًا في أن المراد ثلث التركة.
الثاني: أن معنى قوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} أنهما ورثاه دون غيرهما، فالفائدة إخراج ما إذا كان معهما أحد الزوجين، قالوا: والحصر مأخوذ من التخصيص الذكري، كما تدلُّ عليه الفحوى.
الثالث ــ ولم أر من تعرَّض له ــ: أن هذا الفعل ــ وهو "ورث" ــ أكثر ما يُعدَّى بنفسه إلى المال ونحوه، كما قال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ} [مريم: 40]، وقال سبحانه:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ} [الأعراف: 169]، وقال عز وجل:{وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} [الشعراء: 85] أي الذين يرثونها،
وقال تعالى: {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} [المؤمنون: 11]، وقال سبحانه:{أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105]، وقال تبارك اسمه:{أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ} [الأعراف: 100]، وقال تعالى:{وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران: 180، الحديد: 10] أي هو يرثها، وقال تبارك اسمه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} [النساء: 19]. في "صحيح البخاري"
(1)
وغيره عن ابن عباس: "كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحقَّ بامرأته، إن شاء بعضهم تزوَّجها، وإن شاءوا زوَّجوها، وإن شاءوا لم يُزوِّجوها، وهم أحقُّ بها من أهلها. فنزلت هذه الآيات". فكانوا يعاملون المرأة معاملة المال كما هو ظاهر.
وقال عز وجل: {أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43، الزخرف: 72] أي جُعِلتم ترثونها. واقرأ
(2)
الأعراف: 128 ومريم: 40 والأحزاب: 27 وفاطر: 32 والزمر: 74 والمؤمن [أو غافر]: 53 والدخان: 28 والشعراء: 59 والشورى: 14 وغيرها.
وقد يُعدَّى إلى من كان المال أو نحوه له، كقوله تعالى:{وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176]، وقال سبحانه:{وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [النمل: 16]، وقال تعالى فيما قصَّه عن زكريا: {هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5)
(1)
رقم (4579).
(2)
ذُكِرتْ في الأصل أمام أسماء السور أرقام لعلها أرقام الركوعات في المصاحف الهندية، فعدّلناها إلى أرقام الآيات.
يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم: 5، 6]. وقد يُعدَّى إليه بـ"من" كما في هذه الآية.
وقد يُعدَّى إليهما، كما في قوله سبحانه:{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} إلى أن قال: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا} [مريم: 77 - 80].
وفي كلام أهل اللغة أن الأصل فيه أن يتعدى إلى مفعولين: الأول من كان له المال ونحوه، والثاني المال ونحوه، وأنه قد يُعدَّى إلى الأول بـ "من". وظاهر صنيعهم أنه سواء عُدِّي إلى الأول بنفسه أو بـ"من" فالمعنى واحد، والذي يشهد به الذوق ويدلُّ عليه {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} أن المعنى يختلف، وأنه إذا عُدِّي بنفسه كان المعنى على الإحاطة بجميع ما كان للموروث منه، وإذا عُدِّي بـ"من" كان على عدم الإحاطة، فزكريا سأل ولدًا يحيط بما هو له ويأخذ بعض ما هو لآل يعقوب، وكأن وجه ذلك أن الأصل تعدِّي الفعل إلى المال ونحوه، كما يدلّ عليه كثرة ذلك في الكلام كما مرَّ، فإذا عدِّي إلى مَن كان له المال ونحوه، فالمعنى على تقدير المال ونحوه. فإذا قيل: ورثتُ زيدًا، فالتقدير: ورثتُ مالَ زيد، وإذا قيل: ورثتُ من زيد، فالتقدير: ورثت من ماله، فإذا قيل: ورثتُ زيدًا مالًا، فالوجه أن يكون ضُمِّن ورث معنى فعلٍ آخر مثل سلب كما في قوله تعالى:{وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} ضمِّن ــ والله أعلم ــ نرث معنى نسلب، أو يكون "مالاً" في قولك:"ورِثتُ زيدًا مالًا" منصوب
(1)
على الحال، لدلالة التنوين على الكثرة أو القلة،
(1)
كذا في الأصل مرفوعًا.
والأصل: ورثتُ مالَ زيد حالَ كونه مالاً كثيرًا أو مالاً قليلًا. أو يكون زيدًا منصوبًا بنزع الخافض، والأصل: ورثتُ من زيد مالاً، فيقدَّر في كل موضع ما يليق به.
فإن أبيتَ إلّا ما يقتضيه صنيع أهل اللغة فإننا نقول: فالأصل أن يقال: ورثتُ زيدًا مالاً، بالتصريح بالمفعولين، فإذا حُذِف الثاني فقيل:"ورثتُ زيدًا" كان حذفه دالًّا على العموم، كما تقرر في الأصول أن حذف المعمول يُؤذِن بالعموم، فكأنه قيل: ورثتُ زيدًا كلَّ ما كان له.
فإن لم تقنَعْ فقد نصَّ أهل العلم على أن المفرد يعمُّ أجزاءه، فإن قيل: اشتريتُ عبدًا أو دارًا، كان المعنى على عموم الشراء، أي أنك اشتريت العبد كلَّه والدارَ كلَّها. واستثنى بعضُ الأجلَّة ما إذا كان الفعل مما يقلُّ في العادة شمولُه لجميع الأجزاء، كضربتُ زيدًا. وزعم ابن جني أن ضربتُ زيدًا مجاز، وإنما يكون حقيقةً لو شمِلَ الضربُ جميع أجزاء المضروب. فأما ورثتُ زيدًا فلا معنى لإرثِ جميع أجزائه إلّا إرثُ جميع أجزاء ما كان له، فتأمَّلْ.
ففي "فتح الباري"
(1)
في كتاب الفرائض: باب {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} : وقال السهيلي: "الكلالة من الإكليل
…
، ومن العجب أن الكلالة في الآية الأولى من النساء لا يرث فيها الإخوة مع البنت، مع أنه لم يقع فيها التقييد بقوله:"ليس له ولد"، وقُيِّد به في الآية الثانية مع أن الأخت فيها ورثت مع البنت. والحكمة فيها أن الأولى عُبِّر فيها بقوله تعالى:
(1)
(12/ 26).
{وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ} ، فإن مقتضاه الإحاطة بجميع المال، فأغنى لفظ "يورث" عن القيد، ومثله قوله تعالى:{وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} أي يحيط بميراثها. وأما الآية الثانية فالمراد بالولد فيها الذكر كما تقدم تقريره، ولم يُعبَّر فيها بلفظ "يورث"، فلذلك ورثت الأخت مع البنت".
أقول: وإيضاحه أن الكلالة اسم للقرابة بغير الولادة، أعني قرابةً غير الولد والوالد، وتُطلَق على .... ، فتقدير الآية:"وإن رجلٌ يرثه كلالة"، ففهم منه أن الكلالة يحيطون بماله، فعُلِمَ بذلك أنه لا ولد له ولا والد. وأما قوله تعالى:{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} فمعناه: يفتيكم في الأقارب الذين ليسوا بولد ولا والد، والاسم يلزمهم مع وجود الولد والوالد، كما يلزمهم مع عدمهما، فلم يُفهم من هذا أنه لا ولد ولا والد. وقوله:{إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} المرء عام، فيشمل من له ولد ووالد أو أحدهما، فلذلك قيَّده بقوله:{لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} . وإنما لم يقل: "ولا والد" لأن الإخوة لهم ميراث مع الأب، ولكن يُعطاه الأب كما يأتي. ولكن ميراثهم قد يقصر عن المقدار المذكور هنا، وقد لا يبقى شيء، ففي صورة أب وأختين كان للأب الثلث وللأختين الثلثين
(1)
، فيأخذ الأب الجميع، فإذا كان مع هؤلاء زوج لم يبق بعد فرض الأب والزوج إلا السدس. وفي صورة أبوين وأختين وزوج لا يبقى شيء.
فإن قيل: فإن الأب يأخذ ما بقي بعد فرضه وفرض الأم أو الزوج على كل حال، سواء أكانت هناك أخوات أم لا.
(1)
كذا في الأصل منصوبًا، والوجه الرفع.
قلت: نعم، لكنه هنا يأخذه بالتعصيب، ومع وجود الأخوات يأخذه بحقّه عليهن.
وقوله: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} قد وافقَ السهيليَّ فيها غيرُه على أن المعنى على الإحاطة، وخالفه في تخصيص الولد بالذكر. قال أبو السعود
(1)
: " {إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} ذكرًا كان أو أنثى، فالمراد بإرثه إحراز جميع مالها، إذ هو المشروط بانتفاء الولد بالكلية، لا إرثه لها في الجملة، فإنه يتحقق مع وجود بنتها".
أقول: لكن يبقى ما إذا كان معه أحد الأبوين أو كلاهما أو زوج، فإنه في هذه الصور لا يحوز جميعَ التركة كما لا يخفى. فالأقرب أن يقال: إن إطلاق "يرثها" هنا المراد به إثبات العصوبة، وصحَّ ذلك لأن من شأن العصبة أن يحيط بالتركة في بعض الصور، ولا شكَّ أنه في الصور المذكورة يرث بالعصوبة، أما مع الأم والزوج أو أحدهما فظاهر، وأما مع الأب فإن الأخ يستحق الإرث، ولكن يأخذه الأب لما تقدم قريبًا.
فإن قيل: فلماذا قُيِّد بعدم الولد مع أن الأخ قد يأخذ بالعصوبة مع البنات؟
قلت: المعنى ــ والله أعلم ــ أنه مع عدم الولد يرث البتة، فيفهم منه أنه مع الولد بخلاف ذلك.
فإن قيل: فلِمَ لا يقال مثل هذا في {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} ؟
(1)
تفسيره "إرشاد العقل السليم"(2/ 264).
قلت: الأصل والظاهر هو الإحاطة، وإنما يُعدَل عنها لموجب، ولا موجِبَ في {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} ، والله أعلم.
إذا تقرر هذا فنقول: إن قوله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} معناه إحراز جميع ماله، أما على تقدير "وورثَ مالَه أبواه" فلعموم المال، وأما على تقدير "وورثه أبواه كذا" فلأن حذف المعمول آذنَ بالعموم، فصار المعنى: وورثه أبواه جميع مالِه. وأما على القول بأن "ورثتُ زيدًا" يعمُّ جميع أجزائه، فلكون ذلك باعتبار جميع أجزاء ما كان له فظاهر، وفائدة قوله:{وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} على هذا واضحة، لأن هذا المعنى لا يتحصل بدونها.
الجواب الرابع ــ ولم أر من تعَّرض له أيضًا ــ: أن الإرث إذا أُطلق في القرآن ولم يبيَّن النصيب كان المعنى أن الوارث عصبة، يُحرِز جميعَ المال إذا انفرد، والباقيَ بعد فرضٍ فأكثر إن كان. قال تعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11]، فلم يُبيِّن مجموع ما لهم لأنهم عصبة، ثمَّ بيَّن نصيب البنات إذا انفردن، لأنهن يكنَّ ذواتِ فرض حينئذٍ. وقد تقدم نحو هذا في قوله تعالى:{وَهُوَ يَرِثُهَا} .
إذا تقرر هذا فنقول في قوله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} : إن المعنى وكان أبواه عصبة، وذلك عند عدم الولد والإخوة، فيكون الأبوانِ عصبةً.
وقوله بعد ذلك: {فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} المراد ثلث التركة، ولكن قد دلَّ كونُهما عصبةً على أن هذا إنما يكون إذا لم يكن هناك أحد الزوجين، وأنه إن كان هناك أحد الزوجين فالباقي بينها وبين الأب، على قاعدة العصبة: للذكر
مثل حظّ الأنثيين.
ولبعض كتّاب العصر جوابٌ بناه على أقوالٍ اخترعها في المواريث، لم يقل بها أحدٌ من أهل العلم، فلا حاجة إلى ذِكْره.
فصل
وأما الجواب المبني على مذهب ابن عباس فيمكن الإيراد عليه بأوجُهٍ:
الأول: أن المستبعد إنما هو أن تأخذ الأم الثلث إذا كان أكثر مما أخذه الأب، وذلك مع الزوج. ولذلك نُقل عن ابن سيرين وقال به أبو بكر الأصمّ في أبوين وزوجة: أن للأم الثلث. وإنما قال الجمهور في هذه أيضًا: إن الأم لا تأخذ إلّا نصف ما يأخذ الأب، لأنهم فهموا من الآية ذلك على ما تقدم في الأجوبة التي من طرفهم. وكيف يستبعدون أن لا يكون له ضعفاها وقد تقدم أنه مع الولد يساويها؟ وذلك واضح في صورة: أبوين وابن، وأبوين وبنتين. وإذا كان هذا هو الواقع فلو أُريد التنبيه على أن وجود الأب لا ينقص الأمَّ بحالٍ لذكر مع الأبوين الزوج، فتكون الآية نصًّا في ذلك، فأما بدون ذكر الزوج فليست بنصٍّ بل ولا ظاهر، لما سمعتَ من الاحتمالات.
الوجه الثاني: أن الجمهور موافقون على أن الأم تأخذ الثلث مع وجود الأب في بعض الأحوال كما علمت، فلهم أن يوافقوا على الجواب المذكور، ولكن يقصرون الحكم على الحال المذكورة.
الوجه الثالث: أنه على هذا الجواب يكون قوله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} تأكيدًا، وهو على أجوبتنا تأسيس، والتأسيس أولى من التأكيد.
والجواب عن الوجه الأول: أن من سنة الله تبارك وتعالى في العقائد
والأحكام التي تعترضها الأهواء والشُّبه أن لا يكشفها كشفًا تامًّا، لكنه يُنبِّه على الحقّ تنبيهًا كافيًا لمن تدبَّر وحقَّق النظر، وأسلم نفسَه للحق، ووفَّقه الله عز وجل، ويدَعُ مناصًا لمن قصَّر أو استكبر، أو اقتضت الحكمة أن لا يُوفَّق. ويُزاد في الأحكام أنه يدع سبيلًا لأن يوضع في فهم القاضي المحقّ خلافُ الراجح لمناسبته للقضية التي يحكم فيها. وهذا مشروح في موضع آخر.
فقوله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} فيه تنبيه كافٍ على ما ذكر من جهات:
الأولى: أن الجملة الوسطى صارت في حكم الله عز وجل بقوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} صريحةً في أنها في حال اجتماعهما.
الثانية: أن الحكم فيها عام، فيعمُّ جميعَ صور اجتماعهما، وهي ثلاث صور: أبوان فقط، أبوان وزوج، أبوان وزوجة.
الثالثة: أن المعروف أن الوارث الذي [ينقص غيره] ينقصه على كل حال، فالولد ينقص الأم إلى السدس، سواء وُجِد الأب أم لا، والإخوة كذلك، وإذا كان الأب لا ينقصها مع عدم أحد الزوجين فكيف ينقصها مع أحدهما؟
فإن قيل: كما نقصها مع وجود الإخوة.
قلنا: إنما نقصَها الإخوة. أما إذا قلنا بما يُنقل عن ابن عباس أن السدس الذي تنقصه الأم في هذه الحال يكون للإخوة فظاهر، ولا يرِد على هذا ما ذهب إليه ابن عباس وغيره أن الجدّ يحجب الإخوة، فيقال: فكيف لا يحجبهم الأب؟ لأن له أن يجيب بأنهم مع .... والأم لم يأخذوا من نصيب الأب شيئًا، وإنما أخذوا من نصيب الأم.
نعم، يلزمه أن يقول في جد وأم وإخوة أن الإخوة يأخذون السدس، والظاهر أنه يقوله؛ لأن المنقول عنه إنما هو أن الجد أب، لا أنه يحجب الإخوة مطلقًا، فإن حُكي عنه أن الجد يحجب الإخوة فلعل مراده أنه يحجبهم مما كان يأخذه لو لم يكونوا، وليس ذاك السدس من هذا؛ لأنهم لو لم يكونوا لأخذته الأم.
وأما إذا قلنا بقول الزيدية وغيرهم إن الإخوة إن كانوا أشقّاء أو لأب لا يُعطَون شيئًا، وإن كانوا لأمّ أخذوا ذاك
…
، فنقول: الأصل على هذا أن السدس للإخوة، وإنما يأخذه الأب إذا كانوا بنيه، بحقّ أبوَّتِه لهم وولايته عليهم، فإن كانوا صغارًا فإنه مظنة أن ينفقه عليهم، وإن كانوا كبارًا فإنه إن أنفقه عليهم فذاك، وإن أنفقه على نفسه فهو في مقابل نفقته الواجبة عليهم، وإن تركه ميراثًا صار إليهم كلُّه أو جلُّه. وقد نُقل نحو هذا عن قتادة، رواه ابن جرير
(1)
وغيره.
وأما إذا قلنا بقول الجمهور: إن الإخوة لا يأخذون مع الأب شيئًا ولو كانوا لأم، فالوجه في الأشقاء أو لأب ما تقدم، وأما في أولاد الأم فنقول: إن الأم نقص استحقاقها بسببهم؛ لأنهم إن كانوا كبارًا فذلك مظنة أن ينفعوها ويواسوها من كسبهم، وإن كانوا صغارًا فإنما يكون ذلك إذا فارقها أبو الميت ثم تزوجت أبا الصغار، والغالب أن يكون أبو الصغار حيًّا ينفق عليها وعليهم، وقد تأكدت صلتها به بولادتها الأولاد، فنقص استحقاقها من ابنها الذي قد تكون آذتْ أباه حتى فارقها وتزوجت غيره، وقرَّت عند هذا الآخر
(1)
في "تفسيره"(6/ 467، 468). وأخرجه أيضًا ابن أبي حاتم في "تفسيره"(3/ 883).
حتى ولدت له أولادًا واستغنت به. وإذا نقص استحقاقها ولم يكن لبنيها حقٌّ فالذي نقصَه يكون .... لأبي الميت.
على أنه لا يلزم فيمن كان النقص بسببه أن يأخذ هو ذاك المنقوص، ألا ترى أن البنات أو الأخوات ينقصن الأم سدسًا، ولا يكون لهن ذلك السدس، بل يذهب إلى العصبة، وذلك في صورة بنتين أو أختين وأم وعصبة، فالنقص بسبب البنتين أو الأختين، والفائدة للعصبة. ولا يلزم فيمن يحجب وارثًا أو ينقصه أن يحجب من يحجبه ذاك الوارث أو ينقصه، فالجد يحجب الإخوة للأم، ولا يحجب ولا ينقُص من ينقصه الإخوة للأم، وذلك كجدّ وأمّ وزوج، فتأخذ الأم ثلثها، ولا يقال: إن الجدّ يحجب الإخوة للأم لو كانوا، فلينقص من ينقصونه.
فأما في أبوين وزوج ولا ولد ولا إخوة، فقد عُلِم أن الزوج لا ينقصها شيئًا إذا لم يكن أب إجماعًا، فكيف ينقصها مع وجود الأب؟ أو بأي وجه نقص استحقاقها؟ فإن الزوج أجنبي لا ينقصها إذا لم يكن أب، ولا يكون ما أخذه الأب كأنه أخذه الزوج، كما قلنا في الأشقاء أو لأب، ولا تنتفع الأم بشيء من زوج بنتها بعد موت الابنة، ولا ينقص استحقاقها بسبب أن بنتها تزوجت، فلم يبق إلا احتمال أن ينقصها الأب، ولو كان ينقصها لنقَصها عند عدم الزوج كما تقدم، فنصّ الله تعالى نصًّا قاطعًا على هذه الحال، أعني أن ينفرد الأبوان ولا زوج ولا زوجة، متناولًا بعمومه الحالين الأخريين.
فإن قلتم: الذي ينقصها هو الأب، وإنما لم ينقصها إذا لم يكن معهما أحد الزوجين، لأنه ينال مقدارًا وافرًا، وهو الثلثان، فأما إذا كان معهما أحد الزوجين فإنه لا يبقى له ما يناسب حقَّه فينقصها.
قلنا: قد قدَّمنا أن سنة المواريث على أنه إذا نقص وارثٌ وارثًا كان حكمًا عامًّا بأن ينقصه على كل حال، وما توهمتموه في استحقاق الأب لا أثر له، لأن الله تعالى قال في آخر هذه الآية:{آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} وإذا سلَّمتم عموم الآية فلم يبقَ إلّا أن تخصُّوها بما لا علم لكم به، والله المستعان.
هذا وقد بقيت جهاتٌ أخرى ستأتي إن شاء الله تعالى.
والجواب عن الوجه الثاني: أن قَصْركم هذا النصَّ على ما إذا لم يكن فيها زوج ولا زوجة دعوى فارغة مردودة من جهات:
الأولى: أن النصوص العامّة لا تخصُّ بلا حجة.
الثانية: أن المعروف في سنة الكلام ونصوص الكتاب والسنة أن العام إن قام دليل على تخصيصه كان الباقي أكثر، وأنتم عكستم هنا، فأخرجتم صورتين وأبقيتم صورة.
الثالثة: أن النصّ كما أفاد دخولَ الصورتين بلفظه فقد أفاد دخولهما بمعناه، أعني ما قدَّمناه، إذ لا وجه لأن ينقص الزوج الأمَّ، ولا لأن ينقصها الأب بشرط وجود الزوج.
والجواب عن الوجه الثالث: أن قولكم: "التأسيس أولى من التأكيد" محلُّه فيما إذا تعادل الاحتمالان، وسيتبيَّن إن شاء الله تعالى حال الاحتمالات التي ذكرتموها بأجوبتكم.
وأما الأجوبة التي من طرف الجمهور فالقدح فيها إجمالاً وتفصيلًا:
أما الإجمال فإنه لا داعي إلى تكلُّفها إلا استبعاد أن تأخذ الأم ضِعفَ ما
يأخذ الأب في صورة زوج وأبوين، كما أجاب زيد بن ثابت لما راسله ابن عباس، فقال زيد: لا أفضِّلُ أمًّا على أب. وليس في النصوص ولا النظر ما يمنع أن تفضل الأم الأب حتى نحتاج إلى تأويل الآية. أما النصوص فظاهر، وأما النظر فإن كنتم تقيسون الأبوين على الابن والبنت وعلى الأخ والأخت شقيقين أو لأب فهذا خطأ، فقد بان بقوله تعالى:{وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} أن الأبوين ليسا كالابن والبنت، ولا كالأخ والأخت، فإن الابن والبنت والأخ والأخت لا يكونان إلا عصبة، واتصال الابن والبنت بالمتوفى سواء من كل وجه، وكذا الأخ والأخت، ولا كذلك اتصال الأبوين، فإن اتصال الأم أقوى، فلو كان الأمر إلى القياس لكان الأشبه أن يشبه الأبوان بالبنت وابن الابن والأخت الشقيقة والأخ لأب. وإن نظرتم إلى مقدار التعب والعناء فأفضلية الأم ظاهرة، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم:"بِرَّ أمَّك ثم أمَّك ثم أمَّك ثم أباك".
فإن قلتم: ولكن الأب هو الذي أنفق المال أي في الغالب.
قلنا: ولكن الأم قد تكون أحوجَ إلى المال من الأب، ولاسيَّما عند شيخوختها عندما يُعرِض عنها الأب، مع أن مثل هذه الأمور قد قطعها الله عز وجل بقوله:{لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} الآية كما مرَّ.
والنظر الصحيح أن الأم ليست مع الأب عصبةً، وإلّا لكانت معه عصبة عند وجود الولد أو الإخوة، وأن الأب لا ينقصها عن ثلثها، وإلّا لنقَصَها عند انفراده معها، فإذا لم يكن لا ذا ولا ذاك فهي ذاتُ فرضٍ أبدًا، ينقصها الولد أو الإخوة إلى السدس، فإن لم يكن ولد ولا إخوة فهي على ثلثها، وأما الأب
ففرضه السدس أبدًا
(1)
، ثم هو عصبة يأخذ الباقي تعصيبًا إذا انفرد، والباقي بعد بقية الفرائض إن كانت ولم يكن ولد ذكر، فإن لم تُبقِ الفرائضُ شيئًا لم يكن له شيء
(2)
، كما هو الحكم في العصبة، ففي صورة بنتين وأبوين وبني ابن لا يبقى شيء لبني الابن.
وفي الحديث: "الخراج بالضمان"، فكذلك حال العصبة، حرمانه تارةً، يأخذون جميع المال تارةً
(3)
.
ومبنى الفرائض على المشاحة والعصبات على المسامحة، فإن أصحاب الفرائض كأصحاب الدين على الميت، والعصبة أولياء الميت، وحقُّ الولي أن يحرِص على توفية الديون التي على ميته ولو من ماله، فإن لم يكن هناك ذو دَين أو كان ولم يستغرق فالوليُّ أولى به ممن لا دينَ له ولا ولاية.
وبهذا نجيب الأشقاء في المشتركة، نقول لهم: إنكم عصبة الميتة وعاقلتها، لو جَنَتْ في حياتها جنايةً كان حقًّا عليكم أن تحملوها، ولو ماتت وعليها دَين لا وفاءَ له لكان ينبغي لكم أن تقضوه من أموالكم، فهذه الفرائض التي للأم والزوج والإخوة لأم بمنزلة الدين على أختكم، فلم يُكلِّفكم الله تعالى أن تقضوها من أموالكم، بل كلَّفكم أن تَرضَوا بقضائها من تركتها، وافرِضوا أن لكم ولبعض الأجانب دينًا على أختكم ولا تفي التركةُ بالدَّينين، أليس الذي ينبغي لكم أن تقضوا الأجانب وتُسامحوا بدينكم؟ فكذا يقال
(1)
كتب المؤلف في الهامش: "كذا يظهر، ولكنه لم ينصّ عليه إلّا مع الولد؛ لأنه والله أعلم مع عدم الولد إن لم يحز أكثر من السدس باسم التعصيب لم ينقص عنه".
(2)
"أي زائد عن السدس، فأما هو فهو فرض فيما يظهر، كما مرّ"(من المؤلف).
(3)
كذا في الأصل، والمعنى واضح.
للأب على أنه قد أخذ دَينه المحتوم وهو السدس.
وأما التفصيل فالجواب الأول دعوى بلا دليل، وليس في قوله تعالى:{وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} إشارة ما إلى أن المراد بقوله: {فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} أي ثلث ما أخذاه، بل المتبادر هو المطرد في آيات الفرائض وأحاديثها أن المراد ثلث التركة، والجملة الثانية مبنية على ما قبلها، وهي قوله:{فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} ، والسدس هنا سدس التركة اتفاقًا، إذ لو كان المراد بالثلث ثلث ما أخذاه لكان المراد بالسدس هنا سدس ما أخذاه، وهو باطل اتفاقًا فيما إذا كان هناك أحد الزوجين.
وأما الجواب الثاني فيرد عليه أنه لا دليلَ على الحصر، لا من الطرق التي ذكرها البيانيون ولا من غيرها، فإننا نسلِّم أن الحق غير محصور في تلك الطرق، وأنك إذا قلتَ لإنسانٍ: من ورِثَ فلانًا؟ فقال: ورثَه أبواه، فَهِمَ الحصر، ولكن فَهْمَه هنا من جهة أن مَن الاستفهامية للعموم، فالاستفهام واقع عن جميع الورثة، والجواب مطابق للسؤال، فلما اقتصر المجيب على قوله: ورثه أبواه، كان ظاهر ذلك أنهما جميع الورثة، ولكن لا نجد في الآية ما يماثل هذه الدلالة أو يقوم مقامَها.
وقولكم: "إن الحصر مأخوذ من التخصيص الذكري كما تدلُّ عليه الفحوى" جعجعةٌ لا طِحْن، فإن التخصيص الذكري إنما يفيد الحصر حيث كان المقام يقتضي الاستيعاب، كما قدَّمنا في جواب "مَن ورث فلانًا"، وليس هنا كذلك، اللهمَّ إلّا أن تبنوا على القول بمفهوم اللقب، وهو قول ساقط بالاتفاق بيننا وبينكم.
وأما الجواب الثالث فيردُّه أن أهل اللغة ذكروا أن "ورث" يتعدَّى إلى مفعولين، ولم يفرقوا بين ورثتُه وورثتُ منه. وقولهم:"حذف المعمول يُؤذِن بالعموم" ليس على إطلاقه، فإنه يقال:"قَتلَ فلان" وليس المعنى أنه قتلَ كلَّ أحد، وقالوا: فلان يعطي وفلان يمنع، وليس المعنى يعطي كلَّ شيء ويمنع كلَّ شيء، وإنما يُؤذِن بالعموم حيث كان المقام يستدعي ذكره لو كان خاصًّا، ولا علة لتركه غير العموم، وما هنا ليس كذلك، فإن القصد من قوله:{وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} إنما هو ذكر وجود الأبوين. وإنما لم يقل: "وله أبوان" لأن مثل هذا إنما يحسن فيما قد يكون وقد لا يكون البتة، كالولد والإخوة، فأما الأبوان فكل إنسانٍ له أبوان عدا آدم وحواء وعيسى عليهم السلام.
فإن قيل: إنما المراد بقوله: "وله ولد"، "وله إخوة" من كان حيًّا، فلو قيلَ:"وله أبوان" لكان المعنى: وله أبوان حيَّان، والأبوان الحيَّان قد يكونان وقد لا يكونان في
…
قلت: نعم، ولكن الكلام في حسن التعبير.
وأما قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً} ففي دعواكم نظر، ولا يلزم من ترك التقييد إغناء الكلام عنه، فقد يترك التقييد في آية لبيان أخرى ....
وأما قوله تعالى: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} فقد لقيتمونا ببعض الكلام عليها، ولا حاجة بنا إلى استيفائه، بل يكفينا أن نقول: إذا اتجه أن يكون المراد هنا: يُحرِز جميعَ مالها، فلقائلٍ أن يقول إنما كان ذلك هنا لتقدُّم المبتدأ، كما في قولهم: أنا فعلتُ ذلك، أو أن المقام هنا يستدعي ذكر المفعول، فآذن حذفُه بالعموم، وليس قوله:{وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} كذلك.
وأما قول زكريا عليه السلام: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} فكأن إحراز الجميع قوي فيها، ولكن قد يُوجَّه بأن المقام يستدعي ذلك؛ لأنه يسأل ولدًا يخلُفه، ولا يكفي في ذلك أن يرِثه في الجملة، بأن يحرز شيئًا ما مما هو له، وبأن تعدية "يرث" الأول بنفسه والثاني بمن يُشعِر بالفرق، والفرق الظاهر هو ما ذُكر.
وأما الجواب الرابع فيرد عليه أن تلك القاعدة إذا سلمت ففيما يكون المقام فيه يستدعي بيان النصيب، فإنه إذا لم تذكر مع ذلك عُلِم أنه إنما تُرِك لنكتةٍ، والنكتة قد تكون العموم كما مرَّ، وقد تكون غير ذلك كما هنا، فإن كون النصيب غير مقدرٍ سبب لتركِ ذكره، فتدبَّر. وقد قدمنا أن قوله تعالى:{وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} لا يستدعي ذِكْرَ المفعول.
فصل
قد يقال من طرف الجمهور: الكلام في مقامين: الأول في معنى الآية، والثاني في النظر.
فأما معنى الآية فإنما دفعتم به الأجوبة السابقة كلامًا، ولكننا نقتصر على الجواب الثالث، ونقول: إن نحو "ورِث فلانٌ فلانًا" يقتضي ظاهره إحرازَه جميعَ ماله، كما يشهد به الذوق، وصَّرح به السهيلي وغيره، وقدَّمنا له ثلاثة أوجه. وإطلاق أهل اللغة أن "ورِث" يتعدى إلى مفعولين وعدم تفرقتهم بين "ورثتُه" و"ورثتُ منه" إن خالف ما قلنا عارضناه بما تقدم من الاستدلال.
وقولكم في دفع الوجه الثاني "إن حذف المعمول إنما يؤذن بالعموم" حيث كان المقام يستدعي ذكره لو كان خاصًّا، ولا علة لتركه غير العموم=
مسلَّم، ونقول: إن قوله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} كذلك، قولكم إن القصد من قوله:{وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} إنما هو ذكر وجود الأبوين دعوى غير مسلَّمة، فإن وجودهما قد علم من الجملة الأولى. والجواب الذي من طرف ابن عباس قد تقدم أن الكلام عليه يكون تأكيدًا، والتأسيس أولى منه، ويُرجّح قولنا التعبير بقوله:"ورث"، ولو كان الأمر كما قلتم لكان الظاهر أن يقال:"وله أبوان". قولكم إنه عدلَ عن ذلك لأن التعبير به غير جيد= غير مسلم.
نعم، لا ننكر أنه يقال: ورث فلانٌ فلانًا، وليس المعنى على العموم حتمًا، ولكن لابدَّ أن يكون هناك ملاحظة للعموم، وذلك كقوله تعالى:{وَهُوَ يَرِثُهَا} إذا حمل على معنى أنه عصبتها كما تقدم، وقدَّمنا أنه خلاف الأصل، فلا يُصار إليه إلّا بدليل، فإن أقمتم حجةً على أنه قد يقال مثلًا: مات فلانٌ وورثتْه زوجته" على معنى أنها ورثت فرضها فإننا نُسلِّم ذلك، ولكننا نقول: هذا المعنى أشدُّ في خلاف الظاهر، فلا يُحمل عليه الكلام ما دام المعنى الظاهر محتملًا، وقد يُوجَّه بأن الأصل: ورثتْ منه زوجته، ثم حُذِف حرف الجر، وسُلِّط الفعل على المجرور، كما في نحو: دخلتُ الدارَ.
وقولكم في الجواب الإجمالي: إنه لم يَدْعُنا إلى تكلف الجواب إلّا استبعادُ أن تأخذ الأمُّ ضعفَ الأب، وذكرتم جواب زيد بن ثابت، فقد جاء ذلك في رواية مختصرة، وجاء في أخرى أوضح منها: "عن عكرمة أرسلني ابن عباس إلى زيد بن ثابت أسأله عن زوج وأبوين، فقال زيد: للزوج النصف وللأم ثلث ما بقي وللأب بقية المال، قال: فأتيتُ ابنَ عباس فأخبرتُه، فقال ابن عباس: ارجع إليه فقُلْ له: أبكتابِ الله قلتَ أم برأيك؟ قال: فأتيتُه، فقال: برأيي، فرجعتُ إلى ابن عباس فأخبرتُه، فقال ابن عباس:
وأنا أقول برأيي: للأم الثلث كاملًا" "سنن" البيهقي (6/ 228).
فهذا فصل الخطاب في الآية، وهو أنها محتملةٌ كلا القولين باعتراف أفرض الأمة وباعتراف حبرها، وهو صاحب القول المخالف للجمهور، فإن كلا القولين عمدتُه في ترجيح ما ذهب إليه الرأي، وفي ذلك شهادة عظمى من حبر الأمة لصحة احتمال الآية لما قلنا.
وأعظم منها اتفاق جمهور الصحابة ثم أئمة التابعين ومَن بعدهم، وبما ذكر يتم إجماع الصحابة على احتمال الآية لما قلناه وترجيح جمهورهم له، فلنقتصر على هذا وننظر في الرأي.
وأما المقام الثاني فقد تقدم ما ظهر من النظر من طرف ابن عباس، فقولكم أولًا: إن المعروف من سنة الفرائض أن الوارث الذي ينقص غيره ينقصه على كل حال، والأب لا ينقص الأم عند عدم أحد الزوجين، فلا ينقصها عند وجوده. فهذا معارض بأخصِّ منه، وهو أن الأم لا تفضل الأبَ في الصور المتفق عليها، فهي إما أن تأخذ مثله، وذلك مع الابن أو البنتين فأكثر، وإما أن تأخذ نصف ما أخذ، وذلك مع البنت وعند انفراد الأبوين، وهذا القياس أقوى من قياسكم، فإن غاية قياسكم أن هذه الصورة لا نظير لها في الفرائض، قياسنا يقول مثل قولكم، وهو أن هذه الصورة ــ أعني أن تأخذ الأم ضعفَ ما يأخذ الأب ــ لا نظير لها في الفرائض، ثم هو ناظرٌ إلى المعنى، وهو أن الأحكام المتفق عليها تدلُّ أن الأب أكثر حقًّا من الأمّ.
وأما قولكم: إن من شأن العصبة أن تختلف أحواله، فتارةً يحوز جميع التركة، وتارةً لا يبقَى له شيء، وتارةً يناله كثير منها، وتارةً قليل= فهذا حق في
غير الأب، فأما الأب فإنه صاحبُ فرضٍ فرض الله له مع الولد السدس، وكان مقتضى ذلك أن يُفرض له مع عدم الولد الثلث كالأم سواء على الأقل، ففي عدم الفرض له إشارة إلى أنه عند عدم الولد لابدّ أن يحوز الثلث على .... ، وإن كان بعضه باسم الفرض وبعضُه باسم التعصيب، وذلك كالابن لم يفرض الله عز وجل له، ولكن جعله يحجب بعض الورثة وينقص بعضهم، فلو اجتمع جميع الورثة من الأصول والحواشي ومعهم ابن واحد لما ورث منهم معه غير الأبوين وأحد الزوجين، فللأبوين السدسان وللزوج الربع، فيبقى للابن نصف إلّا نصف السدس، وإذا كان بدلَ الزوج زوجة فأكثر كان لها الثمن، فيبقى للولد النصف وربع السدس، هذا مع أن الأبوين جدّاه، والغالب أن يكون الزوج أباه والزوجة أمه.
ولنكتفِ بهذين الوجهين من النظر ثم نقول: لم يعتمد جمهور الصحابة فمن بعدهم على النظر إلا من جهة ترجيحه لأحد المعنيين المحتملين في الآية باعتراف ابن عباس نفسِه كما مرَّ، ولما ترجَّح أن معنى الآية أنه إذا لم يكن للميت ولدٌ وحاز أبواه جميع التركة فلأمِّه الثلث، فقد فُهِم من التقييد بحوزهما جميع التركة أنهما إذا اجتمعا ولم يحوزا جميعَها لم يكن للأم الثلث، والمعقول أنه يكون لها حينئذٍ دون الثلث، فنظر الأئمة إلى حالة انفرادهما، فوجدوا أنها تأخذ مثل نصف ما يأخذ الأب، فقالوا: فالظاهر أنهما إذا اجتمعا ولم يحوزا جميع التركة ــ وليس هناك من ينقص الأم وهو الولد .... ــ نقصَ من نصيب الأم بنسبة ما نقص من التركة، وزاد ذلك عندهم قوةً أن ذلك لا ينقصها عن السدس، وهو الفرض المحتوم لها. والله أعلم.
فصل
وأما الجملة الثالثة ــ وهي قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} فهي مبنية على ما قبلها، فمنطوقها أن الأبوين إذا اجتمعا ومعهما إخوة كان للأم السدس، وقد تقدم أنه رُوي عن ابن عباس أن السدس الذي نقصته الأم يكون للإخوة، ولم يثبت عنه ذلك، وقد تقدم بيان الحكمة في نقصهم الأمّ، وأن السدس وإن أخذه الأب فكأنه لهم، بل لو كان مع الأب أخوات فلا مانع أن يقال: إن لهنَّ الثلثين، ولكن أخذه الأب كما تقدم.
وقد استشكل ابن عباس ما جرى عليه العمل من نقص الأم بالاثنين من الإخوة، وقال لعثمان:[لِمَ صار الأخوانِ يردَّانِ الأمَّ إلى السدس، إنما قال الله: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ}، والأخوان في لسان قومك وكلام قومك ليسا بإخوة؟]
(1)
. وسُئل زيد بن ثابت عن ذلك فقال: ["إن العرب تسمِّي الأخوينِ إخوةً"]
(2)
.
فالذي يظهر من قول ابن عباس وقول زيد أن الجمع في لسان قريش إذا أُطلِق كان المتبادر منه الثلاثة، وليس الأمر هكذا عند جميع العرب، وإلّا لما خصَّ ابن عباس قريشًا. ويظهر من قول زيد أن الجمع في لسان الأنصار يُطلَق على الاثنين إطلاقًا مستفيضًا، فجرى العمل قبل ابن عباس وبعده على الاعتداد بالاثنين.
(1)
ما بين المعكوفتين بياض في الأصل. والأثر أخرجه الطبري في "تفسيره"(6/ 465) والحاكم (4/ 335) والبيهقي (6/ 227).
(2)
هنا بياض في الأصل، والأثر أخرجه الحاكم (4/ 335) والبيهقي (6/ 227).
ومن جملة ما يرجَّح به أن الأحكام المنصوصة المتفق عليها في الفرائض لا تفرِّق بين الاثنين فما فوق، فللبنت أو بنت الابن النصف، وللثنتين فأكثر الثلثان، وكذلك للأخت شقيقةً أو لأبٍ النصف، وللثنتين فأكثر الثلثان، وللأخ لأمٍّ السدس، وللاثنين فأكثر الثلث.
ويتأكَّد هذا بأن الظاهر أن الإخوة إنما ينقصون الأمَّ إلى السدس لأجل ميراثهم، حتى مع وجود الأب، فإنهم يرثون تقديرًا كما تقدم، وهم في ميراثهم لا يفترق الاثنان منهم والثلاثة فأكثر، أما الإخوة لأمَّ فظاهر، وأما الأشقاء أو لأب فيعتبر ذلك بإناثهم، فللأختين فأكثر الثلثان.
الرسالة الحادية والعشرون
مسألة منع بيع الأحرار
(1)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أكرمنا بالهداية، ولاحظَنا بالرّعاية، وحَفَّنا باللطف والعناية، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الهادي من الغَواية، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي أنزل عليه الكتاب فأوضح آيه، صلّى الله وسلَّم عليه وعلى آله وأصحابه أهلِ الفضل والدِّراية.
أمّا بعدُ، فإنّي لمّا رأيتُ العِلْمَ قد خبا زِنادُه، وكَبا جَواده، بل كان قد أصبح نَسْيًا منسيًّا، وعَدّ الناسُ من بقيَ من حَمَلتِه مرتكبين شيئًا فريًّا، لولا قيامُ مولانا أمير المؤمنين لتجديده، واجتهاده في بنائه وتشييده. وكنتُ ممَّن تشبّه بأهله، ولبِسَ العِمامةَ مع جهله، أزعجني ما حَدَث في بيع الأحرار، وما يعاملُهم به القضاة من عدم سماع دعوى المبيع ولا شهادةِ الحسبة مؤاخذةً بظاهر الإقرار؛ فرأيتُ القيام بهذه المهمّة عملًا بالظاهر من كوني ممّن يُعتَدُّ به في هذا المجال، وإن كنتُ في الحقيقةِ من جملة الجُهَّال.
فأولًا: لا يخفى عِظَمُ خَطَر الحريّة، قال الله تعالى:{فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 11 ــ 13] إلى غير ذلك من الآيات، بحيث جَعَله كفَّارةً لأكبر الكبائر وهو القتل، وكفَّارةً للظهار، وكفَّارةً للجماع في رمضان إلى غير ذلك.
وقد قرنَها الله تعالى بالإيمان، قال تعالى:{لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 37]، أي: أنعم الله عليه بالهداية إلى الإسلام، وأنعمتَ عليه بالفكِّ من رِبْقةِ الرقِّ.
وفي الصّحيحين
(1)
عن أبي هريرة قال: قال صلى الله عليه وآله وسلم: "مَن أعتقَ رقبةً مسلمةً أعتقَ الله بكل عضوٍ منه عضوًا من النار، حتَّى فَرْجَه بفَرْجِه".
وروى البيهقيُّ في "شعب الإيمان"
(2)
عن البراء بن عازبٍ قال: "جاء أعرابيٌّ إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: علِّمني عملًا يُدخِلُني الجنّة. قال: "لئن كنتَ أقصرتَ الخطبةَ لقد أعظمتَ المسألة. أعتِقِ النَّسَمةَ، وفُكَّ الرقبةَ". قال: أوَليسَا واحدًا؟ قال: "لا، عِتْقُ النسَمة أن تنفرد بعتقها، وفكُّ الرقبةِ أن تُعِين في ثمنها
…
" الحديث.
وفي حديثٍ رواه أبو داود والنسائي
(3)
: أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سُئِلَ في شأن رجلٍ قَتَل، فقال:"أَعتِقوا عنه، يُعتِقِ اللهُ إليه بكلِّ عضوٍ عضوًا منه من النار".
وفي "شعب الإيمان"
(4)
: أنّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: "أفضلُ الصدقة الشفاعةُ، بها يُفَكُّ رقبةٌ".
وفي مسلمٍ
(5)
عن أبي هريرة قال: قال صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يَجزِي ولدٌ والده إلا
(1)
البخاري (6715) ومسلم (1509).
(2)
رقم (4026) ط. الهند. وأخرجه أيضًا أحمد في "مسنده"(18647) وابن حبّان في "صحيحه"(374) والبيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 272، 273). وإسناده صحيح.
(3)
أبو داود (3964) والنسائي في الكبرى (4872) عن واثلة بن الأسقع، وهو حديث صحيح. راجع تعليق المحققين على "المسند"(16012).
(4)
رقم (7279) عن سمرة بن جندب. وفي إسناده أبو بكر الهذلي، وهو ضعيف. وذكر الذهبي في "الميزان"(4/ 497) هذا الحديث من مناكيره.
(5)
رقم (1510).
أن يجده مملوكًا فيشتريَه فيُعتِقَه" هـ.
ومن عرف خطرَ حقِّ الوالد عرفَ خطرَ العتق، وبطريق العكس فمن استرقّ حرًّا أو شهد عليه، أو حكم بغير تثبُّتٍ أو داهنَ، ثبت له عكسُ ما يثبتُ للمعتق. ومَن تأمّل أحكام الرقيق عرف عناية الشارع، فمنها السراية، ومنها شرط العتق في البيع، وغير ذلك ممَّا نقضت فيه القواعد، وعلّله الفقهاء بتشوّف الشارع إلى العتق.
وسببُ الرقِّ أصله الكفر، فانظر كيف لم يرضَ سبحانه وتعالى استرقاقَ المسلم إلا بالتبعيّة، وإنّما يُستَرقُّ الكافر بالسَّبْي أو الأسر أو نحوه، وهذا من مُدَّةٍ طويلةٍ إنْ لم يكن مفقودًا فنادرٌ.
وأمَّا غير الكافرِ فإنَّما يُسترقُّ بتبعيّتِه له، وندورُ الأصل يستلزم ندورَ الفرع. مع أنَّ العبيدَ المتوارثين من أزمنة الفتوح لا يكادون يُوجَدون إلا مَمْنُونًا عليهم بالعتق.
ومِن العلماء مَن قال: إنَّ الإماء المجلوبةَ لا يجوز بيعها ولا شراؤها في حال الجهل، قد قيل هذا في القرنِ السادس أو السابع، وممَّن قال به القفَّالُ والردَّاد، ومَن قال بالجواز قال: والورعُ اجتنابُه.
هذا إذْ ذاك فكيف اليوم؟!
وفي "فتاوى ابن زياد"
(1)
: مسألةٌ: الجواري المجلوبة الآن قد حرَّر السبكيُّ أحكامها، وحاصله: إمَّا أن يُجهَل حالُها، فالرجوعُ في ظاهر الشرع إلى السيِّد في الصغيرة، وإلى إقرارها واليد في الكبيرة. واليدُ حُجّةٌ شرعيّة
(1)
"غاية تلخيص المراد من فتاوى ابن زياد"(ص 196، 197).
وكذا الإقرار، والورعُ التركُ.
وإمَّا أن يُعلَم حالُها، وله مراتب:
أحدها: أن يتحقق إسلامها في بلادها، ولم يَجْرِ عليها رِقٌّ قبل ذلك، فلا تحلُّ هذه بوجهٍ من الوجوه إلا بزواجٍ شرعيٍّ.
ثانيها: كافرةٌ ممّن لهم ذِمَّةٌ وعهدٌ فكذلك.
ثالثها: كافرة من أهل الحرب مملوكة للكافر، حربيًّا أو غيره، فهي حلال لمشتريها.
رابعها: كافرةٌ من أهل الحرب قهرها وقهرَ سيِّدَها كافرٌ آخر، فإنّه يملكها ويبيعها لمن شاء، وتحلُّ لمشتريها
…
ثم قال بعد ذلك ما مضمُونُه:
خامسها: كافرةٌ لم يَجْرِ عليها رقٌّ أَخذَها مسلمٌ قهرًا، فإنْ كانت بإيجاف جيشٍ فغنيمةٌ مشتركةٌ بين الغانمين وأهلِ الخمس، أو غزا واحدٌ فأكثر بأمرٍ من الإمام أو بدونه ولو مُتَلصِّصًا فكذلك
(1)
.
والرقُّ إنَّما يثبت باليد أو بالبيّنة أو بالإقرار ونحو ذلك.
أمَّا باليد ففي حقِّ الصغير والمجنون، فيصدَّق مَن هو في يده في كونه رقيقًا بيمينه مع بيان السبب المعتبر، كما قرّره شُرَّاح "المنهاج"
(2)
في باب اللقيط، عند قول المتن: "ولو رأينا صغيرًا مميزًا
…
" إلخ، وفي باب الدعاوي.
(1)
إلى هنا انتهى النقل من "فتاوى ابن زياد".
(2)
انظر: "نهاية المحتاج"(5/ 461).
وأمَّا بالبيّنة فأمرها ظاهرٌ، وشرطها بيانُ السبب المعتبر، كما قرَّروه عَقِبَ ما مرَّ عند قول المتن:"ومَن أقام بيّنةً بِرِقّه عُمِلَ بها"
(1)
. ويُشترط أيضًا عدم المعارضة، فإنَّ بيّنةَ الحرّ تُقدَّم على بيّنةِ الرقّ، على ما نقله الهروي عن الأصحاب، وإنْ كان المعتمد خلافَه كما ذكره الرمليُّ في باب الدعاوي
(2)
.
وإذا لم تعتبر اليد، ولم تَرِدْ بيّنةٌ معتبرة، فالقول قول المُسْتَرَقّ البالغ بيمينه، وإنْ قد استخدم زمانًا وتداولته الأيادي، كما حققوه في باب الدعاوي.
وأمَّا الصغير فيُقبَل قولُ مسترِقِّه الذي هو في يده بيمينه ما لم يعتمد على الالتقاط، فإذا بلغ وادَّعى الحريَّة لم يُصدَّق إلا ببيّنةٍ على الأصحِّ. أمَّا غيرُ ذي اليد فلا يُصدَّق إلا ببيّنة معتبرةٍ.
وأمَّا الإقرار فأولًا: من المعلوم أنَّ الإقرار بالمال شرطه الرشد، ومن المعلوم أن مذهبَ الشافعي أن الرشدَ صلاح الدين والمال، وإنْ تجوَّز بعضُ المتأخرين فيعمل به حيث دعتِ الحاجةُ، والإقرارُ بالرقِّ هل يُعتبر فيه الرشد؟ الذي فهمه ابن حجر والرمليُّ من إطلاق الأصحاب في باب اللقيط عدمُ اعتباره، على أنَّ ابن حجر إلى اعتباره أميلُ، وباعتباره قال سلطان العلماء الشيخ عزُّ الدين عبد العزيز بن عبد السلام رحمه الله تعالى، ورجّحه المغني والزركشي والأذرعي وابن قاسمٍ والسيّد عمر، وهو الظاهر؛ لأنّه إقرار بمالٍ، والعذر عن إطلاق الأصحاب في باب اللقيط أنهم قد قيَّدوه في باب الإقرار، وهو الباب المعقود لذلك.
(1)
المصدر نفسه (5/ 462).
(2)
المصدر نفسه (8/ 345).
وإذا تقرّر هذا فأين الرشد اليوم من أكثر الناس؟ !
ومن شروط الإقرار أيضًا عدم الإكراه، وقد نصُّوا على أنَّ القول قول مدّعي الإكراه إذا قامت أمارةٌ عليه، وكفى بحال الشخص تحت سيطرة المتغلِّبِ عليه الطامعِ في بيعه بمالٍ كثيرٍ، مع فساد الزمان وجهل الناس وشدّة ظلمهم، فإنها أمارةٌ واضحة على الإكراه.
تنبيهٌ:
ويُشتَرط في إثبات الرقّ بأدنى دليل، كأن يكون داخلًا تحت الإمكان. فمَن عُلِمت حريته وإسلامه لم تُسمع دعوى الرقّ عليه أصلًا.
ويُشترط في الإقرار بالرقّ أيضًا أن لا يسبقه إقرار بالحريّة، كما قرَّروه في باب اللقيط.
فإذا ثبت الإقرار المعتبر فهل تُسمع الدعوى بعده؟
قال القليوبي في "حاشيته" على المحلّي
(1)
قُبيلَ باب بيع الثمار: "إنّها لا تُسمع إلا أن يبيِّن له وجهًا محتملًا، وأنّ ابن حجرٍ قال: "تُقبَل مطلقًا لأجل حقّ الله تعالى".
وقال في باب الحوالة
(2)
: "نعم إنِ اعترفَ العبد قبلها بالرقِّ، أو صرَّح أحدُ الثلاثة قبلها بالملك، لم تُسمَع بيّنتُهم ولا دعواهم، كما اعتمده [شيخنا]
(3)
كشرح شيخنا الرملي، ونقل سماعها مطلقًا؛ لأنَّ الحريّة حقُّ الله تعالى
…
" إلخ.
(1)
(2/ 224).
(2)
(2/ 322).
(3)
زيادة من المطبوع.
فأمَّا إذا بيَّن وجهًا محتملًا فإنها تُقبل جزمًا، كما أشاروا إليه في باب الحوالة.
وأمَّا ما ذكره عن ابن حجرٍ فلم أره لابن حجر فيِ "التُّحفة" بعد الفحص، بل في كلامه ما يفيد خلافه، قال في بابِ الحوالة
(1)
: "إنَّ عدمَ سماعِها هو الأصحُّ، مع تناقضٍ لهما في مواضع" يعني الشيخين.
وفي "الداغستاني"
(2)
في باب الحوالة: "قوله: (أو أقامها العبدُ)، قال في "شرح العباب": قال الجلال البلقيني: لم يذكروا إقرار العبد بالرقِّ، والقياس يقتضي تَعيُّنَ إقامة البيّنة حسبةً؛ لأنَّ إقراره بالرقِّ مُكذِّب لبيِّنتِه، فلا يقيمُها. انتهى. ونُقِل عن الأسنوي ما يوافقه، وعن السبكي والأذرعي ما يخالفه، ويؤيّد كلام الجلال والأسنوي امتناعُ سماعها من المتبايعين إذا صرّحا حين البيع بالملك، فإنّ تصريحهما بالملك نظير تصريح العبد بالملك". انتهى، سم بحذفٍ".
فقوله: "ونقل عن الأسنوي ما يوافقه"، أي: قال بعدم سماعها إلا إن كانت حسبةً.
وقوله: "وعن السبكي والأذرعي ما يخالفه"، أي: قالا بسماعها مطلقًا، كما هو ظاهرٌ.
وأمّا الحسبةُ فإنَّه لا شكَّ فيها أنها تُقام على كلِّ حالٍ.
(1)
"تحفة المحتاج"(5/ 237 - 238).
(2)
هو الشرواني، انظر حاشيته على التحفة في الموضع المذكور.
وفي "المنهاج"
(1)
: "وتُقبل شهادةُ الحسبة في حقوق الله تعالى، وفيما له فيه حقٌّ مؤكّد كطلاقٍ وعتقٍ
…
" إلخ.
وفسَّر الشرَّاح
(2)
قوله: "وفيما له حقٌّ مؤكد" بما لا يتأثر برضا الآدمي، ولا شكَّ في أنّ الحريّة كذلك.
إذا علمتَ ما مرّ فإنّ المستَرَقَّ في هذا الزمان إن كان مشهورَ النسب فلا تُسمع دعوى مسترِقِّه أصلًا.
وإن كان مجهولًا لكونه مجلوبًا من قُطرٍ بعيدٍ فالقول قوله بيمينه، ما لم يَسبِق منه إقرارٌ بالرقِّ مستكملٌ للشروط، وهو عزيزٌ جدًّا، لقيام أمارة الإكراه، وعلَّتُه السَّفَهُ. ولو قامت بيّنةٌ أنّ المسترَقَّ قد أقرّ بالحريّة قبل إقراره بالرقّ قُبِلتْ، وأَبطلَتْ إقرارَه بالرقّ.
فأمّا إذا ثبت إقراره المعتبر بالرقِّ ولم يكن مشهور النسب، فهل تُسمَع دعواه الحريّةَ أم لا؟
قد سبق نقل القليوبيِّ عن ابن حجرٍ والرمليّ، ونقلُ ابن قاسم عن السبكيِّ والأذرعي.
وأمّا كلام الجلال البلقيني وموافقةُ الإسنوي له فهو عبَّر بقوله: "والقياس يقتضي
…
" إلخ، وكثيرًا ما تُنقَض القواعد ويُخالَف القياس في هذا الباب لخطر شأن الحريّة.
(1)
"منهاج الطالبين"(3/ 437).
(2)
انظر "تحفة المحتاج"(10/ 237) و"نهاية المحتاج"(8/ 306).
وبما قرَّرناه تبيّن أن الإقرار بالرقِّ لا حكمَ له، لغلبةِ السفه وعدم المعرفة، وقيامِ أمارة الإكراه، مع غلبة الحريةِ ــ وهي الأصلُ ــ ونُدورِ الرقّ المتيقّن.
فعليه كلُّ مُسْتَرقٍّ ادَّعى الحريةَ فالقول قوله بيمينه، سواء سبقَ منه إقرارٌ بالرقِّ أمْ لا، إلاّ أن يقيم مُسْترِقُّه بيّنةً برقِّه، فإن أقامها ثبت الرقُّ إلاّ أن تقوم بيّنةٌ بالحريّة، سواء أقامها العبدُ ــ على ما مرّ عن السبكي، ونقله (ق ل) عن ابن حجرٍ والرملي، ومرّ توجيهُه ــ أم أُقيمتْ حسبةً، فإنّ بيّنةَ الحريّة تُقَدَّمُ على بيّنةِ الرقيّة، على ما نقله الهروي عن الأصحاب، ويتّجه ترجيحُه لفسادِ الزمان وكثرةِ العدوان، وغلبةِ الحريّة ــ وهي الأصلُ ــ ونُدورِ الرقِّ.
وأيُّ إنسانٍ جلب مُسترَقًّا فالأحوط للمشتري أن لا يشتريه إلا بعد إخبار موثوقٍ بأنّه مملوكٌ حقًّا، وإلّا فاللازمُ عليه أنْ يشتريَه بخيار الشرط، ثم يؤمِّنه ويطمئنه [ ....... ]
(1)
، ويُسكِّن فَزَعه، ويقول له: إن كنتَ حُرًّا فأنت آمِنٌ ضامنٌ، وأنا أقبِضُ منهم دراهمي، وأحمِيْك منهم، وأمنعُهم عن التعرُّض لك، ثم إن أحببتَ البقاء لديَّ وإلّا أرجعتُك إلى أهلك مع مَن أَثِقُ به. وإن كنتَ مملوكًا فلا تكذِبْ.
فإن قال: أنا حُرٌّ، لزِمَه رفعُه إلى الحاكم للبحث عنه، ولا يُسْلِمه إلى جالبِه.
وإنْ قال: بل أنا مملوكٌ، فلا بأسَ أنْ يشتريَه معتمدًا على ظاهر اليد مع إقراره، بعد تأمينه وتَطْمِينه.
(1)
هنا كلمتان غير واضحتين.
والحذرَ ثم الحذرَ من التساهل في هذا، فإنَّه من أخطر الخطر، كيف وما يترتَّبُ عليه من المفاسد كثيرٌ؟ ! كالتسرّي واسترقاق الأولاد، إلى غير ذلك.
والنظرُ لمولانا أميرِ المؤمنين، مُقيمِ أَوَدِ الدين، المجتهد المطلق، سيّدنا الإمام محمد بن عليِّ بن إدريس، حفظه اللهُ تعالى، آمين.
وقد كنتُ أردتُ نقلَ عباراتِ شُرَّاح "المنهاج" و"المنهج" و"الحواشي" في باب الإقرار، والحَجْر، والحوالةِ، واللقيط، والدعاوي والشهادات، فلم تُساعدني العزيمةُ، ورأيتُ الذي أوردتُ كافيًا. وحسبنا الله ونعم الوكيل.
(2)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي لا إله إلا هو، والصلاة والسلام على نبيّه ورسوله محمدٍ وآله وصحبه.
وبعدُ، فإنَّ هذا الزمانَ لا يخفى فيه ضياعُ حقوق الله تعالى بين الناس، وفُشوُّ السوء والفحشاء ما بينهم، ومن ذلك ما شاع من بيع الأحرار، وإكراهِهم على الإقرار، أو ترغيبهم بعضهم ببعضِ الثمن وإطماعِه بالهربِ، وبعضهم رغَّبه في تحمُّل مُؤْنتِه ومعيشته واستراحتِه من الطلب والتعب، وربّما حضر إلى بعض الحكام ذلك المقِرُّ فادَّعى الحريّة، أو جاءت شهادةُ حِسبةٍ، فلم يسمعها اعتمادًا على ظاهر كلام أهل المذهب.
وأنا أنقلُ هنا بعضَ ما يلوحُ بالمسألةِ من كلام "المنهاج" و"التُحفة" و"الحاشية" للشِّرواني.
في الإقرار
(1)
:
(يصحُّ) الإقرار (من مطلق التصرّف) أي: المكلّف الرشيد
…
إلخ.
وفي باب اللقيط
(2)
:
(إذا لم يُقرّ اللقيطُ برِقٍّ فهو حرٌّ، إلا أنْ يقيم أحدٌ بينةً لرقّه، وإنْ أقرَّ به) أي: الرقّ، وهو مكلَّفٌ، وعن ابن عبد السلام ما يقتضي اعتبارَ رشده أيضًا،
(1)
"منهاج الطالبين"(2/ 177)، "تحفة المحتاج" مع الحواشي (5/ 354).
(2)
"المنهاج"(2/ 313، 314)، "تحفة المحتاج"(6/ 356).
وظاهر كلامهم خلافُه. (لشخصٍ فصدَّقه قُبِل إن لم يسبق إقراره) أي: اللقيط (بحريّةٍ) كسائر الأقارير، بخلافِ ما إذا أكذبه، وإنْ صدَّقه بعدُ أو سبق إقراره وهو مكلَّفٌ؛ لأنّه به التزمَ أحكام الإقرار المتعلّقة بحقوق الله تعالى والعبادِ، فلم يقدر على إسقاطها.
وفي الحاشية
(1)
: "اعتمده المغني والسيد عمر، ومال إليه ابن قاسم".
عبارةُ المغني: تنبيهٌ: سكتوا عن اعتبار الرشد في المقر ههنا، وينبغي ــ كما قال الزركشي ــ اعتباره كغيره من الأقارير، فلا يقبل اعتراف الجواري بالرقّ كما حكي عن ابن عبد السلام؛ لأنَّ الغالب عليهنَّ السفه وعدم المعرفة، قال الأذرعيُّ:"وهذه العلّة موجودة في غالب العبيد، لا سيما من قرُب عهده بالبلوغ".
وعبارة السيد عمر: "قوله: فظاهر كلامهم خلافه، قد يقالُ: إنَّما سكتوا عن هذا اكتفاءً بذكره في نظائره، إذِ الغالبُ استيعاب الشروط إنما يكون في الباب المعقود أصالةً لبيان ذلك الحكم كباب الإقرار هنا، ثم رأيتُ المحشي قال: قوله: "اعتبار رشده" قد يؤيّده أنه إقرار بمالٍ، وشرطه الرشدُ، اللهم إلا أن يمنع أن الإقرار بالرقِّ ليس من الإقرار بالمال، وإن ترتّبَ عليه المال، انتهى.
وهو إشارةٌ إلى ما نبَّهنا عليه، وأمَّا قوله: "اللهم إلّا
…
إلخ" فلا يخفى ما فيه من البعد بل المكابرة، إذْ لا معنى لقوله: أنا عبده أو نحوه إلا أنا مملوكٌ له، وهو نصٌّ في المالية. هـ.
(1)
"حاشية الشرواني" المطبوعة مع "تحفة المحتاج"(6/ 356 - 357).
وفي الشرح
(1)
بعد: ولو أقرَّ بالرقِّ لمعيَّنٍ ثم بحريّةِ الأصل لم تسمع، لكن إن كان حالَ الإقرار الأول رشيدًا، على ما مرَّ.
وقال في بابِ الحجر
(2)
:
(حجر الصبيِّ يرتفع ببلوغه رشيدًا) لقوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6]
…
إلى (والرشدُ صلاح الدين والمال) معًا، كما فسَّر به ابن عباسٍ وغيره الآيةَ السابقة، ووجه العموم فيه مع أنه نكرةٌ مثبتةٌ وقوعُه في سياق الشرط.
[وفي الدعاوي]
(3)
:
(ولو ادُّعيَ رقُّ بالغٍ) عاقلٍ مجهول النسب ولو سكرانَ (فقال: أنا حرٌّ) في الأصلِ، ولم يكن قد أقرَّ له بالملك، قيل: وهو رشيدٌ على ما مرَّ قبيل الجعالة (فالقولُ قولُه).
وفي الشهادات
(4)
:
(وتُقبل شهادة الحسبة في حقوق الله تعالى وفيما له فيه حقٌّ مؤكَّدٌ) وهو ما لا يتأثَّر برضا الآدمي
…
إلى أنْ قال: وإنما تُسمَع عند الحاجة إليها حالًا، كأخيها رضاعًا وهو يريدُ أنْ ينكحها، أو أعتقه وهو يريدُ أن يسترِقَّه (كطلاقٍ وعتقٍ وعفْوٍ عن قصاصٍ، وبقاء عدّةٍ وانقضائها، وحدٍّ له تعالى).
(1)
"تحفة المحتاج"(6/ 357).
(2)
المصدر نفسه (5/ 162 - 166).
(3)
المصدر نفسه (10/ 301 - 302).
(4)
المصدر نفسه (10/ 237 - 239).
وفي الحاشية على (كطلاقٍ) أي: لأنَّ المكلَّف فيه حقّ الله تعالى، بدليل أنه لا يرتفع بتراضي الزوجين أسنى. هـ
نعم في "بغية المسترشدين"
(1)
في الحجر عن الأشخر: مذهب الشافعيّ أن الرشد صلاح المال والدين، بأن لا يرتكبَ محرمًا مبطلًا للعدالة، ومنه أن تغلب طاعاتُه صغائره، إلى أن ذكر وجهًا آخر حكاه عن البعض وتجوّز فيه المتأخرون تيسيرًا، قال: وهو شاذٌّ.
وفي باب الخلع
(2)
عن الأشخر أيضًا: هذا إذا قلنا بمذهب الشافعي أن الرشد صلاح الدين والمال، أمَّا إذا قلنا بالوجه الشاذّ أنه صلاح المال
…
إلخ
وفيه
(3)
عن بافقيه: ومعلومٌ أن الرشد على المذهبِ أن تبلغ مصلحة لدينها ودنياها
…
إلخ.
وفي فتاوي ابن زياد
(4)
:
مسألةٌ: عبد مسلمٌ بالغٌ رشيدٌ تحت يد مالكٍ مقرٍّ له بالملك مستخدم مستفاض بين الناس أنه عبدُه، ثم أعتقه السيد بحضرة بعض العلماء عتقًا صحيحًا، فانتقل العتيق إلى بلدٍ أخرى وأقرَّ أنَّه مِلْكٌ لشخصٍ آخر، لم يُقْبل إقراره بعد ثبوت العتق،
…
إلخ.
(1)
(ص 139).
(2)
(ص 217).
(3)
(ص 218).
(4)
"غاية تلخيص المراد من فتاوى ابن زياد"(ص 144).
وفي الحجر
(1)
:
مسألةٌ: الرشدُ صلاح الدين والمال، هذا مذهب إمامنا الشافعيِّ رحمه الله، وفي وجهٍ حكاه المتولّي
…
إلخ.
إذا تقرر ما نقلناه وعرفتَ أحوال الناس اليوم في بيع الجواري اتَّجه الجزمُ بسماع البيّنةِ على الحريّةِ؛ لأنَّ حقوق الله المتعلّقةِ بها عظيمةٌ، وكم مفاسد تترتب على الرقِّ.
وتبيَّن مما نقل عن "المغني" والسيد عمر وابن قاسم عن الزركشي والشيخ عزّ الدين بن عبد السلام سلطان العلماء وغيرهم أن الرشد هنا معتبرٌ كسائر الأقارير.
أمَّا حُجَّةُ من لم يشترطه فإنَّما هو مجرد إطلاقهم أنَّ الأصحاب .... ، وقد تبيّن أن إطلاقهم إنّما هو اكتفاء بذكره في أصل المسألة ونظَائرها، وذلك باب الإقرار. وكون الإقرار هنا إقرارًا بمالٍ لا يُمْتَرى فيه.
وأمَّا كون الرشد مُعتبرًا في الدين فهو المذهبُ، وإنَّما تجوَّز فيه بعضُ المتأخرين تيسيرًا، وينبغي أنْ يعتبر التيسير قبل ادِّعاء المبيع الحريَّةَ، أو ورود شهادة الحسبة، وأمَّا عندهما ففيه تفويتٌ لحقوق الله تعالى، وخوضٌ في الأوحال، على أنَّ الحسبةَ الظاهرُ سماعُها هنا؛ لكون الغالب فيه حقّ الله تعالى، إذْ لا ترتفع الحرية بالتراضي كما لا يرتفع الطلاق.
وأمَّا الرشدُ في الجواري والعبيد اليوم فمفقود؛ إذْ لا تُعرف منهم صلاة ولا صيام بل ولا ذِكرُ الله تعالى إلا نادرًا، مع جهلهم بما يترتب على
(1)
المصدر نفسه (ص 138).
استرقاقهم من المفاسد، وإنما عامَّة قصدهم أن يستريحوا من طلب المعاش، وهذا مع استخفاف الناس بالمسألة وجرأتهم عليها، فطالما باعوا الأحرار وأكرهوهم على الإقرار، أو رغَّبوهم بمالٍ وأطمعوهم بالفرار، أو رغَّبوا في استراحتهم من الكدِّ والتَّعبِ في طلبِ المعاش بحمل المشتري لِمُؤنتهم، ولاسيَّما إذا كان من الأغنياء.
وقد قيل في الأعجمي الذي يرى وجوبَ طاعةِ أميره: إنَّ حكمه مأمورًا كحُكْمه مُكْرهًا، ولا يبعد قياس هؤلاء عليه.
وللإمام ــ أيَّده الله تعالى ــ النظرُ والجزمُ بما تبرأ به الذمَّةُ؛ إذِ الدينُ قِلادةٌ في عُنُقه، وهو بحمد الله من العلم والتحقيق بمرتبةِ الاجتهاد، والحقُّ أحقُّ أنْ يُتَّبع، ولا يرفع الحقَّ كلامُ أحد إلا الله ورسوله. واللهُ أعلمُ.
(3)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
وبعد، فقد حملني ما طرأ على الناس من أحكام الأرِقّاء، وجرأة كثيرٍ من الناس على بيعِ الأحرار، مع إكراههم على الإقرار أو ترغيبهم به، ورغبتهم في المعرفة والمعيشة، ومع ذلك فإنَّ بعض الحكام يقضي بمجرد الإقرار بالرقِّ، لم يَعُدْ يقبل دعواه الحرية، ولا يسمع شهادة الحسبة.
وهذا ما اطلعتُ عليه من عبارات "المنهاج" مع "التحفة" وحاشية الشِّرواني.
متنٌ وشرحٌ:
(يصحُّ) الإقرار (من مطلق التصرُّف) أي: المكلّف الرشيد
…
إلخ. هـ من الإقرار
(1)
.
وفي باب اللقيط
(2)
:
(إذا لم يُقِرّ اللقيط برقٍّ فهو حرٌّ، إلا أنْ يُقيمَ أحدٌ بيِّنةً برقّه، وإنْ أقرَّ به) أي: الرقِّ وهو مكلَّفٌ، وعن ابن عبد السلام ما يقتضي اعتبارَ رشده أيضًا، وظاهر كلامهم خلافُه. (لشخصٍ فصدَّقَه قُبِل إنْ لم يسبق إقراره) أي: اللقيط
(1)
"تحفة المحتاج بشرح المنهاج"(5/ 354).
(2)
المصدر نفسه (6/ 356).
(بحريّةٍ) كسائر الأقارير، بخلافِ ما إذا أكذَبَه، وإنْ صدَّقه بعدُ أو سبق إقراره بالحريّةِ وهو مكلَّف؛ لأنّه به التزمَ أحكام الإقرار المتعلّقة بحقوقِ الله والعباد، فلم يقدر على إسقاطها.
وفي الحاشية
(1)
عند قوله: "ما يقتضي رشده": اعتمده المغني والسيد عمر، ومال إليه ابن قاسمٍ.
عبارةُ المغني: تنبيهٌ: سكتوا عن اعتبار الرشد في المُقِرِّ ههنا، وينبغي ــ كما قال الزركشيُّ ــ اعتباره كغيره من الأقارير، فلا يُقبل اعتراف الجواري بالرقِّ كما حُكِيَ عن ابن عبد السلام؛ لأنَّ الغالبَ عليهنَّ السفهُ وعدم المعرفة. قال الأذرعيُّ: وهذه العلّةُ موجودةٌ في العبيد، لاسيّما من قرُب عهده بالبلوغ.
وعبارة السيد عمر: قوله: "وظاهر كلامهم خلافه"، قد يقال: إنّما سكتوا عن هذا اكتفاءً بذكره في نظائره؛ إذِ الغالبُ أنَّ استيعاب الشروط إنّما يكون في الباب المعقود أصالةً لبيان ذلك الحكم، كباب الإقرار هنا، ثم رأيتُ المحشّي قال: قوله: "اعتبار رشده" قد يؤيده أنّه أقرَّ بمالٍ، وشرطه الرشد، اللهم إلا أن يمنع أنَّ الإقرار بالرقِّ ليس من الإقرار بالمال، وإنْ ترتّب عليه المال. هـ
وهو إشارة إلى ما نبهنا عليه.
وأمَّا قوله: "اللهم إلا
…
" إلخ، فلا يخفى ما فيه من البعد بل المكابرة؛ إذْ لا معنى لقوله: أنا عبده أو نحوه إلّا أنا مملوكٌ له، وهو نصٌّ في المالية. هـ
(1)
"حاشية الشرواني" المطبوعة مع "التحفة"(6/ 356 - 357).
وفي الشرح
(1)
بعد: ولو أقرَّ بالرق لمعيَّن ثم بحرية الأصل لم تُسمع، لكن إنْ كان حالَ الإقرار الأول رشيدًا، على ما مرَّ.
وفي الحجر
(2)
:
(وحجر الصبيّ ببلوغه رشيدًا) لقوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا}
…
إلى أن قال: (والرشدُ صلاح الدين والمال) معًا، كما فسَّر به ابن عباس وغيره الآية السابقة، ووجه العموم فيه مع أنه نكرة مثبتة وقوعُه في سياق الشرط.
وفي الدعاوي
(3)
:
(ولو ادُّعي رقُّ بالغٍ) عاقلٍ مجهولِ النسب ولو سكرانَ (فقال: أنا حرٌّ) فالقول قوله. هـ
وفي الشهادات
(4)
:
(وتُقبل شهادة الحسبة في حقوق الله تعالى وفيما له فيه حقٌّ مؤكّد) وهو ما لا يتأثّر برضا الآدمي
…
إلى أنْ قال: وإنّما تُسمع عند الحاجة إليها حالًا، كأخيها رضاعًا وهو يريد أن ينكحها، أو أعتقه وهو يريد أن يسترقَّه (كطلاقٍ وعتقٍ وعفوٍ عن قصاص، وبقاءِ عِدّةٍ وانقضائها، وحقٍّ له تعالى).
(1)
"تحفة المحتاج"(6/ 357).
(2)
المصدر نفسه (5/ 162 - 166).
(3)
المصدر نفسه (10/ 301 - 302).
(4)
المصدر نفسه (10/ 237 - 239).
وفي الحاشية على قوله "كطلاقٍ" أي: لأنَّ المكلّف فيه حقُّ الله تعالى، بدليل أنَّه لا يرتفع بتراضي الزوجين. أسنى هـ.
وفي "البغية"
(1)
عن الأشخر: "مذهبُ الشافعيّ أن الرشد صلاح المال والدين، بأن لا يرتكبَ محرمًا مبطلًا للعدالة، ومنه أن تغلب طاعاتُه صغائره
…
إلى أنْ ذكر وجهًا آخر حكاه عن البعضِ، ثم قال آخره: وهو شاذٌّ".
وفي باب الخُلْعِ
(2)
عن الأشخر أيضًا: "هذا إذا قلنا بمذهب الشافعي أن الرشد صلاح الدين والمال، أمَّا إذا قلنا بالوجه الشاذّ أنّه صلاح المال
…
" إلخ.
وفيه
(3)
عن بافقيه: "ومعلوم أن الرشد على المذهب أن تبلغ مصلحة لدينها ودنياها".
وفي "فتاوى" ابن زياد
(4)
:
مسألةٌ: عبد مسلم بالغ رشيدٌ تحت يدِ مالكٍ مُقرّ له بالملك مستخدمه مستفاض بين الناس أنه عبد، ثم أعتقه السيّدُ بحضرة بعض العلماء عتقًا صحيحًا، فانتقل العتيقُ إلى بلدٍ أخرى وأقرَّ أنه ملكٌ لشخصٍ آخر، لم يُقبل إقراره بعد ثبوت العتق؛ لأن العتيق المسلم لا يتصور حدوث الرقّ عليه
…
إلخ.
(1)
"بغية المسترشدين"(ص 139).
(2)
المصدر نفسه (ص 217).
(3)
المصدر نفسه (ص 218).
(4)
"غاية تلخيص المراد من فتاوى ابن زياد"(ص 144).
وفيها في الحجر
(1)
:
مسألةٌ: الرشدُ صلاح الدين والمال، هذا مذهب إمامنا الشافعيّ رحمه الله، وفي وجهٍ حكاه المتولّي.
إذا تقرّر ما نقلناه، وعُرِفَ أحوال الناس اليوم في بيع الجواري اتَّجه الجزمُ بسماع البينة على الحريّة؛ لأنَّ الحقَّ في الحرية لله سبحانه وتعالى، وكم يترتب على الرقيّة من مفاسد خطيرة نعوذ بالله من ذلك.
فأمَّا صحةُ الإقرار فقد تقرّر أن المذهبَ كون الرشد معتبرًا في الدنيا والدين، وإنْ ذهبَ بعضُ المتأخرين إلى الوجه الضعيفِ طلبًا للتسهيل على الناس؛ لأنَّ المشقّةَ تجلب التيسيرَ، على أنَّ المصلحة في مسألتنا مطابقةُ المذهب في اعتبار الدين حفظًا لحقوق الله تعالى من الضياع، وصدًّا لأهل الفجور والأطماع؛ لعموم البلوى بذلك، فإنَّ الناسَ لا يعرفون ما يترتبُ على الرقِّ من المفاسد، فهم يرتكبون الجرأة على بيع الأحرار طمعًا في الدنيا الفانية، فأمَّا المبيع فإمَّا أن يُكرِهوه على الإقرار، وتعتبرُ عليه بينة الإكراه بعدُ، وإمَّا أنْ يُرغِّبوه فيرغب في الرقِّ لما فيه من حملِ المالك مُؤْنتَه، فيستريح من تعب الطلب للمعاش، وقد شاع نَهْبُ الأحرار، وإكراههم على الإقرار، وبيعهم للتجار، وربّما علم ذلك المشتري فيبتاعه طلبًا للربح، أو يمسكه لئلا تذهب دراهمه.
وأمَّا إقرار الجواري فإنّه وإنْ قيل: إنَّ المعتمدَ أنّه لا يُعتبر فيه الرشد، فقد عرفتَ ما فيه ممَّا حكيناه عن المغني والسيد عمر إلحاقًا له بسائر الإقرارات.
(1)
المصدر نفسه (ص 138).
وأمَّا شهادة الحسبة فلا يخفى ما يترتب على استرقاق الحرّ مِنَ المفاسد المُخِلَّةِ بحقوق الله تعالى، وكما قيل في الطلاق: إنه حق الله تعالى بدليل أنَّه لا يرتفع بالتراضي. على أنَّ القول بعدم اعتبار الرشد في إقرار الجواري، فإن كان قبل البينة فتخفيفًا على الناس ينبغي اعتماده، أمَّا بعد ورود البيّنة من قِبل المبيع أو حسبةً فالذي يطمئنُّ إليه القلب ــ حفظًا لحقوقِ الله تعالى ــ اعتبار الرشد، تبريئًا لذمّةِ الإمام والحكام وسائر الناس.
ولمولانا ــ حفظه الله تعالى ــ النظر، وعليه الجزمُ بما رآه الحقَّ، فإنَّ الحقَّ لا يرفعه قولُ قائلٍ، والله تعالى أعلمُ.
(4)
بسم الله الرحمن الرحيم
وقعت المذاكرةُ في ما اشتهر الآن في بعض البلدان من بيع الأحرار، والاعتماد على الإقرار، وما يقضي به بعض الحكام من عدم سماع دعوى مَنْ أقرَّ بالرقِّ إذا ادَّعى الحريّةَ، وعدم سماع شهادة حسبة على ذلك، كيف حكمُه؟
أقول: في ق ل
(1)
على ح ل قبيل باب بيع الثمار
(2)
ما لفظه:
(تنبيهٌ): لو أقرَّ بالرقِّ لشخصٍ فبِيعَ، ثم ادَّعى الحريَّة لم تُقبل دعواه، إلّا إنْ بيَّنَ له وجهًا محتملًا، وقال ابن حجرٍ: تُقبل مطلقًا لأجل حقِّ الله تعالى. هـ
فهذا إنْ صحَّ أغنى، لكن لم نعثر على ما يفيد ذلك لابن حجر، بل صرَّح بعكسه وأطلق، وإليك عبارتَه في "تحفته" في بابِ اللقيط
(3)
:
"ولو أقرَّ بالرقِّ لمعيَّنٍ ثم بحريّة الأصل لم تُسمَع". هـ
نعم قد عُرِفَ أنَّ المذهبَ اشتراطُ الرشد للإقرار بالمال، والرشد هو صلاح الدين والمال، وأمَّا هنا فعبارةُ ابن حجرٍ عند قول "المنهاج" في باب
(1)
قوله (ق ل) رمزٌ للمحشي قليوبي، له حاشيةٌ على (ح ل)، وهو شرح جلال الدين المحلّي على منهاج النووي.
(2)
"حاشية" قليوبي (2/ 224).
(3)
"تحفة المحتاج"(6/ 357).
اللقيط
(1)
:
(وإنْ أقرَّ به) أي: الرقّ وهو مكلَّف، وعن ابن عبد السلام ما يقتضي اعتبار رشده أيضًا، وظاهر كلامهم خلافه. هـ.
وفي الحاشية
(2)
: قوله: "ما يقتضي اعتبار رشده" اعتمده المغني والسيد عمر، ومال إليه سم
(3)
.
عبارة الأول: تنبيهٌ: سكتوا عن اعتبار الرشد في المُقِرِّ هنا، وينبغي ــ كما قال الزركشي ــ اعتبارُه كغيره من الأقارير، فلا يُقبل اعتراف الجواري بالرقّ كما حكي عن ابن عبد السلام، لأنَّ الغالبَ عليهنَّ السفه، وعدم المعرفة. قال الأذرعيُّ:"وهذه العلّةُ موجودةٌ في غالب العبيد، لا سيمَّا مَنْ قرُب عهده بالبلوغ". هـ
وعبارة السيد عمر: قوله: "وظاهر كلامهم خلافه"، قد يُقال: إنما سكتوا عن هذا اكتفاءً بذكره في نظائره؛ إذِ الغالبُ في استيعاب الشروط إنما تكون في الباب المعقود أصالةً لبيان ذلك الحكم، كبابِ الإقرار، ثمَّ رأيتُ المحشّي قال: قوله: "اعتبار رشده" قد يؤيّده أنّه إقرار بمالٍ، وشرطه الرشد، اللهم إلا أن يمنع أن الإقرار بالرقّ ليس من الإقرار بالمال، وإن ترتّب عليه المالُ، انتهى.
وهو إشارةٌ إلى ما نبّهنا عليه.
(1)
المصدر نفسه (6/ 356 - 357).
(2)
"حاشية الشرواني" على الموضع السابق.
(3)
أي ابن قاسم.
وأمّا قوله: "اللهم
…
إلخ" فلا يخفى ما فيه من البُعد بل المكابرة؛ إذ لا معنى لقوله: أنا عبدُه أو نحوه إلاّ أنا مملوكٌ له، وهذا نصٌّ في الماليّة. هـ
فكلامُه هو لا يرجِّح اعتبارَ الرشد، وأين الرشد اليوم في كثيرٍ من الأحرار فضلًا عن الأرقّاء؟ ولو اعتُبِر هذا لشقَّ على النَّاس، إذ كلُّ من أراد بيعَ رقيقٍ احتاج إلى شاهدين على رِقّه، وعليه فتُسمع بعد ذلك دعوى المبيع؛ إذ لم يكن الحكم برقّه مبنيًّا على إقراره فتُرَدُّ دعواه.
وأمّا شهادةُ الحسبة فإليك عبارةَ "المنهاج" مع ملخَّصٍ من عبارة "التحفة"
(1)
: (وتُقبل شهادة الحسبة في حقوق الله تعالى وفيما له فيه حقٌّ موكَّدٌ) وهو ما لا يتأثّر برضا الآدمي
…
وإنّما تُسمع عند الحاجةِ إليها حالًا، كأخيها رضاعًا وهو يريد أن ينكحها، أو أعتقه وهو يريد أن يسترقّه (كطلاقٍ وعتقٍ) بأن يشهد به أو بالتعليق مع وجود الصفة أو بالتدبير مع الموت أو بما يستلزمه. هـ
والحريّة من أعظم حقوق الله تعالى، والأصليّة أولى من العتق، ولا فرقَ بين كونِ العتق وقع ممَّن يريد أن يتملّكه أو يبيعه أو مِنْ غيره، كما هو الظاهر.
فالذي يظهر أنَّ شهادة الحسبة لا تُردُّ في هذا؛ إذ هو ممَّا لا يتأثّر برضا الآدميِّ، والله تعالى أعلمُ.
(1)
(10/ 237 - 238).
الرسالة الثانية والعشرون
أسئلة وأجوبة في المعاملات
بسم الله الرحمن الرحيم
س: ما تعريف البيع؟
ج: البيع لغة: إعطاء شيء وأخذ شيء.
وشرعًا: مبادلة مالٍ ــ ولو في الذمة ــ أو منفعةٍ مباحة بمثل أحدهما، للمِلْك على التأبيد.
وفي "العمدة"
(1)
: معاوضة مالٍ بمالٍ.
س: ما الذي يجوز بيعه، وما الذي لا يجوز بيعه؟
ج: يجوز بيع كل مملوكٍ فيه نفع مباح، غير الكلب، ولا يجوز بيع الكلب، ولا ما لا نفع فيه، كالحشرات، ولا ما نفعه محرم، كالخمر والميتة، ولا بيع الإنسان ما لا يملكه إلا بإذنٍ من مالكه، أو دلالةٍ عليه، ولا بيعُ معدومٍ، كما ستُثمِره شجرته، ولا مجهولٍ كالحمل، والغائب الذي لم تتقدم رؤيته إلا ما يأتي في السَّلَم، ولا بيعُ غيرِ معين، كشاةٍ من قطيع، إلا ما تتساوى أجزاؤه، كصاعٍ من صُبْرةٍ معينة، ولا بيع ما يَعْجِز البائعُ عن تسليمه، كالآبق، والشارد، والطير في الهواء، والسمك في الماء، ولا بيع المغصوب إلا لغاصبه أو لمن يقدر على أخذه من الغاصب.
س: لماذا لا يجوز بيع الكلب مع أن فيه نفعًا مباحًا؟
ج: لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب
(2)
.
(1)
لابن قدامة (ص 47).
(2)
أخرجه البخاري (5346، 5761) ومسلم (1567) من حديث أبي مسعود. وفي الباب أحاديث أخرى.
س: فإن أتلف الإنسانُ كلبَ غيره الذي فيه نفع مباح، مثل: كلب الصيد، ألا يُغرم ثمنه؟
ج: ليس عليه غُرمُ ثمنهِ؛ للنهي عن ثمن الكلب مطلقًا.
[ص 2] فصل
س: هل ثَمَّ بيوعٌ منهيٌّ عنها؟ وما هي؟
ج: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيوع:
الأول: بيع الملامسة.
الثاني: بيع المنابذة.
الثالث: بيع الحصاة.
الرابع: بيع الرجل على بيع أخيه.
الخامس: بيع حاضرٍ لبادٍ.
السادس: النَّجَش.
السابع: بيعتان في بيعة.
الثامن: تلقِّي السِّلَع.
التاسع: بيع المشتري للطعام قبل أن يستوفيه.
العاشر: الربا.
س: ما تفسير هذه البيوع؟
ج: الملامسة: أن يقول: أيّ ثوب لمستَه فهو لك بكذا.
والمنابذة: أن يقول: أيّ ثوب نبذتَه إليَّ فهو عليّ بكذا.
وبيع الحصاة: أن يقول: ارْمِ هذه الحصاة، فأي ثوب وقعت عليه فهو لك بكذا. أو: ارْمِ بهذه الحصاة، فما بلغَتْه من أرضي هذه فهو لك بكذا.
والبيع على بيع أخيه
(1)
:
وبيع الحاضر للبادي: أن يجيء البدوي ببضاعةٍ فيكون الحضري سمسارًا له، أي دلَّالًا.
والنَّجَش: أن يزيد في السِّلعة من لا يريد شراءها.
والبيعتان في بيعة: أن يقول: بعتك هذا بعشرةٍ من هذا النقد، أو خمسة عشر من هذا النقد الآخر. أو: بعتك هذا على أن تبيعني هذا، أو تشتري منه هذا.
وتلقِّي السِّلَع: أن يخرج إلى خارج البلدة يتلقَّى القادمين [ص 3] بالسلع، يشتريها منهم قبل أن يُورِدوها السوقَ.
وبيع الطعام قبل أن يستوفيه: أن يشتريه ثم يبيعه قبل أن يقبضه.
وأما الربا فسيأتي.
(1)
لم يفسّره المؤلف، وهو أن يشتري رجلٌ شيئًا وهما في مجلس العقد لم يتفرقا وخيارهما باقٍ، فيأتي الرجل ويعرض على المشتري سلعةً مثل ما اشترى أو أجود بمثل ثمنها أو أرخص، أو يجيء إلى البائع، فيطلب ما باعه بأكثر من ثمنه الذي باعه من الأول حتى يندم، فيفسخ العقد. انظر "شرح السنة"(8/ 117).